تفسير الشيخ الشعراوي سورة يس
٧٧-٧٩
(أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ )٧٧-يس
قوله سبحانه: { أَوَلَمْ يَرَ } [يس: 77] بمعنى يعلم لأن الإنسان لم يَرَ عملية الخَلْق في نفسه، فإنْ قلتَ: فمَنِ الذي أعلمه؟ ومَنِ الذي عرَّفه أن الله هو الخالق؟ قالوا: عرف الإنسانُ هذه الحقيقة؛ لأن في الكون كمالاً لم يدَّعه أحدٌ من الخَلْق، ثم فوجئت الدنيا برسول الله يخبر بأن الله تعالى هو الخالق، ولم يعارض أحد، فهذه إذن دَعْوى ليس لها معارض ولا مناهض، مع أن الإنسان كثيراً ما يدَّعي ما ليس له، لكن هذه الدعوى بالذات لا يستطيع أحد أن يدعيها لنفسه.
والقاعدة أن الدعوى تثبت لصاحبها ما لم يَقُمْ لها معارض، وإلا لو أن هذه الدعوى لم تسلم للخالق عز وجل، فأين الخالق؟ لماذا لم يعارضها، ولماذا لم يطالب بحقه في الخَلْق؟ إما أنه جَبُنَ عن المواجهة، أو أنه لم يَدْرِ بهذه الدعوى، وفي كلتا الحالتين لا يستحق أن يكون إلهاً.
ونلحظ على سياق هذه الآيات أن الحق سبحانه قال في الآيات السابقة: { { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } [يس: 71] وهنا قال: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ } [يس: 77] فخاطب الإنسان، ولم يخاطب الجماعة، قالوا: لأن هذه الآية "نزلت في أُبَيِّ بن خلفٍ حين أمسك بعظم بَالٍ، وراح يُفتِّته أمام رسول الله ويقول: أتزعم أن ربك يحيي هذا مرةً أخرى؟ قال: نعم يُحييك، ويُدخلك النار" ، أو يُراد بالإنسان مطلق الإنسان، فهي لكل مُكذِّب بالبعث ممَّنْ هم على شاكلة أُبيٍّ.
وقوله سبحانه: { مِن نُّطْفَةٍ } [يس: 77] العلم التجريبي لم يصل إلى شيء في مسألة الخَلْق هذه إلا مؤخراً، يحاول على استحياء كشف بعض أسرار خَلْق الإنسان مما لم نكُنْ نعرف عنها شيئاً من قبل، والنطفة هي الجوهر والميكروب أو الجرثومة الفعَّالة التي تسبب الإخصاب حين تصل إلى البويضة، وهذه النطفة تسبح في سائل هو المني وتعيش فيه؛ لذلك قال تعالى في آية أخرى: { { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ } [القيامة: 37].
وقد أثبت العلم التجريبي الحديث أن النطفة هي المسئولة عن تحديد الذكورة أو الأنوثة، والبويضة ما هي إلا وعاء فقط. إذن: لا دَخْلَ للمرأة في هذه المسألة، بدليل قول الله تعالى: { { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [القيامة: 37-39] أي: من النطفة، وقلنا: إن من العجيب أن المرأة العربية قديماً فطنَتْ إلى هذه الحقيقة التي لم يتوصّل إليها العلم إلا حديثاً.
أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، المسألة: "إذا غلب ماءُ الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا غلب ماء المرأة نزع الولد إلى أمه" فهموا من هذا الحديث أن تحديد الذكورة أو الأنوثة يتوقف على الماء الذي يسبق، لكن حين نتأمل اللفظ نفسه، فكلمة (غلب) تدل على الغلبة والسباق، والسباق لا يكون إلا لعناصر تخرج من نقطة واحدة، وتنطلق في اتجاه واحد، إذن: فهما غير متقابلين، فمعنى يغلب يعني يسبق.
وقلنا: إنهم الآن تنبهوا إلى أن البويضة حين تخرج من المرأة تُحدث تغييراً كيماوياً في تكوين المرأة يُسبِّب ارتفاعاً في درجة الحرارة وتغيُّراً في المزاج وفي نبضات القلب؛ لذلك اخترعوا ساعة تقيس هذه التغييرات، وتعرف بها المرأة موعد نزول البويضة.
