إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

فوائد القصص القرآني: قصة يوسف

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فوائد القصص القرآني: قصة يوسف

    منْ أبرزِ القصصِ القرآني قصةُ نبي الله يوسفَ عليه السلام؛ فهيَ مليئةٌ بالدروسِ والعبر، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي ‌يُوسُفَ ‌وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف: 7].

    يقول تعالى: لقد كان في قصةِ يوسفَ وخبرِه مع إخوتِه آيات؛ أي: عبرةٌ ومواعظُ للسائلين عن ذلك، المُستَخبرِينَ عنه، فإنه خبرٌ عجيب يستحق أن يستخبر عنه.

    فهلمَّ نستمع إلى ما قصَّه علينا ربنا تبارك وتعالى ليعلمُنا ويربينا، ويهذبُ نفوسَنا، ويؤنسُ أرواحنا بهذه القصةِ التي اخترنا لها عنوانًا جميلًا يحملُ مضمونَ ما جاء في طياتِ هذه القصةِ العظيمة؛ ألا وهو: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف: 18].


    رؤيا وكيد:

    تبدأُ قصتُنا برؤيا عجيبة رآها نبيُّ اللهِ يوسفُ عليه السلام، وكان فتًى صغيرًا؛ حيث رأى أن أحدَ عشرَ كوكبًا والشمسَ والقمرَ يسجدون له، ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ ‌كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4].

    فردَّ يعقوبُ على ابنِه يوسفَ عليهما السلام بشفقةٍ ورحمة، بعد أن سمِعَ منه الرؤيا قائلًا: ﴿يَا بُنَيَّ [يوسف: 5]: لا تخبرُ إخوتَك بما رأيتَهُ في منامِك، فإنك إن أخبرتَهم بذلك احتالوا لإهلاكِك، وللإضرارِ بك؛ حسدًا منهم لك، وهذا الحسدُ يزينُه الشيطانُ، ويغرسُه في نفوس الناس.

    وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف: 5].



    يا تُرى ما الذي عَلِمه الأبُ من هذه الرؤيا جعله يأمرُ ابنَهُ ألَّا يقصَّ رؤياهُ على إخوتِه لئلا يكيدوا له؟

    الجواب:

    إنما قال ذلك لأنه علم أن تأويلَها: إن اللهَ تعالى سيعطي يوسفَ من فضله عطاءً عظيمًا، وسيرفعُ منزلتَه، ويهبُه منصبًا جليلًا، ومن شأنِ صاحبِ النعمة أن يكون محسودًا من كثير من الناس، فخاف يعقوب من حسد إخوة يوسف له، إذا ما قصَّ عليهم رؤياه، ومن عدوانهم عليه.



    هدايات ومَوَاعِظُ وعِبْرَات:

    يجوز لنا كتمان النعمة حتى توجد وتظهر:

    فينبغي عدم التحدث بالنعم إذا خشينا على أنفسنا الحسد والكيد من عدوٍّ حاقدٍ أو صديقٍ حاسدٍ، كما أمر يعقوب عليه السلام ابنه يوسف أن يكتم رؤياه عن إخوته؛ لئلا يكيدوا له كيدًا.

    وألا نحدث بالنعم إلا على سبيل شكر الله مع من نثق بهم، ويتمنون لنا الخير.

    الاستعاذة بالله من العين والحسد؛ فهما سببان لكثير من البلاء.

    لا تتحدث بالرؤيا إلا على الناصح المحب لك، ويكون لديه علم التأويل.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((رؤيا المؤمِنِ جزءٌ مِنْ أربعينَ جُزْءًا مِنَ النبوَّةِ، وَهِيَ علَى رِجْلِ طائِرٍ، ما لم يُحَدِّثْ بِها، فإذا تَحَدَّثَ بِها سقَطَتْ، ولا تُحَدِّثْ بها إلَّا لبيبًا، أوْ حبيبًا))؛ صحيح الجامع.

    وجملة ((وَهِيَ على رِجْلِ طائِرٍ ما لم يُحَدِّثْ بِها))؛ أي: إن الرؤيا مُعلَّقةٌ لا قَرارَ لها؛ أي: لا تَقَعُ وتَتحقَّقُ، ((ما لم يحدثْ بها))؛ أي: ما لم يَتَكلَّمْ بها الرَّائي، ويُفصِحُ عنها لأحَدٍ، فإذا تَحدَّثَ الرَّائي بما رآهُ في الرُّؤْيا وَقَعَتْ وتَحقَّقَتْ؛ وذلِكَ على تَأويلِها، فالرُّؤْيا تَتَحقَّقُ على تَأويلِها وتَفْسيرِها، قالَ: ((ولا تُحَدِّثْ بها إلَّا لبيبًا، أوْ حبيبًا))؛ أي: مُحِبًّا لك من أحِبَّائِكَ؛ وذلِكَ لأنَّهما سَوفَ يَعبُرانِ الخَيرَ، ويَكتُمانِ الشَّرَّ؛ لِئلَّا يقَعَ.



    يجوز ذكر الإنسان بما يكره على وجه النصيحة لغيره؛ لقوله: ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا.

    إذا رأيت في منامك ما تكره فلا تحدث به أحدًا.

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأى أحدكم الرؤيا يُحِبُّها فإنها من الله تعالى، فليحمد الله تعالى، وليُحَدِّث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، ومن شرها، ولا يذكرها لأحد؛ فإنها لا تضره)).

    ينبغي أن نعلم بعداوة الشيطان لنا، والعلم بحيله ومكايده؛ كي نحذرها، ونتصدى له.

    عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)؛ البخاري.

    إذن ينبغي علينا أن نتعرف على الشر الذي يوصل الإنسان إلى الهلاك - عافانا الله- حتى لا يدركنا هذا الشر، وإذا وجدنا شيئًا منه لدينا نجاهد أنفسنا في التخلص منه.


    الفصل الثانى
    بشر الأبُ يعقوبُ ابنَه يوسف عليهما السلام بالاجتباء والاصطفاء:

    ﴿ وَكَذَلِكَ ‌يَجْتَبِيكَ ‌رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6].

    يقول تعالى مخبرًا عن قول يعقوب لولده يوسف: إنه كما اختارك ربُّك، وأراك هذه الكواكبَ مع الشمس والقمر ساجدةً لك، وكذلك يختارك ربُّك ويصطفيك لنبوتِه، ويعلمك تعبيرَ الرؤيا، ويتمُّ الله نعمته عليك في الدنيا والآخرة بأن يؤتيك في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، كما أنعم الله على أبويك إبراهيم وإسحاق بنعم عظيمة واسعة دينية ودنيوية.

