سورة الزخرف هي إحدى السور المكية، وهي من السور التي تسمى بالحواميم، وسميت بسورة الزخرف لورود كلمة الزخرف فيها.وتسمى سورة الزخرف مع بقية الحواميم: بديباج القرآن؛ وذلك لأنها لا تتضمن أحكاماً، وهي سورة مسوقة لبيان حقارة الدنيا وتفاهتها.
[التعريف بالسورة وسبب تسميتها بسورة الزخرف]
هذه وقفات علمية مع بعض الآيات من سورة الزخرف،
المقصود منها: الإثراء العلمي من هذه الآيات المباركات
.الوقفة الأولى: وتعنى بالتعريف بالسورة الكريمة، وسبب تسميتها بـ (سورة الزخرف)؟ الشيخ: الحمد لله.سورة الزخرف سورة مكية، وهي ضمن سياق سبع سور متتابعات تسمى هذه السور المتتابعات بسور (آل حم)، كما تسمى بديباج القرآن، وتبدأ بغافر وتنتهي بالأحقاف، وكلهن مبدوءات بقول الله جل وعلا: (حم)، وسميت (ديباج القرآن)؛ لأنها لم تتضمن أحكاماً، وكلهن سور مكية.
وبعض أهل الفضل يسميها: الحواميم، والأفضل أن يقال: سور (آل حم).وسميت بسورة (الزخرف)؛ لورود كلمة الزخرف فيها، وكلمة (الزخرف) وردت في هذه السورة لبيان حقارة الدنيا،
وقد ردت كلمة الزخرف في القرآن قبل سورة الزخرف ثلاث مرات في ثلاثة مواضع:
قال الله جل وعلا في سورة الأنعام: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:١١٢]، وقال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه في سورة يونس: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس:٢٤]، وقال تبارك وتعالى في الإسراء: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:٩٣] فوردت كلمة (زخرف) في الإسراء وفي يونس وفي الأنعام، ووردت في هذه السورة المباركة، وبها سميت سورة الزخرف.ومعنى الزخرف في اللغة: كمال الزينة مع الحسن، وإذا قيل (شيء مزخرف) أي: شيء مزين.
وقفة مع قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)
[الرد على المعتزلة في زعمهم أن القرآن مخلوق]
.الوقفة الثانية: مع قول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:٣].وسيتم التفصيل حول معنى الفعل (جعل) في القرآن؟ وأنتم تسمعون بالمعتزلة، وهي فرقة تنسب إلى الإسلام، وتقوم على بنود خمسة، وهي معتقدات خمسة عندهم.ولا ينفع يا بني أن تقول: المعتزلة ضلال، المعتزلة بعيدون، فأقول: نعم؛ المعتزلة ضلال بعيدون، لكن لن تستطيع أن تدافع عن رأي حتى تتصف بصفتين: تقتنع به، وتفهمه، فلا بد أن تفهم ما تدافع عنه، ولا بد أن تكون مقتنعاً به، فليس كل ما فهمته اقتنعت به، فقد تفهم السورة جيداً لكنك لا تقتنع بها، وقد تفهم المثال جيداً لكنه غير مقنع، فحتى تكون مقتنعاً في دفاعك عن أهل السنة سلك الله بنا وبك في سبيلهم،
والرد على المعتزلة لابد من أمرين: اقتناعك بمذهبك وبطريقة أهل السنة، مع فهمك لأقوالهم، وفهمك لأقوال معارضيهم حتى تتمكن.
فالمعتزلة فرقة تقوم على خمسة أشياء بالأكثر:
على التوحيد، وهم يسمونه التوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين،
ومن ضمن ما قالته المعتزلة: إن القرآن مخلوق، وهذا من أعظم خلافهم مع أهل السنة فقد زعموا أن القرآن مخلوق،
ولهم أدلة منها: أن الله قال في الزخرف: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:١ - ٣]، فقالوا: أنتم تكابرون، فالله يقول: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١]، ومعنى ذلك: خلق الظلمات والنور.والله جل وعلا يقول: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:١]، ويقول في آية أخرى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:١٨٩]، أي: خلق منها زوجها، فيقولون في مخاطبتهم لنا: علامَ الكبر؟
الله يقول: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:٣]، (وجعل) بمعنى: خلق، فلماذا تكابرون وتقولون: إن القرآن غير مخلوق؟ فهذا هو الإشكال.
