لحظة من فضلك هل تريد أن تحيا
في خضم الأمواج المتلاطمة من التيارات الفكرية والعقدية، وفي خضم المدنية المرهقة وثورة الجسد وهزال الروح، يقف الإنسان حائراً يبحث عن طريق للخلاص، ومنفذ للنجاة، وسبيل يأنس إليه ويعيش في كنفه، موفور الكرامة مستريح البال.. مطمئن النفس.. ويتساءل بلهفة: أين أجد الحياة الطيبة والسعادة الحقيقة؟، أين أجد ربيع النفس وسلو القلب وبهجة الروح؟، أين أجد راحة البال وأنس الخاطر؟، أفي هذه الحياة الدنيا محل للسعادة أم هي دار للعمل والنصب والكدح؟!
الحياة في القرآن.. نظرات.. وتأملات:
إن هذه الحياة الدنيا خلقها الله جل وعلا للابتلاء والاختبار ليتميز العاملون {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [سورة الملك:2 ].
وهذه الحياة أنسها منقطع ولذتها فانية وراحتها يتبعها أتراح، وهي دار ممر لا دار مقر، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [سورة غافر: 39]، بل إن الاطمئنان إلى هذه الحياة الدنيا والرضا بها والإعراض عن الآخرة من صفات الغافلين {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [سورة يونس: 7].
ومن أسباب العقوبة عند الله تعالى محبة الدنيا الملهية عن الآخرة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل: 107]، وقد نهى الله عموم الناس عن الاغترار بالحياة الدنيا فقال سبحانهَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [سورة لقمان: 33]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [سورة فاطر: 5].
ويقول سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت: 64].
إن هذه النصوص المتكاثرة تدل على أن الدنيا إن هي إلا دار الترحل منها قريب، وإنما هي للإعداد والعمل والنصب والكدح، وصدق الله {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [سورة الرعد: 26].
وفهم هذه النصوص هام لفهم معنى العبودية ولفهم معنى الجزاء في الآخرة ولفهم الفرق في السعادة بين الدارين.
وهذه الدنيا وان كانت متاعاً وبلغة فإن فيها زادنا إلى الآخرة وفيها العمل الصالح، يقول أبي بن كعب رضي الله عنه: "هل تدري ما الدنيا؟!، فيها زادنا إلى الآخرة وفيها أعمالنا التي نجزى بها" (سير أعلام النبلاء)، يقول تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [سورة الكهف: 46].
وفيها نصر الله للمؤمنين وارتفاع شأنهم في الحياة الدنيا، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [سورة غافر: 51].
فالحياة الدنيا مزرعة يحصد منها كل زارع ما ذراه، ويبقى قول الحق تبارك وتعالى أنها ليست محط الرحال بل هي دار للمرور، ونكدها أكثر من سعدها، قال تعالى مؤكداً هذا المعنى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [سورة الحديد: 20].
ومع هذا كله فإن ثمة حياة طيبة يستروحها المؤمنون، تصبرهم على ضنك العيش، وبؤس الدنيا، ونكد العشير، تبدلهم بالهم أنساً وبالضيق سعادة وحبوراً.
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سورة النحل: 97].
وهذه الحياة المنشودة بها وصف زائد عن كونها حياة فهي حياة (طيبة).
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله مجلياً هذا المعنى: "الحياة الطيبة أول طريقها: أن تعرف الله، وتهتدي إليه طريقاً يوصلك إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة؛ فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكلِّيَتِه، ويزهد في التعلُّقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة".
يقول ابن القيم رحمه الله: "وقد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضا والرزق الحسن وغير ذلك، والصواب أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة، كما كان بعض العارفين يقول: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب، وقال غيره: إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً.
وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح فإنه ملكها؛ ولهذا جعل الله المعيشة الضنك لمن أعرض عن ذكره وهي عكس الحياة الطيبة" (مدارج السالكين).
فالحياة الطيبة مليئة بالراحة والهناء الحسي والمعنوي الظاهر والباطن من رزق حلال وسعادة ودوام الصلة بالله وانشراح الصدر، يشعر بها المؤمن ويذوق حلاوتها الموحد، فهي لذة تعتلج في القلب ولا تصفها الكلمات، فإذا استطعنا أن نحدد معنى تغريد العندليب وهبوب النسيم وعبيره وصدى الروابي، استطعنا وصف هذه الحياة إنها حياة تجيء إلى حشاشة الفؤاد من دون استئذان، وتسري فيه دون ممانعة من صاحب القلب الحي.
هل يمكن أن نحبس النسيم أو نمسك الظلال السابحة فوق المروج؟
فوصف هذه الحياة بـ(الطيبة) هو وصف لازم لها، فليس المراد حياة اللعب واللهو بل الحياة الطيبة المؤمنة المتصلة بخالقها التي تجسد العبودية في سكناتها.. في افراحها.. في ألمها.. في كل منقلب لها.. فهي لله.. وبالله.. وعلى الله.. وثمة السعادة.
إن الصلة بالله هي قوام الحياة الطيبة، بها يسكن القلب، وتهفو الروح وتصلح الجوارح، ويُلم شعث الفؤاد؛ لأن "القلب لا يصلح ولا يفلح، ولا ينعم ولا يسر، ولا يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده، وحبه والإنابة إليه. ولو حصل له كل ما يلتذ لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسطون والطمأنينة، وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له...
ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده.. ومتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة(لا إله إلا الله) ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله.
وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك" (العبودية: ص54).
