إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

كيفية تعامل الداعية مع المبتدع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كيفية تعامل الداعية مع المبتدع

    مقدمة:دعوة أهل البدع إلى الحق وظيفةُ العلماء، لا يجوز التساهل فيها، أو التقصير في أدائها؛ إذ بها تتم حماية الدين، وتنقيته من شائبة الباطل.وعلى مَن تصدَّى لدعوة أهل البدع أنْ يعرف: ما هي الأصول والضوابط التي ينبغي التزامها؟ وما هي المحاذير والمزالق التي ينبغي تجنُّبها؟وقبل البدء في الموضوع، نعرج بشيء من الإيجاز على تعريف المبتدع، والبدعة، وذكر أنواعها، وخطرها، ثم ذكر حكم المبتدع، وما هو الأصل في التعامل معه؟البدعة: هي طريقة في الدِّين مخترعة، تضاهي الشرعية، يُقْصَد بالسلوك عليها المبالغةُ في التعبُّد لله سبحانه؛ وهذا على رأي مَن لا يُدْخِل العادات في معنى البدعة، وإنما يَخُصُّها بالعبادات. (الاعتصام [1/ 21]).وهي ليست على درجة واحدة من الشر، بل هي متفاوتة.ويصنِّف العلماءُ البدعةَ مِن عدة زوايا، فمِنْ حيث مجالها، تنقسم إلى:
    1. [*=center]بدعة اعتقادية: وهي اعتقاد الشيء على خلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، كبدعة الخوارج في اعتقادهم تكفير العصاة من المسلمين؛ وكالمجسمة والمشبِّهة الذين شبَّهوا الله بخَلْقه تعالى الله علوًّا كبيرًا.
      [*=center]وبدعة عملية: وهي التي تكون في المسائل الفقهية القطعية أو الظَّنيّة، كالتي تكون في العمل الظاهر، كصلاةٍ تخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من الأعمال. وكلُّها داخلة تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا؛ فهو رَدٌّ». (أخرجه مسلم في كتاب الأقضية [1718]).
      [*=center]وبدعة قولية: وهي ما كان فيه تغيير لما جاء في كتاب الله عز وجل، ولِمَا ثبت في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأقوال المبتدعة من الفِرَق المشهورة، مما هو ظاهرُ المخالَفة للكتاب والسُّنَّة، وظاهر الفساد والقُبْح، كأقوال الرافضة والخوارج والجَهْمية والمعتزلة والأشعرية؛ وجميع الفِرَق المؤولة، التي وضعت لنفسها مناهجَ مخالِفة لمنهج الطائفة الناجية المنصورة، الظاهرة على الحق إلى قيام الساعة.

    ومنهم مَن قسَّمها إلى نوعين:
    1. [*=center]نوع في الأقوال والاعتقادات.
      [*=center]ونوع في الأفعال والعبادات.

    والثاني يتضمن الأول، كما أنَّ الأول يدعو إلى الثاني.وتُقسَّم البدعة بحسب ما يَؤُول إليه صاحبُها إلى:
    1. [*=center]بدعة مكفِّرة.
      [*=center]وبدعة غير مكفِّرة.

    وربما تخلَّف الحكمُ على المعيَّن بالبدعة رغم قيامه بها إذا توفَّر مانعٌ أو انتفى شرطٌ؛ فالحكمُ على العمل أو القول لا يلزم منه تبديعُ المعيَّن القائل أو العامل به؛ إلا إذا أُقيمت عليه الحُجَّة، وتوفرت الشروط وانتفت الموانع.خطر البدع:البدعة أشد من المعصية، ويرجع ضررها إلى وجوه:
    • [*=center]الأول: أنَّ البدع مفسِدة للقلوب، مزاحِمة للسُّنة في إصلاح النفوس، فهي أشبه ما تكون بالطعام الخبيث، وفي هذا المعنى يقول شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: "الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبقَ فيها فضلٌ للسنن، فتكون بمنزلة مَن اغتذى بالطعام الخبيث". (اقتضاء الصراط المستقيم [1/ 281]).

    فهي تُلْبَس لباس الدِّين، فيظن المنتسب لها أنها حق، وأنه مأجور عليها، وبذلك فإنه يَعْقِد عليها الكُرْهَ والحبَّ والولاء والبراء والثواب والعقاب، فتزاحِم السنن، تقود أصحابها إلى الاعتقادات الباطلة، والأعمال الفاسدة، والخروج عنالشريعة.
    • [*=center]الثاني: أنه في مقابل كل بدعة تُهْدَم سُنَّة، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام أيضًا: "مِن أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة: الخروج عن الشِّرعة والمنهاج الذي بُعِثَ به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا؛ فإن البدع هي مبادئ الكفر ومظانّ الكفر، كما أنَّ السنن المشروعة هي مظاهر الإيمان، ومقوية للإيمان، فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية". (مجموع الفتاوى [10/ 565]).

