عقيدة أهل السنة والجماعة في نعيم القبر وعذابه
لفضيلة الشيخ محمد حسين يعقوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه، وبعد
إخوتاه..
لعمر الله، إن الجبين ليندى استحياء من الله مما نحن فيه في هذا الزمان، فها هم السفهاء يعتلون منابر التشكيك في قضايا الاعتقاد، وتنطق الرويبضة بمقالة السوء، وصاروا ينكرون ما تعارف عليه أهل الإيمان منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام..
فمرة ينكرون الشفاعة الثابتة بأحاديث متواترة قطعية الثبوت، وينالون من حجية السنة المطهرة ومن أصحاب الحديث، ويقولون: نأخذ بكتاب الله، أما السنة فمدارها على أخبار الآحاد الظنية، ولا سبيل للظن في مسائل الاعتقاد!!
والأمر على خلاف ذلك، بل "خبر الآحاد" يؤخذ به في العقيدة، فإن تنزلت معهم فقلت لهم:فماذا أنتم قائلون – مثلا – في عقيدة "الولاء والبراء" المنصوص عليها بآي القرآن، راحوا يقلبون الأبصار؛ فإما يعرضون وإما يؤولون ويلوون النصوص بالهوى، وإما يعطلون.
فالخَطْب ليس حجية قرآن أو سنة – عَلم الله – إنما هو الهوى، فكيف بربك تفسر أن يظل الواحد من هؤلاء يعصي الله آناء الله والنهار، لا تراه يصلي، تسأل فتراه مهموزا في خلقه وسلوكه، ثم يستيقظ من سكره ليكتب في إبطال عقائد الإسلام، وهو من جلدتنا، ويتكلم بلساننا، وتفتح له الصحف الصفراء أبوابها على المصراعين، لينال من دين الله؟ حقا، لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا.
وسبحان الله!
المسكين لا يدري ما الفرق بين الحديث والأثر، ولا يعرف معنى الإسناد، ولا يدري من رجاله.
جهل مطبق، وعناد بالباطل، وأحقاد على الدعاة وأهل العلم عجيبة، ونسأل الله المعافاة والنجاة.
وتجد آخرين ما تربوا في كنف العلماء، وعلمهم بالدين ضحل، ويأتي ليضعف لك أحاديث في البخاري، ويؤول لك النصوص وفق فهمه القاصر!!
وكأنه لا علم يدعى بـ "مصطلح الحديث" توزن به نصوص السنة, ولا علم يسمى بـ "أصول الفقه" يضبط فهم النصوص وتفسيرها, وكأنه لم ينقل لنا بالتواتر المعنوي – فضلا عن اللفظي, جيلا بعد جيل – عقيدة السلف الصالح. يقول السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 28, 29):
وكيف يقاس من نشأ في حجر العلم منذ كان في مهده, ودأب فيه غلاما وشابا, حتى وصل إلى قصده – بدخيل أقام سنوات في لهو ولعب, وقطع أوقاتا يحترف فيها أو يكتسب, ثم لاحت منه التفاتة إلى العلم, فنظر فيه وما احتكم, وقنع منه بتحلة القسم, ورضي بأن يقال: "عالم" وما اتسم.
آه من الأهواء وصنيعها في أرباب العقول البعيدة عن نور الوحي, تأخذ أحدهم الفكرة العابرة، ثم يلعب به هواه, فتختمر الفكرة الشيطانية في ذهنه, ثم يصبح يجمع لها أصحاب الهوى، ويكتب ويناطح, وهو أجهل من دابة.
أوتراه غير مؤمن أومصدق بعذاب القبر مثلا, ويحيل عقله المظلم أن يكون هذا من عقيدة الإسلام, فما يلبث أن ينكر كل ما عدا هواه.
فالنصوص يضرب بها عرض الحائط بالطعن في الثبوت ؛ فمرة يطعنون في أبي هريرة راوية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتارة يطعنون في كتب الحديث – التي تلقاها العلم منذ أكثر من اثني عشر قرنا – بالقبول – أو يردون تلك النصوص بالتأويل الفاسد أو بالتعطيل, كأن يتشدق بالنسخ بلا دلالة, إلى آخر تلك المهاترات الفارغة والمهارشات السفيهة.
فيا أخا الإسلام...
عليك بالعتيق, عليك بكتاب الله, وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم بإحسان, ودع عنك قول أهل الزور والباطل والبهتان, إنه دينك, فانظر عمن تأخذه, فهل ترضى أن تتعلم دينك على يد فساق أو مخرفين أو ضلال، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؟!
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيقرأ القرآن رجال لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"
قيل لأنس بن مالك: يا أبا حمزة, إن قوما يكذبون بعذاب القبر. قال: فلا تجالسوا أولئك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بين يدي الساعة سنون خداعة, يكذب فيها الصادق, ويصدق فيها الكاذب ويؤتمن فيها الخائن, ويخوّن فيها الأمين, وينطق فيها الرويبضة" قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: "السفيه يتكلم في أمر العامة".
إخوتاه..
لعمر الله، إن الجبين ليندى استحياء من الله مما نحن فيه في هذا الزمان، فها هم السفهاء يعتلون منابر التشكيك في قضايا الاعتقاد، وتنطق الرويبضة بمقالة السوء، وصاروا ينكرون ما تعارف عليه أهل الإيمان منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام..
فمرة ينكرون الشفاعة الثابتة بأحاديث متواترة قطعية الثبوت، وينالون من حجية السنة المطهرة ومن أصحاب الحديث، ويقولون: نأخذ بكتاب الله، أما السنة فمدارها على أخبار الآحاد الظنية، ولا سبيل للظن في مسائل الاعتقاد!!
والأمر على خلاف ذلك، بل "خبر الآحاد" يؤخذ به في العقيدة، فإن تنزلت معهم فقلت لهم:فماذا أنتم قائلون – مثلا – في عقيدة "الولاء والبراء" المنصوص عليها بآي القرآن، راحوا يقلبون الأبصار؛ فإما يعرضون وإما يؤولون ويلوون النصوص بالهوى، وإما يعطلون.
فالخَطْب ليس حجية قرآن أو سنة – عَلم الله – إنما هو الهوى، فكيف بربك تفسر أن يظل الواحد من هؤلاء يعصي الله آناء الله والنهار، لا تراه يصلي، تسأل فتراه مهموزا في خلقه وسلوكه، ثم يستيقظ من سكره ليكتب في إبطال عقائد الإسلام، وهو من جلدتنا، ويتكلم بلساننا، وتفتح له الصحف الصفراء أبوابها على المصراعين، لينال من دين الله؟ حقا، لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا.
وسبحان الله!
المسكين لا يدري ما الفرق بين الحديث والأثر، ولا يعرف معنى الإسناد، ولا يدري من رجاله.
جهل مطبق، وعناد بالباطل، وأحقاد على الدعاة وأهل العلم عجيبة، ونسأل الله المعافاة والنجاة.