وقبل أن نتكلم عن الفعل (جعل) نأتي بنظائر حتى لا تصبح المسألة مسألة عاطفة.فهناك أفعال وكلمات في اللغة لا يظهر معناها إلا من سياق الجملة، بمعنى: أنها في كل سياق لها معنى، ومثال ذلك: أنك أنت قد تكون واقفاً وزميلك يستعجل بك ويقول: هيا نذهب، هيا الموعد فات، فأنت تقول له: أنظرني؟ ومعنى أنظرني: أمهلني، فقد جاء ذكرها في القرآن: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣]، أي: أمهلونا، وانتظرونا، حتى نصل إليكم فنأخذ منكم نوراً.وقد يأتيك رجل وأنت عندك ابنة فيقول لك: أريد أن أخطب ابنتك منك، فقلت له: سأنظر في الأمر، أي: أفكر فيه، إذاً: (نظر) الأولى غير (نظر) الثانية، مع أن الفعل واحد وهو: نظر، لكن قولك: نظرت في الأمر عندما تعدت بحرف جر غير (نظر) بمعنى من غير تعدٍ (لازم)، فأصبحت بمعنى: أمهلني، وهنا أصبحت بمعنى: أتفكر وأتدبر، قال الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:١٨٥] يعني: يتدبرون.نأخذ مثالاً آخر: تقول للرجل: إلامَ تنظر؟ فيقول لك: أنظر إلى تلك الكتابة المعلقة، فهو يقصد النظر بالعين الباصرة الحقيقية، وتقول: نظرت إليك، أي: أبصرتك، والفعل هو نفسه.
والله جل وعلا يقول: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:١٣]، ومعنى (استويتم عليه) أي: ركبتم وعلوتم، ويقول وهو أصدق القائلين في القرآن: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:١٤]، هل في أحد عاقل يقول: ولما بلغ أشده وركب، فمعنى استوى: كَمُل ونضج.ويقول جل وعلا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:٢٩]، وهنا ليست بمعنى: علا، وليست بمعنى كمل، وإنما بمعنى: انصرف إلى وقصد، فتعددت المعاني والفعل واحد وهو: استوى، لكن من السياق عرفنا أن له عدة معانٍ.
[استخدامات الفعل (جعل) في القرآن]
والآن نعود إلى الفعل (جعل) وننظر استخدامه في القرآن حتى نحكم عليه.فنقول: إذا تأملنا الفعل (جعل) في القرآن وجدنا له أحوالاً ثلاثة تقريباً، فيأتي بمعنى: خلق، وهذا إذا تعدى الفعل (جعل) إلى مفعول به واحد، قال ربنا: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:١٨٩] والمفعول: (زوج)، وقال جل وعلا: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١] المفعول: الظلمات، فإذا جاء الفعل (جعل) متعدياً إلى مفعول به واحد يصبح بمعنى: خلق.وقد يتعدى إلى أكثر من مفعول، فإذا تعدى إلى أكثر من مفعول لا يلزم أن يصبح (جعل) بمعنى خلق، وإنما يصبح بمعنى يدل عليه السياق، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:١٩]، أي: أن المشركين زعموا أن الملائكة إناثاً، ثم قالوا: إنهم بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.فمن المستحيل أن يفهم أحد المعنى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:١٩] أن معناها: أن القرشيين خلقوا الملائكة، ولا القرشيون أرادوا هذا، لكن معنى (جعلوا) هنا: سموا،
والدليل: أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:٢٧]، وهو قولهم: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:١٩].والله جل وعلا يقول على لسان أهل الإشراك في ردهم على نبينا صلى الله عليه وسلم لما جاء بالتوحيد، قالوا كما قال الله في سورة ص: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥]، فلا يمكن أن يفهم أن معنى قول قريش كما حكى الله في كتابه: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥] أن قريش تقول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم خلق الآية وخلق ربه، فهذا لا يقول به أحد، وإنما (جعل) هنا: ليس بمعنى خلق، وإنما بمعنى: صير واتخذ.