والنطفة ميكروب متنَاهٍ في الصِّغر؛ لا يُرَى إلا بالمجهر، ورحم الله العقاد الذي قال كلمةً موجزة تصور هذا الصِّغَر، فقال: إن أنسال العالم كله - يعني النطف التي كوَّنتهم - يمكن أن توضع في نصف كُسْتبان الخياطة. فسبحان الخالق الذي يُخرِج من هذه النطفة المتناهية الصِّغر إنساناً كاملاً، ويُنشىء منها العظام الصلبة والعضلات نصف الصلبة والرَّخْوة، وأنشأ منها الغضاريف والأعصاب والدم السائل والمخ .. الخ.
هذا في الجسم المادي، والأعجب منه ما يحتويه هذا الجسم من العقل الذي يفهم، واللسان الذي ينطق ويتذوق، والعين التي ترى، واليد التي تبطش، والأنف الذي يشم، والأنامل التي تلمس، والرِّجْل التي تسعى.
هذه كلها من النطفة، هذا الميكروب الذي لا يُرى بالعين المجردة، هذه النطفة التي عبَّر عنها القرآن بالماء المهين، مهين لأن الإنسان يتبوله ويخرج من مجرى البول، ويُلقى فى دورات المياه مع القاذورات، وإن أصاب ملابسك لا بُدَّ أن تُغسل. ومن هذا الماء المهين يُخْلق الإنسان، بل ويصل إلى أعلى مراتب الطغيان والجبروت، كيف؟
قالوا: لأن الإنسانَ له صفات حسنة في ذاته، ومواهب يحب أن يظهرها، فإنْ كان مع أحبابه أعجبه شكله الجميل أو ماله أو ذكاؤه .. الخ، فيحاول أن يُبيِّن هذه المواهب لهم، فإذا عُودِي كانت له مواهب أخرى في أعدائه، ومع العدو يُجنِّد الإنسان كل مواهبه لينتصر على عدوه، هذه مواهب في الغضب وفي الخصومة والجدال.
لذلك قال أحدهم:
وكم مِنْ نِعْمَةٍ لله فِيَّ حَمَدْتُها يُجَمِّعُها فيَّ مَواهِبُ ثلاث
أولاَهُما لِنَفسي وثانيتهما لأحْبَابي وأصْحَابي وثالثهما لخصْمي
هذا كله معنى { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [يس: 77] يعني: بعد أنْ خلق الإنسان من هذه النطفة ومن هذا الماء المهين فوجئنا بأنه { خَصِيمٌ } [يس: 77] يعني: عدو لدود { مُّبِينٌ } [يس: 77] يعني: يبين عن مواهب العداء عنده إبانةً واضحة، والإنسان لا يكون مُبيناً لغيره إلا إذا بَانَ الشيء في نفسه هو؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالمدرس الفاشل هو الذي لا يستطيع أن ينقل المعلومة لتلاميذه؛ لأن المعلومة غير واضحة عنده، ولو كانت المعلومة واضحة في ذهنه لاستطاع أنْ ينقلها بأيِّ أسلوب.
إذن: المعنى { مُّبِينٌ } [يس: 77] يُحسِن الإبانة عَمَّا في نفسه؛ لذلك تقول: أبنتُ لك لأنها بانت عندي، وأعلمتُك لأنها عُلِمت عندي، وأفهمتُك لأنني فهمتُ، فهما إذن موهبتان، والإنسان ترتقي مواهبه ويجند كل صفاته في الخصومة لا يدخر شيئاً منها، ففي الخصومة يُظهِر ما عنده من المال أو الشجاعة أو الحيلة .. الخ.
وعجيبٌ أن هذا كله كامن في النطفة، وعجيبٌ أيضاً أن ينقل الإنسانُ هذه الخصومةَ من ذات نفسه، ومن خصومته لأعدائه إلى خصومة ربه وخالقه.