ولكي نشعر بهذه الحياة الطيبة ثمة شرط لا بد من توافره ألا وهو العمل الصالح، والأعمال الصالحة كثيرة متفاوتة في درجاتها وشعبها.
ولكن أعظمها وأهمها توحيد الله تعالى وطاعته، فكلما كان المرء أعظم توحيداً وأكثر طاعة كلما اكتمل طيب حياته وسرورها، وكلما ابتعد عن حقائق التوحيد ومعاني الطاعة كلما ازداد وحشةً وهماً وألماً.
فلننظر كيف يعيش الموحد الذي جعل رضا الله غاية له في جميع أعماله كيف يبدله الله بثقل التكليف راحة واطمئناناً وسكينة؟، ولننظر أخرى إلى من شرد عن هدى الله كيف يبدله الله بالمشتهيات المحرمة ألماً وحيرة واضطراباً {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [سورة الملك: 22].
الحياة.. التوحيد.. الطاعة:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [سورة إبراهيم: 24].
يقول سيد قطب رحمه الله: "وهذه الآيات تدل على أن التوحيد هو الأساس الذي يقوم عليه البناء، ولكن هذا الأساس لا يكفي في النجاة دون العمل الصالح وتزكية النفس واستقامة السلوك، كما لا يكفي أساس البناء دون رفع الأعمدة والجدران ليتم الانتفاع من البناء، ولا تكفي جذور الأشجار دون أن تنبت الأغصان وتثمر الثمار.
أما كلمة الشرك فهي كالشجرة الخبيثة التي لا أصل لها ولا ثبات، وقد تهيج وتتعالى ويخيل إلى الناظر أنها أقوى من الشجرة الطيبة، لكنها تظل هشة لا جذور لها تترسخ بها، وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض، فلا يبقى له قرار، وهذا هو حال المشرك في اضطرابه وقلقه وعدم رسوخه وهو مقطوع الأصل لا صلة له بالفطرة السليمة التي أوجدها الله في النفس" (في ظلال القرآن).
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "فشبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع" (إعلام الموقعين لا بن القيم).
فأثر هذه الكلمة الطيبة التثبيت في الدنيا وفي الآخرة كما قال الحق تبارك وتعالى في آخر الآيات: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [سورة إبراهيم: 27].
فتوحيد الله جل وعلا من حققه دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهو سبب لمغفرة الذنوب وتكفيرها، وسبب لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما، ويمنع الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل، وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
ويحصل لصاحبه الهدى والكمال والأمن التام في الدنيا والآخرة، وهو السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: (لا إله إلا الله خالصاً) من قلبه.
وجميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، وتوحيد الله جل وعلا يحرِّر العبد من رِقّ المخلوقين والتعلُّقِ بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا هو العزُّ الحقيقي، والتوحيد يخفف عن العبد المكاره، ويهوِّن عليه الآلام، وبقدر زيادة العبد من الطاعة الخالصة لله تعالى بقدر ما ينال من الراحة والاطمئنان والحياة الطيبة.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: "وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة، والله أعلم" (القول السديد في مقاصد التوحيد).
إن التوحيد الذي ننشده هو الذي يملئ النفس حركة وفعلاً، يملئ الروح تقىً وخشية، إنه التوحيد الذي يلتجئ صاحبه إلى الله في كل ملماته، فلا يخشى إلا الله ولا يرجو إلا الله، وبه يستدفع آلام الحياة الدنيا وأوصابها وعذاباتها، وعلى الله يتوكل في جميع أموره، ومن كان هذا حاله صار الله سمعه وبصره... وثمة الحياة.
في ظلال الحياة الطيبة:
إن العمل الصالح أصل عام لتحصيل الحياة الطيبة بشموله وعمومه، فمن فروعه الجالبة للحياة الطيبة ذكر الله تعالى ومن أعظمه قراءة القرآن.
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} [سورة الإسراء: 82].
وقال سبحانه عن القرآن: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} [سورة فصلت: 44].
ويقول سبحانه عن أثر ذكره على قلوب المؤمنين: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [سورة الرعد: 28].
إن الذاكر لله هو الحي حقيقة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت» [رواه البخاري].
يقول الصحابي الفقيه معاذ بن جبل رضي الله عنه: "ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله. قالوا: يا أبا عبد الرحمن! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع، لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]" (سير أعلام النبلاء).
قيل لأبي الدرداء وكان لا يفتر من الذكر: "كم تسبح في كل يوم؟"، قال: "مائة ألف، إلا أن تخطئ الأصابع" (سير أعلام النبلاء).
قال أبو الحسين الوراق: "حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت، والعيش الهني الحياة مع الله تعالى لا غير، ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت، لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، فكم بين الانقطاعين؟" (إغاثة اللهفان).
يقول ابن القيم رحمه الله عن حال شيخه شيخ الإسلام وما مر به من سعادة وهناء وراحة وهو مستغرق في ذكر الله مع أنه مسجون:
"وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة"، وقال لي مرة: "ما يصنع أعدائي بي؟!، أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة"، وكان يقول في محبسه في القلعة: "لو بذلت ملىء هذه القاعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة"، أو قال: "ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا"، وكان يقول في سجوده وهو محبوس: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله"، وقال لي مرة: "المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى والمأسور من أسره هواه".
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [سورة الحديد: 13]، وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأقواهم قلباً وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها" (الوابل الصيب).
ومن أغذية الحياة الطيبة أداء الفرائض:
إن الإنسان قد طبع بطابع الهلع، فإن أصابه الخير منع، وإن أصابه الشر جزع، وهذا ولا شك اضطراب يعتري الإنسان إلا إذا كان مصلياً قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا* إِلَّا الْمُصَلِّين} [سورة المعارج: 19-22]، إنها صورة للأمن النفسي وسكينة الحياة التي يشعر بها المصلي.
