من أحكام الديون في الإسلام
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
تهاون كثيرٌ مِن الناس اليوم بأمر الدَّيْن، فتراه يستدين لحاجةٍ ولغير حاجةٍ؛ حتى إن الرجلَ إذا أراد أن يبدأ مشروعًا، فإن كان معه ألفٌ استدان ألفًا آخر، وبدأه بألفين، وإن كان معه عشرةٌ استدان عشرة أخرى، وهكذا.. وبعضهم يستدين لشراءِ الكماليات؛ فترى كثيرًا من الناس قد طوَّقهم الدَّيْن.
واعلم أن مَن مات مَدينًا فهو على خطرٍ عظيم؛ ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذيُّ عن ثوبان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن فارق الروحُ الجسدَ وهو بريءٌ مِن ثلاث دخل الجنة: الكِبْر، والدَّيْن، والغلول))[1]، والغلول: هو السرقة مِن المال العامِّ.
وروى الترمذي - وحسَّنه - عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نفس المؤمن مُعلَّقةٌ بدَيْنه حتى يُقضَى عنه))[2].
وعند الإمام أحمد والحاكم - وصححه ووافقه الذهبي - عن محمد بن عبدالله بن جحش رضي الله عنه، قال: كنا جلوسًا بفناء المسجد حيث تُوضَع الجنائز، ورسول الله صلى الله عليه وسلم رأسُه إلى السماء، فنظر ثم طأطأ بصرَه، ووضع يده على جبهته، ثم قال: ((سبحان الله! سبحان الله! ماذا نزل من التشديد؟))، قال: فسكتنا يومنا وليلتنا، فلم نرَها خيرًا حتى أصبحنا، قال محمد: فسألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: (ما التشديد الذي نزل؟)، قال: ((في الدَّيْن، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أن رجلًا قُتل في سبيل الله ثم عاش، ثم قُتِل في سبيل الله تعالى، ثم عاش، وعليه دَيْنٌ، ما أُدْخِلَ الجنة حتى يقضى دَيْنَه))[3].
بل كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَمتنع عن الصلاة على المَدِين؛ ففي صحيح البخاري عن سَلَمة بن الأَكْوع رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أُتي بجنازة، فقالوا: صلِّ عليها، فقال: ((هل عليه دَيْنٌ؟))، قالوا: لا، قال: ((فهل ترك شيئًا؟))، قالوا: لا، فصلَّى عليها، ثم أُتي بجنازةٍ أخرى، فقالوا: يا رسول الله، صلِّ عليها، فقال: ((هل عليه دينٌ؟))، قيل: نعم، قال: ((فهل ترك شيئًا؟))، قالوا: ثلاثة دنانير، فصلِّ عليها، قال: ((صلُّوا على صاحبِكم))، قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله وعليَّ دينُه، فصلَّى عليه[4].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدَّين، فيسأل: هل ترك لدَيْنه فضلًا؟ فإن حدث أنه ترك لدَيْنه وفاءً صلى عليه، وإلا قال للمسلمين: صلُّوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح، قال: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمَن تُوفي مِن المؤمنين فتَرَك دَيْنًا، فعليَّ قضاؤه، ومَن ترك مالًا فلورثتِه))[5].
فضلُ إقراض المحتاج:
أحيانًا تحلُّ بالمسلم فاقةٌ، فيبيت في الهمِّ ويُصبح بالغم، ولا يدري كيف يتصرف، ولا يريد أن يطلب الصدقة، وإنما ينظر يمينًا وشمالًا، ويدور فكرُه ليقع على صديق قديم، أو أخ عزيز، أو جارٍ كريم ليطلب منه النجدة، يريد قرضًا حسنًا إلى أجل مسمى، ((والله في عَوْنِ العبد ما كان العبد في عون أخيه))[6].
هنا يحثُّ الإسلامُ الأغنياءَ على إقراض إخوانهم الفقراء، ورتَّب على ذلك أجرًا عظيمًا؛ فقد جعل منح المسلم القرضَ كعتقِ رقبةٍ لله؛ فقد روى الترمذي - وقال: حسنٌ صحيح - عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن منح منيحة ورقٍ، أو منيحة لبنٍ، أو أهدى زقاقًا، فهو كعتاق نسمةٍ))[7].
منيحة ورق: إقراض الدراهم.
منيحة لبن: إقراض الشاة للفقير، يأخذ لبنها ثم يردها.
أهدى زقاقًا: هداية الطريق للغريب والأعمى، ونحوهما.