    وكأنها عاجل بُشْرى يوسفَ عليه السلام ليتصبرَ بهذا الخير، وهذه النعمِ الجليلةِ عما سيلاقيه من مكايدَ سواء من إخوته أو امرأة العزيز؛ وهذا من لطف أرحم الراحمين أنه يلطف بعبده المؤمن وهو يبتليه.



    هدايات ومَوَاعِظُ وعِبْرَات:

    الاجتباء والاصطفاء محض فضل من الله؛ ولا يمكن لأحد أن يناله بكسبه ولو قام وصام الدهر كله، والله تعالى لا يصطفي إلا أفضل البشر ممن اختصهم بمميزات غير موجودة في سائر البشر.

    استحباب التبشير؛ أي أن تبشر من حولك، وتبثَّ فيهم الطمأنينة.

    ﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ ‌تَأْوِيلِ ‌الْأَحَادِيثِ ﴾ [يوسف: 6].

    قوله: ﴿ وَيُعَلِّمُكَ ﴾ تدلنا على أن تأويل الرؤيا علم، ولا يجوز أن يتكلم فيه أي أحد بغير علم.

    ذكر النعم عند المحن يُصبِّر الإنسان على ابتلائه.

    نتعلم من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6].

    إن الله أعلم حيث يجعل رسالاته، فعلمه محيط بالأشياء، وبما احتوت عليه ضمائر العباد من البر وغيره، فيعطي كلًّا ما تقتضيه حكمته وحمده، فإنه حكيم يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها.

    وننتقل الآن إلى إخوة يوسفَ وهم يفصحون عن حسدهم لإخوتهم الصغار يوسفَ وبنيامين.

    قد كان يوسف يا أحبتي يحظى بحب كبير من أبيه يعقوب، وقد لاحظ إخوته مكانة يوسف عند أبيه، فجعلت الغيرة تعتصر قلوبهم، والحسد يكشر عن أنيابه.

    ويأتي أولُ مشهدٍ لإخوةِ يوسفَ عليه السلام وهم يتناجون فيما بينهم عن حب أبيهم الشديد ليوسف أكثر من حبه لهم، وقالوا: إن أبانا لفي خطأ ظاهر؛ حيث فضل في المحبة صبيَّين صغيرين على مجموعة من الرجال الأشداء النافعين له، القادرين على خدمته -في زعمهم-.

    وهذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 8].



    هدايات ومَوَاعِظُ وعِبْرَات:

    لا تفصح عن مشاعر الحسد والحقد التي بداخلك؛ لأن التحدُّث بها يزيد المسألة سوءًا، فالأفضل كتمانها ومجاهدتها، ودعاء الله ليصرفها عنك حتى تزول من القلب بعون الله.

    العدل مطلوب في كل الأمور، وفي إظهار المحبة والإيثار وغيره، وأن في الإخلال بذلك يختل عليه الأمر، وتفسد الأحوال؛ ولهذا لما قدم يعقوب يوسف في المحبة، وآثره على إخوته، جرى منهم ما جرى على أنفسهم، وعلى أبيهم وأخيهم.

    إذن السبب في كره وحسد إخوة يوسف هو ظنهم أن أباهم فضَّل يوسف وأخاه الصغير في المحبة عليهم، وهم مجموعة من الرجال الأشداء النافعين له، القادرين على خدمته -في زعمهم-.

    ولا يدرون أن حب يعقوب ليوسف عليهما السلام لم يكن مجرد حب الأبِ الفطري لابنه؛ وإنما لِمَا رآه من المناقبِ والفضائل الجليلة ليوسف عليه السلام، فدخل مع محبته الفطرية الأبوية له حبٌّ آخر؛ ألا وهو الحب في الله.

    والحبُّ في الله يا أحبابنا يعني أن يحبُّ المسلم أخاه المسلم، بغض النظر عن لونه أو عرقه، فهو حبٌّ غايته الله، وأطرافه المؤمنون، وسببه رباط العقيدة الأصيل.

    هو الحب الذي لا يكون مشروطًا بمنفعة أو مصلحة شخصية، أو أي أغراض دنيوية؛ إنما هو حبك لأخيك المسلم لأنه مثلًا: تقي، نقي، يخاف الله، يدعو إلى الله، مجرد رؤيته أو سماعه يذكرك بالله؛ هذا هو الحب الحقيقي.

    وليس كما ظن إخوة يوسف أنهم أولى بحب أبيهم من يوسف؛ لأنهم جماعة من الرجال الأقوياء الذين عندهم القدرة على خدمته ومنفعته، والدفاع عنه؛ يعني: سينفعون أباهم أكثر من أخيهم الصغير كما جاء في مناجاتهم بعضهم لبعض: ﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ‌ضَلَالٍ ‌مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 8].

    فما أجمل الحب في الله!

    ثم ننتقل إلى مشهد استحواذ الشيطان على إخوة يوسف، وهذا بعدما أفصح الإخوة عما بداخلهم من مشاعر الحقد على أخيهم بسبب محبة أبيهم لأخيهم يوسف عليه السلام.

    بدأ الحقد يغلي في صدورهم، ويستحوذ عليهم الشيطان، فقرروا أن يكيدوا لأخيهم أمرًا.

    فإذا بأحد الإخوة يفاجئهم باقتراح بشع:

    ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 9]، أو اقذفوا به في أرض بعيدة في أرض مهجورة يغلب فيها الهلاك، لماذا؟

    ﴿ يَخْلُ لَكُمْ ‌وَجْهُ ‌أَبِيكُمْ ﴾ [يوسف: 9].

    فلو تخلصنا من يوسف، صارت محبة أبينا لنا خالصة لنا دون أن يشاركنا فيها أحد، فيقبل علينا وحدنا، بعد أن كان كل إقباله وتوجهه إلى يوسف.

    ولكن القتل جريمة؟

    نقتله، ونتوب بعدها، ونعمل صالحًا؛ فنكون بتوبتنا من قتله وإصلاحنا من بعد هلاك يوسف قومًا صالحين، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ ‌وَجْهُ ‌أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ [يوسف: 9].

    أرأيتم كيف زيَّن لهم الشيطان ارتكاب الجريمة؟

    - ولكنَّ ضميرًا واحدًا فيهم يرتعش لهول هذه الجريمة: جريمة القتل، فيقترح حلًّا يريحهم من يوسف بغير أن يقتلوه.