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات» [رواه مسلم].
وقال صلى الله عليه والسلام: «يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها» [صححه الألباني].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حبب إلي الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة» [صححه الألباني].
وصدق ابن رواحة حين قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه *** إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا *** به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
إنها لذة الطاعة، وحلاوة المناجاة، وأنس الخلوة بالله، وسعادة العيش في مرضاة الله؛ حيث يجد العبد في نفسه سكينة، وفي قلبه طمأنينة، وفي روحه خفة وسعادة، مما يورثه لذة لا يساويها شيء من لذائذ الحياة ومتعها، فتفيض على النفوس والقلوب محبة للعبادة وفرحًا بها، وطربًا لها، لا تزال تزداد حتى تملأ شغاف القلب فلا يرى العبد قرة عينه وراحة نفسه وقلبه إلا فيها... وثمة الحياة.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر» [رواه مسلم].
فالصلاة تورث السكينة والاطمئنان، وتغسل الذنوب، وتمحوها، وبها تحصل راحة الفؤاد، وبها قرة العين، وهي تكفر الذنوب والخطايا... وثمة الحياة.
يقول عدي بن حاتم رضي الله عنه: "ما دخل وقت الصلاة حتى أشتاق اليها"، وعنه: "ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء" (سير أعلام النبلاء).
"إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب، صلة يستمد منها القلب قوة، وتحس فيها الروح صلة؛ وتجد فيها النفس زاداً أنفس من أعراض الحياة الدنيا.. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وهو الوثيق الصلة بربه الموصول الروح بالوحي والإلهام.. وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زاداً للطريق، وريّاً في الهجير، ومدداً حين ينقطع المدد، ورصيداً حين ينفد الرصيد.." (في ظلال القرآن).
ومن أغذيتها الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [سورة الأنفال: 24].
قال ابن قتيبة: "{لِمَا يُحْيِيكُمْ} يعني الشهادة، وقال بعض المفسرين: (لما يحيكم) يعني الجنة فإنها دار الحيوان وفيها الحياة الدائمة الطيبة، والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب، الحياة الطيبة وكمال الحياة في الجنة والرسول داع إلى الإيمان والى الجنة فهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة" (الفوائد بتصرف يسير).
إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة، وبكل معاني الحياة..
إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة، ومن ضغط الوهم والأسطورة، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة، ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء..
فهذه هي الحياة الطيبة وفي سبل تحصيلها فليتنافس المتنافسون، وإليها فليسارع المسارعون، ومن أجلها فليسابق المسابقون.. "ولكن كيف يصل إليها من عقله مسبي في بلاد الشهوات، وأمله موقوف على اجتناء اللذات، وسيرته جارية على أسوأ، العادات ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات، وهمته واقفة مع السفليات، وعقيدته غير متلقاة من مشكاة النبوات" (مدارج السالكين).
الحياة.. الشرك.. البدعة.. المعصية:
فكما أن الموحد يشعر بالهناء والسعادة والغبطة والطمأنينة فبعكسه المشرك يطارده الشقاء والألم، وإن بدا للناظر عكس ذلك فإن اختلال الوجهة وسوء المنقلب وضعف البصيرة تورث هماً وعنتاً في الفؤاد واختلالاً في المفاهيم حتى يتبدا للرائي الخطأ صواباً والصواب خطأً، وهذا كله مرده الإعراض عن طريق الحق، ولا شك أن هذا مصدر ضنك عظيم للإنسان.
ليس من مات فاستراح بميت** إنما الميت ميت الأحياء
إن الفرق بين من حقق توحيد الله وبذل وسعه في طاعة الله وبين المشرك المتدنس بأنواع المعاصي كالفرق بين الحي والميت قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
لقد ضرب الله الأمثال ليبين لنا حال المشرك واضطرابه وبؤسه وشقائه، فمثل المشرك كمن يسقط في هوة سحيقة فتخطفه الطير الجارح فتمزقه تمزيقاً: {حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج: 31].
إنها صورة بائسة تقشعر لها الأبدان وتهلع لرؤيتها الأعين وتضطرب لهولها القلوب تأمل المشرك وقد سقط في محيط سحيق فتهتوشه الطيور الجارحة من كل حدب وصوب، وتمزقه بمناقيرها وقوادمها، فلا يدري أين رأسه من رجليه؟ بل صار هباء منثوراً.
وصورة أخرى تخلع القلوب فمثل المشرك كمن يسقط في هوة سحيقة ليس لها قرار سقوط تضطرب لأجل الأفئدة... وما لجرح بميت إيلام.
والمشرك حيران لا يدري إلى أين يتجه وأي طريق يسلك بل هو يتخبط تخبطاً، قال الله تعالى: {قُل ْأَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام: 71].
ولكن... من هو المشرك الذي يستحق هذه الأمثال المضروبة؟
إن المشرك هو من اتخذ نداً مع الله سواء كان هذا الند في ربوبية الله أو ألوهيته قال الله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة: 22]، واتخاذ الند لله أعظم الذنوب فقد روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الذنب أعظم عند الله؟"، قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» [رواه البخاري ومسلم]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» [رواه مسلم].
يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله معرفا الشرك بأنه: "إشراك دعاء غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية وفي العبادة" (التحرير والتنوير).
