الحياة البرزخية: والمدخل إليها ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع قتلى بدر من المشركين في قليب، ثم بعد ثلاثة أيام وقف عليهم صلوات الله وسلامه عليه يخاطبهم: يا أبا جهل! يا عتبة بن ربيعة! يا أمية بن خلف! يا فلان بن فلان -يذكرهم بأسمائهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً.فقال له عمر متعجباً: يا رسول الله! ماذا تسمع من قوم قد جيفوا؟! فقال عليه الصلاة والسلام: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يملكون جواباً).
لقد خلق الله خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وحياة البرزخ طور لا بد من أن نمر عليه، قال الله جل وعلا في كتابه المبين: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠]، والموت أول حياة البرزخ، والبعث والنشور نهاية حياة البرزخ، والقبر موطن حياة البرزخ.
[أول سنة دفن الموتى]
لقد جهل ابن آدم الأول كيف يواري سوءة أخيه، ثم لما احتضر آدم عليه السلام قال لبنيه -كما ثبت في حديث صحيح-: إني اشتهيت ثمار الجنة.فخرج أبناؤه يلتمسون له ثمار الجنة، فإذا بالملائكة نازلين من السماء معهم حنوط وكفن وغسل من الجنة، ولم يعرفوهم، فسألوهم: أين تذهبون؟ قالوا: إن أبانا اشتهى ثمار الجنة، فقالوا لهم: عودوا فقد كفيتم.فذهبت الملائكة إلى آدم، فلما رأتهم حواء عرفتهم فتوارت خلف آدم، فقبضت الملائكة روحه عليه الصلاة والسلام، ثم غسلته ثم كفنته، ثم حفروا له ثم ألحدوا له ثم حثوا عليه التراب، ثم قالوا لمن حوله من بنيه: هذه سنتكم يا ولد آدم! فأصبح قبر الميت سنة ماضية، كما قال الله جل وعلا: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:٢١].
[أخبار المعذبين في القبور]
وثمة أحاديث نؤمن بها يقينا؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ولكن عقولنا في الحياة الدنيا تعجز عن فهمها، وهذا العرض إنما هو محاولة للإخبار المجمل أن هناك تشابها -بلا شك- بين سعي الإنسان في الدنيا وحياته في قبره، والمعنى بتوضيح أكمل: أن الإنسان كلما كان قريباً من العمل الصالح كان قريباً من النعيم في القبر، وكلما كان قريباً من العمل السيئ كان قريباً من عذاب القبر أعاذنا الله وإياكم من عذاب القبر، يقول صلى الله عليه وسلم -كما أخرج الإمام مسلم في الصحيح-: (مررت ليلة أسري بي وموسى بن عمران قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر)، فأشكل على العلماء كيف يكون موسى عليه السلام قائماً يصلي في قبره؟! وهل في القبر تكليف؟! ثم إنه في نفس الحديث أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه التقى بموسى في السماء السادسة، وفي نفس الحديث يخبر صلى الله عليه وسلم أنه صلى إماماً بالنبيين في المسجد الأقصى ومن جملتهم موسى.والجواب عن هذا كله: أن عالم الأرواح أشبه بعالم الملائكة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والصلاة في القبر لبعض الخلق نوع من النعيم يتنعمون به؛ لأنهم تعودوا على الصلاة في الدنيا، فيتنعمون بالصلاة في قبورهم كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح، وأحوال أهل القبور: غيب مكنون لا يعلمه إلا الله جل علا، وإنما نمضي في الحديث فيه وفق ما دل عليه شرع نبينا صلى الله عليه وسلم.
