المقالة الثانية "أسباب الهداية إلى الصراط المستقيم"
(10) شكر العبد لنعم الله تعالى عليه :
لقوله تعالى:" إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121){النحل:120-121}
يقول الإمام ابن كثير –رحمه الله – في "تفسيره" : يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء, ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية, فقال: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً " فأما الأمة: فهو الإمام الذي يقتدى به, والقانت: هو الخاشع المطيع, والحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد, ولهذا قال: " وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " قال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت, فقال: الأمة معلم الخير, والقانت: المطيع لله ورسوله, وعن مالك قال: قال ابن عمر: الأمة الذي يعلم الناس دينهم, وقال الأعمش عن يحيى بن الجزار عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال: من نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأن ابن مسعود رق له, فقال: أخبرني عن الأمة, فقال: الذي يعلم الناس الخير.
وقال الشعبي: حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفاً, فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن, وقال إنما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} فقال: أتدري ما الأمة وما القانت ؟ قلت: الله أعلم, فقال: الأمة الذي يعلم الخير, والقانت المطيع لله ورسوله, وكذلك كان معاذ.
وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود, أخرجه ابن جرير. وقال مجاهد: أمة أي أمة وحده, والقانت المطيع وقال مجاهد أيضًا: كان إبراهيم أمة :أي مؤمنًا وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار.
وقال قتادة: كان إمام هدى, والقانت المطيع لله. وقوله: "شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ " أي قائماً بشكر نعم الله عليه, كقوله تعالى: " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى " أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به.
وقوله: " اجْتَبَاهُ " أي اختاره واصطفاه كقوله: " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ", ثم قال: " وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي. وقوله: " وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً " أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة " وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ". وقال مجاهد في قوله: " وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً " أي لسان صدق.
ويقول العلامة السعدي –رحمه الله- : "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً " أي: إماما جامعا لخصال الخير هاديًا مهتديًا. " قَانِتًا لِلَّهِ" أي: مديمًا لطاعة ربه مخلصًا له الدين، "حَنِيفًا" مقبلًا على الله بالمحبة، والإنابة والعبودية معرضًا عمن سواه. { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } في قوله وعمله، وجميع أحواله لأنه إمام الموحدين الحنفاء.
{ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ } أي: آتاه الله في الدنيا حسنة، وأنعم عليه بنعم ظاهرة وباطنة ، فقام بشكرها، فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن { اجْتَبَاهُ } ربه واختصه بخلته وجعله من صفوة خلقه، وخيار عباده المقربين.
{ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } في علمه وعمله فعلم بالحق وآثره على غيره.
(12)الإنابة إلى الله :
قال تعالى:" شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)"{الشورى:13}
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- : قد علمت أن من نزل في منزل التوبة وقام في مقامها نزل في جميع
منازل الإسلام، فإن التوبة الكاملة متضمنة لها وهي مندرجة فيها، ولكن لابد من إفرادها بالذكر والتفصيل تبيينا لحقائقها وخواصها وشروطها، فإذا استقرت قدمه في منزل التوبة نزل بعده منزل الإنابة وقد أمر الله تعالى بها في كتابه، وأثنى على خليله بها فقال :" وأنيبوا إلى ربكم"{الزمر : 54 }وقال : "إن إبراهيم لحليم أواه منيب"{ هود: 75 }وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة ،فقال:" أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها إلى أن قال تبصرة وذكرى لكل عبد منيب"{ ق:68 }وقال تعالى:" هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب "{غافر: 13 }وقال تعالى:" منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة"{الروم:31} الآية.
ف"منيبين "منصوب على الحال من الضمير المستكن في قوله :"فأقم وجهك"{الروم:30}لأن هذا الخطاب له ولأمته. أي: أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه نظيره قوله :"يا أيها النبي إذا طلقتم النساء"{الطلاق:1} ويجوز أن يكون حالًا من المفعول في قوله:" فطر الناس عليها"{الروم:30} أي فطرهم منيبين إليه ،فلو خلوا وفطرهم لما عدلت عن الإنابة إليه ،ولكنها تحول وتتغير عما فُطرت عليه ،كما قال صلى الله عليه وسلم :" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ "(1) وفي رواية : عَلَى الْمِلَّةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ " (2)وقال عن نبيه داود:" فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ "{ص : 24 }وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة فقال : " وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) "{ ق : 31-34 }وأخبر سبحانه أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة فقال : :" وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى"{ الزمر : 17}.
"والإنابة" إنابتان : إنابة لربوبيته ،وهي إنابة المخلوقات كلها يشترك فيها المؤمن والكافر ،والبر والفاجر، قال الله تعالى :" وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ "{ الروم : 33 }فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع ،وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام بل تجامع الشرك والكفر ،كما قال تعالى في حق هؤلاء:" ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ "{الروم : 33-34} فهذا حالهم بعد إنابتهم "
والإنابة" الثانية: إنابة أوليائه .وهي إنابة لإلهيته، إنابة عبودية ومحبة .
وهي تتضمن أربعة أمور : محبته ،والخضوع له ،والإقبال عليه ،والإعراض عما سواه، فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربعة،وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك .
وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع والتقدم ،و المنيب إلى الله : المسرع إلى مرضاته، الراجع إليه كل وقت المتقدم إلى محابه .
قال صاحب المنازل : الإنابة في اللغة : الرجوع .وهي وههنا الرجوع إلى الحق .
وهى ثلاثة أشياء : الرجوع إلى الحق إصلاحًا ،كما رجع إليه اعتذارًا ،والرجوع إليه وفاء كما رجع إليه عهدًا، والرجوع إليه حالًا ،كما رجعت إليه إجابة.
لما كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته ،كان من تتمة ذلك : رجوعه إليه بالاجتهاد ،والنصح في طاعته ،كما قال :" إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا "{مريم:60}وقال : " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا "{ البقرة : 160}فلا تنفع توبة وبطالة، فلا بد من توبة وعمل صالح : ترك لما يكره ،وفعل لما يحب ،تخل عن معصيته ،وتحل بطاعته .
وكذلك الرجوع إليه بالوفاء بعهده ،كما رجعت إليه عند أخذ العهد عليك، فرجعت إليه بالدخول تحت عهده أولا،فعليك بالرجوع بالوفاء بما عاهدته عليه ثانيًا. والدين كله : عهد ووفاء ،فإن الله أخذ عهده على جميع المكلفين بطاعته ، فأخذ عهده على أنبيائه ورسله على لسان ملائكته، أو منه إلى الرسول بلا واسطة، كما كلم موسى ،وأخذ عهده على الأمم بواسطة الرسل ،وأخذ عهده على الجهال بواسطة العلماء ،فأخذ عهده على هؤلاء بالتعليم ،وعلى هؤلاء بالتعلم ،ومدح الموفين بعهده ،وأخبرهم بما لهم عنده من الأجر، فقال :" وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)"{الإسراء:34}وقال :" وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ "
{النحل :91}وقال : " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا "{ البقرة : 177 }وهذا يتناول عهودهم مع الله بالوفاء له بالإخلاص والإيمان والطاعة،
وعهودهم مع الخلق .وأخبر النبي : أن من علامات النفاق:" الغدر بعد العهد"(3) فما أناب إلى الله عز و جل من خان عهده وغدر به ،كما أنه لم ينب إليه من لم يدخل تحت عهده،فالإنابة لا تتحقق إلا بالتزام العهد والوفاء به.
وقوله : والرجوع إليه حالاً كما رجعت إليه إجابة.
