(يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )٧-محمد
تفسير الشعراوى
هذه قضية معاركية قتالية بالنسبة للمسلمين، وهي قضية واقعة ومبدأ لا يتخلف، وسنة من سنن الله لا تتبدلّ ما دام شرط الجندية قائماً لله ولنصرة دين الله.
لذلك قلنا: إذا رأيتَ انهزام المسلمين في معركة فاعلم أنهم لم يحققوا شرط الجندية لله، وابحث فيهم هم عن سبب الهزيمة، لأن سنة الله في نصرة الفئة المؤمنة سنة ثابتة.
قال تعالى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-173] لذلك رأينا ما حدث في غزوة أحد عندما خالف الرماة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا عن شرط الجندية.
كذلك الحال يوم حنين الذي قال الله فيه: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [التوبة: 25].
حتى إن الصِّديق نفسه لم يسلْمَ من مشاعر الإعجاب بالعدو، فقال: لن نُهزم اليوم عن قلة، لما داخلهم الغرور بالعدد والإعجاب بالكثرة حَلَّتْ بهم الهزيمة في أول الأمر.
لكن تداركتهم رحمة الله، فانتصروا في نهاية المعركة، وكأنه كان تأديباً من الله لعباده المؤمنين ودرساً عملياً حتى يدخلوا الحرب، وليس في بالهم إلا الله، ونُصْرة دين الله.
وقوله: { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 7] تثبيت الأقدام كنايةٌ عن الثبات في المعركة، وكناية عن القوة، لأن الأقدام هي أداة الفرار من الحرب، فإذا ثبَّتها الله ثبتت ولم تفر، لذلك أمانة القدم ألاّ تفرَّ يوم الزحف.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
هذا أمرٌ منه تعالى للمؤمنين أن ينصروا اللهَ؛ بالقيام بدينه والدعوة إليه وجهادِ أعدائه، وأن يقصدوا بذلك وجهَ الله؛ فإنهم إذا فعَلوا ذلك نصرَهم وثبَّت أقدامهم؛ أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطُّمأنينة والثبات، ويصبر أجسادَهم على ذلك، ويُعينهم على أعدائهم، فهذا وعدٌ من كريمٍ صادق الوعد أن الذي يَنصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه وييسِّر له أسبابَ النصر؛ من الثبات وغيره، وأما الذين كفروا بربهم ونصروا الباطلَ ﴿ فَتَعْسًا لَهُمْ ﴾[3]؛ فإنهم في تعس؛ أي: انتكاس من أمرهم وخِذلان، ﴿ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾؛ أي: أبطل أعمالهم التي يَكيدون بها الحقَّ، فرجع كيدُهم في نحورهم، وبطلَت أعمالهم التي يزعمون أنهم يريدون بها وجهَ الله.
والنصر قد يبطئ على المؤمنين أحيانًا؛ لأن بُنْيَة الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها المطلوب، ولم يتم بعدُ تمامها وكمالها، ولم تحشد بعدُ طاقتها، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكًا؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً، وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا لا تبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله، وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، بل إنما ينزل النصر بعد بذل كل الطاقة، وتفويض الأمر كله إلى الله.
من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا، وتحقيق النصر لهم في النهاية، فهم أهل دينه، وحماة شريعته، والمجاهدون لإعلاء كلمته: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 40، 41].
وابتلاء الله لعباده أنواع وألوان: ابتلاء للصبر, وابتلاء للشكر, وابتلاء للأجر, وابتلاء للتوجيه, وابتلاء للتأديب, وابتلاء للتمحيص, وابتلاء للتقويم. وفي قصة نوح -صلى الله عليه وسلم- ألوان من الابتلاء له ولقومه ولأبنائه القادمين، وسنة الله أن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته، والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر، فحين بغى فرعون على بني إسرائيل، واستطال بجبروت الحكم، وحين بغى قارون عليهم، واستطال بجبروت العلم والمال، كانت النهاية واحدة.
إن هذا ما يجب أن يعلمه كل مجاهد في سبيل الله وكل داع إليه، وهو ما تجهله الكثرة المشركة الباغية الطاغية؛ ففرعون طغى: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [القصص: 39، 40] أما قارون فقد جاء أمر الله مباشرة في إهلاكه، فخسف الله به وبداره الأرض، ولم يغن عنه ماله ولا علمه، كما أغرق الله فرعون، فألقاه في اليم هو وجنوده: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص: 81].
وهكذا انتهى سلطان العلم والمال مع البغي والبطر والاستكبار بالبوار، كما انتهى سلطان الحكم والجبروت والعلو في الأرض، هذا ابتلعه الماء، وذلك ابتلعته الأرض، وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين، فبعدًا لقوم لا يؤمنون، فأخذ الله كل أمة من الأمم المكذبة بذنبها، وعاقبها على قدر جرمها كما قال -سبحانه-: (فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون) [العنكبوت: 40].