    فقال: بدلًا من أن تقتلوا يوسف اقذفوا به في بئر؛ لعل بعض المارِّين يتفطَّن له ويلتقطه ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [يوسف: 10]، وعلى هذا الرأي قد استقروا.



    هدايات ومَوَاعِظُ وعِبْرَات:

    النفس عندما يسيطر عليها الحسد يزين لها الشيطان التخلص ممن يزاحمها في النعمة بالقضاء عليه.

    النفس الحسودة تفقد تقديرها الصحيح للأمور؛ فترى الكبائر صغائر، والصغائر كبائر.

    فإخوة يوسف يرون أن محبة أبيهم لأخيهم جُرم عظيم، يستحق إزهاق روح الأخ، وفي الوقت نفسه يرون أن قتل الروح البريئة شيء هين، وفي الإمكان أن يعودوا بعده قومًا صالحين أمام خالقهم، وأمام أبيهم، وأمام أنفسهم.

    التوبة السابقة ليست توبة!

    فالقاتل حين يقول: سأقتل ثم أتوب، والسارق الذي يقول: سأسرق ثم أتوب، ليس بتائب حقًّا؛ لأن التائب هو التارك للذنب، النادم على فعله؛ فكيف يكون تائبًا من يعزم على ارتكاب الذنب ولم يندم من فعله؟

    إذًا التوبة التي تعد قبل ارتكاب الجريمة لإزالة معالم الجريمة ليست بتوبة حقيقية؛ وإنما هي تبرير لارتكاب الجريمة يزينه الشيطان.


    الفصل الثالث: "مكرٌ ومخادعة":

    ها هم إخوة يوسفَ عند أبيهم، يراودونه في اصطحاب أخيهم معهم؛ فقد كان الأب لا يرسل يوسف مع إخوته إلى المراعي؛ لأنه يحبه ويشفق عليه ألا يحتمل الجهد الذي يحتمله إخوته الكبار؛ فهو ما زال صغيرًا.

    وها هم أولاء يخادعون أباهم، ويمكرون به وبيوسف؛ فلنراقب المشهد ولنستمع لما يدور:

    ﴿ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ [يوسف: 11 - 14].

    وتبين الآيات هنا محاولاتهم في أن يطمئنوا قلب الوالد المتعلق بولده الصغير الحبيب الذي يتوسم فيه أن يكون الوارث للنبوة.

    فبدأوا بقولهم: ﴿ يَا أَبَانَا ﴾ استعطافًا له بكلمة (أَبَانَا) التي توحي بتلك الرابطة بين الأب وأبنائه، ثم قالوا: ﴿ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ﴾؛ أي: لماذا تخاف منا على يوسف، من غير سبب ولا موجب، ونحن مشفقون عليه، نحب له ما نحب لأنفسنا؟!

    سؤال فيه عتاب وفيه استنكار ومكر؛ ليحثوا أباهم ويدفعوه لينفي عن نفسه هذا الخوف على يوسف من إخوته، وليقوى قلبه، ويرسل معهم أخاهم، ويثبت لهم أنه يأمنهم عليه.

    قالوا: ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 12] زيادة في تأكيد حرصهم عليه، وتشويقًا لما ينتظر يوسف من النشاط والمسرة والرياضة؛ مما يحفز والده لإرساله معهم كما يريدون، وردًّا على عتاب إخوة يوسف لأبيهم واستنكارهم لمنع يوسف من الذهاب معهم علل يعقوب عليه السلام ذلك بقلة صبره على فراقه، وخوفه عليه من الذئاب أن تفترسه: ﴿ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ ﴾ إنني لا أطيق فراقه!

    كلمة زادت من اشتعال نار الحسد في صدور إخوة يوسف؛ أن يبلغ حب يعقوب لأخيهم هذه الدرجة؛ فيحزن لفراقه ولو لبعض يوم للتريض والتنزه.

    ولما قال لهم: ﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ سارعوا بنفي هذا الخاطر عن أبيهم بقولهم وهم يمكرون به: ﴿ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾؛ أي: لئن غلبنا الذئب على يوسف ونحن جماعة قوية؛ فلا خير فينا، ولا نصلح لشيء أبدًا!

    فاستسلم الوالد الحريص لهذا التوكيد، وهكذا نجحوا فعلًا في التأثير على أبيهم، ويتخلَّى يعقوب عليه السلام عن إصراره على احتجاز يوسف، ويسلمه لإخوته؛ لينفذ قضاء الله، وتتم القصة كما قدَّر الله وشاء!

    وهنا وجدوا عذرًا كانوا يبحثون عنه: ماذا يقولون لأبيهم بعد أن يفعلوا فعلتهم المنكرة؛ حتى لقنهم أبوهم هذا الجواب: أكله الذئب.

    واعلموا أن الله لا يضيع أولياءَه؛ بل وعد برعايتهم والعناية بهم حتى لو كانت هذه العناية عبارة من مجرد إلهام، إلهام يطمئن قلب في ظلمة البئر، وهذا ما سنتعرف عليه الآن.

    لقد ذهب إخوة يوسف بأخيهم الصغير، وهو لا يشعر بما يمكر به إخوته، وها هم أولاء يلقون بأخيهم في البئر، ونجحوا في القيام بمؤامرتهم النكراء.

    وفي هذه اللحظة اليائسة التي كان يواجه فيها يوسف عليه السلام الفزع من ظلمة البئر، وبُعْد قعره، والموت منه قريب، ولا منقذ له ولا مغيث، وهو وحده صغير ووحيد؛ لم يؤثر في قلب واحد منهم مشهد إلقائه، وهو أخوهم الصغير الضعيف وهو منهم، من لحمهم ودمهم!

    لكنه الحسد حين يدخل قلب صاحبه؛ فيطمس بصيرته، ويُميت قلبه والعياذ بالله.

    وفي أشد لحظات الضيق يأتي الفرج، يأتي التثبيت من رب العالمين واللطف والرحمة الإلهية والعناية الربانية؛ فيلقي الله تعالى في روع يوسف أنه ناجٍ، وأنها محنة قصيرة وتنتهي، وأنه سيعيش وسَيُذَكِّرُ إخوتَه بهذا الموقف الشنيع.

    قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [يوسف: 15].



    هدايات ومَوَاعِظُ وعِبْرَات:

    لا تترك قلبك للأحقاد والغل والحسد؛ فتضعف نفسك، وتصبح أسيرة في يد الشيطان يوجهها كيف يشاء؛ بل جاهد نفسك حتى لا يستحوذ شيطانك على قلبك؛ فيصبح قلبًا قاسيًا لا تعرف الرحمة طريقًا إليه كإخوة يوسف لم يؤثر في قلب واحد منهم مشهد إلقائه.