أي هو سبحانه قد دعاك فأجبته بلبيك وسعديك قولًا، فلا بد من الإجابة حالًا تصدق به المقال ،فإن الأحوال تصدق الأقوال أو تكذبها ،وكل قول فلصدقه وكذبه شاهد من حال قائله ،فكما رجعت إلى الله إجابة بالمقال، فارجع إليه إجابة بالحال، قال الحسن رحمه الله : ابن آدم لك قول وعمل ،وعملك أولى بك من قولك ،ولك سريرة وعلانية ،وسريرتك أملك بك من علانيتك.
قال : وإنما يستقيم الرجوع إليه إصلاحا بثلاثة أشياء : بالخروج من التبعات ،والتوجع للعثرات، واستدراك الفائتات .
والخروج من التبعات" : هو بالتوبة من الذنوب التي بين العبد وبين الله ،وأداء الحقوق التي عليه للخلق .
والتوجع للعثرات يحتمل شيئين:
أحدهما : أن يتوجع لعثرته إذا عثر ،فيتوجع قلبه وينصدع ،وهذا دليل على إنابته إلى الله ،بخلاف من لا يتألم قلبه ،ولا ينصدع من عثرته ،فإنه دليل على فساد قلبه وموته .
الثاني : أن يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر ،حتى كأنه هو الذي عثر بها ،ولا يشمت به فهو دليل على رقة قلبه وإنابته .
واستدراك الفائتات : هو استدراك ما فاته من طاعة وقربة بأمثالها أو خير منها ،ولا سيما في بقية عمره عند قرب رحيله إلى الله ،فبقية عمر المؤمن لا قيمة لها ،يستدرك بها ما فات، ويحيي بها ما أمات.
وقال : وإنما يستقيم الرجوع إليه عهدًا بثلاثة أشياء: بالخلاص من لذة الذنب ،وبترك الاستهانة بأهل الغفلة تخوفا عليهم ،مع الرجاء لنفسك وبالاستقصاء في رؤية علة الخدمة.
إذا صفت له الإنابة إلى ربه تخلص من الفكرة في لذة الذنب ،وعاد مكانها ألمًا وتوجعًا لذكره والفكرة فيه،فما دامت لذة الفكرة فيه موجودة في قلبه فإنابته غير صافية.
فإن قيل : أي الحالين أعلى؟ حال من يجد لذة الذنب في قلبه فهو يجاهدها لله ،ويتركها من خوفه ومحبته وإجلاله ،أو حال من ماتت لذة الذنب في قلبه وصار مكانها ألما وتوجعا وطمأنينة إلى ربه وسكونًا إليه والتذاذا بحبه وتنعمًا بذكره؟.
قيل : حال هذا أكمل وأرفع ،وغاية صاحب المجاهدة: أن يجاهد نفسه حتى يصل إلى مقام هذا ومنزلته ،ولكنه يتلوه في المنزلة والقرب ومنوط به.
فإن قيل : فأين أجر مجاهدة صاحب اللذة وتركه محابه لله ،وإيثاره رضي الله على هواه ؟وبهذا كان النوع الإنساني أفضل من النوع الملكي عند أهل السنة ،وكانوا خير البرية ،والمطمئن قد استراح من ألم هذه المجاهدة وعوفي منها ،فبينهما من التفاوت ما بين درجة المعافى والمبتلى.
قيل : النفس لها ثلاثة أحوال : الأمر بالذنب ،ثم اللوم عليه ،والندم منه ،ثم الطمأنينة إلى ربها ،والإقبال بكليتها عليه ،وهذه الحال أعلى أحوالها وأرفعها ،وهي التي يشمر إليها المجاهد ،وما يحصل له من ثواب مجاهدته وصبره فهو لتشميره إلى درجة الطمأنينة إلى الله ،فهو بمنزلة راكب القفار ،والمهامة والأهوال،ليصل إلى البيت فيطمئن قلبه برؤيته والطواف به ،والآخر بمنزلة من هو مشغول به طائفًا وقائمًا،وراكعًا وساجدًا، ليس له التفات إلى غيره ، فهذا مشغول بالغاية ،وذاك بالوسيلة ،وكل له أجر ،ولكن بين أجر الغايات وأجر الوسائل بون، وما يحصل للمطمئن من الأحوال والعبودية والإيمان فوق ما يحصل لهذا المجاهد نفسه في ذات الله ،وإن كان أكثر عملًا ،فقدر عمل المطمئن المنيب بجملته وكيفيته أعظم ،وإن كان هذا المجاهد أكثر عملًا ،وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فما سبق الصديق الصحابة بكثرة عمل ،وقد كان فيهم من هو أكثر صيامًا وحجًا وقراءة وصلاة منه ، ولكن بأمر آخر قام بقلبه ،حتى إن أفضل الصحابة كان يسابقه ولا يراه إلا أمامه، ولكن عبودية مجاهد نفسه على لذة الذنب والشهوة ،قد تكون أشق ولا يلزم من مشقتها تفضيلها في الدرجة .
ومن علامات الإنابة : ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم ،مع فتحك باب الرجاء لنفسك، فترجو لنفسك الرحمة ،وتخشى على أهل الغفلة النقمة، ولكن ارج لهم الرحمة ،واخش على نفسك النقمة ،فإن كنت لا بد مستهينًا بهم ،ماقتًا لهم لانكشاف أحوالهم لك ورؤية ما هم عليه، فكن لنفسك أشد مقتًا منك لهم، وكن لهم أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك .قال بعض السلف : لن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ،ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتًا .
وهذا الكلام لا يفقه معناه إلا الفقيه في دين الله ،فإن من شهد حقيقة الخلق وعجزهم وضعفهم وتقصيرهم، بل تفريطهم وإضاعتهم لحق الله ،وإقبالهم على غيره ،وبيعهم حظهم من الله بأبخس الثمن من هذا العاجل الفاني، لم يجد بدًا من مقتهم ،ولا يمكنه غير ذلك ألبتة ،ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره وكان على بصيرة من ذلك : كان لنفسه أشد مقتًا ،واستهانة فهذا هو الفقيه.
وأما الاستقصاء في رؤية علل الخدمة : فهو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس ،وتمييز حق الرب منها من حظ النفس ،ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظًا لنفسك وأنت لا تشعر.
(13)الاعتصام بالله تعالى:
لقوله تعالى:"وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101){آل عمران:101}
يقول الإمام ابن كثير –رحمه الله -:يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من الذين أوتوا الكتاب، الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، وما مَنَحهم به من إرسال رسوله (1) كما قال تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } {البقرة:109} وهكذا قال هاهنا: { إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } ثُمَّ قَالَ { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } يعني: أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه؛ فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلًا ونهارًا، وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم، وهذا كقوله تعالى: "وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " {الحديد:8} والآية بعدها. ثم قال تعالى: :"وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " أيّ: ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العُمْدة في الهداية، والعُدَّة في مباعدة الغَواية، والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد، وحصول المراد.
ويقول الإمام الطبري في تفسيره: قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وكيف تكفرون"، أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله، فترتدّوا على أعقابكم "وأنتم تتلى عليكم آيات الله"، يعني: حججُ الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم "وفيكم رسوله" حجةٌ أخرَى عليكم لله، مع آي كتابه، يدعوكم جميع ذلك إلى الحقّ، ويبصِّركم الهدَى والرشاد، وينهاكم عن الغيّ والضلال؟. يقول لهم تعالى ذكره: فما وجه عُذْركم عند ربكم في جحودكم نبوَّة نبيِّكم، وارتدادكم على أعقابكم، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم، إنْ أنتم راجعتم ذلك وكفرتم، وفيه هذه الحجج الواضحة والآياتُ البينة على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه؟ كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله" الآية، علَمان بيِّنان: وُجْدان نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكتابُ الله. فأما نبيّ الله فمضى صلى الله عليه وسلم. وأما كتاب الله، فأبقاه الله بين أظهُركم رحمة من الله ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
وأما قوله:"ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم"، فإنه يعني: ومن يتعلق بأسباب الله، ويتمسَّك بدينه وطاعته فقد هدى، يقول: فقد وُفِّق لطريق واضح، ومحجةٍ مستقيمة غير معوجَّة، فيستقيم به إلى رضي الله، وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته.