نعود الآن نطبق على الآية التي بين أيدينا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:٣]، (عربياً) صفة تابعة، والتابع يأخذ حكم المتبوع، فلا علاقة لنا بها، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا} [الزخرف:٣] فالضمير (الهاء) مفعول أول، وقرآناً مفعول ثانٍ، أي: صيرناه قرآناً عربياً، فهنا ليس بمعنى خلق، إنما بمعنى: صير، وكونه مصير لا يعني أنه مخلوق، هذا بحسب حاله من قبل، فنرجع إلى بقية القرآن،
فقد قال عن القرآن: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:١]، وقال: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:٢]، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:١٩٢].ففهمنا: أن القرآن منزل غير مخلوق، فبهذا يرد على قول المعتزلة: إن (جعل) بمعنى: خلق، فكلمة (جعل) إذا تعدت إلى مفعول واحد صارت بمعنى: خلق، وإذا تعدت إلى مفعولين ننظر في السياق، فأحياناً تكون بمعنى سمى، وأحياناً تكون بمعنى: صير واتخذ، ثم يكون ذلك المصير والمتخذ، بحسب حاله من قبل،
ومحكم القرآن يثبت: أن القرآن منزل غير مخلوق.
ومن الأدلة الأخرى أن الله جل وعلا من صفاته: أنه يتكلم متى شاء بما شاء إذا شاء، والكلام صفة من صفاته، والكلام في الذات كالكلام في الصفات، والكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أن لله ذاتاً ليست كذات غيره، فله جل وعلا صفات تليق بجلاله وعظمته ليست كصفات غيره، وهو جل وعلا يتكلم بما شاء، فالكلام صفة من صفاته، والقرآن من كلامه، قال جل وعلا: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦]، الله يقول: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦]، فسمى القرآن كلامه، ولا محيد عن كلام ربنا، وأهل الأصول يقولون: والاجتهاد في محل النص كتارك العين لأجل القص
[معاني لفظة (أم) في اللغة والقرآن]
.الوقفة الثالثة:معنى قول الله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:٤]
نبدأ باللغويات: (الأم) في اللغة: إزاء الأب، وتطلق في حقيقتها على الوالدة التي ولدت، ثم انتقل إلى إطلاقها على أكثر من ذلك، فتطلق على الوالدة القريبة وهي أمك مباشرة، وعلى الوالدة البعيدة مثل الجدات، ولهذا يقال عن حواء: أمنا؛ لأنها ولدتنا أجمعين، وإن كانت ولادة غير مباشرة.وبعض اللغويين كـ الخليل بن أحمد يقول: إن الأم كل شيء ضم إليه ما حوله، هذا من الناحية اللغوية.
وأما كلمة (أم) في القرآن: فوردت على معانٍ عدة، نذكر بعضاً منها: وردت بمعنى (الأم) التي ولدتك، ومنه قول الله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:٤٠]، ولا ريب أن أم موسى هي التي ولدته.
وورد في القرآن لفظ (الأم) بمعنى أصل الشيء، قال الله تبارك وتعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:٧] أي: أصل الكتاب.
وجاءت بمعنى (المآل)، قال الله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:٩] أي: منقلبه إلى الهاوية.
وجاءت بمعنى (الظئر)، وهي المرضعة، قال الله جل وعلا: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:٢٣] فليست أمك التي ولدتك، وإنما هي المرضعة.
وجاءت الأم مقصود بها مكة، قال الله جل وعلا: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الشورى:٧].
وأم الكتاب هي الفاتحة.
وأطلق كذلك في القرآن على أمهات المؤمنين اللاتي هن أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم.