    مهما مررت بلحظات يائسة، لا تقنط من رحمة الله، كُلُّ مُرٍّ سيمرُّ، والدنيا أيامها دُوَل لا تستقيم على حال واحد؛ بل تتقلب بين فرح وحزن، وألم وسرور، ونحن نتعبَّد لله بالصبر عند الحزن والألم، والشكر عند الفرح والسعادة.

    وننتقل الآن إلى مشهد مواجهة الوالد بعدما ألقى إخوة يوسف أخاهم في البئر، رجعوا إلى أبيهم ليلًا: ﴿ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 16 - 18].

    رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون، ويظهرون الأسف والجزع على يوسف وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا:

    يا أبانا، كنا نلعب ونتسابق، وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب!



    هل كان هذا عهدهم مع أبيهم؟!

    لقد عاهدوه أن يحفظوه، وكيف لا وهم عصبة وهو أخوهم الصغير؟! وطمأنوا أباهم أنهم ما أخرجوه إلا ليمرح معهم، وها هم يقولون: نحن الذين كنا نلعب وتركناه يحرس متاعنا!

    يا أبانا ها هو قميص يوسف فيه دمه بعد أن أكله الذئب، ونعلم أنك لن تصدقنا في هذا الأمر ولو كنا صادقين.

    الأب: أعلم أن يوسف لم يأكله الذئب، بل زيَّنت لكم أنفسكم أن تفعلوا به أمرًا سيئًا، سأصبر وأستعين بالله على كذبكم.

    فقد أدرك يعقوب عليه السلام أنهم يكذبون عليه؛ لما رأى قميص يوسف سليمًا لم يتمزق إن كانوا صادقين في دعواهم أن الذئب قد افترسه.

    لكن ما بيد الأب الآن إلا أن يصبر الصبر الجميل، ويستعين بالله على ما هو فيه من ابتلاء فقدان ابنه الغالي الحبيب.

    فقال لهم: بل حسَّنت لكم نفوسكم أمرًا منكرًا، وزيَّنت لكم ارتكابه؛ فسأصبر متحملًا متجملًا بلا جزع ولا شكوى، وأستعين بالله على ما تلفقونه من حيل وأكاذيب.



    هدايات وموَاعِظُ وعِبْرَات:

    من ابتلي بمصيبة فعليه أن يصبر الصبر الجميل؛ فلا يجزع، ولا يشكو إلى أحد مصيبته؛ بل يحتسب أجر الصبر على المصيبة؛ كما قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157].



    ومن أقوال السلف:

    "ثلاث من الصبر: ألَّا تحدث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك".

    الحذر من شؤم الذنوب، فكم من ذنب واحد استتبع ذنوبًا كثيرة، وترتب على الذنب الأول ذنوبًا أخرى، وهكذا تكون الذنوب متسلسلة يتبع بعضها بعضًا.

    ننظر إلى إخوة يوسف، فإنهم لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه وهو ذنب عظيم، ترتب عليه أنهم احتالوا على ذلك بعدة حيل، وكذبوا عدة مرات، وزوَّروا على أبيهم في القميص والدم الذي فيه، وفي صفة حالهم حين أتوا عشاء يبكون،

    فلنحذر من الذنوب، خصوصًا الذنوب المتسلسلة.


    الفصل الرابع
    ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾ [يوسف: 21].



    والآن نعود إلى يوسف عليه السلام في الجُبِّ:

    طفل صغير في بئر، وسط صحراء مظلمة وحده، كيف كان حاله؟ لا يعلم به إلا الله، لكن لا تقلقوا، الله عز وجل لم يتركه، بل ألهمه أن محنته ستنتهي، وأنه سيخبر إخوته بما فعلوه معه.

    وبدأت بشائر الفَرَجِ تَلُوح حين مرَّت قافلة بالطريق الذي فيه البئر، فأنزلوا دَلْوًا بالبئر ليستخرجوا الماء؛ فَخَرَج لهم يوسف عليه السلام متعلِّقًا بالدلو؛ وهذا ما حكاه الله لنا فقال تعالى: ﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [يوسف: 19].

    فهذه رحمة أرحم الراحمين بيوسفَ أنْ جَعَلَ له سبيلًا للخروج من البئر بإنزال المسافرين الدلوَ ليتعلق به، وهم لا يعلمون أن هناك طفلًا قابعًا في قعر البئر: ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ [يوسف: 20]، وكان إخوة يوسف ما زالوا بالقرب منه، فلما رأوا القافلة تريد أخذه زعموا أنه عبدٌ هرب منهم، فباعوه لهم بثمن زهيد ليتخلصوا منه؛ لأنه لم يكن لهم قصد إلا إبعاده عن أبيه، ولم يكن لهم قصد في أخذ ثمنه.



    هدايات ومواعظ وعِبَرٌ:

    أولًا: علينا أن نَثِقَ في حكمة الله:

    كان الله عليمًا بما يفعله إخوة يوسف، وهو قادر على تغييره ودفعه، ولكنه تركهم يفعلون ذلك ليمضي ما قدره وقضاه، وله في ذلك الحكمة البالغة، وهذا ما سنعرفه آخر القصة إن شاء الله تعالى.

    ثم يخبرنا الله تعالى بعنايته بيوسف عليه السلام؛ إذ لما ذهب به المسافرون إلى مصر، اشتراه منهم عزيز مصر – وزيرها - ليكون عبدًا في قصره، وأمر زوجته أن تُحْسِنَ إليه وتكرمه، فقال لها: أكرميه في المطعم والملبس والمقام؛ لعلنا نستفيد من خدمته لنا، أو نتبنَّاه كأنه ولدنا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ [يوسف: 21].

    وكما نجَّى الله تعالى يوسف عليه السلام ولم يمكِّن إخوته من مرادهم، وأخرجه من البئر بعد أن ألْقَوه فيه، ويسَّر له أن يشتريه عزيز مصر، وجعل عزيز مصر يعطف عليه، ويُكرمه هذا الإكرام، وقد جرت العادة أن يُهان الرَّقِيق ولا يُكرَم، ولكن الله تعالى الذي يحوط يوسف عليه السلام بالعناية والرعاية قد هيَّأ له أن يعيش مكرمًا ومعززًا، في أرفع بيوت مصر وأعلاها.

    فكذلك مكَّن الله له في أرض مصر، ليكون على خزائنها، وليس هذا فحسب، بل سيُعلِّمه الله تفسير الرؤى، فيعرف منها ما سيقع مستقبلًا؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].