فمن صرف عبادة لله وجعلها لغيره فقد أشرك بالله، كمن يدعو غير الله أو يسجد لقبر آدمي ولو كان صالحاً أو ذبح لغير الله أو نذر لغيره فقد وقع في الشرك ووقع في الحيرة ووقع في الاضطراب ولابد.. وثمة الشقاء.
والابتداع بريد الشرك وطريق من طرقه وسبيل من سبله، إن فساد الاعتقاد في الله يولد وحشة في القلب، فإلى من يلتجئ من اعتقد أن الله ليس بخارج العالم ولا داخله؟، وإلى من يرجع من اعتقد أنه حال في ذات الله؟، أو أن الله متوحد معه؟... نعوذ بالله من الخذلان.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "وأكثر الفضلاء العارفين بالكلام والفلسفة بل وبالتصوف الذين لم يحققوا ما جاء به الرسول تجدهم فيه حيارى كما أنشد الشهرستاني في أول كتابه لما قال:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها ** وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر ** على ذقن أو قارعاً سن نادم
وأنشد أبو عبد الله الرازي في غير موضع من كتبه مثل كتاب أقسام اللذات:
نهاية إقدام العقول عقال ** وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ** وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ: وكان ابن أبي الحديد البغدادي من فضلاء الشيعة المعتزلة المتفلسفة، وله أشعار في هذا الباب كقوله:
فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر
إيابه بعد سفره بأذى السفر!
وابن رشد الحفيد يقول لما حضره الموت: "أموت ولم أعرف شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى الممتنع"، ثم قال: "الافتقار وصف سلبي، أموت ولم أعرف شيئاً" ـ حكاه عنه التلمساني وذكر أنه سمعه منه وقت الموت-.
وهذا إمام الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره واختار مذهب السلف، وكان يقول: "يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به"، وقال عند موته: "لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وهأنذا أموت على عقيدة أمي"، أو قال: "عقيدة عجائز نيسابور".
وابن الفارض من متأخري الاتحادية صاحب القصيدة التائية المعروفة بنظم السلوك، لما حضرته الوفاة أنشد: "إن كان منزلتي في الحب عندكم... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي... أمنية ظفرت نفسي بها زمناً... واليوم أحسبها أضغاث أحلام..." (انظر: الدرء (1/89)، ومجموع الفتاوى (4/73)، ومنهاج السنة النبوية(5/ 271)).
إنه الجهل بالله والعلم بأغلوطات العقائد التي تورث الوحشة
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم فليس لهم حتى النشور نشور
قال ابن تيمية رحمه الله: "إن القلب إذا كان خالياً من معرفة الحق واعتقاده والتصديق به كان معرضاً لأن يعتقد نقيضه ويصدق به لا سيما في الأمور الإلهية التي هي غاية مطالب البرية، وهي أفضل العلوم وأعلاها وأشرفها وأسماها، والناس الأكابر لهم إليه غاية التشوف والاشتياق، وإلى جهته تمتد الأعناق، فالمهتدون فيه أئمة الهدى كإبراهيم الخليل وأهل بيته، وأهل الكذب فيه أئمة الضلال كفرعون وقومه، فمن لم يكن فيه على طريق أئمة الهدى كان ثغر قلبه مفتوحا لأئمة الضلال" (درء تعارض العقل والنقل).
أما من يتدنس بشيء من المعصية فإنه يقع في شيء من الألم والشقاء بحسب عصيانه؛ فكلما زاد عصيان العبد كلما زاد ضنكه وبؤسه، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [سورة طه: 124].
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "أي ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيش" (تفسير ابن كثير).
في جفنه أرقٌ، في نفسه فرقٌ في جسمه سقمٌ، في عقله دخل...
إن الذنوب والمعاصي ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟ فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟، وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء إلى الشقاء الدائم؟
إن العبد الذي يكثر من الطاعات ويكثر كذلك من إيذاء المؤمنين هو كمن يبني جبال راسيات ولكن على طبقة الماء! فأنى لها الصمودِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أتدرون ما المفلس؟»، قالوا: "المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع". فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه. ثم طرح في النار» [رواه مسلم].
إن باغي الجنة لا بد له أن ينحر المعصية على أعتاب الطاعة إكراما لجنة عرضها السماوات والأرض.
إنَّ سنّةَ الله لا تحابي أحَدًا، ونواميسه لا مجال فيها للاستثناء، قال تبارَكَ وتعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ} [سورة القمر: 43].
وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفقهون شؤم المعصية، فهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه يسير في العسكر فيقول: "ألا رب مبيض لثيابه مدنس لدينه ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين! بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات" (سير أعلام النبلاء).
حينما احتضر أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قال: "لا تبكوا علي فإني لم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت" (سير أعلام النبلاء).
خطب عبد الملك يوماً خطبة بليغة ثم قطعها وبكى بكاء شديداً ثم قال: "يا رب، إن ذنوبي عظيمة وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي، قال: فبلغ ذلك الحسن فبكى وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام، وقد روي عن غير واحد نحو ذلك، أي أنه لما بلغه هذا الكلام قال مثل ما قال الحسن" (البداية والنهاية).
إنها الخطيئة المثبطة عن البصيرة الإيمانية، والتدفق الفكري، والتوفيق الرباني، والقوة الشرعية، إنها خطايا السمع والبصر، خطايا الفؤاد، خطايا القدمين واليدين: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [سورة الإسراء: 36].
إن اصطحاب هذه الخطايا وأمثالها لقمن أن يورث وحشة في القلب، وتأنيباً للضمير، وازوراراً عن الحق، وبطئاً في السير إلى الجنة، وضعفاً في الزاد الإيماني، وقبل ذلك وبعده بعد عن الله واستحقاق للعقوبة.