وتجد آخرين ما تربوا في كنف العلماء، وعلمهم بالدين ضحل، ويأتي ليضعف لك أحاديث في البخاري، ويؤول لك النصوص وفق فهمه القاصر!!
وكأنه لا علم يدعى بـ "مصطلح الحديث" توزن به نصوص السنة, ولا علم يسمى بـ "أصول الفقه" يضبط فهم النصوص وتفسيرها, وكأنه لم ينقل لنا بالتواتر المعنوي – فضلا عن اللفظي, جيلا بعد جيل – عقيدة السلف الصالح. يقول السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 28, 29):
وكيف يقاس من نشأ في حجر العلم منذ كان في مهده, ودأب فيه غلاما وشابا, حتى وصل إلى قصده – بدخيل أقام سنوات في لهو ولعب, وقطع أوقاتا يحترف فيها أو يكتسب, ثم لاحت منه التفاتة إلى العلم, فنظر فيه وما احتكم, وقنع منه بتحلة القسم, ورضي بأن يقال: "عالم" وما اتسم.
آه من الأهواء وصنيعها في أرباب العقول البعيدة عن نور الوحي, تأخذ أحدهم الفكرة العابرة، ثم يلعب به هواه, فتختمر الفكرة الشيطانية في ذهنه, ثم يصبح يجمع لها أصحاب الهوى، ويكتب ويناطح, وهو أجهل من دابة.
أوتراه غير مؤمن أومصدق بعذاب القبر مثلا, ويحيل عقله المظلم أن يكون هذا من عقيدة الإسلام, فما يلبث أن ينكر كل ما عدا هواه.
فالنصوص يضرب بها عرض الحائط بالطعن في الثبوت ؛ فمرة يطعنون في أبي هريرة راوية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتارة يطعنون في كتب الحديث – التي تلقاها العلم منذ أكثر من اثني عشر قرنا – بالقبول – أو يردون تلك النصوص بالتأويل الفاسد أو بالتعطيل, كأن يتشدق بالنسخ بلا دلالة, إلى آخر تلك المهاترات الفارغة والمهارشات السفيهة.
فيا أخا الإسلام...
عليك بالعتيق, عليك بكتاب الله, وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم بإحسان, ودع عنك قول أهل الزور والباطل والبهتان, إنه دينك, فانظر عمن تأخذه, فهل ترضى أن تتعلم دينك على يد فساق أو مخرفين أو ضلال، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؟!
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيقرأ القرآن رجال لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"
قيل لأنس بن مالك: يا أبا حمزة, إن قوما يكذبون بعذاب القبر. قال: فلا تجالسوا أولئك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بين يدي الساعة سنون خداعة, يكذب فيها الصادق, ويصدق فيها الكاذب ويؤتمن فيها الخائن, ويخوّن فيها الأمين, وينطق فيها الرويبضة" قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: "السفيه يتكلم في أمر العامة".
الأدلة من القرآن الكريم على عذاب القبر ونعيمه
الأدلة في القرآن كثيرة ومنها:-
1- قوله تعالى: {وَلَوتَرَى إِذِالظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَالْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّوَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}(الأنعام: 93)
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا خطاب لهم عند الموت، وقد أخبَرَت به الملائكة – وهم الصادقون –، ولو كانوا حينئذ في الدنيا لما صحّ أن يقال لهم: اليوم تجزون.
2- وقوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(غافر 45 – 46).
فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره.
3- وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} (الطور: 45 – 46).
وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ, لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا.
وقد يقال – وهو أظهر -: إن من مات منهم عذب في البرزخ, ومن بقي منهم عذب في الدنيا بالقتل وغيره, فهو وعيد بعذابهم في الدنيا والبرزخ.
4 - قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} ]إبراهيم: 27 [.
في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إذا سئل في قبره شهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله" – وفي لفظ: "نزلت في عذاب القبر" يقال له من ربك؟ فيقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيّي محمد – وذلك قول الله تعالى -: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَآمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِيالآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم: 27 ].
قال ابن عباس: المخاطبة في القبر يقول: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وفي الآخرة: مثل ذلك.
5- قال تعالى: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}] المؤمنون: 100 [.
فعذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه, وهو ما بين الدنيا والآخرة, وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة, وسمي عذاب القبر ونعيمه, لأنه روضة أو حفرة نار, باعتبار غالب الخلق, فالمصلوب, والحريق, والغريق, وأكيل السباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله, وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما.
الأدلة من السنة المطهرة على عذاب القبر ونعيمه
وهي - أيضا – كثيرة نذكر منها:
1- في"البخاري" عن عائشة رضي الله عنها, أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر, فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر. فقال: "نعم, عذاب القبر حق" قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر.
2- وفي "صحيح مسلم" عن عروة ين الزبير أن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما تفتن يهود". قالت عائشة: فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل شعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟" قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر.
3- عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس فسمع صوتا, فقال: "يهود تعذب في قبورها"
4- وفي "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير, أما أحدهما: فكان لا يستتر من بوله, وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة" ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين, ثم غرز في كل قبر واحدة. فقالوا: يا رسول الله, لم فعلت هذا؟ قال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا"
5- وفي "صحيح مسلم" عن زيد بن ثابت قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له – ونحن معه – إذ حادت به فكادت تلقيه, فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة. فقال: "من يعرف هذه الأقبر؟" فقال رجل: أنا. قال: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها, فلولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه". ثم أقبل علينا بوجهه فقال: "تعوٌذوا بالله من عذاب النار" قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال "تعوٌذوا بالله من عذاب القبر" قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: "تعوّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن" قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال "تعوّذوا بالله من فتنة الدجال" قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال قال القرطبي – رحمه الله تعالى – وإنما حادت به البغلة لما سمعت من صوت المعذبين, وإنما لم يسمعه من يعقل من الجن والإنس, لقوله عليه الصلاة والسلام: "لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر"
فكتمه الله سبحانه عنا حتى نتدافن بحكمته الإلهية ولطائفه الربانية سبحانه جل جلاله الرحيم, لغلبة الخوف عند سماعه, فلا نقدر على القرب من القبر للدفن, أو يهلك الحي عند سماعه, إذ لا يطاق سماع شيء من عذاب الله في هذه الدار لضعف هذه القوى, ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس؟ وأين صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد التي يسمعها كل من يليه؟
وقال صلى الله عليه وسلم – في الجنازة -: "إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم, فإن كانت صالحة قالت: قدموني, وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها, أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان, ولو سمع الإنسان لصعق".
قلت: هذا وهو على رؤوس الرجال من غير ضرب ولا هوان, فكيف إذا حل به الخزي والنكال، واشتد عليه العذاب والوبال؟
فنسأل الله معافاته, ومغفرته, وعفوه, ورحمته, ومنه, وهو الرحيم, وهو البر الكريم سبحانه جلا جلاله.