لذلك قال تعالى بعدها مُصوِّراً هذه الخصومة لا مع أُبَيٍّ سبب نزول الآيات، إنما مع كل مَنْ هو على شاكلة أُبَيٍّ:
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ )٧٨
(قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ )٧٩-يس
تحدَّثنا عن ضرب المثل وقُلْنا: الضرب إيقاع جسم على جسم بعنف، ويُشترط فيه أن يكون الضاربُ أقوى من المضروب، وإلا كانت النتيجة عكسية، ومن ذلك قول الرافعيرحمه الله :
أيَا هَازِئاً مِنْ صُرُوفِ القَدَرِ بِنْفسِكَ تَعْنُفُ لاَ بالقَدَرْ
وَيَا ضَارِباً صَخْرةً بِالعَصَا ضَرَبْتَ العَصَا أَمْ ضَرَبْتَ الحَجَرْ؟
كذلك ضَرْب المثل هو إيجاد شيء يُوقع على شيء، ليبين لك الأثر الحاسم الفعَّال، فحين تشكّ مثلاً في شيء يُوضِّحه لك بمثَلٍ لا تشك فيه، فيُقرِّبه إلى ذهنك، ومن ذلك قوله تعالى لما أراد أنْ يُوضِّح لنا بطلان الشرك، والفرق بينه وبين التوحيد، قال سبحانه: { { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 29].
نعم، لا يستوي عبد يتنازعه عدة أسياد، وعبد مِلْك لسيد واحد، كذلك لا يستوي التوحيد والشرك.
فقوله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } [يس: 78] أي: أبيّ بن خلف، والمثل الذي ضربه أنْ أخذ عَظْماً قد بَلِي، وراح يُفتِّته أمام رسول الله وهو يقول: أتزعم يا محمد أن ربك سيحيي هذا، بعد أن صار إلى ما ترى؟ وإنْ كانت الآيات نزلت في أُبيٍّ، إلا أنها لا تقتصر عليه، إنما تشمل كل مُكذِّب بالبعث، مُنكر لهذه القضية.
ومعنى { وَنَسِيَ خَلْقَهُ } [يس: 78] يعني: لو تذكَّر خَلْقه هو، وتأمل في ذات نفسه وجد الدليل على ما يُكذِّب به؛ لأن الله خلقك من العدم، فصار لك وجود، فإذا مِتَّ بقيتْ منك هذه البقايا التي تُفتِّتها منثورة في الأرض، ومعلوم بحسب ما تفهمه العقول أن الإيجاد من موجود أهون من الإيجاد من العدم { { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27].
الحق سبحانه في هذه الآية يخاطبنا على قَدْر عقولنا ووَفق منطقنا، وإلاَّ فلا يُقال في حقه تعالى هَيِّن وأهون، ولا سهل وأسهل، هذا يُقال في حق البشر فحسب.
وقوله: { قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78] حينما ألقى هذا السؤال على الكافرين المكذِّبين بالبعث يقولون: لا أحد يستطيع أنْ يُحيي الموتى، لماذا؟ لأنه يقيس المسألة على عَجْز القدرة في البشر، لا على طلاقة القدرة في الخالق سبحانه.
والعجيب أن الله تعالى يُثبت للإنسان صفة الخَلْق، فيقول: { { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14] والإنسان ينكر ويُكذِّب بقدرة الله في الخَلْق، فإذا كان ربك لم يَضِنّ عليك بأنك خالق، فلا تضنّ عليه بأنه أحسن الخالقين.
وقلنا: إذا وجدتَ صفة لله تعالى ووصف بها البشر فلا بُدَّ أنْ تأخذها في إطار { { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] فلله تعالى وجه لا كالأوجه، وله سبحانه يد لكن ليستْ كالأيدي.. وهكذا؛ لأن الله تعالى واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله. الله موجود وأنت موجود، لكن وجودك ليس كوجوده، الله غني وأنت غني، لكن غِنَاك ليس كغِنَى الله، غَنِى الله ذاتيٌّ لا ينفصل عنه سبحانه، أما غناك فموهوب.
الله خالق وأنت خالق، لكن فَرْقٌ بين خَلْقك وخَلْق الله، خَلْقك من موجود وخَلْقه تعالى من عدم، خَلْقك جامد لا حياة فيه، وخَلْق الله في حياة فينمو ويتغذى ويتكاثر .. الخ فأنت خالق، لكن ربك سبحانه أحسن الخالقين.