ويقول الإمام الطبري –رحمه الله- في تفسيره:القول في تأويل قوله : " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا "
وقال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين صدَّقوا الله وأقرّوا بوحدانيته، وما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم من أهل الملل" وَاعْتَصَمُوا بِهِ "، يقول: وتمسكوا بالنور المبين الذي أنزله إلى نبيه.
وعن ابن جريج:" وَاعْتَصَمُوا بِهِ "، قال: بالقرآن.
" فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ "، يقول: فسوف تنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه، وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته، ويلحَقهم من فضله ما لَحِق أهل الإيمان به والتصديق برسله " وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا "، يقول: ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه، ويسدِّدهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته، ولاقتفاء آثارهم واتباع دينهم. وذلك هو"الصراط المستقيم"، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو الإسلام . ونصب"الصراط المستقيم" على القطع من"الهاء" التي في قوله:"إليه".
(14) سلامة القلب :
قال تعالى:" يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ "{الشعراء:88-89}
وامتد ح الله تعالى نبيه وخليله إبراهيم لسلامة قلبه ، فقال تعالى:" سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {الصافات : 79-84}
ولقوله تعالى : " وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ " {الحجرات :7}
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ يَقُولُ :«إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبِيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلبُ».(5)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ:"إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ".(6)
وعن حذيفة رضي الله عنه ، قال :سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ:"تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ ، عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا ، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْب أَنْكَرَهَا ، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفََا ، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا ، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا ، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ، وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا ، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".(7)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :" لَا تَحَاسَدُوا ،وَلَا تَنَاجَشُوا ،وَلَا تَبَاغَضُوا ،وَلَا تَدَابَرُوا ،وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ،وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ،الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ ،وَلَا يَخْذُلُهُ ،وَلَا يَحْقِرُهُ ،التَّقْوَى هَاهُنَا- وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ ،وَمَالُهُ ،وَعِرْضُهُ".(8)
الشاهد من الحديث: قوله " التَّقْوَى هَاهُنَا". وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
إنَّ هذا الدين إنما نزل في حقيقته لتزكية القلوب وإصلاحها، ولهذا يقول:"أنا دَعْوَةُ أبي إِبْرَاهِيمَ ".(9)
ودعوة أبينا إبراهيم هي ما في قوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" {البقرة:129}فإبراهيم عليه السلام دعا الله لما بني هذا البيت العظيم "العتيق" أن يبعث في هذه الأمة هذا الرسول وبهذه الأهداف والأغراض، وقد استجاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دعوة إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ {الجمعة:2}.
فنلاحظ هنا أن هذه الأمور الثلاثة المدعو بها اختلفت ترتيبها، فتقدمت التزكية على التعليم، ولاشك أن الإنسان لا يمكن أن يتزكى إلا بأن يتعلم الكتاب والسنة، فيتعلم الهدى الذي جاء به النبي ؛ لكن عندما تتقدم التزكية فهي من باب تقديم الغرض والغاية على الوسيلة التي تؤدي إلى هذه الغاية.
فالأصل هي: تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد كما في الحديث: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ".
وهذه القلوب هي محل الابتلاء والتمحيص ومحل الأعمال التي لو استعرضناها؛ لعجبتم ولعلمتم أن لهذه القلوب شأنًا عظيمًا عند الله تبارك وتعالى، كيف لا والقلب هو الذي إذا كان حيًا فإن الجسد يحيا معه، وإذا مات مات الجسد.
دعاءه لربه بأن يهد قلبه ويسلل سخيمته:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ،قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو :"رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ ،وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ ،وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ ،وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ هُدَايَ إِلَيَّ ،وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي لَكَ شَاكِرًا ،لَكَ ذَاكِرًا ،لَكَ رَاهِبًا ،لَكَ مِطْوَاعًا ،إِلَيْكَ مُخْبِتًا أَوْ مُنِيبًا ،رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي ،وَاغْسِلْ حَوْبَتِي ،وَأَجِبْ دَعْوَتِي ،وَثَبِّتْ حُجَّتِي ،وَاهْدِ قَلْبِي ،وَسَدِّدْ لِسَانِي ،وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي".(10)
(15)المجاهدة في الله:
لقوله تعالى :"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)"{العنكبوت :69}
يقول فضيلة الشيخ سيد قطب –رحمه الله – في تفسيره: ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله ؛ أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيه الحكمة ، وتمنحه ذلك الخير الكثير .
إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما : طريق الله ، وطريق الشيطان ، أن يستمع إلى وعد الله ، أو أن يستمع إلى وعد الشيطان ، ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده ،فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده ، ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق، المنهج الذي شرعه الله ،وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان ،
هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد ، كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله، ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب ، ليست هنالك شبهة ولا غشاوة ،الله ،أو الشيطان ،منهج الله ، أو منهج الشيطان ، طريق الله ،أو طريق الشيطان ،ولمن شاء أن يختار " لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ "{الأنفال:42} لا شبهة ،ولا غبش ،ولا غشاوة ،وإنما هو الهدى أو الضلال،وهو الحق واحد لا يتعدد ، "فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ"؟!{يونس:32}.(11)
(16)اتباع رضوان الله :
لقوله تعالى:" يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)"{المائدة:15-16}
يقول العلامة السعدي –رحمه الله- في "تفسيره": لما ذكر تعالى ما أخذه الله على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأنهم نقضوا ذلك إلا قليلًا منهم، أمرهم جميعًا أن يؤمنوا بمحمد ، واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته، وهي: أنه بين لهم كثيرا مما يُخْفُون عن الناس، حتى عن العوام من أهل ملتهم، فإذا كانوا هم المشار إليهم في العلم ولا علم عند أحد في ذلك الوقت إلا ما عندهم، فالحريص على العلم لا سبيل له إلى إدراكه إلا منهم، فإتيان الرسول
بهذا القرآن العظيم الذي بيَّن به ما كانوا يتكاتمونه بينهم، وهو أُمِّيّ لا يقرأ ولا يكتب - من أدل الدلائل على القطع برسالته، وذلك مثل صفة محمد في كتبهم، ووجود البشائر به في كتبهم، وبيان آية الرجم ونحو ذلك.
" وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ " أي: يترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة.
" قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ " وهو القرآن، يستضاء به في ظلمات الجهالة وعماية الضلالة.
" وَكِتَابٌ مُّبِينٌ " لكل ما يحتاج الخلق إليه من أمور دينهم ودنياهم. من العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن العلم بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية.
ثم ذكر مَنْ الذي يهتدي بهذا القرآن، وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك، فقال: " يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ " أي: يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله، وصار قصده حسنًا -سبل السلام التي تسلم صاحبها من العذاب، وتوصله إلى دار السلام، وهو العلم بالحق والعمل به، إجمالًا وتفصيلًا.
" وَيُخْرِجُهُم مِّن " ظلمات الكفر والبدعة والمعصية والجهل والغفلة، إلى نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم والذكر. وكل هذه الهداية بإذن الله، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. " وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ " .
(17)ارتباط الهداية بالصبر على البلاء وحسن التوكل على الله :
لقوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ(154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157){البقرة:153-157}
شرح الكلمات:
الاستعانة : طلب المعونة والقدرة على القول أو العمل.