فهذه نصرة الله لأوليائه حين يتمحض الشر، ويقف الخير عاجزًا، أما حين يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي فإن الله -جل جلاله- ينصر أهل الإيمان، ويخذل أهل الطغيان، ويظهر قدرته، ولكن تحت ستار من الخلق كما قال -سبحانه-: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 14]، وقال -سبحانه-: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 17].
ويكون نصر المؤمنين لربهم بأمرين:
الأول: أن تتجرد نفوسهم لله وحده، فلا تشرك به شيئًا ظاهرًا أو خفيًا، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها وشهواتها، وحركاتها وسكناتها، وسرها وعلانيتها فهذا نصر الله في ذوات النفوس.
الثاني: أن لله -عزَّ وجلَّ- شريعة ومنهاجًا للحياة، ونصر الله يتحقق بنصر شريعته ومنهاجه، وتحكيم أمره في كل شيء، فهذا نصر الله في واقع الحياة.
إن جميع الأنبياء دعوا أممهم إلى ثلاثة أشياء:
التوحيد, والإخلاص, والنصيحة، وضحوا بكل ما يملكون من أجل الدين تضحية كاملة، فالاستقامة الكاملة والتضحية الكاملة معها نصرة كاملة من الله، وذلك خاص بالأنبياء وأتباعهم من المؤمنين، وهي سُنّة جارية لا تتبدل.
فنصرة الله دائمًا إلى يوم القيامة لأهل الإيمان والتقوى، سواء كان نبيًّا أو خليفة أو من سائر الناس، فردًا أو جماعة أو أمة، وبعد بذل كل شيء، وكمال الاستقامة، وكمال التضحية، الله يفصل بأمرين: نصر أوليائه المؤمنين, وخذلان أعدائه الكافرين.
فنوح -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله، ونصحهم بطاعة الله ورسوله، فلما لم يستجيبوا ولم يؤمنوا جاء أمر الله بنجاة المؤمنين، وإهلاك الكافرين كما قال -سبحانه-: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود: 40].
وهود -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه عادًا كذلك، ولما لم يستجيبوا له جاء أمر الله بإهلاكهم كما قال -سبحانه-: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) [هود: 58 - 60].
وصالح -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى الله، ولما لم يستجيبوا له أهلكهم الله, كما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود: 66، 67].
وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى الله فأبوا وأشعلوا له النار لإحراقه فأنجاه الله من النار، وجعلها بردًا وسلامًا عليه كما قال -سبحانه-: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 68 - 71].
ولوط -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى الله، ولما لم يستجيبوا رفع الله ديارهم إلى السماء وقلبها عليهم كما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: 82، 83].
وشعيب -صلى الله عليه وسلم- قال لقومه: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [هود: 84]، ولما لم يستجيبوا له وسخروا منه نزل بهم أمر الله, كما قال -سبحانه-: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) [هود: 94، 95].
وموسى -صلى الله عليه وسلم- دعا فرعون وملأه إلى الله، ولما لم يستجب أغرقه الله وقومه في البحر, قال -سبحانه-: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) [الشعراء: 61 - 66].
وعيسى -صلى الله عليه وسلم- دعا بني إسرائيل إلى الله والاستقامة على الدين، فلما لم يستجيبوا له أظهر الله من آمن به على من خالفه, قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف: 14].
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه قريشًا إلى الله فلم يؤمن منهم إلا القليل، ولما أعرضوا عنه وسبوه، ثم آذوه وأرادوا قتله حفظه الله وهاجر إلى المدينة فأعز الله دينه ورسوله والمؤمنين، ثم أظهره الله على جميع أعدائه ودخل مكة فاتحًا معه المهاجرون والأنصار، وحينها دخل الناس في دين الله أفواجًا كما قال -سبحانه-: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابً) [النصر: 1 - 3].
أيها الإخوة: والنصر له أسباب, والهزيمة لها أسباب, والعزة لها أسباب, والذلة لها أسباب, والنجاة لها أسباب, والهلاك له أسباب؛ فالنصر الكامل, والعزة الكاملة, والنجاة الكاملة, تكون بالإيمان الكامل, والاتباع الكامل, والتضحية الكاملة كما قال -سبحانه-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 40، 41]، ومدار ذلك كله على الصبر واليقين.
نسأل الله أن ينصرنا على أنفسنا وأعدائنا، ونسأله -سبحانه- أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يعلي دينه وشريعته وسنة نبيه، اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.