هذا معنى كلمة (أم) في اللغة على وجه التوسع؟
قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:٤]،
وللعلماء رحمهم الله قولان في معنى الآية:
قول يقول: معنى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:٤] أي: أن هذا القرآن منسوخ في اللوح المحفوظ، أي: مكتوب في اللوح المحفوظ، ويدل عليه قول الله جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:٧٥ - ٧٩].وقوله جل وعلا: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:١٥ - ١٦]، هذه شواهد.وقال آخرون: ليس المقصود: أنه منسوخ في اللوح المحفوظ، وإنما المقصود: أن ذكره في اللوح المحفوظ ذكر عليّ وجليل، والمعنى الأول -والعلم عند الله- أقرب إلى الصواب
وقفة مع قوله: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً)
الوقفة الرابعة: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:٥]، وسيبين فيها معاني الضرب في القرآن.
الشيخ: كلمة الضرب في اللغة تأتي بمعنى النوع والصنف، وتأتي في اللغة بمعنى الرجل الخفيف القليل اللحم،
قال طرفة: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني خشاش كرأس الحية المتوقد وعلمياً: يجوز الاستشهاد بقول طرفة؛ لأنه من العصر الجاهلي،
وأما المتنبي: أو أحمد شوقي فلا يجوز الاستشهاد بهما؛ لأنهما بعد زمن الاحتجاج، والاحتجاج تقريباً إلى سنة مائة وعشرين هجرية، فالجاهليون أقوى حجة في شعرهم، فإذا احتجنا إلى شيء نستشهد به فإننا نرجع إلى شعر الجاهلية.
[معاني لفظة (ضرب) في القرآن]
نعود فنقول: هذا في اللغة، وأما في القرآن فقد ورد الضرب على معانٍ منها: السير في الأرض، قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:١٠١]، وقال: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:٢٠]، وقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة:٢٧٣] أي: سيراً في الأرض.
ويأتي الضرب بمعنى (الإيذاء)، ويكون في القرآن على نوعين: ضرب بالسيف، كما في قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال:١٢]، ويكون بالسوط أو بالشيء اليسير أو باليد، ومنه قوله تعالى في تهذيب النساء: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:٣٤].
وتأتي (ضرب) في القرآن بمعنى الالتصاق واللزوم، قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [البقرة:٦١]، وقال الله جل ذكره: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:١١].
وأما هنا: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:٥] أي: أفنعرض، والمقصود من الآية: أن القرشيين أسرفوا على أنفسهم في الذنوب وردوا كلام الله وكلام رسوله، فالله جل وعلا يقول لهم: إن إعراضكم ليس مسوغاً في أن نترك إنذاركم.{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:٥]، هذه صفحة العنق، والإنسان إذا أعطى صفحة عنقه لأحد فكأنه أعرض عنه،
وإعطاؤك صفحة العنق للناس يكون لأحد سببين: إما كبراً، وهو الأغلب، وإما تغافلاً، وهو الأقل، لكنه يقع، يعني: يكون الشيء موجوداً وأنت تتغافل عنه،
لكن العلماء اختلفوا في معنى الذكر هنا على قولين: قال بعضهم: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:٥] أي: القرآن والمواعظ والذكر، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن الذكر هنا هو ذكر العذاب، أي: أفنترك عذابكم لكونكم كنتم قوماً مسرفين، وأياً كان المقصود، فإن المعنى من الآية إجمالاً يقارب قول الله جل وعلا: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:٣٦].
[وقفة مع قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)]
الوقفة الخامسة: مع قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣١ - ٣٢].
الشيخ: الآن تتعلم من الآية -أعاننا الله وإياك- كيفية الرد على المخالف،
فالقرية إذا وردت في القرآن فهي بمعنى: المدينة، والله يقول هنا: (وقالوا) أي: القرشيون، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١]، فهم يقولون: إن محمداً نشأ يتيماً فالأولى ألا ينزل القرآن على يتيم، وكانوا يزعمون أنه كان ينبغي أن ينزل القرآن على رجل عظيم من القريتين، وقصدوا بالقريتين مكة والطائف.
