تفسير الشيخ الشعراوي
سورة يس٨-١١
(إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ )٨-يس
يعطينا الحق سبحانه في هذه الآية تصويراً لحال هؤلاء الكافرين المعرضين عن اتباع الحق، فيقول: { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } [يس: 8] الأغلال: مفردها غل، وهو الحديدة التي تمسك اليد وتشدّها تحت الذقن، وحين تشد اليد تحت الذقن ترتفع الرأس إلى أعلى، وبالتالي يرتفع مستوى النظر إلى أعلى، فلا يكاد يرى الإنسانُ طريقه، ولا يهتدي إلى موضع قدمه.
وهذه الصورة واضحة أيضاً في معنى كلمة { مُّقْمَحُونَ } [يس: 8] المقمح: مأخوذ من إبل قماح، وقماح الإبل أنها حين تذهب لشرب الماء تغرف منه، ثم ترفع رءوسها إلى أعلى.
قال بعضهم: إن هذه صورة رسمها الحق سبحانه لمن غَلَّ يده عن الصدقة وعن الإنفاق، كذلك تُغَلُّ يده إلى عنقه يوم القيامة، بحيث يؤثر هذا الغُلُّ في مساره الذي بنى عليه حركة حياته، والحق سبحانه يوازن دائماً بين ما فعله المستحق للجزاء والجزاء، فالجزاء من جنس العمل.
ومثال ذلك قوله سبحانه: { { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [التوبة: 34] هذا هو العمل، فما الجزاء { { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [التوبة: 35].
هذه مواضع ثلاثة من الإنسان: الجِبَاه، والجُنُوب، والظُّهور جاءت بهذا الترتيب لتطابق تماماً ما فعله صاحب المال الذي كنز ماله وضَنَّ به على الفقير، فقد كان الفقير يأتيه فيلوى عنه جبهته ويعطيه جَنْبه، ثم يدير له ظهره وينصرف عنه، فجاء عذابهم على مقدار ما فعلوه.
ثم يقول الحق سبحانه:
(وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ )٩-يس
هل معنى هذا أن الله تعالى يساعدهم، ويُعينهم على الكفر؟ قالوا: نعم لأن عبدي حين أناديه فيتأبَّى عليَّ في ندائي، ولا يُقبِل عليَّ بعبوديته لي أعينه على كفره؛ لأنني رَبٌّ غني عنه، فإنْ أحب الكفر وعشقه ولم يَعُدْ هناك أمل في هدايته أختم على قلبه، فلا يدخله إيمان، ولا يخرج منه الكفر. لذلك مَنْ تجنَّى عليك وصَدَّ عنك فأعِنْه على ذلك، ولا تُذكِّره بنفسك.
إذن: ما كفر أحد غَصْباً عن الله، إنما كفر بما أودع الله فيه من اختيار، ولأنه سبحانه رَبٌّ وهو خالق العباد، فعليه سبحانه أنْ يُعينهم، كلاً على ما يريد، فالذي أراد الإيمان وأحبَّه أعانه على الإيمان، والذي أراد الكفر وعَشِقه أيضاً أعانه عليه وساعده.
لذلك ختم الله على قلوب الكافرين، وهنا يقول: { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } [يس: 9] يعني: أمامهم { سَدّاً } [يس: 9] حاجزاً ومانعاً { ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } [يس: 9].
هذا مانع مادي خارج عن تكوين الإنسان { فَأغْشَيْنَاهُمْ } [يس: 9] يعني: جعلنا على أبصارهم غشاوة وغطاءً، فهم مصدودون عن الحق لأشياء. أولاً: في ذواتهم أغشينا أبصارهم فلا يروْنَ ولا يهتدون؛ لأنهم بذواتهم لم يذكروا عهد الفطرة الأولى التي فطر اللهُ الناس عليها.
أما الخارج عنهم، ففي المنهج الذي لم يلتفتوا إليه، لا فيما أمامهم، ولا فيما وراءهم؛ لأن هناك سَدّاً يمنعهم، فلو تذكَّروا ما ينتظرهم لارتدعوا عن غَيِّهم، ولو تأملوا ما نزل بمَنْ سبقهم من المكذِّبين، وما حاق بهم من عذاب الله لرجعوا.
لكن جعل الله من أمامهم سَدّاً، فلا يعرفون ما ينتظرهم، ومن خَلفهم سَدّاً فلا يتدبرون ما حاق بأسلافهم، ممَّن قال الله فيهم: { { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا .. } [العنكبوت: 40].
فإنْ قُلْتَ: الحق سبحانه جعل سَدّاً يمنعهم من الجهة الأمامية، وسَدّاً يمنعهم من الجهة الخلفية، فماذا لو ساروا على جنب إلى اليمين، أو إلى اليسار؟ قالوا: لو ساروا وتوجهوا إلى اليسار مثلاً لَصَار اليسار بالنسبة لهم أمام، واليمين صار خلفاً، فهم إذن مُحَاصرون بالموانع، بحيث لا أمل لهم في الرجوع إلى منهج الحق، وإلى الصواب.
ويصح أن يكون المعنى { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } [يس: 9] أي: مانعاً يمنعهم من التأمل والنظر في الأدلة العقلية المنصوبة أمامهم ليؤمنوا { ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } [يس: 9] يمنعهم، فلم ينتهوا إلى الفطرة الإيمانية المُودَعة فيهم.
ثم يقول الحق سبحانه:
(وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ )١٠-يس
السوائية هنا بالنسبة لهم، لا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله عليه مجرد البلاغ، وما دام بلَّغهم فقد انتهت مهمته، فكأن الله يقول له: اطمئن ولا تحزن، فإنذارك وعدمه عندهم سيَّان، إنما بإنذارك أُقيمت عليهم الحجة، لأنهم أقسموا في موضع سابق: { { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [فاطر: 42].