    لذا كان منهج المبتدعة قائمًا على معارضة نصوص الكتاب والسُّنَّة، كما قال شيخ الإسلام. (راجع كلامه في: درء تعارض العقل والنقل [1/ 149]).حكم التعامل مع المبتدع:المبتدع في الأساس شخصٌ يريد الحقَّ، ويقصد التقرُّب، وهذا الغالب في أحوال الكثير من أتباع البدع، يقول الله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:27]. فالمبتدع مريد للحق لكنه ضل طريقه إليه.لذا فإنَّ أهل البدعة قد يُظْهِرون مِن التنسُّك أو الأحوال ما يُعبِّر عن اعتقادهم الحق فيما يؤمنون به؛ ومن أجل ذلك فإن المبتدع -ما لم يكن زنديقًا- يُحْكَم له بالإسلام، ويبقى شأنه وحاله أفضل بكثير ممَّن قصد الكفر البُواح أو الشرك الظاهر، إلا أنَّه ونظرًا لخطورة البدعة على الدِّين نفسه من حيث هو؛ فإن المبتدع أخطر شأنًا على الدِّين وأهل الإسلام من الكافر والمشرك؛ لأنَّ البدعة تُفْسِد الإسلام، وتُحَرِّف الناس عن الحق إلى مزالق لتأويله ما يُقَسِّمهم شيعًا وأحزابًا. وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم -في حديثه عن افتراق اليهود والنصارى وهذه الأمة- إلى مدى تأثير الاختلاف في الدين على وقوع كثير مِن الفِرَقِ في النار.لذا كان مِن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم حازمًا وصارمًا مع مَن أظهروا الغلوَّ أو أحوال وأقوال بعيدة عن سُنَّته، وتوعَّد مَن اتخذ هذا المسلك، وحذَّر أمته منه، لا لشيء إلا لكي يظل الحق الذي أنزله الله ناصعًا نقيًّا مما قد يشوبه من أهواء الناس، التي وإنْ لَبَّت رغبةَ قومٍ أو ذائقتهم، أو وافقت آراءهم العقلية؛ إلا أنها لن توافق قومًا آخرين؛ أمَّا الحق الذي أنزله الله تعالى فيوافق العقول السليمة جميعًا وذائقة النفوس البشرية كافة، ويدور في حدود طاقاتهم وقدراتهم دون تكلُّف وتنطُّع. فكم شوَّهت البدع -رغم نظر أصحابها إليها بالحسن- الإسلام في نظر غير المسلمين، فصرفتهم إلى باطل، وزهَّدتهم في الحق!وإذا كان المبتدع جزءًا من الكيان الإسلامي وجسد الأمة؛ فإن حقوق الأخوة الإيمانية التي قرَّرها الإسلام تظل محفوظة له، متمتعًا بكافة الحقوق الشرعية التي فرضها الإسلام، إلا أنَّ هنا مَلْحَظًا مُهِمًّا، وهو أنَّ مِن طبيعة المجتمعات أنْ تتعامل في الجانب المادي من حياتها عند وجود الضرر والأذى مِن قِبَلِ شخص مريض أو مختل أنْ يُباشروا مِنَ التدابير ما يُعِينهم على إزالة الضرر ورفع الأذى، أو في أقل الأحوال حَصْرها، وبما لا يُخِلّ بحق المريض أو المختل في الرعاية، مع إمكانية تقييد بعض حرياته أو إسقاط بعض حقوقه لمصلحة أكبر؛ هذه الصورة المادية تُقابلها صورةٌ معنويةٌ في حال كان الشخص مجرمًا أو صاحب خُلُقٍ سيِّئ، حيث يأتي عوضًا عن الحَجْر الصحي والعلاج المادي حَجْرٌ من نوع آخر وعلاجٌ من نوع آخر.وهذه السُّنَّة الاجتماعية لا يُغْفِلها الإسلامُ في المبتدع، باعتباره شخصًا مُخْتلًا في جانب الدِّين، ومِن ثَمَّ فكما أنَّ للجوانب الأخرى تدابيرها لصيانتها في حياة المجتمع يكون الدِّين أحق بهذه التدابير.ومِن هنا يأتي الإسلام ليرسم أحكام التعامل مع المبتدع من هذه الزاوية، زاوية أنَّ المقصود من التعامل مع المبتدع أمران:
    • [*=center]الأول: معالجة المبتدع، وإخضاعه للتدابير التي مِن شأنها تحقيق العلاج لأهدافه.
      [*=center]الثاني: صيانة المجتمع من الآثار التي قد تلحق به دينيًّا مِن البدعة ذاتها، فضلًا عن المبتدع.