ومن الأدلة كذلك:
6- ما جاء في "صحيح مسلم" من حديث جابر بن عبد الله الطويل, أن النبي لما قضى حاجته، واستتر بظل شجرة قال: "يا جابر, هل رأيت مقامي؟" قلت: نعم يا رسول الله. قال: "فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا فأقبل بهما, حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك"
قال جابر: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحسرته فانذلق لي, فأتيت الشجرتين, فقطعت من كل واحدة منهما غصنا, ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري, ثم لحقته فقلت: قد فعلت يا رسول الله, فعم ذاك؟ قال: "إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين".
7 – عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العبد إذا وضع في قبره, وتولى وذهب أصحابه – حتى إنه ليسمع قرع نعالهم – أتاه ملكان فأقعداه, فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فيراهما جميعا. وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه, فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين".
8- وكان صلى الله عليه وسلم - في غير ما موضع - يستعيذ بالله من عذاب القبر، بل ويعلم صحابته كثرة التعوذ منه.
· عن موسى بن عقبة قال: حدثتني ابنة خالد بن سعيد بن العاص: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتعوذ من عذاب القبر.
· عن عمرو بن ميمون الأوديّ قال: كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من الجبن, وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر, وأعوذ بك من فتنة الدنيا, وأعوذ بك من عذاب القبر".
· عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز, والكسل, والجبن والهرم, وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات, وأعوذ بك من عذاب القبر".
· عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع, يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم, ومن عذاب القبر, ومن فتنة المحيا والممات, ومن شر فتنة المسيح الدجال".
· عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم متّعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبأبي أبي سفيان, وبأخي معاوية, قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سألت الله لآجال مضروبة, وأيام معدودة, وأرزاق مقسومة, لن يعجل شيئا قبل حله, أو يؤخر شيئا عن حله, ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرا وأفضل".
· وعن عروة بن الزبير, عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر, وأعوذ بك من فتنة المسيخ الدجال, وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات, اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم".
فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال "إن الرجل إذا غرم؛ حدث فكذب, ووعد فأخلف".
وحضرني الآن عجب:
هؤلاء الذين ينكرون عذاب القبر, أتراهم لا يستعملون هذه الأحاديث – أقصد الاستعاذة في الصلاة بعد التشهد؟
لو كانوا لا يستعيذون, فإنه لخطب عظيم ابتلوا به، فظني أنهم صرفوا ليعذبوا – اللهم غفرانك – ولله في خلقه شؤون, سبحانه جل جلال الله.
* * * * *
من أقوال السلف في إثبات عذاب القبر، وما كانوا يخافونه من هول المطلع
1- عن ابن عباس قال: دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن فقلت: أبشر بالجنة يا أمير المؤمنين, أسلمت حين كفر الناس, وجاهدت مع رسول الله حين خذله الناس, وقبض رسول الله وهو عنك راض, ولم يختلف في خلافتك اثنان, وقتلت شهيدا. فقال أعد علي: فأعدت عليه, فقال: والله الذي لا إله غيره, لو أن لي ما على الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع.
2- كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته, فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي, وتبكي من هذا. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القبر أول منزل من منازل الآخرة, فإن نجا منه فما بعده أيسر منه, وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه"
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه"
3- وعن علي رضي الله عنه قال: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} ]التكاثر: 1 – 2 [.
4- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن أحدكم ليجلس في قبره إجلاساً فيقال له: ما أنت؟ فإن كان مؤمنا قال: أنا عبد الله حيا وميتا, أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, فيفسح له في قبره ما شاء الله، فيرى مكانه من الجنة, وينزل عليه كسوة يلبسها من الجنة.
وأما الكافر فيقال له: ما أنت؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: لا دريت ولا تليت, فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه, أو تتماس أضلاعه, ويرسل عليه حيات من جوانب قبره ينهشنه ويأكلنه, فإذا جزع فصاح، قمع بمقمع من نار من حديد.
5- عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه قال: أعمقوا لي قبري, تخرج نفس المؤمن وهي أطيب ريحا من المسك, قال: فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها، فتتلقاهم الملائكة دون السماء, فيقولون: من هذا معكم؟ فيقولون: فلان ويذكرونه بأحسن عمله, فيقولون: حياكم الله وحيا من معكم.
قال: فتفتح له أبواب السماء، فيشرق وجهه, قال: فيأتي الرب تعالى ووجهه برهان مثل الشمس.
قال: وأما الآخر فتخرج نفسه وهي أنتن من الجيفة، فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها, فتتلقاهم ملائكة دون السماء, فيقولون: من هذا معكم؟ فيقولون: فلان ويذكرونه بأسوإ عمله.
قال: فيقولون: ردوه ردوه, فما ظلمه الله شيئا. فقرأ أبو موسى رضي الله عنه: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ] الأعراف: 39 – 40 [.
6- عن عمير بن سلمة قال: جاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وهو مريض فقال: يا أبا الدرداء, إنك قد أصبحت على جناح فراق الدنيا, فمرني بأمر ينفعني الله به، وأذكرك به. فقال: إنك بين أمة معافاة, فأقم الصلاة, وأدّ زكاة مالك إن كان لك, وصم رمضان, واجتنب الفواحش, ثم أبشر.
فأعاد الرجل على أبي الدرداء رضي الله عنه، فقال أبو الدرداء: اجلس ثم اعقل ما أقول لك, أين أنت من يوم ليس لك من الأرض إلا عرض ذراعين في طول أربعة أذرع, أقبل بك أهلك – الذين كانوا لا يحبون فراقك – وجلساؤك وإخوانك, فأتقنوا عليك البنيان, ثم أكثروا عليك التراب, ثم تركوك, ثم جاءك ملكان أسودان أزرقان جعدان.
أسماؤهما: منكر ونكير, فأجلساك ثم سألاك: ما أنت؟ أم: على ماذا كنت؟ أم: ماذا تقول في هذا الرجل؟
فإن قلت: والله ما أدري, سمعت الناس قالوا قولا فقلت قول الناس, فقد والله رديت وهويت.
فإن قلت: محمد رسول الله أنزل عليه كتابه, فآمنت به, وبما جاء معه, فقد والله نجوت وهديت, ولن تستطيع ذلك إلا بتثبيت من الله تعالى مع ما ترى من الشدة والتخويف.
7- عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة, أنه صلى على منفوس ثم قال: اللهم إني أعيذه من عذاب القبر.
8- وعن ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة رضي الله عنها قالت: يسلط على الكافر في قبره شجاع أقرع, فيأكل لحمه من رأسه إلى رجليه, ثم يكسى اللحم, فيأكل من رجليه إلى رأسه, ثم يكسى اللحم، فيأكل من رأسه إلى رجليه, فهو كذلك.
9- عن أم خارجة مولاة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أنها حضرت امرأة تموت, فجعلت تقول لها: إنك تسألين عن ربك وعن النبي, فجعلت تثبتها.