ثم يقول الحق سبحانه:
(إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ )١١-يس
يعني: إنذارك يا محمد يجدي مع مَنْ يذكر الله ويخافه، ويؤمن به، ويؤمن بقدرته تعالى على البعث وعلى الحساب، هذا الذي ينتفع بالإنذار ويستفيد منه على خلاف المكذِّب للأصل، كيف يستفيد من الإنذار؟ ومعنى { ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [يس: 11] أي: القرآن.
والخشية: خوف، لكن بمهابة، فأنت تخاف الله وتهابه، وكذلك ترجوه، أما الخوف من غير الله فخوف بكُرْه؛ لأنه خوف من جبروت؛ لذلك جاءت بعد الخشية صفة الرحمة { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ } [يس: 11] فأنت تخاف ممَّن اتصف بالعطف والحنان، وهذا أَدْعى أنْ يُحبِّبك فيمَنْ تخاف منه ويعطفك إليه، فتكون خشيتك له ممزوجة بالهيبة والوقار، وبالرجاء فيه؛ لذلك قال سبحانه: { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ } [يس: 11] حتى لا تنفر من الذي تخافه.
وهذه الخشية تكون من المؤمن { بِٱلْغَيْبِ } [يس: 11] يعني: ساعةَ يكون غائباً عن الناس منفرداً، فإنه يخشى الله، ولا يخشى الناس، ولا يحتاج إلى رقيب؛ لأن رقابة البشر للبشر لا تُجدي؛ لأنك ستجعل عليه رقيباً من جنسه، وما جاز على المراقَب يجوز على المراقب من تدليس وغيره، حتى حين تجعل على المراقِب تفتيشاً مفاجئاً لا تأمن التدليس.
وسبق أنْ ضربنا مثلاً برجل المرور، فالواحد منا قبل أنْ يُسمح له بقيادة سيارة لا بُدَّ أنْ يمرَّ بشروط قاسية تضمن أولاً سلامة السيارة التي يقودها، ثم تمكّنه هو من فن القيادة، ولا بُدَّ أنْ يجتاز الاختبارات اللازمة لذلك، ومع هذا كله مِنَّا مَنْ يلتزم، ومِنَّا مَنْ لا يلتزم بالقواعد المرورية؛ لذلك نجعل رجل المرور ليراقب وينظم حركة المرور في الشوارع، وعليه مَنْ يراقبه.
لكن لما وجدوا أن رجل المرور يمكن أنْ يُدلس، فيأخذ الرخصة من مخالف، ويتغافل عن آخر استحدثوا آلات للمراقبة مثل الرادارات، لتكون أكثر دقة، لكن هذه الآلات مَنْ يُشغِّلها؟ بشر يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم.
إذن: حين يكون المراقب من جنس المراقَب، فعملية المراقبة لا تفيد، ولو جعلنا على كل منا رقيباً لاحتجْنا إلى جيوش من الحراس.
إذن: ماذا نفعل لنحكم هذا العالم كله؟
محمد صلى الله عليه وسلم جاء ولرسالته ميزات الرسالة الكاملة، فرسالته غير محدودة بزمان ولا بمكان، فالزمان والمكان هما اللذان يحصران الأحداث، فهما ظرفان للحدث، فإذا لم يكُنْ حدث موجوداً فلا زمانَ ولا مكانَ؛ لذلك لا يصح أنْ يُقال بالنسبة لله تعالى: أين ولا متى، لأن أيْن ومتى مخلوقتان لله.
وإذا كان الزمان والمكان يشتركان في الظرفية للحدث إلا أن المكان ظرف قارٌّ يعني: ثابت، والزمان ظرف متغير، فهذا وقته الصبح، وهذا الظهر ونقول: هذا قبل كذا، وهذا بعد كذا.
رسول الله جاء برسالة عامة في الزمان وفي المكان إلى أن تقوم الساعة، وجاء بمنهج لصيانة الإنسان في العالم كله مع اختلاف بيئاته وطبائعه، وفي الأزمنة باختلاف عصورها، فكيف تتحقق هذه الصيانة وهذه المراقبة؟ ما دام محمد صلى الله عليه وسلم قد جاء بمنهج ليحكم به العالم كله زماناً ومكاناً، فلا يصح أنْ يجعل على كل فرد منه رقيباً من جنسه، ولا حتى من الملائكة، إنما عليه أنْ يربي في نفوس الناس خشية الله، وأنْ يزرع في قلوبهم المهابة منه سبحانه بالغيب وهذا هو الرقيب الحقيقي والرقيب الملازم الذي لا ينفكّ عنك، ولا يفارقك لحظة.
لذلك، المرأة التي راودها الرجل وأغراها بأنهما في فلاة لا يراهما أحد فقال لها: ما يمنعك مني، وما يرانا غير الكواكب؟ فقالت له: يا أبله، وأين مُكوكب الكواكب؟ هذه هي خشية الرحمن بالغيب.
ورُوِي أن المعتضد وهو أحد ملوك دولة بني بُوَيْه أيام الخلافة العباسية، وكان مشهوراً بالذكاء والعدل، وحدث أن جاء رجل إلى سوف بغداد ليبيع عِقْداً نفيساً ليحج بثمنه، فلم يجد في السوق مشترياً لنفاسة العقد، ومرَّ الرجل بشيخ وقور عليه علامات الصلاح فقال: هذا رجل أمين أُودع عنده هذا العقد أمانة حتى أعود من الحج، فلما عاد من الحج سأل الشيخ عن العقد الذي تركه عنده، فأنكره الشيخ، وخابت كل محاولاته لاستعادة العِقد.