    هدايات ومواعظ وعبر:

    الله إذا أراد شيئًا، فلا يُرَدُّ ولا يُمانَع ولا يُخالَف، بل هو الغالب لما سواه، فحُكْمُ الله تعالى نافذ في يوسف وإخوته والسَّيَّارة - المسافرين- وعزيز مصر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله، وأنه هو الغالب على كل أمر أراده؛ فلا يحول بينه وبين مراده أحد، ولا يُعجِزه شيء؛ ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾ [يوسف: 21].

    ما أراده لك من خير لن يمنعه عنك أحد، وما تُواجِهُ من مِحَنٍ لن ينجيك منها سواه؛ ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾ [يوسف: 21].

    ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 22]، ولما بلغ يوسف منتهى قوته في شبابه، وأصبح صالحًا لأن يتحمل مسؤوليات النبوة والرسالة، جعله الله نبيًّا رسولًا، وعالمًا ربانيًّا، وهذا جزاء إحسانه وإخلاصه وخشيته لله.



    هدايات ومواعظ وعبر:

    كل محسن له نصيب من النور، والعلم، والحكمة، والنصرة والتمكين، فكل من أحْسَنَ في عبادة ربه، عبادة الخالق، ببذل الجهد والنصح فيها، وأخلص له الدين والطاعة، وأحسن إلى عباد الله ببذل النفع والإحسان إليهم، فإن الله يؤتيه من جملة الجزاء على إحسانه علمًا نافعًا، ويجزيه ويكافئه بأعظم الثواب في الدنيا والآخرة.

    ودلَّ هذا على أن يوسف عليه السلام وفَّى مقام الإحسان، فأعطاه الله الحكم بين الناس، والعلم الكثير والنبوة؛ ﴿ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 22].
    لنذكر ما يستنبط من هذه القصة العظيمة من الفوائد، فنقول مستعينين بالله:



    ذكر ما فيها من الفوائد:

    منها: أن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها؛ لما فيها من أنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن محنة إلى منحة ومنة، ومن ذل إلى عز، ومن أمن إلى خوف وبالعكس، ومن ملك إلى رق وبالعكس، ومن فرقة وشتات إلى انضمام وائتلاف وبالعكس، ومن سرور إلى حزن وبالعكس، ومن رخاء إلى جدب وبالعكس، ومن ضيق إلى سعة وبالعكس، ومن وصول إلى عواقب حميدة، فتبارك من قصها وجعلها عبرة لأولي الألباب.

    ومنها: ما فيها من أصول تعبير الرؤيا المناسبة، وأن علم التعبير علم مهم يعطيه الله من يشاء من عباده، وأن أغلب ما تبنى عليه المناسبات وضرب الأمثال والمشابهة في الصفات.

    فوجه مناسبة رؤيا يوسف أنه رأى الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر ساجدين له، أن هذه زينة للسماء، وفيها منافعها، فكذلك الأنبياء والعلماء والأصفياء زينة الأرض، وبهم يهتدى في الظلمات كما يهتدى بالأنوار السماوية، ولأن أباه وأمه أصل، وإخوته فرع عنهما، فمن المناسب أن يكون الأصل أعظم نورًا وجِرمًا من الفرع؛ فلذلك كانت الشمس أمه أو أباه، والقمر الآخر منهما، والكواكب إخوته، ومن المناسب أن الساجد محترِم لمن سجد له، والمسجود له معظم محترم، فدل ذلك على أن يوسف يصير معظمًا محترمًا لأبويه وإخوته، ولا يتم هذا إلا بمقدمات تقتضي الوصول إلى هذا: من علوم وأعمال واجتباء من الله، فلهذا قال: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ [يوسف: 6].

    ومنها: المناسبة في رؤيا الفتيين، حيث عبر رؤيا من رأى أنه يعصر خمرًا أن الذي يعمل هذا العمل يكون في العادة خادمًا لغيره، وأيضًا العصر مقصود لغيره، والخادم تابع لغيره، ويُؤول أيضًا إلى السقي الذي هو خدمته، فلذلك أوله بما يؤول إليه، وأما تعبيره لرؤيا من رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزًا تأكل الطير منه، بأنه يقتل ويصلب مدة حتى تأكل الطير من مخ رأسه الذي هو يحمل.

    وعبر رؤيا الملك بالبقرات والسنبلات بأنها السنون المخصبة والمجدبة، ووجه المناسبة أن الملك به ترتبط أمور الرعية ومصالحها، وبصلاحه تصلح، وبفساده تفسد، فهذه نسبته إذ رأى هو الرؤيا، وكذلك السنون بخصبها وجدبها تنتظم أمور المعاش أو تختل، والبقر هي آلة حرث الأرض واستخراج مغلها، والمغل هو الزرع، فرأى السبب والمسبب، فرؤيته السبع السمان من البقر ثم السبع العجاف، والسبع السنبلات الخضر، ثم السبع اليابسات، أي: لابد أن تتقدم السبع السنين المخصبات، ثم تتلوها المجدبات، وتأكل ما حصل فيها من غلال، ولا تبقي إلا شيئًا يحصنونه عنها، وإلا فهي بصدد أكلها كلها.

    فإن قيل: من أين أخذ قوله: ﴿ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف: 49]. فإن بعض المفسرين قال: هذه زيادة من يوسف في التعبير بوحي أوحي إليه.

    فالجواب: ليس الأمر كذلك، وإنما أخذها من رؤيا الملك، فإن السنين المجدبة سبع فقط، فدل على أنه سيأتي بعدها عام عظيم الخصب، كثير البركات، يزيل الجدب العظيم الحاصل من السنين المجدبة التي لا يزيلها عام خصب عادي، بل لابد فيه من خصب خلاف العادة، وهذا واضح وهو من مفهوم العدد.

    ومنها: ما فيها من الأدلة والبراهين على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث قص عليه هذه القصة المفصلة المبسوطة الموافقة للواقع التي أتت بالمقصود كله، وهو لم يقرأ كتب الأولين، ولا دارس أحدًا كما هو معلوم لقومه، وهو بنفسه أُمي لا يقرأ ولا يكتب، ولهذا قال: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ [يوسف: 102].

    ومنها:أنه ينبغي للعبد البعد عن أسباب الشر، وكتمان ما تخشى مضرته، لقول يعقوب ليوسف: ﴿ ا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ [يوسف: 5].

    ومنها:ذكر الإنسان بما يكره على وجه الصدق والنصيحة له أو لغيره، لقوله: ﴿ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ﴾.