    وكما هي حالات المرض؛ يتفاوت تقييم الإسلام للبدعة وصاحبها، ومِن ثَمَّ يختلف تعامُل المجتمع الإسلامي مع المبتدع بحسب البدعة ذاتها، وبحسب تأثير المبتدع من جهة أخرى.ومِن أَوْلَى أحكام التعامُل مع المبتدع:
    1. [*=center]بيان مخالفته للدِّين بالحُجَّة والبرهان والدليل، وهذا ما سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك الشاب، الذي أتى يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الزنا!! ومع ذلك الشخص الذي توجَّه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالقولِ: اعدِلْ يا محمد!
      [*=center]نُصْح المبتدع، وإظهار الشفقة به، مع بيان عِظَم ما وقع فيه وعِظَم الآثار التي ستترتب على بدعته؛ وهذا بالفعل ما قام به عبدالله بن عباس رضي الله عنه وهو يُحاوِر الخوارج، ويُلْزِمهم بلازمِ مَذْهَبهم الذي ذهبوا إليه في شأن الفريقين المتقاتلين مِن الصحابة.
      [*=center]الوقوف بصرامةٍ إزاء تحوُّل هذه البدعة إلى مَذهب يتلقَّفه الناس، ويتخذونه منهجًا؛ لذا حذَّر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مِنَ البناء على القبور واتخاذها مساجد، ولعن اليهود والنصارى معرِّضًا بهم كل مَنْ يقوم في هذه الأمة بهذه البدعة. كما واجه الرسول عليه الصلاة والسلام النفرَ الذين تقالُّوا عبادته في شأنهم لما قد غُفِرَ للرسول عليه الصلاة والسلام؛ بالبيان والتحذير والإنكار الشديد.
      [*=center]وفي جميع الأحوال السابقة يبقى للمرء حقوق الإسلام، وعليه واجباته، لا يسقط منها شيء، لذا فإنه نادرًا ما كان يُقصِي الرسول صلى الله عليه وسلم مَن جاء بأمر مُنْكَر في الدِّين، بل احتمل عليه الصلاة والسلام بقاءهم في المجتمع، ولكن مع إنكاره عليهم، وتحذيره مما صنعوا. فقد كان يعلم الرسول الكريم أنَّ للشيطان مداخله على بعض الصالحين مِن جهة تشدُّدهم، أو فهمهم خطأ للدين، أو تعبُّدهم لله بما يستحسنونه من حالٍ أو هيئة؛ فإذا لم يُحسن إلى هؤلاء تحوَّلوا إلى أعداء؛ كيف وقد صبر على أعدائه من المشركين وأهل الكتاب ومنافقي المدينة.
      [*=center]غير أنَّ هناك وضعًا آخر تتحول معه البدعة إلى مهدِّد حقيقي للدين أو المجتمع -وِحدته وأمنه واستقراره-.

    ما يلزم معه في هذه الحالة معالجة جادة وصارمة لذلك:أ- إنْ كانت البدعة مكفِّرة: أي أنْ يُحْدِث المرءُ من العقائد أو الأفعال أو الأقوال ما يوجب تكفيره، فإن كان ذلك صادر منه عن جهلٍ أو تأوُّل؛ بُيِّن له، ورُوجع في الأمر، وأُقيمت عليه الحُجَّة، واستتيب من قِبَل ولي الأمر، فإنْ وُجِدَ أنَّ بدعته صادرة عن زندقةٍ وإلحادٍ منه عُزِّر، وإنْ كان بالقتل. وقتل المبتدع الذي تصل بدعته حدَّ الكفر والزندقة، التي بحيث ينتقد الدين بها عادةٌ متبعةٌ في دول الإسلام؛ وتدل عليه الوقائع التي وقعت لبعض المبتدعة، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالسبئية حين حرَّقهم، وكذلك قتل الجعد بن درهم والحلاج وغيرهم. والحاصل: أنَّ القتلَ مما يُعاقَب به صاحب البدعة إذا كانت بدعته مغلَّظة مكفِّرة واستُتيب ولم يَتُبْ، أو رأى أهل الحل والعقد أو الإمام أو مَن أفتى مِنَ العلماء أنَّ هذا المبتدع يُقتل وإنْ لم يُستتب.ب- وإنْ كانت البدعة مفسِّقة، لكن لها أثرها على وِحْدة الأُمَّة وأمنها واستقرارها -كبدعة التكفير عند الخوارج-؛ فلا يُكفَّر صاحبها، لكنَّ مقاتلتَه فيما لو أفسد في الأرض، وحمل السيف؛ واجبةٌ لوَأْدِ الفتنة وإخماد ثورتهم، وهذا ما فَعَلَ عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج، حيث لم يُبَادِئهم بقتالٍ، ولا حَكَمَ بكفرهم ولا بنفاقهم، ومع ذلك قاتَلَهم لمَّا حَمَلوا السيف على المسلمين
    .......................................
    الهجر كعلاج للبدعة:

    ومن بين أهم المعالجات التي شرعها الإسلام في مواجهة بعض الانحرافات -ومن بينها البدعة- هجر أصحابها، وذلك لتضييق دائرة تأثير أصحابها وقصر مفسدتها وإظهار المجتمع في موقف الرافض لها ليستفيق صاحبها من غفلته ويعود إلى رشده.

    ومن فوائد الهجر التي قصدها الشارع:
    1 - بعث اليقظة في نفوس المسلمين من الوقوع في البدعة وتحذيرهم منها.
    2 - تحجيم انتشار البدعة.
    3 - إعطاء ضمانة للسنن من شائبة البدع.
    4 - قمع المبتدع وزجره ليضعف عن نشر بدعته. (انظر رسالة (هجر المبتدع)، بكر بن عبدالله أبو زيد -رحمه الله، إعداد سلمان بن عبدالقادر أبوزيد، بتصرف).

