إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

من أساليب التربية النبوية/د.عثمان قدري مكانسي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16

    من اساليب التربية النبوية
    تكرار الحديث والتمهّل فيه
    الدكتور عثمان قدري مكانسي

    من الطرائق التي اعتمدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عدد وافر من أحاديثه الشريفة (التكرار) . . فلِمَ كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكرر ؟ .
    1ـ لم يكن على عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ كما نعلم ـ آلات تحفظ الصوت لتعيده فيما بعد ، كما أن أدوات الكتابة ـ من ورق ومداد وأقلام . . ـ كانت بدائية ، وكان المسلمون يكتبون على سعف النخل والأكتاف ، والعظام والأحجار المسطحة ، وجلود الأغنام والأبقار الرقيقة ، وما شابه ذلك ، وحملُ هذه الأشياء إلى المسجد متعثر نوعاً ما .
    2ـ ولم يكن هنالك مجلس محدد يعلِّم فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين أمور دينهم ، فقد كانت كل كلمة منه ، بل كل حركة وكل إقرار . . على مدى اليوم والمكان عِلماً ودرساً وتربية وتهذيباً .
    3ـ والعرب أمة لا يقرأون ولا يكتبون ـ فعامتهم هكذا ـ فكيف يحفظون عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمور آخرتهم ودنياهم ومعاشهم ؟ . . .
    تروي السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحدث حديثاً لو عدّه العادّ لأحصاه(1) .
    وعنها أيضاً : أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( لم يكن يسرد الحديث كسردكم ))(2) .
    تصور معي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالساً بين أصحابه ، يحدثهم في أمر ما ،
    1- جُمَلُهُ فصيحة ،
    2- لا يسرع في كلامه ،
    3- يلفظ الكلمة فيتوقف عندها ،
    4- يكرر التعبير فقرة فقرة ، وجملة جملة ، وكلمة كلمة ،
    5- يستعمل المبسوط في موضع البسط ، والإيجاز في موضع الإيجاز .
    6- وقد يستعمل حركة يديه ، أو إيماءة من رأسه ،
    7- يوزع نظراته ، ويتابع وجوه القوم ليستقرئ فهمهم ، ويستجلي تأثرهم ،
    8- ويناقشهم ويجيب عن أسئلتهم .
    وبهذا الأسلوب الواضح المستأني ، وبهذا التكرار المفيد ، يستوعب الصحابة الحديث فيحفظونه ، وتثبت ألفاظه ومعانيه في العقل ، وتنغرس الأفكار وظلالها ، والألفاظ وإيحاءاتها في النفوس ، ويتمثلون حديث رسول الله عملاً وتطبيقاً في مجال حياتهم ، ثم تصل إلينا نقية ، لا شائبة فيها ، حية بحيوية حامليها .
    من الأحاديث التي ترى فيها مصداق ما ذكرته سابقاً :
    ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
    قال : رغم أنفه ، رغم أنفه ، رغم أنفه .
    قالوا : يا رسول الله من ؟
    قال : من أدرك والديه عند الكبر ـ أو أحدهما ـ فدخل النار(3).
    أية قشعريرة أخذتني وأنا أقرأ هذا الحديث فأفاجأ بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( رغم أنفه ) تتكر ثلاث مرات ، وأنا بعيد عن زمان الحديث ألفاً وأربع مئة وإحدى وثلاثين سنة ، فمادت بي الأرض وأسرعت إلى الوالدة أقبل يديها ورجليها وأسألها الرضا والدعاء . .
    أحسست بها على الرغم من البعد الزمني والمكاني كذلك ، لكن الروح والقلب والفكر هناك مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف والصحابة بين يديه يسمعون ويرون تعابير وجهه توحي بالتهديد والوعيد لمن عق والديه ؟!
    ومن التكرار الرائع ذوي الوتيرة الموسيقية والتفصيل الهادف ما رواه المقدام بن معدي كرب أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :
    1- ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة ،
    2- وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة ،
    3- وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة ،
    4- وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة
    (4) .
    فتكرار : ( ما أطعمت ) يوحي بالحث على الإنفاق ، وذكر النفس والولد والزوجة والخادم يؤكد ضرورة الحفاظ على الأسرة . وتكرار ( فهو لك صدقة ) دليل على إحراز قصب السبق لمن فعل ذلك .