إذن: لله تعالى صفات الكمال المطلق، يُفيض منها على خَلْقه فيعطيهم من صفاته تعالى، لكن تظل له سبحانه طلاقة القدرة.
ومعنى { رَمِيمٌ } [يس: 78] قديمة بالية تتفتت.
ثم يردُّ الحق سبحانه على هذا المكذِّب وأمثاله: { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [يس: 79] ومعنى { أَنشَأَهَآ } يعني: من العدم، ولأنْ ينشئها من موجود أَوْلَى، وقوله { أَوَّلَ مَرَّةٍ } [يس: 79] في الرد على هذا المكذِّب يوحي بأن هناك مرة أخرى، وإحياءً آخر غير الأول { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 79] أي: بالخَلْق الأول وبالخَلْق الثاني، فالعلم بالخَلْق الأول أنْ يعطيه صفات ومواهبَ في ذاته، وأنْ يستعمره في الأرض، وأن يجعلَ له منهجاً ينظم حياته فيها.
وبهذا المنهج أرشده إلى سبيل الخير، وحذَّره من سبُل الشر، وأوضح له الجزاء على هذا وذاك، وهو سبحانه عليم بالخَلْق الآخر في الآخرة. أي: يعلم كيف يجازيه على ما قدَّم. إذن: معنى { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 79] يعني: عليم كيف يُكلِّفه، وعليك كيف يجازيه، وعلى قَدْر التكليف يكون الجزاء.
الفلاسفة المسلمون أحبوا أنْ يوضحوا لنا هذا المعنى، فقالوا: حينما أراد الله أن يخلق من العدم وقبل أنْ توجد السماء أو الأرض قال: اخرجى يا سماء كوني سماءً فكانت، وهكذا الأرض. إذن: قادريته سبحانه هي التي فعلت، ومقدورية الأشياء هي التي انفعلت، فما الذي انتهى من هذين العنصرين؟ إنهما باقيتان موجودتان: قادرية الفاعل سبحانه، ومقدورية الأشياء.
التفاسير العظيمة
٧٧-٧٩
(أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ )٧٧-يس
قوله سبحانه: { أَوَلَمْ يَرَ } [يس: 77] بمعنى يعلم لأن الإنسان لم يَرَ عملية الخَلْق في نفسه، فإنْ قلتَ: فمَنِ الذي أعلمه؟ ومَنِ الذي عرَّفه أن الله هو الخالق؟ قالوا: عرف الإنسانُ هذه الحقيقة؛ لأن في الكون كمالاً لم يدَّعه أحدٌ من الخَلْق، ثم فوجئت الدنيا برسول الله يخبر بأن الله تعالى هو الخالق، ولم يعارض أحد، فهذه إذن دَعْوى ليس لها معارض ولا مناهض، مع أن الإنسان كثيراً ما يدَّعي ما ليس له، لكن هذه الدعوى بالذات لا يستطيع أحد أن يدعيها لنفسه.
والقاعدة أن الدعوى تثبت لصاحبها ما لم يَقُمْ لها معارض، وإلا لو أن هذه الدعوى لم تسلم للخالق عز وجل، فأين الخالق؟ لماذا لم يعارضها، ولماذا لم يطالب بحقه في الخَلْق؟ إما أنه جَبُنَ عن المواجهة، أو أنه لم يَدْرِ بهذه الدعوى، وفي كلتا الحالتين لا يستحق أن يكون إلهاً.
ونلحظ على سياق هذه الآيات أن الحق سبحانه قال في الآيات السابقة: { { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } [يس: 71] وهنا قال: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ } [يس: 77] فخاطب الإنسان، ولم يخاطب الجماعة، قالوا: لأن هذه الآية "نزلت في أُبَيِّ بن خلفٍ حين أمسك بعظم بَالٍ، وراح يُفتِّته أمام رسول الله ويقول: أتزعم أن ربك يحيي هذا مرةً أخرى؟ قال: نعم يُحييك، ويُدخلك النار" ، أو يُراد بالإنسان مطلق الإنسان، فهي لكل مُكذِّب بالبعث ممَّنْ هم على شاكلة أُبيٍّ.