فجعل الإسلامُ إقراضَ المحتاج كعتق رقبةٍ، وهناك حديثٌ صحيحٌ في فضل عتق الرقاب يُبين أن ((مَن أعتق رقبةً أعتق الله بكلِّ عضوٍ منها عضوًا منه مِن النار))[8].
فضل إنظار المُعسر:
مِن المسلمين مَن يقترض لحاجةٍ، ثم يحين موعد السداد فلا يستطيع أن يسدِّد دَيْنه، والدائن يريد ماله، فيقع المدين في حرجٍ شديد؛ فيبيت في همٍّ ويصبح في غمٍّ، ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فكان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من ضلع[9] الدَّين وغلبة الرجال))[10].
وبينما الدُّنيا قد أظلمت في وجه المَدِين وهو يحاول أن يسُدَّ دَيْنه، وضاقت به الأرض بما رحُبَت، وأُغلِقَت الأبواب، وانقطَعَت الحِيلُ، وجاء موعدُ السَّداد، فإذا بالدائن يشعرُ به، ويعلمُ بحاله، فيُرسِلُ إليه: أخي، أعلم أن موعد السداد قد حان، ولكني قد أخَّرتُك ستةً أشهر أخرى لتدبر أمورك، وييسر الله أمرك، فإذا بالمَدِين يستفيق مِن غفوته، ويُبدَّل حزنُه فرحًا، ويدعو لأخيه بالخير والبركة، وهنا يُبشِّر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هذا المُقرِضَ ببشرى عظيمةٍ، تشرئِبُّ لها أعناق المؤمنين، وتشتاق لها قلوب العارفين؛ ففي الحديث الذي رواه مسلمٌ عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن سرَّه أن ينجيَه الله مِن كرب يوم القيامة فليُنفِّس عن مُعسِر أو يضَع عنه))[11].
بل كلما صبرتَ على المقترض، وأمهلتَه، وأنظرتَه؛ ازددتَ أجرًا وثوابًا؛ فقد روى أحمد وابن ماجه - بسندٍ جيدٍ - عن بُرَيدة رضي الله عنه، قال: سمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن أنظر[12] مُعسرًا[13]، فله بكل يوم مثله[14] صدقةٌ))، قال: ثم سمعتُه يقول: ((مَن أنظر معسرًا، فله بكل يوم مثلَيْه[15] صدقةٌ))، قلت: سمعتُك يا رسول الله تقول: ((مَن أنظر معسرًا، فله بكل يوم مثله صدقة))، ثم سمعتك تقول: ((مَن أنظر مُعسرًا فله بكل يوم مثلَيْه صدقةٌ؟))، فقال صلى الله عليه وسلم: ((له بكل يوم صدقةٌ قبل أن يحل الدَّيْن، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلَيْه صدقةٌ))[16].
ولقد حرَّض الله الأغنياء إذا أقرَضوا الفقراء، فلم يستطيعوا السدادَ في الوقت المحدَّد أن يُنظِروهم ويُؤخِّروهم إلى حين مَيْسرة، فإنْ تنازلوا لهم عن الدَّين، وتصدقوا به عليهم - كان خيرًا لهم في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280]؛ أي: إن كان المقترضُ ذا عسرةٍ - أي: صاحب فاقةٍ وحاجةٍ - ولا يستطيع أن يُسدِّد في الموعد المحدد، ﴿ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾؛ فأنظروه؛ أي: أخِّروه إلى أن يتيسَّر أمره، ويتمكن من السَّداد، ولا تُطالبوا بحبسه، وسجنه، وتلحفوا عليه في السؤال؛ ﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280].
قال ابن جرير رحمه الله:
وأن تصدَّقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر خيرٌ لكم أيها القوم مِن أن تنظروه إلى ميسرته لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر، إن كنتم تعلمون فضل الصدقة عليه، وما أوجب الله مِن الثواب لمن وضع عن غريمِه المعسرِ دينَهُ؛ اهـ؛ مختصرًا.
قصة عجيبة:
روى مسلمٌ عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: خرجتُ أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحيِّ مِن الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أولُ مَن لقينا أبا اليسر صاحبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه غلامٌ له معه ضِمامةٌ مِن صُحف، وعلى أبي اليُسر بردةٌ ومَعافري، وعلى غلامه بردةٌ ومعافري.
فقال له أبي: يا عم، إني أرى في وجهك سفعةً مِن غضب.