10- عن ابن عباس في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27], قال: إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة يسلمون عليه ويبشرونه بالجنة, فإذا مات مشوا مع جنازته, ثم صلوا عليه مع الناس, فإذا دفن أجلس في قبره, فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. ويقال له: من رسولك؟ فيقول محمد. فيقال له: ما شهادتك؟ فيقول: أشهد أن لا إله الله وأن محمدا عبده ورسوله, فيوسع له قبره مدّ بصره.
وأما الكافر فتنزل الملائكة فيبسطون أيديهم – والبسط هو الضرب – يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت, فإذا دخل قبره أقعد, فقيل له: من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئا، وأنساه الله ذكر ذلك, وإذا قيل له: من رسولك الذي بعث إليك؟ لم يهتد له، ولم يرجع إليهم شيئا, يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ}.
11- قال عطاء والحسن البصري في قوله تعالى لنبيه: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}[الإسراء: 74 – 75 [. قال: ضعف الممات. قال: هو عذاب القبر.
12- وقال قتادة: عذاب القبر ثلاثة لثلاث: ثلث من الغيبة وثلث من النميمة, وثلث من البول.
13- وعن عبد الله بن الشخير قال: بينما رجل يسير في أرض إذ انتهى إلى قبر, فسمع صاحبه يقول: آه آه.
فقام على قبره وقال: فضحَك عملك, وافتضحت.
* * * *
من أقوال علماء أهل السنة في إثبات عذاب القبر ونعيمه
· قال المروزى: قال أبوعبد الله – يعني الإمام أحمد -: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل.
قال حنبل: قلت لأبي عبد الله في عذاب القبر. فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها, كلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به, إذا لم نقر بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضناه ورددناه, رددنا على الله أمره. قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [ الحشر: 7 [.
قلت له: وعذاب القبر حق؟ قال: حق يعذبون في القبور.
قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: نؤمن بعذاب القبر, ومنكر ونكير, وأن العبد يسأل في قبره فـ {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27 ] في القبر. اهـ.
· قال الإمام الطحاوي في ذكر العقيدة الإسلامية: ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين, وبعذاب القبر لمن كان له أهلا, وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه, ونبيه, على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم, والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. اهـ.
· وقال الإمام القرطبي في "التذكرة":
الإيمان بعذاب القبر وفتنته واجب، والتصديق به لازم, حسب ما أخبر به الصادق, وأن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه, ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه, ليعقل ما يسأل عنه, وما يجيب به, ويفهم ما أتاه من ربه, وما أعد له في قبره من كرامة أوهوان, وبهذا نطقت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وعلى آله آناء الليل وأطراف النهار, وهذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أهل الملة, ولم تفهم الصحابة – الذين نزل القرآن بلسانهم ولغتهم – من نبيهم عليه الصلاة والسلام غير ما ذكرنا, وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرا. ا هـ.
سبحان الملك العظيم! بعد كل ما مر معنا من آيات من كلام الملك جل جلاله, وأحاديث صحاح من أصح الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم أقوال الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين وأكابر العلماء وإجماع الأمة قاطبة على مر الدهور وتكرار العصور, ثم يأتي دعموص مغمور مارق ليطعن في عقائد المسلمين، ويسأل المناظرة. علام تناظر يا هذا؟ ومن تناظر؟.
استهد الله يهدك, وسل الله العافية.
* * * * *
الرد على العقلانيين المنكرين لعذاب القبر
لا يتصور هؤلاء أن يكون عذاب في القبر, ويقولون: نحن ندفن الرجل بجوار الآخر, ولا نرى أونسمع عما تتحدثون عنه من أن القبر يكون روضة من رياض الجنة للمؤمن, أوحفرة من النار للكافر أوالفاجر.
ومنشأ هذه الشبهة هوالجهل بالله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91], لذلك يقول ابن القيم رحمه الله: وكيف يستنكر من يعرف الله سبحانه, ويقر بقدرته, أن يُحدث حوادث يصرف عنها أبصار بعض خلقه حكمة منه ورحمة بهم, لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها, والعبد أضعف بصرا وسمعا من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر, وكثير ممن أشهده الله ذلك صعق, وغشي عليه, ولم ينتفع بالعيش زمنا، وبعضهم كشف قناع قلبه فمات, فكيف ينكر في الحكمة الإلهية إسبال غطاء يحول بين المكلفين وبين مشاهدة ذلك, حتى إذا كشف الغطاء رأوه وشاهدوه عيانا.
ثم إن النار التي في القبر ليست من نار الدنيا, والخضرة التي في القبر ليست من زروع الدنيا, فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخضرتها, وإنما هي من نار الآخرة وخضرتها, وهي أشد من نار الدنيا, فلا يحس بها أهل الدنيا, فإن الله سبحانه يحمي عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه حتى يكون أعظم حرا من جمر الدنيا, ولومسّها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك, بل أعجب من هذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره، وذلك في روضة من رياض الجنة لا يصل روحها ونعيمها إلى جاره.
وقدرة الرب تعالى أوسع وأعجب من ذلك, وقد أرانا الله من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك بكثير, ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما, إلا من وفقه الله وعصمه.
فيفرش للكافر لوحان من نار, فيشتعل عليه قبره بهما كما يشتعل التنور, فإذا شاء الله سبحانه أن يطلع على ذلك بعض عبيده, أطلعه وغيّبه عن غيره, إذ لو اطلع العباد كلهم لزالت كلمة التكليف, والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس, كما روى أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر"
ولما كانت هذه الحكمة منفية في حق البهائم سمعت ذلك وأدركته, كما حادت برسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته. وكادت تلقيه لمّا مرّ بمن يعذب في قبره.
* * * * *
عذاب القبر ونعيمه على النفس والبدن جميعا
أخي الحبيب:
فإذا تبين لك هذا, فاعلم أن عقيدة أهل السنة والجماعة على أن عذاب القبر ونعيمه على النفس والبدن جميعا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – لما سئل عن هذه المسألة: الحمد لله رب العالمين: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة, تنعم النفس، وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها, فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين, كما يكون للروح منفردة عن البدن. ثم قال رحمه الله "فليعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب, وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه, وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة, وأنها تتصل بالبدن أحيانا, فيحصل له معها النعيم والعذاب, ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها, وقاموا من قبورهم لرب العالمين.
واستدل – رحمه الله تعالى – بحديث البراء بن عازب قال: ففي هذا الحديث أنواع من العلم, منها: أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن خلافا لضلال المتكلمين, وأنها تصعد وتنزل خلافا لضلال الفلاسفة, وأنها تعاد إلى البدن, وأن الميت يسأل فينعم أو يعذب كما سأل عنه أهل السؤال, وفيه أن عمله الصالح أو السيئ يأتيه في صورة حسنة أو قبيحة.
