إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا،
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ "[آل عمران:102]
أما بعد:
عباد الله! يختلف الناس في مطالبهم , في أهدافهم..
في غاياتهم، وهم كذلك يختلفون في أمر آخر، يختلفون في الهمم التي توصلهم إلى تلك الأهداف
وتلك المقاصد,فمن الناس من يتكلم عن أهداف عالية ومقاصد سامية،
ولكن أفعالهم لا تصدق أقوالهم، قال أهل العلم: هذا متمنٍ مغرور، فما نَيْلُ المطالب بالتمني.
وآخرون لا يتكلمون ولكن أفعالهم تدل على أنهم أصحاب همم عالية، إذا ناداهم منادي الله لبوا
وأجابوا و ما ترددوا ولا تكاسلوا ولا تهاونوا.
فالهمة العالية ركيزة أساسية للنجاح في الدنيا والفوز في الآخرة، والناس يختلفون في ذلك اختلافاً
كبيراً، فينبغي لشباب الأمة أن يكونوا من أصحاب الهمم العالية حتى يحققوا النجاح.
لاحظ الفرق بين همة هذا وهمة ذاك، أعرابي يعترض النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه فيقول:
(يا محمد! أعطني من مال الله الذي أعطاك، فإنه ليس بمالك ولا بمال أبيك)،
وتخيل همة ربيعة بن كعب الأسلمي وهو يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوضوئه ليلة،
ثم يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ( اسأل ما تريد، قال: أتمنى رفقتك في الجنة يا رسول
الله!) فشتان بين من يطلب الجنة ومن يطلب توافه الأمور.
جاءت غنائم للنبي صلى الله عليه وسلم فأخذ يوزعها بين أهل الصفة وبين المحتاجين،
وأبو هريرة يرقب المنظر وهو من أهل الصفة لا يجد مكاناً يؤويه ولا لباساً يواريه ولا طعاماً يملأ بطنه،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بحاجته:
(يا أبا هريرة أما تسألني من هذه الغنائم التي يسألني إياها الناس؟
فقال: يا رسول الله! أنا أسألك سؤالاً واحداً، فقال له صلى الله عليه وسلم: وما هو؟
فقال: أن تعلمني مما علمك الله).
أهل الدنيا وأهل الهمم الدنية يطلبون ما يواري جلودهم وما يملئون به بطونهم،
أما أهل الهمم العالية فلا يرضون بدون الله تبارك وتعالى، قال: أنا أسألك أن تعلمني مما علمك الله،
فقال صلى الله عليه وسلم: (أوَ غير ذلك؟ قال: هو ذاك)، يعلم أن الله يرفع أهل العلم درجات،
يعلم أنه ما تقرب متقرب إلى الله بأفضل من طلب العلم الذي يوصله إلى أعالي الدرجات.
فبالعلم يعبد الله ويوحد، بالعلم يقدس الله ويمجد،
"يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"[آل عمران:102]
طريق الجنة طريق العلم (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة).
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (فأخذ نمرة كانت على ظهري فوضعها بيني وبينه،
حتى أني أرى دبيب النمل عليها، ثم أخذ يحدثني ويحدثني ويحدثني حتى قال:
صرها إليك، فصررتها فأصبحت لا أسقط حرفاً واحداً من كلامه)،
راوي الحديث الأول من؟ أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه،
ناقل السنة الصحيحة هو أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه.
أهل الدنيا يطلبون الدنيا وأهل الهمم العالية يطلبون ما عند الله تبارك في علاه.
أبو هريرة رضي الله عنه في آخر حياته يبكي ويقول: آه من قلة الزاد وطول السفر،
روى أكثر من ستة آلاف حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يشكو قلة الزاد وطول السفر.