وقيل: إنهم قصدوا بالرجلين: عروة بن مسعود والوليد بن المغيرة،
وأياً كان المقصود من الرجال فهم يقولون: إن محمداً لا يستحق أن يعطى النبوة والرسالة ويختم به الأنبياء، فالله جل وعلا رد عليهم فقال: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:٣١ - ٣٢]، فهذا استفهام إنكاري،
ثم قال بعدها: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٢]، فالآن هؤلاء القائلون بهذا القول يعترفون بأن الذي يوزع الأرزاق ويقسمها هو الله،
فالقرشيون مؤمنون: أن الذي قسم الأرزاق وجعل هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا حراً وهذا عبداً، وهذا خادماً وهذا مخدوماً، وهذا سيداً وهذا تابعاً، مؤمنون أن الذي يفعل هذا هو الله، ويؤمنون أن الأرزاق من الله،
فالله يقول لهم: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٢].فإذا كان الله جل وعلا في مسائل الرزق العادي لم يكلها إليكم، فكيف يكل إليكم تقسيم النبوة! فإعطاء النبوة أعظم من إعطاء الأرزاق، وقسمة النبوة بين الخلق أعظم من قسمة المعيشة،
فالله يقول لهم: أنتم مقرون أن الأرزاق إنما قسمها بينكم الله، فكيف يعقل أن تطالبوا بشيء لا يمكن أن تنالوه، فإذا كان الله لم يكل إلى أحد من خلقه أن يقسم أرزاق الناس طعاماً وشراباً وإيواءً وسكنى، فكيف يكل الله إلى غيره أن يقسم النبوة، والنبوة أعظم من أرزاق الناس.{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:٣٢] كما هو ظاهر اختلاف الناس، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:٣٢] (سُخرياً) هنا بمعنى: الخدمة، مبرأة من الاستهزاء،
فالمقصود: أن الله جل وعلا جعل الناس بعضهم لبعض خدماً؛ حتى تقوم الحياة، فكما تحسنه أنت لا يحسنه غيرك، وما يحسنه غيرك لا تحسنه أنت،
لكن تأمل قول الله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٢] نبه بالأدنى على الأعلى، ((لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا))،
ثم قال الله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣٢].واختلف العلماء في معنى الرحمة هنا، والذي أراه -والعلم عند الله- أن المقصود بها: الجنة؛ لأنه لا يظهر الفرق بين رحمة الله وبين ما يجمعون إلا إذا كان شيئاً خالداً وشيئاً غير خالد، والجنة نعيمها خالد بخلاف متاع الدنيا فإنه مهما عظم فهو غير خالد، فيكون معنى قول الله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣٢] يعود على الجنة في أظهر أقوال العلماء
[وقفة مع قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب)]
الوقفة السادسة: مع قول الله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:٣٩]، حيث تعنى الوقفة ببيان أحوال النار -أعاذنا الله منها-.الشيخ: النار هي الخزي الأعظم، وما فر هارب من شيء مثل النار، وكل بلاء دون النار فهو عافية، لأن الخزي الأكبر في النار.
فهنا الله جل وعلا ينكل بأهل النار قائلاً: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:٣٦ - ٣٨] ثم قال الله: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:٣٩].
فالمقصود من الآية: أن أهل النار عياذاً بالله محرومون حتى من التأسي.والتأسي والتسلي أن يرى الإنسان مصيبة غيره فيتعزى بها عن مصيبته، وهذا من أعظم ما يهون مصائب الدنيا، وأي أحد في الدنيا لديه مصيبة لو أراد أن يرى أحداً أعظم منه لوجد، أو أحداً نظيراً له في مصيبته لوجد،
تقول الخنساء وقد فقدت أخاها صخراً: يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل مغيب شمس ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي فمن أعظم ما يخفف المصائب: التأسي، وذلك أن الإنسان يتذكر أن مثل هذه المصيبة تقع في غيره، لكن الله جل وعلا يحرم أهل النار عياذاً بالله من هذا، فلا يجدون تأسية، قال الله: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:٣٩]، مع أن الاشتراك في المصيبة ينفع في الدنيا، لكن عذاب الآخرة -عياذاً بالله- لو اشترك فيه أهل الأرض جميعاً فلا ينفع ذلك فيه، إذاً فالمعنى المقصود من الآية نفي وجود التأسي في أهل النار.