الصبر : حمل النفس على المكروه وتوطينها على احتمال المكاره.
الشعور : الإحساس بالشيء المفضي إلى العلم به.
الابتلاء : الاختبار والامتحان لإظهار ما عليه الممتحن من قوة أو ضعف.
الأموال : جمع مال وقد يكون ناطقًا وهو المواشي، ويكون صامتًا وهو النقدان وغيرها.
المصيبة : ما يصيب العبد من ضرر في نفسه أو أهله أو ماله.
الصلوات : جمع صلاة وهي من الله تعالى هنا المغفرة لعطف الرحمة عليها.
ورحمة : الرحمة: الإنعام وهو جلب ما يسر، ودفع ما يضر، وأعظم ذلك دخول الجنة بعد النجاة من النار.
المهتدون : إلى طريق السعادة والكمال بإيمانهم وابتلاء الله تعالى لهم وصبرهم على ذلك.
معنى الآيات:
نادى الرب تعالى عباده المؤمنين وهم أهل ملة الإسلام المسلمون ليرشدهم إلى ما يكون عوناً لهم على الثبات على قبلتهم التي اختارها لهم، وعلى ذكر ربهم وشكره وعدم نسيانه وكفره فقال:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا " أي على ما طلب منكم من الثبات والذكر والشكر، وترك النسيان والكفر بالصبر الذي هو توطين النفس وحملها على أمر الله تعالى به وبإقام الصلاة، وأعلمهم أنه مع الصابرين يمدهم بالعون والقوة، فإذا صبروا نالهم عون الله تعالى وتقويته وهذا ما تضمنته الآية الأولى(153). أما الآية الثانية(154) فقد تضمنت نهيه تعالى لهم أن يقولوا معتقدين أن من قتل في سبيل الله إذ هو حي في البرزخ وليس بميت، بل هو حي يرزق في الجنة كما قال : " « أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ ".(12) .فلذا لا يقال لمن قُتل في سبيل الله: مات ،ولكن استشهد ،وهو شهيد وحي عند ربه حياة لا نحسها ولا نشعر بها بمفارقتها للحياة في هذه الدار. (13)
وأما الآية الثالثة(155) فإنه يُقسم تعالى لعباده المؤمنين على أنه يبتليهم بشيء من الخوف بواسطة أعداءه وأعدائهم وهم الكفار عندما يشنون الحروب عليهم وبالجوع لحصار العدو ولغيره من الأسباب، وبنقص الأموال الماشية للحرب والقحط، وبالأنفس؛ كموت الرجال، وبفساد الثمار بالجوائح، كل ذلك لإظهار من يصبر على إيمانه وطاعة ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه، ومن لا يصبر فيحرم ولاية الله وأجره، ثم أمره رسوله بأن يبشر الصابرين، وبين في الآية الرابعة(156) حال الصابرين وهي أنهم إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله، فله أن يصيبنا بما شاء لأن ملكه وعبيده، وإن إليه راجعون بالموت، فلا جزع إذاً ولكن تسليم لحكمه ورضًا بقضائه وقدره، وفي الآية الخامسة(157) أخبر تعالى مبشراً أولئك الصابرين بمغفرة ذنوبهم وبرحمة من ربهم، وإنهم المهتدون إلى سعادتهم وكمالهم، فقال: "أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" .
من هداية الآيات:
1- فضيلة الصبر والأمر به والاستعانة بالصبر والصلاة على المصائب والتكاليف في الحديث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
2- فضل الشهداء على غيرهم بحياتهم عند ربهم حياة أكمل من حياة غيرهم في الجنة.
3- قد يبتلى المؤمن بالمصائب في النفس والأهل والمال فيصبر فترتفع درجته ويعلو مقامه عند ربه.
4- فضيلة الاسترجاع عند المصيبة وهو قول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ ،وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ،اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي ،وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا "(11)
وقال تعالى:"مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)"{التغابن:11}
يقول الإمام ابن كثير-رحمه الله- في " تفسيره " : يقول تعالى مخبرًا بما أخبر به في سورة الحديد: "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا " {الحديد : 22} وهكذا قال هاهنا: " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ " قال ابن عباس: بأمر الله، يعني: عن قدره ومشيئته.
" وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعَوَّضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه، ويقينا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ " يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
يقول تعالى مخبرًا بما أخبر به في سورة الحديد: " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا " {الحديد : 22} وهكذا قال هاهنا: " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال ابن عباس: بأمر الله، يعني: عن قدره ومشيئته.
:" وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعَوَّضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه، ويقينا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ " يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وقال تعالى:" وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا"{الفرقان:30} .
ويقول العلامة السعدي – رحمه الله- في " تفسيره لقوله تعالى:" وَقَالَ الرَّسُولُ " مناديًا لربه وشاكيًا له إعراض قومه عما جاء به، ومتأسفًا على ذلك منهم: " يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي " الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم، " اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا " أي: قد أعرضوا عنه وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم الانقياد لحكمه والإقبال على أحكامه، والمشي خلفه، قال الله مسليًا لرسوله ومخبرًا أن هؤلاء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم فقال: " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ " أي: من الذين لا يصلحون للخير ولا يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل.
من بعض فوائد ذلك: أن يعلو الحق على الباطل ،وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحًا عظيمًا لأن معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحًا وبيانًا وكمال استدلال ،وأن يتبين ما يفعل الله بأهل الحق من الكرامة، وبأهل الباطل من العقوبة، فلا تحزن عليهم ،ولا تذهب نفسك عليهم حسرات " وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا " يهديك، فيحصل لك المطلوب ومصالح دينك ودنياك. " وَنَصِيرًا " ينصرك على أعدائك ،ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا، فاكتف به وتوكل عليه.
ـــــــــــــــــــــــ
(1)البخاري(1358)،ومسلم(2658)،وأحمد(7181)،وأبو داود(4714)،والترمذي(2138)عن أبي هريرة.
(2)مسلم(2658).
(3)البخاري(34)،ومسلم(106) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
(4)" مدارج السالكين"للإمام ابن القيم
(5) البخاري (52) ، ومسلم ( 1599)، واللفظ له .
(6)مسلم(2564)،وأحمد (7814، 10973)، وابن ماجة(4143)،وابن حبان في " صحيحه"(394).
(7)مسلم(144)،وأحمد في "المسند"(23328) تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم .
(8)البخاري(6064)،ومسلم(2564)واللفظ له.
(9)صحيح:رواه أحمد (17190)عن العرباض بن سارية،وصححه الألباني في" السلسلة الصحيحة(1545،1546).
(10)صحيح:رواه أحمد(1997) قال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح , رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح غير طليق بن قيس، وأبو داود(1510)،وابن ماجة(3830)وصححه الألباني.
(11)"في ظلال القرآن"للسيد سابق (البقرة:261).
(12)مسلم(1887)،والترمذي(3011)،وابن ماجة( 2801)عن ابن مسعود رضي الله عنه .
(13)لا يقال لمن قتل في سبيل الله مات، بمعنى انقطعت عنه الحياة والشهيد لم يمت وإنما انتقل من حياة ناقصة إلى حياة كاملة دائمة، كما أن لفظ الموت مفزع للإنسان فإذا دارت المعركة وسقط الشهداء، وقيل: مات فلان وفلان يؤثر ذلك في نفس من سمع كلمة: الموت، ولذا لا يقال: مات، ولكن: استشهد.
(14)مسلم(918)،وأحمد(26677) ،وأبو داود(3119)عن أم سلمة رضي الله عنها.
