الإجازة سبق إسلامي وتقليد غربي
د/ راغب السرجاني
موقع قصة الإسلام
تعريف الإجازة ومعاييرها
تُعرّف الإجازة بأنها الإذن بالإفتاء أو التدريس[1]، وتعريفها عند المحدِّثين وغيرهم: الإذن بالرواية، سواء رواية حديث أم رواية كتاب[2].
وقد وضع علماء المسلمين مجموعة من المعايير التي من خلالها يستطيع طالب العلم أن يترقى في هذه المنظومة التعليمية؛ ليصل في نهاية المطاف إلى سُدَّة التدريس أو الإفتاء، ومن ثَمَّ كانت "الإجازة" هي المعيار الرئيسي الذي من خلاله يُقرّ المدرس أن تلميذه أصبح قادرًا على الجلوس للتدريس في حلقة مستقلة، ولقسمٍ معين من أقسام العلوم المختلفة. طريقة الإجازة
وأما طريقة الإجازة، فتتمثل في السماح في نقل العلم إلى الآخرين، وذلك أن يعطي الشيخ كتبه أو بعضها لتلميذه، أو لأحد العلماء مؤكدًا لهم أنها بخط يده، ويخبرهم باسم الشيخ الذي نقل عنه، وأخذ منه هذا العلم، ثم يُجيزهم بإعطائها للآخرين[3].
وقد عرفت الحضارة الإسلامية طريقة الإجازة منذ فترة مبكرة جدًّا، وقد كان الهدف منها في بداية الأمر، الاحتراز من الوقوع في الخلط بين الأحاديث الشريفة، فوضع علماء الحديث طريقة الإجازة، وكانت نوعًا من أنواع الثقة المتبادلة بين الأساتذة وتلاميذهم.
والإجازة في حقيقة الأمر إضافة إسلامية مهمَّة في مسار الحضارة الإنسانية عبر آلاف السنين؛ إذ إنها بمنزلة الشهادة الموثَّقة التي يحصل عليها طلاب العلم الآن.
ولذلك ما خلا عصر من العصور الإسلامية المتفاوتة إلا ووجدنا الإجازة شرطًا من الشروط المهمَّة في تعيين أحد العلماء في مكان من الأماكن الحساسة في الدولة.
فقد أجاز إمام أهل السُّنَّة أَحمد بن حنبل رحمه الله لابنه عبد الله؛ حيث "روى عنه المسند ثلاثين ألفًا، والتفسير مائة ألف حديث وعشرون ألفًا"[4]، وقد أجاز الإمام محمد بن شهاب الزهري للإمام ابن جريج[5] رحمهما الله[6].
وقد كان من حق النساء في الحضارة الإسلامية أن يتعلمن العلم، ويُعلِّمنه، وكانوا كالرجال في ذلك سواء بسواء، فلم يكن يُسمح أن تتصدر امرأة للتعليم من دون الحصول على إجازات من العلماء، ومن اللافت للنظر أن مرضعة الإمام الذهبي[7] "وعمته ست الأهل بنت عثمان، قد حصلت على الإجازة من ابن أبي اليسر، وجمال الدين بن مالك، وزهير بن عمر الزرعي، وجماعة آخرين، وسمعت من عمر بن القواس وغيره، وروى الذهبي عنها"[8].
الإجازة في كافة العلوم
ولم تكن الإجازة في العلوم الشرعية فقط، بل كانت تشمل كافة العلوم الشرعية والحياتية، ومن ثَمَّ كانت الإجازة من الأمور المأخوذ بها في تدريس العلوم الطبية؛ فقد أجاز رئيس الأطباء في القرن الرابع الهجري سنان بن ثابت[9] لكل من يرغب في أن يعمل في مهنة الطب، بعد اجتياز امتحان يُعقد له في التخصص الذي يُريد العمل به[10]. وكذلك أجاز مؤسس المدرسة الدخوارية في دمشق، مهذب الدين الدخوار، للعلامة علاء الدين ابن النفيس، الذي استطاع بعد هذه الإجازة أن يعمل في كبرى مستشفيات عصره، وهي المستشفى النوري في دمشق[11]، بل كان الرازي يقول في كتابه الحاوي: يمتحن المتقدم للإجازة الطبية في التشريح أولاً، فإذا لم يعرفه فلا حاجة بك أن تمتحنه على المرضى[12].
