بسم الله الرحمن الرحيم
خصائص الحضارة الإسلامية
مقارنة بالحضارة الغربية
الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب
مفتى جمهورية مصر العربية- مصر
معنى الحضارة:
لعل كلمة " حضارة " من أعقد الكلمات وأحفلها بالمناقشة والجدال، وذلك على الرغم من الأهمية القصوى التى يمثلها مفهوم هذه الكلمة، سواء فى مجال العلوم الإنسانية أو السياسية.
وربما كان من الصعب- فى هذا البحث المختصر- تقصى دلالات كلمة "حضارة"، قديماً وحديثاً، ورصد ما تبدل عليها من معان وأفكار، أصابها بشىء غير قليل من اللبس والخلط. وحسبنا أن نحاول قدر الإمكان- وفى اختصار- تحرير مفهوم "الحضارة " من خلال ما تسمح به معانى المعاجم العربية، والاستعمالات الواردة فى تراث الإسلام.
إذا رجعنا إلى اللغة العربية وجدنا أن الحضارة تعنى ضمن ما تعنى: الإقامة فى الحضر، والحضر خلاف البادية، تقول العرب: "فلان باد وفلان حاضر " (1). لكن هذا المعنى ليس هو كل ما هنالك لكن هذا المعنى ليس هو كل ما هنالك من دلالات لهذه الكلمة، فقبل ذلك هناك معنى "الحضور" الذى هو نقيض "الغياب "، وأيضا
"قرب الشىء" و"المجىء". ومن ومن الملاحظ أن " الحضور " هو أول معنى يسجله علماء اللغة لكلمة "حضارة"، ثم تأتى بعده المعانى الأخرى، ومن جملتها" سكنى الحضر "، وبرغم ذلك فإن الباحثين المعاصرين عاصرين فى معنى الحضارة لا يأخذون فى حسبانهم المعنى الأساسى لهذه الكلمة، وهو "الحضور" بمعنى الشهادة، وإنما يقفزون رأسا فى تحديد معنى الحضارة الإسلامية إلى جعلها مرادفة للكلمة الغربية: "Civilization"، فتكون مرادفة لمعنى: "مدنية" أو "ثقافة". فالحضارة عند هؤلاء: " من حضر يحضر، يحضر الشخص ليعمل مع الآخرين كى يتأنس ويؤنس محيطه "، وهى"تراث مشترك بين جميع الشعوب: قديمها وحديثها وإنها إرث إنسانى فى نمولا- ينقطع، مثل بحر زاخر بالمياه والأمواج، وله روافد عديدة.. هى الثقافات القومية" (2). ويستند المعاصرون فى تبريرهم دمج مدلول الحضارة بالمعنى العربى
فى المدلول الغربى إلى اقتباسات من كلام ابن خلدون تشير إلى أن الحضارة عنده- أيضّا- هى "سكنى الحضر والمدن " (3)، وهو اقتباس انتقائى يركز على استخدام واحد لمعنى الحضارة دون باقى الاستخدامات الأخرى.
ومادة، "الحضور" إلتى هى أول ما يظهر من معانى الحضارة فى الاستعمال الإسلامى تعنى: "الشهود "، مما يشير إلى أن معنى "الحضارة"- إذن- هو: "الشهادة" وهذا المعنى يشهد له القرآن الكريم حيث وردت كلمة حضر- بمعنى "شهد"- فى آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (وإذا حضرالقسمة أولو القربى ) (4). وأيضا:( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (5).
من هذا المنطق يمكن القول بأن "الشهادة" فى الاستعمال القرآنى هى أقرب المعانى فى تحديد مفهوم كلمة الحضارة بالمعنى الإسلامى، وتعنى: الشهادة، فيما تعنى:
أولاَ: التوحيد، الذى هو محور عقيدة الإسلام، والذى تعبر عنه كلمة "الشهادتين "، وقد عبر عنها القرآن فى قوله تعالى: ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) (6)
والحديث الصحيح" بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ".
وتعنى الشهادة ثانيَا: التضحية والفداء وبذل الروح دفاعا عن العقيدة، وعن تحرير الإنسان، وتخليصه من عبادة الغير.
ثم تعنى ثالثًا: شهادة الأمة الإسلامية باعتبارها أمة وسطا، على سائر الأمم (7).
وفى هذا الإطار تبدو الحضارة الإسلامية: حضارة يمثل الوحى الإلهى فيها حجر الزاوية، وتمثل الوسطية ركنًا من أركانها، ويصير دورها بالنسبة لباقى الحضارات دور الشاهد الذى يشهد لهذه الحضارات أو ليشهد عليها، ويلزم ذلك أن يكون أنموذج هذه الحضارة مستقلا، يستعصى على الذوبان أو التلاشى أو الانسحاق فى حضارة أخرى لا تنطلق من نفس القيم أو الثوابت التى تنطلق منها حضارة الإسلام، وإن كانت تتفاعل وتتجاوب مع أية حضارة تحترم هذه القيم والثوابت.. ومن هذا المنظور يمكن أن نحدد بعض خصائص الحضارة الإسلامية فى أنها:
ا- حضارة مؤسسة على الوحى الإلهى.
2- وعلى العقل المنضبط بالوحى.
3- وعلى الأخلاق الثابتة.
4- ثم هى حضارة منفتحة ومستوعبة.
5- وأخيرَا: هى حضارة مسالمة.
موقع الوحى فى الحضارة الإسلامية:
يقع الوحى الإلهى من منظومة الحضارة الإسلامية موقع القلب والدماغ من جسد الإنسان، فقد شكل المرجعية الأولى فى تاريخ هذه الحضارة، ومَثل السر الخفى الكامن وراء صمودها وثباتها، رغم الضربات العنيفة التى وُجهت إليها على مدى تاريخها الطويل.. "ونعنى بالوحى الذى تستند إليه هذه الحضارة "الدين" الموحى به من الله- تعالى- إلى نبى الإسلام: عقيدة وشريعة، وسلوكا وقيمًا وآدابًا، أو لنقل: الدين الذى هوإيمان وعمل أو عقيدة وسلوك، وهذا الوحى الإلهى قد حدد كل هذه الأركان، وصاغها صياغة كاملة، بينها النبى محمد صلى الله عليه وسلم نظرياً فى أحاديثه الشريفة، وعملياً فى سيرته الشخصية. مما يعنى أن الدين الإسلامى ولد كاملاً مستوفى الأركان، وأنه لم يتشكل فى رحم تطورات تاريخية، أو أعيد تشكيله وفق تطورات ثقافية أو فلسفات طوته تحت جناحها، ويرجع السبب فى صمود هذا الدين واستعصائه على الذوبان إلى أن النصوص الإلهية- التى صاغت حقيقته- ظلت كما هى وحيا محفوظا فى السطور والصدور، الأمر الذى مكن لهذا الدين أن يبقى ثابت المعالم أمام تطور الحضارات وتداخلها وتفاعلها، وبحيث يمكن القول بأن التطور لا يعنى بالنسبة لهذا الدين إلا نوعا من التفسير أو الصقل أو الكشف عن حقيقته، وأنه فطرة الله التى فطر الناس عليها.
وغنى عن البيان القول بأن الوحى الإلهى فى هذا الإطار- والذى هو أخص خصائص الحضارة الإسلامية- هو أمر آخر مختلف كليا عن هذه التشويهات التى جرت بها أقلام طائفة من الغربيين، واختزلت فيها الوحى فى الإسلام إلى نوبات مرضية، أو خيالات شعرية ونفسية، أو الوقوف به "عند حدود الاقتباس الثقافى من الأديان الأخرى التى كان لها فى شبه الجزيرة العربية بعض المواقع الفاعلة، كما هو الحال بالنسبة ليهود خيبر، ويثرب، ونصارى نجران، علما بأن ثمة فروقات بنائية بين القرآن من جهة، وبين التوراة والإنجيل من جهة أخرى، ليس هذا المقام موضع الخوض فيها" (8). فالمقصود من الوحى هو هذه الحقائق الموضوعية التى تلقاها النبى صلى الله عليه وسلم وحيا من الله تعالى، ونزل بها جبريل على قلبه، وبفضل هذا الوحى المحفوظ فى القرآن الكريم والسنة النبوية تمكن دين الإسلام من الصمود أمام حوار الثقافات والحضارات واحتفظ بشخصيته بكل ملامحها وقسماتها، ولم يحدث أبدا أن تبدلت ثوابته أو تراجعت أمام مذ حضارى أو نهضوى.
وقد قدر لهذه الحضارة أن تكون مصدر علم وتنوير وعمارة وتحضر للعالم كله اعى مدى قرون عدة، وذلك لما حرص المسلمون على ربط حضارتهم بأصولها الحقيقية واستنباتها من جذورها الطبيعية المحفوظة فى نصوص هذا الوحى، وضمن منهجه وثوابته.
نعم. آلت هذه الحضارة إلى تراجع وتقهقر حين تخلت عن هذا المنهج الإلهى وعن فلسفته فى استخلاف الإنسان للمهمة المزدوجة، وأعنى بها: تعمير الكون وهدايته، ولكن ينبغى أن نعلم أن هذا التراجع لا يعود- أبدا- إلى أن قيم هذه الحضارة وأصولها الإيمانية فقدت قدرتها على مواكبة التقدم أو التطور، وإلا لما فذر لهذه القيم أن تسود العالم أكثر من خمسة قرون، بل يعود السبب فى ذلك إلى أن هذه الأصول قد أهملت أولاً، ثم أقصيت لاحقا- وعن عمد- عن مركز التوجيه فى هذه الحضارة فحدث ما حدث. ومع ذلك وبرغم هذا الضعف ظلت هذه القيم كالجمرة المتقدة التى لا يخبو أوارها، تفعل فعلها حتى فى زمن التراجع والنكوص. والدليل على ذلك: أن محاولات عدة بُذلت فى القرنين الماضيين- ولا تزال تبذل حتى هذه اللحظة- لنقل تجرية الغرب إلى بلاد المسلمين فى تحقيق بعث حضارى لا يعول على الإسلام وعقيدته وأخلاقه، وأن هذه المحاولات تحطمت واحدة تلو الأخرى أمام صمود العقيدة الإسلامية، وعاد الأمر فى كثير من هذه المحاولات إلى صحوة يلتصق فيها المسلمون بدينهم بصورة لافتة للأنظار، الأمر الذى يدلنا على أن هذه الحضارة رغم مرضها وهزالها تشكل دوزا بالغ الأهمية فى بقاء الأمة الإسلامية، وصد هجمات الغزو الحضارى والثقافى، بل الغزو العسكرى الذى نشاهده فى الآونة الأخيرة. ولو أن حضارة أمة أخرى تعرضت لما تعرضت له الأمة الإسلامية
تدور عليه تكاليف الشرع أمرًا ونهيًا، وقد نوه القرآن الكريم بشأنه، وعول عليه فى أمر العقيدة كما عول عليه فى أمور الشريعة والأخلاق. ومنزلة العقل فى القرآن الكريم مما لا يقبل نزاعا ولا خلافا، لأن تلاوة القرآن تثبته ثبوت أرقام الحساب، وبصورة ينفرد بها عن سائر الكتب السماوية. وصحيح أننا نجد فى كتب الأديان السابقة ما يشير إلى شأن العقل صراحة أو ضمنًا، لكن صحيح أيضا أن هذه الإشارات ما كانت
ترد فى سياقات مقصودة لبيان حجية العقل فى البلاغ الإلهى للناس، بل كثيرا ما كانت ترد بصورة ضمنية أو عرضية، بل ربما يلمح الناظر فى هذه الكتب- أحيانا- شيئا من الزراية بالعقل أو التحذير منه، لأنه مزلة العقائد، وباب من أبواب الدعوى والإنكار" (9). وعلى خلاف ذلك نجد نصوصًا قرآنية- لا تكاد تحصى- سيقت بقصد التذكير بقيمة العقل وحجيته وقوانينه التى هى أعدل الأشياء قسمة بين الناس.