(10) شكر العبد لنعم الله تعالى عليه :
لقوله تعالى:" إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121){النحل:120-121}
يقول الإمام ابن كثير –رحمه الله – في "تفسيره" : يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء, ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية, فقال: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً " فأما الأمة: فهو الإمام الذي يقتدى به, والقانت: هو الخاشع المطيع, والحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد, ولهذا قال: " وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " قال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت, فقال: الأمة معلم الخير, والقانت: المطيع لله ورسوله, وعن مالك قال: قال ابن عمر: الأمة الذي يعلم الناس دينهم, وقال الأعمش عن يحيى بن الجزار عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال: من نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأن ابن مسعود رق له, فقال: أخبرني عن الأمة, فقال: الذي يعلم الناس الخير.
وقال الشعبي: حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفاً, فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن, وقال إنما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} فقال: أتدري ما الأمة وما القانت ؟ قلت: الله أعلم, فقال: الأمة الذي يعلم الخير, والقانت المطيع لله ورسوله, وكذلك كان معاذ.
وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود, أخرجه ابن جرير. وقال مجاهد: أمة أي أمة وحده, والقانت المطيع وقال مجاهد أيضًا: كان إبراهيم أمة :أي مؤمنًا وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار.
وقال قتادة: كان إمام هدى, والقانت المطيع لله. وقوله: "شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ " أي قائماً بشكر نعم الله عليه, كقوله تعالى: " وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى " أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به.
وقوله: " اجْتَبَاهُ " أي اختاره واصطفاه كقوله: " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ", ثم قال: " وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي. وقوله: " وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً " أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة " وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ". وقال مجاهد في قوله: " وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً " أي لسان صدق.
ويقول العلامة السعدي –رحمه الله- : "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً " أي: إماما جامعا لخصال الخير هاديًا مهتديًا. " قَانِتًا لِلَّهِ" أي: مديمًا لطاعة ربه مخلصًا له الدين، "حَنِيفًا" مقبلًا على الله بالمحبة، والإنابة والعبودية معرضًا عمن سواه. { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } في قوله وعمله، وجميع أحواله لأنه إمام الموحدين الحنفاء.
{ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ } أي: آتاه الله في الدنيا حسنة، وأنعم عليه بنعم ظاهرة وباطنة ، فقام بشكرها، فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن { اجْتَبَاهُ } ربه واختصه بخلته وجعله من صفوة خلقه، وخيار عباده المقربين.
{ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } في علمه وعمله فعلم بالحق وآثره على غيره.
(12)الإنابة إلى الله :
قال تعالى:" شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)"{الشورى:13}
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- : قد علمت أن من نزل في منزل التوبة وقام في مقامها نزل في جميع
منازل الإسلام، فإن التوبة الكاملة متضمنة لها وهي مندرجة فيها، ولكن لابد من إفرادها بالذكر والتفصيل تبيينا لحقائقها وخواصها وشروطها، فإذا استقرت قدمه في منزل التوبة نزل بعده منزل الإنابة وقد أمر الله تعالى بها في كتابه، وأثنى على خليله بها فقال :" وأنيبوا إلى ربكم"{الزمر : 54 }وقال : "إن إبراهيم لحليم أواه منيب"{ هود: 75 }وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة ،فقال:" أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها إلى أن قال تبصرة وذكرى لكل عبد منيب"{ ق:68 }وقال تعالى:" هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب "{غافر: 13 }وقال تعالى:" منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة"{الروم:31} الآية.
ف"منيبين "منصوب على الحال من الضمير المستكن في قوله :"فأقم وجهك"{الروم:30}لأن هذا الخطاب له ولأمته. أي: أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه نظيره قوله :"يا أيها النبي إذا طلقتم النساء"{الطلاق:1} ويجوز أن يكون حالًا من المفعول في قوله:" فطر الناس عليها"{الروم:30} أي فطرهم منيبين إليه ،فلو خلوا وفطرهم لما عدلت عن الإنابة إليه ،ولكنها تحول وتتغير عما فُطرت عليه ،كما قال صلى الله عليه وسلم :" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ "(1) وفي رواية : عَلَى الْمِلَّةِ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ " (2)وقال عن نبيه داود:" فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ "{ص : 24 }وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة فقال : " وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) "{ ق : 31-34 }وأخبر سبحانه أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة فقال : :" وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى"{ الزمر : 17}.
"والإنابة" إنابتان : إنابة لربوبيته ،وهي إنابة المخلوقات كلها يشترك فيها المؤمن والكافر ،والبر والفاجر، قال الله تعالى :" وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ "{ الروم : 33 }فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع ،وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام بل تجامع الشرك والكفر ،كما قال تعالى في حق هؤلاء:" ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ "{الروم : 33-34} فهذا حالهم بعد إنابتهم "
والإنابة" الثانية: إنابة أوليائه .وهي إنابة لإلهيته، إنابة عبودية ومحبة .
وهي تتضمن أربعة أمور : محبته ،والخضوع له ،والإقبال عليه ،والإعراض عما سواه، فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربعة،وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك .
وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع والتقدم ،و المنيب إلى الله : المسرع إلى مرضاته، الراجع إليه كل وقت المتقدم إلى محابه .
قال صاحب المنازل : الإنابة في اللغة : الرجوع .وهي وههنا الرجوع إلى الحق .
وهى ثلاثة أشياء : الرجوع إلى الحق إصلاحًا ،كما رجع إليه اعتذارًا ،والرجوع إليه وفاء كما رجع إليه عهدًا، والرجوع إليه حالًا ،كما رجعت إليه إجابة.
لما كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته ،كان من تتمة ذلك : رجوعه إليه بالاجتهاد ،والنصح في طاعته ،كما قال :" إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا "{مريم:60}وقال : " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا "{ البقرة : 160}فلا تنفع توبة وبطالة، فلا بد من توبة وعمل صالح : ترك لما يكره ،وفعل لما يحب ،تخل عن معصيته ،وتحل بطاعته .
وكذلك الرجوع إليه بالوفاء بعهده ،كما رجعت إليه عند أخذ العهد عليك، فرجعت إليه بالدخول تحت عهده أولا،فعليك بالرجوع بالوفاء بما عاهدته عليه ثانيًا. والدين كله : عهد ووفاء ،فإن الله أخذ عهده على جميع المكلفين بطاعته ، فأخذ عهده على أنبيائه ورسله على لسان ملائكته، أو منه إلى الرسول بلا واسطة، كما كلم موسى ،وأخذ عهده على الأمم بواسطة الرسل ،وأخذ عهده على الجهال بواسطة العلماء ،فأخذ عهده على هؤلاء بالتعليم ،وعلى هؤلاء بالتعلم ،ومدح الموفين بعهده ،وأخبرهم بما لهم عنده من الأجر، فقال :" وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)"{الإسراء:34}وقال :" وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ "
{النحل :91}وقال : " وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا "{ البقرة : 177 }وهذا يتناول عهودهم مع الله بالوفاء له بالإخلاص والإيمان والطاعة،
وعهودهم مع الخلق .وأخبر النبي : أن من علامات النفاق:" الغدر بعد العهد"(3) فما أناب إلى الله عز و جل من خان عهده وغدر به ،كما أنه لم ينب إليه من لم يدخل تحت عهده،فالإنابة لا تتحقق إلا بالتزام العهد والوفاء به.
وقوله : والرجوع إليه حالاً كما رجعت إليه إجابة.
أي هو سبحانه قد دعاك فأجبته بلبيك وسعديك قولًا، فلا بد من الإجابة حالًا تصدق به المقال ،فإن الأحوال تصدق الأقوال أو تكذبها ،وكل قول فلصدقه وكذبه شاهد من حال قائله ،فكما رجعت إلى الله إجابة بالمقال، فارجع إليه إجابة بالحال، قال الحسن رحمه الله : ابن آدم لك قول وعمل ،وعملك أولى بك من قولك ،ولك سريرة وعلانية ،وسريرتك أملك بك من علانيتك.