    فمعاشرة صاحب البدعة ومخالطته فتولد في صاحب البدعة طمأنينة إلى ما هو عليه، وربما أشعره بقبول المجتمع لبدعته وتزكيته إياها؛ وهذا قد يُغرر بالعامة، إذ أن العامة غالبًا في حال جهلهم لا يفرقون بين السنة والبدعة، وربما استحسنوا ما استحسنه المبتدع فوقعوا فيما وقع فيه، فلا بد إذاً من الحجر على المبتدع استصلاحًا للديانة، وأحوال الجماعة، وهو ألزم من الحجر الصحي لاستصلاح الأبدان.

    وبعد أن نقل الشاطبي -رحمه الله تعالى- بعض الآثار في النهي عن توقير المبتدع، قال: "فإن الإيواء يجامع التوقير، ووجه ذلك ظاهر؛ لأن المشي إليه والتوقير له تعظيمٌ له لأجل بدعته؛ وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو أشد من هذا كالضرب والقتل، فصار توقيره صدودًا عن العمل بشرع الإسلام، وإقبالاً على ما يضاده وينافيه، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به، والعمل بما ينافيه" (الاعتصام [1/85]).

    وعلى كل حال فإن غياب التعامل الصحيح للمبتدع يحيي البدع ويميت السنن، وفي هذا هدم للإسلام بعينه.

    أنواع الهجر:

    أنواع الهجر ثلاثة:

    الأول: الهجر ديانة، أي: الهجر لحق الله تعالى، وهو من عمل أهل التقوى، في هجر السيئة، وهجر فاعلها، مبتدعًا أو عاصيًا.

    وهذا النوع من الهجر على قسمين:

    1- هجر ترك: بمعنى هجر السيئات، وهجر قرناء السوء الذين تضره صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة، قال الله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]، وقال سبحانه: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10]، وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (أخرجه البخاري في الإيمان).

    2- هجر تعزير: وهذا من العقوبات الشرعية التبصيرية التي يوقعها المسلم على المبتدعة على وجه التأديب، في دائرة الضوابط الشرعية للهجر حتى يتوب المبتدع ويفيء.

    وهذا النوع بقسميه من أصول الاعتقاد، والأمر فيه أمر إيجاب في أصل الشرع، ومباحثه في كتب السنن والتوحيد والاعتقاد وغيرها.

    النوع الثاني: الهجر لاستصلاح أمر دنيوي، أي الهجر لحق العبد، وفيه جاءت أحاديث الهجر بما دون ثلاث ليال، رواها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بأسانيد في الصحيحين وغيرها، وجميعها تفيد أن الشرع لم يرخص بهذا النوع من الهجر بين المسلمين إلا بما دون ثلاث ليال، وليس هو مجال حديثنا.

    النوع الثالث: الهجر قضاء، وهو من العقوبات التعزيرية للمعتدين، وهذا يبحثه الفقهاء في باب التعزير. (من رسالة (هجر المبتدع)، مرجع سابق، بتصرف).

    وجعل شيخ الإسلام -رحمه الله- أنواع الهجر في الشرع قسمين، فقال:

    "الهجر الشرعي نوعان:
    أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات.
    والثاني: بمعنى العقوبة عليها.

    فالأول: هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك...

    النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، يهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم، حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر" (مجموع الفتاوى [28/20]).

    صفات الهجر:

    الأصل في الهجر هو الإعراض عن المبتدع والبراءة منه، ومن مفرداته تركُ: مجالسته، ومجاورته، وتوقيره، ومكالمته، والسلام عليه، والتسمية له، وبسط الوجه له، وسماع كلامه، ومشاورته... كل ذلك بقصد إصلاحه إذا عُلم تحقق ذلك؛ أما إذا عُلم فساد حاله أكثر أو تضييع مصلحة المسلمين فتقدر الأمور بقدرها.

    وللهجر الشرعي ضوابط، منها:

    1- لا بد أن يؤدي هذا الهجر إلى الهدف الذي شرع من أجله، وهو الإقلاع عن هذه البدعة، وإلى عدم فعل ما يشبهها من قِبله، أو من قِبَل غيره، أما إذا كان المبتدع لا يزيده الهجر إلا تماديًا في السوء، وركونًا إلى أهل السوء، أو غير ذلك من المفاسد فإنه لا يهجر.

    فالمؤمن كالطبيب إذا رأى العلاج نافعًا فعله؛ لأن الهجر من باب العلاج، فإن كان الهجر يؤثر خيرًا وينفع هُجر، وكان ذلك من باب العلاج لعله يتوب ويرجع عن خطئه إذا رأى من إخوانه أنهم يهجرونه، أما إذا كان الهجر يسبب مزيدًا من الشر وكثرة أهل الشر وتعاونهم فإنه لا يهجر، ولكن يديم له النصح والتوجيه وإظهار الكراهة لما عمل، ولا يبين له موافقته على باطله، ولكن يستمر في النصيحة والتوجيه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به -يعني الهجر- زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعًا، وإن كان لا المهجور ولاغيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف... وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع -كما كثر القدَر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة- وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه" (مجموع الفتاوى [28/203]).