[كرامات الصالحين بعد الموت]
قد يكرم المرء في قبره دون أن يشعر الناس العلاء بن الحضرمي رضي الله تعالى عنه صحابي من المهاجرين الأولين، خرج في الغزو في الجهاد، ثم إنه لما قفل راجعاً من غزوة أصابته علة فمات فدفنه أصحابه، فلما مضوا عنه قليلاً إذا برجل من أهل تلك القرية، فقال: ما هذا الذي دفنتموه؟ قالوا: هذا أحد أصحابنا يقال له العلاء بن الحضرمي، فقال لهم محذراً: إن هذه الأرض تلفظ الموتى، لا يقع فيها القبر.يعني أن القبر لا يحفظ الموتى، بل يخرجهم، فتشاوروا رضي الله عنهم وأرضاهم فقالوا: ما حق العلاء بن الحضرمي علينا أن نتركه.فأجمعوا أمرهم بعد ذلك على أن يحفروا عنه وينقلوه إلى قرية أخرى، فحفروا القبر، فلما وصلوا إلى القبر وكانوا دافنوه لتوهم لم يجدوا شيئاً، ووجدوا القبر نور يتلألأ مد البصر، وهذا ثابت، وهو من دلائل ما يكرم الله جل وعلا به.
وقد يكون الأثر متعدياً بعد القبر، كما ثبت عن ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه وأرضاه خطيب رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يرفع الصوت في كلامه، فلما أنزل الله جل وعلا قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:٢] حبس نفسه في الدار، فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالأمر قال لهم: (قولوا له: إنك لست منهم.ثم قال له: يا ثابت! إنك ستعيش حميداً وتموت شهيداً)، فلما كانت موقعة اليمامة في حروب الردة خرج ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه لحروب أهل الردة، وكان يلبس درعاً نفيسة، ومكث في حفرة يقاتل من خلالها، فأصابه سهم فمات، فمر به رجل من المسلمين فوجد الدرع فأعجبته فنزعها وأخذها، فإذا بـ ثابت يظهر في المنام لرجل آخر من المسلمين ويقول له: أنا ثابت بن قيس، وإني سأخبرك خبراً ليس بحلم فلا تضيعه، إنني استشهدت اليوم، وكان لي درع نفيسة أخذها رجل من المسلمين بيته في مكان كذا وكذا، وتجد الدرع عليها برمة وعلى البرمة رحل أخفاه تحتها، فاذهب إلى خالد -أي: قائد المسلمين- وأخبره الخبر وقل له يأخذ الدرع ويبعث بها إلى الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليقل للصديق بعها واقض ما كان علي من دين.فذهب خالد فوجد الدرع كما وصفها ثابت لذلك الرجل في المنام، فأقره على الأمر وأقر الصديق تصرف خالد، وباع الدرع وتصدق بقيمة بيعها وسدد ما كان عليه من دين.بل يتجاوز الأمر أكثر من ذلك،
فقد صحح العلماء حديثاً -كما قال الشيخ الألباني رحمه الله- عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (إن أعمالكم تعرض على إخوانكم من الموتى يسرون أو يساءون) فكان أبو الدرداء رضي الله عنه على علاقة وطيدة بـ عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد كان مات قبله، فكان أبو الدرداء يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة.وفي المسند بسند صحيح -كما قال الشيخ ناصر رحمه الله-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعمالكم تعرض على قرابتكم وعشيرتكم من الأموات، فإن كانت حسنة استبشروا وإن كانت سيئة قالوا: اللهم! أهدهم كما هديتنا).
[دعوة إلى محاسبة النفس]
هذا بعض ما دلت عليه السنة ومشكاة النبوة من عالم الأرواح، والغاية من إيراده كله أن تنظر أين أنت من أوامر الله ونواهيه في هذه الحياة الدنيا حتى تعرف كيف يكون قبرك، فاعرف اليوم وحاسب نفسك قبل أن تموت، فأين أنت من هدي محمد صلى الله عليه وسلم؟ وأين أنت من توحيد الله؟ وأين أنت من الصلوات الخمس؟ وأين أنت من القرب من الله تبارك تعالى والبعد عنه؟ وأين عينك من النظر إلى المحرمات؟ وأين أذنك من سماعها؟ وأين قدماك من المشي إليها؟ وأين يداك من تناولها؟ كل ذلك إذا حاسب الإنسان نفسه فقد وطأ لنفسه موطئاً وثيراً برحمة الله في قبره، وإن كان غير ذلك فلا يهلك على الله جل وعلا إلا هالك.وتبعاً لهذا الأمر أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيارة القبور،
وقال عليه الصلاة والسلام يذكر العلة: (فإنها تذكركم الآخرة)، فإن القبور تستوي في ظاهرها إن كانت مبنية على منهاج السنة وتختلف في باطنها اختلافاً لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ألا ترى أن الزناة -عياذاً بالله- كأن المحصن منهم يقول بلسان حاله: أنا أتمتع زيادة على زوجتي.وغير المحصن كأنه يقول بلسان حاله: أنا أتمتع رغم أنني لم أتزوج بعد، والله جل وعلا أجل من أن يخدع، يقول عليه الصلاة والسلام في حديث الرؤيا: (فرأيت رجالاً ونساء عراة في تنور ضيق من أدناه واسع من أعلاه، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضو، فقلت للملكين: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الزناة والزواني).قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: لما كان وجودهم في الدنيا خلوة يستترون بمعصية الله كان حقهم أن يفضحون عراة في عذاب القبر.ويتثاقل الرجل عن الصلاة ويتباطأ في القيام إليها، وربما تردد وربما تركها بالمرة عياذاً بالله، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم من يرضخ رأسه ويثلغ بالحجارة، فقال للملكين: (من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة)
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا في عذاب البرزخ يسبح في نهر من دم ويلقم الحصى والحجارة، فقال للملكين: (من هؤلاء؟ فقالا: هؤلاء أكلة الربا من أمتك).والحديث طويل، ويمكن أن تقيس عليه كثيراً من أحوال الناس في الدنيا إن لم يدركهم الله جل وعلا برحمته.نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وما مضى قبسات وإضاءات من سيرة من ختم الله به النبوات وأتم به الرسالات صلوات الله وسلامه عليه.وصل اللهم على محمد وعلى آله وسلم تسليماً.
كتاب دروس للشيخ صالح المغامسي
المكتبة الشاملة
لقد خلق الله خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وحياة البرزخ طور لا بد من أن نمر عليه، قال الله جل وعلا في كتابه المبين: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٠٠]، والموت أول حياة البرزخ، والبعث والنشور نهاية حياة البرزخ، والقبر موطن حياة البرزخ.
[أول سنة دفن الموتى]
لقد جهل ابن آدم الأول كيف يواري سوءة أخيه، ثم لما احتضر آدم عليه السلام قال لبنيه -كما ثبت في حديث صحيح-: إني اشتهيت ثمار الجنة.فخرج أبناؤه يلتمسون له ثمار الجنة، فإذا بالملائكة نازلين من السماء معهم حنوط وكفن وغسل من الجنة، ولم يعرفوهم، فسألوهم: أين تذهبون؟ قالوا: إن أبانا اشتهى ثمار الجنة، فقالوا لهم: عودوا فقد كفيتم.فذهبت الملائكة إلى آدم، فلما رأتهم حواء عرفتهم فتوارت خلف آدم، فقبضت الملائكة روحه عليه الصلاة والسلام، ثم غسلته ثم كفنته، ثم حفروا له ثم ألحدوا له ثم حثوا عليه التراب، ثم قالوا لمن حوله من بنيه: هذه سنتكم يا ولد آدم! فأصبح قبر الميت سنة ماضية، كما قال الله جل وعلا: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:٢١].