قال : وإنما يستقيم الرجوع إليه إصلاحا بثلاثة أشياء : بالخروج من التبعات ،والتوجع للعثرات، واستدراك الفائتات .
والخروج من التبعات" : هو بالتوبة من الذنوب التي بين العبد وبين الله ،وأداء الحقوق التي عليه للخلق .
والتوجع للعثرات يحتمل شيئين:
أحدهما : أن يتوجع لعثرته إذا عثر ،فيتوجع قلبه وينصدع ،وهذا دليل على إنابته إلى الله ،بخلاف من لا يتألم قلبه ،ولا ينصدع من عثرته ،فإنه دليل على فساد قلبه وموته .
الثاني : أن يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر ،حتى كأنه هو الذي عثر بها ،ولا يشمت به فهو دليل على رقة قلبه وإنابته .
واستدراك الفائتات : هو استدراك ما فاته من طاعة وقربة بأمثالها أو خير منها ،ولا سيما في بقية عمره عند قرب رحيله إلى الله ،فبقية عمر المؤمن لا قيمة لها ،يستدرك بها ما فات، ويحيي بها ما أمات.
وقال : وإنما يستقيم الرجوع إليه عهدًا بثلاثة أشياء: بالخلاص من لذة الذنب ،وبترك الاستهانة بأهل الغفلة تخوفا عليهم ،مع الرجاء لنفسك وبالاستقصاء في رؤية علة الخدمة.
إذا صفت له الإنابة إلى ربه تخلص من الفكرة في لذة الذنب ،وعاد مكانها ألمًا وتوجعًا لذكره والفكرة فيه،فما دامت لذة الفكرة فيه موجودة في قلبه فإنابته غير صافية.
فإن قيل : أي الحالين أعلى؟ حال من يجد لذة الذنب في قلبه فهو يجاهدها لله ،ويتركها من خوفه ومحبته وإجلاله ،أو حال من ماتت لذة الذنب في قلبه وصار مكانها ألما وتوجعا وطمأنينة إلى ربه وسكونًا إليه والتذاذا بحبه وتنعمًا بذكره؟.
قيل : حال هذا أكمل وأرفع ،وغاية صاحب المجاهدة: أن يجاهد نفسه حتى يصل إلى مقام هذا ومنزلته ،ولكنه يتلوه في المنزلة والقرب ومنوط به.
فإن قيل : فأين أجر مجاهدة صاحب اللذة وتركه محابه لله ،وإيثاره رضي الله على هواه ؟وبهذا كان النوع الإنساني أفضل من النوع الملكي عند أهل السنة ،وكانوا خير البرية ،والمطمئن قد استراح من ألم هذه المجاهدة وعوفي منها ،فبينهما من التفاوت ما بين درجة المعافى والمبتلى.
قيل : النفس لها ثلاثة أحوال : الأمر بالذنب ،ثم اللوم عليه ،والندم منه ،ثم الطمأنينة إلى ربها ،والإقبال بكليتها عليه ،وهذه الحال أعلى أحوالها وأرفعها ،وهي التي يشمر إليها المجاهد ،وما يحصل له من ثواب مجاهدته وصبره فهو لتشميره إلى درجة الطمأنينة إلى الله ،فهو بمنزلة راكب القفار ،والمهامة والأهوال،ليصل إلى البيت فيطمئن قلبه برؤيته والطواف به ،والآخر بمنزلة من هو مشغول به طائفًا وقائمًا،وراكعًا وساجدًا، ليس له التفات إلى غيره ، فهذا مشغول بالغاية ،وذاك بالوسيلة ،وكل له أجر ،ولكن بين أجر الغايات وأجر الوسائل بون، وما يحصل للمطمئن من الأحوال والعبودية والإيمان فوق ما يحصل لهذا المجاهد نفسه في ذات الله ،وإن كان أكثر عملًا ،فقدر عمل المطمئن المنيب بجملته وكيفيته أعظم ،وإن كان هذا المجاهد أكثر عملًا ،وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فما سبق الصديق الصحابة بكثرة عمل ،وقد كان فيهم من هو أكثر صيامًا وحجًا وقراءة وصلاة منه ، ولكن بأمر آخر قام بقلبه ،حتى إن أفضل الصحابة كان يسابقه ولا يراه إلا أمامه، ولكن عبودية مجاهد نفسه على لذة الذنب والشهوة ،قد تكون أشق ولا يلزم من مشقتها تفضيلها في الدرجة .
ومن علامات الإنابة : ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم ،مع فتحك باب الرجاء لنفسك، فترجو لنفسك الرحمة ،وتخشى على أهل الغفلة النقمة، ولكن ارج لهم الرحمة ،واخش على نفسك النقمة ،فإن كنت لا بد مستهينًا بهم ،ماقتًا لهم لانكشاف أحوالهم لك ورؤية ما هم عليه، فكن لنفسك أشد مقتًا منك لهم، وكن لهم أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك .قال بعض السلف : لن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ،ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتًا .
وهذا الكلام لا يفقه معناه إلا الفقيه في دين الله ،فإن من شهد حقيقة الخلق وعجزهم وضعفهم وتقصيرهم، بل تفريطهم وإضاعتهم لحق الله ،وإقبالهم على غيره ،وبيعهم حظهم من الله بأبخس الثمن من هذا العاجل الفاني، لم يجد بدًا من مقتهم ،ولا يمكنه غير ذلك ألبتة ،ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره وكان على بصيرة من ذلك : كان لنفسه أشد مقتًا ،واستهانة فهذا هو الفقيه.
وأما الاستقصاء في رؤية علل الخدمة : فهو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس ،وتمييز حق الرب منها من حظ النفس ،ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظًا لنفسك وأنت لا تشعر.
(13)الاعتصام بالله تعالى:
لقوله تعالى:"وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101){آل عمران:101}
يقول الإمام ابن كثير –رحمه الله -:يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من الذين أوتوا الكتاب، الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، وما مَنَحهم به من إرسال رسوله (1) كما قال تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } {البقرة:109} وهكذا قال هاهنا: { إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } ثُمَّ قَالَ { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } يعني: أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه؛ فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلًا ونهارًا، وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم، وهذا كقوله تعالى: "وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " {الحديد:8} والآية بعدها. ثم قال تعالى: :"وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " أيّ: ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العُمْدة في الهداية، والعُدَّة في مباعدة الغَواية، والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد، وحصول المراد.
ويقول الإمام الطبري في تفسيره: قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وكيف تكفرون"، أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله، فترتدّوا على أعقابكم "وأنتم تتلى عليكم آيات الله"، يعني: حججُ الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم "وفيكم رسوله" حجةٌ أخرَى عليكم لله، مع آي كتابه، يدعوكم جميع ذلك إلى الحقّ، ويبصِّركم الهدَى والرشاد، وينهاكم عن الغيّ والضلال؟. يقول لهم تعالى ذكره: فما وجه عُذْركم عند ربكم في جحودكم نبوَّة نبيِّكم، وارتدادكم على أعقابكم، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم، إنْ أنتم راجعتم ذلك وكفرتم، وفيه هذه الحجج الواضحة والآياتُ البينة على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه؟ كما:-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله" الآية، علَمان بيِّنان: وُجْدان نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكتابُ الله. فأما نبيّ الله فمضى صلى الله عليه وسلم. وأما كتاب الله، فأبقاه الله بين أظهُركم رحمة من الله ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
وأما قوله:"ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم"، فإنه يعني: ومن يتعلق بأسباب الله، ويتمسَّك بدينه وطاعته فقد هدى، يقول: فقد وُفِّق لطريق واضح، ومحجةٍ مستقيمة غير معوجَّة، فيستقيم به إلى رضي الله، وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته.