وقد وردت مادة:العقل والفكر والنظر والفقه بمشتقاتها فى هذا الكتاب الكريم أكثر من 120 مرة، فى نصوص صريحة تدعو الناس إلى استخدام العقل بكل وظائفه وقواه فى معرفة الله تعالى، ومعرفة الإنسان وفهم الكون وتدبره. ولم يقتصر القرآن على ذكر العقل فقط، بل لفت الأنظار فى تكرار عجيب إلى كل وظائف القوة العاقلة، وعبر عنها بألفاظ شتى مثل: يعقلون ويتدبرون ويفكرون وينظرون ويسمعون ويفقهون، هذا فضلا عن التفرقة الرائعة بين رتبة "العلم " و" "اليقين " من جانب "الشك " و الظن " ومراتب الشك والظن من جانب آخر: (وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) (10). (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الطن لا يغنى من الحق شيئا) (11). وإذا كانت حضارة الإسلام حضارة وحى، فهى أيضا- وبالقدر ذاته- حضارة عقل ونظر.
ونقول: إن حفاوة القرآن بالعقل والحجة والبرهان وتحذيره من مناهج الظنون والشكوك هو أمر طبيعى بالنسبة لدين لا يعول فى مخاطبة الإنسان إلا على الخطاب الإلهى المباشر، دون اعتبار لأى وسائط أخرى من كهنوت أو قداسة مخلوق، أو ممثل لحق إلهى، "فلا هيكل فى الإسلام، ولا كهانة حيث لا هيكل، كل أرض مسجد، وكل من فى المسجد عبد واقف بين يدى الله تعالى. ودين بلا هيكل ولا كهانة لن يتجه فيه الخطاب بداهة إلى غير الإنسان العاقل الحر طليقا من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم " (12).
وحسبك من تغلغل مفهوم العقل والعقلانية فى قلب الثقافة الإسلامية أن الخطوة الأولى التى ينطلق منها مشوار العقيدة فى الإسلام خطوة عقلية، وأن الدليل على صدق النبى دليل عقلى، فدلالة المعجزة- كما هو معلوم- دلالة عقلية وليست دلالة نقلية، ومن هنا جاء التقسيم المشهور- عند بعض العلماء- لأصول العقيدة إلى أصول تثبت بالعقل وحده، وأخرى بالنقل وحده، وثالثة يتضافر العقل والنقل معا، وأن إثبات الوجود الإلهى إنما يقوم على دليل العقل لا النقل. وحسبك أيضا أن جمهرة من علماء العقيدة الإسلامية يجمعون على قاعدة يعرفها كل من له إلمام بدراسة هذا العلم، هذه القاعدة تقرر أنه "إذا تعارض العقل مع النقل فذم العقل وأول النقل".. على أن هذا التناغم أو الانسجام بين الوحى والعقل فى دين الإسلام هو الذى جعل من حضارته طوق نجاة تلقفته غالبية الأمم المرهقة بالتناقضات والمفارقات بين شرائع القلب وبراهين العقل، وإلا فكيف تسنى لحضارة وليدة أن تؤسس أكبر وأعظم إمبراطورية فى القرون الوسطى فى أقل من مائة عام؟ !(13).
إن التاريخ يقص علينا أن حضارة المسلمين طالت عنان السماء فى زمن قياسى أدهش علماء التاريخ والحضارة، والغريب فى أمر هذه الحضارة أن نجاحها لم يكن رهنًا ببيئة جغرافية معينة، بل كما نجحت فى مهدها الذى ظهرت فيه نجحت وبالقدر نفسه فى بيئات قصية عنها تختلف فيما بينها: لغة وجنسًا وعرفا وعقيدة وتاريخا وحضارة. وما كان لحضارة كهذه أن تصنع تلك المعجزات فى الزمن القصير لو لم يكن فى لغتها خطاب إنسانى متكامل يخاطب العقل كما يخاطب القلب، ويحترم الجسد كما يحترم الروح، ويقيم العدل والمساواة بين الناس جميعا، فالكل سواسية كأسنان المشط، والكل لآدم، وآدم من تراب.
الاخلاق:
وتأتى الأخلاق لتشكل مع الوحى والعقل أضلاع المثلث فى حضارة الإسلام، وبحيث تكون هى الأخرى ركنًا ثابتًا فى بناء هذه الحضارة، وكما كان عنصر "العقل " شديد الظهور فى تراث هذه الحضارة، فكذلك عنصر "الأخلاق " لا تخطئه العين من أول نظرة فى أصول هذه الحضارة. وميزان الأخلاق فى الإسلام ميزان ثابت، لا يتحرك أو يميل مع منطق القوة أو المنفعة أو المصلحة، وإنما ينحصر فى أن هذا العمل أو ذاك هل هو خير فيكون حسنًا، أو شر فيكون قبيحًا، وبقطع النظر عن الخلاف المعروف عند علماء الكلام المسلمين حول علل الحُسن والقبح فى الأفعال والأحكام، وهل هى: ذواتها أو الوجوه التى تقع عليها، أو الأوامر والنواهى الشرعية- فإن القدر المجمع عليه بينهم هو أن "الأخلاق " هدف أعلى وغاية عليا فى رسالة الإسلام، انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " (14). مما يعنى أن مهمة النبى (مهمة خلقية فى المقام الأول، وهو نفسه كان حالة بشرية متفردة فى مكارم الأخلاق، وقد سجل القرآن الكريم هذا المستوى الرفيع من الأخلاق والذى تحقق يه هذا النبى الكريم فى قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) (15).
والمتأمل فى موقع ا" الأخلاق " فى دين الإسلام يدهش كثيرا من تغلغل منظومة الفضائل والمكارم فى نسيج هذا الدين وكأنها الأصل الذى تدور عليه فروع الدين بأسرها، فالأخلاق لا تشكل- فقط- أساس الأحكام الشرعية والسلوكية، وانما تذهب بعيدا لتشكل أساس العبادات وثمرتها أيضا، وبحيث تنهار العبادة وتفرغ من مضمونها إذا لم يكن لها سند من الأخلاق: قيل للنبى صلى الله عليه وسلم: إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذى جيرانها بلسانها، فقال: "لا خير فيها، هى فى النار" قيل: فإن فلانة تصلى المكتوبة وتتصدق بالأسوار (قطع من الطعام)، وليس لها شىء غيره، ولا تؤذى أحدًا. قال: "هى فى الجنة "(16). بل إن الصلاة التى هى عماد الدين فى الإسلام لا تكون عبادة حقيقية ما لم تثمر ثمرتها الأخلاقية فى المصلى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" (17). وقد وجدت القيم الخلقية- كأصول مرعية- فى جميع مظاهر الحضارة فى الإسلام، فهى أصل فى نظام الحكم، وفى تقدم العلم وتطوره، وفى التشريع والحرب والسلم والسياسة والاقتصاد والأسرة، وهذه القيم لم تكن معروفة لدى العرب، ولا عند الفرس ولا الروم، ولكن سرعان ما انتشرت تلك القيم فى هذه الممالك وتغلبت على ما كان سائدا فيها من قيم مادية متوارثة من قبل، ولم يجد الفرس ولا الرومان ولا المصريون حرجا فى التخلى عن قيم حضاراتهم والدخول- بل النفاذ السريع- إلى أعماق هذه الحضارة: دينًا ولغة وسلوكا (18)
هذا ولم تعرف الحضارة الإسلامية نسبية القيم الأخلاقية كما هو الحال بالنسبة لبعض الحضارات الأخرى، ولا المبدأ الميكيافيلى الذى يبرر الوسيلة بالغاية، ولا الكيل بمكيالين فى النازلة الواحدة أو النوازل المتماثلة، ولا غير ذلك من القيم الوضعية المبتوتة الصلة بهدى السماء، والتى ارتبطت- كليا- بالعقل المستبد، غير المنضبط بقانون الوحى، وكانت من وراء كثير من المآسى التى يعانيها إنسان العصر الحاضر. بل نبعت قيم هذه الحضارة رأسا من قانونها المعصوم عن الخطأ، وهو: القرآن الكريم، الذى قال عنه العالم الإنجليزى "بورك ": "والقرآن، بالإضافة إلى كونه من أجمل الروائع الأدبية فى العالم كله، دستوراً كامل من القوانين الأخلاقية والمدنية والعسكرية والاجتماعية، وهو دستور يضبط سلوك المسلمين الذين يجب أن تكون جميع أفعالهم بمقتضى القرآن.. أما كون المسلمين يعتبرون أن قوانين القرآن ثابتة ومعصومة عن الخطأ فيتضح من الحقيقة القائلة بأنه بالرغم من انقضاء أربعة عشر قرنا على نزول القرآن فإنه لم يتعرض لأقل تغيير أو تبديل، وبأن كل كلمة من كلماته وكل حركة من حركاته قد بقيت كما خرجت من بين شفتى رسول الله، وسيبقى هكذا دون أى تبديل أو تحريف.. القرآن خالص من التدخل الإنسانى، وهذه حقيقة لا يمكن أن تقال- لا كليا ولا جزئيا- على سائر الكتب المقدسة للأديان الأخرى". ثم يقول: "والإسلام يفرض على كل مسلم ألا يفعل إلا الشىء الصحيح مهما كان كريهًا وعسيرا، كما يعتبر الصدق فى التفكير والعمل: الوسيلة اللازمة للخلاص والنجاة.. ولقد أثبت المسلم بوصفه مواطنًا فى هذا العالم أنه يملك الرفقة والصداقة إلى حد مذهل، هذه الصفة التى جعلته موضع الإعزاز فى كل مكان ساقه القدر إليه " (19). ويصور عالم إنجليزى آخر (بيكتهول) الفرق بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب فى مقارنة طريفة يورد فيها المناقشات التى دارت فى الصحف البريطانية حول السؤال التالى: لنفرض أن تمثالا يونانيًا على جانب عظيم من الجمال لا مثيل له ولا يمكن أن يعوض، قد وضع إلى جانب طفل حى فى غرفة واحدة، ولنفرض أن النار اندلعت فى هذه الغرفة، ولم يكن بالإمكان إلا إنقاذ واحد منهما: التمثال أو الطفل، فأيهما يجب أن ينقذ؟. يقول الأستاذ بيكتهول: "إن كثيرين من المراسلين ومن رجال الفكر والمناصب الرفيعة قالوا يومئذ: إن التمثال هو الذى يجب أن ينقذ، وأن الطفل يجب أن يموت، وكانت حجتهم فى ذلك أن ملايين الأطفال يولدون كل يوم، بينما تلك الرائعة الفنية اليونانية القديمة لا يمكن أن تعوض، ولعمرى إن هذا الرأى لم يكن بوسع أى مسلم أن يبديه، فهو آخر شكل من أشكال عبادة الأوثان "(20)
انفتاح الحضارة الإسلامية على الحضارات الأخرى:
لقد أمدت العناصر الثلاثة السابقة: "الوحى- العقل- الأخلاق " حضارة الإسلام بإمكانات تفردت بها من بين حضارات كثيرة، وساعدتها على أن تطرح نفسها خارج حدودها الجغرافية كحضارة مفتوحة ومتوازنة أمام مطالب الإنسان وأشواقه الروحية والجسدية، ومن حسن الحظ أن الباحث هنا لا يحتاج إلى تفصيل القول إذا ما أخذ فى الحسبان هذا العدد الهائل من العلماء والأدباء والفلاسفة والمفكرين من غير العرب، والذين تأثروا بحضارة الإسلام وأثروا فيها، وكتبوا ثمرات عقولهم وقرائحهم بلغتها العربية، وأصبحوا أئمة فى المعقول والمنقول فى ثقافة هذه الأمة، وقد مثل هؤلاء الأعلام دوائر علمية وثقافية أثرت الحضارة الإسلامية وشكلت مساحة واسعة من نسيجها الداخلى، وإن إطلالة سريعة على مكتوبات أئمة المعقول والمنقول من أمثال: الإمام البخارى، والترمذى، وأبى حنيفة، وسيبويه، والفارابى، وابن سينا، والغزالى، والرازى، والشيرازى، وغيرهم لتبرهن على أن الحضارة الإسلامية جمعت فى إهابها العديد من ثقافات الشرق والغرب، بعد ما تعاملت معها وطوعتها لدين الإسلام. وأثبتت أن الإسلام دين عالمى يفتح أبوابه على مصاريعها لكل عناصر الحق والخير والجمال، مهما اختلفت مواطنها وتعددت مصادرها، وأن حضارته حضارة مفتوحة على العالم، وأنها تعاملت مع الديانات والثقافات الأخرى بقدر غير قليل من الاحترام والتفاعل والتواصل. وأنها كما تأثرت بهذه الحضارات أثرت فيها، وقدمت لها زادا ثقافيا ما كانت لتحصل عليه لولا هذه الحضارة. ولسنا هنا بصدد الحديث عن أثر الحضارة الإسلامية فى الحضارة الغريبة، والذى أنكره كثير من الباحثين الغربيين الذين رجعوا بمصادر حضارتهم إلى مصدرين اثنين لا ثالث لهما: المصدر اليونانى والمصدر اليهودى المسيحى (21). وإن كان المنصفون منهم قد أثبتوا تأثير المسلمين وعلومهم وفلسفاتهم وفنونهم فى متن الثقافة الأوروبية وحضارتها وعلومها، ولكن نقصر الحديث على انفتاح حضارة الإسلام على حضارات العالم، وأن هذه الحضارة لم يحدث أن صادرت غيرها من الحضارات فى أية مرحلة من مراحلها. وقد يعجب الباحث وهو يقرأ لمؤرخين غربيين جحودهم لحضارة الإسلام ووصفها بأنها حضارة منقولة، ومترجمة من حضارات أخرى، وأنها لم تكن حضارة مبتدعة على أيدى المسلمين.. إلخ ما دعا إليه "دعاة العصبية فى تجريد الأمم- التى لا تتوشج بينها وبين الأوروبيين واشجة قرابة- من مزايا الإبداع والتفكير" (22) ومع ذلك لا يجدون حرجا حين ينفون عن هذه الحضارة خاصة التفاعل والتعارف بالحضارات الأخرى، فالذى يثبت تأثر حضارة بأخرى يلزمه بالضرورة إثبات تلاقى الحضارتين وانفتاح كل منهما على الأخرى، لكنهم لا يتحرجون فى القول بأن حضارة الإسلام ليست إلا أمشاجا وأخلاطا من حضارات مجاورة، وفى الوقت ذاته يصفونها- فى أحدث ما نقرأ- بأنها حضارة إرهاب ورفض للآخر وإلغاء له، ولعل ما يدفع هؤلاء إلى التذبذب بين النقائض هو أنهم يصطنعون منهجا عدائيا تلفيقيا يهدف إلى إلصاق دعاوى تأباها طبيعة الموضوع الذى يتحدثون فيه، فهم من ناحية حريصون على الحط من قدرة حضارة الإسلام بإخفاء معالم الإبداع فيها، وهذا ألجأهم إلى فرية أن الفلسفة الإسلامية- مثلا- فلسفة يونانية مكتوبة باللغة العربية، وأن التصوف الإسلامى تصوف مسيحى أو بوذى، وأن الفقه رومانى.. إلخ. ومن ناحية أخرى حريصون على إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين، وهذا ألجأهم إلى افتراء القول بأن الإسلام أصولى ومنغلق وإرهابى وخطر على الحضارات والثقافات.. إلخ. هذه التناقضات التى تمليها أغراض لا تمت إلى الحقيقة العلمية فى أدنى سبب.