سمعه أحد المارة فقال: يا هذا إنه رجل مخادع كذاب، اذهب إلى المعتضد، وسوف يعيد لك العقد بذكائه وحيلته، ذهب الرجل إلى المعتضد وقصَّ عليه القصة فقال له: اذهب في الغد واجلس بجوار هذا الرجل، وسوف أمرُّ عليك في موكبي فلا تَقُمْ لي وإنْ كلَّمتُك فرُدّ وأنت جالس، ودَعْني أتصرف في هذه المسألة.
وفي الغد مَرَّ المعتضد في موكبه المهيب، وحوله الحاشية و (الهيلمان) والصولجان فنظر إلى صاحب العقد وقال: يا فلان منذ متى وأنت هنا؟ وكيف لا تخبرني بوجودك لأقابلك وأؤدي لك حقك.
سمع الشيخ هذا الكلام فظنَّ أن الرجل من معارف الملك ومن أتباعه، فارتعد ونادى صاحب العِقْد، وقال له: أرجوك لا تذكرني أمام الملك بحكاية العِقْد هذه، وقَام إلى العِقْد فردّه إلى صاحبه، ذهب الرجل بالعقد إلى المعتضد فتبسم، وقال له: انتظرني في الغد أمام دكان هذا الشيخ.
وبالفعل جاء المعتضد، لكنه هذه المرة كان بصحبته المشنقة، فأمر بنَصْبها أمام دكان هذا المخادع، وأمر به فشنقوه. ثم قال: هذا جزاء مَنْ كان إيمانه بين الناس مشهداً، وليس إيمانه بالغيب - يعني: بعيداً عن أعين الناس.
لذلك جعل الله المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وكانوا أول الناس سَعْياً للصلاة، وكانوا أصحاب الصف الأول خلف رسول الله، ومع ذلك كان هذا جزاءهم لماذا؟ لأن المنافق متناقض مع نفسه، فلسانه خلاف قلبه.
ومن معاني الغيب في قوله تعالى: { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [يس: 11] أي: الغيب الذي أخبر الله به من أن هناك آخرة وبعثاً وحشراً وحساباً.
وهذه الخشية لله تكون بالغيب يعني: الإيمان بالغيب، والله تعالى نؤمن به سبحانه وهو غيب، والغيب كما قلنا: ما غاب عنك ولا يوجد في الكون طريق يُوصِّلك إليه ولا مقدمات، فنحن نعرف مثلاً في حل تمارين الهندسة أو النظرية: الفرض والمعطيات والمطلوب، فالمعطيات والمقدمات تُوصِّلك للغاية وللمطلوب.
لذلك تجد أن علم الغيب ينقسم إلى قسمين:
غيب استأثر الله به، لا يُظهِر عليه أحداً إلا مَنِ ارتضى من رسول، ولم يجعل لهذا النوع من الغيب مقدمات تُوصَل إليه وتدلّ عليه، وهناك غيب له مقدمات تدلُّك عليه، فإنِ استخدمتَ هذه المقدمات توصَّلْتَ بها اليوم إلى ما كان غيباً بالأمس، وينبغي عليك أن تستدلّ بالغيب الذي صار مشهداً لك على أنْ تصدق بالغيب الذي لم تدرك غيبه، ولا سبيل لك إليه، ينبغي أنْ يحفزك ما ترى على أنْ تؤمن بما لم تَرَهُ.
وقلنا: إن هذا النوع من الغيب وهو الغيب الذي له مقدمات تُوصِّل إليه، له ميلاد يظهر فيه، فإنْ صادف هذا الميلاد بحثاً من البشر، وكان البحث سبباً في ظهوره، وإلا أظهره الله مصادفة، كما جاءت أغلب الاكتشافات التي تخدم البشرية الآن مصادفة؛ لأن ميلاد الغيب جاء وبحثُك عنه لم يجيء.
والمؤمن هو الذي يزداد إيمانه بالغيب حين يستدل بما ظهر له على ما لم يظهر، ومن العلماء والموهوبين من الناس مَنْ يفسر لك الغيب الذي لم يأتِ أوانه بشيء موجود بالفعل، ومن ذلك ما رُوِي أن الروم أرسلتْ إلى أمير المؤمنين أنْ يرسل إليهم عالماً يفقههم في أمور الدين، فأرسل إليهم الشّعْبي فجعلوا يسألونه فيما يَخْفَى عليهم من الدين، وكان مما عرضوه عليه أن الإنسان حين يُنعَّم في الجنة يأكل ولا يتغوَّط، فكيف يكون ذلك؟ فرد الشَّعْبي بما عنده من الإشراقات التنويرية التي يفتح الله بها على مَنْ يشاء. وقال لهم: أرأيتم الجنين في بطن أمه، إنه يتغذى وينمو دون أنْ يتغوط، ولو تغوَّط في مشيمته لاحترق، كذلك الإنسان في الجنة يأكل ولا يتغوَّط؛ لأنه يتغذى بطهي الله له، فالله يعطيه بقَدَر بحيث لا يبقى شيء يتغوّطه الإنسان، أمّا نحن فنأكل بطهينا لأنفسنا، ولا نأكل بقدْر الحاجة، لذلك نتغوط.