يقول ابن القيم رحمه الله: ووالله ما أعظم الهمم وما أشد تفاوتها، فهمم معلقة بالعرش،
وهمم تدور حول الحش. جاءت مجموعة من الشباب إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
كل منهم يطلب حاجته، هذا يريد شفاعة، وهذا يطلب مالاً، وهذا يريد قضاء حاجة،
والنبي صلى الله عليه وسلم يقضي حوائجهم، إلا واحداً منهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
أنا أريدك في أمر بيني وبينك، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم
من قضاء حوائج هؤلاء الشباب التفت إلى صاحب الهمة العالية،
فقال:( وما شأنك أنت؟ قال: أنا لا أريد مالاً ولا أريد حاجة من حوائج الدنيا، أنا أريد طلباً واحداً،
فقال صلى الله عليه وسلم: وما هو؟ قال: أريد مرافقتك في الجنة -فدلّه على الطريق-
فقال صلى الله عليه وسلم: أعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك ما سجدت لله سجدة
إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة).
إن الهمم هي التي تحرك الرجال، لاحظ الفرق بين فلان وفلان، لماذا يستطيع هذا أن يترك فراشه
في البرد القارس والبرد الشديد وينطلق ملبياً لنداء الله؟ ما الذي دفعه حتى ترك شهوته وفراشه
مجيباً نداء ربه تبارك وتعالى، في حين لم يستطع فلان أن يتحرك من مكانه وهو يسمع منادي الله
ينادي: الصلاة خير من النوم! بل هو يعلم أن تخلفه عن الصلاة يجعله في عداد المنافقين.
ما الذي يجعل فلاناً من الناس لا يُقبل على درهم حرام؟ ويجعل فلاناً آخر لا يبالي أمن حلال أم حرام
يأكل؟ ما الذي دفع هذا وما الذي أوقع ذاك؟ ما الذي ردع هذا وجعل ذاك يقع في الحرام؟ إنها الهمم
العالية التي لا ترضى بدون الجنة ثمناً.
لذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: إن العمر غال، فلا تقبل للعمر ثمناً إلا الجنة ,الناس على نوعين
لا ثالث لهما: منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة، يعرف هؤلاء كما يعرف أولئك،
فالأفعال أبلغ أثراً من الأقوال.
قال أحد المربيين لأحد أبنائه: إياك ثم إياك أن يكون همك المأكل والمشرب والمسكن والمنكح،
فهذا هم النفس، فأين هم القلب، إن همك ما أهمك، فليكن همك الله والدار الآخرة.
سئلوا عن عمر بن عبد العزيز الذي بلغ بهمته العالية مبلغ الرجال حتى عُدّ
خامس الخلفاء الراشدين في خلافة قصيرة لم تتجاوز السنتين والخمسة أشهر وأياماً معدودة،
ولكنه حقق فيها من الإنجازات ما الله به عليم، كيف استطاع؟ تساءلوا فيما بينهم:
كيف استطاع ابن عبد العزيز عمر أن يحقق ما حقق؟ فقالوا: والله ما خطا خطوة إلا ونيته لله.
جعل الحياة وقفاً لله تبارك وتعالى، فحقق في فترة قصيرة ما لم يحققه أقوام في سنوات طوال.
قبل أن يتولى الإمارة كان يقول لزوجه فاطمة : يا فاطمة إن لي نفساً تواقة تشتاق إلى الإمارة.
فتولاها، فلما تولاها ارتفعت الهمم، فقال لها: يا فاطمة إن لي نفساً تواقة تشتاق للخلافة.
فتولاها، فأصبح أميراً على المسلمين، أميراً على أكثر من أربعين بلداً من بلاد الإسلام والمسلمين،
دانت مشارق الأرض ومغاربها تحت إمارته.
فلما بلغ الخلافة ارتفعت الهمة فقال لها: يا فاطمة إن لي نفساً تواقة تشتاق إلى الجنة.
فسعى من أجل الجنة وعمل من أجلها، ولما كان في ساعات احتضاره في نهار العيد
أمر الناس بالخروج فخرجوا من عنده فسمعوا قارئاً يُقرأ:
"تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ "[القصص:83].
لله دره، جعل الهم هماً واحداً، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(من جعل الهموم هماً واحداً -يعني: هم الآخرة- كفاه الله هم الدنيا وهم الآخرة).