قال: أجل، كان لي على فلان بن فلان الحرامي[17] مال، فأتيتُ أهله، فسلمتُ، فقلتُ: ثَمَّ هو؟ قالوا: لا، فخرج عليَّ ابنٌ له جَفْر[18]، فقلت: أين أبوك؟ قال: سمع صوتك فدَخَل أريكة أمي، فقلت: اخرج إليَّ، فقد علمتُ أين أنت، فخرج، فقلت: ما حملك على أن اختبأتَ مني؟
قال: أنا والله أُحدِّثك ثم لا أكذبك، خشيتُ والله أن أُحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأُخلفَك، وكنتُ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنتُ واللهِ معسرًا، قال: قلتُ: آلله؟ قال: آلله، قلتُ: آلله؟ قالَ: آلله، قلتُ: آلله؟ قالَ: آلله، قال: فأتى بصحيفةٍ، فمحاها بيدِه، فقال: إن وجدتَ قضاءً فاقضِ، وإلا أنت في حلٍّ، فأَشْهَدُ بصَرُ عينيَّ هاتين، ووضَع إصبعَيْه على عينيه، وسمع أُذُنيَّ هاتين، ووعاه قلبي هذا، وأشار إلى مناط قلبه - رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((مَن أَنْظَرَ مُعسِرًا أو وَضَعَ عنه، أظَلَّه اللهُ في ظلِّه))[19].
وهكذا سارع الصحابي الجليل أبو اليُسر رضي الله عنه إلى طمس (الشيك)، وقال للمَدِين: أنت في حِلٍّ مِن ديني؛ رجاءَ أن ينال هذا الأجر العظيم والثواب الجزيل.
بل إن تجاوزك عن المعسر قد يكون سببًا في مغفرة الله لك يوم القيامة ونجاتك مِن النار:
• ففي الصحيحين عن حذيفةَ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (تلقَّتِ الملائكةُ رُوح رجلٍ ممَّن كان قبلكم، فقالوا: أعملتَ مِن الخير شيئًا؟ قال: لا، قالوا: تذكَّر، قال: كنتُ أُدايِن الناس، فأُنظر الموسر، وأتجاوَز عن المعسر، قال الله جل جلاله: أنا أحقُّ بذا منك، تجاوَزُوا عن عبدي))[20]!
وقد تجد الذي يُيسِّر على المدينين أمورَه ميسرةً في الدنيا، وستكون كذلك في القبر والحساب إن شاء الله تعالى.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن نفَّس عن مؤمنٍ كربةً مِن كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كربةً مِن كُرَب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة))[21].
• وإذا كنت سمحًا في البيع والشراء ومقاضاة الديون نلتَ رحمة الله يوم القيامة: ففي البخاري عن جابرٍ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رَحِم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى))[22].
دعاء لقضاء الدين:
في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعًا أن نقول: ((اللهم رب السماوات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحبِّ والنوى، ومُنزل التوراة والإنجيل والفرقان؛ أعوذ بك مِن شر كل شيءٍ أنت آخذٌ بناصيتِه، اللهم أنت الأولُ فليس قبلك شيءٌ، وأنت الآخر فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظاهرُ فليس فوقك شيءٌ، وأنت الباطن فليس دونك شيءٌ، اقضِ عنا الدَّين، وأغنِنا مِن الفقر))[23].
وفي حديثٍ آخرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلِّي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((ألا أُعلمك دعاءً، لو كان عليك جبلٌ من الدَّين أدَّاه الله عنك؟))، قلتُ: بلى يا رسول الله، قال: قُل: ((اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغْنِني بفضلك عمَّن سواك))[24].
استحبابُ التصدُّق على الرجل إذا علم الناس أنه مدينٌ حتى يقضي دينه: ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: أُصيب رجلٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((تصدقوا عليه))، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاءَ دَيْنه، فقال صلى الله عليه وسلم لغُرمائه: ((خُذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك))[25].
جواز طلب المدين من الدائن أن يضع عنه بعض الدَّيْن:
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالتْ: سمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب، عاليةٌ أصواتهم، وإذا أحدهم يستوضع الآخر ويسترفقه في شيءٍ، وهو يقول: والله لا أفعل، فخرَج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أين المتألِّي على الله لا يفعلُ المعروف؟))، فقال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أَحَب[26].
قال النووي رحمه الله: في الحديث دليلٌ على أنه لا بأس بمثل هذا، ولكن بشرط ألا ينتهي إلى الإلحاح وإهانة النفس.
حكمُ كتابة الدَّيْن:
الجمهور على أن كتابة الدَّيْن مُستحبةٌ؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282].
وكذلك الإشهاد على هذه الكتابة مُستحبٌّ؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ... ﴾ [البقرة: 282].
وكلُّ ذلك حتى لا يختلفوا عند القضاء بسبب الجحود أو النسيان ونحوهما.