المصدر ملتقى الخطباء
تفسير الشعراوى
هذه قضية معاركية قتالية بالنسبة للمسلمين، وهي قضية واقعة ومبدأ لا يتخلف، وسنة من سنن الله لا تتبدلّ ما دام شرط الجندية قائماً لله ولنصرة دين الله.
لذلك قلنا: إذا رأيتَ انهزام المسلمين في معركة فاعلم أنهم لم يحققوا شرط الجندية لله، وابحث فيهم هم عن سبب الهزيمة، لأن سنة الله في نصرة الفئة المؤمنة سنة ثابتة.
قال تعالى: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-173] لذلك رأينا ما حدث في غزوة أحد عندما خالف الرماة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا عن شرط الجندية.
كذلك الحال يوم حنين الذي قال الله فيه: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [التوبة: 25].
حتى إن الصِّديق نفسه لم يسلْمَ من مشاعر الإعجاب بالعدو، فقال: لن نُهزم اليوم عن قلة، لما داخلهم الغرور بالعدد والإعجاب بالكثرة حَلَّتْ بهم الهزيمة في أول الأمر.
لكن تداركتهم رحمة الله، فانتصروا في نهاية المعركة، وكأنه كان تأديباً من الله لعباده المؤمنين ودرساً عملياً حتى يدخلوا الحرب، وليس في بالهم إلا الله، ونُصْرة دين الله.
وقوله: { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 7] تثبيت الأقدام كنايةٌ عن الثبات في المعركة، وكناية عن القوة، لأن الأقدام هي أداة الفرار من الحرب، فإذا ثبَّتها الله ثبتت ولم تفر، لذلك أمانة القدم ألاّ تفرَّ يوم الزحف.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
هذا أمرٌ منه تعالى للمؤمنين أن ينصروا اللهَ؛ بالقيام بدينه والدعوة إليه وجهادِ أعدائه، وأن يقصدوا بذلك وجهَ الله؛ فإنهم إذا فعَلوا ذلك نصرَهم وثبَّت أقدامهم؛ أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطُّمأنينة والثبات، ويصبر أجسادَهم على ذلك، ويُعينهم على أعدائهم، فهذا وعدٌ من كريمٍ صادق الوعد أن الذي يَنصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه وييسِّر له أسبابَ النصر؛ من الثبات وغيره، وأما الذين كفروا بربهم ونصروا الباطلَ ﴿ فَتَعْسًا لَهُمْ ﴾[3]؛ فإنهم في تعس؛ أي: انتكاس من أمرهم وخِذلان، ﴿ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾؛ أي: أبطل أعمالهم التي يَكيدون بها الحقَّ، فرجع كيدُهم في نحورهم، وبطلَت أعمالهم التي يزعمون أنهم يريدون بها وجهَ الله.
والنصر قد يبطئ على المؤمنين أحيانًا؛ لأن بُنْيَة الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها المطلوب، ولم يتم بعدُ تمامها وكمالها، ولم تحشد بعدُ طاقتها، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكًا؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً، وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا لا تبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله، وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، بل إنما ينزل النصر بعد بذل كل الطاقة، وتفويض الأمر كله إلى الله.
من أجل هذا كله ومن أجل غيره مما يعلمه الله قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا، وتحقيق النصر لهم في النهاية، فهم أهل دينه، وحماة شريعته، والمجاهدون لإعلاء كلمته: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 40، 41].
وابتلاء الله لعباده أنواع وألوان: ابتلاء للصبر, وابتلاء للشكر, وابتلاء للأجر, وابتلاء للتوجيه, وابتلاء للتأديب, وابتلاء للتمحيص, وابتلاء للتقويم. وفي قصة نوح -صلى الله عليه وسلم- ألوان من الابتلاء له ولقومه ولأبنائه القادمين، وسنة الله أن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته، والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر، فحين بغى فرعون على بني إسرائيل، واستطال بجبروت الحكم، وحين بغى قارون عليهم، واستطال بجبروت العلم والمال، كانت النهاية واحدة.
إن هذا ما يجب أن يعلمه كل مجاهد في سبيل الله وكل داع إليه، وهو ما تجهله الكثرة المشركة الباغية الطاغية؛ ففرعون طغى: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [القصص: 39، 40] أما قارون فقد جاء أمر الله مباشرة في إهلاكه، فخسف الله به وبداره الأرض، ولم يغن عنه ماله ولا علمه، كما أغرق الله فرعون، فألقاه في اليم هو وجنوده: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص: 81].
وهكذا انتهى سلطان العلم والمال مع البغي والبطر والاستكبار بالبوار، كما انتهى سلطان الحكم والجبروت والعلو في الأرض، هذا ابتلعه الماء، وذلك ابتلعته الأرض، وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين، فبعدًا لقوم لا يؤمنون، فأخذ الله كل أمة من الأمم المكذبة بذنبها، وعاقبها على قدر جرمها كما قال -سبحانه-: (فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون) [العنكبوت: 40].