وقد كانت الإجازة من كبار العلماء فخرًا للتلميذ، يتذكره طوال عمره، فهذا القلقشندي يأتي بنص الإجازة التي أخذها من علامة عصره سراج الدين بن الملقن في الفقه الشافعي، يأتي بها في كتابه الموسوعي "صبح الأعشى" مدللاً على حبِّه وافتخاره لهذه الإجازة، فمِمَّا جاء فيها: "استخار الله تعالى سيدنا وشيخنا وبركتنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العلامة الحبر الفهامة فريد دهره، ونسيج وحده، جمال العلماء، أوحد الفضلاء، عمدة الفقهاء والصلحاء سراج الدين مفتي الإسلام والمسلمين أبو حفص عمر...، وأذن وأجاز لفلان المسمى فيه (القلقشندي) -أدام الله تعالى معاليه- أن يدرس مذهب الإمام المجتهد المطلق العالم الرباني أبي عبد الله محمد بن إدريس المطلبي الشافعي –رحمه الله- وجعل الجنة متقلبه ومثواه، وأن يقرأ ما شاء من الكتب المصنفة فيه، وأن يفيد ذلك لطالبيه حيث حل وأقام كيفما شاء، ومتى شاء، وأين شاء، وأن يفتي من قصد استفتاءه خطًّا ولفظًا على مقتضى مذهبه الشريف المشار إليه لعلمه بديانته وأمانته ومعرفته ودرايته وأهليته لذلك وكفايته..."[13].
ومن هنا، ندرك أن "الإجازة" كانت سبقًا إسلاميًّا فريدًا في مسيرة الإنسانية كلها، فقد سبقت كبرى الكليات والجامعات الأوربية بما يزيد على عشرة قرون كاملة؛ مما يُدلل على عظمة الحضارة الإسلامية في هذا الشأن، وإضافتها لشيء تنظيمي جديد، لطالما سارت جميع الأمم على نهجه حتى يومنا هذا.
[1] حاشية ابن عابدين 1/14.
[2] وزارة الأوقاف المصرية: الموسوعة الإسلامية العامة ص43.
[3] كرم حلمي فرحات: التراث العلمي للحضارة الإسلامية في الشام والعراق خلال القرن الرابع للهجري ص69.
[4] ابن كثير: البداية والنهاية 11/109.
[5] ابن جريج: هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي (70- 150هـ)، مولى بني أمية، كان أحد أوعية العلم، وهو أول من صنَّف التصانيف في الحديث. انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 19/ 119، 120، وانظر: الزركلي: الأعلام 4/160.
[6] الذهبي: سير أعلام النبلاء 6/332.
[7] الذهبي: هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز (673- 748هـ/ 1274- 1348م) حافظ، مؤرخ، علامة محقق، تركماني الأصل، مولده ووفاته في دمشق، تصانيفه كبيرة كثيرة تقارب المائة. انظر: الزركلي: الأعلام 5/326.
[8] الذهبي: سير أعلام النبلاء، مقدمة التحقيق 1/17
[9] سنان بن ثابت: هو أبو سعيد سنان بن ثابت بن قرة الحراني (ت 331هـ/ 943م) طبيب عالم، كان رفيع المنزلة عند المقتدر العباسي، وجعله رأسًا للأطباء، وقد توفي في بغداد. انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 5/152.
[10] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 2/204.
[11] الذهبي: تاريخ الإسلام 51/312.
[12] الرازي: الحاوي في الطب 7/426.
[13] القلقشندي: صبح الأعشى 14/366، 367.