حكُم مَن ادَّعى أنَّ له دَينًا على آخر وليس له إلا شاهدٌ واحدٌ:
من المعلوم أن الدَّين إذا لم يكن مكتوبًا فلا يثبتُ إلا بشاهدين، فماذا يفعلُ من ادعى أن له دينًا على آخر وليس معه كتابةٌ، ولكن معه شاهدٌ واحدٌ؟
الجواب: يدلي هذا الشاهد بشهادته، ثم يحلفُ صاحب الدَّين يمينًا مكان الشاهد الثاني، وبذلك يستحق دينه، والدليل: ما رواه مسلمٌ عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهدٍ[27].
حكمُ الانتفاع بالرهن:
في بعض الأماكن سمعنا بعادةٍ سيئةٍ، وهي أنَّ الرجل إذا أراد أن يقترضَ مِن آخر مبلغًا كبيرًا أعطاه قطعةَ أرض رهنًا ينتفع بها، ويزرعها حتى يردَّ إليه القرض، فيرد إليه قطعة الأرض! وهذا لا يجوز، بل هو قرضٌ جرَّ نفعًا مشروطًا، فصار ربًا لا محالة.
جمهور العلماء على أن الرهن لا ينتفع به إلا إذا كان حيوانًا؛ فينتفع به بالركوب أو بلبنه بقدر نفقته عليه.
ففي صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الرهن يُركَب بنفقته، ويُشرب لبن الدر إذا كان مرهونًا))[28].
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "ولا ينتفع المرتَهِنُ مِن الرهن بشيءٍ إلا ما كان مركوبًا أو محلوبًا، فيركبُ ويحلبُ بقدر العلف"[29]؛ اهـ.
رجلٌ له زرعٌ وعليه دينٌ يحيط بثمن الزرع، هل عليه زكاة؟
ثلاثة أقوال:
1 - يُؤدِّي زكاة زرعه أو ماشيته؛ لأنها أموالٌ ظاهرةٌ، والدَّينُ يمنع الزكاة في المال الباطن دون الظاهر؛ وهو قول مالك والأوزاعي.
2 - يقضي ما أنفق على ثمرته (زرعه)، ثم يُزكِّي ما بقي؛ وهو قول ابن عباس[30].
3 - يقضي دَيْنه، وليس عليه زكاةٌ؛ لا في المال الظاهر ولا في المال الباطن؛ وهو قول ابن عمر[31]، وطاوس، وعطاء، ورجَّحه أبو عبيد في الأموال[32]؛ لأنه فقيرٌ، والصدقة تُؤخَذ من الأغنياء، وهو الراجحُ إن شاء الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الصدقة ما كان عن ظَهْر غنى))[33].
رجلٌ له دينٌ عند فقيرٍ، فهل يجوز أن يسقطَ عنه الدَّين ويحسبه من الزكاة؟
الجواب: سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن ذلك؟ فقال: لا يجزئه ذلك.
وسُئِل شيخ الإسلام، فقال: إسقاط الدَّين عن المعسر لا يجزئ عن الزكاة، إلا إذا أسقط عنه قَدْر زكاة ذلك الدَّين فقط، كأن يكون الدين عشرة آلاف، فيُسقط عنه مائتين وخمسين منها، فهذا جائزٌ على قول الأحناف[34]، ورجحه ابن تيميَّة[35]، رحمهم الله.
[1]صحيح: أخرجه أحمد (22369)، من طريق قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان به، وأخرجه الترمذي (1573)، وابن ماجه (2412)، والدارمي (2592)، وصححه الشيخ الألباني في (صحيح الجامع) (6411).
[2]صحيح: أخرجه أحمد (9679، 10157)، والترمذي (1079)، وابن ماجه (2413)، وابن حبان (3061) بأسانيد صحيحة، وحسَّنه الترمذي، وصحَّحه الشيخ الألباني في (صحيح الجامع) (6779).
[3]صحيح بشواهده: أحمد (5/ 389)، والنسائي (4684)، والحاكم (2/ 24)، وفي سنده أبو كثير مولى محمد بن جحش، وفيه خلاف لا يضر، وقد وثقه ابن حبان، وقال الذهبي: شيخ، وقال الحافظ: ثقة، يقال: له صحبة، وبقية رجاله ثقات؛ ولذلك حسنه الألباني في (صحيح الجامع) (3600).
[4] أخرجه البخاري (2289 - 2295)، والنسائي (1960)، وأحمد (4/ 47)، والطبراني (6290)، وابن حبان (3264).