وقوله سبحانه: { مِن نُّطْفَةٍ } [يس: 77] العلم التجريبي لم يصل إلى شيء في مسألة الخَلْق هذه إلا مؤخراً، يحاول على استحياء كشف بعض أسرار خَلْق الإنسان مما لم نكُنْ نعرف عنها شيئاً من قبل، والنطفة هي الجوهر والميكروب أو الجرثومة الفعَّالة التي تسبب الإخصاب حين تصل إلى البويضة، وهذه النطفة تسبح في سائل هو المني وتعيش فيه؛ لذلك قال تعالى في آية أخرى: { { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ } [القيامة: 37].
وقد أثبت العلم التجريبي الحديث أن النطفة هي المسئولة عن تحديد الذكورة أو الأنوثة، والبويضة ما هي إلا وعاء فقط. إذن: لا دَخْلَ للمرأة في هذه المسألة، بدليل قول الله تعالى: { { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ * فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [القيامة: 37-39] أي: من النطفة، وقلنا: إن من العجيب أن المرأة العربية قديماً فطنَتْ إلى هذه الحقيقة التي لم يتوصّل إليها العلم إلا حديثاً.
أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، المسألة: "إذا غلب ماءُ الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا غلب ماء المرأة نزع الولد إلى أمه" فهموا من هذا الحديث أن تحديد الذكورة أو الأنوثة يتوقف على الماء الذي يسبق، لكن حين نتأمل اللفظ نفسه، فكلمة (غلب) تدل على الغلبة والسباق، والسباق لا يكون إلا لعناصر تخرج من نقطة واحدة، وتنطلق في اتجاه واحد، إذن: فهما غير متقابلين، فمعنى يغلب يعني يسبق.
وقلنا: إنهم الآن تنبهوا إلى أن البويضة حين تخرج من المرأة تُحدث تغييراً كيماوياً في تكوين المرأة يُسبِّب ارتفاعاً في درجة الحرارة وتغيُّراً في المزاج وفي نبضات القلب؛ لذلك اخترعوا ساعة تقيس هذه التغييرات، وتعرف بها المرأة موعد نزول البويضة.
والنطفة ميكروب متنَاهٍ في الصِّغر؛ لا يُرَى إلا بالمجهر، ورحم الله العقاد الذي قال كلمةً موجزة تصور هذا الصِّغَر، فقال: إن أنسال العالم كله - يعني النطف التي كوَّنتهم - يمكن أن توضع في نصف كُسْتبان الخياطة. فسبحان الخالق الذي يُخرِج من هذه النطفة المتناهية الصِّغر إنساناً كاملاً، ويُنشىء منها العظام الصلبة والعضلات نصف الصلبة والرَّخْوة، وأنشأ منها الغضاريف والأعصاب والدم السائل والمخ .. الخ.
هذا في الجسم المادي، والأعجب منه ما يحتويه هذا الجسم من العقل الذي يفهم، واللسان الذي ينطق ويتذوق، والعين التي ترى، واليد التي تبطش، والأنف الذي يشم، والأنامل التي تلمس، والرِّجْل التي تسعى.
هذه كلها من النطفة، هذا الميكروب الذي لا يُرى بالعين المجردة، هذه النطفة التي عبَّر عنها القرآن بالماء المهين، مهين لأن الإنسان يتبوله ويخرج من مجرى البول، ويُلقى فى دورات المياه مع القاذورات، وإن أصاب ملابسك لا بُدَّ أن تُغسل. ومن هذا الماء المهين يُخْلق الإنسان، بل ويصل إلى أعلى مراتب الطغيان والجبروت، كيف؟
قالوا: لأن الإنسانَ له صفات حسنة في ذاته، ومواهب يحب أن يظهرها، فإنْ كان مع أحبابه أعجبه شكله الجميل أو ماله أو ذكاؤه .. الخ، فيحاول أن يُبيِّن هذه المواهب لهم، فإذا عُودِي كانت له مواهب أخرى في أعدائه، ومع العدو يُجنِّد الإنسان كل مواهبه لينتصر على عدوه، هذه مواهب في الغضب وفي الخصومة والجدال.