وقفة مع قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك)
الملقي: الوقفة الأخيرة: وهي مع قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:٥٧]، حيث تعنى الوقفة بما يلي:
أولاً: بيان ضارب المثل.
ثانياً: الجمع بين الإفراد والجمع في الآية التي بعدها.
ثالثاً: إظهار المعنى الأرجح لقوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:٦١].
الشيخ: هذه الآيات نختم بها، وهي هامة جداً في أن تتصورها علمياً، ولا يمكن فهم القرآن بغير السنة، وسورة الزخرف قلنا: إنها سورة مكية، ومن السور المكية سورة مريم، وسورة مريم فيها ثناء على عيسى، وإخبار أن النصارى عبدت عيسى.ومن السور المكية سورة الأنبياء، قال الله في الأنبياء: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨]، وقد كان هناك صراع بين النبي صلى الله عليه وسلم والملأ من قريش، فذات مرة كان هناك رجل قرشي اسمه عبد الله بن الزبعرى، وعبد الله هذا أسلم بعد ذلك حتى لا أحد يقع فيه، لكنه قبل إسلامه كان بليغاً فصيحاً ورجلاً ذا جدل، فجلس مع المكيين، فالمكيون يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:٩٨]، فقال لقريش: للوليد وأبي جهل: فسكتم؟ قالوا: سكتنا، قال: أما تعرفون كيف تردون؟ قالوا: كيف نرد؟! قال: ألم يثن محمد على عيسى؟ قالوا: نعم، فقال: إن محمداً يقول: إن الآلهة ومن يعبدها في النار، ونحن نرضى أن نكون مع آلهتنا في النار إذا كان عيسى مع من يعبده في النار، فيكفينا فخراً أن نكون نحن وآلهتنا والنصارى وعيسى في النار، وكلام محمد متناقض؛ لأنه يقول لكم: إن عيسى نبي ومرسل ومصدق، ويقول في نفس الوقت: إن عيسى في النار.ففرح القرشيون بكلامه وضجوا.
والآية فيها قراءتان: قال الله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:٥٧] (يصِدون) -بالكسر- و (يصُدون) بالضم، معناه: يضجون بالحديث، فإذا قلنا: إن الآية في قراءة (يصدون) أصبحت منه، أي: بسببه، وإذا قلنا: يصدون بالكسر، تصبح منه هنا: أي عنه، أي: يعرضون عنه.فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وفرح القرشيون، أنزل الله جل وعلا قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١]، مع أنه ليس لـ عبد الله بن الزبعرى حجة فيما قال؛ لأن الآية تتكلم عن غير العاقل: (إنكم وما تعبدون).يقول الله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف:٥٧] الذي ضرب المثل هو عبد الله بن الزبعرى السهمي، وضرب المثل بعيسى، قال الله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:٥٧] أي: يعرضون عنك، وقالوا في مثلهم: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف:٥٨] يعني: نقبل أن تكون آلهتنا مثل عيسى في الحال، قال الله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:٥٨]؛ لأن أمرهم هذا لا يقوم على حجة؛ لأن (ما) في قول الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:٩٨] تدل على غير العاقل.