ولسنا ندرى: هل نصدق ما قاله شيوخ الاستشراق فى القرن الماضى عن انفعال الحضارة الإسلامية بالحضارات المجاورة حتى النخاع ولدرجة التقليد أو النقل الأعمى، أو نصدق الاستشراق- الجديد- الذى يعود بهذه الحضارة إلى أصولية مغلقة تجب مقاومتها، أو نكذب الاثنين معا لنعلم- من جديد أيضا- أن هذه وتلك دعوات مستكتبة لأغراض خاصة ليس من بينها غرض واحد يتوخى العلم أو التاريخ أو الواقع.
ونحن نعتقد أن تراث الإسلام العلمى والفلسفى والأدبى كانت له أياد بيضاء لا تنكر على النهضة الأوروبية فى العصر الحديث، إذ شكل هذا التراث العالمى- مع ما اختزنه من ثقافات أخرى- وعبر اللغة العربية ثم اللاتينية تأسيسا لا يمكن تجاهله فى بناء هذه النهضة، وأن هذه النهضة لم تكن لتبلغ ما بلغته لولا تواصلها وتفاعلها مع ثقافة المسلمين.
أولآ: "عن طريق معايشة الحضارة الإسلامية فى القارة الأوروبية فى الأندلس حوالى ثمانية قرون ثرية بالعطاء الحضارى، الذى أفادت منه أوروبا فائدة عظيمة فى نهضتها الحضارية" (23).
وثانيا: عن طريق ترجمة الفلسفة الإسلامية من العربية إلى اللاتينية، وكمثال على هذا التأثر نذكر اهتمام الأديب الألمانى جوته (749 هـ- 1832م) بالأدب الإسلامى، واطلاعه على القرآن الكريم فى بعض ترجماته وما يؤثر عنه من أنه كان يقول: "من حماقة الإنسان فى دنياه أن يتعصب كل منا لما يراه، وإذا كان الإسلام معناه التسليم لله فإننا جميعا نحيا ونموت مسلمين " (24) ونحن إذ نقرر ذلك لا يغيب عن بالنا أن عناصر كثيرة مما حملته حضارة الإسلام لم يكن مما أبدعه المسلمون، لكنهم تلقوها من حضارات أخرى، وأسلموها- إن صح هذا التعبير-، ولم يأخذوها تقليدا ووراثة وتلفيقاً، بل أعادوا صياغتها بما ينسجم مع هويتهم وتصورهم للكون والعالم. "واللافت للنظر فى كل ذلك أن المسلمين ما أخذوا من غيرهم أداة أو طريقة أو علما إلا احتفظوا لأصحابها بفضلهم واعترفوا بما قبسوه وردوه إلى ما استحق من أصوله ومخترعيه أو مكتشفيه " (25). يشهد على ذلك ويؤكده بغاية الوضوح والجلاء أقوال علماء المسلمين وفلاسفتهم التى عبروا بها عن نزعتهم الإنسانية تجاه حضارات الآخرين وثقافاتهم، واعترافهم بما كان منها صحيحا مستقيمًا، وشكر أصحابها على إصابة الحق فى هذا الصحيح المستقيم، وعذرهم فيما لم يكن كذلك.
يقول الفيلسوف المسلم ابن رشد: "يجب علينا أن ننظر فى الذى قالوه وما أثبتوه فى كتبهم، فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه، وعذرناهم " (26).
وهكذا لم تعرف الحضارة الإسلامية- أبد- اختلاس ثقافة الغير، والإفادة منها ثم التنكر لها فهذا مما تأباه أخلاق الإسلام التى دخلت جزءاً مكونا فى بنية حضارته، ولعل هذا التأسيس الخلقى هو الذى أكد "قدرة الشرق الإسلامى على استيعاب التراثات الحضارية السابقة وإعادة تركيبها، ثم مراجعة تصنيفها وتمثل حقائقها ودفعها إلى الأمام أشواطا لخدمة عقيدة حضارة التوحيد وتوحيد الحضارة"(27)
وأخيرا: الحضارة الإسلامية حضارة سلام لا صراع:
وربما كان وصف السلم أو السلام أظهر الأوصاف وألصقها بالحضارة الإسلامية، لولا محاولات التشويه لهذا الوجه المشرق الوضئ فى تاريخ هذه الحضارة، فالقرآن الكريم أو الوحى الإلهى حدد علاقة المسلمين بغير المسلمين فى كلمة واحدة هى "التعرف على الآخر.. " ونقول: إن فلسفة الإسلام فى هذه المسألة تقوم على حقيقتين متلازمتين:
الحقيقة الأولى:أن الاختلاف بين الناس هو قانون قرآنى، مضمونه أن المشيئة الإلهية اقتضت- أزلاً- أن يخلق الله الناس مختلفين فى الأديان والأخلاق والأعمال، وأنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، لكن لم يشأ ذلك، وشاء بدلاً منه "الاختلاف ": (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (28،. "وهذا نص فى أن سنته تعالى فى البشر أن يتفرقوا بمقتضى الغريزة إلى شعوب وقبائل، ويكونوا مختلفين فى العقول والإفهام والمنازع وفى اللغات والأديان والشرائع، ومتنازعين فى المصالح والمنافع"(29). ومع أن أنظار المفسرين تعددت حول مرجع اسم الإشارة فى قوله تعالى: (ولذلك خلقهم) فإن كثيرا منهم يرجع به إلى الاختلاف المفهوم من قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين) وبحيث يكون معنى الآية "وللاختلاف خلقهم " (30) وإذن فالقرآن الكريم يقرر حقيقة اختلاف الناس فى الاعتقادات والأفكار والشعور والسلوك.
وأما الحقيقة الثانية فهى: "التعارف " أو إن شئت: "الأخوة فى الإنسانية": (يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكروأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (31).
وأمر بديهى أن يكون التعارف بين الأمم والشعوب مقصدا إلهيا، مادامت مشيئة الله تعالى قد اقتضت اختلاف الناس: فكراً وطبيعة وميولاً. من هنا تحتم أن يكون "ا السلم " هو القاعدة فى علاقات المسلمين الدولية بغيرهم من الشعوب.
وقد سجل التاريخ أن الحضارة الإسلامية تعاملت بهذه الروح فى علاقتها بغيرها، وأن رسول الإسلام (التزم هذه القاعدة التزاما تاما فى كل تعاملاته مع الآخرين، ولا يعترض فى هذا المقام بالحروب التى حدثت فى صدر الإسلام، لأن المواجهات الحربية التى خاضها النبى وأصحابه كانت كلها دفعا لعدوان فعلى أو متوقعاً من الأعداء.
وصحيح أنه ورد الأمر بقتال المعتدين فى القرآن، لكن هذا ما تفرضه كل شرائع الحق والعدل، ولأن الحرب فى الإسلام استثناء واضطرار فقد نهى عن الاعتداء والبغى والظلم وتجاوز الحق فى الدفاع عن النفس: (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) (32). وهو نهى محكم وغير قابل للنسخ، ثم إن أول آية نزلت لتشرع للمسلمين حق القتال هى قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز)
(33). وفى هذا النص الإلهى يتضح تحديدًا أن أول أسباب مشروعية القتال فى الإسلام هو: نصرة المظلومين، وتمكينهم من حقهم فى حياة آمنة مثل غيرهم، وهو مطلب لا يعرض للعقل السليم أن يرتاب فى مشروعيته لحظة.. كما يتضح أن الحرب فى هذا النص مشروعة للدفاع عن الأديان السماوية ضد عدوان الشرك والمشركين، ومن العجيب فى هذا المقام أن القتال المشروع فى الإسلام ليس قاصرا على وجوب الدفاع عن حرية العبادة فى هذا الدين فقط، بل هو واجب- بالمشروعية نفسها- لتأمين الدفاع عن حق حرية العبادة فى الأديان السماوية الأخرى. استمع إلى ابن عباس- رضى الله عنهما- وهو يقول فى تفسير هذه الآية: "يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة"(34)، وقد تساءل المفسرون عن دخول الصوامع والبيع والصلوات فى خطة الدفاع الإسلامى، وكان من إجابتهم أن هذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين، إن اختلفت العبادات عنها. وها هو الإمام الرازى ينفى أن يكون معنى الدفاع عن هذه المواضع خاصاً بأيام موسى وعيسى- عليهما السلام- ويميل، بل يؤكد أن الغرض من الدفاع الإسلامى عنها كيلا تهدم فى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن هذه المواضع- فيما يقول- "يجرى فيها ذكر الله تعالى، فليست بمنزلة عبادة الأوثان " (35) فالآية الكريمة تأخذ فى حسبانها الدفاع عن أماكن العبادة الخاصة بغير المسلمين. والإسلام لا يجنح للحرب إذا أمكن تفاديها بأية صورة من الصور، بل يكون السلام هو الخيار الوحيد- شرعا- أمام المسلمين لو جنح إليه أعداؤهم (وإان جنحوا للسم فاجنح لها) (36). وإذا فرضت الحرب فهناك مبداً الرحمة، ومبدأ الوفاء بالمعاهدات، ومبدأ تحريم الخيانة، وكلها ثوابت وبينات فى حضارة الإسلام. إذا كان السلام هو الأصل فى علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم والشعوب، فإن المبدأ نفسه كان يحكم علاقة المسلمين بأهل الأديان والملل فى داخل الدولة الإسلامية نفسها. وبحيث يصدق القول: بأن السماحة التى عرفها هؤلاء فى ظل الحضارة الإسلامية لم يعرفوا مثيلها فى ظل الحضارات الأخرى.
