لم يرجع إلى بيته في منتصف الليل كعادته كل ليلة، وإنما امتدت به تلك الليلة الحمراء لهواً وعبثاً حتى طلوع الفجر، فخرج من الملهي متوجهاً نحو سيارته الفارهة، ليقودها عائداً إلى بيته، وقد صادف خروجه وقت آذان الفجر، ليلتقي به قدراً أحد المارة من المصلين وهو في طريقه إلى المسجد، فيلقي عليه السلام!!
حتى اشتكت منّا ألسنتنا إلى الله من كثرة اللغو وقلة الذكر
فينظر إليه مستنكراً بوجه عابس، ولم يرد عليه شيئاً، فهو الشاب المترف الذي لا يعرف من أنواع التحية سوى (هاي) و(هالو) و(جود موورنينج) و(بونجوار)!!
بل إنه لا يذكر يوماً من الأيام أن كان له صديقاً ذكراً أصلاً!! حيث انحصرت معارفه فقط في الصديقات الفاتنات اللاتي يتسابقن لإرضاء نزواته وملذاته دون تردد؛ لما يعلمن عنه من البزخ والترف والتبذير!!
فمن هذا الغريب الذي يقف أمامه الآن بلحية كثيفة مرتدياً قميصاً أبيضاً وغطاء رأس من القماش، ليلقي عليه هذا النوع الغريب من التحية قائلاً : "السلام عليكم"!!
طال زمن الصمت!! ممزوجاً بتلك النظرة المستنكرة من ذلك الشاب دون رد يذكر!!
فما كان من هذا المصلي الكريم سوى أن وجه إليه تلك الكلمات البسيطة بصوت حانٍ قائلاً :
" أخي . . صدقني إن فيك من الخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله!!
" أخي . . صدقني إن فيك من الخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله!!
ولكن فقط حاول البحث عن هذا الخير الذي في نفسك، وحتما سوف تجده!!
وما كاد يكمل تلك الكلمات، حتى واصل طريقه للمسجد، مودعاً الشاب بنفس التحية، التي بدأه بها غير آبه بتكراره لعدم رده عليها !! قائلاً : (السلام عليكم)
مضى المصلي وتركه في مكانه!!
غير أن أثر تلك الكلمات لا يزال يتردد في أذن ذلك الشاب!!
فقد وقعت عليه كالصاعقة!!
وظل يساءل نفسه : "أنا فيا خير؟!!" لماذا يقول لي ذلك هذا الرجل؟!
لا لا . . أكيد أنه مخطئ!! فهو لا يعرفني . .
فلو عرفني لما قال ذلك، فإنني ما تركت شراً إلا فعلته!!
ولا أعرف أصلاً معنى يذكر للخير!! . .
أنا عمري ما صليت في حياتي!!
لماذا قال لي ذلك؟!! . .
ثم لماذا ذهب وتركني دون أن يوضح ما الذي يقصده؟!!
عجيب أمره!! . . لماذا لم يغضب حين نظرت إليه تلك النظرة المستحقرة ولم أرد عليه التحية؟!!
يا الله . . من أين طلع لي ذلك الرجل . . وماذا يقصد؟!
أين ذلك الخير الذي في نفسي؟!!
وظلت تلك الكلمات تطارده في يقظته ونومه . .
(حاول البحث عن هذا الخير الذي في نفسك، وحتما سوف تجده)!! . . . . .
لم يصمد الفتى أمام ذلك الهاجس الذي ظل يطارده ويؤرق مضجعه صباح مساء!! بعدما صار بالفعل كالبركان الثائر بداخله، حيث سرت ألسنة لهبه في شعاب نفسه؛ تبحث عما فيها من كوامن ذلك الخير المكنون في أعماقها فترة طويلة من الزمن!!
حاول الرجوع ليلاً إلى الملهى كعادته كل ليلة . .
لكنه وجد في نفسه نفورأ غريباً هذه الليلة، وانقباضاً لم يعهده من قبل، حتى كاد أن يطبق على صدره . .
لقد عاد إليه نفس الصوت (حاول البحث عن هذا الخير الذي في نفسك، وحتما سوف تجده)!! . . . . .
لا لا . . ليس الملهى هو المكان الذي سأجد فيه الخير الكامن في نفسي . .
ولكن أين أذهب ؟! أريد الخروج مما أنا فيه من هذه الحيرة وهذا القلق. .!!
يكاد صدري ينطبق على قلبي من شدة ما أجد من هذه الحيرة . . أين أذهب ؟!