يقول ابن القيم رحمه الله: "إن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير راناً، ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلا وختماً، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله" (الجواب الكافي)... وثمة الشقاء.
اتمنى يكون عجبكم الموضوع
اخوكم محمد عبدالله سليم
الحياة في القرآن.. نظرات.. وتأملات:
إن هذه الحياة الدنيا خلقها الله جل وعلا للابتلاء والاختبار ليتميز العاملون {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [سورة الملك:2 ].
وهذه الحياة أنسها منقطع ولذتها فانية وراحتها يتبعها أتراح، وهي دار ممر لا دار مقر، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [سورة غافر: 39]، بل إن الاطمئنان إلى هذه الحياة الدنيا والرضا بها والإعراض عن الآخرة من صفات الغافلين {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [سورة يونس: 7].
ومن أسباب العقوبة عند الله تعالى محبة الدنيا الملهية عن الآخرة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل: 107]، وقد نهى الله عموم الناس عن الاغترار بالحياة الدنيا فقال سبحانهَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [سورة لقمان: 33]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [سورة فاطر: 5].
ويقول سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت: 64].
إن هذه النصوص المتكاثرة تدل على أن الدنيا إن هي إلا دار الترحل منها قريب، وإنما هي للإعداد والعمل والنصب والكدح، وصدق الله {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [سورة الرعد: 26].
وفهم هذه النصوص هام لفهم معنى العبودية ولفهم معنى الجزاء في الآخرة ولفهم الفرق في السعادة بين الدارين.
وهذه الدنيا وان كانت متاعاً وبلغة فإن فيها زادنا إلى الآخرة وفيها العمل الصالح، يقول أبي بن كعب رضي الله عنه: "هل تدري ما الدنيا؟!، فيها زادنا إلى الآخرة وفيها أعمالنا التي نجزى بها" (سير أعلام النبلاء)، يقول تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [سورة الكهف: 46].
وفيها نصر الله للمؤمنين وارتفاع شأنهم في الحياة الدنيا، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [سورة غافر: 51].
فالحياة الدنيا مزرعة يحصد منها كل زارع ما ذراه، ويبقى قول الحق تبارك وتعالى أنها ليست محط الرحال بل هي دار للمرور، ونكدها أكثر من سعدها، قال تعالى مؤكداً هذا المعنى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [سورة الحديد: 20].
ومع هذا كله فإن ثمة حياة طيبة يستروحها المؤمنون، تصبرهم على ضنك العيش، وبؤس الدنيا، ونكد العشير، تبدلهم بالهم أنساً وبالضيق سعادة وحبوراً.
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [سورة النحل: 97].
وهذه الحياة المنشودة بها وصف زائد عن كونها حياة فهي حياة (طيبة).
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله مجلياً هذا المعنى: "الحياة الطيبة أول طريقها: أن تعرف الله، وتهتدي إليه طريقاً يوصلك إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة؛ فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكلِّيَتِه، ويزهد في التعلُّقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة".
يقول ابن القيم رحمه الله: "وقد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضا والرزق الحسن وغير ذلك، والصواب أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة، كما كان بعض العارفين يقول: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب، وقال غيره: إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً.
وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح فإنه ملكها؛ ولهذا جعل الله المعيشة الضنك لمن أعرض عن ذكره وهي عكس الحياة الطيبة" (مدارج السالكين).
فالحياة الطيبة مليئة بالراحة والهناء الحسي والمعنوي الظاهر والباطن من رزق حلال وسعادة ودوام الصلة بالله وانشراح الصدر، يشعر بها المؤمن ويذوق حلاوتها الموحد، فهي لذة تعتلج في القلب ولا تصفها الكلمات، فإذا استطعنا أن نحدد معنى تغريد العندليب وهبوب النسيم وعبيره وصدى الروابي، استطعنا وصف هذه الحياة إنها حياة تجيء إلى حشاشة الفؤاد من دون استئذان، وتسري فيه دون ممانعة من صاحب القلب الحي.
هل يمكن أن نحبس النسيم أو نمسك الظلال السابحة فوق المروج؟
فوصف هذه الحياة بـ(الطيبة) هو وصف لازم لها، فليس المراد حياة اللعب واللهو بل الحياة الطيبة المؤمنة المتصلة بخالقها التي تجسد العبودية في سكناتها.. في افراحها.. في ألمها.. في كل منقلب لها.. فهي لله.. وبالله.. وعلى الله.. وثمة السعادة.
إن الصلة بالله هي قوام الحياة الطيبة، بها يسكن القلب، وتهفو الروح وتصلح الجوارح، ويُلم شعث الفؤاد؛ لأن "القلب لا يصلح ولا يفلح، ولا ينعم ولا يسر، ولا يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده، وحبه والإنابة إليه. ولو حصل له كل ما يلتذ لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسطون والطمأنينة، وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له...
ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده.. ومتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة(لا إله إلا الله) ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله.
وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك" (العبودية: ص54).
ولكي نشعر بهذه الحياة الطيبة ثمة شرط لا بد من توافره ألا وهو العمل الصالح، والأعمال الصالحة كثيرة متفاوتة في درجاتها وشعبها.
ولكن أعظمها وأهمها توحيد الله تعالى وطاعته، فكلما كان المرء أعظم توحيداً وأكثر طاعة كلما اكتمل طيب حياته وسرورها، وكلما ابتعد عن حقائق التوحيد ومعاني الطاعة كلما ازداد وحشةً وهماً وألماً.