    ولو أن طالب علم مثلاً ذهب إلى أهله في بادية بعيدة وخاصة التي يغلبُ عليها البدع، فوجدهم يفعلون ما يفعلون من البدع، فقال: أنا أعرف أن من أصول أهل السنة والجماعة هجر أهل البدع فلنهجرهم، فإنه لن يدع أحدًا إلا هجره؛ لأن الناس ألفوا هذه البدع وعاشوا عليها، فيصير هو المنكر المهجور؛ لأن الهاجر في هذه الحالة ضعيف والمصلحة لا تتحقق، والمشكلة ليست في عدم قيام طالب العلم بالإنكار أو عدم هجره لأهل البدع، ولكن المشكلة أن المصلحة الشرعية غير حاصلة. (من رسالة (هجر المبتدع)، مرجع سابق، بتصرف).

    2- الهجر الشرعي عبادة من جنس الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعبادة لا بد من توفر ركنيها:الإخلاص والمتابعة، أي بأن يكون الهجر خالصًا صوابًا، خالصًا لله صوابًا وفق السنة، وإن هوى النفس ينقض ركنية الإخلاص، كما أن ركن المتابعة ينقضه عدم موافقة الهجر للمأمور به.

    3- هجر المبتدع ليس عامًا في كل حال ومن كل إنسان ولكل مبتدع، كما أن ترك الهجر والإعراض عنه بالكلية تفريط، وهجر لهذا الواجب الشرعي المعلوم وجوبه بالنص والإجماع، وإن مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد، وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها، واختلاف مبتدعها، واختلاف أحوال الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة والكثرة، فلا بد من مراعاة كل هذا.
    .................................................. .
    الأصل في التعامل مع المبتدع:
    الموقف الأصلي العام للسلف من المبتدعة هو هجرهم، وترك مجالستهم ومناظرتهم؛ لأن الأمور الباعثة لهم على الهجر من المصالح الدائمة الغالب وجودها مثل الخوف من انتشار البدعة، أو التأثر بها، أما إن تخلفت هذه المصالح، أو كانت المصلحة في غير ذلك الهجر فإن الحكم هنا دائر مع منفعته، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه كما قال ابن تيمية (الفتاوى:8/206).

    قال ابن عبد البر في فوائد حديث كعب بن مالك في الذين خلفوا: "وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته، وقطع الكلام عنه" (التمهيد:4/87)، وقال البَغْوي: "وفيه -أي حديث كعب بن مالك- دليل على أن هجران أهل البدععلى التأبيد" (شرح السنة:1/227)، وقد مضى الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم.

    ضوابط في دعوة المبتدعة:
    هناك ضوابط ومعالم للمنهج الشرعي في دعوة المبتدعة، والتعامل مع عامة ذوي المخالفات الشرعية، منها:
    1- لا بد أن تكون دعوة أهل البدع قائمة على أصلين: (الإخلاص والمتابعة)، وذلك أن الحكم ببدعة ما، واتخاذ موقف من أهلها، مسائل شرعية نحن متعبدون بها، فيشترط لها ما يشترط لسائر العبادات، ومعنى الأخذ بالإخلاص أنه ينبغي ألا يكون الموقف عقابًا، أو تألفًا إزاء أحد من المبتدعة تشهيًا ولا تشفيًا.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجرًا غير مأمور به كان خارجًا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله" (مجموع الفتاوى:28/207)، وقال رحمه الله: "إذا كان مبتدعًا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقًا يخالف الكتاب والسنة، بُيِّن أمره للناس؛ ليتقوا ضلاله ويعلموا حاله، وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح، وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان؛ مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد أو تباغض أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهرًا للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص، واستيفاؤه منه؛ فهذا من عمل الشيطان" (مجموع الفتاوى:28/221).

    2- ومن المهم عند دعوة أهل البدع معرفة أن البدع ليست بدرجة واحدة، بل تتفاوت بقدر ما ارتبط بها من مفسدة، فمنها ما هو معصية، ومنها ما هو كفر أو شرك، وقد تكون بعض البدع ذريعة إلى الشرك، فلا بد أن ينزل كل إنسان منزلته، ويدعى بما يناسب حاله، كما قال الشاطبي رحمه الله: "كل بدعة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها، فيكون منها صغار وكبار؛ إما باعتبار أن بعضها أشد عقاباً من بعض؛ فالأشد عقاباً أكبر مما دونه، وإما باعتبار فوات المطلوب في المفسدة (الاعتصام 1/359).
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الطوائف المنتسبة إلى مبتدعين في أصول الدين على درجات: فمنهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون قد خالف السنة في أمور دقيقة" (مجموع الفتاوى:3/348).

    3- من المهم عند دعوة أهل البدع معرفة أن من صفات أهل السنة أنهم يعلمون الحق ويرحمون الخلق:
    والمبتدع من أولئك الخلق الذين يرحمهم أهل السنة مع يقينهم بكونهم على بدعة يستحقون بها العقوبة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون فيه موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون مع من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة:8]، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا يقصدون لهم الشر ابتداءًا، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق" (الرد على البكري:2/490).

    وقال: "وإذا نظرت إلى المبتدعة بعين القَدَر والحَيْرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاءًا وما أوتوا زكاءًا، وأعطوا فهومًا، وما أعطوا علومًا، وأعطوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف:26]، (مجموع الفتاوى:5/119).

    ويمثل هذا الخلق العالي أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه لما رأى سبعين رأسًا من رؤوس الخوارج، وقد جُزَّت ونُصِبَتْ على درج دمشق، قال: "سبحان الله! ما يصنع الشيطان ببني آدم؟ كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء، ثم بكى وقال: إنما بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام" (مسند أحمد:22314).

    4- ومن المهم عند دعوة أهل البدع معرفة أن المبتدع والفاسق ينقص من موالاتهما بحسب جريرتهما، ولذلك قد يجتمع في المسلم حب وبغض، فيُحَبُّ لما معه من إيمان، ويُبْغَضُ لما اقترفه من بدعة وعصيان، كما قال شيخ الإسلام: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة" (مجموع الفتاوى:28/209).

    ضوابط مناظرة أهل البدع:
    ولا بد أن يُعلم عند دعوة أهل البدع أن مناظرة أهل الأهواء من أخطر أنواع المناظرات، وعليه يحمل أكثر كلام السلف في التحذير من ذلك، فينبغي على من تصدى لدعوتهم ومناظرتهم أن يتسلح بالعلم الشرعي، وذلك لما يترتب عليه من آثار مثل:
    - ما يمكن أن يقع في قلب من يناظر أهل البدع من شبه أو شكوك.
    - في مناظرتهم نشر لبدعتهم، وفي الإعراض عنهم إخماد لها.
    - في مناظرتهم تقوية لهم ورفع لشأنهم.

    ولذا لا بد عند مناظرة أهل البدع من ضوابط، منها:
    1- ألا تكون المناظرة لأهل البدع عبثًا وتضييعًا للوقت، وإظهارًا للقدرة على قوة الحجة، والتفوق في العلوم، كما كان يحصل كثيرًا في مجالس الخلفاء، ولكن لا بد أن تكون في مقام تمييز حق من باطل، وصدع بالسنة وبطريقة السلف في مواجهة الزحف البدعي الظالم فهذا من الجهاد المشروع في سبيل الله باللسان والبيان، وهو قسيم الجهاد في سبيل الله بالسلاح والسنان، ولما كان المجاهد في سبيل الله موعودًا بالنصر بالظفر أو الشهادة، فإن المجاهد باللسان لا بد أن يكون كذلك إذا اتقى الله ما استطاع، وكان له من العلم ما يؤهله لخوض غمار معركة المبتدعة بالحجة؛ إذ الحجة في جهاداللسان تقابل القوة في جهاد الطِّعان، فمن كانت هذه حاله فإنه إذا ناظر المبتدع لم يكن إلا قد قام بواجب الدين عليه، والله تعالى أكرم من أن يضيع من هذه حاله في دينه ونفسه، بل يحميه من البدعة ومن أن يقر ذلك في قلبه، أو أن يكون سبباً مفضياً به إلى الزيغ والبدعة.

    2- ألا تكون المناظرة هدفاً لذاتها بحيث يظن أنها سبيل صحيح لتحصيل العلم، ويحصل بسبب ذلك التوسع والمسامحة في مخالطة المبتدعة فهذا مذموم أيضاً، كما ورد في ترجمة الإمام العلامة المتفنن أبو الوفاء ابن عقيل (ت 513هـ) أنه قال عن نفسه: "وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علمًا نافعًا" (ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب:1/126، والمنتظم لابن الجوزي:9/213، وسير أعلام النبلاء:19/447).، قال الذهبي معلقاً: "قلتُ: كانوا ينهونه عن مجالسة المبتدعة، ويأبى حتى وقع في حبائلهم، وتجسَّر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة" (سير أعلام النبلاء:19/447).

    3- وكذا يُذَم البحث والنظر -فضلاً عن الجدال والمناظرة- إذا كان هذا الباحث متشككًا متحيرًا متهوِّكًا؛ فهذا يجب عليه أن يطلب الهدى من مظانه لا أن يخرج للبيداء يلتمس السُقيا.
    قال شيخ الإسلام: "وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيُخاف عليه أن يُفسده ذلك المضل، كما يُنهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار؛ فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة، وقد يُنهى عنها إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله، والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة مَنْ لا يقوم بواجبها، أو مع من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال، وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة، ومستحبة أخرى، وفي الجملة جنس المناظرة والمجادلة فيها محمود ومذموم ومفسدة ومصلحة وحق وباطل" (درء تعارض العقل والنقل:ج7/172-174).

    4- ومن المناسب أن تُتبع هذه المناظرات في حالة إذاعتها في تلفاز ونحوه ببرامج هادفة، يكون المتحدث فيها من أهل السنة ليغسل في برنامجه أوضار المناظرة، ويجيب فيها عن الإشكالات التي قد ذكرت ولم يسع الوقت لنقاشها.
    5- الأصل في المناظرات العلنية ألا يُقدم عليها إلا أن يتضح وجه المصلحة فيها بحيث يكون عظيماً ظاهرًا، ويكون خوف الضرر والمفسدة فيها قليلاً؛ بحيث يغلب هذا على الظن.