    والفكرة نفسها نجدها في قالب آخر من التكرار في ما رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : حدثني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ،
    والرجل راع على أهل بيته ، وهو مسؤول عن رعيته ، وعبد الرجل راع وهو مسؤول عن رعيته ،
    ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
    (5) .
    والملاحظ هنا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر أهم ركن في البيت (الرجل) ، وأقل ركن فيه (الخادم) ، وهذا يعني أنه يقصد ما بينهما من زوجة وولد .
    وانظر معي إلى التأكيد على الإيمان بالله وعدم الاعتماد على النسب والمال ، ولئن كانت الدنيا بالمال ، إن الآخرة بالأعمال فقط ، إلا أن تنقذ رحمة ُ الله بعباده الموقفَ المخيف . . والله رحيم بعباده .
    فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أنزل عليه :
    ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ )(6) .
    (( يا معشر قريش : اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئاً .
    يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئاً .
    يا عباس بن عبد المطلب اشترِ نفسك من الله ، لا أغني عنك من الله شيئاً .
    يا صفية عمة رسول الله اشتري نفسك من الله ، لا أغني عنك من الله شيئاً .
    يا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً
    ))(7) .
    وتأمل معي كلمة ( تعس ) في الحديث التالي كم هي مخيفة تقرع الآذان ، وتهز النفس والمشاعر :
    قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
    تعس عبد الدنيا
    تعس عبد الدينار
    تعس عبد الخميصة
    (8)
    تعس عبد الخميلة(9)
    إن أعطي رضي ، وإن لم يُعط سخط
    تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش
    (10) .
    إنها جمل فعلية ذات أسلوب خبري ، لكن الغرض البلاغي منها الدعاء بالتعاسة والخسران على هؤلاء الذين اتبعوا شهواتهم . ويذَيِّلُها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتعليق العميق الأثر في نفوس المسلمين ، فهو يدعو عليهم بالتعاسة والانتكاس في كل ما يفعلون ، حتى إذا أصابت أحدَهم شوكة ٌصغيرة فلا خرجت من جسده ، فكأنه يدعو عليهم بالألم الدائم ، والإرهاق لرضاهم بالحياة الدنيا دون الآخرة .
    وقد نجح التكرار من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجلب الانتباه لما يقال ، والتكرار من الصحابي للإعرابِ عن انتباهه لما يقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن صوره ما رواه أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (ومعاذ رديفه على الرحل)
    قال : يا معاذ .
    قال : لبيك يا رسول الله وسعديك .
    قال : يا معاذ .
    قال : لبيك يا رسول الله وسعديك .
    قال : يا معاذ .
    قال : لبيك يا رسول الله وسعديك . . . إلى آخر الحديث(11) .
    وقد نرى الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكرر الجملة ثلاث مرات . وهذا نجده في أحاديثه الشريفة كثيراً . ومن صوره : ما رواه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : هلك المتنطعون ، قالها ثلاثاً(12) .
    وقد نجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ يردد الكلمة دون تحديد عدد ، لبيان أهميتها ، فعن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ قال :
    قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ (ثلاثاً)
    قالوا : بلى يا رسول الله .
    قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين . وجلس وكان متكئاً : ألا وقول الزور ، فما زال يكررها حتى قلت : ليته سكت(13) .
    فقد كرر رسول الله : ( قول الزور ) كثيراً حتى ضج بعض الصحابة ، ورجوا أن يسكت لما نالهم من خوف شديد لتهديده ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلي الزور ، وخوفٍ شديد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يناله الأسى .
    فجزاه الله عن أمته كل خير .