فلننظر كيف يعيش الموحد الذي جعل رضا الله غاية له في جميع أعماله كيف يبدله الله بثقل التكليف راحة واطمئناناً وسكينة؟، ولننظر أخرى إلى من شرد عن هدى الله كيف يبدله الله بالمشتهيات المحرمة ألماً وحيرة واضطراباً {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [سورة الملك: 22].
الحياة.. التوحيد.. الطاعة:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [سورة إبراهيم: 24].
يقول سيد قطب رحمه الله: "وهذه الآيات تدل على أن التوحيد هو الأساس الذي يقوم عليه البناء، ولكن هذا الأساس لا يكفي في النجاة دون العمل الصالح وتزكية النفس واستقامة السلوك، كما لا يكفي أساس البناء دون رفع الأعمدة والجدران ليتم الانتفاع من البناء، ولا تكفي جذور الأشجار دون أن تنبت الأغصان وتثمر الثمار.
أما كلمة الشرك فهي كالشجرة الخبيثة التي لا أصل لها ولا ثبات، وقد تهيج وتتعالى ويخيل إلى الناظر أنها أقوى من الشجرة الطيبة، لكنها تظل هشة لا جذور لها تترسخ بها، وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض، فلا يبقى له قرار، وهذا هو حال المشرك في اضطرابه وقلقه وعدم رسوخه وهو مقطوع الأصل لا صلة له بالفطرة السليمة التي أوجدها الله في النفس" (في ظلال القرآن).
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "فشبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع" (إعلام الموقعين لا بن القيم).
فأثر هذه الكلمة الطيبة التثبيت في الدنيا وفي الآخرة كما قال الحق تبارك وتعالى في آخر الآيات: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [سورة إبراهيم: 27].
فتوحيد الله جل وعلا من حققه دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهو سبب لمغفرة الذنوب وتكفيرها، وسبب لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما، ويمنع الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل، وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
ويحصل لصاحبه الهدى والكمال والأمن التام في الدنيا والآخرة، وهو السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: (لا إله إلا الله خالصاً) من قلبه.
وجميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، وتوحيد الله جل وعلا يحرِّر العبد من رِقّ المخلوقين والتعلُّقِ بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا هو العزُّ الحقيقي، والتوحيد يخفف عن العبد المكاره، ويهوِّن عليه الآلام، وبقدر زيادة العبد من الطاعة الخالصة لله تعالى بقدر ما ينال من الراحة والاطمئنان والحياة الطيبة.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: "وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة، والله أعلم" (القول السديد في مقاصد التوحيد).
إن التوحيد الذي ننشده هو الذي يملئ النفس حركة وفعلاً، يملئ الروح تقىً وخشية، إنه التوحيد الذي يلتجئ صاحبه إلى الله في كل ملماته، فلا يخشى إلا الله ولا يرجو إلا الله، وبه يستدفع آلام الحياة الدنيا وأوصابها وعذاباتها، وعلى الله يتوكل في جميع أموره، ومن كان هذا حاله صار الله سمعه وبصره... وثمة الحياة.
في ظلال الحياة الطيبة:
إن العمل الصالح أصل عام لتحصيل الحياة الطيبة بشموله وعمومه، فمن فروعه الجالبة للحياة الطيبة ذكر الله تعالى ومن أعظمه قراءة القرآن.
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} [سورة الإسراء: 82].
وقال سبحانه عن القرآن: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} [سورة فصلت: 44].
ويقول سبحانه عن أثر ذكره على قلوب المؤمنين: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [سورة الرعد: 28].
إن الذاكر لله هو الحي حقيقة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت» [رواه البخاري].
يقول الصحابي الفقيه معاذ بن جبل رضي الله عنه: "ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله. قالوا: يا أبا عبد الرحمن! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع، لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]" (سير أعلام النبلاء).
قيل لأبي الدرداء وكان لا يفتر من الذكر: "كم تسبح في كل يوم؟"، قال: "مائة ألف، إلا أن تخطئ الأصابع" (سير أعلام النبلاء).
قال أبو الحسين الوراق: "حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت، والعيش الهني الحياة مع الله تعالى لا غير، ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت، لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، فكم بين الانقطاعين؟" (إغاثة اللهفان).
يقول ابن القيم رحمه الله عن حال شيخه شيخ الإسلام وما مر به من سعادة وهناء وراحة وهو مستغرق في ذكر الله مع أنه مسجون:
"وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة"، وقال لي مرة: "ما يصنع أعدائي بي؟!، أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة"، وكان يقول في محبسه في القلعة: "لو بذلت ملىء هذه القاعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة"، أو قال: "ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا"، وكان يقول في سجوده وهو محبوس: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله"، وقال لي مرة: "المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى والمأسور من أسره هواه".
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [سورة الحديد: 13]، وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأقواهم قلباً وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها" (الوابل الصيب).
ومن أغذية الحياة الطيبة أداء الفرائض:
إن الإنسان قد طبع بطابع الهلع، فإن أصابه الخير منع، وإن أصابه الشر جزع، وهذا ولا شك اضطراب يعتري الإنسان إلا إذا كان مصلياً قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا* إِلَّا الْمُصَلِّين} [سورة المعارج: 19-22]، إنها صورة للأمن النفسي وسكينة الحياة التي يشعر بها المصلي.
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات» [رواه مسلم].
وقال صلى الله عليه والسلام: «يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها» [صححه الألباني].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حبب إلي الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة» [صححه الألباني].