قالوا له: زعمتم أنكم تأخذون من الجنة ما تشاءون دون أنْ ينقص منها شيء، فكيف ذلك؟ قال: لأن الشيء ينقص بالأخذ منه حين لا يكون له مدد من الغير، فإنْ كان له مدد لا ينقص، والمدد في الجنة مِن الله، فكيف يتأتى النقصان؟
شيء آخر: لو جئتَ إلى المصباح فأخذتَ مه شعلة، بل آلاف الشعلات، أينقص من ضوء المصباح شيء؟
وهكذا رَدّ الشعبي، وأُعجب به القوم، وكتبوا له كتاباً يُوصله إلى أمير المؤمنين، وكأنهم حسدوا أمير المؤمنين أن تكون مثل هذه العقلية وهذه الموهبة في خدمته، وكان في الكتاب: عجبتُ لقوم فيهم مثل الشعبي، كيف يُولُّون غيره؟
فلما ذهب الشعبي وسلَّمه الكتاب قرأه أمير المؤمنين، وقال للشعبي: أتدري ما في الكتاب؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. قال: اقرأ، فقرأ الشعبيُّ العبارة: عجبتُ لقوم فيهم مثل الشعبي كيف يُولُّون غيره؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، لأنه لم يَركَ، ولو رآك لغيَّر رأيه.
والمتأمل في مسألة الإنذار يجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنذارين: عام للعالمين جميعاً، وهو إنذار بلاغ من الله للجميع المؤمن والكافر، وهو الذي قال الله فيه: { { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً.. } [فاطر: 24] فالذين يؤمنون بالله ينتفعون بالإنذار، وينتفعون بالبشارة، والذين لا يؤمنون لا ينتفعون من ذلك بشيء.
والإنذار الآخر إنذار خاص بمَنْ خَشِي الرحمن بالغيب، وهو إنذار القبول، وينتفع به مَنْ خشي الرحمن بالغيب، فالذين لا يخشوْن ربهم سبق أن أُنذروا، لكن إنذار بلاغ، فلم ينتفعوا به؛ لذلك لم يشملهم الإنذار الخاص.
وقوله سبحانه: { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } [يس: 11] قلنا: إن البشارة: إخبار بالخير قبل أوانه ليحفزك إلى أسباب الخير ويُطعمك فيها، وتلحظ هنا أن المغفرة سبقتْ الأجر، لماذا؟ قالوا: لأن الحق - سبحانه وتعالى - قبل أن يُعطيك النعمة يصرف عنك العذاب أولاً؛ لأن التخلية كما قلنا تسبق التحلية، ثم إن المغفرة دائماً هي جزاء الإيمان بالله، أما الأجر فجزاء العمل بمنهج الله؛ لذلك قال سبحانه: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48] فمَنْ آمن بالله أَمِنَ العذاب وضمن المغفرة، فإنْ أراد الأجر فعليه بالعمل الصالح.
ووصف الأجر نفسه بأنه كريم مع أن الكريم هو المعطي سبحانه، فالمعنى أن كرم المعطي تعدَّى إلى العطية، فصارت العطية كريمة، وكأنها تتلهَّف على صاحبها، كما يتلهَّف الرجل إلى العطاء؛ لذلك قلنا: إن النعمة التي يُنعِم الله بها على خَلْقه تعشق صاحبها، وتسعى إليه وتكره مَنْ يحسده عليها، أو يحقد عليه بسببها.
لذلك لا تذهب إلى هذا الحاسد الحاقد، ولا يناله منها خير أبداً، وكأن المُنعِم سبحانه يقول: ما دُمْتَ قد كرهتَ النعمة عند غيرك، فلن تنال منها شيئاً؛ لأنك تُخطِّئ الله في عطائه، وتعترض على قضائه، فكيف تأتيك نعمته؟ لكن إنْ أحببت النعمة عند غيرك تأتِكَ وتطرق هي بابك.
وهذه المسألة لها شواهد كثيرة من حياتنا، أذكر منها أن رجلاً من بلدنا ميت غمر جاءني يشكو قسوة عمه الغني عليه، وأنه رغم غِنَاه بخيل عليه. ويستعمل الأغراب، ويتركه هو بدون عمل، وغير ذلك مما ذكره في شكواه، وكان معي في هذه الجلسة أهلي، فقالت له: يا ابني أنت دائماً تشتم عمك وتخوض في حقه، قال: نعم لأنه لا يسأل عني.
فقلت له: أسألك سؤالاً وأستحلفك ألاَّ تكذب، فلما رأى أنني سأحلفه على المصحف تراجع، فقلت له: أتحب النعمة عند عمك؟ قال: لا، كيف أحبها، وأنا لا أنال منها شيئاً، قلتُ: لو أحببتَ النعمة عند عمك، وتمنيتَ له الخير والمزيد لجاءتك النعمة تطرق بابك، قال: إذن أرجوك يا مولانا تكلم عمي وتوصيه عليَّ.
ويبدو أن الرجل حاول فعلاً إصلاح نفسه، فأصلح الله ما بينه وبين عمه، فبعد صلاة الفجر جاءني يطرق الباب، فلما دخل قال وهو يبكي: يا مولانا أحكي لك حكاية أغرب من الخيال. قلت: ما هي؟ قال: قبل الفجر بساعة جاء مَنْ يطرق عليَّ الباب بشدة، فقمت ففتحت الباب، فإذا به عمي يعاتبنى ويقول: كيف تتركني للأغراب ينهبون مالي وأنت (داير) على حَلِّ شعرك، خذ المفاتيح، ومن الصباح تفتح المحلات، وتباشر بنفسك مصالحي.
فقلت له. نعم، لأنك أحببتَ النعمة عند عمك وغيَّرتَ ما في نفسك ناحيته. إذن: مَنْ أراد أن تكون نِعَم الناس كلها عنده. فَلْيُحب النعمة عند غيره.