قل لي واسألني: كيف ترتفع الهمم؟
أولاً: لا بد أن نحدد لحياتنا هدفاً، وأن نجعل لحياتنا قيمة، كثير من الناس حياتهم كالعدم،
بل فقدهم أحسن من وجودهم، ماذا قدموا لأنفسهم، وماذا قدموا لدينهم، وماذا قدموا لأمتهم؟
يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، هذا همهم وهذه حياتهم.
أما أصحاب الهمم العالية فلهم هدف ولهم مقصد، هدفهم أن تكون كلمة الله هي العليا،
وكلمة الذين كفروا هي السفلى، يحيون ويعيشون ويموتون من أجل هذا،
فإذا تحدد الهدف وضح الطريق.
واعلم يا صاحب الهمة العالية! أن في الطريق عقبات وزلات يتجاوزها صاحب الهمة العالية
إذا عرف معنى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "[الفاتحة:5].
يقول ابن القيم : إن العبد المؤمن إذا وقف أمام الجبل وقال أزيحه يزيحه بإذن الله،
إذا وقف صاحب الهمة العالية والإيمان الراسخ في القلب أمام جبل وقال:
أزيله أزاله بإذن الله، إذا عرف معنى: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " [الفاتحة:5].
واعلم -رعاك الله- أن لا شيء مستحيل في هذا الكون إلا أمران:
الأمر الأول: تغيير الأمور الكونية، الله يأتي بالشمس من المشرق،
فهل نستطيع أن نأتي بها من المغرب؟ مستحيل.
الأمر الثاني: تغيير الأمور الشرعية، فدين الله لا يقبل التغيير ولا يقبل التبديل،
الله فرض صلاة الظهر أربعاً فهل نستطيع أن نجعلها ثلاثاً أو خمساً؟ مستحيل.
هذان هما المستحيلان فقط، أما ما دونهما فلا مستحيل.
واعلم وأنت تسير في الطريق أن كلمة (مستحيل) لا توجد إلا في قاموس العاجزين،
واعلم أن أسهل شيء يمكن تحقيقه هو الفشل.
ولا بد أن تعرف أن للطريق عقبات تتجاوزها إذا عرفت معنى "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " [الفاتحة:5]،
ولكن حدد وأنت تسير في الطريق أنت تعمل من أجل من؟ هل العمل لله أم لغير الله؟
هل المقصد الآخرة أم المقصد الدنيا؟ هل الهدف جنة الرحمن أم الدنيا وما فيها؟
فحدد الطريق وحدد لمن تعمل.
ترتفع الهمم أيضاً بالإقبال على كتاب الله.
القرآن هو الذي صنع الجيل الأول، ونحن اليوم في بعد عن القرآن لا يعلمه إلا الله،
ألهونا بالأغاني والشاشات والقنوات، هدفهم إبعادنا عن مصدر عزنا ومصدر قوتنا
الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:
(تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي).
والأعداء أكبر همهم الآن إبعادنا عن هذا الكتاب العزيز
الذي" لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ "[فصلت:42].
اقرأ في آيات الجنة، اقرأ في آيات النار، ألا ترتفع الهمم؟
تأمل في قوله: "إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ *
فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ *
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ *لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ *
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ *
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ *
أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ *
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ *
وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ *أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ *
إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ *إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ *
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ *
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ *
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ *ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ *
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ "
[الصافات:40-70].
إن لم ترفع مثل هذه الآيات الهمم فما الذي يرفعها؟إن لم تشتق النفوس إلى الجنة فما الذي يشوقها؟
إن لم تهرب النفوس من النار فماذا تفعل في هذه الآيات؟ ترفع الهمم آيات الجنة وآيات النار وتبردها بقلب سليم.
ترفع الهمم بقراءة أخبار الرجال، لن أحدثك عن أقوياء ولا عن أصحاء،
بل سأحدثك عن أصحاب عاهات من أهل الأعذار، ولكن أعذارهم لم تحل بينهم
وبين الوصول إلى الله تبارك وتعالى.
كان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى من أهل الأعذار، ولكنه رأى النور بقلبه
فسار في الطريق يلتمس له نوراً، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
بيتي بعيد والطريق كله هوام، وليس لي قائد يقودني إلى المسجد.