وصدق ابن رواحة حين قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه *** إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا *** به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
إنها لذة الطاعة، وحلاوة المناجاة، وأنس الخلوة بالله، وسعادة العيش في مرضاة الله؛ حيث يجد العبد في نفسه سكينة، وفي قلبه طمأنينة، وفي روحه خفة وسعادة، مما يورثه لذة لا يساويها شيء من لذائذ الحياة ومتعها، فتفيض على النفوس والقلوب محبة للعبادة وفرحًا بها، وطربًا لها، لا تزال تزداد حتى تملأ شغاف القلب فلا يرى العبد قرة عينه وراحة نفسه وقلبه إلا فيها... وثمة الحياة.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر» [رواه مسلم].
فالصلاة تورث السكينة والاطمئنان، وتغسل الذنوب، وتمحوها، وبها تحصل راحة الفؤاد، وبها قرة العين، وهي تكفر الذنوب والخطايا... وثمة الحياة.
يقول عدي بن حاتم رضي الله عنه: "ما دخل وقت الصلاة حتى أشتاق اليها"، وعنه: "ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء" (سير أعلام النبلاء).
"إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب، صلة يستمد منها القلب قوة، وتحس فيها الروح صلة؛ وتجد فيها النفس زاداً أنفس من أعراض الحياة الدنيا.. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وهو الوثيق الصلة بربه الموصول الروح بالوحي والإلهام.. وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زاداً للطريق، وريّاً في الهجير، ومدداً حين ينقطع المدد، ورصيداً حين ينفد الرصيد.." (في ظلال القرآن).
ومن أغذيتها الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [سورة الأنفال: 24].
قال ابن قتيبة: "{لِمَا يُحْيِيكُمْ} يعني الشهادة، وقال بعض المفسرين: (لما يحيكم) يعني الجنة فإنها دار الحيوان وفيها الحياة الدائمة الطيبة، والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب، الحياة الطيبة وكمال الحياة في الجنة والرسول داع إلى الإيمان والى الجنة فهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة" (الفوائد بتصرف يسير).
إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة، وبكل معاني الحياة..
إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة، ومن ضغط الوهم والأسطورة، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة، ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء..
فهذه هي الحياة الطيبة وفي سبل تحصيلها فليتنافس المتنافسون، وإليها فليسارع المسارعون، ومن أجلها فليسابق المسابقون.. "ولكن كيف يصل إليها من عقله مسبي في بلاد الشهوات، وأمله موقوف على اجتناء اللذات، وسيرته جارية على أسوأ، العادات ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات، وهمته واقفة مع السفليات، وعقيدته غير متلقاة من مشكاة النبوات" (مدارج السالكين).
الحياة.. الشرك.. البدعة.. المعصية:
فكما أن الموحد يشعر بالهناء والسعادة والغبطة والطمأنينة فبعكسه المشرك يطارده الشقاء والألم، وإن بدا للناظر عكس ذلك فإن اختلال الوجهة وسوء المنقلب وضعف البصيرة تورث هماً وعنتاً في الفؤاد واختلالاً في المفاهيم حتى يتبدا للرائي الخطأ صواباً والصواب خطأً، وهذا كله مرده الإعراض عن طريق الحق، ولا شك أن هذا مصدر ضنك عظيم للإنسان.
ليس من مات فاستراح بميت** إنما الميت ميت الأحياء
إن الفرق بين من حقق توحيد الله وبذل وسعه في طاعة الله وبين المشرك المتدنس بأنواع المعاصي كالفرق بين الحي والميت قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
لقد ضرب الله الأمثال ليبين لنا حال المشرك واضطرابه وبؤسه وشقائه، فمثل المشرك كمن يسقط في هوة سحيقة فتخطفه الطير الجارح فتمزقه تمزيقاً: {حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج: 31].
إنها صورة بائسة تقشعر لها الأبدان وتهلع لرؤيتها الأعين وتضطرب لهولها القلوب تأمل المشرك وقد سقط في محيط سحيق فتهتوشه الطيور الجارحة من كل حدب وصوب، وتمزقه بمناقيرها وقوادمها، فلا يدري أين رأسه من رجليه؟ بل صار هباء منثوراً.
وصورة أخرى تخلع القلوب فمثل المشرك كمن يسقط في هوة سحيقة ليس لها قرار سقوط تضطرب لأجل الأفئدة... وما لجرح بميت إيلام.
والمشرك حيران لا يدري إلى أين يتجه وأي طريق يسلك بل هو يتخبط تخبطاً، قال الله تعالى: {قُل ْأَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام: 71].
ولكن... من هو المشرك الذي يستحق هذه الأمثال المضروبة؟
إن المشرك هو من اتخذ نداً مع الله سواء كان هذا الند في ربوبية الله أو ألوهيته قال الله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة: 22]، واتخاذ الند لله أعظم الذنوب فقد روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الذنب أعظم عند الله؟"، قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» [رواه البخاري ومسلم]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» [رواه مسلم].
يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله معرفا الشرك بأنه: "إشراك دعاء غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية وفي العبادة" (التحرير والتنوير).
فمن صرف عبادة لله وجعلها لغيره فقد أشرك بالله، كمن يدعو غير الله أو يسجد لقبر آدمي ولو كان صالحاً أو ذبح لغير الله أو نذر لغيره فقد وقع في الشرك ووقع في الحيرة ووقع في الاضطراب ولابد.. وثمة الشقاء.