لذلك قال أحدهم:
وكم مِنْ نِعْمَةٍ لله فِيَّ حَمَدْتُها يُجَمِّعُها فيَّ مَواهِبُ ثلاث
أولاَهُما لِنَفسي وثانيتهما لأحْبَابي وأصْحَابي وثالثهما لخصْمي
هذا كله معنى { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [يس: 77] يعني: بعد أنْ خلق الإنسان من هذه النطفة ومن هذا الماء المهين فوجئنا بأنه { خَصِيمٌ } [يس: 77] يعني: عدو لدود { مُّبِينٌ } [يس: 77] يعني: يبين عن مواهب العداء عنده إبانةً واضحة، والإنسان لا يكون مُبيناً لغيره إلا إذا بَانَ الشيء في نفسه هو؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالمدرس الفاشل هو الذي لا يستطيع أن ينقل المعلومة لتلاميذه؛ لأن المعلومة غير واضحة عنده، ولو كانت المعلومة واضحة في ذهنه لاستطاع أنْ ينقلها بأيِّ أسلوب.
إذن: المعنى { مُّبِينٌ } [يس: 77] يُحسِن الإبانة عَمَّا في نفسه؛ لذلك تقول: أبنتُ لك لأنها بانت عندي، وأعلمتُك لأنها عُلِمت عندي، وأفهمتُك لأنني فهمتُ، فهما إذن موهبتان، والإنسان ترتقي مواهبه ويجند كل صفاته في الخصومة لا يدخر شيئاً منها، ففي الخصومة يُظهِر ما عنده من المال أو الشجاعة أو الحيلة .. الخ.
وعجيبٌ أن هذا كله كامن في النطفة، وعجيبٌ أيضاً أن ينقل الإنسانُ هذه الخصومةَ من ذات نفسه، ومن خصومته لأعدائه إلى خصومة ربه وخالقه.
لذلك قال تعالى بعدها مُصوِّراً هذه الخصومة لا مع أُبَيٍّ سبب نزول الآيات، إنما مع كل مَنْ هو على شاكلة أُبَيٍّ:
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ )٧٨
(قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ )٧٩-يس
تحدَّثنا عن ضرب المثل وقُلْنا: الضرب إيقاع جسم على جسم بعنف، ويُشترط فيه أن يكون الضاربُ أقوى من المضروب، وإلا كانت النتيجة عكسية، ومن ذلك قول الرافعيرحمه الله :
أيَا هَازِئاً مِنْ صُرُوفِ القَدَرِ بِنْفسِكَ تَعْنُفُ لاَ بالقَدَرْ
وَيَا ضَارِباً صَخْرةً بِالعَصَا ضَرَبْتَ العَصَا أَمْ ضَرَبْتَ الحَجَرْ؟
كذلك ضَرْب المثل هو إيجاد شيء يُوقع على شيء، ليبين لك الأثر الحاسم الفعَّال، فحين تشكّ مثلاً في شيء يُوضِّحه لك بمثَلٍ لا تشك فيه، فيُقرِّبه إلى ذهنك، ومن ذلك قوله تعالى لما أراد أنْ يُوضِّح لنا بطلان الشرك، والفرق بينه وبين التوحيد، قال سبحانه: { { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 29].
نعم، لا يستوي عبد يتنازعه عدة أسياد، وعبد مِلْك لسيد واحد، كذلك لا يستوي التوحيد والشرك.
فقوله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } [يس: 78] أي: أبيّ بن خلف، والمثل الذي ضربه أنْ أخذ عَظْماً قد بَلِي، وراح يُفتِّته أمام رسول الله وهو يقول: أتزعم يا محمد أن ربك سيحيي هذا، بعد أن صار إلى ما ترى؟ وإنْ كانت الآيات نزلت في أُبيٍّ، إلا أنها لا تقتصر عليه، إنما تشمل كل مُكذِّب بالبعث، مُنكر لهذه القضية.
ومعنى { وَنَسِيَ خَلْقَهُ } [يس: 78] يعني: لو تذكَّر خَلْقه هو، وتأمل في ذات نفسه وجد الدليل على ما يُكذِّب به؛ لأن الله خلقك من العدم، فصار لك وجود، فإذا مِتَّ بقيتْ منك هذه البقايا التي تُفتِّتها منثورة في الأرض، ومعلوم بحسب ما تفهمه العقول أن الإيجاد من موجود أهون من الإيجاد من العدم { { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27].