لديه جميع الأعذار الشرعية ليصلي بالبيت، فقال صلى الله عليه وسلم:
(أتسمع النداء؟ فقال: نعم، فقال له صلى الله عليه وسلم: لا أجد لك عذراً).
فما تخلف الأعمى عن صلاة الجماعة، وما نام عن صلاة الفجر، فلماذا ينام المبصرون؟
ولماذا يتخلف الأقوياء؟ ولماذا يتكاسل الأصحاء؟ الأعمى يلبي النداء، ولكنه ليس بأعمى،
الأعمى والله من تخلف عن أوامر الله وإن كان يسمع ويرى، الأعمى والله الذي صد عن طريق الله
وهو يرى الناس يسلكون صراط الله المستقيم.
هل تظن أن همة الأعمى وقفت إلى المحافظة على الصلوات، لا ورب الأرض والسماوات، لما جهز
عمر رضي الله عنه الجيوش للخروج إلى بلاد الشام تجهز الأعمى للخروج، وخرج لابساً عدة الحرب،
فإذا بـعمر رضي الله عنه يقول له: إلى أين تذهب يا ابن أم مكتوم وأنت ممن عذرك الله؟ أما قال الله
عز وجل: "لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ" [الفتح:17]؟
فقال بهمة العالية: تحول بيني وبين الشهادة يا ابن الخطاب ؟
فقال رضي الله عنه: ماذا تصنع معهم؟ فقال له: أكثر سواد المسلمين.
فخرج مع من خرج، ولما صفت الصفوف، لم يقل: أصف في الصفوف الخلفية، واحموني من النبال
وضرب الرماح، بل وقف في وسط المعركة بهمته العالية وبنيته الصادقة، ثم قال:
أنا أحمل لكم الراية اليوم! وهل تدري معنى مسئولية حمل الراية؟ فالراية لا يحملها إلا الأبطال،
لا يحمل الراية إلا من هو أهل لحمل الراية، وهل تدري ما قد كتب على هذه الراية؟
مكتوب عليها لا إله إلا الله.
فوقف الأعمى وهو ليس أعمى، الأعمى والله أنا وأنت، حين عرف أصحاب الهمم العالية قيمة
حياتهم، بذلوها من أجل الله تبارك تعالى، قال: أنا أكفيكم الراية، فحمل راية لا إله إلا الله في أرض
المعركة، وهو يعلم أن الثمن غال، يعلم أنه مستهدف في أرض المعركة لإسقاط الراية، وما سقطت
الراية من يد الأعمى؛ لأنه صاحب همة عالية، انتهت المعركة مع غروب ذلك اليوم، فبحثوا عن ابن أم
مكتوم فإذا هو متبسم قد فارق الحياة يحتضن تلك الراية، وقد نصر الله المسلمين ذلك اليوم نصراً
مؤزراً.
لكن كيف خرج، خرج من أجل إعلاء هذه الراية، كيف يبعث؟
يبعث بين ملايين البشر الذين لا يحصيهم إلا الله وهو يرفع هذه الراية.
أسألكم بالله في ذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين،
كم هم الذين يحملون هذه الراية؟ وكم هم الذين عاشوا من أجلها؟
وكم الذين ضحوا في سبيلها؟ اللهم اجعلنا منهم ومعهم،
هذا خبر رجل من الرجال تربى على طاعة الله، وأفنى عمره وشبابه في مرضاة
الله، وبذل كل لحظة من حياته حتى مماته من أجل إرضاء الله عز وجل،
منذ التاسعة والعاشرة وهو يحب الأذان، حُبب إليه رفع الأذان،
كان يستأذن مؤذن المسجد -وهو طفل صغير- أن يرفع الأذان من حين إلى حين،
فكان يؤذن له، حتى إذا بلغ الثانية عشرة والثالثة عشرة وقد اعتذر مؤذن المسجد،
عُيَّن مكانه لحبه للأذان رغم صغر سنه.
فالتزم بالأذان صغيراً، وشب على حب المسجد، فشب وهو يرفع الأذان ويردد في كل يوم:
الله أكبر..الله أكبر، بلغ مبلغ الرجال ولم يتخلف عن الأذان!