واستدل بما في "صحيح البخاري" عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العبد إذا وضع في قبره, وتولى وذهب أصحابه - حتى إنه ليسمع قرع نعالهم- أتاه ملكان فأقعداه, فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فيراهما جميعا. وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري, كنت أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دريت ولا تليت, ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه, فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين"
قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا, ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون.
وروى الترمذي وأبو حاتم في "صحيحه" – وأكثر اللفظ له – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قبر أحدكم الإنسان, أتاه ملكان أسودان أزرقان, يقال لهما منكر والآخر نكير. فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فهوقائل ما كان يقول, فإن كان مؤمنا قال: هو عبد الله ورسوله, أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فيقولان: إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه, ويقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان له: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه, حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك"
قال رحمه الله: وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك, مما يبين أن البدن نفسه يعذب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح وريحان ورب غير غضبان، فيخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا, حتى يأتوا به باب السماء فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواح المؤمنين, فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه, فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟
فيقولون: دعوه, فإنه كان في غم الدنيا, فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية.
وإن الكافر إذا حضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله، فيخرج كأنتن ريح جيفة, حتى يأتوا بها باب الأرض فيقولون: ما أنتن هذه الريح؟ حتى يأتوا بها أرواح الكفار"
ورواه مسلم مختصرا عن أبي هريرة رضي الله عنه, وقال عند ذكر الكافر ونتن رائحة روحه: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا.
و"الريطة": ثوب رقيق لين مثل الملاءة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه, وأما انفراد الروح وحدها, فقد تقدم بعض ذلك.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي قال: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يبعثه الله عز وجل إلى جسده يوم القيامة"
وقوله: "يعلق" -: بالضم أي يأكل. وقد نقل هذا في غير هذا الحديث.
قال رحمه الله: فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر – إذا شاء الله –، وإنما تنعم في الجنة وحدها، وكلاهما حق.
وقد روي ابن أبي الدنيا في كتاب "ذكر الموت" عن مالك بن أنس قال: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.
قال شيخ الإسلام: وهذا يوافق ما روي: أن الأرواح قد تكون على أفنية القبور, كما قال مجاهد: إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام من يوم يدفن الميت لا تفارق ذلك، وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة, كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه, إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام".
وفي "سنن أبي داود" وغيره عن أوس بن أوس الثقفي, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن خير أيامكم يوم الجمعة, فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة, فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا:
يا رسول الله, كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء".
قال رحمه الله: وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه, مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب – إذا شاء الله ذلك كما يشاء–, وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة أو معذبة، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على الموتى, كما ثبت في "الصحيح" و"السنن" أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين. نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم, واغفر لنا ولهم".
قال شيخ الإسلام: وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم, ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة, ولكن لا يجب ذلك أن يكون دائما على البدن في كل وقت، بل يجوز أن يكون في حال.
وفي "صحيح مسلم" عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا, ثم أتاهم، فقام عليهم فقال: "يا أبا جهل بن هشام, يا أمية بن خلف, يا عتبة بن ربيعة, ياشيبة, أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا" فسمع عمر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله, كيف يسمعون وقد جيفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده, ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا "ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر" ا هـ. مختصرا.
شبهة ورد:
ظن بعض الأوائل أنه إذا حرق جسده بالنار, وصار رمادا, وذري بعضه في البحر, وبعضه في البر في يوم شديد الريح أنه ينجو من ذلك.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا فيمن كان سلفَ قبلكم آتاه الله مالا وولدا -يعني أعطاه-.
قال: "فلما حضر قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب. قال: فإنه لم يبتئر (لم يدخر) عند الله خيرا, وإن يقدم على الله يعذبه, فانظروا, فإذا مت فأحرقوني, حتى إذا صرت فحما فاسحقوني – أوقال: فاسهكوني – ثم إذا كان ريح عاصف فاذروني فيها, فأخذ مواثيقهم على ذلك وربى, ففعلوا. فقال الله: كن. فإذا رجل قائم, ثم قال: أي عبدي, ما حملك على ما فعلت؟ قال: مخافتك – أوفرق منك – فما تلافاه أن رحمه الله"
فلم يفت عذاب البرزخ ونعيمه هذه الأجزاء التي صارت في هذه الحال, حتى لوعلق على رؤوس الأشجار في مهاب الريح, لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه، فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما, والهواء على ذلك نارا وسموما, فعناصر العالم وموادها منقادة لربها وفاطرها وخالقها, يصرفها كيف يشاء, ولا يستعصي عليه منها شيء أراده, بل هي طوع مشيئته, مذللة منقادة لقدرته، ومن أنكر هذا فقد جحد رب العالمين, وكفر به, وأنكر ربوبيته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الأدلة في القرآن كثيرة ومنها:-
1- قوله تعالى: {وَلَوتَرَى إِذِالظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَالْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّوَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}(الأنعام: 93)
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا خطاب لهم عند الموت، وقد أخبَرَت به الملائكة – وهم الصادقون –، ولو كانوا حينئذ في الدنيا لما صحّ أن يقال لهم: اليوم تجزون.
2- وقوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(غافر 45 – 46).
فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره.
3- وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} (الطور: 45 – 46).
وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ, لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا.
وقد يقال – وهو أظهر -: إن من مات منهم عذب في البرزخ, ومن بقي منهم عذب في الدنيا بالقتل وغيره, فهو وعيد بعذابهم في الدنيا والبرزخ.
4 - قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} ]إبراهيم: 27 [.
في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إذا سئل في قبره شهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله" – وفي لفظ: "نزلت في عذاب القبر" يقال له من ربك؟ فيقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيّي محمد – وذلك قول الله تعالى -: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَآمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِيالآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم: 27 ].
قال ابن عباس: المخاطبة في القبر يقول: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وفي الآخرة: مثل ذلك.
5- قال تعالى: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}] المؤمنون: 100 [.
فعذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه, وهو ما بين الدنيا والآخرة, وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة, وسمي عذاب القبر ونعيمه, لأنه روضة أو حفرة نار, باعتبار غالب الخلق, فالمصلوب, والحريق, والغريق, وأكيل السباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله, وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما.
الأدلة من السنة المطهرة على عذاب القبر ونعيمه
وهي - أيضا – كثيرة نذكر منها:
1- في"البخاري" عن عائشة رضي الله عنها, أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر, فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر. فقال: "نعم, عذاب القبر حق" قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر.
2- وفي "صحيح مسلم" عن عروة ين الزبير أن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما تفتن يهود". قالت عائشة: فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل شعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟" قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر.
3- عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس فسمع صوتا, فقال: "يهود تعذب في قبورها"
4- وفي "الصحيحين" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير, أما أحدهما: فكان لا يستتر من بوله, وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة" ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين, ثم غرز في كل قبر واحدة. فقالوا: يا رسول الله, لم فعلت هذا؟ قال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا"
5- وفي "صحيح مسلم" عن زيد بن ثابت قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له – ونحن معه – إذ حادت به فكادت تلقيه, فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة. فقال: "من يعرف هذه الأقبر؟" فقال رجل: أنا. قال: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها, فلولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه". ثم أقبل علينا بوجهه فقال: "تعوٌذوا بالله من عذاب النار" قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال "تعوٌذوا بالله من عذاب القبر" قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: "تعوّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن" قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال "تعوّذوا بالله من فتنة الدجال" قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال قال القرطبي – رحمه الله تعالى – وإنما حادت به البغلة لما سمعت من صوت المعذبين, وإنما لم يسمعه من يعقل من الجن والإنس, لقوله عليه الصلاة والسلام: "لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر"
فكتمه الله سبحانه عنا حتى نتدافن بحكمته الإلهية ولطائفه الربانية سبحانه جل جلاله الرحيم, لغلبة الخوف عند سماعه, فلا نقدر على القرب من القبر للدفن, أو يهلك الحي عند سماعه, إذ لا يطاق سماع شيء من عذاب الله في هذه الدار لضعف هذه القوى, ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس؟ وأين صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد التي يسمعها كل من يليه؟
وقال صلى الله عليه وسلم – في الجنازة -: "إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم, فإن كانت صالحة قالت: قدموني, وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها, أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان, ولو سمع الإنسان لصعق".
قلت: هذا وهو على رؤوس الرجال من غير ضرب ولا هوان, فكيف إذا حل به الخزي والنكال، واشتد عليه العذاب والوبال؟
فنسأل الله معافاته, ومغفرته, وعفوه, ورحمته, ومنه, وهو الرحيم, وهو البر الكريم سبحانه جلا جلاله.
ومن الأدلة كذلك:
6- ما جاء في "صحيح مسلم" من حديث جابر بن عبد الله الطويل, أن النبي لما قضى حاجته، واستتر بظل شجرة قال: "يا جابر, هل رأيت مقامي؟" قلت: نعم يا رسول الله. قال: "فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا فأقبل بهما, حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك"
قال جابر: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحسرته فانذلق لي, فأتيت الشجرتين, فقطعت من كل واحدة منهما غصنا, ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري, ثم لحقته فقلت: قد فعلت يا رسول الله, فعم ذاك؟ قال: "إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين".
7 – عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العبد إذا وضع في قبره, وتولى وذهب أصحابه – حتى إنه ليسمع قرع نعالهم – أتاه ملكان فأقعداه, فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فيراهما جميعا. وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه, فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين".
8- وكان صلى الله عليه وسلم - في غير ما موضع - يستعيذ بالله من عذاب القبر، بل ويعلم صحابته كثرة التعوذ منه.
· عن موسى بن عقبة قال: حدثتني ابنة خالد بن سعيد بن العاص: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتعوذ من عذاب القبر.
· عن عمرو بن ميمون الأوديّ قال: كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من الجبن, وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر, وأعوذ بك من فتنة الدنيا, وأعوذ بك من عذاب القبر".
· عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز, والكسل, والجبن والهرم, وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات, وأعوذ بك من عذاب القبر".
· عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع, يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم, ومن عذاب القبر, ومن فتنة المحيا والممات, ومن شر فتنة المسيح الدجال".
· عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم متّعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبأبي أبي سفيان, وبأخي معاوية, قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سألت الله لآجال مضروبة, وأيام معدودة, وأرزاق مقسومة, لن يعجل شيئا قبل حله, أو يؤخر شيئا عن حله, ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرا وأفضل".
· وعن عروة بن الزبير, عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر, وأعوذ بك من فتنة المسيخ الدجال, وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات, اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم".
فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال "إن الرجل إذا غرم؛ حدث فكذب, ووعد فأخلف".
وحضرني الآن عجب:
هؤلاء الذين ينكرون عذاب القبر, أتراهم لا يستعملون هذه الأحاديث – أقصد الاستعاذة في الصلاة بعد التشهد؟
لو كانوا لا يستعيذون, فإنه لخطب عظيم ابتلوا به، فظني أنهم صرفوا ليعذبوا – اللهم غفرانك – ولله في خلقه شؤون, سبحانه جل جلال الله.
* * * * *
من أقوال السلف في إثبات عذاب القبر، وما كانوا يخافونه من هول المطلع
1- عن ابن عباس قال: دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن فقلت: أبشر بالجنة يا أمير المؤمنين, أسلمت حين كفر الناس, وجاهدت مع رسول الله حين خذله الناس, وقبض رسول الله وهو عنك راض, ولم يختلف في خلافتك اثنان, وقتلت شهيدا. فقال أعد علي: فأعدت عليه, فقال: والله الذي لا إله غيره, لو أن لي ما على الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع.
2- كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته, فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي, وتبكي من هذا. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القبر أول منزل من منازل الآخرة, فإن نجا منه فما بعده أيسر منه, وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه"
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت منظرا قط إلا والقبر أفظع منه"
3- وعن علي رضي الله عنه قال: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} ]التكاثر: 1 – 2 [.
4- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن أحدكم ليجلس في قبره إجلاساً فيقال له: ما أنت؟ فإن كان مؤمنا قال: أنا عبد الله حيا وميتا, أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, فيفسح له في قبره ما شاء الله، فيرى مكانه من الجنة, وينزل عليه كسوة يلبسها من الجنة.
وأما الكافر فيقال له: ما أنت؟ فيقول: لا أدري. فيقال له: لا دريت ولا تليت, فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه, أو تتماس أضلاعه, ويرسل عليه حيات من جوانب قبره ينهشنه ويأكلنه, فإذا جزع فصاح، قمع بمقمع من نار من حديد.
5- عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه قال: أعمقوا لي قبري, تخرج نفس المؤمن وهي أطيب ريحا من المسك, قال: فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها، فتتلقاهم الملائكة دون السماء, فيقولون: من هذا معكم؟ فيقولون: فلان ويذكرونه بأحسن عمله, فيقولون: حياكم الله وحيا من معكم.
قال: فتفتح له أبواب السماء، فيشرق وجهه, قال: فيأتي الرب تعالى ووجهه برهان مثل الشمس.
قال: وأما الآخر فتخرج نفسه وهي أنتن من الجيفة، فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها, فتتلقاهم ملائكة دون السماء, فيقولون: من هذا معكم؟ فيقولون: فلان ويذكرونه بأسوإ عمله.
قال: فيقولون: ردوه ردوه, فما ظلمه الله شيئا. فقرأ أبو موسى رضي الله عنه: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ] الأعراف: 39 – 40 [.
