وقفة مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)).
عباد الله، نقف وإياكم في هذه الخطبة مع هذه الوصايا لسيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ))، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَعَدَّ خَمْسًا وَقَالَ: ((اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إلى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِر الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ))؛ [رواه الترمذي].
ولنا وقفة مع قوله عليه الصلاة والسلام: ((وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)) من خلال النقاط التالية:
1- أنَّ عليكَ أن تقْنع بما قُسِمَ لك من جسمٍ ومالٍ وولدٍ وسكنٍ وموهبةٍ، وهذا منطقُ القرآن ﴿ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144].
إنَّ غالبَ الصحابة وعلماءِ السلفِ وأكثر الجيلِ الأولِ كانوا فقراء، لم يكنْ لديهم أُعطياتٌ ولا مساكنُ بهيةٌ، ولا مراكبُ، ولا حشمٌ، ومع ذلك أثْروا الحياة، وأسعدوا أنفسهم والإنسانية؛ لأنهم وجَّهُوا ما آتاهمُ اللهُ من خيرٍ في سبيلِهِ الصحيحِ، فَبُورِكَ لهم في أعمارِهم وأوقاتِهم ومواهبهم، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((ليس الغِنى عن كثرة العَرَض -أي: المال- ولكن الغِنى غنى النفس)).
2- أن ترضى بما قدره الله لك أو عليك:
فمن أعظم أسباب اطمئنان الشخص وراحته النفسية الإيمان بالقضاء والقدر، وأن يرضى بما قسم الله تعالى وقدره، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطؤه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن كل شيء مقدر قبل خلق السموات والأرض، قال الله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ﴾ [الحديد: 22]، وأن يعلم أنه ما من درجة يصل إليها من النقص أو البلاء إلا وتحتها درجات، لو استحضرها لحمد الله عز وجل على ما هو فيه، ولعلم أنه في نعمة كبيرة.
ويقابلُ هذا الصنفَ المباركَ مَلأٌ أُعطوا من الأموالِ والأولادِ والنعمِ، فكانتْ سببَ شقائِهم وتعاستِهم؛ لأنهم انحرفوا عن الفطرةِ السويَّةِ والمنهجِ الحقِّ، وهذا برهانٌ ساطعٌ على أن الأموال ليستْ كلَّ شيءٍ.
انظرْ إلى من حمل شهاداتٍ عالميَّةً لكنهُ نكرةٌ من النكراتِ في عطائهِ وفهمهِ وأثرهِ، بينما آخرون عندهم علمٌ محدودٌ، وقدْ جعلوا منه نهرًا دافقًا بالنفعِ والإصلاحِ والعمارِ.
إن كنت تريدُ السعادةَ فارضَ بصورتِك التي ركَّبك اللهُ فيها، وارض بوضعكِ الأسري، ومستوى فهمِك، ودخلِك، بل إنَّ بعض المربِّين الزهَّادِ يذهبون إلى أبعدِ من ذلك، فيقولون لك: ارض بأقلَّ ممَّا أنت فيهِ ودون ما أنت عليهِ.
3- ألا تستنقص ما عندك من نعمة ولو كانت قليلة:
ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوا إلى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إلى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَلَّا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللّه"؛ رواه مسلم وغيره، فالإنسان إذا نظر إلى مَن فُضِّل عليه في الدنيا استصغر ما عنده من نعم الله، وكان سببًا لمقته، وإذا نظر للدون شكر النعمة وتواضَع وحمد.
اذا كنت تسكن في بيت قديم فغيرك يسكن في خيمة أو عشة أو مشردًا في البلاد كماهو حال إخواننا في بلاد الشام والعراق، فاحمد الله على ماعندك من نعمة.
4- لن تأخذ من الدنيا إلا ما كتب لك:
ما من واحد منا إلا وله من هذه الدنيا نصيب، له من الشكل نصيب، هناك الوسيم، وهناك الدميم، وهناك من فيه الحسن مجتمع، ومن فيه القبح مجتمع، ما من واحد منا إلا وله من المال نصيب، ومن الصحة نصيب، هناك صحيح الجسم، قويّ البنية، وهناك معتل الجسم، معتل الصحة، فالصحة والمرض والجمال والقبح والقوة والضعف والغنى والفقر والزوجة الصالحة والزوجة الطالحة والأولاد الأبرار والأولاد الأشرار، والعمل المريح والعمل الشقي، والعمل كثير الدخل، والعمل قليل الدخل، فما من واحد منا إلا وله نصيب، ومن رضي بما قسمه الله له كان أغنى الناس، ارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس، لماذا؟
لأن سر الإيمان بالله أن ترضى عن الله، أن ترضى عما أعطاك من شكل ومن زوجة ومن أولاد ومن بيت ومن عمل، ومن دخل ومن صحة سواء كانت قليلة أو كثيرة، هذه حظوظ، ولا شك أن الحظوظ متفاوتة، وأن مُقسِّم الأرزاق هو الله سبحانه.
5- بالصبر والرضا ستعوض عن كل نقص في الدنيا بنعيم في الآخرة:
قال الإمام أبو حامد الغزالي: ليس بالإمكان أبدع مما كان، ليس في إمكانك أيها العبد أبدع مما أعطاك الله؛ لذلك يوم يُكشف الغطاء ويصبح بصرك حديدًا لا تملك إلا أن تقول: الحمد لله رب العالمين على أن جعلتني معلول الصحة في الحياة الدنيا، على أن سقت إليَّ بعض الشدائد، على أن ضيَّقت عليَّ في الرزق، على أن جعلت لي تلك الزوجة التي أرتني نجوم الظهر، فربما كانت الزوجة السيئة لمصلحة إيمانك، وربما كان الدخل القليل دفعًا لك إلى الله، وربما كان القهر والضعف، وأن تكون مستضعفًا في الأرض لا أن تكون قويًّا، ربما كان هذا دافعًا لك إلى أن تبلغ الدرجات العلى من الجنة؛ عن جابر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ))، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)).
و مما يعين العبد على الرضا بما قسمه الله:
6- أن يتذكر أن أفضل الخلق وهم الأنبياء والرسل كانوا أكثر الناس فقرًا وبلاءً:
لا تنسَ أن النبي عليه الصلاة والسلام أذاقه الله كل شيء، أذاقه طعم الفقر، دخل إلى بيته فسأل فلم يجد شيئًا يأكله، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: ((دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ، ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ))؛[رواه مسلم].
هل في بيت واحد من الناس في هذا البلد الكريم بيت ليس فيه طعام؟ مستحيل!
وأذاقه الله لذة الغنى، سأله أحد الصحابة ممن أسلم حديثًا فقال: لمن هذا الوادي يا رسول الله؟ قال: ((هو لك))، فقال: أشهد أنك تعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
أذاقه قوة النصر، فتح مكة، فدخلها مطأطئ الرأس تواضعًا لله عز وجل، وقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، وأذاقه مرارة القهر في الطائف، ((إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، لك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي)).
أذاقه طعم اليُتْم، يتم الأبوين، يتم الأب ويُتْم الأم، وأذاقه موت الولد، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: ((دَخَلْنَا على رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابنه إِبْرَاهِيمُ في حجره يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عبدالرحمن بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا بْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))؛ [رواه البخاري].
هذا الحزن المقدَّس، أما الذي يضرب وجهه ويصرخ بويله، ويمزق ثيابه هذا ليس من الإسلام في شيء.
وأذاقه تطليق بناته، اثنان من أصهاره طلَّقا بنتَيه نكايةً به، وأذاقه أن يقول الناس عن زوجته عائشة الطاهرة كلامًا لا يرضيه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11] ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15].
من منا يحتمل أن يقال عن زوجته: إنها زانية، من منا يحتمل؟ ولو تتبعتم سيرته الطاهرة لوجدتم ما من حال يصيب الإنسان إلا وأصاب النبي عليه الصلاة والسلام ليكون لنا قدوة، قيل له: ((أتحب أن تكون نبيًّا ملكًا، قال: بل نبيًّا عبدًا، أجوع يومًا فأذكره، وأشبع يومًا فأشكره))؛ لهذا قال الله عز وجل: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
لك به أسوة، أبٌ مثالي، أخ مثالي، قريب مثالي، جار مثالي، قائد مثالي، حاكم مثالي، أمير مثالي، اللهم صلِّ وسلم عليهماتعاقب الليل والنهار.
خلاصة القول ياعبادالله: أن نعلم يقينًا أن الناس في الأرض متفاوتون في أنصبتهم من الله عز وجل، متفاوتون في حظوظهم، هذا التفاوت يجري وفق حكمة ما بعدها حكمة، وعلم ما بعده علم، وخبرة ما بعدها خبرة، فلو كُشِف لك الغطاء لاخترت الواقع ولا زدتَ على أن قلت: الحمد لله رب العالمين.
عباد الله، صلوا وسلموا على رسول الله، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين.
متعب بن علي الأسمري
شبكة الالوكة
عباد الله، نقف وإياكم في هذه الخطبة مع هذه الوصايا لسيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ))، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَعَدَّ خَمْسًا وَقَالَ: ((اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إلى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِر الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ))؛ [رواه الترمذي].
ولنا وقفة مع قوله عليه الصلاة والسلام: ((وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)) من خلال النقاط التالية:
1- أنَّ عليكَ أن تقْنع بما قُسِمَ لك من جسمٍ ومالٍ وولدٍ وسكنٍ وموهبةٍ، وهذا منطقُ القرآن ﴿ فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144].
إنَّ غالبَ الصحابة وعلماءِ السلفِ وأكثر الجيلِ الأولِ كانوا فقراء، لم يكنْ لديهم أُعطياتٌ ولا مساكنُ بهيةٌ، ولا مراكبُ، ولا حشمٌ، ومع ذلك أثْروا الحياة، وأسعدوا أنفسهم والإنسانية؛ لأنهم وجَّهُوا ما آتاهمُ اللهُ من خيرٍ في سبيلِهِ الصحيحِ، فَبُورِكَ لهم في أعمارِهم وأوقاتِهم ومواهبهم، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((ليس الغِنى عن كثرة العَرَض -أي: المال- ولكن الغِنى غنى النفس)).
2- أن ترضى بما قدره الله لك أو عليك:
فمن أعظم أسباب اطمئنان الشخص وراحته النفسية الإيمان بالقضاء والقدر، وأن يرضى بما قسم الله تعالى وقدره، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطؤه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن كل شيء مقدر قبل خلق السموات والأرض، قال الله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ﴾ [الحديد: 22]، وأن يعلم أنه ما من درجة يصل إليها من النقص أو البلاء إلا وتحتها درجات، لو استحضرها لحمد الله عز وجل على ما هو فيه، ولعلم أنه في نعمة كبيرة.
ويقابلُ هذا الصنفَ المباركَ مَلأٌ أُعطوا من الأموالِ والأولادِ والنعمِ، فكانتْ سببَ شقائِهم وتعاستِهم؛ لأنهم انحرفوا عن الفطرةِ السويَّةِ والمنهجِ الحقِّ، وهذا برهانٌ ساطعٌ على أن الأموال ليستْ كلَّ شيءٍ.
انظرْ إلى من حمل شهاداتٍ عالميَّةً لكنهُ نكرةٌ من النكراتِ في عطائهِ وفهمهِ وأثرهِ، بينما آخرون عندهم علمٌ محدودٌ، وقدْ جعلوا منه نهرًا دافقًا بالنفعِ والإصلاحِ والعمارِ.
إن كنت تريدُ السعادةَ فارضَ بصورتِك التي ركَّبك اللهُ فيها، وارض بوضعكِ الأسري، ومستوى فهمِك، ودخلِك، بل إنَّ بعض المربِّين الزهَّادِ يذهبون إلى أبعدِ من ذلك، فيقولون لك: ارض بأقلَّ ممَّا أنت فيهِ ودون ما أنت عليهِ.
3- ألا تستنقص ما عندك من نعمة ولو كانت قليلة:
ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوا إلى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلا تَنْظُرُوا إلى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَلَّا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللّه"؛ رواه مسلم وغيره، فالإنسان إذا نظر إلى مَن فُضِّل عليه في الدنيا استصغر ما عنده من نعم الله، وكان سببًا لمقته، وإذا نظر للدون شكر النعمة وتواضَع وحمد.
اذا كنت تسكن في بيت قديم فغيرك يسكن في خيمة أو عشة أو مشردًا في البلاد كماهو حال إخواننا في بلاد الشام والعراق، فاحمد الله على ماعندك من نعمة.
4- لن تأخذ من الدنيا إلا ما كتب لك:
ما من واحد منا إلا وله من هذه الدنيا نصيب، له من الشكل نصيب، هناك الوسيم، وهناك الدميم، وهناك من فيه الحسن مجتمع، ومن فيه القبح مجتمع، ما من واحد منا إلا وله من المال نصيب، ومن الصحة نصيب، هناك صحيح الجسم، قويّ البنية، وهناك معتل الجسم، معتل الصحة، فالصحة والمرض والجمال والقبح والقوة والضعف والغنى والفقر والزوجة الصالحة والزوجة الطالحة والأولاد الأبرار والأولاد الأشرار، والعمل المريح والعمل الشقي، والعمل كثير الدخل، والعمل قليل الدخل، فما من واحد منا إلا وله نصيب، ومن رضي بما قسمه الله له كان أغنى الناس، ارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس، لماذا؟
لأن سر الإيمان بالله أن ترضى عن الله، أن ترضى عما أعطاك من شكل ومن زوجة ومن أولاد ومن بيت ومن عمل، ومن دخل ومن صحة سواء كانت قليلة أو كثيرة، هذه حظوظ، ولا شك أن الحظوظ متفاوتة، وأن مُقسِّم الأرزاق هو الله سبحانه.