وها هو الأستاذ آدم ميتز- أستاذ اللغات الشرقية بجامعة بازل فى سويسرا- يقرر أن تسامح المسلمين مع أهل الأديان سبق مبادئ التسامح التى يتنادى بها المصلحون المحدثون، وأن سماحة الحضارة الإسلامية لم تكن معروفة فى أوروبا فى القرون الوسطى، وأن هذا التسامح كان سبيًُا فى نشوء علم مقارنة الأديان والإقبال على دراسته بشغف عظيم فى الثقافة الإسلامية، ويقول هذا الأستاذ المنصف: إنه لم يكن فى التشريع الإسلامى ما يغلق دون أهل الذمة أى بأب من أبواب الأعمال، وكان قدمهم راسخا فى الصنائع التى تدر الأرباح الطائلة.. وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده.. وحياة الذمى عند أبى حنيفة وابن حنبل تكافئ حياة المسلم، وديته دية المسلم.. ولم تكن الحكومة الإسلامية تتدخل فى الشعائر الدينية لأهل الذمة، بل كان يبلغ من بعض الخلفاء أن يحضر مواكبهم وأعيادهم.. ولم يكن يوجد فى المدن الإسلامية أحياء متخصصة لليهود والنصارى بحيث لا يتعدونها.. وكانت الأديرة المسيحية منتشرة فى كل أجزاء بغداد حتى كادت لا تخلو منها ناحية" (37) ويقول وول ديورانت: "إن المسلمين كانوا رجالاً أكمل من المسيحيين، فقد كانوا أحفظ للعهد منهم، وأكثر منهم رحمة بالمغلوبين، وقلما ارتكبوا فى تاريخهم من الوحشية ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت المقدس فى عام 1099م، ولقد ظل القانون المسيحى يستخدم طريقة التحكيم الإلهى بالقتال أو النار، فى الوقت الذى كانت الشريعة الإسلامية تضع فيه طائفة من المبادئ القانونية الراقية ينفذها قضاة مستنيرون " (38). هذا ما يقرره عقلاء المؤرخين الغربيين عن تاريخ الحضارة الإسلامية مع أهل الأديان والملل، وذلك فى وقت بلغت فيه هذه الحضارة ذروة مجدها وسيادتها على العالم. وكان بإمكانها- لو أنها لم تنطلق من دين كالإسلام- أن تفرض عقيدتها على الآخرين، وأنما تلجأ للإبادة والتقتيل وهدم دور العبادات المخالفة، ومصادرة العقائد الأخرى، كما فعلت وتفعل بعض الحضارات فى القديم والحديث أيضا.
الحضارة الغربية:
ولعلنا لا نبالغ فى الأمر لو قلنا إن الوضع يكاد يختلف اختلافا كثيرا بالنسبة للحضارة الغربية، وواجب الإنصاف يحتم الاعتراف بالجوانب المضيئة فى حضارة الغرب، خاصة تلك التى تتمثل فى القفزات الكبرى فى تطور العلوم والسيطرة على الطبيعة، والمكاسب الهائلة فى ميادين: الديمقراطية والتقدم فى الفنون والآداب ووسائل الاتصال التى حولت العالم إلى قرية صغيرة، إلى إنجازات لا يحصرها العد أفاد منها الإنسان والبشرية بصورة غير مسبوقة فى تاريخ هذا الكون، فهذا كله مما يستحق الإعجاب والإكبار، ولكن لا مفر من القول بأن هذه الحضارة اختارت- عن عمد- أن تعرج على ساق واحدة، وذلك حين تنكرت للوحى الإلهى وأدارت له ظهرها، وضربت بضوابط الأخلاق الدينية عرض الحائط، ثم راحت تختزل الأهداف والغايات العليا فى هدف كاد ينحصر فى البعد المادى. وأعنى به "وفرة الإنتاج " وتكريس الحرية الفردية، والسعادة بمفهومها الدنيوى الخالص، واستغلال الشعوب واستعمارها والسيطرة عليها وعلى ثرواتها ومقدراتها.. والحضارة الغربية- بهذه الفلسفة- نقيض للحضارة الإسلامية، بنفس المنطق الذى يناقض ما بين التسلط وفرض السيطرة من جانب، والانفتاح والتعرف من جانب آخر. وهذا ما جعل "سياق الانتشار الحضارى الغربى عالميًا يتسم بعكس ما اتسم به الانتشار الحضارى الإسلامى" (38) ومرة ثانية تظهر القراءة السريعة للأحداث المعاصرة أن التسامح مع الآخر، الذى اتصفت به الحضارة الإسلامية، يقابله التسلط على الآخر فى الحضارة الغربية، ولم يعد الباحث فى حاجة إلى مزيد من التأمل ليكتشف مبدأ الصراع والصدام فى رؤية الحضارة الغربية للحضارات الأخرى، بعد أن خرجت علينا مؤخرا فرضية "صدام الحضارات " (39) التى طرحها صموئيل هنتنجتون مدير- معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لجامعة هارفارد- والتى أكد فيها على أن الانقسامات الثقافية بين الحضارات المعاصرة هى التى تشكل الأسباب الحقيقية للنزاع المتوقع فى هذا العالم. ويقول: إن الحضارات الحية الموجودة الآن هى تقريبا سبع حضارات: الحضارة الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندوسية والسلافية الأرثوذكسية والأمريكية اللاتينية. ويهمنا هنا ما يقوله عن الصراع بين الغرب والإسلام والذى يصفه بأنه صراع قديم منذ الفتح العربى الإسلامى وحتى مرحلة التحرر من الاستعمار. إن هذا الصراع أو التناقض بدأ يظهر من جديد مع عاصفة حرب الخليج الثانية، ومن ثم يستنتج هنتنجتون أن هذا الصراع "ليس مرشحا أن يزول فى المستقبل القريب" (40) وتتمثل الخطورة فى منظور هذه النظرية فى الترابط الإسلامى الآسيوى الذى
يشكل مصدر خطر يهدد القيم والمصالح الغربية، وذلك بسبب استمرار الدول الإسلامية والآسيوية فى تعزيز طاقاتها الدفاعية فى الوقت الذى يعمل فيه الغربيون والروس على تقليص قوتهم العسكرية، ومن ثم يصبح من اللازم المحتم- فيما يزعم هنتنجتون- توثيق التعاون بين المكونات الأوروبية والأمريكية للحضارة الغربية، وبناء علاقات أوثق مع أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية والتعاون مع روسيا واليابان، والحد من النمو العسكرى للدول الآسيوية والمسلمة، واستغلال الخلافات بين الدول الكونفوشيوسية والإسلامية مع الحرص على الحفاظ على التفوق فى شرق وجنوب آسيا، ومساندة المجموعات التى تنزع نحو الغرب فى الحضارة الأخرى" (41). ولم ينس صموئيل هنتنجتون أن يقدم لنا الدليل على أن حضارة الغرب لا تقوم على أساس ثابت من القيم الأخلاقية بمقدار ما تعتمد على مبدأ التذبذب والنسبية حسب منطق المصلحة ومبدأ الغاية التى تبرر الوسيلة، فقد عرض لاحتجاج المسلمين ضد ازدواجية النظرة الغربية فى التعامل بين العراق من ناحية، والصرب وإسرائيل من ناحية أخرى، وكان تعليقه أن من الطبيعى أن يكون هناك مكيالان: مكيال للدول الصديقة ومكيال مختلف للدول الأخرى. يقول هنتنجتون: "يقابل المسلمون بين أعمال الغرب ضد العراق، وبين تقاعسه عن حماية البوسنيين فى وجه الصرب، وفرض عقوبات على إسرائيل لانتهاك قرارات الأمم المتحدة، ويدعون أن الغرب يكيل بمكيالين، بيد أن من المحتم أن يكون عالم الحضارات المتصادمة هو عالم الكيل بمكيالين، فالناس يكيلون بمكيال للبلدان التى تمت إليهم بقرابة، وبمكيال مختلف للآخرين"(42).
إن هذه الإجابة لابد أن تثير فى الذهن- بحكم تمايز الأضداد- عظمة الحضارة الإسلامية التى حكمها القرآن الكريم بمبدأ العدل بمكيال وأحد للقريب والبعيد، والصديق والعدو على السواء: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (43).
وأيضا: (وان استنصروكم فى الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق.. ) (44).
وفى هذه الآية الأخيرة تبلغ نزاهة العدل ونظافته مستوى لم تعرفه أية جماعة إنسانية إلا فى الإسلام وحده، فالآية تأمر المسلمين المهاجرين بأن ينصروا إخوانهم المؤمنين الذين لم يهاجروا إذا طلبوا منهم النصر على المشركين، إلا إذا كان هناك عهد بين المسلمين وبين المشركين بعدم الاعتداء، فهنا يحترم القرآن هذا العهد مع العدو ولو كان على حساب مصلحة فريق من المسلمين أنفسهم.. فالوفاء بالعهد مع العدو مقدم على نجدة المسلم الآخر ونصرته على هذا العدو المعاهد.. ولسنا هنا بصدد مقارنة بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب غير أننا نزعم أن حضارة الإسلام ليست حضارة صراع وصدام كما يقول هنتنجتون فى محاولته خلق روح العداء وإذكاء الفتنة بين الحضارات ومن حسن الحظ أن هذه النظرية لم تلق قبولاً عند كثيرمن المثقفين ومؤرخى الحضارات فى الغرب والشرق، وقد تساءل إدوارد سعيد بحق عن الهدف من هذه النظرية: هل هو دعوة للتعايش وفهم العالم فهما صحيحا أو هو غطاء فكرى لسياسة الهيمنة الجديدة؟ هل اتباع هذا المنهج يشكل الطريقة المثلى لفهم ما يجرى فى العالم؟ أو أنه ينتج خريطة مبسطة للواقع تعقَّد الخلافات الحضارية بدل أن تحققها، وتؤدى إلى تضخيم التوجهات القومية والعنصرية؟
إن هدف هنتنجتون: تأكيد وجود اصطدام حضارى بين الغرب والحضارات غير الغربية وبينها الإسلام والكونفوشيوسية، وعلى الغرب أن يحسن إدارة هذا الصدام (45)، وليس من شك فى أن دوافع هذه النظرية لم تتجاوز مجال السياسة أو النظرة الضيقة إلى مصالح الغرب فى الدول الأخرى، وكان من الأوجب والأحق أن تسبق الاعتبارات الحضارية مصالح السياسة والسياسيين، ومثل هذا التناول لا يُمَكن الغرب من تقديم حلول تساهم فى إخراج العالم من مشكلاته الخانقة.. ثم إن هذه النظرية تفتقد الجدة والابتكار، لأنها فى أفضل حالاتها ليست إلا تبريرًا جديدا لإنقسام قديم درج الغرب على تكريسه بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى (46) على أن المتأمل فيما حدث فى الأيام الأخيرة يخرج بانطباع قوى بأن هذه النظرية صيغت بالفعل بقصد تبريرى جاء وقته الآن وأسفر عن هذا الموقف القبيح الذى تقفه الحضارة الغربية من فلسطين والمقاومة
الفلسطينية. وفى منطق هذه الحضارة- وللأسف البالغ- اختلطت الأوراق بصورة يندى لها جبين الإنسان الحر السوى، وتبدلت المفاهيم بشكل سافر وانتزعت الأسماء من مسمياتها الحقيقية، فسميت المقاومة المشروعة إرهابًا، وسمى الاعتداء الوحشى البربرى حقا مشروعا، وسمى السفاح رجل سلام، ورجل السلام رجلاً غير جدير بالثقة والتقدير.. إلخ. هذه الفوضى الفكرية العالمية، والتى لا شك تعكس موقفا سوفسطايئا جديدًا يسود الخطاب العالمى ويُنذر بأوخم العواقب..
لقد اتخذت الحضارة الغربية فى تطورها الأخيرطريق العولمة، وطريق صراع الحضارات للهيمنة على الأمم والشعوب وللسيطرة على مقدراتها وإزالة خصائصها وهوياتها، وكان أجدر بهذه الحضارة أن تسلك طريقا آخر سوف يفرض نفسه كًحًل لا مفر منه عاجلاً أو آجلاً، هذا الطريق هو طريق التعارف الذى نادى به القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا من الزمان.