6- عن عمير بن سلمة قال: جاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وهو مريض فقال: يا أبا الدرداء, إنك قد أصبحت على جناح فراق الدنيا, فمرني بأمر ينفعني الله به، وأذكرك به. فقال: إنك بين أمة معافاة, فأقم الصلاة, وأدّ زكاة مالك إن كان لك, وصم رمضان, واجتنب الفواحش, ثم أبشر.
فأعاد الرجل على أبي الدرداء رضي الله عنه، فقال أبو الدرداء: اجلس ثم اعقل ما أقول لك, أين أنت من يوم ليس لك من الأرض إلا عرض ذراعين في طول أربعة أذرع, أقبل بك أهلك – الذين كانوا لا يحبون فراقك – وجلساؤك وإخوانك, فأتقنوا عليك البنيان, ثم أكثروا عليك التراب, ثم تركوك, ثم جاءك ملكان أسودان أزرقان جعدان.
أسماؤهما: منكر ونكير, فأجلساك ثم سألاك: ما أنت؟ أم: على ماذا كنت؟ أم: ماذا تقول في هذا الرجل؟
فإن قلت: والله ما أدري, سمعت الناس قالوا قولا فقلت قول الناس, فقد والله رديت وهويت.
فإن قلت: محمد رسول الله أنزل عليه كتابه, فآمنت به, وبما جاء معه, فقد والله نجوت وهديت, ولن تستطيع ذلك إلا بتثبيت من الله تعالى مع ما ترى من الشدة والتخويف.
7- عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة, أنه صلى على منفوس ثم قال: اللهم إني أعيذه من عذاب القبر.
8- وعن ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة رضي الله عنها قالت: يسلط على الكافر في قبره شجاع أقرع, فيأكل لحمه من رأسه إلى رجليه, ثم يكسى اللحم, فيأكل من رجليه إلى رأسه, ثم يكسى اللحم، فيأكل من رأسه إلى رجليه, فهو كذلك.
9- عن أم خارجة مولاة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أنها حضرت امرأة تموت, فجعلت تقول لها: إنك تسألين عن ربك وعن النبي, فجعلت تثبتها.
10- عن ابن عباس في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27], قال: إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة يسلمون عليه ويبشرونه بالجنة, فإذا مات مشوا مع جنازته, ثم صلوا عليه مع الناس, فإذا دفن أجلس في قبره, فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. ويقال له: من رسولك؟ فيقول محمد. فيقال له: ما شهادتك؟ فيقول: أشهد أن لا إله الله وأن محمدا عبده ورسوله, فيوسع له قبره مدّ بصره.
وأما الكافر فتنزل الملائكة فيبسطون أيديهم – والبسط هو الضرب – يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت, فإذا دخل قبره أقعد, فقيل له: من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئا، وأنساه الله ذكر ذلك, وإذا قيل له: من رسولك الذي بعث إليك؟ لم يهتد له، ولم يرجع إليهم شيئا, يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ}.
11- قال عطاء والحسن البصري في قوله تعالى لنبيه: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}[الإسراء: 74 – 75 [. قال: ضعف الممات. قال: هو عذاب القبر.
12- وقال قتادة: عذاب القبر ثلاثة لثلاث: ثلث من الغيبة وثلث من النميمة, وثلث من البول.
13- وعن عبد الله بن الشخير قال: بينما رجل يسير في أرض إذ انتهى إلى قبر, فسمع صاحبه يقول: آه آه.
فقام على قبره وقال: فضحَك عملك, وافتضحت.
* * * *
من أقوال علماء أهل السنة في إثبات عذاب القبر ونعيمه
· قال المروزى: قال أبوعبد الله – يعني الإمام أحمد -: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل.
قال حنبل: قلت لأبي عبد الله في عذاب القبر. فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها, كلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به, إذا لم نقر بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضناه ورددناه, رددنا على الله أمره. قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [ الحشر: 7 [.
قلت له: وعذاب القبر حق؟ قال: حق يعذبون في القبور.
قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: نؤمن بعذاب القبر, ومنكر ونكير, وأن العبد يسأل في قبره فـ {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27 ] في القبر. اهـ.
· قال الإمام الطحاوي في ذكر العقيدة الإسلامية: ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين, وبعذاب القبر لمن كان له أهلا, وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه, ونبيه, على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم, والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. اهـ.
· وقال الإمام القرطبي في "التذكرة":
الإيمان بعذاب القبر وفتنته واجب، والتصديق به لازم, حسب ما أخبر به الصادق, وأن الله تعالى يحيي العبد المكلف في قبره برد الحياة إليه, ويجعله من العقل في مثل الوصف الذي عاش عليه, ليعقل ما يسأل عنه, وما يجيب به, ويفهم ما أتاه من ربه, وما أعد له في قبره من كرامة أوهوان, وبهذا نطقت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وعلى آله آناء الليل وأطراف النهار, وهذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أهل الملة, ولم تفهم الصحابة – الذين نزل القرآن بلسانهم ولغتهم – من نبيهم عليه الصلاة والسلام غير ما ذكرنا, وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرا. ا هـ.
سبحان الملك العظيم! بعد كل ما مر معنا من آيات من كلام الملك جل جلاله, وأحاديث صحاح من أصح الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم أقوال الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين وأكابر العلماء وإجماع الأمة قاطبة على مر الدهور وتكرار العصور, ثم يأتي دعموص مغمور مارق ليطعن في عقائد المسلمين، ويسأل المناظرة. علام تناظر يا هذا؟ ومن تناظر؟.
استهد الله يهدك, وسل الله العافية.
* * * * *
الرد على العقلانيين المنكرين لعذاب القبر
لا يتصور هؤلاء أن يكون عذاب في القبر, ويقولون: نحن ندفن الرجل بجوار الآخر, ولا نرى أونسمع عما تتحدثون عنه من أن القبر يكون روضة من رياض الجنة للمؤمن, أوحفرة من النار للكافر أوالفاجر.
ومنشأ هذه الشبهة هوالجهل بالله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91], لذلك يقول ابن القيم رحمه الله: وكيف يستنكر من يعرف الله سبحانه, ويقر بقدرته, أن يُحدث حوادث يصرف عنها أبصار بعض خلقه حكمة منه ورحمة بهم, لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها, والعبد أضعف بصرا وسمعا من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر, وكثير ممن أشهده الله ذلك صعق, وغشي عليه, ولم ينتفع بالعيش زمنا، وبعضهم كشف قناع قلبه فمات, فكيف ينكر في الحكمة الإلهية إسبال غطاء يحول بين المكلفين وبين مشاهدة ذلك, حتى إذا كشف الغطاء رأوه وشاهدوه عيانا.
ثم إن النار التي في القبر ليست من نار الدنيا, والخضرة التي في القبر ليست من زروع الدنيا, فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخضرتها, وإنما هي من نار الآخرة وخضرتها, وهي أشد من نار الدنيا, فلا يحس بها أهل الدنيا, فإن الله سبحانه يحمي عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه حتى يكون أعظم حرا من جمر الدنيا, ولومسّها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك, بل أعجب من هذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره، وذلك في روضة من رياض الجنة لا يصل روحها ونعيمها إلى جاره.