[أخبار المعذبين في القبور]
وثمة أحاديث نؤمن بها يقينا؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ولكن عقولنا في الحياة الدنيا تعجز عن فهمها، وهذا العرض إنما هو محاولة للإخبار المجمل أن هناك تشابها -بلا شك- بين سعي الإنسان في الدنيا وحياته في قبره، والمعنى بتوضيح أكمل: أن الإنسان كلما كان قريباً من العمل الصالح كان قريباً من النعيم في القبر، وكلما كان قريباً من العمل السيئ كان قريباً من عذاب القبر أعاذنا الله وإياكم من عذاب القبر، يقول صلى الله عليه وسلم -كما أخرج الإمام مسلم في الصحيح-: (مررت ليلة أسري بي وموسى بن عمران قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر)، فأشكل على العلماء كيف يكون موسى عليه السلام قائماً يصلي في قبره؟! وهل في القبر تكليف؟! ثم إنه في نفس الحديث أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه التقى بموسى في السماء السادسة، وفي نفس الحديث يخبر صلى الله عليه وسلم أنه صلى إماماً بالنبيين في المسجد الأقصى ومن جملتهم موسى.والجواب عن هذا كله: أن عالم الأرواح أشبه بعالم الملائكة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والصلاة في القبر لبعض الخلق نوع من النعيم يتنعمون به؛ لأنهم تعودوا على الصلاة في الدنيا، فيتنعمون بالصلاة في قبورهم كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح، وأحوال أهل القبور: غيب مكنون لا يعلمه إلا الله جل علا، وإنما نمضي في الحديث فيه وفق ما دل عليه شرع نبينا صلى الله عليه وسلم.
[كرامات الصالحين بعد الموت]
قد يكرم المرء في قبره دون أن يشعر الناس العلاء بن الحضرمي رضي الله تعالى عنه صحابي من المهاجرين الأولين، خرج في الغزو في الجهاد، ثم إنه لما قفل راجعاً من غزوة أصابته علة فمات فدفنه أصحابه، فلما مضوا عنه قليلاً إذا برجل من أهل تلك القرية، فقال: ما هذا الذي دفنتموه؟ قالوا: هذا أحد أصحابنا يقال له العلاء بن الحضرمي، فقال لهم محذراً: إن هذه الأرض تلفظ الموتى، لا يقع فيها القبر.يعني أن القبر لا يحفظ الموتى، بل يخرجهم، فتشاوروا رضي الله عنهم وأرضاهم فقالوا: ما حق العلاء بن الحضرمي علينا أن نتركه.فأجمعوا أمرهم بعد ذلك على أن يحفروا عنه وينقلوه إلى قرية أخرى، فحفروا القبر، فلما وصلوا إلى القبر وكانوا دافنوه لتوهم لم يجدوا شيئاً، ووجدوا القبر نور يتلألأ مد البصر، وهذا ثابت، وهو من دلائل ما يكرم الله جل وعلا به.
وقد يكون الأثر متعدياً بعد القبر، كما ثبت عن ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه وأرضاه خطيب رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يرفع الصوت في كلامه، فلما أنزل الله جل وعلا قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:٢] حبس نفسه في الدار، فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالأمر قال لهم: (قولوا له: إنك لست منهم.ثم قال له: يا ثابت! إنك ستعيش حميداً وتموت شهيداً)، فلما كانت موقعة اليمامة في حروب الردة خرج ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه لحروب أهل الردة، وكان يلبس درعاً نفيسة، ومكث في حفرة يقاتل من خلالها، فأصابه سهم فمات، فمر به رجل من المسلمين فوجد الدرع فأعجبته فنزعها وأخذها، فإذا بـ ثابت يظهر في المنام لرجل آخر من المسلمين ويقول له: أنا ثابت بن قيس، وإني سأخبرك خبراً ليس بحلم فلا تضيعه، إنني استشهدت اليوم، وكان لي درع نفيسة أخذها رجل من المسلمين بيته في مكان كذا وكذا، وتجد الدرع عليها برمة وعلى البرمة رحل أخفاه تحتها، فاذهب إلى خالد -أي: قائد المسلمين- وأخبره الخبر وقل له يأخذ الدرع ويبعث بها إلى الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليقل للصديق بعها واقض ما كان علي من دين.فذهب خالد فوجد الدرع كما وصفها ثابت لذلك الرجل في المنام، فأقره على الأمر وأقر الصديق تصرف خالد، وباع الدرع وتصدق بقيمة بيعها وسدد ما كان عليه من دين.بل يتجاوز الأمر أكثر من ذلك،
فقد صحح العلماء حديثاً -كما قال الشيخ الألباني رحمه الله- عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (إن أعمالكم تعرض على إخوانكم من الموتى يسرون أو يساءون) فكان أبو الدرداء رضي الله عنه على علاقة وطيدة بـ عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد كان مات قبله، فكان أبو الدرداء يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة.وفي المسند بسند صحيح -كما قال الشيخ ناصر رحمه الله-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعمالكم تعرض على قرابتكم وعشيرتكم من الأموات، فإن كانت حسنة استبشروا وإن كانت سيئة قالوا: اللهم! أهدهم كما هديتنا).
