إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ملامح تربوية مستنبطة من {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا}

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ملامح تربوية مستنبطة من {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا}

    تمهيد:


    إذا كان ضعف البصر يحجُب الإنسان عن جُلِّ متطلبات الحياة واحتياجاتها، والاستمتاع بها، فكيف بمن كُفَّ بصره تمامًا، ولا يرى إلا ظلامًا في ظلام؟ فيكون في حالة من الضَّجَر والاكتئاب لا يعلم مداها إلا الله تعالى، إلا من امتلأ قلبه بالإيمان، واستسلم لقضاء الله تعالى وقدره؛ رجاءَ ما عنده سبحانه من الأجر العظيم؛ عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله عز وجل: ‌إذا ‌ابتليتُه ‌بحَبِيبَتَيه - يريد عينيه - ثم صبر، عوَّضتُه الجنة))؛ [صحيح البخاري: (5653)]، وعلى الرغم من عظيم ضررِ فَقْدِ البصر، هناك ما هو أشد وأنكى؛ وهو عمى البصيرة؛ وصدق الله العظيم: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]؛ قال السعدي رحمه الله: "أي: هذا العمى الضار في الدين، عمى القلب عن الحق، حتى لا يشاهده، كما لا يشاهد الأعمى المرئيات، وأما عمى البصر، فغايته بُلْغَةٌ ومنفعة دنيوية".



    أقوال العلماء في تفسير الآية موضوع المقال:

    قال الطبري رحمه الله: "ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حُجَجِ الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها، وتصريف ما فيها، فهو في أمر الآخرة التي لم يَرَها ولم يُعاينْها، وفيما هو كائن فيها، ﴿ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 72]؛ يقول: وأضل طريقًا منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها".



    وقال الشنقيطي رحمه الله: "المراد بالعمى في هذه الآية الكريمة عمى القلب لا عمى العين، ويدل لهذا قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]؛ لأن عمى العين مع إبصار القلب لا يضر، بخلاف العكس، فإن أعمى العين يتذكر، فتنفعه الذكرى ببصيرة قلبه؛ قال تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾ [عبس: 1 - 4]".



    الملامح التربوية المستنبطة من الآية موضوع المقال:

    أولًا: إن العمى الحقيقيَّ الذي خطرُه عظيمٌ، ومآله وخيم هو عمى البصيرة، وليس عمى البصر؛ لأن من عَمِيَت بصيرته، خسِر الدنيا والآخرة، والبصيرة كما يُعرِّفها ابن القيم رحمه الله: "نور يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقةَ ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي عين"؛ [مدارج السالكين، 1/ 94]، وهناك ترابط وثيق بين نور البصيرة، وبين الالتزام بشرع الله تعالى أمرًا ونهيًا، فكلما كان الإنسان بشرع الله أوثق، ومن الله أقرب، ازداد نور بصيرته.



    ثانيًا: موضع البصيرة القلبُ، الذي يُعَدُّ الموجِّهَ الأساس لحركات الإنسان وسكناته، ومكمن الخير والشر، فمن مات قلبه، عَمِيَت بصيرته، وأضحى يتخبَّط في متاهات الحياة، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا؛ وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((ألَا وإن في الجسد مضغةً، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله؛ ألَا وهي القلب))؛ [صحيح البخاري، حديث رقم: 52، صحيح مسلم، حديث رقم: 1599]؛ قال ابن رجب رحمه الله: "فإذا كان القلب صالحًا ليس فيه إلا إرادة الله، وإرادة ما يريده، لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكفَّت عما يكرهه، وعما يُخشى أن يكون مما يكرهه"؛ [جامع العلوم والحكم، الحديث السادس].



    ثالثًا: يجب على المسلم العنايةُ التامة بصلاح قلبه، والمحافظة عليه من الزَّيغِ والضلال، وأنجع الوسائل لذلك الدعاء؛ فمن أدعية القرآن الكريم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]؛ قال ابن باز رحمه الله: "هذا من الدعاء العظيم، من دعاء الراسخين في العلم، فينبغي الإكثار من هذا الدعاء العظيم؛ لِما فيه من الخير العظيم، وطلب الثبات في القلب، وطلب الرحمة، فهو دعاء عظيم، جدير بالمؤمن والمؤمنة، وبكل طالب علمٍ أن يدعو به، كما دعا به الراسخون في العلم، وهناك أدعية نبوية عديدة في هذا الباب؛ منها: قالت أم سلمة رضي الله عنها: ((كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))؛ [الألباني، صحيح الترمذي، حديث رقم: 3522].



    رابعًا: من الوسائل المهمة لتقوية البصيرة الاستزادةُ من العلم الشرعي، ومعرفة الحلال والحرام، فكلما ازداد الإنسان علمًا، كان أعرفَ بما يُعين على صفاء قلبه، ونور بصيرته، فمن يعلم ليس كمن لا يعلم؛ وصدق الله العظيم: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]؛ قال الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب، وما عليهم في معصيتهم إياه من التَّبِعات، والذين لا يعلمون ذلك، فهم يخبِطون في عَشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرًا، ولا يخافون بسيئها شرًّا؟ يقول: ما هذان بمتساوِيَينِ"؛ [انظر: مقال للكاتب: ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9] على موقع الألوكة].