    ومنها:أن نعمة الله على العبد نعمة على من يتعلق به، ويتصل من أهل بيته وأقاربه وأصحابه، فإنه لابد أن يصلهم ويشملهم منها جانب، لقوله: ﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ ﴾ [يوسف: 6]. أي: بما يحصل لك؛ ولهذا لما تمت النعمة على يوسف حصل لآل يعقوب من العز والتمكين والسرور، وزوال المكروه، وحصول المحبوب ما ذكر الله في آخر القصة.

    ومنها: أن النعم الكبيرة الدينية والدنيوية لابد أن يتقدمها أسباب ووسائل إليها؛ لأن الله حكيم، وله سنن لا تتغير، قضى بأن المطالب العالية لا تُنال إلا بالأسباب النافعة، خصوصًا العلوم النافعة، وما يتفرع عنها من الأخلاق والأعمال؛ فلهذا عرف يعقوب أن وصول يوسف إلى تلك الحالة التي يخضع له فيها أبوه وأمه وإخوته مقام عظيم، ومرتبة عالية، وأنه لابد أن ييسر الله ليوسف من الوسائل ما يوصله إليها، ولهذا قال: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ [ يوسف: 6].

    ومنها: أن العدل مطلوب في جميع الأمور الصغار والكبار؛ في معاملة السلطان لرعيته، ومعاملة الوالدين للأولاد، والقيام بحقوق الزوجات، وغير ذلك من المحبة والإيثار ونحوها، وأن القيام بالعدل في ذلك تستقيم الأمور صغارها وكبارها به، ويحصل للعبد ما أحب، وفي الإخلال بذلك تفسد الأحوال، ويحصل للعبد المكروه من حيث لا يشعر؛ لهذا لما قدم يعقوب عليه السلام يوسف في المحبة، وجعل وجهه له جرى منهم على أبيهم وأخيهم من المكروه ما جرى.

    ومنها: الحذر من شؤم الذنوب، فكم من ذنب واحد استتبع ذنوبًا كثيرة، وتسلسل الشر المؤسس على الذنب الأول، وانظر إلى جُرم إخوة يوسف، فإنهم لما أرادوا التفريق بينه وبين أبيه الذي هو من أعظم الجرائم، احتالوا على ذلك بعدة حيل، وكذبوا عدة مرات، وزوَّروا على أبيهم في القميص والدم الذي فيه، وفي صفة حالهم حين أتوا عشاء يبكون، ولابد أن الكلام في هذه القضية تسلسل وتشعب، بل ربما أنه اتصل إلى الاجتماع بيوسف، وكل ما بحث في هذه الموضوع فهو بحث كذب وزور مع استمرار أثر المصيبة على يعقوب، بل وعلى يوسف، فليحذر العبد من الذنوب، خصوصًا الذنوب المتسلسلة، وضد ذلك بعض الطاعات تكون طاعة واحدة، ولكن يتسلسل نفعها وبركاته حتى تستتبع طاعات من الفاعل وغيره، وهذا من أعظم آثار بركة الله للعبد في علمه وعمله.

    ومنها: أن العبرة للعبد في حال كمال النهاية، لا بنقص البداية؛ فإن أولاد يعقوب عليه السلام جرى عليهم ما جرى في أول الأمر من الجرائم المتنوعة، ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح، والاعتراف التام، والعفو التام عنهم من يوسف ومن أبيهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإذا سمح العبد بحقه فالله أولى بذلك وهو خير الراحمين الغافرين، ولهذا في أصح الأقوال أن الله جعلهم أنبياء لمحو ما سبق منهم، وكأنه ما كان، ولقوله: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ ﴾ [البقرة: 136].

    وهم أولاد يعقوب الاثنا عشر وذريتهم، ومما يؤيد هذا أن رؤيا يوسف أنهم هم الكواكب التي فيها النور والهداية، وهي من صفات الأنبياء، فإن لم يكونوا أنبياء فإنهم علماء عباد.

    ومنها:ما منَّ الله به على يوسف من العلم والحلم، والأخلاق الكاملة، والدعوة إلى الله وإلى دينه، وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوًا بادرهم به، وتمَّم ذلك بأن أخبرهم أنه لا يُثرِّب عليهم بعد هذا العفو، ثم بره العظيم بأبيه وأمه وإحسانه على إخوته، وإحسانه على عموم الخلق، كما هو بيِّن في سيرته وقصته.

    ومنها:أن بعض الشر أهون من بعض، وارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب أعظمهما؛ فإن إخوة يوسف لما قالوا: ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾ [يوسف: 9]، وقال قائل منهم: ﴿ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [يوسف: 10]؛ كان قوله أحسن منهم وأخف، وبسببه خف عن إخوته الإثم الأكبر، وهو من جملة الأسباب التي قدر الله ليوسف في وصوله إلى الغاية التي يريد.

    ومنها: أن الشيء إذا تداولته الأيدي، وصار من جملة الأموال، ولم يعلم المعاملون أنه على غير وجه الشرع، فلا إثم على من باشره ببيع أو شراء أو خدمة أو انتفاع أو استعمال؛ فإن يوسف باعه إخوته بيعًا محرمًا عليهم، واشترته السيارة بناء على أنه عبد لإخوة يوسف البائعين، ثم ذهبوا به إلى مصر فباعوه بها، وبقي عند سيده غلامًا رقيقًا، وسماه الله سيدًا، وكان عندهم بمنزلة الرقيق المكرم، وسمى الله شراء السيارة وشراءه في مصر معاملة لما ذكرنا.

    ومنها:الحذر من الخلوة بالنساء الأجنبيات، وخصوصًا اللاتي يُخشى منهن الفتنة، والحذر أيضًا من المحبة التي يخشى ضررها؛ فإن امرأة العزيز جرى منها ما جرى بسبب توحُّدها بيوسف، وحبها الشديد له الذي ما تركها حتى راودته تلك المراودة، ثم كذبت عليه فسجن ذلك السجن الطويل.

    ومنها: أن الهم الذي هم به يوسف ثم تركه لله ولبرهان الإيمان الذي وضعه الله في قلبه مما يرقيه إلى الله زلفى؛ لأن الهم داع من دواعي النفس الأمارة بالسوء، وهو طبيعة طُبع عليه الآدمي، فإذا حصل الهم بالمعصية ولم يكن عند العبد ما يقاوم ذلك من الإيمان والخوف من الله وقع الذنب، وإن كان العبد مؤمنًا كامل الإيمان فإن الهم الطبيعي إذا قابله ذلك الإيمان الصحيح القوي منعه من ترتب أثره، ولو كان الداعي قويًّا، ولهذا كان يوسف من أعلى هذا النوع، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24].