    الهوامش:

    (1) رواه البخاري في صحيحه ( كتاب المناقب ) .
    (2) والحديث رواه البخاري في صحيحه ، ( كتاب المناقب ) .
    (3) الأدب المفرد الحديث .
    (4) الأدب المفرد الحديث / 82 / .
    (5) الأدب المفرد ، الحديث / 206 / .
    (6) سورة الشعراء : الآية 214 / .
    (7) رواه مسلم .
    (8) الخميصة : الثوب المزركش الجميل ، والمقصود بذلك : المهتم بثيابه المختال بها على عباد الله .
    (9) الخميلة : الشجر المجتمع الكثير الملتف ، الذي لا يرى فيه الشيء إذا وقع في وسطه . والمقصود به : الرجل المهتم برغد العيش وبحبوحته على الإهتمام بدينه .
    (10) رواه البخاري .
    (11) رياض الصالحين ، الحديث / 413 / متفق عليه .
    (12) المتنطعون : المغالون ، المتجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم . والحديث رواه مسلم .
    (13) الأدب المفرد ، الحديث / 15 / .

    تعليق


    • #17

      من أساليب التربية النبوية
      تحديد العدد
      الدكتور عثمان قدري مكانسي


      وهذا يساعد على الانتباه والاستقصاء والمتابعة .
      إن الإنسان حين يسمع محاضرة يحدد فيها صاحبها ـ منذ البداية ـ أفكارها ، ويستعرض مخططها ، يكون أقدر على الانتباه لها ، وتقدير الطرائق التي اعتمدها المحاضر ، وتركيز ذهنه وحواسه في استقصاء أفكارها ، اعتماداً على ما ذكره المحاضر أول ما بدأ ، ومتابعة تفاصيلها وتسلسلها الزمني ، ويصبح بإمكانه أن يسأل المحاضر شيئاً نسيه أو مر عليه سريعاً ، أو لم يعالجه المعالجة التي عالج بها بقية الأفكار .
      وإنه يستحسن للقائد أن يحدد الزمان والمكان لجنوده قبل البدء بعمليتهم القتالية ، والزمن الذي تستغرقه ، والهدف الذي يسعون إلى تحقيقه .
      وإن الرسام ليضع أولاً الإطار الذي يحيط بلوحته ، والمهندس خريطة لموقعه ، والمدرس مخططاً ـ على اللوح ـ لدرسه يسترشد به التلاميذ في متابعة درسهم ، مع ذكر القاعدة والأهداف بشكل مرتب متسلسل .
      - وهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل ذلك ، فيضع المسلمين في إطار العدد المراد تحديده . ففي الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يقول : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة (1) ( حدد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة أنواع من المنبوذين يوم القيامة ، فأصاخ أصحابه السمع ، ورسموا الإطار ، وانتظروا البدء ) :
      العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة ، الديوث ، ( فأغلقوا الإطار على العدد وأصحابه وسبب العقوبة )
      - وثلاثة لا يدخلون الجنة : ( مقدمة أخرى لعدد آخر من نوع آخر ، فرسموا الإطار واستعدوا ) العاق لوالديه ، والمدمن الخمر ، المنّان بما أعطى(2) ( فأغلقوا الإطار على العدد وأصحابه وسبب العقوبة )
      ثم تناولوا الحديث بالبحث والدراسة ، وكان العدد مساعداً للمسلمين على الاحتفاظ بالأفكار ليوصلوها إلى إخوانهم على مر العصور مرتبة حسبما وردت ، لا زيادة فيها ولا نقصان ، ولا تقديم ولا تأخير .
      - وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
      ثلاثة : 1ـ لايكلمهم الله يوم القيامة
      ولا يزكيهم
      3ـ ( قال معاوية ) : ولا ينظر إليهم
      ولهم عذاب أليم (3)
      ( من هؤلاء الثلاثة ؟ وما الذي سبب لهم هذه العقوبة في المقدمة السابقة ؟) .
      شيخ زان ( وكان أولى به الوقار والعفاف ، فقد جاز مرحلة الشباب والطيش )