م ن ق و ل
خصائص الحضارة الإسلامية
مقارنة بالحضارة الغربية
الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب
مفتى جمهورية مصر العربية- مصر
معنى الحضارة:
لعل كلمة " حضارة " من أعقد الكلمات وأحفلها بالمناقشة والجدال، وذلك على الرغم من الأهمية القصوى التى يمثلها مفهوم هذه الكلمة، سواء فى مجال العلوم الإنسانية أو السياسية.
وربما كان من الصعب- فى هذا البحث المختصر- تقصى دلالات كلمة "حضارة"، قديماً وحديثاً، ورصد ما تبدل عليها من معان وأفكار، أصابها بشىء غير قليل من اللبس والخلط. وحسبنا أن نحاول قدر الإمكان- وفى اختصار- تحرير مفهوم "الحضارة " من خلال ما تسمح به معانى المعاجم العربية، والاستعمالات الواردة فى تراث الإسلام.
إذا رجعنا إلى اللغة العربية وجدنا أن الحضارة تعنى ضمن ما تعنى: الإقامة فى الحضر، والحضر خلاف البادية، تقول العرب: "فلان باد وفلان حاضر " (1). لكن هذا المعنى ليس هو كل ما هنالك لكن هذا المعنى ليس هو كل ما هنالك من دلالات لهذه الكلمة، فقبل ذلك هناك معنى "الحضور" الذى هو نقيض "الغياب "، وأيضا
"قرب الشىء" و"المجىء". ومن ومن الملاحظ أن " الحضور " هو أول معنى يسجله علماء اللغة لكلمة "حضارة"، ثم تأتى بعده المعانى الأخرى، ومن جملتها" سكنى الحضر "، وبرغم ذلك فإن الباحثين المعاصرين عاصرين فى معنى الحضارة لا يأخذون فى حسبانهم المعنى الأساسى لهذه الكلمة، وهو "الحضور" بمعنى الشهادة، وإنما يقفزون رأسا فى تحديد معنى الحضارة الإسلامية إلى جعلها مرادفة للكلمة الغربية: "Civilization"، فتكون مرادفة لمعنى: "مدنية" أو "ثقافة". فالحضارة عند هؤلاء: " من حضر يحضر، يحضر الشخص ليعمل مع الآخرين كى يتأنس ويؤنس محيطه "، وهى"تراث مشترك بين جميع الشعوب: قديمها وحديثها وإنها إرث إنسانى فى نمولا- ينقطع، مثل بحر زاخر بالمياه والأمواج، وله روافد عديدة.. هى الثقافات القومية" (2). ويستند المعاصرون فى تبريرهم دمج مدلول الحضارة بالمعنى العربى
فى المدلول الغربى إلى اقتباسات من كلام ابن خلدون تشير إلى أن الحضارة عنده- أيضّا- هى "سكنى الحضر والمدن " (3)، وهو اقتباس انتقائى يركز على استخدام واحد لمعنى الحضارة دون باقى الاستخدامات الأخرى.
ومادة، "الحضور" إلتى هى أول ما يظهر من معانى الحضارة فى الاستعمال الإسلامى تعنى: "الشهود "، مما يشير إلى أن معنى "الحضارة"- إذن- هو: "الشهادة" وهذا المعنى يشهد له القرآن الكريم حيث وردت كلمة حضر- بمعنى "شهد"- فى آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (وإذا حضرالقسمة أولو القربى ) (4). وأيضا:( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (5).
من هذا المنطق يمكن القول بأن "الشهادة" فى الاستعمال القرآنى هى أقرب المعانى فى تحديد مفهوم كلمة الحضارة بالمعنى الإسلامى، وتعنى: الشهادة، فيما تعنى:
أولاَ: التوحيد، الذى هو محور عقيدة الإسلام، والذى تعبر عنه كلمة "الشهادتين "، وقد عبر عنها القرآن فى قوله تعالى: ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) (6)
والحديث الصحيح" بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ".
وتعنى الشهادة ثانيَا: التضحية والفداء وبذل الروح دفاعا عن العقيدة، وعن تحرير الإنسان، وتخليصه من عبادة الغير.
ثم تعنى ثالثًا: شهادة الأمة الإسلامية باعتبارها أمة وسطا، على سائر الأمم (7).
وفى هذا الإطار تبدو الحضارة الإسلامية: حضارة يمثل الوحى الإلهى فيها حجر الزاوية، وتمثل الوسطية ركنًا من أركانها، ويصير دورها بالنسبة لباقى الحضارات دور الشاهد الذى يشهد لهذه الحضارات أو ليشهد عليها، ويلزم ذلك أن يكون أنموذج هذه الحضارة مستقلا، يستعصى على الذوبان أو التلاشى أو الانسحاق فى حضارة أخرى لا تنطلق من نفس القيم أو الثوابت التى تنطلق منها حضارة الإسلام، وإن كانت تتفاعل وتتجاوب مع أية حضارة تحترم هذه القيم والثوابت.. ومن هذا المنظور يمكن أن نحدد بعض خصائص الحضارة الإسلامية فى أنها:
ا- حضارة مؤسسة على الوحى الإلهى.
2- وعلى العقل المنضبط بالوحى.
3- وعلى الأخلاق الثابتة.
4- ثم هى حضارة منفتحة ومستوعبة.
5- وأخيرَا: هى حضارة مسالمة.
موقع الوحى فى الحضارة الإسلامية:
يقع الوحى الإلهى من منظومة الحضارة الإسلامية موقع القلب والدماغ من جسد الإنسان، فقد شكل المرجعية الأولى فى تاريخ هذه الحضارة، ومَثل السر الخفى الكامن وراء صمودها وثباتها، رغم الضربات العنيفة التى وُجهت إليها على مدى تاريخها الطويل.. "ونعنى بالوحى الذى تستند إليه هذه الحضارة "الدين" الموحى به من الله- تعالى- إلى نبى الإسلام: عقيدة وشريعة، وسلوكا وقيمًا وآدابًا، أو لنقل: الدين الذى هوإيمان وعمل أو عقيدة وسلوك، وهذا الوحى الإلهى قد حدد كل هذه الأركان، وصاغها صياغة كاملة، بينها النبى محمد صلى الله عليه وسلم نظرياً فى أحاديثه الشريفة، وعملياً فى سيرته الشخصية. مما يعنى أن الدين الإسلامى ولد كاملاً مستوفى الأركان، وأنه لم يتشكل فى رحم تطورات تاريخية، أو أعيد تشكيله وفق تطورات ثقافية أو فلسفات طوته تحت جناحها، ويرجع السبب فى صمود هذا الدين واستعصائه على الذوبان إلى أن النصوص الإلهية- التى صاغت حقيقته- ظلت كما هى وحيا محفوظا فى السطور والصدور، الأمر الذى مكن لهذا الدين أن يبقى ثابت المعالم أمام تطور الحضارات وتداخلها وتفاعلها، وبحيث يمكن القول بأن التطور لا يعنى بالنسبة لهذا الدين إلا نوعا من التفسير أو الصقل أو الكشف عن حقيقته، وأنه فطرة الله التى فطر الناس عليها.
وغنى عن البيان القول بأن الوحى الإلهى فى هذا الإطار- والذى هو أخص خصائص الحضارة الإسلامية- هو أمر آخر مختلف كليا عن هذه التشويهات التى جرت بها أقلام طائفة من الغربيين، واختزلت فيها الوحى فى الإسلام إلى نوبات مرضية، أو خيالات شعرية ونفسية، أو الوقوف به "عند حدود الاقتباس الثقافى من الأديان الأخرى التى كان لها فى شبه الجزيرة العربية بعض المواقع الفاعلة، كما هو الحال بالنسبة ليهود خيبر، ويثرب، ونصارى نجران، علما بأن ثمة فروقات بنائية بين القرآن من جهة، وبين التوراة والإنجيل من جهة أخرى، ليس هذا المقام موضع الخوض فيها" (8). فالمقصود من الوحى هو هذه الحقائق الموضوعية التى تلقاها النبى صلى الله عليه وسلم وحيا من الله تعالى، ونزل بها جبريل على قلبه، وبفضل هذا الوحى المحفوظ فى القرآن الكريم والسنة النبوية تمكن دين الإسلام من الصمود أمام حوار الثقافات والحضارات واحتفظ بشخصيته بكل ملامحها وقسماتها، ولم يحدث أبدا أن تبدلت ثوابته أو تراجعت أمام مذ حضارى أو نهضوى.
وقد قدر لهذه الحضارة أن تكون مصدر علم وتنوير وعمارة وتحضر للعالم كله اعى مدى قرون عدة، وذلك لما حرص المسلمون على ربط حضارتهم بأصولها الحقيقية واستنباتها من جذورها الطبيعية المحفوظة فى نصوص هذا الوحى، وضمن منهجه وثوابته.
نعم. آلت هذه الحضارة إلى تراجع وتقهقر حين تخلت عن هذا المنهج الإلهى وعن فلسفته فى استخلاف الإنسان للمهمة المزدوجة، وأعنى بها: تعمير الكون وهدايته، ولكن ينبغى أن نعلم أن هذا التراجع لا يعود- أبدا- إلى أن قيم هذه الحضارة وأصولها الإيمانية فقدت قدرتها على مواكبة التقدم أو التطور، وإلا لما فذر لهذه القيم أن تسود العالم أكثر من خمسة قرون، بل يعود السبب فى ذلك إلى أن هذه الأصول قد أهملت أولاً، ثم أقصيت لاحقا- وعن عمد- عن مركز التوجيه فى هذه الحضارة فحدث ما حدث. ومع ذلك وبرغم هذا الضعف ظلت هذه القيم كالجمرة المتقدة التى لا يخبو أوارها، تفعل فعلها حتى فى زمن التراجع والنكوص. والدليل على ذلك: أن محاولات عدة بُذلت فى القرنين الماضيين- ولا تزال تبذل حتى هذه اللحظة- لنقل تجرية الغرب إلى بلاد المسلمين فى تحقيق بعث حضارى لا يعول على الإسلام وعقيدته وأخلاقه، وأن هذه المحاولات تحطمت واحدة تلو الأخرى أمام صمود العقيدة الإسلامية، وعاد الأمر فى كثير من هذه المحاولات إلى صحوة يلتصق فيها المسلمون بدينهم بصورة لافتة للأنظار، الأمر الذى يدلنا على أن هذه الحضارة رغم مرضها وهزالها تشكل دوزا بالغ الأهمية فى بقاء الأمة الإسلامية، وصد هجمات الغزو الحضارى والثقافى، بل الغزو العسكرى الذى نشاهده فى الآونة الأخيرة. ولو أن حضارة أمة أخرى تعرضت لما تعرضت له الأمة الإسلامية
تدور عليه تكاليف الشرع أمرًا ونهيًا، وقد نوه القرآن الكريم بشأنه، وعول عليه فى أمر العقيدة كما عول عليه فى أمور الشريعة والأخلاق. ومنزلة العقل فى القرآن الكريم مما لا يقبل نزاعا ولا خلافا، لأن تلاوة القرآن تثبته ثبوت أرقام الحساب، وبصورة ينفرد بها عن سائر الكتب السماوية. وصحيح أننا نجد فى كتب الأديان السابقة ما يشير إلى شأن العقل صراحة أو ضمنًا، لكن صحيح أيضا أن هذه الإشارات ما كانت
ترد فى سياقات مقصودة لبيان حجية العقل فى البلاغ الإلهى للناس، بل كثيرا ما كانت ترد بصورة ضمنية أو عرضية، بل ربما يلمح الناظر فى هذه الكتب- أحيانا- شيئا من الزراية بالعقل أو التحذير منه، لأنه مزلة العقائد، وباب من أبواب الدعوى والإنكار" (9). وعلى خلاف ذلك نجد نصوصًا قرآنية- لا تكاد تحصى- سيقت بقصد التذكير بقيمة العقل وحجيته وقوانينه التى هى أعدل الأشياء قسمة بين الناس.