نداء الايمان
سورة يس٨-١١
(إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ )٨-يس
يعطينا الحق سبحانه في هذه الآية تصويراً لحال هؤلاء الكافرين المعرضين عن اتباع الحق، فيقول: { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } [يس: 8] الأغلال: مفردها غل، وهو الحديدة التي تمسك اليد وتشدّها تحت الذقن، وحين تشد اليد تحت الذقن ترتفع الرأس إلى أعلى، وبالتالي يرتفع مستوى النظر إلى أعلى، فلا يكاد يرى الإنسانُ طريقه، ولا يهتدي إلى موضع قدمه.
وهذه الصورة واضحة أيضاً في معنى كلمة { مُّقْمَحُونَ } [يس: 8] المقمح: مأخوذ من إبل قماح، وقماح الإبل أنها حين تذهب لشرب الماء تغرف منه، ثم ترفع رءوسها إلى أعلى.
قال بعضهم: إن هذه صورة رسمها الحق سبحانه لمن غَلَّ يده عن الصدقة وعن الإنفاق، كذلك تُغَلُّ يده إلى عنقه يوم القيامة، بحيث يؤثر هذا الغُلُّ في مساره الذي بنى عليه حركة حياته، والحق سبحانه يوازن دائماً بين ما فعله المستحق للجزاء والجزاء، فالجزاء من جنس العمل.
ومثال ذلك قوله سبحانه: { { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [التوبة: 34] هذا هو العمل، فما الجزاء { { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [التوبة: 35].
هذه مواضع ثلاثة من الإنسان: الجِبَاه، والجُنُوب، والظُّهور جاءت بهذا الترتيب لتطابق تماماً ما فعله صاحب المال الذي كنز ماله وضَنَّ به على الفقير، فقد كان الفقير يأتيه فيلوى عنه جبهته ويعطيه جَنْبه، ثم يدير له ظهره وينصرف عنه، فجاء عذابهم على مقدار ما فعلوه.
ثم يقول الحق سبحانه:
(وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ )٩-يس
هل معنى هذا أن الله تعالى يساعدهم، ويُعينهم على الكفر؟ قالوا: نعم لأن عبدي حين أناديه فيتأبَّى عليَّ في ندائي، ولا يُقبِل عليَّ بعبوديته لي أعينه على كفره؛ لأنني رَبٌّ غني عنه، فإنْ أحب الكفر وعشقه ولم يَعُدْ هناك أمل في هدايته أختم على قلبه، فلا يدخله إيمان، ولا يخرج منه الكفر. لذلك مَنْ تجنَّى عليك وصَدَّ عنك فأعِنْه على ذلك، ولا تُذكِّره بنفسك.
إذن: ما كفر أحد غَصْباً عن الله، إنما كفر بما أودع الله فيه من اختيار، ولأنه سبحانه رَبٌّ وهو خالق العباد، فعليه سبحانه أنْ يُعينهم، كلاً على ما يريد، فالذي أراد الإيمان وأحبَّه أعانه على الإيمان، والذي أراد الكفر وعَشِقه أيضاً أعانه عليه وساعده.
لذلك ختم الله على قلوب الكافرين، وهنا يقول: { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } [يس: 9] يعني: أمامهم { سَدّاً } [يس: 9] حاجزاً ومانعاً { ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } [يس: 9].
هذا مانع مادي خارج عن تكوين الإنسان { فَأغْشَيْنَاهُمْ } [يس: 9] يعني: جعلنا على أبصارهم غشاوة وغطاءً، فهم مصدودون عن الحق لأشياء. أولاً: في ذواتهم أغشينا أبصارهم فلا يروْنَ ولا يهتدون؛ لأنهم بذواتهم لم يذكروا عهد الفطرة الأولى التي فطر اللهُ الناس عليها.
أما الخارج عنهم، ففي المنهج الذي لم يلتفتوا إليه، لا فيما أمامهم، ولا فيما وراءهم؛ لأن هناك سَدّاً يمنعهم، فلو تذكَّروا ما ينتظرهم لارتدعوا عن غَيِّهم، ولو تأملوا ما نزل بمَنْ سبقهم من المكذِّبين، وما حاق بهم من عذاب الله لرجعوا.
لكن جعل الله من أمامهم سَدّاً، فلا يعرفون ما ينتظرهم، ومن خَلفهم سَدّاً فلا يتدبرون ما حاق بأسلافهم، ممَّن قال الله فيهم: { { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا .. } [العنكبوت: 40].
فإنْ قُلْتَ: الحق سبحانه جعل سَدّاً يمنعهم من الجهة الأمامية، وسَدّاً يمنعهم من الجهة الخلفية، فماذا لو ساروا على جنب إلى اليمين، أو إلى اليسار؟ قالوا: لو ساروا وتوجهوا إلى اليسار مثلاً لَصَار اليسار بالنسبة لهم أمام، واليمين صار خلفاً، فهم إذن مُحَاصرون بالموانع، بحيث لا أمل لهم في الرجوع إلى منهج الحق، وإلى الصواب.
ويصح أن يكون المعنى { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } [يس: 9] أي: مانعاً يمنعهم من التأمل والنظر في الأدلة العقلية المنصوبة أمامهم ليؤمنوا { ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } [يس: 9] يمنعهم، فلم ينتهوا إلى الفطرة الإيمانية المُودَعة فيهم.
ثم يقول الحق سبحانه:
(وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ )١٠-يس
السوائية هنا بالنسبة لهم، لا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله عليه مجرد البلاغ، وما دام بلَّغهم فقد انتهت مهمته، فكأن الله يقول له: اطمئن ولا تحزن، فإنذارك وعدمه عندهم سيَّان، إنما بإنذارك أُقيمت عليهم الحجة، لأنهم أقسموا في موضع سابق: { { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [فاطر: 42].