      وملك كذاب ( ولماذا يكذب ولن تطاله يد أحد بالعقوبة وهو القدوة والحاكم )
      وعائل مستكبر(4) ( وعلام يستكبر وهو فقير يحتاج مساعدة الناس ؟)
      فاستقصى الصحابة الكرام هؤلاء الأنواع الثلاثة ، والمقدمة التي وضحت أنواع العقوبة ليتدارسوها ويحددوا مسار حياتهم من خلالها .
      - وعنه ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
      ثلاث دعوات مستجابات :
      دعوة المظلوم ( فليس بينها وبين الله حجاب )
      ودعوة المسافر ( اتخذ الله رفيقاً واعتمد عليه في سلامة الوصول )
      ودعوة الوالد على ولده(5) ( إن بر الولد بوالده أولى به ، فقد بذل عمره وعمله للولد ) .
      حفظها السامعون ، وتجنبوا الوقوع فيها ، ووعظوا الغائبين ، وكانت مصابيح للخَلَفِ يسيرون على هديها .
      - وعنه ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
      سبعة يظلهم الله في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله : ( في الآخرة حر شديد ، والشمس تدنو من الخلائق ـ يا الله ـ أليس هناك مكان نتقي فيه ذاك الموقف يا سيدي يا رسول الله ؟ . . نعم إنه ظل عرش الرحمن ـ سبحانه ـ إلا إنه مخصص لسبع فئات من الناس . . اللهم اجعلنا منهم ، فمن هم يا رسول الله ؟ . . . )
      إمام عادل .
      وشاب نشأ في عبادة الله عزّوجلّ .
      ورجل قلبه تعلق بالمسجد .
      ورجلان تحابـّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه .
      ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله .
      ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه .
      ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه(6) .
      يستقصي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هؤلاء السبعة ، ويكرر ذلك على مسامع الصحابة فيحفظون أصنافهم ، ويتخلقون بأخلاقهم :
      1ـ فالإمام العادل يحكم بشرع الله ، ولا يعمل بهواه ، ولا يستغل منصبه للوصول إلى شهواته وإلى ما ليس من حقه ، ويحب الناس ويعدل بينهم ، فيفيئون إليه ملتمسين حقهم منه ، مطمئنين إلى رحمته وعدله .
      2ـ والشاب المتدفق حيوية ، تتفتح أمامه دروب الغواية وسبل الفساد تدعوه إلى الانحراف ، ومتابعة الشيطان ، وهو معرض عنها ، متعلق بحبل الله المتين ، يستنصره عليها ، ويستدفع به شرورها .
      3ـ والرجل الذي يُكثِر من دخول المساجد للصلاة ، والانتفاع بقراءة القرآن ، وحضور حلقات العلم والمذاكرة ، ويرى جنته فيها ، وهناءته في رحابها .
      4ـ ورجلان كان حب الله الرابط َبينهما ، إن اجتمعا فعلى الذكر والتدبر ، وإن تفرقا فعلى الألفة والتواصي بالحق ، يحفظ كل منها غيبة الآخر ، ويكون عوناً له على ظروف الدهر ، لا يبتغي كل منهما غير رضا الله ثواباً .
      5ـ ورجل وسيم أحبته امرأة ذات منصب وجمال ، فأغرته بنفسها ، وسهلت له طريق الزنا ، ومنحته الجاه والمال إن ارتكبه ، وسولت له بأحابيلها ما تريد منه ، فظل متمسكاً بحبل الله المتين ، يعرض عنها ، وإن أصابه من امتناعه مكروه .
      6ـ ورجل يتصدق سراً ـ فالمراءاة تحبط عمله ، وتضيع أجره .. ويكبت في نفسه حب الاستشراف والرغبة في أن يقال : هو كريم ، إنه لا يبغي الأجر إلا من الله عزّ وجلّ.
      7ـ ورجل ذكر الله ـ وهو في أهنأ عيش وأطيب حياة ، لا ينغص عليه أحد أيامه ، فهو يشكر الله على فضله ، ويحمده على كرمه ، ويشتاق إلى جنته ، ويعلم أن ما أصابه كان برحمة الله وجوده ، فيجتهد في العبادة ، ويبكي شوقاً إلى لقاء الله تعالى ، فما عند الله خير وأبقى .

