في القرآن الكريم كثير من الآيات التي تفيد أن الهداية إنما هي توفيق من الله سبحانه لعباده، غير أن هذا لا ينافي أن يتعرض العبد لأسباب الهداية، طلباً لها، وسعياً للوصول إليها؛ لينال رضا الله في الدنيا والآخرة. كالمريض يأخذ الدواء طلباً للشفاء، مع أن الشافي في الحقيقة هو الله رب العالمين، لكنه سبحانه أقام أمر الدين -وكذلك أمر الدنيا- على أسباب لا بد للإنسان أن يعمل على تحصيلها؛ لكيلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة.
ومن الآيات التي تؤكد المعنى الذي ألمحنا إليه بداية قوله سبحانه: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} (النور:40). جاءت هذه الآية في سياق بيان أعمال الذين كفروا، مشبِّهة أعمالهم بالسراب، الذي يبدو للناظر كأنه ماء، وهو في حقيقة الأمر ليس إلا سراباً خادعاً، لا يروي من عطش، ولا يغني من ظمأ. فجاءت هذه الآية تذييلاً لما سبقها؛ لتقرر حقيقة مهمة مفادها: أن الهداية من الله سبحانه، فمن لم يوفقه الله لأسبابها، فلا سبيل له إليها.
وقد ذكر المفسرون ثلاثة أقوال في المراد من هذه الآية:
الأول: أن المراد من (النور) في الآية الدين والإيمان، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً، فلا دين له. وعلى هذا يكون المعنى: من لم ينور الله قلبه بنور الإيمان، ويهده إليه، فهو في ظلمة عمياء، لا نور له، ولا يهتدي أبداً.
الثاني: أن المراد من (النور) في الآية الهداية في الدنيا، أي: من لم يهده الله في هذه الدنيا، فلا يهديه أحد، وهذا كقوله سبحانه: {ومن يهد الله فما له من مضل} (الزمر:37)، وقوله عز وجل: {ومن يضلل الله فما له من هاد} (الرعد:33). وهذا القول هو الأرجح فيما يُفهم من كلام المفسرين.
الثالث: أن المراد من (النور) الهداية في الآخرة، والمراد بحسب هذا القول: من لم يرحمه الله، وينور حاله بالعفو والرحمة، فلا رحمة له. أو من لم يجعل له نوراً يمشي به يوم القيامة، فما له من نور يهتدي به إلى الجنة. وقد أخرج ابن المنذر عن أبي أمامة ما يشهد لهذا القول، قال: أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منـزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، ويوشك أن تظعنوا -ترتحلوا- منه إلى منزل آخر، وهو القبر. بيت الوحدة، وبيت الظلمة، وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنقلون إلى مواطن يوم القيامة، وإنكم لفي بعض تلك المواطن حين يغشى الناس أمر من أمر الله، فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم تنتقلون إلى منزل آخر، فيغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيُعطى المؤمن نوراً، ويُترك الكافر والمنافق، فلا يُعطى شيئاً، وهو المثل الذي ضربه الله في كتابه {أو كظلمات في بحر لجي} إلى قوله: {فما له من نور}، فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير.
والحق أن هذه الأقوال لا تعارض بينها، بل يُكَمِّل بعضها بعضاً، فإن المؤمن بدين الإسلام لابد له أن يصل إلى طريق الهداية، ومن وصل إلى طريق الهداية لا بد أن يلتزم ما أمر الله به، وما نهى عنه، ومن التزم شرع الله لا بد أن يكون من الفائزين يوم القيامة، كما قال تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} (البقرة:25).
والنقطة المحورية التي تنبه إليها الآية الكريمة هي: أن الهداية إنما تكون بتوفيق من الله وتيسير منه سبحانه، والعبد مطالب أن يطرق باب أسباب الهداية كما يطلب باب أسباب الرزق، فكما أن الرزق من الله سبحانه وتعالى، وهو القائل: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود:6)، إلا أن العبد مطالب -في الوقت نفسه- بأن يسعى في تحصيل الرزق، ويتعرض لأسبابه كما قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} (هود:15)، فكذلك أمر الهداية، فإن العبد مطالب بتحصيل أسبابها، وسلوك الطرق المؤدية إليها؛ وذلك لا يكون إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتعرف على سنن الآفاق والأنفس التي بثها سبحانه في هذا الكون، والسير على سَنَنِها.
والآية التي معنا جاء مضمونها في آية أخرى، تؤكد أن أمر الهداية إنما يكون بتوفيق الله العبد لأسبابها، وأن كل ما على العبد القيام به، إنما هو الأخذ بأسباب الهداية، تلك الآية قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم} (الحديد:28)، فهذه الآية واضحة بأن الوصول إلى الهداية لا يكون إلى بالأخذ بأسبابها -وهو وَفْق الآية- تقوى الله، وتقوى الله كلمة جامعة، تعني الالتزام بشرع الله سبحانه، فإذا كانت آية النور تهتم بإبراز جانب النتيجة = الهداية، فإن هذه الآية -آية الحديد- تهتم بإبراز جانب الأسباب = الالتزام بشرع الله، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.
على أن الأمر المهم هنا، أنه ليس في آية النور حجة ومستمسك لمن يقول من الكفار: إن الله لم يُرِد لي الهداية، فهذا كلام لا وزن له في ميزان الشرع، وهو كلام من لم يفقه شرع الله؛ لأن الله سبحانه أمر عباده بطلب أسباب الهداية، وأمر بالسعي في تحصيلها، ألم يقل سبحانه: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت:69)، فقد علق سبحانه حصول الهداية على الجهاد في سبيله، ومن معاني الجهاد في سبيله جهاد النفس في طلب الهداية، والتعرف على سبل النجاة. فالأمر في المحصلة رَبْطٌ للنتائج بأسبابها، وأسباب تؤدي إلى نتائج محددة، كل ذلك بتوفيق الله سبحانه؛ لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً واجعل لي نوراً) متفق عليه.