أسألكم بالله وهو يداوم على الأذان كم مرة حافظ على تكبيرة الإحرام؟
كم جلس بين الأذان والإقامة يدعو الله ويتضرع إليه؟ وكم جلس يقرأ القرآن،
وكم جلس في روضة من رياض الجنة؟ أصبح أباً وما تخلف عن رفع الأذان،
وما منعته دنياه ولا تربيته لأبنائه عن رفع الأذان، والصدع بـ(لا إله إلا الله والله أكبر)
حتى أصبح شيخاً كبيراً وما تخلف عن ذلك، يمسك الناس ويفطرون على أذانه،
فهو من أغبط الناس وأحفظهم على الأذان.
أصبح شيخاً كبيراً، ثقلت خطاه وهو يذهب إلى المسجد وما تخلف عن الأذان،
شب أبناؤه وكبروا،وقد تربوا تحت ظله ورعايته يحبون المساجد كما كان أبوهم.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا ***على ما كان عوده أبوه
أراد أهله وأبناؤه بعد سنوات طوال أن ينتقلوا إلى دار بعيدة
عن مسجده الذي تربى فيه وترعرع فيه وقضى أيام حياته فيه،
فانتقلوا فأصبح من الصعب أن يلتزم بالأذان ذهاباً وإياباً خمس مرات،
فقال لأبنائه: خذوني إلى المسجد صلاة الفجر ولا ترجعوا لي إلا بعد صلاة العشاء،
واستمر على هذه الحال سنوات طوالاً، يمكث في بيت الله من صلاة الفجر حتى صلاة العشاء
في قراءة قرآن وذكر وخدمة لبيت الله تبارك وتعالى.
حتى ثقلت خطاه وأقعده المرض في البيت، وأصبح من أهل الأعذار،
فكان إذا سمع النداء يبكي ويتذكر كم مرة صدع بـ(لا إله إلا الله..والله أكبر).
وجاءت صلاة ظهر في أحد الأيام فأحس في نفسه خفة وقوة، وقال لأبنائه:
خذوني إلى المسجد، فاغتسل وتطيب ولبس أحسن الثياب، ثم ذهب إلى المسجد مبكراً
قبل رفع الأذان، واستأذن من المؤذن حتى يرفع الأذان في ذلك اليوم، فأذن له،
فرفع الأذان بعد أن انقطع عنه لفترة طويلة، أخذ يردد: الله أكبر الله أكبر..
لا إله إلا الله، وهو يبكي، ويتذكر تلك الأيام الجميلة كم صدع بهذا النداء الخالد.
فلما انتهى من أذانه ودعا بالمأثور رجع إلى الخلف يصلي لله ركعتين،
صلى وركع وسجد ولم يرفع رأسه بعدها، ذهب إلى ربه وهو ساجد أمامه،
عاش وهو يحب الأذان، ومات بعد أن صدع بالأذان، شب عليه وشاب عليه ومات عليه.
هو يحب الأذان، ويحب الصلاة، ويحب المسجد، ويحب القرآن، ويحب الدعاء،
التسبيح والتكبير والتهليل، فماذا نحب أنا وأنت؟ أحبا الله فأحبهم، وبذلوا أنفسهم في مرضاته
فأحسن لهم الختام، بالهمم العالية، بالنيات الصادقة يصل المرء إلى ما يريد إليه. فيا أيها الشاب!
اعمل فإنك في زمن القوة، أيها الشيخ الكبير! اعمل فأنت في زمن الإمهال،
فالأعمار معلومة والآجال محدودة، وسينال كل منا زرع ما حصد،
إما أن توصلك همتك العالية إلى أعلى الدرجات، أو تودي بك في الدركات.
فاسألوا الله الهمة العالية، واطلبوا العون على مرضاته.
يقول شيخ الإسلام : تأملت أجمل الدعاء وأنفع الدعاء،
فوجدته طلب العون على مرضاته، فردِّد صباح مساء:
اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أعط نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، إنك أنت وليها ومولاها.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه،وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم احفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
-