    لاستخلاص الله إياه، وقوة إيمانه وإخلاصه، خلصه الله من الوقوع في الذنب، فكان ممن خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، ومن أعلى السبعة الذي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر صلى الله عليه وسلم منهم: «رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»[1]، فهمّها لما كان لا معارض له استمرت في مراودته، وهمه عارض عرض، ثم زال في الحال ببرهان ربه.

    ومنها:أن من دخل الإيمان قلبه ثم استنار بمعرفة ربه ونور الإيمان به، وكان مخلصًا لله في كل أحواله، فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه وإخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه؛ لأن الله علل صرف هذه الأمور عن يوسف بقوله: ﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ ﴾ على قراءة من قرأها بكسر اللام[2]، ومن قرأها بالفتح – فإن من أخلصه الله واجتباه فلا بد أن يكون مخلِصًا – فالمعنيان متلازمان.

    ومنها: أنه ينبغي للعبد إذا ابتلي بالوقوع في محل فيه فتنة وأسباب معصية أن يفر ويهرب غاية ما يمكنه؛ ليتمكن من التخلص من ذلك الشر، كما فر يوسف هاربًا للباب، وهي تمسك بثوبه وهو مدبر عنها.

    ومنها: أن القرائن يُعمل بها عند الاشتباه في الدعاوى؛ وذلك أن الشاهد الذي شهد – أي: حكم على يوسف وعلى المرأة – اعتبر القرينة، فقال: ﴿ إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ ﴾ [ يوسف: 26]، إلى آخر القضية، وصار حكمه هذا موافقًا للصواب، ومن القرائن وجود الصواع على رحل الأخ، وقد اعتبر هذا وهذا.

    ومنها: ما عليه يوسف من الجمال الباهر ظاهرًا وباطنًا؛ فإن جماله الظاهر أوجب لامرأة العزيز ما أوجب من الحب المفرط والمراودة المستمرة، ولما لامها النساء دعتهن ﴿ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31].

    وأما جماله الباطن فهو العفة العظيمة مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوع السوء منه، ولكن الإيمان ونوره، والإخلاص وقوته لا يشذ عنهما فضيلة، ولا تجامعهما رذيلة، وقد بينت امرأة العزيز للنساء من يوسف الأمرين؛ فإنها لما أرتهن جماله الظاهر الذي اعترفن أن هذا الجمال لا يوجد في الآدميين قالت: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَم ﴾ [يوسف: 32]، وقالت بعد ذلك: ﴿ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 51].

    ومنها: أن يوسف عليه السلام اختار السجن على المعصية، فهكذا إذا ابتلي العبد بأحد أمرين، إما أن يلجأ إلى فعل المعصية، وإما أن يعاقب عقوبة دنيوية، فعليه أن يختار العقوبة الدنيوية التي فيها الثواب من هذا الوجه بعدة أمور: ثواب من جهة اختياره الإيمان على السلامة من العقوبة الدنيوية، وثواب من جهة أن هذا من باب التخليص للمؤمن والتصفية، وهو يدخل في الجهاد في سبيل الله، وثواب من جهة المصيبة التي نالته والألم الذي أصابه، فسبحان من ينعم ببلائه، ويلطف بأصفيائه، وهذا أيضًا عنوان الإيمان، وعلامة السعادة.

    ومنها:أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى ربه، ويحتمي بحماه عند وجود أسباب المعصية، ويتبرأ من حوله وقوته لقول يوسف: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33].

    فالعبد الموفق يستعين بربه على دفع المعاصي وأسبابها كما يستعين به عند فعل الطاعات والخيرات، والله كافي المتوكلين»


    و من فوائد تلك السورة: جواز إخبار الإنسان بما يجد، وما هو فيه؛ من مرض، أو فقر، أو غيرهما على غير وَجْه التسخُّط؛ لقول إخوة يوسف عليه السلام: ﴿ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ﴾ [يوسف: 88]، وأقرَّهم يوسُفُ على ذلك.

    ومن الفوائد: فضيلة التقوى والصبر، وأن كل خير في الدنيا والآخرة فمن آثارهما، وإن عاقبة أهلهما أحسن العواقب؛ لقوله: ﴿ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90].

    ومن الفوائد: ما مَنَّ اللهُ به على يوسُف عليه السلام من حُسْن عَفْوِه عن إخوته، وإنه عفا عمَّا مضى، ووعد في المستقبل ألَّا يُثرِّب عليهم، ولا يذكر منه شيئًا؛ لأنه يجرحهم ويحزنهم، وقد أبدوا الندامة التامَّة، ولأجل هذا قال: ﴿ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ﴾ [يوسف: 100]، ولم يقل من بعد أن نزغهم؛ بل أضاف الفعل إلى الشيطان الذي فرَّق بينه وبين إخوته، وهذا من كمال الفتوَّة، وتمام المروءة.

    ومن الفوائد: ما في هذه القصة العظيمة من البراهين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث قصَّها على الوجه المطابق، وهو لم يقرأ من الكتب السابقة شيئًا، ولا جالَسَ مَنْ له معرفة بها، ولا تعلَّم من أحدٍ، إنْ هو إلا وحيٌ أوحاه الله إليه؛ ولهذا قال: ذلك من أنباء الغيب نقُصُّه عليك، ما كنت تعلمها أنت، ولا قومُك من قبل هذا.

    وفي تضاعيف القصة فضيلةُ العلم من وجوه كثيرة، وبيان أنه سببُ الرِّفْعة في الدنيا والآخرة، وسبب صلاح الدين والدنيا، فيوسُف صلى الله عليه وسلم لم ينل ما نال بعد توفيق الله تعالى، إلا بالعلم؛ ولهذا قال له أبوه: ﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ [يوسف: 6]، وقال يوسُف: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101]، ففضائل العلم وثمراته الجليلة العاجلة والآجلة لا تُعَدُّ ولا تُحصى.

    ومن الفوائد: أن شفاء الأمراض كما تكون بالأدوية الحسِّيَّة تكون بأسباب ربَّانية؛ بل يحصل بهذا النوع من أنواع الشفا ما لا يحصل بغيره، فيعقوب عليه السلام قد ابيضَّتْ عيناه من الحزن، وذهب بصرُه، فجعل الله شفاءه وإبصاره بقميص يوسف حين ألقاه على وَجْهِه فارتدَّ بصيرًا؛ لما كان فيه من رائحة يوسف عليه السلام، الذي كان داء عينيه بسبب حُزْنه عليه، فصار شفاؤه الوحيد مع لطف الله في قميص يوسف الملاصق لجسده.