اسلام ويب
ومن الآيات التي تؤكد المعنى الذي ألمحنا إليه بداية قوله سبحانه: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} (النور:40). جاءت هذه الآية في سياق بيان أعمال الذين كفروا، مشبِّهة أعمالهم بالسراب، الذي يبدو للناظر كأنه ماء، وهو في حقيقة الأمر ليس إلا سراباً خادعاً، لا يروي من عطش، ولا يغني من ظمأ. فجاءت هذه الآية تذييلاً لما سبقها؛ لتقرر حقيقة مهمة مفادها: أن الهداية من الله سبحانه، فمن لم يوفقه الله لأسبابها، فلا سبيل له إليها.
وقد ذكر المفسرون ثلاثة أقوال في المراد من هذه الآية:
الأول: أن المراد من (النور) في الآية الدين والإيمان، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً، فلا دين له. وعلى هذا يكون المعنى: من لم ينور الله قلبه بنور الإيمان، ويهده إليه، فهو في ظلمة عمياء، لا نور له، ولا يهتدي أبداً.
الثاني: أن المراد من (النور) في الآية الهداية في الدنيا، أي: من لم يهده الله في هذه الدنيا، فلا يهديه أحد، وهذا كقوله سبحانه: {ومن يهد الله فما له من مضل} (الزمر:37)، وقوله عز وجل: {ومن يضلل الله فما له من هاد} (الرعد:33). وهذا القول هو الأرجح فيما يُفهم من كلام المفسرين.
الثالث: أن المراد من (النور) الهداية في الآخرة، والمراد بحسب هذا القول: من لم يرحمه الله، وينور حاله بالعفو والرحمة، فلا رحمة له. أو من لم يجعل له نوراً يمشي به يوم القيامة، فما له من نور يهتدي به إلى الجنة. وقد أخرج ابن المنذر عن أبي أمامة ما يشهد لهذا القول، قال: أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منـزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، ويوشك أن تظعنوا -ترتحلوا- منه إلى منزل آخر، وهو القبر. بيت الوحدة، وبيت الظلمة، وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنقلون إلى مواطن يوم القيامة، وإنكم لفي بعض تلك المواطن حين يغشى الناس أمر من أمر الله، فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم تنتقلون إلى منزل آخر، فيغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيُعطى المؤمن نوراً، ويُترك الكافر والمنافق، فلا يُعطى شيئاً، وهو المثل الذي ضربه الله في كتابه {أو كظلمات في بحر لجي} إلى قوله: {فما له من نور}، فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير.
والحق أن هذه الأقوال لا تعارض بينها، بل يُكَمِّل بعضها بعضاً، فإن المؤمن بدين الإسلام لابد له أن يصل إلى طريق الهداية، ومن وصل إلى طريق الهداية لا بد أن يلتزم ما أمر الله به، وما نهى عنه، ومن التزم شرع الله لا بد أن يكون من الفائزين يوم القيامة، كما قال تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} (البقرة:25).
والنقطة المحورية التي تنبه إليها الآية الكريمة هي: أن الهداية إنما تكون بتوفيق من الله وتيسير منه سبحانه، والعبد مطالب أن يطرق باب أسباب الهداية كما يطلب باب أسباب الرزق، فكما أن الرزق من الله سبحانه وتعالى، وهو القائل: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود:6)، إلا أن العبد مطالب -في الوقت نفسه- بأن يسعى في تحصيل الرزق، ويتعرض لأسبابه كما قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} (هود:15)، فكذلك أمر الهداية، فإن العبد مطالب بتحصيل أسبابها، وسلوك الطرق المؤدية إليها؛ وذلك لا يكون إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتعرف على سنن الآفاق والأنفس التي بثها سبحانه في هذا الكون، والسير على سَنَنِها.
والآية التي معنا جاء مضمونها في آية أخرى، تؤكد أن أمر الهداية إنما يكون بتوفيق الله العبد لأسبابها، وأن كل ما على العبد القيام به، إنما هو الأخذ بأسباب الهداية، تلك الآية قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم} (الحديد:28)، فهذه الآية واضحة بأن الوصول إلى الهداية لا يكون إلى بالأخذ بأسبابها -وهو وَفْق الآية- تقوى الله، وتقوى الله كلمة جامعة، تعني الالتزام بشرع الله سبحانه، فإذا كانت آية النور تهتم بإبراز جانب النتيجة = الهداية، فإن هذه الآية -آية الحديد- تهتم بإبراز جانب الأسباب = الالتزام بشرع الله، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.
على أن الأمر المهم هنا، أنه ليس في آية النور حجة ومستمسك لمن يقول من الكفار: إن الله لم يُرِد لي الهداية، فهذا كلام لا وزن له في ميزان الشرع، وهو كلام من لم يفقه شرع الله؛ لأن الله سبحانه أمر عباده بطلب أسباب الهداية، وأمر بالسعي في تحصيلها، ألم يقل سبحانه: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت:69)، فقد علق سبحانه حصول الهداية على الجهاد في سبيله، ومن معاني الجهاد في سبيله جهاد النفس في طلب الهداية، والتعرف على سبل النجاة. فالأمر في المحصلة رَبْطٌ للنتائج بأسبابها، وأسباب تؤدي إلى نتائج محددة، كل ذلك بتوفيق الله سبحانه؛ لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً واجعل لي نوراً) متفق عليه.
اسلام ويب