الحق سبحانه في هذه الآية يخاطبنا على قَدْر عقولنا ووَفق منطقنا، وإلاَّ فلا يُقال في حقه تعالى هَيِّن وأهون، ولا سهل وأسهل، هذا يُقال في حق البشر فحسب.
وقوله: { قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [يس: 78] حينما ألقى هذا السؤال على الكافرين المكذِّبين بالبعث يقولون: لا أحد يستطيع أنْ يُحيي الموتى، لماذا؟ لأنه يقيس المسألة على عَجْز القدرة في البشر، لا على طلاقة القدرة في الخالق سبحانه.
والعجيب أن الله تعالى يُثبت للإنسان صفة الخَلْق، فيقول: { { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14] والإنسان ينكر ويُكذِّب بقدرة الله في الخَلْق، فإذا كان ربك لم يَضِنّ عليك بأنك خالق، فلا تضنّ عليه بأنه أحسن الخالقين.
وقلنا: إذا وجدتَ صفة لله تعالى ووصف بها البشر فلا بُدَّ أنْ تأخذها في إطار { { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] فلله تعالى وجه لا كالأوجه، وله سبحانه يد لكن ليستْ كالأيدي.. وهكذا؛ لأن الله تعالى واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله. الله موجود وأنت موجود، لكن وجودك ليس كوجوده، الله غني وأنت غني، لكن غِنَاك ليس كغِنَى الله، غَنِى الله ذاتيٌّ لا ينفصل عنه سبحانه، أما غناك فموهوب.
الله خالق وأنت خالق، لكن فَرْقٌ بين خَلْقك وخَلْق الله، خَلْقك من موجود وخَلْقه تعالى من عدم، خَلْقك جامد لا حياة فيه، وخَلْق الله في حياة فينمو ويتغذى ويتكاثر .. الخ فأنت خالق، لكن ربك سبحانه أحسن الخالقين.
إذن: لله تعالى صفات الكمال المطلق، يُفيض منها على خَلْقه فيعطيهم من صفاته تعالى، لكن تظل له سبحانه طلاقة القدرة.
ومعنى { رَمِيمٌ } [يس: 78] قديمة بالية تتفتت.
ثم يردُّ الحق سبحانه على هذا المكذِّب وأمثاله: { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [يس: 79] ومعنى { أَنشَأَهَآ } يعني: من العدم، ولأنْ ينشئها من موجود أَوْلَى، وقوله { أَوَّلَ مَرَّةٍ } [يس: 79] في الرد على هذا المكذِّب يوحي بأن هناك مرة أخرى، وإحياءً آخر غير الأول { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 79] أي: بالخَلْق الأول وبالخَلْق الثاني، فالعلم بالخَلْق الأول أنْ يعطيه صفات ومواهبَ في ذاته، وأنْ يستعمره في الأرض، وأن يجعلَ له منهجاً ينظم حياته فيها.
وبهذا المنهج أرشده إلى سبيل الخير، وحذَّره من سبُل الشر، وأوضح له الجزاء على هذا وذاك، وهو سبحانه عليم بالخَلْق الآخر في الآخرة. أي: يعلم كيف يجازيه على ما قدَّم. إذن: معنى { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 79] يعني: عليم كيف يُكلِّفه، وعليك كيف يجازيه، وعلى قَدْر التكليف يكون الجزاء.
الفلاسفة المسلمون أحبوا أنْ يوضحوا لنا هذا المعنى، فقالوا: حينما أراد الله أن يخلق من العدم وقبل أنْ توجد السماء أو الأرض قال: اخرجى يا سماء كوني سماءً فكانت، وهكذا الأرض. إذن: قادريته سبحانه هي التي فعلت، ومقدورية الأشياء هي التي انفعلت، فما الذي انتهى من هذين العنصرين؟ إنهما باقيتان موجودتان: قادرية الفاعل سبحانه، ومقدورية الأشياء.
التفاسير العظيمة