    خامسًا: الآية الكريمة موضوع المقال تأتي ضمن السُّنَّة الإلهية، والقاعدة العدلية: الجزاء من جنس العمل، وهذه القاعدة لها شواهدها في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ فمن القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الصف: 5]، ومن السنة النبوية الشريفة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من نفَّس عن مسلم كُرْبةً من كُرَبِ الدنيا، نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعْسِرٍ في الدنيا، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم في الدنيا، ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه))؛ [صحيح مسلم، حديث رقم: 2699]، وعلى حسب القاعدة المشار إليها، فمن اجتهد في معالجة عمى البصيرة بالأسباب الشرعية؛ ومن أهمها: الاستمرار في الدعاء، وطلب العلم الشرعي المؤصَّل من الكتاب والسُّنَّة بفهم سلف الأمة الصالح رحمهم الله، فقد خطا خطوات عملية ناجعة بتوفيق الله تعالى في عافية نفسه من عمى البصيرة، واستبدل بها نورًا يجده في حياته وبرزخه وآخرته.



    سادسًا: تطبيقًا للسُّنَّة الإلهية، والقاعدة العدلية: الجزاء من جنس العمل، المشار إليها في الفقرة (خامسًا)، وتوافُقها التام مع الآية موضوع المقال؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 124 - 127]، العلاقة الترابطية في الآية المشار إليها واضحة؛ فمن أعرض عن ذكر الله تعالى، تكون النتيجة: معيشته في الدنيا ضنك، ويُحشر يوم القيامة أعمى؛ قال ابن باز رحمه الله: "هذا وعيد شديد فيمن أعرض عن ذكر الله، وعن طاعته، فلم يؤدِّ حقَّ الله، هذا جزاؤه، تكون معيشته ضنكًا، وإن كان في مال كثير وسَعَةٍ، لكن يجعل الله في عيشته ضنكًا؛ لِما يقع في قلبه من الضيق والحرج والمشقة، فلا ينفعه وجود المال، يكون في حرج، وفي مشقة بسبب إعراضه عن ذكر الله، وعن طاعة الله جل وعلا، ثم يُحشَر يوم القيامة أعمى".



    سابعًا: يبلغ عمى البصيرة مداه، عندما يصل بالإنسان إلى الشرك بالله تعالى والعياذ بالله، لِما يترتب عليه من خسران في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48]؛ قال السعدي رحمه الله: "يخبر تعالى: أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدًا من المخلوقين، ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمته مغفرته، فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابًا كثيرة؛ كالحسنات الماحية، والمصائب المكفِّرة في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وبشفاعة الشافعين، ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد، وهذا بخلاف الشرك، فإن المشرك قد سدَّ على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئًا، وما لهم يوم القيامة ﴿ مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [الشعراء: 100، 101]".



    ثامنًا: يتفاوت الناس في عمى البصيرة قوةً وضعفًا، بقدر ما لديهم من توفيق الله تعالى أولًا، ثم بما لديهم من علم ومعرفة، وتقوى وإخلاص، واجتهاد في عبادة الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32]؛ قال المراغي رحمه الله: "إن الأمة في العمل أقسام ثلاثة: مقصِّر في العمل بالكتاب مُسرِف على نفسه، ومتردد بين العمل به ومخالفته، ومتقدم إلى ثواب الله بعمل الخيرات، وصالح الأعمال، بتيسير الله وتوفيقه".



    تاسعًا: إن الدنيا ميدانُ عملٍ، ومسابقة في الخيرات، فالموفَّق من اجتهد في طاعة ربه عز وجل، وجعل الآخرة همَّه ونُصب عينيه، ولم ينشغل بالدنيا إلا بقدر حاجته منها؛ لأن الشغف بها من أسباب عمى البصيرة، فيضر بآخرته، وقد يُورِده المهالك والعياذ بالله؛ قال تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77]؛ قال الطبري رحمه الله: "والتمس فيما آتاك الله من الأموال خيراتِ الآخرة، بالعمل فيها بطاعة الله في الدنيا، وقوله: ﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77] يقول: ولا تترك نصيبك وحظك من الدنيا، أن تأخذ فيها بنصيبك من الآخرة، فتعمل فيه بما ينجيك غدًا من عقاب الله، وقوله: ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [القصص: 77]، يقول: وأحسن في الدنيا إنفاقَ مالك الذي آتاكه الله، في وجوهه وسُبُلِهِ، كما أحسن الله إليك، فوسَّع عليك منه، وبسط لك فيها".



    عاشرًا: من أسباب عمى البصيرة الرئيسة الغفلةُ، وأشدها ما يصل بالإنسان إلى الشرك والبعد عن الله سبحانه وتعالى، والعياذ بالله، وقد تم الإشارة إلى خطورة ذلك في الفقرة: (سابعًا)، ثم غفلة عن تعظيم الله وتقديره حق قدره، ثم غفلة عن العناية بالقرآن الكريم قراءة وتدبرًا وتطبيقًا، وغفلة عن فرائض الله، ونوافل العبادات، من صلوات وأذكار شرعية، وكل ما يقرب إلى الله تعالى، والواجب على المسلم أن يحذر كل الحذر من خطورة الغفلة ومستوياتها وتَبِعاتها؛ ليكون من الله تعالى أقرب، باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، فيزداد قلبه إيمانًا وتقوى، فينعكس ذلك على نور بصيرته؛ وصدق الله العظيم: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 282]؛ [انظر كتاب: احذروا الغفلة، دراسة لمواضع الغفلة في القرآن الكريم، ومعالجتها من منظور تربوي إسلامي، على صفحة الكاتب – موقع الألوكة].



    هذا ما تيسر إيراده، والله أسأل بمنِّه وكرمه أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.


    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي





    شبكة الالوكة

يعمل...
X