ويقول الإمام الطبري –رحمه الله- في تفسيره:القول في تأويل قوله : " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا "
وقال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين صدَّقوا الله وأقرّوا بوحدانيته، وما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم من أهل الملل" وَاعْتَصَمُوا بِهِ "، يقول: وتمسكوا بالنور المبين الذي أنزله إلى نبيه.
وعن ابن جريج:" وَاعْتَصَمُوا بِهِ "، قال: بالقرآن.
" فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ "، يقول: فسوف تنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه، وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته، ويلحَقهم من فضله ما لَحِق أهل الإيمان به والتصديق برسله " وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا "، يقول: ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه، ويسدِّدهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته، ولاقتفاء آثارهم واتباع دينهم. وذلك هو"الصراط المستقيم"، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو الإسلام . ونصب"الصراط المستقيم" على القطع من"الهاء" التي في قوله:"إليه".
(14) سلامة القلب :
قال تعالى:" يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ "{الشعراء:88-89}
وامتد ح الله تعالى نبيه وخليله إبراهيم لسلامة قلبه ، فقال تعالى:" سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {الصافات : 79-84}
ولقوله تعالى : " وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ " {الحجرات :7}
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ يَقُولُ :«إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبِيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلبُ».(5)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ:"إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ".(6)
وعن حذيفة رضي الله عنه ، قال :سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ:"تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ ، عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا ، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْب أَنْكَرَهَا ، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفََا ، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا ، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا ، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ، وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا ، إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".(7)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :" لَا تَحَاسَدُوا ،وَلَا تَنَاجَشُوا ،وَلَا تَبَاغَضُوا ،وَلَا تَدَابَرُوا ،وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ،وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ،الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ ،وَلَا يَخْذُلُهُ ،وَلَا يَحْقِرُهُ ،التَّقْوَى هَاهُنَا- وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ ،وَمَالُهُ ،وَعِرْضُهُ".(8)
الشاهد من الحديث: قوله " التَّقْوَى هَاهُنَا". وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
إنَّ هذا الدين إنما نزل في حقيقته لتزكية القلوب وإصلاحها، ولهذا يقول:"أنا دَعْوَةُ أبي إِبْرَاهِيمَ ".(9)
ودعوة أبينا إبراهيم هي ما في قوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" {البقرة:129}فإبراهيم عليه السلام دعا الله لما بني هذا البيت العظيم "العتيق" أن يبعث في هذه الأمة هذا الرسول وبهذه الأهداف والأغراض، وقد استجاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دعوة إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ {الجمعة:2}.
فنلاحظ هنا أن هذه الأمور الثلاثة المدعو بها اختلفت ترتيبها، فتقدمت التزكية على التعليم، ولاشك أن الإنسان لا يمكن أن يتزكى إلا بأن يتعلم الكتاب والسنة، فيتعلم الهدى الذي جاء به النبي ؛ لكن عندما تتقدم التزكية فهي من باب تقديم الغرض والغاية على الوسيلة التي تؤدي إلى هذه الغاية.
فالأصل هي: تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد كما في الحديث: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ".
وهذه القلوب هي محل الابتلاء والتمحيص ومحل الأعمال التي لو استعرضناها؛ لعجبتم ولعلمتم أن لهذه القلوب شأنًا عظيمًا عند الله تبارك وتعالى، كيف لا والقلب هو الذي إذا كان حيًا فإن الجسد يحيا معه، وإذا مات مات الجسد.
دعاءه لربه بأن يهد قلبه ويسلل سخيمته:
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ،قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو :"رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ ،وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ ،وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ ،وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ هُدَايَ إِلَيَّ ،وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي لَكَ شَاكِرًا ،لَكَ ذَاكِرًا ،لَكَ رَاهِبًا ،لَكَ مِطْوَاعًا ،إِلَيْكَ مُخْبِتًا أَوْ مُنِيبًا ،رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي ،وَاغْسِلْ حَوْبَتِي ،وَأَجِبْ دَعْوَتِي ،وَثَبِّتْ حُجَّتِي ،وَاهْدِ قَلْبِي ،وَسَدِّدْ لِسَانِي ،وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي".(10)
(15)المجاهدة في الله:
لقوله تعالى :"وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)"{العنكبوت :69}
يقول فضيلة الشيخ سيد قطب –رحمه الله – في تفسيره: ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله ؛ أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيه الحكمة ، وتمنحه ذلك الخير الكثير .
إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما : طريق الله ، وطريق الشيطان ، أن يستمع إلى وعد الله ، أو أن يستمع إلى وعد الشيطان ، ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده ،فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده ، ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق، المنهج الذي شرعه الله ،وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان ،
هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد ، كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله، ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب ، ليست هنالك شبهة ولا غشاوة ،الله ،أو الشيطان ،منهج الله ، أو منهج الشيطان ، طريق الله ،أو طريق الشيطان ،ولمن شاء أن يختار " لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ "{الأنفال:42} لا شبهة ،ولا غبش ،ولا غشاوة ،وإنما هو الهدى أو الضلال،وهو الحق واحد لا يتعدد ، "فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ"؟!{يونس:32}.(11)
(16)اتباع رضوان الله :
لقوله تعالى:" يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)"{المائدة:15-16}
يقول العلامة السعدي –رحمه الله- في "تفسيره": لما ذكر تعالى ما أخذه الله على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأنهم نقضوا ذلك إلا قليلًا منهم، أمرهم جميعًا أن يؤمنوا بمحمد ، واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته، وهي: أنه بين لهم كثيرا مما يُخْفُون عن الناس، حتى عن العوام من أهل ملتهم، فإذا كانوا هم المشار إليهم في العلم ولا علم عند أحد في ذلك الوقت إلا ما عندهم، فالحريص على العلم لا سبيل له إلى إدراكه إلا منهم، فإتيان الرسول
بهذا القرآن العظيم الذي بيَّن به ما كانوا يتكاتمونه بينهم، وهو أُمِّيّ لا يقرأ ولا يكتب - من أدل الدلائل على القطع برسالته، وذلك مثل صفة محمد في كتبهم، ووجود البشائر به في كتبهم، وبيان آية الرجم ونحو ذلك.
" وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ " أي: يترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة.
" قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ " وهو القرآن، يستضاء به في ظلمات الجهالة وعماية الضلالة.
" وَكِتَابٌ مُّبِينٌ " لكل ما يحتاج الخلق إليه من أمور دينهم ودنياهم. من العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن العلم بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية.
ثم ذكر مَنْ الذي يهتدي بهذا القرآن، وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك، فقال: " يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ " أي: يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله، وصار قصده حسنًا -سبل السلام التي تسلم صاحبها من العذاب، وتوصله إلى دار السلام، وهو العلم بالحق والعمل به، إجمالًا وتفصيلًا.
" وَيُخْرِجُهُم مِّن " ظلمات الكفر والبدعة والمعصية والجهل والغفلة، إلى نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم والذكر. وكل هذه الهداية بإذن الله، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. " وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ " .
(17)ارتباط الهداية بالصبر على البلاء وحسن التوكل على الله :
لقوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ(154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157){البقرة:153-157}
شرح الكلمات:
الاستعانة : طلب المعونة والقدرة على القول أو العمل.
الصبر : حمل النفس على المكروه وتوطينها على احتمال المكاره.