وقدرة الرب تعالى أوسع وأعجب من ذلك, وقد أرانا الله من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك بكثير, ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما, إلا من وفقه الله وعصمه.
فيفرش للكافر لوحان من نار, فيشتعل عليه قبره بهما كما يشتعل التنور, فإذا شاء الله سبحانه أن يطلع على ذلك بعض عبيده, أطلعه وغيّبه عن غيره, إذ لو اطلع العباد كلهم لزالت كلمة التكليف, والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس, كما روى أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر"
ولما كانت هذه الحكمة منفية في حق البهائم سمعت ذلك وأدركته, كما حادت برسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته. وكادت تلقيه لمّا مرّ بمن يعذب في قبره.
* * * * *
عذاب القبر ونعيمه على النفس والبدن جميعا
أخي الحبيب:
فإذا تبين لك هذا, فاعلم أن عقيدة أهل السنة والجماعة على أن عذاب القبر ونعيمه على النفس والبدن جميعا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – لما سئل عن هذه المسألة: الحمد لله رب العالمين: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة, تنعم النفس، وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها, فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين, كما يكون للروح منفردة عن البدن. ثم قال رحمه الله "فليعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب, وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه, وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة, وأنها تتصل بالبدن أحيانا, فيحصل له معها النعيم والعذاب, ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها, وقاموا من قبورهم لرب العالمين.
واستدل – رحمه الله تعالى – بحديث البراء بن عازب قال: ففي هذا الحديث أنواع من العلم, منها: أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن خلافا لضلال المتكلمين, وأنها تصعد وتنزل خلافا لضلال الفلاسفة, وأنها تعاد إلى البدن, وأن الميت يسأل فينعم أو يعذب كما سأل عنه أهل السؤال, وفيه أن عمله الصالح أو السيئ يأتيه في صورة حسنة أو قبيحة.
واستدل بما في "صحيح البخاري" عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العبد إذا وضع في قبره, وتولى وذهب أصحابه - حتى إنه ليسمع قرع نعالهم- أتاه ملكان فأقعداه, فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فيراهما جميعا. وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري, كنت أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دريت ولا تليت, ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه, فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين"
قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا, ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون.
وروى الترمذي وأبو حاتم في "صحيحه" – وأكثر اللفظ له – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قبر أحدكم الإنسان, أتاه ملكان أسودان أزرقان, يقال لهما منكر والآخر نكير. فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فهوقائل ما كان يقول, فإن كان مؤمنا قال: هو عبد الله ورسوله, أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فيقولان: إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه, ويقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان له: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه, حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك"
قال رحمه الله: وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك, مما يبين أن البدن نفسه يعذب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح وريحان ورب غير غضبان، فيخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا, حتى يأتوا به باب السماء فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواح المؤمنين, فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه, فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟
فيقولون: دعوه, فإنه كان في غم الدنيا, فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية.
وإن الكافر إذا حضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون: اخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله، فيخرج كأنتن ريح جيفة, حتى يأتوا بها باب الأرض فيقولون: ما أنتن هذه الريح؟ حتى يأتوا بها أرواح الكفار"
ورواه مسلم مختصرا عن أبي هريرة رضي الله عنه, وقال عند ذكر الكافر ونتن رائحة روحه: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا.
و"الريطة": ثوب رقيق لين مثل الملاءة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه, وأما انفراد الروح وحدها, فقد تقدم بعض ذلك.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي قال: "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يبعثه الله عز وجل إلى جسده يوم القيامة"
وقوله: "يعلق" -: بالضم أي يأكل. وقد نقل هذا في غير هذا الحديث.
قال رحمه الله: فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر – إذا شاء الله –، وإنما تنعم في الجنة وحدها، وكلاهما حق.
وقد روي ابن أبي الدنيا في كتاب "ذكر الموت" عن مالك بن أنس قال: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.
قال شيخ الإسلام: وهذا يوافق ما روي: أن الأرواح قد تكون على أفنية القبور, كما قال مجاهد: إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام من يوم يدفن الميت لا تفارق ذلك، وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة, كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه, إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام".
وفي "سنن أبي داود" وغيره عن أوس بن أوس الثقفي, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن خير أيامكم يوم الجمعة, فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة, فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا:
يا رسول الله, كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء".
قال رحمه الله: وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه, مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب – إذا شاء الله ذلك كما يشاء–, وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة أو معذبة، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على الموتى, كما ثبت في "الصحيح" و"السنن" أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين. نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم, واغفر لنا ولهم".
قال شيخ الإسلام: وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم, ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة, ولكن لا يجب ذلك أن يكون دائما على البدن في كل وقت، بل يجوز أن يكون في حال.
وفي "صحيح مسلم" عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا, ثم أتاهم، فقام عليهم فقال: "يا أبا جهل بن هشام, يا أمية بن خلف, يا عتبة بن ربيعة, ياشيبة, أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا" فسمع عمر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله, كيف يسمعون وقد جيفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده, ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا "ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر" ا هـ. مختصرا.
شبهة ورد:
ظن بعض الأوائل أنه إذا حرق جسده بالنار, وصار رمادا, وذري بعضه في البحر, وبعضه في البر في يوم شديد الريح أنه ينجو من ذلك.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا فيمن كان سلفَ قبلكم آتاه الله مالا وولدا -يعني أعطاه-.
قال: "فلما حضر قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب. قال: فإنه لم يبتئر (لم يدخر) عند الله خيرا, وإن يقدم على الله يعذبه, فانظروا, فإذا مت فأحرقوني, حتى إذا صرت فحما فاسحقوني – أوقال: فاسهكوني – ثم إذا كان ريح عاصف فاذروني فيها, فأخذ مواثيقهم على ذلك وربى, ففعلوا. فقال الله: كن. فإذا رجل قائم, ثم قال: أي عبدي, ما حملك على ما فعلت؟ قال: مخافتك – أوفرق منك – فما تلافاه أن رحمه الله"
فلم يفت عذاب البرزخ ونعيمه هذه الأجزاء التي صارت في هذه الحال, حتى لوعلق على رؤوس الأشجار في مهاب الريح, لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه، فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما, والهواء على ذلك نارا وسموما, فعناصر العالم وموادها منقادة لربها وفاطرها وخالقها, يصرفها كيف يشاء, ولا يستعصي عليه منها شيء أراده, بل هي طوع مشيئته, مذللة منقادة لقدرته، ومن أنكر هذا فقد جحد رب العالمين, وكفر به, وأنكر ربوبيته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين