إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بصائر قرآنية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بصائر قرآنية

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بصائر قرآنية
    تابعونا :
    كل صاحب بدعة ذليل!

    مقدمة :
    قال الحسن البصري [ت: 110] -رحمه الله تعالى-: «إن ذُلَّ البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البَغْلَاتُ، وطقطقت بهم البَرَاذِينُ».


    أسند الطبري إلى سفيان بن عُيينة -رحمه الله- في قول الله -تعالى-: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْـمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]؛ قال: «كل صاحب بدعة ذليل!»[1]، وقد ذكر هذا الأثر أيضًا ابن أبي حاتم وابن عطية وأبو حيان وابن كثير والثعالبي وغيرهم[2].

    ويكاد يكون هذا المسلك في الاستنباط سُنَّة كونية وعاه سفيان؛ وذلك من خلال فهم دقيق وشامل لسياق الآية، فكما أن سياق الآية ذو شأن في تفسيرها فكذلك في تدبُّرها، وهو أحد وجوه التدبُّر المهمة لفهم النصوص وتأملها.

    وأمَّا وجه استنباطه من قول الله -تعالى-:
    {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْـمُفْتَرِينَ}[الأعراف: 152]، وتنزيلها على صاحب البدعة؛ فذلك أن المبتدع مُفْتَرٍ في دين الله، والمراد بالافتراء الاختلاق في أصول الدين؛ بوضع عقائد لا تستند إلى دليل صحيح من دلالة الوحي، ونبي الله موسى -عليه السلام- كان قد حذَّر قومه من عبادة الأصنام كما حكاه الله فيما مضى قبل هذه الآية في قوله -تعالى-: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[الأعراف: 138].

    فجعل الله جزاءهم على الافتراء الغضب والذلة، وذلك إذا فعلوا مثله بعد أن جاءتهم الموعظة من الله، ولذلك لم يكن مشركو العرب أذلاء، فلما جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- ووعظهم وذكَّرهم فاستمروا على الافتراء عاقبهم الله بالذلة، فأزال مهابتهم من قلوب العرب، واستأصلهم قتلاً وأسرًا، وسَلب ديارهم، فلما أسلم منهم من أسلم صاروا أعزَّة بالإسلام[3].

    ومن هنا يظهر للمتأمل في سياق الآيات متانة كلام سفيان -رحمه الله تعالى- حين قال ذلك متفكرًا بمشاهد القصة وآثارها؛ فعمَّم تلك الذلة لكل صاحب بدعة؛ حيث قال في موضع آخر: «ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، وهو في كتاب الله! قالوا: أين هي؟ قال: أما سمعتم إلى قوله: إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين؟ قالوا: يا أبا محمد هذه لأصحاب العجل خاصة! قال: كلا! اقرأ ما بعدها: وكذلك نجزي المفترين؛ فهي لكل مُفترٍ ومبتدعٍ إلى يوم القيامة»[4].

    ولهذا الاستنباط شواهد من كلام السلف؛ فعن أيوب السختياني [ت: 131] قال: «تلا أبو قِلابة هذه الآية: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْـمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]؛ قال: هو جزاء لكل مُفترٍ إلى يوم القيامة أن يذلّه الله![5].

    وقال الإمام مالك بن أنس [ت: 179] -رحمه الله تعالى-:«ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة!»[6].

    ومن قبله قال الحسن البصري [ت: 110] -رحمه الله تعالى-: «إن ذُلَّ البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البَغْلَاتُ، وطقطقت بهم البَرَاذِينُ»[7].

    وهذا مُشاهَد ذلك في واقع كلّ عصر يهجر أهلُه القرآنَ والسُّنة، ويبتدعون في دين الله ما ليس منه. فعلى المسلم أن يحذر البدع وأهلها، فإن مآلها خطير؛ ذلٌ في الدنيا، وخسرانٌ في الآخرة. والله المستعان

    المصادر :


    [1]  تفسير الطبري 10/465.
    [2]  تفسير ابن أبي حاتم 5/1571، تفسير ابن عطية 2/458، تفسير أبي حيان 5/185، تفسير ابن كثير 3/478، تفسير الثعالبي 3/80.
    [3]  تفسير ابن عاشور 9/120.
    [4]  الدر المنثور، السيوطي 3/565.
    [5]  الدر المنثور، السيوطي 3/565.
    [6]  تفسير الثعلبي 4/287.
    [7]  تفسير ابن كثير 3/478، والبراذين: جمع برذون: التركي من الخيل. ينظر: المُغْرِب في ترتيب المُعْرِب، المطرِّزي ص42، مادة برذن.


    التعديل الأخير تم بواسطة متبع رسول الله; الساعة 14-05-2024, 11:24 AM. سبب آخر: تعديل إملائي
    قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

  • #2
    ملاك الاستقامة :
    مقدمة
    حدَّ قتادة الصبر بأنه الصبر على طاعة الله، والصبر عن محارمه، فخرج بتعريف يشعّ إيمانًا فيوقد في القلب الهمة إلى بلوغ هذه الرُّتَب وعَقد الهمم عليها.


    أسند الإمام الطبري في تفسيره إلى قتادة -رحمه الله- في قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران : 17]؛ قال: (الصادقين: قومٌ صدَقَت أفواهُهم، واسْتَقامَت قلوبُهم وألسنتُهم، وصدَقوا في السرِّ والعلانية، والصابرين: قومٌ صبروا على طاعة الله، وصبروا عن مَحارمِه، والقانتين: هم المطيعون لله)[1].
    وقد ذكر هذا الأثر أيضًا من المفسرين: الثعلبي والواحدي والبغوي وأبو حيان والشوكاني[2].
    وفيه تتجلى منهجية السلف في تزكية النفوس بالقرآن، وتناول قتادة لهذه المقامات القلبية العالية يبيّن مدى عنايتهم بأعمال القلوب؛ في إشارة منه إلى أنها العمدة عند الله، والأصل لأعمال الجوارح، وبدأ بأهمّ هذه الأعمال وهو الصدق بأركانه الثلاثة؛ قال تعالى{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر : 33]. قال ابن القيم [ت: 751] -رحمه الله-: (فالذي جاء بالصدق: هو مَن شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله... وهو روح الأعمال ومحك الأحوال، ومناط الفلاح يوم الدين)[3]؛ ولهذا لما سُئِل الإمام أحمد [ت: 241]: كيف نجوت من سيف الواثق وعصا المعتصم؟ قال: (لو وُضِعَ الصدق على جرح برأ)[4].
    وعطف الصدق على الصبر؛ لكون الصبر من شأن الصادق[5]، ومن أدلته: قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان : 17] وورد في القرآن أربى من تسعين موضعًا[6].
    وهو شطر الإيمان، ومرجع الدين إليه، وجميع المقامات الأخرى لا تنفك عنه[7].
    وحدَّ قتادة الصبر بأنه الصبر على طاعة الله، والصبر عن محارمه، فخرج بتعريف يشعّ إيمانًا فيوقد في القلب الهمة إلى بلوغ هذه الرُّتَب وعَقد الهمم عليها.
    وكما حدّ -رحمه الله تعالى- الصبر حدًّا إيمانيًّا؛ فكذلك عرَّف القنوت بأسهل عبارة وأسرعها فهمًا وأعظمها تطبيقًا، وهي أن القنوت طاعة الله، ويُلْحَظ فيه أنه عدل في تعريفه إلى الجملة الاسمية للدلالة على الثبوت والدوام، ويستدل له بقوله تعالى:
    {۞ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب : 31]
    ومن التأملات البديعة في الأثر: توظيفه -رحمه الله- للعموم في الآية بما يعين قارئ القرآن على امتثال آيات القرآن واقعًا في حياته؛ فقد تناول -رحمه الله- هذه المراتب الإيمانية العظمى بأيسر عبارة، وأجمل إشارة، فجميع هذه الأمور: (الصدق/ الصبر/ القنوت) الواردة في الآية الكريمة هي ملاك استقامة الفرد؛ كما أشار إليه ابن عاشور -رحمه الله تعالى- في تفسيره[8].
    جعلنا اللهُ وإياكم من عباده الصادقين، وحزبه المفلحين.
    المصادر :


    [1] تفسير الطبري (5/273).
    [2] تفسير الثعلبي (3/29) التفسير الوسيط (1/420) تفسير البغوي (1/419) تفسير أبي حيان (3/57) تفسير الشوكاني (1/372).
    [3] مدارج السالكين، ابن القيم (2/257).
    [4] تاريخ دمشق، ابن عساكر (5/320).
    [5] نظم الدرر، البقاعي (4/284) نقلاً عن الحرَالي المتوفى سنة (638).
    [6] مدارج السالكين، ابن القيم (1/130).
    [7] ينظر: المرجع نفسه (1/153).
    [8] تفسير ابن عاشور (3/185).
    قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

    تعليق


    • #3
      ثلاثٌ من الصبر
      { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}
      مقدمة :

      أعظمَ مُكدِّرات الصبر ومداخل الشيطان على أهل البلاء؛ ألا وهو التحدُّث بالأوجاع والمصائب، وتزكية النفس؛ حيث يتسلّل الشيطان من هذا المنفذ للمبتلى؛ فيُملي عليه أحاديثه من سوء الظن بالله -تعالى-، وتهويل المصيبة في عينيه، فينثلم صبره، بل تتكدّر حياته، ويُكْثِ


      أسند الإمام الطبري في تفسيره إلى سفيان الثوري -رحمه الله- في قول الله تعالى-: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}[يوسف : 18] عن بعض أصحابه قال: (يُقَالُ: ثلاثٌ من الصبر؛ ألَّا تُحَدِّثَ بِوَجَعِك، ولا بِمُصيبتك، ولا تُزَكِّي نفسَك)[1]، وقد ذكر هذا الأثر من المفسرين: عبدالرزاق، والرازي، وأبو حيـــان، وابن كثير، وغيرهم[2].
      وهذا الأثر يَرسم للمؤمنين نَهْج امتثال هذه الآية في حياتهم؛ فهو من قبيل التدبُّر العَملي؛ إذ يُراد منه: حثّ الناس على الائتمار بما في الآية، وتجسيدها خُلقًا وسُلوكًا.
      ولفِقْه الأثر لا بُدّ من التفريق المتأمِّل بين نوعي الشكوى؛ فإما أن تكون إلى الله -تعالى-، وهي لا تُنافي الصبر. وإما أن تكون شكوى الله -عياذًا بالله- إلى خلقه، وهذه هي المقصودة بالذَّمّ في هذا الأثر
      [3].
      ولا يتضح هذا إلا بالتفريق بين الشكوى للمخلوق وإخباره بالحال؛ فإخبار المخلوق بالحال لا يقدح في الصبر[4]؛ فما كان من شكوى المريض على طريق طلب الشفاء من الله، أو على غير طريق التسخُّط للقدَر والتَّضجُّر؛ فإنه جائز، فالألم لا يقدر أحد على رَفعه، والنفوس مجبولة على وجدان ذلك، فلا يُستطاع تغييرها. وإنما كُلِّف العبد أن لا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه؛ كالمبالغة في التَّأوُّه، والجزع الزائد[5].
      وإذا تقرر هذا؛ فالأثر خير عَوْن للمُتدبِّرين على تَمَثُّل الصبر الجميل؛ فببيان معناه يَسْهل الامتثال، ويَهُون الصبر، وتزدان أخلاق المتدبرين فَيُرَى القرآن في خُلقهم صبرًا وجلدًا على البلاء، وانفكاكًا من حديث التسخُّط والتوجُّع إلى الرضا عن الله وقدَره.
      وبَيَّنَ الأثرُ أعظمَ مُكدِّرات الصبر ومداخل الشيطان على أهل البلاء؛ ألا وهو التحدُّث بالأوجاع والمصائب، وتزكية النفس؛ حيث يتسلّل الشيطان من هذا المنفذ للمبتلى؛ فيُملي عليه أحاديثه من سوء الظن بالله -تعالى-، وتهويل المصيبة في عينيه، فينثلم صبره، بل تتكدّر حياته، ويُكْثِر الالتفات إلى ما عند الناس.
      وهذا -بميزان العقل السليم- أعظم من مصيبته؛ التي لو التزم فيها بالصبر الجميل، لكانت له مرقاة إلى الكمال، ولانقلبت في حقه من مِحْنة إلى مِنْحة.
      وهذا الفَرْق هو الفرق بين المؤمن وغيره في الحياة مع الله والسير إلى الدار الآخرة، ولقد صدق من قال:
      «عنوان السعادة في ثلاث: مَن إذا ابتُلِيَ صبَر، وإذا أذنَب استغفَر، وإذا أُعطِيَ شَكَر».

      المصادر:
      [1] تفسير الطبري (13/41).
      [2] تفسير عبد الرزاق (2/208)، تفسير الرازي (18/431)، تفسير أبي حيان (6/251)، تفسير ابن كثير (4/375)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (4/514) إلى ابن المنذر.
      [3] يُنظر: عدة الصابرين، ابن القيم (ص18).
      [4] يُنظر: المرجع نفسه (ص271).
      [5] يُنظر: فتح الباري، ابن حجر (10/124).
      قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

      تعليق


      • #4
        وذَكِّرْهم بأيام الله!
        مقدمة :
        من أهم وظائف الأنبياء التي يجب أن يقوم بها مَن بعدهم من الدعاة هو تذكير الناس بأيام الله ونِعَمه، يقول القرطبي -رحمه الله- [توفي: 671هـ]: «ودلَّ هذا على جواز الوعظ المرفق[6] للقلوب، المُقوِّي لليقين، الخالي من كل بدعة، والمُنزَّه عن كل ضلالة وشبهة»

        أسند الإمام الطبري في تفسيره إلى عبدالرحمن بن زيد بن أسلم -رحمه الله- في قوله تعالى:

        {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ابراهيم : 5]؛ قال: «أيامه التي انتقَم فيها مِن أهل معاصيه مِن الأمم، خَوِّفْهم بها، وحَذِّرْهم إياها، وذكِّرْهم أن يُصِيبَهم ما أصاب الذين من قبلِهم»[1].

        وقد ذكر هذا الأثر أيضًا من المفسرين: الماورديُّ والقرطبيُّ وأبو حيان[2]. ويُستدل له بحديث أُبَيٍّ -رضي الله عنه- في الآية: ذَكِّرْهُم «بنِعَم الله»[3]. ووجه الدلالة:أنه اجتُزِئَ بذِكْر الأيام عن ذِكْر النِّعم؛ لكون هذه الأيام معلومةً لديهم[4]، وحديث الزبير بن العوام -رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فيُذَكِّرُنا بأيام الله، حتى نعرف ذلك في وَجْهه، وكأنه نذير قوم يصبحهم الأمر غدوة...»[5].

        وفي أفْيَاء هذا التَّدبُّر نجد أن من أهم وظائف الأنبياء التي يجب أن يقوم بها مَن بعدهم من الدعاة هو تذكير الناس بأيام الله ونِعَمه، يقول القرطبي -رحمه الله- [توفي: 671هـ]: «ودلَّ هذا على جواز الوعظ المرفق[6] للقلوب، المُقوِّي لليقين، الخالي من كل بدعة، والمُنزَّه عن كل ضلالة وشبهة»[7]. ففي الأثر لفتة مهمة للمُصلِحين باستثمار وقائع التاريخ في وعظ الناس وإصلاحهم، كما هو حال الأنبياء مع أقوامهم.

        ومما يُفَاد من هذا الأثر العظيم: العناية بالتاريخ؛ لما له من أثرٍ كبيرٍ في إصلاح الفرد والأُمّة، لا سيما تلك الأيام الفاصلة في الصراع بين الحق والباطل؛ إذ إنها تزيد المؤمنين إيمانًا ورسوخًا على المُضيّ قُدمًا في الدرب والطريق، وهذا كله تضمَّنته كلمة ابن زيد في هذا الأثر: «خوِّفْهم بها، وحذِّرْهم إياها، وذكِّرْهم أن يُصِيبَهم ما أصاب الذين من قبلِهم»؛ لما للتاريخ والوقائع المشهورة من أثر على النفوس، واستعمال ذلك المنهج التذكيريّ من الدعاة والعلماء يدلّ على وَعْي عميق ومعرفة عظيمة، وامتثال لمنهج السابقين الأوائل.

        جعلنا الله وإياكم من الصالحين المُصلِحين، ورزَقنا محبّته إلى يوم الدين.

        المصادر :
        [1] تفسير الطبري (13/597).
        [2] تفسير الماوردي (3/122)، تفسير القرطبي (9/342)، تفسير أبي حيان (6/409).
        [3] أخرجه الإمام أحمد، مسند الأنصار، حديث عبدالله بن عباس عن أبي بن كعب، رقم الحديث (21128)، قال ابن كثير في تفسيره (4/478): (رواه من حديث محمد بن أبان، ورواه عبد الله ابنه أيضًا موقوفًا، وهو أشبه).
        [4] يُنظر: تفسير الطبري (13/594).
        [5] أخرجه الإمام أحمد، مسند باقي العشرة المبشرين بالجنة، مسند الزبير بن العوام، رقم الحديث (1437)، قال ابن حجر الهيثمي: (رجاله رجال الصحيح)؛ مجمع الزوائد (2/188)، ومثله قال ابن حجر في التلخيص الحبير (2/119).
        [6] هكذا هي في القرطبي، وكأنها -والله أعلم- (المُرَقِّق للقلوب).
        [7] يُنظر: تفسير القرطبي (9/342).
        قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

        تعليق


        • #5
          أجمعُ آيه!

          أسند الإمام الطبري في تفسيره إلى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: «إن أجمعَ آيةٍ
          في القرآنِ لخيرٍ أو لشرٍّ
          آيةٌ في سورة النحل
          : {۞ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل : 90][1].
          هذا الأثر المقاصدي العظيم يكاد يُطْبِق على ذِكْره وإيراده جميعُ المفسرين عند هذه الآية؛ فقد ذكَره الثعلبي والواحدي والسمعاني والبغوي وابن الجوزي والرازي والبيضاوي وابن جُزي وابن كثير وأبو السعود وابن عاشور، وغيرهم.
          ويُستدل له بقوله -تعالى-: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام : 38]؛ على التفسير بأن المراد بالكتاب هنا هو القرآن[2]، وبحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: «ليس منّا مَن لم يتغن بالقرآن»[3]؛ على تفسير أن المراد بـ«التغني»الاستغناء بالقرآن عن غيره من الأخبار[4].
          وبيان جماع الآية للخير والشر؛ فلأنها جمعت الأمر بفعل أصول التقوى الثلاثة: العدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وكذلك النهي عن أصول المعاصي والآثام الثلاثة: الفحشاء والمنكر والبغي، والتقوى منحصرة في الأوامر والنواهي[5]، «فلم يبقَ شيء إلا دخل فيها؛ فهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات، فكلّ مسألة مشتملة على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى؛ فهي مما أمَر الله به، وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر أو بغي؛ فهي مما نهى الله عنه»[6]، فانتظَم في الآية الأمر بجميع المصالح والزجر عن جميع المفاسد[7].
          والأثر بإيجازه واختصاره يغرس في قلب المسلم عظمة القرآن، وأنه جامع لكل خير وناهٍ عن كل شرّ؛ فتزداد النفس إقبالاً على القرآن وحفاوةً به. وغرس عظمة القرآن في النفوس من أعظم أغراض الوعظ عند السلف.
          كما أن الأثر يلفت نظر المتأمل إلى ما حوى القرآن من إعجاز تشريعي؛ ففي آية منه يُردّ إليها جميع أصول الشريعة وكلياتها؛ كما مرَّ في النقول التي نقلناها عن أئمة التفسير، وهذا كله بالإفادة من عموميات الآية (العدل)، (الإحسان)، (الفحشاءوغيرها.
          إنَّ جمال هذه الهداية يمتدّ ليظهر أيضًا في خُلق المسلم؛ كما يقول قتادة -رحمه الله-: «إنه ليس مِن خُلُق كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خُلُق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقَدَّم فيه»[8]؛ فهذه الأخلاق الحسنة تدخل في عموم الخير الذي ذكره ابن مسعود -رضي الله عنه- في أثره، وكذا ذِكْره لأصول الأخلاق السيئة
          .

          فاللهم اهدنا لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت. وقِنا سيِّئ الأعمال وسيِّئ الأخلاق، لا يقي سَيِّئها إلا أنت.

          المصادر :


          [1] تفسير الطبري (14/337).
          [2] نقل هذا التفسير عن ابن عباس في رواية عطاء. يُنظر: التفسير الوسيط، الواحدي (2/268)، واختاره بعض المفسرين: كالسمعاني في تفسيره (2/101)، الراغب في تفسيره (1/330)، ابن عطية في تفسيره (2/290).
          [3] أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، حديث رقم (7527).
          [4] يُنظر: فتح الباري، ابن حجر (9/72).
          [5] يُنظر: تفسير ابن عاشور (14/254).
          [6] تفسير السعدي (ص447).
          [7] يُنظر: قواعد الأحكام، العز بن عبدالسلام (2/189).
          [8] تفسير الطبري (14/337).

          قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

          تعليق


          • #6
            وإنْ عُدتم عُدْنا!
            أسند الطبري إلى قتادة -رحمه الله- في قول الله -تعالى- عن اليهود المحرّفين:
            {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ۖ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[الأعراف : 167]؛ قال: «فبعث الله عليهم هذا الحيَّ من العرب؛ فهم في عذابٍ منهم إلى يومِ القيامة»[1].

            وقد ذكر هذا الأثر أيضًا عبدالرزاق والماوردي وأبو حيان وابن كثير، وغيرهم[2].

            ويُستدل له بقوله -تعالى- في سورة الإسراء:
            {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}[الإسراء : 8]

            وتضمّن هذا الأثر حقيقةً ثابتةً في عِلْم الاجتماع البشري والتاريخ الإنساني؛ وهو لزوم العذاب لبني إسرائيل من الإذلال والجزية والهوان والصغار، حتى ذكَر الشوكاني [ت: 1250هـ] حالهم؛ فقال: «وقد كانوا أبقاهم الله هكذا أذلاء مستضعفين مُعذَّبين بأيدي أهل الملل، وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية في كل قُطر من أقطار الأرض في الذلة المضروبة عليهم...»[3]. وإذا كان هذا حالهم إبَّان زمن الشوكاني [المتوفى سنة 1250هـ]؛ فإن حالهم في القرون التي سبقته أنكى وأشد ذلًّا.

            وتضمن هذا الأثر خبرًا غيبيًّا إلى يوم القيامة، وهو بقاء اليهود في الذل والخوف والهوان مهما أوتوا؛ يقول الشنقيطي [ت: 1393هـ]:
            «من عادة الله أن يرُدّ لهم الكَرَّة، ويجعلهم أُمّة حتى يكونوا أُمّة، فيُسلّط عليهم مَن يعذبهم؛ ليكون العذاب واقعًا موقعه»[4].

            إنَّ هذا الأثر يبث في الأمة روح اليقين والنصر ليكونوا أهلًا لأن يتحقّق فيهم وعود الله -تعالى-، وأن يحذروا من أعداء الرسل المُكذّبين الضالين من اليهود الحاقدين، فلا يأمنوهم على أنفسهم ولا دينهم ولا ديارهم، فإنهم الأعداء الحَسَدة الضُّلَّال، وما فِعْلهم بإخواننا أهل غزة ببعيد؛ مِن قَتل للأطفال والآمنين والتجويع والحصار وقطع إمدادات الحياة عنهم، وكل ذلك يدل على الروح الانتقامية في نفوس هؤلاء القتلة على من خالفهم وخاصة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك القرآن؛ فإن القرآن الكريم تحدّث عن أساليبهم وطرقهم ومعاملتهم قديمًا، وها هي الآن تتجدد في هذه الأحداث التي تجري الآن على أرض غزة، مما يستوجب على المسلمين عامة أن يعلموا أن المعركة قديمة متجددة، وأن اليهود لا عهد لهم ولا ذمة، وأنهم قتلة الأنبياء وأعداء الأتقياء، وأهل الغدر والشقاء، وأنه بصبر المؤمنين وتعاونهم ومُدافعتهم سيندحرون -بإذن الله- أذلةً صاغرين، وستعود الأرض والمقدسات إلى أهلها -بإذن الله تعالى-:
            {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ۞الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39، 40].

            إنَّ الذي ينظرُ إلى اليهود بمنظار القرآن فلن يُخدَع أبدًا؛ فالقرآن الكريم يقول: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة : 100]
            ، ومن يتعامل مع هدي القرآن فلن يضل أبدًا:
            {۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[المائدة : 51].

            ومَن صدَّق بما في القرآن فلن يتنازل عن حقٍّ أبدًا:
            {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء : 7]

            وكلُّ ما يحدث في أرض بيت المقدس وأكنافه فإنما هو ابتلاء وتمحيص
            {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد : 4]

            هذا هو التاريخ، وهذه دروسه، وتلك هي سُنن الله في الغابرين والحاضرين، فأَبْشِروا وأمِّلُوا، وبدينكم فاستمسكوا، واللهُ -عز وجل- غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

            المصادر :

            [1] تفسير الطبري (10/531).

            [2] تفسير عبدالرزاق (2/94)، تفسير الماوردي (2/273)، تفسير أبي حيان (7/17)، تفسير ابن كثير (3/497).

            [3] تفسير الشوكاني (2/296).

            [4] العذب النمير، الشنقيطي (4/292).
            قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

            تعليق

            يعمل...
            X