[دعوة إلى محاسبة النفس]
هذا بعض ما دلت عليه السنة ومشكاة النبوة من عالم الأرواح، والغاية من إيراده كله أن تنظر أين أنت من أوامر الله ونواهيه في هذه الحياة الدنيا حتى تعرف كيف يكون قبرك، فاعرف اليوم وحاسب نفسك قبل أن تموت، فأين أنت من هدي محمد صلى الله عليه وسلم؟ وأين أنت من توحيد الله؟ وأين أنت من الصلوات الخمس؟ وأين أنت من القرب من الله تبارك تعالى والبعد عنه؟ وأين عينك من النظر إلى المحرمات؟ وأين أذنك من سماعها؟ وأين قدماك من المشي إليها؟ وأين يداك من تناولها؟ كل ذلك إذا حاسب الإنسان نفسه فقد وطأ لنفسه موطئاً وثيراً برحمة الله في قبره، وإن كان غير ذلك فلا يهلك على الله جل وعلا إلا هالك.وتبعاً لهذا الأمر أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيارة القبور،
وقال عليه الصلاة والسلام يذكر العلة: (فإنها تذكركم الآخرة)، فإن القبور تستوي في ظاهرها إن كانت مبنية على منهاج السنة وتختلف في باطنها اختلافاً لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ألا ترى أن الزناة -عياذاً بالله- كأن المحصن منهم يقول بلسان حاله: أنا أتمتع زيادة على زوجتي.وغير المحصن كأنه يقول بلسان حاله: أنا أتمتع رغم أنني لم أتزوج بعد، والله جل وعلا أجل من أن يخدع، يقول عليه الصلاة والسلام في حديث الرؤيا: (فرأيت رجالاً ونساء عراة في تنور ضيق من أدناه واسع من أعلاه، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضو، فقلت للملكين: من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الزناة والزواني).قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: لما كان وجودهم في الدنيا خلوة يستترون بمعصية الله كان حقهم أن يفضحون عراة في عذاب القبر.ويتثاقل الرجل عن الصلاة ويتباطأ في القيام إليها، وربما تردد وربما تركها بالمرة عياذاً بالله، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم من يرضخ رأسه ويثلغ بالحجارة، فقال للملكين: (من هؤلاء؟ قالا: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة)
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا في عذاب البرزخ يسبح في نهر من دم ويلقم الحصى والحجارة، فقال للملكين: (من هؤلاء؟ فقالا: هؤلاء أكلة الربا من أمتك).والحديث طويل، ويمكن أن تقيس عليه كثيراً من أحوال الناس في الدنيا إن لم يدركهم الله جل وعلا برحمته.نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وما مضى قبسات وإضاءات من سيرة من ختم الله به النبوات وأتم به الرسالات صلوات الله وسلامه عليه.وصل اللهم على محمد وعلى آله وسلم تسليماً.
كتاب دروس للشيخ صالح المغامسي
المكتبة الشاملة