وقد وردت مادة:العقل والفكر والنظر والفقه بمشتقاتها فى هذا الكتاب الكريم أكثر من 120 مرة، فى نصوص صريحة تدعو الناس إلى استخدام العقل بكل وظائفه وقواه فى معرفة الله تعالى، ومعرفة الإنسان وفهم الكون وتدبره. ولم يقتصر القرآن على ذكر العقل فقط، بل لفت الأنظار فى تكرار عجيب إلى كل وظائف القوة العاقلة، وعبر عنها بألفاظ شتى مثل: يعقلون ويتدبرون ويفكرون وينظرون ويسمعون ويفقهون، هذا فضلا عن التفرقة الرائعة بين رتبة "العلم " و" "اليقين " من جانب "الشك " و الظن " ومراتب الشك والظن من جانب آخر: (وإن الذين اختلفوا فيه لفى شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) (10). (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الطن لا يغنى من الحق شيئا) (11). وإذا كانت حضارة الإسلام حضارة وحى، فهى أيضا- وبالقدر ذاته- حضارة عقل ونظر.
ونقول: إن حفاوة القرآن بالعقل والحجة والبرهان وتحذيره من مناهج الظنون والشكوك هو أمر طبيعى بالنسبة لدين لا يعول فى مخاطبة الإنسان إلا على الخطاب الإلهى المباشر، دون اعتبار لأى وسائط أخرى من كهنوت أو قداسة مخلوق، أو ممثل لحق إلهى، "فلا هيكل فى الإسلام، ولا كهانة حيث لا هيكل، كل أرض مسجد، وكل من فى المسجد عبد واقف بين يدى الله تعالى. ودين بلا هيكل ولا كهانة لن يتجه فيه الخطاب بداهة إلى غير الإنسان العاقل الحر طليقا من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم " (12).
وحسبك من تغلغل مفهوم العقل والعقلانية فى قلب الثقافة الإسلامية أن الخطوة الأولى التى ينطلق منها مشوار العقيدة فى الإسلام خطوة عقلية، وأن الدليل على صدق النبى دليل عقلى، فدلالة المعجزة- كما هو معلوم- دلالة عقلية وليست دلالة نقلية، ومن هنا جاء التقسيم المشهور- عند بعض العلماء- لأصول العقيدة إلى أصول تثبت بالعقل وحده، وأخرى بالنقل وحده، وثالثة يتضافر العقل والنقل معا، وأن إثبات الوجود الإلهى إنما يقوم على دليل العقل لا النقل. وحسبك أيضا أن جمهرة من علماء العقيدة الإسلامية يجمعون على قاعدة يعرفها كل من له إلمام بدراسة هذا العلم، هذه القاعدة تقرر أنه "إذا تعارض العقل مع النقل فذم العقل وأول النقل".. على أن هذا التناغم أو الانسجام بين الوحى والعقل فى دين الإسلام هو الذى جعل من حضارته طوق نجاة تلقفته غالبية الأمم المرهقة بالتناقضات والمفارقات بين شرائع القلب وبراهين العقل، وإلا فكيف تسنى لحضارة وليدة أن تؤسس أكبر وأعظم إمبراطورية فى القرون الوسطى فى أقل من مائة عام؟ !(13).
إن التاريخ يقص علينا أن حضارة المسلمين طالت عنان السماء فى زمن قياسى أدهش علماء التاريخ والحضارة، والغريب فى أمر هذه الحضارة أن نجاحها لم يكن رهنًا ببيئة جغرافية معينة، بل كما نجحت فى مهدها الذى ظهرت فيه نجحت وبالقدر نفسه فى بيئات قصية عنها تختلف فيما بينها: لغة وجنسًا وعرفا وعقيدة وتاريخا وحضارة. وما كان لحضارة كهذه أن تصنع تلك المعجزات فى الزمن القصير لو لم يكن فى لغتها خطاب إنسانى متكامل يخاطب العقل كما يخاطب القلب، ويحترم الجسد كما يحترم الروح، ويقيم العدل والمساواة بين الناس جميعا، فالكل سواسية كأسنان المشط، والكل لآدم، وآدم من تراب.
الاخلاق:
وتأتى الأخلاق لتشكل مع الوحى والعقل أضلاع المثلث فى حضارة الإسلام، وبحيث تكون هى الأخرى ركنًا ثابتًا فى بناء هذه الحضارة، وكما كان عنصر "العقل " شديد الظهور فى تراث هذه الحضارة، فكذلك عنصر "الأخلاق " لا تخطئه العين من أول نظرة فى أصول هذه الحضارة. وميزان الأخلاق فى الإسلام ميزان ثابت، لا يتحرك أو يميل مع منطق القوة أو المنفعة أو المصلحة، وإنما ينحصر فى أن هذا العمل أو ذاك هل هو خير فيكون حسنًا، أو شر فيكون قبيحًا، وبقطع النظر عن الخلاف المعروف عند علماء الكلام المسلمين حول علل الحُسن والقبح فى الأفعال والأحكام، وهل هى: ذواتها أو الوجوه التى تقع عليها، أو الأوامر والنواهى الشرعية- فإن القدر المجمع عليه بينهم هو أن "الأخلاق " هدف أعلى وغاية عليا فى رسالة الإسلام، انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " (14). مما يعنى أن مهمة النبى (مهمة خلقية فى المقام الأول، وهو نفسه كان حالة بشرية متفردة فى مكارم الأخلاق، وقد سجل القرآن الكريم هذا المستوى الرفيع من الأخلاق والذى تحقق يه هذا النبى الكريم فى قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) (15).
والمتأمل فى موقع ا" الأخلاق " فى دين الإسلام يدهش كثيرا من تغلغل منظومة الفضائل والمكارم فى نسيج هذا الدين وكأنها الأصل الذى تدور عليه فروع الدين بأسرها، فالأخلاق لا تشكل- فقط- أساس الأحكام الشرعية والسلوكية، وانما تذهب بعيدا لتشكل أساس العبادات وثمرتها أيضا، وبحيث تنهار العبادة وتفرغ من مضمونها إذا لم يكن لها سند من الأخلاق: قيل للنبى صلى الله عليه وسلم: إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذى جيرانها بلسانها، فقال: "لا خير فيها، هى فى النار" قيل: فإن فلانة تصلى المكتوبة وتتصدق بالأسوار (قطع من الطعام)، وليس لها شىء غيره، ولا تؤذى أحدًا. قال: "هى فى الجنة "(16). بل إن الصلاة التى هى عماد الدين فى الإسلام لا تكون عبادة حقيقية ما لم تثمر ثمرتها الأخلاقية فى المصلى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" (17). وقد وجدت القيم الخلقية- كأصول مرعية- فى جميع مظاهر الحضارة فى الإسلام، فهى أصل فى نظام الحكم، وفى تقدم العلم وتطوره، وفى التشريع والحرب والسلم والسياسة والاقتصاد والأسرة، وهذه القيم لم تكن معروفة لدى العرب، ولا عند الفرس ولا الروم، ولكن سرعان ما انتشرت تلك القيم فى هذه الممالك وتغلبت على ما كان سائدا فيها من قيم مادية متوارثة من قبل، ولم يجد الفرس ولا الرومان ولا المصريون حرجا فى التخلى عن قيم حضاراتهم والدخول- بل النفاذ السريع- إلى أعماق هذه الحضارة: دينًا ولغة وسلوكا (18)
هذا ولم تعرف الحضارة الإسلامية نسبية القيم الأخلاقية كما هو الحال بالنسبة لبعض الحضارات الأخرى، ولا المبدأ الميكيافيلى الذى يبرر الوسيلة بالغاية، ولا الكيل بمكيالين فى النازلة الواحدة أو النوازل المتماثلة، ولا غير ذلك من القيم الوضعية المبتوتة الصلة بهدى السماء، والتى ارتبطت- كليا- بالعقل المستبد، غير المنضبط بقانون الوحى، وكانت من وراء كثير من المآسى التى يعانيها إنسان العصر الحاضر. بل نبعت قيم هذه الحضارة رأسا من قانونها المعصوم عن الخطأ، وهو: القرآن الكريم، الذى قال عنه العالم الإنجليزى "بورك ": "والقرآن، بالإضافة إلى كونه من أجمل الروائع الأدبية فى العالم كله، دستوراً كامل من القوانين الأخلاقية والمدنية والعسكرية والاجتماعية، وهو دستور يضبط سلوك المسلمين الذين يجب أن تكون جميع أفعالهم بمقتضى القرآن.. أما كون المسلمين يعتبرون أن قوانين القرآن ثابتة ومعصومة عن الخطأ فيتضح من الحقيقة القائلة بأنه بالرغم من انقضاء أربعة عشر قرنا على نزول القرآن فإنه لم يتعرض لأقل تغيير أو تبديل، وبأن كل كلمة من كلماته وكل حركة من حركاته قد بقيت كما خرجت من بين شفتى رسول الله، وسيبقى هكذا دون أى تبديل أو تحريف.. القرآن خالص من التدخل الإنسانى، وهذه حقيقة لا يمكن أن تقال- لا كليا ولا جزئيا- على سائر الكتب المقدسة للأديان الأخرى". ثم يقول: "والإسلام يفرض على كل مسلم ألا يفعل إلا الشىء الصحيح مهما كان كريهًا وعسيرا، كما يعتبر الصدق فى التفكير والعمل: الوسيلة اللازمة للخلاص والنجاة.. ولقد أثبت المسلم بوصفه مواطنًا فى هذا العالم أنه يملك الرفقة والصداقة إلى حد مذهل، هذه الصفة التى جعلته موضع الإعزاز فى كل مكان ساقه القدر إليه " (19). ويصور عالم إنجليزى آخر (بيكتهول) الفرق بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب فى مقارنة طريفة يورد فيها المناقشات التى دارت فى الصحف البريطانية حول السؤال التالى: لنفرض أن تمثالا يونانيًا على جانب عظيم من الجمال لا مثيل له ولا يمكن أن يعوض، قد وضع إلى جانب طفل حى فى غرفة واحدة، ولنفرض أن النار اندلعت فى هذه الغرفة، ولم يكن بالإمكان إلا إنقاذ واحد منهما: التمثال أو الطفل، فأيهما يجب أن ينقذ؟. يقول الأستاذ بيكتهول: "إن كثيرين من المراسلين ومن رجال الفكر والمناصب الرفيعة قالوا يومئذ: إن التمثال هو الذى يجب أن ينقذ، وأن الطفل يجب أن يموت، وكانت حجتهم فى ذلك أن ملايين الأطفال يولدون كل يوم، بينما تلك الرائعة الفنية اليونانية القديمة لا يمكن أن تعوض، ولعمرى إن هذا الرأى لم يكن بوسع أى مسلم أن يبديه، فهو آخر شكل من أشكال عبادة الأوثان "(20)
انفتاح الحضارة الإسلامية على الحضارات الأخرى:
لقد أمدت العناصر الثلاثة السابقة: "الوحى- العقل- الأخلاق " حضارة الإسلام بإمكانات تفردت بها من بين حضارات كثيرة، وساعدتها على أن تطرح نفسها خارج حدودها الجغرافية كحضارة مفتوحة ومتوازنة أمام مطالب الإنسان وأشواقه الروحية والجسدية، ومن حسن الحظ أن الباحث هنا لا يحتاج إلى تفصيل القول إذا ما أخذ فى الحسبان هذا العدد الهائل من العلماء والأدباء والفلاسفة والمفكرين من غير العرب، والذين تأثروا بحضارة الإسلام وأثروا فيها، وكتبوا ثمرات عقولهم وقرائحهم بلغتها العربية، وأصبحوا أئمة فى المعقول والمنقول فى ثقافة هذه الأمة، وقد مثل هؤلاء الأعلام دوائر علمية وثقافية أثرت الحضارة الإسلامية وشكلت مساحة واسعة من نسيجها الداخلى، وإن إطلالة سريعة على مكتوبات أئمة المعقول والمنقول من أمثال: الإمام البخارى، والترمذى، وأبى حنيفة، وسيبويه، والفارابى، وابن سينا، والغزالى، والرازى، والشيرازى، وغيرهم لتبرهن على أن الحضارة الإسلامية جمعت فى إهابها العديد من ثقافات الشرق والغرب، بعد ما تعاملت معها وطوعتها لدين الإسلام. وأثبتت أن الإسلام دين عالمى يفتح أبوابه على مصاريعها لكل عناصر الحق والخير والجمال، مهما اختلفت مواطنها وتعددت مصادرها، وأن حضارته حضارة مفتوحة على العالم، وأنها تعاملت مع الديانات والثقافات الأخرى بقدر غير قليل من الاحترام والتفاعل والتواصل. وأنها كما تأثرت بهذه الحضارات أثرت فيها، وقدمت لها زادا ثقافيا ما كانت لتحصل عليه لولا هذه الحضارة. ولسنا هنا بصدد الحديث عن أثر الحضارة الإسلامية فى الحضارة الغريبة، والذى أنكره كثير من الباحثين الغربيين الذين رجعوا بمصادر حضارتهم إلى مصدرين اثنين لا ثالث لهما: المصدر اليونانى والمصدر اليهودى المسيحى (21). وإن كان المنصفون منهم قد أثبتوا تأثير المسلمين وعلومهم وفلسفاتهم وفنونهم فى متن الثقافة الأوروبية وحضارتها وعلومها، ولكن نقصر الحديث على انفتاح حضارة الإسلام على حضارات العالم، وأن هذه الحضارة لم يحدث أن صادرت غيرها من الحضارات فى أية مرحلة من مراحلها. وقد يعجب الباحث وهو يقرأ لمؤرخين غربيين جحودهم لحضارة الإسلام ووصفها بأنها حضارة منقولة، ومترجمة من حضارات أخرى، وأنها لم تكن حضارة مبتدعة على أيدى المسلمين.. إلخ ما دعا إليه "دعاة العصبية فى تجريد الأمم- التى لا تتوشج بينها وبين الأوروبيين واشجة قرابة- من مزايا الإبداع والتفكير" (22) ومع ذلك لا يجدون حرجا حين ينفون عن هذه الحضارة خاصة التفاعل والتعارف بالحضارات الأخرى، فالذى يثبت تأثر حضارة بأخرى يلزمه بالضرورة إثبات تلاقى الحضارتين وانفتاح كل منهما على الأخرى، لكنهم لا يتحرجون فى القول بأن حضارة الإسلام ليست إلا أمشاجا وأخلاطا من حضارات مجاورة، وفى الوقت ذاته يصفونها- فى أحدث ما نقرأ- بأنها حضارة إرهاب ورفض للآخر وإلغاء له، ولعل ما يدفع هؤلاء إلى التذبذب بين النقائض هو أنهم يصطنعون منهجا عدائيا تلفيقيا يهدف إلى إلصاق دعاوى تأباها طبيعة الموضوع الذى يتحدثون فيه، فهم من ناحية حريصون على الحط من قدرة حضارة الإسلام بإخفاء معالم الإبداع فيها، وهذا ألجأهم إلى فرية أن الفلسفة الإسلامية- مثلا- فلسفة يونانية مكتوبة باللغة العربية، وأن التصوف الإسلامى تصوف مسيحى أو بوذى، وأن الفقه رومانى.. إلخ. ومن ناحية أخرى حريصون على إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين، وهذا ألجأهم إلى افتراء القول بأن الإسلام أصولى ومنغلق وإرهابى وخطر على الحضارات والثقافات.. إلخ. هذه التناقضات التى تمليها أغراض لا تمت إلى الحقيقة العلمية فى أدنى سبب.