ثم يقول الحق سبحانه:
(إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ )١١-يس
يعني: إنذارك يا محمد يجدي مع مَنْ يذكر الله ويخافه، ويؤمن به، ويؤمن بقدرته تعالى على البعث وعلى الحساب، هذا الذي ينتفع بالإنذار ويستفيد منه على خلاف المكذِّب للأصل، كيف يستفيد من الإنذار؟ ومعنى { ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [يس: 11] أي: القرآن.
والخشية: خوف، لكن بمهابة، فأنت تخاف الله وتهابه، وكذلك ترجوه، أما الخوف من غير الله فخوف بكُرْه؛ لأنه خوف من جبروت؛ لذلك جاءت بعد الخشية صفة الرحمة { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ } [يس: 11] فأنت تخاف ممَّن اتصف بالعطف والحنان، وهذا أَدْعى أنْ يُحبِّبك فيمَنْ تخاف منه ويعطفك إليه، فتكون خشيتك له ممزوجة بالهيبة والوقار، وبالرجاء فيه؛ لذلك قال سبحانه: { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ } [يس: 11] حتى لا تنفر من الذي تخافه.
وهذه الخشية تكون من المؤمن { بِٱلْغَيْبِ } [يس: 11] يعني: ساعةَ يكون غائباً عن الناس منفرداً، فإنه يخشى الله، ولا يخشى الناس، ولا يحتاج إلى رقيب؛ لأن رقابة البشر للبشر لا تُجدي؛ لأنك ستجعل عليه رقيباً من جنسه، وما جاز على المراقَب يجوز على المراقب من تدليس وغيره، حتى حين تجعل على المراقِب تفتيشاً مفاجئاً لا تأمن التدليس.
وسبق أنْ ضربنا مثلاً برجل المرور، فالواحد منا قبل أنْ يُسمح له بقيادة سيارة لا بُدَّ أنْ يمرَّ بشروط قاسية تضمن أولاً سلامة السيارة التي يقودها، ثم تمكّنه هو من فن القيادة، ولا بُدَّ أنْ يجتاز الاختبارات اللازمة لذلك، ومع هذا كله مِنَّا مَنْ يلتزم، ومِنَّا مَنْ لا يلتزم بالقواعد المرورية؛ لذلك نجعل رجل المرور ليراقب وينظم حركة المرور في الشوارع، وعليه مَنْ يراقبه.
لكن لما وجدوا أن رجل المرور يمكن أنْ يُدلس، فيأخذ الرخصة من مخالف، ويتغافل عن آخر استحدثوا آلات للمراقبة مثل الرادارات، لتكون أكثر دقة، لكن هذه الآلات مَنْ يُشغِّلها؟ بشر يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم.
إذن: حين يكون المراقب من جنس المراقَب، فعملية المراقبة لا تفيد، ولو جعلنا على كل منا رقيباً لاحتجْنا إلى جيوش من الحراس.
إذن: ماذا نفعل لنحكم هذا العالم كله؟
محمد صلى الله عليه وسلم جاء ولرسالته ميزات الرسالة الكاملة، فرسالته غير محدودة بزمان ولا بمكان، فالزمان والمكان هما اللذان يحصران الأحداث، فهما ظرفان للحدث، فإذا لم يكُنْ حدث موجوداً فلا زمانَ ولا مكانَ؛ لذلك لا يصح أنْ يُقال بالنسبة لله تعالى: أين ولا متى، لأن أيْن ومتى مخلوقتان لله.
وإذا كان الزمان والمكان يشتركان في الظرفية للحدث إلا أن المكان ظرف قارٌّ يعني: ثابت، والزمان ظرف متغير، فهذا وقته الصبح، وهذا الظهر ونقول: هذا قبل كذا، وهذا بعد كذا.
رسول الله جاء برسالة عامة في الزمان وفي المكان إلى أن تقوم الساعة، وجاء بمنهج لصيانة الإنسان في العالم كله مع اختلاف بيئاته وطبائعه، وفي الأزمنة باختلاف عصورها، فكيف تتحقق هذه الصيانة وهذه المراقبة؟ ما دام محمد صلى الله عليه وسلم قد جاء بمنهج ليحكم به العالم كله زماناً ومكاناً، فلا يصح أنْ يجعل على كل فرد منه رقيباً من جنسه، ولا حتى من الملائكة، إنما عليه أنْ يربي في نفوس الناس خشية الله، وأنْ يزرع في قلوبهم المهابة منه سبحانه بالغيب وهذا هو الرقيب الحقيقي والرقيب الملازم الذي لا ينفكّ عنك، ولا يفارقك لحظة.
لذلك، المرأة التي راودها الرجل وأغراها بأنهما في فلاة لا يراهما أحد فقال لها: ما يمنعك مني، وما يرانا غير الكواكب؟ فقالت له: يا أبله، وأين مُكوكب الكواكب؟ هذه هي خشية الرحمن بالغيب.
ورُوِي أن المعتضد وهو أحد ملوك دولة بني بُوَيْه أيام الخلافة العباسية، وكان مشهوراً بالذكاء والعدل، وحدث أن جاء رجل إلى سوف بغداد ليبيع عِقْداً نفيساً ليحج بثمنه، فلم يجد في السوق مشترياً لنفاسة العقد، ومرَّ الرجل بشيخ وقور عليه علامات الصلاح فقال: هذا رجل أمين أُودع عنده هذا العقد أمانة حتى أعود من الحج، فلما عاد من الحج سأل الشيخ عن العقد الذي تركه عنده، فأنكره الشيخ، وخابت كل محاولاته لاستعادة العِقد.