[5]رواه البخاري (2998)، ومسلم (1619)، وأبو داود (2955)، والنسائي (4/ 66)، وابن ماجه (2415)، وأحمد (2/ 287، 290، 453) وعبدالرزاق (15261)، وابن حبَّان في صحيحه (3063).
[6] أخرجه مسلم (2699)، وأبو داود (1455، 4946)، والترمذي (2945)، وابن ماجه (225)، وأحمد في المسند (2/ 252، 407)، والدارمي (344)، وابن حبان (85).
[7]صحيح: أخرجه الترمذي (1957)، وقال: حسن صحيح، وأحمد في (المسند) (4/ 285، 286، 287، 296)، وابن حبان في صحيحه (5096)، والبغَوي في (شرح السنة) (1663)، وصححه الشيخ الألباني في (صحيح الجامع) (6559).
[8]أخرجه البخاري (2517)، ومسلم (1509)، والترمذي (1541)، والنسائي في (السنن الكبرى) (4874، 4875)، وابن حبان في صحيحه (4308)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (10/ 271، 272).
[9]ضِلَع الدين: ثقل الدين وشدته.
[10]أخرجه البخاري (2893)، وأبو داود (1541)، والترمذي (3484)، والنسائي (5466).
[11]صحيح: أخرجه مسلم (1563)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (5/ 357، 6/ 28).
[12]أنظر: أخَّر وأجَّل.
[13]معسرًا: الذي تعسرت أموره، فلم يستطع السداد.
[14]مثله: مثل المبلغ الذي أقرضه.
[15]مثليه: ضعف المبلغ الذي أقرضه.
[16] صحيح: أخرجه ابن ماجه (2418)، وأحمد في (المسند) (23046)، والحاكم في (المستدرك) (2/ 29) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني في (السلسلة الصحيحة) (86).
[17]الحرامي: من بني حَرام.
[18]جفر: صغير.
[19] صحيح: أخرجه مسلم (3006)، وابن ماجه (2419)، والطبراني (19/ 379)، والحاكم في (المستدرك) (2/ 28).
[20]أخرجه البخاري (2077)، ومسلم (1560)، واللفظ له.
[21]صحيح: أخرجه مسلم (2699)، وأبو داود (4946)، والترمذي (1930)، وابن ماجه (225)، وأحمد في (المسند) (2/ 252)، وابن حبان في صحيحه (5045).
[22] أخرجه البخاري (2076)، والترمذي (1320)، وابن ماجه (2203)، وأحمد (3/ 340)، وابن حبان في صحيحه (4903).
[23]صحيح: أخرجه مسلم (2713) وأبو داود (5051)، والترمذي (3400)، وابن ماجه (3873)، وأحمد في (المسند) (2/ 381، 536)، وابن حبان (5537).
[24] حسن: أخرجه الترمذي (3563)، وحسنه الحاكم في (المستدرك) (1/ 538)، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الشيخ الألباني في (صحيح سنن الترمذي) (3563).
[25] صحيح: أخرجه مسلم (1556)، وأبو داود (3469)، والترمذي (655)، والنسائي (4543، 4692)، وابن ماجه (2356)، وأحمد في (المسند) (3/ 36، 58)، وابن حبان (5033)، والبيهقي (6/ 49 - 50).
[26]أخرجه البخاري (2705)، ومسلم (1557)، ومالك في (الموطأ) (1345)، وأحمد في (المسند) (6/ 69، 105)، وابن حبان في صحيحه (5032).
[27] صحيح: أخرجه مسلم (1712)، وأبو داود (3609)، وابن ماجه (2370)، وأحمد في (المسند) (1/ 315، 323، 348)، وغيرهم، وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أخرجه أبو داود (3611)، والترمذي (1343)، وابن ماجه (2368).
[28]أخرجه البخاري (2511)، وأبو داود (3526)، والترمذي (1254)، وابن ماجه (3440)، وأحمد في (المسند) (2/ 228، 472)، والدارقطني (3/ 34)، وابن حبان في صحيحه (5935)، والبيهقي (6/ 38)، والبغوي (2141).
[29](المغني) (6/ 509 - 511).
[30] حسن: رواه البيهقي (4/ 148)، بسند حسَن.
[31]حسن: رواه البيهقي (4/ 148)، بسند حسَن.
[32](الأموال) لأبي عُبيد (1545).
[33]أخرجه البخاري (1426)، والنسائي (2542)، وأحمد في (المسند) (2/ 476، 524)، والدارقطني (3/ 297)، وابن حبان (3363)، والبيهقي (7/ 470).
[34]انظر (المبسوط) للسرَخسي (2/ 203).
[35]انظر (الفتاوى) (25/ 84).
موقع الألوكة