    ومن فوائد القصة: أن الجهل كما يُطلَق على عدم العلم، فإنه يُطلَق على عدم الحلم، وعلى ارتكاب الذنب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، وأما قوله: ﴿ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ [يوسف: 89] ليس المعنى في ذلك عدم العلم؛ وإنما هو عدم العمل به، واقتحام الذنوب.

    ومن الفوائد: قوله تعالى: ﴿ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ﴾ [يوسف: 72]، استدل به على ثلاثة أبواب من أبواب العلم: باب الجعالة، وباب الضمان، وباب الكفالة.

    ومن الفوائد: أن العمل بالشريعة فيه إصلاح الأرض والبلاد واستقامة الأمور، والعمل بالمعاصي من سرقة وغيرها فيه فساد؛ ذلك لقولهم: ﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾ [يوسف: 73].

    ومن الفوائد: الحثُّ على فعل الأسباب الجالبة للخيرات والحافظة من الكريهات، وفي القصة مواضع تدلُّ على هذا الأصل الكبير، وتمام ذلك أن يقوم بالأسباب مستعينًا بالله، واثقًا به، وقد عمل يعقوب عليه السلام الأسباب التي يقدر عليها في استحفاظ أولاده ليوسف عليه السلام، ثم لأخيه حين أرسله معهم، وقال مع ذلك: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64].

    وكذلك على العبد إذا همَّتْه المصائب، وحلَّت بهِ النكبات، عليه أن يصبر ويستعين بالله على ذلك، قال يعقوب عليه السلام حين عمل إخوة يوسف ما عملوا بيوسف عليه السلام، وحلَّت به المصيبة الكبرى: ﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، وذلك أن الصبر على الطاعات، والصبر عن المحرَّمات، والصبر على المصيبات لا يتمُّ، وينجح صاحبُه، إلَّا بالاستعانة بالله، وألَّا يتَّكِل العَبْدُ على نفسه؛ قال يوسف: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33].

    ومن الفوائد: أن الدين المستقيم الذي عليه جميعُ الرُّسُل وأتباعهم هو عبادة الله وحده لا شريك له؛ لقوله: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [يوسف: 40]، فهو الدين المستقيم المقيم للعقائد والأخلاق والأعمال، الذي لا تستقيم أمورُ الدين والدنيا إلَّا به.

    ومن الفوائد: وجوب الاعتراف بنِعَمِ الله الدينية والدنيوية؛ لقوله: ﴿ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا ﴾ [يوسف: 38].

    ومن الفوائد: أن الإحسان في عبادة الله، والإحسان إلى العباد سببٌ يُنال به العلم، وتُنال به خيرات الدنيا والآخرة؛ لقوله: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 22]، وقوله: ﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يوسف: 56، 57]، فجعل الله الإحسان سببًا لنَيْل هذه المراتب العالية.

    ومن الفوائد: أن النظر إلى الغايات المحبوبة يُهوِّن المشاقَّ المعترضة في وسائلها، فمتى علم العبد عاقبة الأمر، وما يؤول إليه من خير الدنيا والآخرة، هانَتْ عليه المشقَّةُ، وتسلَّى بالغاية؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [يوسف: 15].

    ومن فوائد تلك القصة: قوله تعالى عن يعقوب في أول ما صنع أبناؤه بأخيهم يوسف: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، وقوله: عندما اشتدَّ به الأمر حين احتبس الابن الآخر: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 83]، في هذا دليل على أن أصفياء الله إذا نزلت بهم الكوارثُ والمصيباتُ، قابلوها في أول الأمر بالصبر والاستعانة بالمولى، وعندما ينتهي، وتبلغ الشِّدَّة منتهاها، يقابلونها بالصبر والطمع في الفرج والرجاء، فيُوفِّقهم الله للقيام بعبوديته في الحالتين، ثم إذا كشف عنهم البلاء، قابلوا ذلك بالشكر والثناء على الله وزيادة المعرفة بلُطْفه؛ لقول يوسف: ﴿ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 100].

    ومن الفوائد: أن المشاورة نافعةٌ في كلِّ شيء، حتى في تخفيف الشرِّ؛ لهذا تَشاوَرَ إخوةُ يوسف عليه السلام ما يعملون به من قَتْل أو طَرْح في الأرض، قَرَّ رأيُهم على رأي مَنْ أشارَ عليهم بإلقائه في الجُبِّ ليلتقطه بعضُ السيارة، ففيه شاهِدٌ للقاعدة المشهورة "ارتكاب أخفِّ المفْسَدَتَينِ أوْلى من أغلظهما.

    ولما قرَّ القرارُ على أخْذ من وُجِدَ الصواع في رَحْله، وعالجوا يوسُف على أخْذِ بدله؛ لأجل ما يعلمون من مشقَّة أبيهم، فأمتنع، خلصوا نجيًّا يتشاورون، فقرَّ رأيُهم على رأي كبيرهم أن يبقى هو في مصر يُلاحظ مسألة أخيه، وهم يذهبون ويُخبرون أهلَهم، ويُخبرون أباهم بالقضية وتفصيلها، ولا شكَّ أن بقاءه في مصر أهون على يعقوب وأرجى لتحصيل المطلوب، وفيه نوعُ مواساة منه بأخويه يوسف وبنيامين؛ ولهذا قال: ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 83].

    ومن أعظم الفوائد في تلك السورة: أنَّه لما قصَّ الله تعالى علينا هذه القصة العجيبة بتفاصيلها، قال في آخرها: ﴿ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]، فنفى عن هذا القرآن الكذب والخطأ من جميع الوجوه، ووصفه بثلاث صفات؛ كل واحدة منها فيها أكبر بُرْهان على أنه من عند الله تعالى، وأنه الحق الذي لا ريب فيه.

    الصفة الأولى: أنه تصديق الذي بين يديه؛ أي: من الكتب المنزَّلة من السماء، ومن كلام الرُّسُل المعصومين الذين أوحى الله إليهم، كما قال تعالى: ﴿ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: 37].

    الصفة الثانية: أنه تفصيل لكُلِّ شيء؛ وهذا شاملٌ لجميع ما يحتاجه الخَلْق في عقائدهم وأخلاقهم، وأعمالهم الظاهرة والباطنة، وفي دينهم ودنياهم.

    الصفة الثالثة: أنه ﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 52]، ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ﴾ [المائدة: 16]، ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]؛ أي: لكل حالة قويمة وطريقة مستقيمة، يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق، ويهدي لمصالح الدين كلها ومنافع الدنيا التي بها يقوم الدين وتتمُّ السعادة



    شبكة الالوكة


يعمل...
X