سمعه أحد المارة فقال: يا هذا إنه رجل مخادع كذاب، اذهب إلى المعتضد، وسوف يعيد لك العقد بذكائه وحيلته، ذهب الرجل إلى المعتضد وقصَّ عليه القصة فقال له: اذهب في الغد واجلس بجوار هذا الرجل، وسوف أمرُّ عليك في موكبي فلا تَقُمْ لي وإنْ كلَّمتُك فرُدّ وأنت جالس، ودَعْني أتصرف في هذه المسألة.
وفي الغد مَرَّ المعتضد في موكبه المهيب، وحوله الحاشية و (الهيلمان) والصولجان فنظر إلى صاحب العقد وقال: يا فلان منذ متى وأنت هنا؟ وكيف لا تخبرني بوجودك لأقابلك وأؤدي لك حقك.
سمع الشيخ هذا الكلام فظنَّ أن الرجل من معارف الملك ومن أتباعه، فارتعد ونادى صاحب العِقْد، وقال له: أرجوك لا تذكرني أمام الملك بحكاية العِقْد هذه، وقَام إلى العِقْد فردّه إلى صاحبه، ذهب الرجل بالعقد إلى المعتضد فتبسم، وقال له: انتظرني في الغد أمام دكان هذا الشيخ.
وبالفعل جاء المعتضد، لكنه هذه المرة كان بصحبته المشنقة، فأمر بنَصْبها أمام دكان هذا المخادع، وأمر به فشنقوه. ثم قال: هذا جزاء مَنْ كان إيمانه بين الناس مشهداً، وليس إيمانه بالغيب - يعني: بعيداً عن أعين الناس.
لذلك جعل الله المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وكانوا أول الناس سَعْياً للصلاة، وكانوا أصحاب الصف الأول خلف رسول الله، ومع ذلك كان هذا جزاءهم لماذا؟ لأن المنافق متناقض مع نفسه، فلسانه خلاف قلبه.
ومن معاني الغيب في قوله تعالى: { وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [يس: 11] أي: الغيب الذي أخبر الله به من أن هناك آخرة وبعثاً وحشراً وحساباً.
وهذه الخشية لله تكون بالغيب يعني: الإيمان بالغيب، والله تعالى نؤمن به سبحانه وهو غيب، والغيب كما قلنا: ما غاب عنك ولا يوجد في الكون طريق يُوصِّلك إليه ولا مقدمات، فنحن نعرف مثلاً في حل تمارين الهندسة أو النظرية: الفرض والمعطيات والمطلوب، فالمعطيات والمقدمات تُوصِّلك للغاية وللمطلوب.
لذلك تجد أن علم الغيب ينقسم إلى قسمين:
غيب استأثر الله به، لا يُظهِر عليه أحداً إلا مَنِ ارتضى من رسول، ولم يجعل لهذا النوع من الغيب مقدمات تُوصَل إليه وتدلّ عليه، وهناك غيب له مقدمات تدلُّك عليه، فإنِ استخدمتَ هذه المقدمات توصَّلْتَ بها اليوم إلى ما كان غيباً بالأمس، وينبغي عليك أن تستدلّ بالغيب الذي صار مشهداً لك على أنْ تصدق بالغيب الذي لم تدرك غيبه، ولا سبيل لك إليه، ينبغي أنْ يحفزك ما ترى على أنْ تؤمن بما لم تَرَهُ.
وقلنا: إن هذا النوع من الغيب وهو الغيب الذي له مقدمات تُوصِّل إليه، له ميلاد يظهر فيه، فإنْ صادف هذا الميلاد بحثاً من البشر، وكان البحث سبباً في ظهوره، وإلا أظهره الله مصادفة، كما جاءت أغلب الاكتشافات التي تخدم البشرية الآن مصادفة؛ لأن ميلاد الغيب جاء وبحثُك عنه لم يجيء.
والمؤمن هو الذي يزداد إيمانه بالغيب حين يستدل بما ظهر له على ما لم يظهر، ومن العلماء والموهوبين من الناس مَنْ يفسر لك الغيب الذي لم يأتِ أوانه بشيء موجود بالفعل، ومن ذلك ما رُوِي أن الروم أرسلتْ إلى أمير المؤمنين أنْ يرسل إليهم عالماً يفقههم في أمور الدين، فأرسل إليهم الشّعْبي فجعلوا يسألونه فيما يَخْفَى عليهم من الدين، وكان مما عرضوه عليه أن الإنسان حين يُنعَّم في الجنة يأكل ولا يتغوَّط، فكيف يكون ذلك؟ فرد الشَّعْبي بما عنده من الإشراقات التنويرية التي يفتح الله بها على مَنْ يشاء. وقال لهم: أرأيتم الجنين في بطن أمه، إنه يتغذى وينمو دون أنْ يتغوط، ولو تغوَّط في مشيمته لاحترق، كذلك الإنسان في الجنة يأكل ولا يتغوَّط؛ لأنه يتغذى بطهي الله له، فالله يعطيه بقَدَر بحيث لا يبقى شيء يتغوّطه الإنسان، أمّا نحن فنأكل بطهينا لأنفسنا، ولا نأكل بقدْر الحاجة، لذلك نتغوط.
قالوا له: زعمتم أنكم تأخذون من الجنة ما تشاءون دون أنْ ينقص منها شيء، فكيف ذلك؟ قال: لأن الشيء ينقص بالأخذ منه حين لا يكون له مدد من الغير، فإنْ كان له مدد لا ينقص، والمدد في الجنة مِن الله، فكيف يتأتى النقصان؟
شيء آخر: لو جئتَ إلى المصباح فأخذتَ مه شعلة، بل آلاف الشعلات، أينقص من ضوء المصباح شيء؟
وهكذا رَدّ الشعبي، وأُعجب به القوم، وكتبوا له كتاباً يُوصله إلى أمير المؤمنين، وكأنهم حسدوا أمير المؤمنين أن تكون مثل هذه العقلية وهذه الموهبة في خدمته، وكان في الكتاب: عجبتُ لقوم فيهم مثل الشعبي، كيف يُولُّون غيره؟
فلما ذهب الشعبي وسلَّمه الكتاب قرأه أمير المؤمنين، وقال للشعبي: أتدري ما في الكتاب؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. قال: اقرأ، فقرأ الشعبيُّ العبارة: عجبتُ لقوم فيهم مثل الشعبي كيف يُولُّون غيره؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، لأنه لم يَركَ، ولو رآك لغيَّر رأيه.
والمتأمل في مسألة الإنذار يجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنذارين: عام للعالمين جميعاً، وهو إنذار بلاغ من الله للجميع المؤمن والكافر، وهو الذي قال الله فيه: { { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً.. } [فاطر: 24] فالذين يؤمنون بالله ينتفعون بالإنذار، وينتفعون بالبشارة، والذين لا يؤمنون لا ينتفعون من ذلك بشيء.
والإنذار الآخر إنذار خاص بمَنْ خَشِي الرحمن بالغيب، وهو إنذار القبول، وينتفع به مَنْ خشي الرحمن بالغيب، فالذين لا يخشوْن ربهم سبق أن أُنذروا، لكن إنذار بلاغ، فلم ينتفعوا به؛ لذلك لم يشملهم الإنذار الخاص.
وقوله سبحانه: { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } [يس: 11] قلنا: إن البشارة: إخبار بالخير قبل أوانه ليحفزك إلى أسباب الخير ويُطعمك فيها، وتلحظ هنا أن المغفرة سبقتْ الأجر، لماذا؟ قالوا: لأن الحق - سبحانه وتعالى - قبل أن يُعطيك النعمة يصرف عنك العذاب أولاً؛ لأن التخلية كما قلنا تسبق التحلية، ثم إن المغفرة دائماً هي جزاء الإيمان بالله، أما الأجر فجزاء العمل بمنهج الله؛ لذلك قال سبحانه: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48] فمَنْ آمن بالله أَمِنَ العذاب وضمن المغفرة، فإنْ أراد الأجر فعليه بالعمل الصالح.
ووصف الأجر نفسه بأنه كريم مع أن الكريم هو المعطي سبحانه، فالمعنى أن كرم المعطي تعدَّى إلى العطية، فصارت العطية كريمة، وكأنها تتلهَّف على صاحبها، كما يتلهَّف الرجل إلى العطاء؛ لذلك قلنا: إن النعمة التي يُنعِم الله بها على خَلْقه تعشق صاحبها، وتسعى إليه وتكره مَنْ يحسده عليها، أو يحقد عليه بسببها.
لذلك لا تذهب إلى هذا الحاسد الحاقد، ولا يناله منها خير أبداً، وكأن المُنعِم سبحانه يقول: ما دُمْتَ قد كرهتَ النعمة عند غيرك، فلن تنال منها شيئاً؛ لأنك تُخطِّئ الله في عطائه، وتعترض على قضائه، فكيف تأتيك نعمته؟ لكن إنْ أحببت النعمة عند غيرك تأتِكَ وتطرق هي بابك.
وهذه المسألة لها شواهد كثيرة من حياتنا، أذكر منها أن رجلاً من بلدنا ميت غمر جاءني يشكو قسوة عمه الغني عليه، وأنه رغم غِنَاه بخيل عليه. ويستعمل الأغراب، ويتركه هو بدون عمل، وغير ذلك مما ذكره في شكواه، وكان معي في هذه الجلسة أهلي، فقالت له: يا ابني أنت دائماً تشتم عمك وتخوض في حقه، قال: نعم لأنه لا يسأل عني.
فقلت له: أسألك سؤالاً وأستحلفك ألاَّ تكذب، فلما رأى أنني سأحلفه على المصحف تراجع، فقلت له: أتحب النعمة عند عمك؟ قال: لا، كيف أحبها، وأنا لا أنال منها شيئاً، قلتُ: لو أحببتَ النعمة عند عمك، وتمنيتَ له الخير والمزيد لجاءتك النعمة تطرق بابك، قال: إذن أرجوك يا مولانا تكلم عمي وتوصيه عليَّ.
ويبدو أن الرجل حاول فعلاً إصلاح نفسه، فأصلح الله ما بينه وبين عمه، فبعد صلاة الفجر جاءني يطرق الباب، فلما دخل قال وهو يبكي: يا مولانا أحكي لك حكاية أغرب من الخيال. قلت: ما هي؟ قال: قبل الفجر بساعة جاء مَنْ يطرق عليَّ الباب بشدة، فقمت ففتحت الباب، فإذا به عمي يعاتبنى ويقول: كيف تتركني للأغراب ينهبون مالي وأنت (داير) على حَلِّ شعرك، خذ المفاتيح، ومن الصباح تفتح المحلات، وتباشر بنفسك مصالحي.
فقلت له. نعم، لأنك أحببتَ النعمة عند عمك وغيَّرتَ ما في نفسك ناحيته. إذن: مَنْ أراد أن تكون نِعَم الناس كلها عنده. فَلْيُحب النعمة عند غيره.
نداء الايمان