5- بالصبر والرضا ستعوض عن كل نقص في الدنيا بنعيم في الآخرة:
قال الإمام أبو حامد الغزالي: ليس بالإمكان أبدع مما كان، ليس في إمكانك أيها العبد أبدع مما أعطاك الله؛ لذلك يوم يُكشف الغطاء ويصبح بصرك حديدًا لا تملك إلا أن تقول: الحمد لله رب العالمين على أن جعلتني معلول الصحة في الحياة الدنيا، على أن سقت إليَّ بعض الشدائد، على أن ضيَّقت عليَّ في الرزق، على أن جعلت لي تلك الزوجة التي أرتني نجوم الظهر، فربما كانت الزوجة السيئة لمصلحة إيمانك، وربما كان الدخل القليل دفعًا لك إلى الله، وربما كان القهر والضعف، وأن تكون مستضعفًا في الأرض لا أن تكون قويًّا، ربما كان هذا دافعًا لك إلى أن تبلغ الدرجات العلى من الجنة؛ عن جابر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ))، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)).
و مما يعين العبد على الرضا بما قسمه الله:
6- أن يتذكر أن أفضل الخلق وهم الأنبياء والرسل كانوا أكثر الناس فقرًا وبلاءً:
لا تنسَ أن النبي عليه الصلاة والسلام أذاقه الله كل شيء، أذاقه طعم الفقر، دخل إلى بيته فسأل فلم يجد شيئًا يأكله، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: ((دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ، ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ))؛[رواه مسلم].
هل في بيت واحد من الناس في هذا البلد الكريم بيت ليس فيه طعام؟ مستحيل!
وأذاقه الله لذة الغنى، سأله أحد الصحابة ممن أسلم حديثًا فقال: لمن هذا الوادي يا رسول الله؟ قال: ((هو لك))، فقال: أشهد أنك تعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
أذاقه قوة النصر، فتح مكة، فدخلها مطأطئ الرأس تواضعًا لله عز وجل، وقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، وأذاقه مرارة القهر في الطائف، ((إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، لك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي)).
أذاقه طعم اليُتْم، يتم الأبوين، يتم الأب ويُتْم الأم، وأذاقه موت الولد، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: ((دَخَلْنَا على رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابنه إِبْرَاهِيمُ في حجره يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عبدالرحمن بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا بْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))؛ [رواه البخاري].
هذا الحزن المقدَّس، أما الذي يضرب وجهه ويصرخ بويله، ويمزق ثيابه هذا ليس من الإسلام في شيء.
وأذاقه تطليق بناته، اثنان من أصهاره طلَّقا بنتَيه نكايةً به، وأذاقه أن يقول الناس عن زوجته عائشة الطاهرة كلامًا لا يرضيه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11] ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15].
من منا يحتمل أن يقال عن زوجته: إنها زانية، من منا يحتمل؟ ولو تتبعتم سيرته الطاهرة لوجدتم ما من حال يصيب الإنسان إلا وأصاب النبي عليه الصلاة والسلام ليكون لنا قدوة، قيل له: ((أتحب أن تكون نبيًّا ملكًا، قال: بل نبيًّا عبدًا، أجوع يومًا فأذكره، وأشبع يومًا فأشكره))؛ لهذا قال الله عز وجل: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
لك به أسوة، أبٌ مثالي، أخ مثالي، قريب مثالي، جار مثالي، قائد مثالي، حاكم مثالي، أمير مثالي، اللهم صلِّ وسلم عليهماتعاقب الليل والنهار.
وأحسن منكَ لم تر قطُّ عيني وأجمل منكَ لم تلد النساءُ خُلقت مبرَّأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاءُ |
خلاصة القول ياعبادالله: أن نعلم يقينًا أن الناس في الأرض متفاوتون في أنصبتهم من الله عز وجل، متفاوتون في حظوظهم، هذا التفاوت يجري وفق حكمة ما بعدها حكمة، وعلم ما بعده علم، وخبرة ما بعدها خبرة، فلو كُشِف لك الغطاء لاخترت الواقع ولا زدتَ على أن قلت: الحمد لله رب العالمين.
عباد الله، صلوا وسلموا على رسول الله، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين.
متعب بن علي الأسمري
شبكة الالوكة