    6- يجب الحذر من كون المناظرة داعية للمبتدع في الإيغال في بدعته.
    7- ومن المهم أن يراعى ألا يكون المناظر هو سبب تبغيض الحق إلى الطرف المقابل بالبغي عليه بالقول أو الفعل، أو بسوء خلق، أو بضعف حجة، فليست دعوى المدعي أنه من أهل الحق بعذر له في عدم إظهار البراهين، قال الإمام ابن القيم: "ما كل من وجد شيئًا وعلمه وتيقنه أَحْسَنَ أن يستدلَّ عليه ويقرره ويدفع الشبه القادحة فيه فهذا لون، ووجوده لون" (مدارج السالكين:ج3/486)، وقد قال بشر المريسي للإمام الشافعي رحمه الله: "إذا رأيتني أناظر إنساناً وقد علا صوتي عليه فاعلم أني ظالم، وإنما أرفع صوتي عليه لذلك" (مناقب الشافعي، للبيهقي:ج1/199)، وعلى كل حال فالأكمل للمناظر أن يكون قاصدًا لإيصال الحق إلى الطرف الآخر الذي يناظره متلطفًا في ذلك، فإن أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق كما سبق.

    ومن وسائل المناظرة والمجادلة ما يتلطف به إلى إيصال الحق إلى الخصم شيئًا فشيئًا حتى يتشربه، وقد يفتح الله على قلبه فيتبعه، فيكون لهذا المناظر أجر هداية المبتدع، ولو لم يعلم الناس أو المبتدع نفسه بذلك، ولكن قد علم ذلك وأثبته في صحائفه اللطيف الخبير سبحانه وتعالى.
    .............................................
    تنبيهات عند دعوة المبتدع:وهذه أمور ينبغي أن يُنتبه لها عند قصد دعوة أهل البدع:1- ألا يحملنا كراهة البدعة وأهلها على الغلو مع المبتدعة، بل لا بد من العلم ومعرفة القواعد والمقاصد الشرعية التي تضبط تصرفات المكلفين وتقدير المصالح والمفاسد أثناء دعوتهم، فقد ظن أناس أن هجر المبتدع حكم شرعي لازم كملازمة المسببات لأسبابها، وهو بمنزلة الحد أو هو كالبراء، والواقع أن هجر المبتدع كغيره من عقوبات المبتدعة وأهل المنكرات من المصالح المرسَلة التي تقدر بقدرها، ويعمل بها حسب الحال.قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مبينًا اختلاف الناس في أخذهم بعقوبة هجر المبتدع: "إن أقواماً جعلوا ذلك عامًّا فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به مما لا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أُمِروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره... ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا.. ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه" (مجموعالفتاوى:ج28/213).2- كما أنه لا يجوز اتخاذ موقف سلبي من مسلم بسبب أمور وقع فيها إلا بعد أن يغلب على الظن أنها بدعة، أو معصية، من خلال معرفة كون ذلك العمل أو الأعمال بدعة فعلاً أو معصية، فإن جملة من الخلافات التي تقع بين الناس في المسائل الشرعية يكون سببها قصر النظر في فهم الخلاف المذهبي الفقهي، وفي الوقت ذاته توسيع دائرته ليصبح خلافًاً عقديًاً أو مخالفات شرعية، أو ربما كانت في أمور دنيوية ليست من الشرع أصلاً (قضايا دعوية.. كيف نتعامل مع المبتدعة ؟ لسليمان الخضير، بتصرف)، فينبغي للمسلم أن يعرف مفهوم البدعة وماذا يشمل؟ فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.3- كما أنه لا بد من العدل مع المبتدعة حتى يكون ذلك سببًا لاستجابتهم، فإن العدل فضيلة مطلقة، لا تقييد في فضله، فهو ممدوح في كل زمان، وكل مكان، وكل حال، ممدوح من كل أحد، مع كل أحد، بخلاف كثير من الأخلاق فإنه يلحقها الاستثناء والتقييد، ولهذا اتفقت على فضله الشرائع والفطر والعقول، وما من أمة أو أهل ملة إلا يرون للعدل مقامه.وبالعدل تحصيل العبودية لله وحده، وبه تُعطى الحقوق، وتُرد المظالم، وبه تأتلف القلوب، لأن من أسباب الاختلافالظلم والبغي والعدوان، وبه يُقبل القول، أو يعذر قائله، وبه تحصل الطمأنينة والاستقرار النفسي، فالخلاف مضيق لآراء الناس ومواقفهم، وعند المضايق يذهب اللب، وإذا ذهب اللب فلا تسأل عن ضياع حقوق المخالف، بل ضياع الحق نفسه في أحيان كثيرة، ففي الوقت الذي ندين لله تعالى ببغض المبتدع واستيقان استحقاقه للعقوبة نلزم أنفسنا بما ألزمنا الله به من العدل والإنصاف، فالعدل منهج شرعي في كل شيء..على أن العدل المحض في كل شيء -كما يقول شيخ الإسلام- متعذر علمًا وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل (مجموع الفتاوى:ج10/99).وأصل هذا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فمن العدل ذكر ما لهم من صواب، وذلك بحسب المقام والحال، واعتبار المصالح والمفاسد، والجمع بين ذكر محاسن المبتدع والتحذير منه غير سائغ في كل مقام، وإفراد المحاسن بالذكر مظنة الاغترار، والاقتصار في جميع الأحوال على التحذير وذكر المثالب بخس وإجحاف، ولكن حسب ما يقتضيه المقام.ويتمثل هذا العدل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن الباقلاني الأشعري مثلاً حيث يقول: "مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة، والمحاسن الكثيرة، والرد على الزنادقة والملحدين، وأهل البدع حتى إنه لم يكن من المنتسبين إلى ابن كُلاَّب والأشعري أجلَّ منه، ولا أحسن كتبًاً وتصنيفًا" (درء تعارض العقل والنقل:ج1/283).