وفي هذه الأثناء . . يصل إلى مسامع قلبه صوت طالما تردد على مسامع أذنه!!
غير أن حجب الغفلة التي كانت على قلبه فترة طويلة من الزمن حالت دون سماعه!!
ولكنه صل أخيراً بعدما تصدعت تلك الحجب بهذا الصراع المستعر داخل نفسه!!
إنه نداء الحق بكلماته الساحرة ممزوجاً بهذا الصوت الجميل العذب
. . الله أكبر . . الله أكبر . . حي على الصلاة . . حي على الفلاح . .
لم يكد يسمع تلك الكلمات حتى شعر بانتفاضة في روحه، تزلزلت معها أركان نفسه!!
وكأنها تزيل عن كاهلها أرطالاً من الران المتراكم عليها طوال حقبة مديدة من الزمن!
لم يصمد!! وما كان له أن يحتمل!!
فقد أضحت تلك الكلمات بشفافيتها كشرارة انفجرعلى إثرها ذلك البركان الهائج ثوراناً في أعماق نفسه منذ أن التقى ذلك العبد الصالح!!
انفجرت الدموع لا إرادياً من عينيه . . وقال في نفسه :
(إنه المسجد . . سأذهب إلى المسجد . . ولكن هل لمثلي ان يدخل مثل ذلك المكان الطاهر وهو على هذه الحال؟)
غسل وجهه ويديه ورجليه . . هذا كل ما استطاع تذكره من بعض لقطات التلفاز التي شاهد فيها المصلين في المساجد!!
خرج مسرعاً نحو المسجد . . وما كاد يقف بسيارته أمامه . . حتى شاهده أحد المصلين وهو يخرج من تلك السيارة الفارهة متوجهاً إلى المسجد . . فبادره بابتسامة عريضة عند دخوله . . وقال له السلام عليكم أخي الحبيب . . أهلاً وسهلاً بك . . لقد نورت مسجدنا!!
بادره التحية مبتسماً وهو يقول : " شكراً جزيلاً لك"
جلس مكانه حتى أقيمت الصلاة، ثم وقف بالصف يفعل كما يفعل المصلون!!
جلس مكانه حتى أقيمت الصلاة، ثم وقف بالصف يفعل كما يفعل المصلون!!
وبعد الصلاة . . جلس بجواره ذلك المصلي وأخذ في التعرف عليه، وتجاذبا أطراف الحديث، ورويداً رويداً بدأت رحلته مع الصحبة الصالحة من أهل المسجد الذين التفوا حوله مع مرور الأيام كأخوة متاحبين، فألف منهم صحبتهم، واستأنس معهم في أجواء أخوتهم الخالصة لوجه الله تعالى . .
كل ذلك ومحاولات أصحاب السوء لم تتوانى عن انتزاعه مما آل إليه حاله، غير أنه قرر للتخلص منهم تماماً هجرة أرض السوء، كي يقطع أملهم فيه . . ولكن كانت الغرابة في اختياره لذلك المكان . . أتدرون أين ذهب؟
لقد ذهب لدراسة علم الحديث على أيدي مشايخه بالهند، وأصبح ذلك الشاب ذو الوجه المنير المضيء بلحيته الكثيفة من أوائل من يشار إليهم بالبنان في علم الحديث!!
يحكي قصته دوماً فيختصرها بقوله :
"كانت هدايتي بكلمة واحدة . . ألقاها أحد المصلين وذهب"
فكم من الكلمات نطقنا بها عبثاً!!
ولا ندري أهي لنا يوم القيامة أم علينا؟!
حتى اشتكت منّا ألسنتنا إلى الله من كثرة اللغو وقلة الذكر
!!
كم من الكلمات نطقنا بها ولم نرد بها وجه الله فأوقعنا الضغينة والشحناء بين النفوس !!
كم من الكلمات كان بوسعنا أن نكون فيها محضر خير، لا محضر شر،لكننا هزمنا أمام أنفسنا الضعيفة !!
فهل فكرت يوماً أن تعاهد الله ألا تنطق إلا بخير
ولا يكون سعيك إلا في خير؟
لعل الله أن يجعل كلمة بسيطة منك في الخير سبباً في هداية الآخرين؟!
قال تعالى :
(إنَّ في ذلك لذكرى لمن كانَ لهُ قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد)
ملحوظة :
هذه القصة حقيقية بكل تفاصيلها، كما رواها صاحبها بنفسه لإخوانه، فنسأل الله أن يثبتنا وإياه على الحق حتى نلقاه وهو راضٍ عنَّا.
بقلم : أبو مهند القمري