ولسنا ندرى: هل نصدق ما قاله شيوخ الاستشراق فى القرن الماضى عن انفعال الحضارة الإسلامية بالحضارات المجاورة حتى النخاع ولدرجة التقليد أو النقل الأعمى، أو نصدق الاستشراق- الجديد- الذى يعود بهذه الحضارة إلى أصولية مغلقة تجب مقاومتها، أو نكذب الاثنين معا لنعلم- من جديد أيضا- أن هذه وتلك دعوات مستكتبة لأغراض خاصة ليس من بينها غرض واحد يتوخى العلم أو التاريخ أو الواقع.
ونحن نعتقد أن تراث الإسلام العلمى والفلسفى والأدبى كانت له أياد بيضاء لا تنكر على النهضة الأوروبية فى العصر الحديث، إذ شكل هذا التراث العالمى- مع ما اختزنه من ثقافات أخرى- وعبر اللغة العربية ثم اللاتينية تأسيسا لا يمكن تجاهله فى بناء هذه النهضة، وأن هذه النهضة لم تكن لتبلغ ما بلغته لولا تواصلها وتفاعلها مع ثقافة المسلمين.
أولآ: "عن طريق معايشة الحضارة الإسلامية فى القارة الأوروبية فى الأندلس حوالى ثمانية قرون ثرية بالعطاء الحضارى، الذى أفادت منه أوروبا فائدة عظيمة فى نهضتها الحضارية" (23).
وثانيا: عن طريق ترجمة الفلسفة الإسلامية من العربية إلى اللاتينية، وكمثال على هذا التأثر نذكر اهتمام الأديب الألمانى جوته (749 هـ- 1832م) بالأدب الإسلامى، واطلاعه على القرآن الكريم فى بعض ترجماته وما يؤثر عنه من أنه كان يقول: "من حماقة الإنسان فى دنياه أن يتعصب كل منا لما يراه، وإذا كان الإسلام معناه التسليم لله فإننا جميعا نحيا ونموت مسلمين " (24) ونحن إذ نقرر ذلك لا يغيب عن بالنا أن عناصر كثيرة مما حملته حضارة الإسلام لم يكن مما أبدعه المسلمون، لكنهم تلقوها من حضارات أخرى، وأسلموها- إن صح هذا التعبير-، ولم يأخذوها تقليدا ووراثة وتلفيقاً، بل أعادوا صياغتها بما ينسجم مع هويتهم وتصورهم للكون والعالم. "واللافت للنظر فى كل ذلك أن المسلمين ما أخذوا من غيرهم أداة أو طريقة أو علما إلا احتفظوا لأصحابها بفضلهم واعترفوا بما قبسوه وردوه إلى ما استحق من أصوله ومخترعيه أو مكتشفيه " (25). يشهد على ذلك ويؤكده بغاية الوضوح والجلاء أقوال علماء المسلمين وفلاسفتهم التى عبروا بها عن نزعتهم الإنسانية تجاه حضارات الآخرين وثقافاتهم، واعترافهم بما كان منها صحيحا مستقيمًا، وشكر أصحابها على إصابة الحق فى هذا الصحيح المستقيم، وعذرهم فيما لم يكن كذلك.
يقول الفيلسوف المسلم ابن رشد: "يجب علينا أن ننظر فى الذى قالوه وما أثبتوه فى كتبهم، فما كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه، وعذرناهم " (26).
وهكذا لم تعرف الحضارة الإسلامية- أبد- اختلاس ثقافة الغير، والإفادة منها ثم التنكر لها فهذا مما تأباه أخلاق الإسلام التى دخلت جزءاً مكونا فى بنية حضارته، ولعل هذا التأسيس الخلقى هو الذى أكد "قدرة الشرق الإسلامى على استيعاب التراثات الحضارية السابقة وإعادة تركيبها، ثم مراجعة تصنيفها وتمثل حقائقها ودفعها إلى الأمام أشواطا لخدمة عقيدة حضارة التوحيد وتوحيد الحضارة"(27)
وأخيرا: الحضارة الإسلامية حضارة سلام لا صراع:
وربما كان وصف السلم أو السلام أظهر الأوصاف وألصقها بالحضارة الإسلامية، لولا محاولات التشويه لهذا الوجه المشرق الوضئ فى تاريخ هذه الحضارة، فالقرآن الكريم أو الوحى الإلهى حدد علاقة المسلمين بغير المسلمين فى كلمة واحدة هى "التعرف على الآخر.. " ونقول: إن فلسفة الإسلام فى هذه المسألة تقوم على حقيقتين متلازمتين:
الحقيقة الأولى:أن الاختلاف بين الناس هو قانون قرآنى، مضمونه أن المشيئة الإلهية اقتضت- أزلاً- أن يخلق الله الناس مختلفين فى الأديان والأخلاق والأعمال، وأنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، لكن لم يشأ ذلك، وشاء بدلاً منه "الاختلاف ": (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (28،. "وهذا نص فى أن سنته تعالى فى البشر أن يتفرقوا بمقتضى الغريزة إلى شعوب وقبائل، ويكونوا مختلفين فى العقول والإفهام والمنازع وفى اللغات والأديان والشرائع، ومتنازعين فى المصالح والمنافع"(29). ومع أن أنظار المفسرين تعددت حول مرجع اسم الإشارة فى قوله تعالى: (ولذلك خلقهم) فإن كثيرا منهم يرجع به إلى الاختلاف المفهوم من قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين) وبحيث يكون معنى الآية "وللاختلاف خلقهم " (30) وإذن فالقرآن الكريم يقرر حقيقة اختلاف الناس فى الاعتقادات والأفكار والشعور والسلوك.
وأما الحقيقة الثانية فهى: "التعارف " أو إن شئت: "الأخوة فى الإنسانية": (يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكروأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (31).
وأمر بديهى أن يكون التعارف بين الأمم والشعوب مقصدا إلهيا، مادامت مشيئة الله تعالى قد اقتضت اختلاف الناس: فكراً وطبيعة وميولاً. من هنا تحتم أن يكون "ا السلم " هو القاعدة فى علاقات المسلمين الدولية بغيرهم من الشعوب.
وقد سجل التاريخ أن الحضارة الإسلامية تعاملت بهذه الروح فى علاقتها بغيرها، وأن رسول الإسلام (التزم هذه القاعدة التزاما تاما فى كل تعاملاته مع الآخرين، ولا يعترض فى هذا المقام بالحروب التى حدثت فى صدر الإسلام، لأن المواجهات الحربية التى خاضها النبى وأصحابه كانت كلها دفعا لعدوان فعلى أو متوقعاً من الأعداء.
وصحيح أنه ورد الأمر بقتال المعتدين فى القرآن، لكن هذا ما تفرضه كل شرائع الحق والعدل، ولأن الحرب فى الإسلام استثناء واضطرار فقد نهى عن الاعتداء والبغى والظلم وتجاوز الحق فى الدفاع عن النفس: (وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) (32). وهو نهى محكم وغير قابل للنسخ، ثم إن أول آية نزلت لتشرع للمسلمين حق القتال هى قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز)
(33). وفى هذا النص الإلهى يتضح تحديدًا أن أول أسباب مشروعية القتال فى الإسلام هو: نصرة المظلومين، وتمكينهم من حقهم فى حياة آمنة مثل غيرهم، وهو مطلب لا يعرض للعقل السليم أن يرتاب فى مشروعيته لحظة.. كما يتضح أن الحرب فى هذا النص مشروعة للدفاع عن الأديان السماوية ضد عدوان الشرك والمشركين، ومن العجيب فى هذا المقام أن القتال المشروع فى الإسلام ليس قاصرا على وجوب الدفاع عن حرية العبادة فى هذا الدين فقط، بل هو واجب- بالمشروعية نفسها- لتأمين الدفاع عن حق حرية العبادة فى الأديان السماوية الأخرى. استمع إلى ابن عباس- رضى الله عنهما- وهو يقول فى تفسير هذه الآية: "يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة"(34)، وقد تساءل المفسرون عن دخول الصوامع والبيع والصلوات فى خطة الدفاع الإسلامى، وكان من إجابتهم أن هذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين، إن اختلفت العبادات عنها. وها هو الإمام الرازى ينفى أن يكون معنى الدفاع عن هذه المواضع خاصاً بأيام موسى وعيسى- عليهما السلام- ويميل، بل يؤكد أن الغرض من الدفاع الإسلامى عنها كيلا تهدم فى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن هذه المواضع- فيما يقول- "يجرى فيها ذكر الله تعالى، فليست بمنزلة عبادة الأوثان " (35) فالآية الكريمة تأخذ فى حسبانها الدفاع عن أماكن العبادة الخاصة بغير المسلمين. والإسلام لا يجنح للحرب إذا أمكن تفاديها بأية صورة من الصور، بل يكون السلام هو الخيار الوحيد- شرعا- أمام المسلمين لو جنح إليه أعداؤهم (وإان جنحوا للسم فاجنح لها) (36). وإذا فرضت الحرب فهناك مبداً الرحمة، ومبدأ الوفاء بالمعاهدات، ومبدأ تحريم الخيانة، وكلها ثوابت وبينات فى حضارة الإسلام. إذا كان السلام هو الأصل فى علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم والشعوب، فإن المبدأ نفسه كان يحكم علاقة المسلمين بأهل الأديان والملل فى داخل الدولة الإسلامية نفسها. وبحيث يصدق القول: بأن السماحة التى عرفها هؤلاء فى ظل الحضارة الإسلامية لم يعرفوا مثيلها فى ظل الحضارات الأخرى.