    وقد ألف شيخ الإسلام كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) وهو مخصص للرد على الأشاعرة، وعلى رأسهم أبو عبد الله فخر الدين الرزاي، وقد ذكره في (261) موضعًا لم يصفه فيها بلفظ شائن، ولا عبارة مقذعة، ولا سماه بالمبتدع.
    4- من كان رادًا على المبتدعة فليتحلَّ بالصبر وإلا فلا يشق على نفسه وعلى المسلمين، وليكف عن الناس أذى لسانه وبنانه فهو صدقة منه على نفسه، وليس لأحد عذر في أن يرد على الباطل بالباطل، والبدعة بالبدعة أبداً.5- لا بد من الحرص على دعوة المبتدعة والرغبة في إيصال الحق إليهم.6- الرغبة في مزاحمة المبتدعة في الوصول إلى الناس، وإعطائهم الأمصال الواقية من تلك البدع وإظهار ضعف حجة المبتدع، والطمع في التأثير على أبناء ملته وأتباعه على بدعته إذ رجوعهم إلى الحق أيسر من رجوعه إليه.7- الحرص على جمع الناس على كلمة سواء، وذلك أن المسلمين مأمورون بالاعتصام بحبل الله، ولا يمكن اجتماعهم على غيره أصلاً، ففي نفي زغل البدعة وأهلها تقدُّمٌ نحو تحقيق هذا المقصد الشرعي العظيم، وليكن ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.8- اغتفار زلة العلماء والدعاة الذين ثبت أن منهجهم هو منهج أهل السنة، ثم وقع منهم هفوة أو زلة أو بدعة متأولة ينبغي نصحهم والتحذير من الخطأ الذي وقعوا فيه، لكن لا ينبغي إسقاطهم بالكلية، وإخراجهم من المنهج لزلة أو هفوة، فإن العصمة ليست لأحد سوى الأنبياء، كما قال ابن القيم: "وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلومًاً جهولاً؟! ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته" (مدارج السالكين:ج3/522)، فإذا كان واجبنا أن نلتمس العذر للمسلم بصفة عامة فينبغي أن يكون لدعاتنا وعلمائنا نصيب أكبر في العذر وإحسان الظن..وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى الأساس الذي يقوم عليه هذا المنهج وهو الموازنة بين حسنات الرجل وسيئاته، وما له وما عليه، يقول شيخ الإسلام: "إن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يعذر فيه، إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته كما قررته في غير هذا الموضع" (الفتاوى الكبرى:ج6/92)، وقال أيضاً: "إن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين" (مجموع الفتاوى:ج10/371)، وقال الشاطبي: "زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدًا له وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة وإلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين" (الموافقات: ج4/170).وقال الذهبي: (ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زللـه، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك" (سير أعلام النبلاء: ج5/271).9- لا بد أن نعلم أن عبارات السلف الشديدة في حق المبتدعة خرجت في حق أهل العناد والداعين إلى البدع، ومن هذه العبارات ما خرج من أجل الزجر عن الوقوع في البدع والتساهل فيها، أو مع أهلها، قال ابن القيم رحمه الله: "كان ابن عباس رضي الله عنهما شديدًاً على القدرية، وكذلك الصحابة" (شفاء العليل:ج1/29). ومما يُظهِرُ شدة الصحابة على المبتدعة وتبرئهم منهم قول ابن عمر رضي الله عنهما حينما سئل عن القدرية فقال: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني" (أخرجه مسلم في الإيمان:ج1/28-102).فينبغي على الداعية لأهل البدع أن يعرف متى يستخدم الشدة؟ ومتى يستخدم اللين؟ وما يحقق المصلحة الشرعية وما لا يحققها، فيضع الشدة في مكانها، واللين في مكانه، لأن إغفال هذا الأمر مضر، وكما قال المتنبي:

    ووَضعُ الندى في موضع السيف بالعلا *** مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى
    (البيت في شرح ديوان المتنبي: ج1/266، وفي الصبح المنبي عن حيثية المتنبي: ج1/42)والله الموفق للصواب.
    التعديل الأخير تم بواسطة لؤلؤة باسلامي; الساعة 16-11-2014, 11:39 AM. سبب آخر: حذف روابط خارجية على بعض الكلمات, بوركتم
    "الشهادة نموذج حل"

يعمل...
X