الشعور : الإحساس بالشيء المفضي إلى العلم به.
الابتلاء : الاختبار والامتحان لإظهار ما عليه الممتحن من قوة أو ضعف.
الأموال : جمع مال وقد يكون ناطقًا وهو المواشي، ويكون صامتًا وهو النقدان وغيرها.
المصيبة : ما يصيب العبد من ضرر في نفسه أو أهله أو ماله.
الصلوات : جمع صلاة وهي من الله تعالى هنا المغفرة لعطف الرحمة عليها.
ورحمة : الرحمة: الإنعام وهو جلب ما يسر، ودفع ما يضر، وأعظم ذلك دخول الجنة بعد النجاة من النار.
المهتدون : إلى طريق السعادة والكمال بإيمانهم وابتلاء الله تعالى لهم وصبرهم على ذلك.
معنى الآيات:
نادى الرب تعالى عباده المؤمنين وهم أهل ملة الإسلام المسلمون ليرشدهم إلى ما يكون عوناً لهم على الثبات على قبلتهم التي اختارها لهم، وعلى ذكر ربهم وشكره وعدم نسيانه وكفره فقال:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا " أي على ما طلب منكم من الثبات والذكر والشكر، وترك النسيان والكفر بالصبر الذي هو توطين النفس وحملها على أمر الله تعالى به وبإقام الصلاة، وأعلمهم أنه مع الصابرين يمدهم بالعون والقوة، فإذا صبروا نالهم عون الله تعالى وتقويته وهذا ما تضمنته الآية الأولى(153). أما الآية الثانية(154) فقد تضمنت نهيه تعالى لهم أن يقولوا معتقدين أن من قتل في سبيل الله إذ هو حي في البرزخ وليس بميت، بل هو حي يرزق في الجنة كما قال : " « أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ ".(12) .فلذا لا يقال لمن قُتل في سبيل الله: مات ،ولكن استشهد ،وهو شهيد وحي عند ربه حياة لا نحسها ولا نشعر بها بمفارقتها للحياة في هذه الدار. (13)
وأما الآية الثالثة(155) فإنه يُقسم تعالى لعباده المؤمنين على أنه يبتليهم بشيء من الخوف بواسطة أعداءه وأعدائهم وهم الكفار عندما يشنون الحروب عليهم وبالجوع لحصار العدو ولغيره من الأسباب، وبنقص الأموال الماشية للحرب والقحط، وبالأنفس؛ كموت الرجال، وبفساد الثمار بالجوائح، كل ذلك لإظهار من يصبر على إيمانه وطاعة ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه، ومن لا يصبر فيحرم ولاية الله وأجره، ثم أمره رسوله بأن يبشر الصابرين، وبين في الآية الرابعة(156) حال الصابرين وهي أنهم إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله، فله أن يصيبنا بما شاء لأن ملكه وعبيده، وإن إليه راجعون بالموت، فلا جزع إذاً ولكن تسليم لحكمه ورضًا بقضائه وقدره، وفي الآية الخامسة(157) أخبر تعالى مبشراً أولئك الصابرين بمغفرة ذنوبهم وبرحمة من ربهم، وإنهم المهتدون إلى سعادتهم وكمالهم، فقال: "أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" .
من هداية الآيات:
1- فضيلة الصبر والأمر به والاستعانة بالصبر والصلاة على المصائب والتكاليف في الحديث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
2- فضل الشهداء على غيرهم بحياتهم عند ربهم حياة أكمل من حياة غيرهم في الجنة.
3- قد يبتلى المؤمن بالمصائب في النفس والأهل والمال فيصبر فترتفع درجته ويعلو مقامه عند ربه.
4- فضيلة الاسترجاع عند المصيبة وهو قول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ ،وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ،اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي ،وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا "(11)
وقال تعالى:"مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)"{التغابن:11}
يقول الإمام ابن كثير-رحمه الله- في " تفسيره " : يقول تعالى مخبرًا بما أخبر به في سورة الحديد: "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا " {الحديد : 22} وهكذا قال هاهنا: " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ " قال ابن عباس: بأمر الله، يعني: عن قدره ومشيئته.
" وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعَوَّضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه، ويقينا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ " يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
يقول تعالى مخبرًا بما أخبر به في سورة الحديد: " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا " {الحديد : 22} وهكذا قال هاهنا: " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال ابن عباس: بأمر الله، يعني: عن قدره ومشيئته.
:" وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعَوَّضه عما فاته من الدنيا هُدى في قلبه، ويقينا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: " وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ " يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وقال تعالى:" وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا"{الفرقان:30} .
ويقول العلامة السعدي – رحمه الله- في " تفسيره لقوله تعالى:" وَقَالَ الرَّسُولُ " مناديًا لربه وشاكيًا له إعراض قومه عما جاء به، ومتأسفًا على ذلك منهم: " يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي " الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم، " اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا " أي: قد أعرضوا عنه وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم الانقياد لحكمه والإقبال على أحكامه، والمشي خلفه، قال الله مسليًا لرسوله ومخبرًا أن هؤلاء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم فقال: " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ " أي: من الذين لا يصلحون للخير ولا يزكون عليه يعارضونهم ويردون عليهم ويجادلونهم بالباطل.
من بعض فوائد ذلك: أن يعلو الحق على الباطل ،وأن يتبين الحق ويتضح اتضاحًا عظيمًا لأن معارضة الباطل للحق مما تزيده وضوحًا وبيانًا وكمال استدلال ،وأن يتبين ما يفعل الله بأهل الحق من الكرامة، وبأهل الباطل من العقوبة، فلا تحزن عليهم ،ولا تذهب نفسك عليهم حسرات " وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا " يهديك، فيحصل لك المطلوب ومصالح دينك ودنياك. " وَنَصِيرًا " ينصرك على أعدائك ،ويدفع عنك كل مكروه في أمر الدين والدنيا، فاكتف به وتوكل عليه.
ـــــــــــــــــــــــ
(1)البخاري(1358)،ومسلم(2658)،وأحمد(7181)،وأبو داود(4714)،والترمذي(2138)عن أبي هريرة.
(2)مسلم(2658).
(3)البخاري(34)،ومسلم(106) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
(4)" مدارج السالكين"للإمام ابن القيم
(5) البخاري (52) ، ومسلم ( 1599)، واللفظ له .
(6)مسلم(2564)،وأحمد (7814، 10973)، وابن ماجة(4143)،وابن حبان في " صحيحه"(394).
(7)مسلم(144)،وأحمد في "المسند"(23328) تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم .
(8)البخاري(6064)،ومسلم(2564)واللفظ له.
(9)صحيح:رواه أحمد (17190)عن العرباض بن سارية،وصححه الألباني في" السلسلة الصحيحة(1545،1546).
(10)صحيح:رواه أحمد(1997) قال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح , رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح غير طليق بن قيس، وأبو داود(1510)،وابن ماجة(3830)وصححه الألباني.
(11)"في ظلال القرآن"للسيد سابق (البقرة:261).
(12)مسلم(1887)،والترمذي(3011)،وابن ماجة( 2801)عن ابن مسعود رضي الله عنه .
(13)لا يقال لمن قتل في سبيل الله مات، بمعنى انقطعت عنه الحياة والشهيد لم يمت وإنما انتقل من حياة ناقصة إلى حياة كاملة دائمة، كما أن لفظ الموت مفزع للإنسان فإذا دارت المعركة وسقط الشهداء، وقيل: مات فلان وفلان يؤثر ذلك في نفس من سمع كلمة: الموت، ولذا لا يقال: مات، ولكن: استشهد.
(14)مسلم(918)،وأحمد(26677) ،وأبو داود(3119)عن أم سلمة رضي الله عنها.