والابتداع بريد الشرك وطريق من طرقه وسبيل من سبله، إن فساد الاعتقاد في الله يولد وحشة في القلب، فإلى من يلتجئ من اعتقد أن الله ليس بخارج العالم ولا داخله؟، وإلى من يرجع من اعتقد أنه حال في ذات الله؟، أو أن الله متوحد معه؟... نعوذ بالله من الخذلان.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "وأكثر الفضلاء العارفين بالكلام والفلسفة بل وبالتصوف الذين لم يحققوا ما جاء به الرسول تجدهم فيه حيارى كما أنشد الشهرستاني في أول كتابه لما قال:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها ** وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر ** على ذقن أو قارعاً سن نادم
وأنشد أبو عبد الله الرازي في غير موضع من كتبه مثل كتاب أقسام اللذات:
نهاية إقدام العقول عقال ** وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ** وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ: وكان ابن أبي الحديد البغدادي من فضلاء الشيعة المعتزلة المتفلسفة، وله أشعار في هذا الباب كقوله:
فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر
إيابه بعد سفره بأذى السفر!
وابن رشد الحفيد يقول لما حضره الموت: "أموت ولم أعرف شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى الممتنع"، ثم قال: "الافتقار وصف سلبي، أموت ولم أعرف شيئاً" ـ حكاه عنه التلمساني وذكر أنه سمعه منه وقت الموت-.
وهذا إمام الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره واختار مذهب السلف، وكان يقول: "يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به"، وقال عند موته: "لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وهأنذا أموت على عقيدة أمي"، أو قال: "عقيدة عجائز نيسابور".
وابن الفارض من متأخري الاتحادية صاحب القصيدة التائية المعروفة بنظم السلوك، لما حضرته الوفاة أنشد: "إن كان منزلتي في الحب عندكم... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي... أمنية ظفرت نفسي بها زمناً... واليوم أحسبها أضغاث أحلام..." (انظر: الدرء (1/89)، ومجموع الفتاوى (4/73)، ومنهاج السنة النبوية(5/ 271)).
إنه الجهل بالله والعلم بأغلوطات العقائد التي تورث الوحشة
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم فليس لهم حتى النشور نشور
قال ابن تيمية رحمه الله: "إن القلب إذا كان خالياً من معرفة الحق واعتقاده والتصديق به كان معرضاً لأن يعتقد نقيضه ويصدق به لا سيما في الأمور الإلهية التي هي غاية مطالب البرية، وهي أفضل العلوم وأعلاها وأشرفها وأسماها، والناس الأكابر لهم إليه غاية التشوف والاشتياق، وإلى جهته تمتد الأعناق، فالمهتدون فيه أئمة الهدى كإبراهيم الخليل وأهل بيته، وأهل الكذب فيه أئمة الضلال كفرعون وقومه، فمن لم يكن فيه على طريق أئمة الهدى كان ثغر قلبه مفتوحا لأئمة الضلال" (درء تعارض العقل والنقل).
أما من يتدنس بشيء من المعصية فإنه يقع في شيء من الألم والشقاء بحسب عصيانه؛ فكلما زاد عصيان العبد كلما زاد ضنكه وبؤسه، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [سورة طه: 124].
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "أي ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيش" (تفسير ابن كثير).
في جفنه أرقٌ، في نفسه فرقٌ في جسمه سقمٌ، في عقله دخل...
إن الذنوب والمعاصي ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟ فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟، وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء إلى الشقاء الدائم؟
إن العبد الذي يكثر من الطاعات ويكثر كذلك من إيذاء المؤمنين هو كمن يبني جبال راسيات ولكن على طبقة الماء! فأنى لها الصمودِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أتدرون ما المفلس؟»، قالوا: "المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع". فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه. ثم طرح في النار» [رواه مسلم].
إن باغي الجنة لا بد له أن ينحر المعصية على أعتاب الطاعة إكراما لجنة عرضها السماوات والأرض.
إنَّ سنّةَ الله لا تحابي أحَدًا، ونواميسه لا مجال فيها للاستثناء، قال تبارَكَ وتعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ} [سورة القمر: 43].
وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفقهون شؤم المعصية، فهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه يسير في العسكر فيقول: "ألا رب مبيض لثيابه مدنس لدينه ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين! بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات" (سير أعلام النبلاء).
حينما احتضر أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قال: "لا تبكوا علي فإني لم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت" (سير أعلام النبلاء).
خطب عبد الملك يوماً خطبة بليغة ثم قطعها وبكى بكاء شديداً ثم قال: "يا رب، إن ذنوبي عظيمة وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي، قال: فبلغ ذلك الحسن فبكى وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام، وقد روي عن غير واحد نحو ذلك، أي أنه لما بلغه هذا الكلام قال مثل ما قال الحسن" (البداية والنهاية).
إنها الخطيئة المثبطة عن البصيرة الإيمانية، والتدفق الفكري، والتوفيق الرباني، والقوة الشرعية، إنها خطايا السمع والبصر، خطايا الفؤاد، خطايا القدمين واليدين: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [سورة الإسراء: 36].
إن اصطحاب هذه الخطايا وأمثالها لقمن أن يورث وحشة في القلب، وتأنيباً للضمير، وازوراراً عن الحق، وبطئاً في السير إلى الجنة، وضعفاً في الزاد الإيماني، وقبل ذلك وبعده بعد عن الله واستحقاق للعقوبة.
يقول ابن القيم رحمه الله: "إن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير راناً، ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلا وختماً، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله" (الجواب الكافي)... وثمة الشقاء.
اتمنى يكون عجبكم الموضوع
اخوكم محمد عبدالله سليم
تعليق