وها هو الأستاذ آدم ميتز- أستاذ اللغات الشرقية بجامعة بازل فى سويسرا- يقرر أن تسامح المسلمين مع أهل الأديان سبق مبادئ التسامح التى يتنادى بها المصلحون المحدثون، وأن سماحة الحضارة الإسلامية لم تكن معروفة فى أوروبا فى القرون الوسطى، وأن هذا التسامح كان سبيًُا فى نشوء علم مقارنة الأديان والإقبال على دراسته بشغف عظيم فى الثقافة الإسلامية، ويقول هذا الأستاذ المنصف: إنه لم يكن فى التشريع الإسلامى ما يغلق دون أهل الذمة أى بأب من أبواب الأعمال، وكان قدمهم راسخا فى الصنائع التى تدر الأرباح الطائلة.. وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده.. وحياة الذمى عند أبى حنيفة وابن حنبل تكافئ حياة المسلم، وديته دية المسلم.. ولم تكن الحكومة الإسلامية تتدخل فى الشعائر الدينية لأهل الذمة، بل كان يبلغ من بعض الخلفاء أن يحضر مواكبهم وأعيادهم.. ولم يكن يوجد فى المدن الإسلامية أحياء متخصصة لليهود والنصارى بحيث لا يتعدونها.. وكانت الأديرة المسيحية منتشرة فى كل أجزاء بغداد حتى كادت لا تخلو منها ناحية" (37) ويقول وول ديورانت: "إن المسلمين كانوا رجالاً أكمل من المسيحيين، فقد كانوا أحفظ للعهد منهم، وأكثر منهم رحمة بالمغلوبين، وقلما ارتكبوا فى تاريخهم من الوحشية ما ارتكبه المسيحيون عندما استولوا على بيت المقدس فى عام 1099م، ولقد ظل القانون المسيحى يستخدم طريقة التحكيم الإلهى بالقتال أو النار، فى الوقت الذى كانت الشريعة الإسلامية تضع فيه طائفة من المبادئ القانونية الراقية ينفذها قضاة مستنيرون " (38). هذا ما يقرره عقلاء المؤرخين الغربيين عن تاريخ الحضارة الإسلامية مع أهل الأديان والملل، وذلك فى وقت بلغت فيه هذه الحضارة ذروة مجدها وسيادتها على العالم. وكان بإمكانها- لو أنها لم تنطلق من دين كالإسلام- أن تفرض عقيدتها على الآخرين، وأنما تلجأ للإبادة والتقتيل وهدم دور العبادات المخالفة، ومصادرة العقائد الأخرى، كما فعلت وتفعل بعض الحضارات فى القديم والحديث أيضا.
الحضارة الغربية:
ولعلنا لا نبالغ فى الأمر لو قلنا إن الوضع يكاد يختلف اختلافا كثيرا بالنسبة للحضارة الغربية، وواجب الإنصاف يحتم الاعتراف بالجوانب المضيئة فى حضارة الغرب، خاصة تلك التى تتمثل فى القفزات الكبرى فى تطور العلوم والسيطرة على الطبيعة، والمكاسب الهائلة فى ميادين: الديمقراطية والتقدم فى الفنون والآداب ووسائل الاتصال التى حولت العالم إلى قرية صغيرة، إلى إنجازات لا يحصرها العد أفاد منها الإنسان والبشرية بصورة غير مسبوقة فى تاريخ هذا الكون، فهذا كله مما يستحق الإعجاب والإكبار، ولكن لا مفر من القول بأن هذه الحضارة اختارت- عن عمد- أن تعرج على ساق واحدة، وذلك حين تنكرت للوحى الإلهى وأدارت له ظهرها، وضربت بضوابط الأخلاق الدينية عرض الحائط، ثم راحت تختزل الأهداف والغايات العليا فى هدف كاد ينحصر فى البعد المادى. وأعنى به "وفرة الإنتاج " وتكريس الحرية الفردية، والسعادة بمفهومها الدنيوى الخالص، واستغلال الشعوب واستعمارها والسيطرة عليها وعلى ثرواتها ومقدراتها.. والحضارة الغربية- بهذه الفلسفة- نقيض للحضارة الإسلامية، بنفس المنطق الذى يناقض ما بين التسلط وفرض السيطرة من جانب، والانفتاح والتعرف من جانب آخر. وهذا ما جعل "سياق الانتشار الحضارى الغربى عالميًا يتسم بعكس ما اتسم به الانتشار الحضارى الإسلامى" (38) ومرة ثانية تظهر القراءة السريعة للأحداث المعاصرة أن التسامح مع الآخر، الذى اتصفت به الحضارة الإسلامية، يقابله التسلط على الآخر فى الحضارة الغربية، ولم يعد الباحث فى حاجة إلى مزيد من التأمل ليكتشف مبدأ الصراع والصدام فى رؤية الحضارة الغربية للحضارات الأخرى، بعد أن خرجت علينا مؤخرا فرضية "صدام الحضارات " (39) التى طرحها صموئيل هنتنجتون مدير- معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لجامعة هارفارد- والتى أكد فيها على أن الانقسامات الثقافية بين الحضارات المعاصرة هى التى تشكل الأسباب الحقيقية للنزاع المتوقع فى هذا العالم. ويقول: إن الحضارات الحية الموجودة الآن هى تقريبا سبع حضارات: الحضارة الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندوسية والسلافية الأرثوذكسية والأمريكية اللاتينية. ويهمنا هنا ما يقوله عن الصراع بين الغرب والإسلام والذى يصفه بأنه صراع قديم منذ الفتح العربى الإسلامى وحتى مرحلة التحرر من الاستعمار. إن هذا الصراع أو التناقض بدأ يظهر من جديد مع عاصفة حرب الخليج الثانية، ومن ثم يستنتج هنتنجتون أن هذا الصراع "ليس مرشحا أن يزول فى المستقبل القريب" (40) وتتمثل الخطورة فى منظور هذه النظرية فى الترابط الإسلامى الآسيوى الذى
يشكل مصدر خطر يهدد القيم والمصالح الغربية، وذلك بسبب استمرار الدول الإسلامية والآسيوية فى تعزيز طاقاتها الدفاعية فى الوقت الذى يعمل فيه الغربيون والروس على تقليص قوتهم العسكرية، ومن ثم يصبح من اللازم المحتم- فيما يزعم هنتنجتون- توثيق التعاون بين المكونات الأوروبية والأمريكية للحضارة الغربية، وبناء علاقات أوثق مع أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية والتعاون مع روسيا واليابان، والحد من النمو العسكرى للدول الآسيوية والمسلمة، واستغلال الخلافات بين الدول الكونفوشيوسية والإسلامية مع الحرص على الحفاظ على التفوق فى شرق وجنوب آسيا، ومساندة المجموعات التى تنزع نحو الغرب فى الحضارة الأخرى" (41). ولم ينس صموئيل هنتنجتون أن يقدم لنا الدليل على أن حضارة الغرب لا تقوم على أساس ثابت من القيم الأخلاقية بمقدار ما تعتمد على مبدأ التذبذب والنسبية حسب منطق المصلحة ومبدأ الغاية التى تبرر الوسيلة، فقد عرض لاحتجاج المسلمين ضد ازدواجية النظرة الغربية فى التعامل بين العراق من ناحية، والصرب وإسرائيل من ناحية أخرى، وكان تعليقه أن من الطبيعى أن يكون هناك مكيالان: مكيال للدول الصديقة ومكيال مختلف للدول الأخرى. يقول هنتنجتون: "يقابل المسلمون بين أعمال الغرب ضد العراق، وبين تقاعسه عن حماية البوسنيين فى وجه الصرب، وفرض عقوبات على إسرائيل لانتهاك قرارات الأمم المتحدة، ويدعون أن الغرب يكيل بمكيالين، بيد أن من المحتم أن يكون عالم الحضارات المتصادمة هو عالم الكيل بمكيالين، فالناس يكيلون بمكيال للبلدان التى تمت إليهم بقرابة، وبمكيال مختلف للآخرين"(42).
إن هذه الإجابة لابد أن تثير فى الذهن- بحكم تمايز الأضداد- عظمة الحضارة الإسلامية التى حكمها القرآن الكريم بمبدأ العدل بمكيال وأحد للقريب والبعيد، والصديق والعدو على السواء: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (43).
وأيضا: (وان استنصروكم فى الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق.. ) (44).
وفى هذه الآية الأخيرة تبلغ نزاهة العدل ونظافته مستوى لم تعرفه أية جماعة إنسانية إلا فى الإسلام وحده، فالآية تأمر المسلمين المهاجرين بأن ينصروا إخوانهم المؤمنين الذين لم يهاجروا إذا طلبوا منهم النصر على المشركين، إلا إذا كان هناك عهد بين المسلمين وبين المشركين بعدم الاعتداء، فهنا يحترم القرآن هذا العهد مع العدو ولو كان على حساب مصلحة فريق من المسلمين أنفسهم.. فالوفاء بالعهد مع العدو مقدم على نجدة المسلم الآخر ونصرته على هذا العدو المعاهد.. ولسنا هنا بصدد مقارنة بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب غير أننا نزعم أن حضارة الإسلام ليست حضارة صراع وصدام كما يقول هنتنجتون فى محاولته خلق روح العداء وإذكاء الفتنة بين الحضارات ومن حسن الحظ أن هذه النظرية لم تلق قبولاً عند كثيرمن المثقفين ومؤرخى الحضارات فى الغرب والشرق، وقد تساءل إدوارد سعيد بحق عن الهدف من هذه النظرية: هل هو دعوة للتعايش وفهم العالم فهما صحيحا أو هو غطاء فكرى لسياسة الهيمنة الجديدة؟ هل اتباع هذا المنهج يشكل الطريقة المثلى لفهم ما يجرى فى العالم؟ أو أنه ينتج خريطة مبسطة للواقع تعقَّد الخلافات الحضارية بدل أن تحققها، وتؤدى إلى تضخيم التوجهات القومية والعنصرية؟
إن هدف هنتنجتون: تأكيد وجود اصطدام حضارى بين الغرب والحضارات غير الغربية وبينها الإسلام والكونفوشيوسية، وعلى الغرب أن يحسن إدارة هذا الصدام (45)، وليس من شك فى أن دوافع هذه النظرية لم تتجاوز مجال السياسة أو النظرة الضيقة إلى مصالح الغرب فى الدول الأخرى، وكان من الأوجب والأحق أن تسبق الاعتبارات الحضارية مصالح السياسة والسياسيين، ومثل هذا التناول لا يُمَكن الغرب من تقديم حلول تساهم فى إخراج العالم من مشكلاته الخانقة.. ثم إن هذه النظرية تفتقد الجدة والابتكار، لأنها فى أفضل حالاتها ليست إلا تبريرًا جديدا لإنقسام قديم درج الغرب على تكريسه بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى (46) على أن المتأمل فيما حدث فى الأيام الأخيرة يخرج بانطباع قوى بأن هذه النظرية صيغت بالفعل بقصد تبريرى جاء وقته الآن وأسفر عن هذا الموقف القبيح الذى تقفه الحضارة الغربية من فلسطين والمقاومة
الفلسطينية. وفى منطق هذه الحضارة- وللأسف البالغ- اختلطت الأوراق بصورة يندى لها جبين الإنسان الحر السوى، وتبدلت المفاهيم بشكل سافر وانتزعت الأسماء من مسمياتها الحقيقية، فسميت المقاومة المشروعة إرهابًا، وسمى الاعتداء الوحشى البربرى حقا مشروعا، وسمى السفاح رجل سلام، ورجل السلام رجلاً غير جدير بالثقة والتقدير.. إلخ. هذه الفوضى الفكرية العالمية، والتى لا شك تعكس موقفا سوفسطايئا جديدًا يسود الخطاب العالمى ويُنذر بأوخم العواقب..
لقد اتخذت الحضارة الغربية فى تطورها الأخيرطريق العولمة، وطريق صراع الحضارات للهيمنة على الأمم والشعوب وللسيطرة على مقدراتها وإزالة خصائصها وهوياتها، وكان أجدر بهذه الحضارة أن تسلك طريقا آخر سوف يفرض نفسه كًحًل لا مفر منه عاجلاً أو آجلاً، هذا الطريق هو طريق التعارف الذى نادى به القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا من الزمان.
م ن ق و ل