      اللهم علمنا ما ينفعنا ، وهيء لنا من أمرنا رشداً ، واجعلنا من عبادك السعدا ، وأظلنا تحت ظلك يوم لا ظل إلا ظلك .

      تعليق


      • #18

        من أساليب التربية النبوية
        السؤال
        الدكتور عثمان قدري مكانسي


        يدخل أحدنا على أهله أو أصحابه ، وكان قد رأى لتوه حادثاً في الشارع ، فيسألهم : أتدرون ماذا رأيت قبل قليل ؟
        فهل ـ هو ـ في سؤاله هذا يريد إجابتهم ؟ إنه لا يريد ذلك ، فهو متأكد أنهم لم يروا شيئاً .
        فلماذا يسألهم إذاً إذن ؟
        إنه يريد أن يحوز اهتمامهم ، ويستجمع انتباههم ، فلا يفوتهم شيء من الحديث يبدؤه .
        هذه الطريقة في تجميع الذهن وتهيئة النفس للاستقبال نجدها كثيراً في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ :
        - فعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال : كنت رديف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حمار فقال لي : يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده ؟ وما حق العباد على الله ؟
        قلت : الله ورسوله أعلم .
        قال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً .
        قلت : يا رسول الله ، أفلا أبشر الناس ؟
        قال : لا تبشرهم فيتوكلوا(1) .
        - وعن أبي بكرةَ ـ رضي الله عنه ـ قال :
        قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ثلاثاً ( أي طرح هذا السؤال ثلاث مرات ليعلنوا عن رغبتهم في ذلك ، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهم فليغتنموا الفرصة وليتعلموا ) .
        قالوا : بلى يا رسول الله .
        قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، ( وجلس وكان متكئاً ) ألا وقول الزور ( وما زال يكررها حتى قلت : ليته سكت ) (2) .
        - وعن زيد بن خالد ـ رضي الله عنه ـ قال : صلى بنى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلاة الصبح في الحديبية على أثر سماء(3) كانت من الليل .
        فلما انصرفَ ( انتهى من صلاته ) أقبل على الناس ( طارحاً سؤالاً لينتبهوا )
        قال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟
        قالوا : الله ورسوله أعلم .
        قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر (4)
        فأما من قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ، وأما من قال : مُطرنا بنوء(5) كذا وكذا فذلك كافر بي ، مؤمن بالكواكب(6) .
        لقد أراد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعمق إيمان المسلمين بربهم ، وأن يوجهه الوجهة الصحيحة ، فيسند الأمر كله لله ، وكان المعنى كله مجموعاً في الجملتين الأخيرتين ، ولكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سألهم ليستجمعوا شتات أفكارهم ، ولينصتوا إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى لا تضيع كلمة واحدة مما يقول ، فلما أجابوه مسلمين إلى الله ورسوله أمور الغيب ، ذكر ما ذكر ، ليعلموا أنه ما مِنْ حركة ولا سكنة إلا بأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ .
        - وأراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يصف المؤمن فيأتم به الناس ، وأن يصف الشرير فيبتعدوا عن محاكاته ، فجاءهم بصيغة السؤال :
        فعن أسماء بنت يزيد قالت :
        قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ألا أخبركم بخياركم ؟
        قالوا : بلى .
        قال : الذين إذا رُؤوا ذكر الله .
        أفلا أخبركم بشراركم ؟
        قالوا : بلى .
        قال : المشاءون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العنت (7) .
        إن رؤية المؤمن الخيّر والنور يطفح من وجهه ، والإيمان يزيده بهاء ، تذكر بالله سبحانه ، وإن رؤية الفاسد الشرير ، النمام المفسد المؤذي ، تجعل الناس يستعيذون من شره ، فوجهه أسود ، وعيناه عينا شيطان .
        - وقد يكون السؤال حقيقياً يقصد به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشاركة أصحابه له في الفكرة ، أو شحذ أفكارهم لتكون أكثر استعداداً لتلقي المعاني التي يوردها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
        فعن ابن عمر ـ رضي الله عليهما ـ قال :
        قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أخبروني بشجرة مِثْلِ المسلم ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، لا تحتُّ ورقها ؟
        فوقع في نفسي النخلة ، فكرهت أن أتكلم ، وثمَّ ( هنالك ) أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فلم يتكلما ، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هي النخلة .
        فلما خرجت مع أبي قلت : يا أبتِ ، وقع في نفسي النخلة .
        قال : ما منعك أن تقولها ؟ لو كنت قلتها كان أحب إلي ّ من كذا وكذا .
        قال ( عبد الله ) : ما منعني إلا أنّي لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما ، فكرهت(8) .
        - ومن ذلك ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من أصبح اليوم منكم صائماً ؟
        قال أبو بكر : أنا .
        قال : من عاد منكم اليوم مريضاً ؟
        قال أبو بكر : أنا .
        قال : من أطعم اليوم مسكيناً ؟
        قال أبو بكر : أنا .
        قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما اجتمعت هذه الخصالُ في رجل في يوم إلا دخل الجنة(9) .

        فقد لاحظنا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطرح صفات المؤمن التي تؤهله دخول الجنة بطريقة السؤال ، ليقارن السامع نفسه بما فعل الآخرون ، فيشجع على منافستهم .
        إن السؤال أسلوب من أساليب التربية التي تشد انتباه السامع ويدعوه إلى التفكر والتدبّر واستكناه الفكرة بقدح زناد التفكير والمشاركة .

        الهوامش:

        (1) متفق عليه.
        (2) ليته سكت : كناية عن أن الخوف من نتائج قول الزور مَلَكَ قلب أبي بكرة . والحديث من الأدب المفرد رقم / 15 / .
        (3) على أثر سماء : أي بعد نزول الغيث .
        (4) الناس قسمان : مؤمن بالله وكافر به .
        (5) نوء النجوم : قيل : سقوطها ، وقيل : طلوعها ونهوضها .
        (6) رواه مسلم .
        (7) الأدب المفرد الحديث / 223 / .
        (8) الأدب المفرد الحديث / 360 / .
        (9) الأدب المفرد الحديث / 515 / .


        تعليق

        يعمل...
        X