فهذه نصرة الله لأوليائه حين يتمحض الشر، ويقف الخير عاجزًا، أما حين يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي فإن الله -جل جلاله- ينصر أهل الإيمان، ويخذل أهل الطغيان، ويظهر قدرته، ولكن تحت ستار من الخلق كما قال -سبحانه-: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 14]، وقال -سبحانه-: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 17].
ويكون نصر المؤمنين لربهم بأمرين:
الأول: أن تتجرد نفوسهم لله وحده، فلا تشرك به شيئًا ظاهرًا أو خفيًا، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها وشهواتها، وحركاتها وسكناتها، وسرها وعلانيتها فهذا نصر الله في ذوات النفوس.
الثاني: أن لله -عزَّ وجلَّ- شريعة ومنهاجًا للحياة، ونصر الله يتحقق بنصر شريعته ومنهاجه، وتحكيم أمره في كل شيء، فهذا نصر الله في واقع الحياة.
إن جميع الأنبياء دعوا أممهم إلى ثلاثة أشياء:
التوحيد, والإخلاص, والنصيحة، وضحوا بكل ما يملكون من أجل الدين تضحية كاملة، فالاستقامة الكاملة والتضحية الكاملة معها نصرة كاملة من الله، وذلك خاص بالأنبياء وأتباعهم من المؤمنين، وهي سُنّة جارية لا تتبدل.
فنصرة الله دائمًا إلى يوم القيامة لأهل الإيمان والتقوى، سواء كان نبيًّا أو خليفة أو من سائر الناس، فردًا أو جماعة أو أمة، وبعد بذل كل شيء، وكمال الاستقامة، وكمال التضحية، الله يفصل بأمرين: نصر أوليائه المؤمنين, وخذلان أعدائه الكافرين.
فنوح -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله، ونصحهم بطاعة الله ورسوله، فلما لم يستجيبوا ولم يؤمنوا جاء أمر الله بنجاة المؤمنين، وإهلاك الكافرين كما قال -سبحانه-: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود: 40].
وهود -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه عادًا كذلك، ولما لم يستجيبوا له جاء أمر الله بإهلاكهم كما قال -سبحانه-: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) [هود: 58 - 60].
وصالح -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى الله، ولما لم يستجيبوا له أهلكهم الله, كما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود: 66، 67].
وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى الله فأبوا وأشعلوا له النار لإحراقه فأنجاه الله من النار، وجعلها بردًا وسلامًا عليه كما قال -سبحانه-: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 68 - 71].
ولوط -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه إلى الله، ولما لم يستجيبوا رفع الله ديارهم إلى السماء وقلبها عليهم كما قال -سبحانه-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: 82، 83].
وشعيب -صلى الله عليه وسلم- قال لقومه: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) [هود: 84]، ولما لم يستجيبوا له وسخروا منه نزل بهم أمر الله, كما قال -سبحانه-: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) [هود: 94، 95].
وموسى -صلى الله عليه وسلم- دعا فرعون وملأه إلى الله، ولما لم يستجب أغرقه الله وقومه في البحر, قال -سبحانه-: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) [الشعراء: 61 - 66].
وعيسى -صلى الله عليه وسلم- دعا بني إسرائيل إلى الله والاستقامة على الدين، فلما لم يستجيبوا له أظهر الله من آمن به على من خالفه, قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) [الصف: 14].
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- دعا قومه قريشًا إلى الله فلم يؤمن منهم إلا القليل، ولما أعرضوا عنه وسبوه، ثم آذوه وأرادوا قتله حفظه الله وهاجر إلى المدينة فأعز الله دينه ورسوله والمؤمنين، ثم أظهره الله على جميع أعدائه ودخل مكة فاتحًا معه المهاجرون والأنصار، وحينها دخل الناس في دين الله أفواجًا كما قال -سبحانه-: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابً) [النصر: 1 - 3].
أيها الإخوة: والنصر له أسباب, والهزيمة لها أسباب, والعزة لها أسباب, والذلة لها أسباب, والنجاة لها أسباب, والهلاك له أسباب؛ فالنصر الكامل, والعزة الكاملة, والنجاة الكاملة, تكون بالإيمان الكامل, والاتباع الكامل, والتضحية الكاملة كما قال -سبحانه-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 40، 41]، ومدار ذلك كله على الصبر واليقين.
نسأل الله أن ينصرنا على أنفسنا وأعدائنا، ونسأله -سبحانه- أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يعلي دينه وشريعته وسنة نبيه، اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.
المصدر ملتقى الخطباء