[إشكال وجوابه]
لكن يبقى إشكال وهو: أن الله قال: (ما ضربوه) بواو الجماعة،
ونحن قلنا: إن الذي ضرب المثال رجل واحد وهو عبد الله بن الزبعرى،
والجمع أن يقال: هناك أمران: الأمر الأول: أن العرب جرى في كلامها أنها تطلق الفرد وتريد الجماعة، وتطلق الجماعة وتريد الفرد،
قال قائلهم: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد ومعنى البيت: أنه كان هناك رجل اسمه ورقاء بن جهير، فجاء رجل اسمه خالد فقتل: جهيراً والد ورقاء، فغضبت قبيلته بنو عبس، فجاء ورقاء ينتقم لأبيه، وأخذ السيف وهو رجل واحد، وأراد أن يضرب خالداً لكن السيف نبا، أي: أخطأ ولم يصب، والعرب تقول: لكل سيف نبوة، ولكل عالم هفوة، ولكل صديق جفوة، ولكل جواد كبوة.فالجواد إذا عثر يقال: كبا، والصديق إذا بعد يقال: جفا، والسيف إذا لم يصب يقال: نبا، والعالم إذا أخطأ يقال: هفا، ولا يسلم أحد من ذلك.الشاهد: أن الشاعر يريد أن يسخر من بني عبس، فجمع ما بين الأمرين اللذين نريد إثباتهما في القصة، فقال: فسيف بني عبس وقد ضربوا به فتكلم عن الجماعة ثم أفرد فقال: بيدي ورقاء، وورقاء رجل واحد.فهذا من الأدلة على أن العرب تذكر الجمع وتريد به الإفراد.
والأمر الثاني: أن الإنسان إذا أيد قولاً فإنه يصبح كالمشارك فيه، فالجاهليون فرحوا بقول عبد الله بن الزبعرى فكانوا شركاء معه، قال الله جل وعلا: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس:١٢]، وقال: (فعقروها) فذكر فرداً، وذكر جماعة؛ لأنهم كانوا راضين عن صنيع من عقر الناقة، فالذي ضرب المثل هو عبد الله بن الزبعرى.قال الله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:٥٧ - ٥٨]، ثم قال الله بعد هذه بآيتين: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:٦١]،
وفي قراءة: (وإنه لَعَلَم للساعة).والأولى هي المشهورة عندنا.{وَإِنَّهُ} [الزخرف:٦١] الضمير في (إنه) يعود على عيسى، هذا أرجح الأقوال، ولا ينبغي أن يقال غيره، وإن كان بعض العلماء قد قال بغيره لكنه بعيد جداً، فسنبقيه على عيسى.{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:٦١] يحتمل معنيين: الجمهور على أن معناه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:٦١] أي: وإنه أمارة وعلامة من علامات الساعة، أي: نزول عيسى علامة من علامات الساعة، وهذا تؤيده السنة.وقال آخرون -وهو منسوب لـ مجاهد فيما أظن وغيره لكنه بعيد-: إن المعنى: إن قدرة عيسى على إحياء الموتى دلالة على قدرة الله على إحياء الناس؛ لأن الذي أعطى عيسى القدرة هو الله، لكن هذا القول بعيد، والصواب: أنه أمارة من أمارات الساعة
كتاب دروس للشيخ صالح المغامسي
المكتبة الشاملة
[التعريف بالسورة وسبب تسميتها بسورة الزخرف]
هذه وقفات علمية مع بعض الآيات من سورة الزخرف،
المقصود منها: الإثراء العلمي من هذه الآيات المباركات
.الوقفة الأولى: وتعنى بالتعريف بالسورة الكريمة، وسبب تسميتها بـ (سورة الزخرف)؟ الشيخ: الحمد لله.سورة الزخرف سورة مكية، وهي ضمن سياق سبع سور متتابعات تسمى هذه السور المتتابعات بسور (آل حم)، كما تسمى بديباج القرآن، وتبدأ بغافر وتنتهي بالأحقاف، وكلهن مبدوءات بقول الله جل وعلا: (حم)، وسميت (ديباج القرآن)؛ لأنها لم تتضمن أحكاماً، وكلهن سور مكية.
وبعض أهل الفضل يسميها: الحواميم، والأفضل أن يقال: سور (آل حم).وسميت بسورة (الزخرف)؛ لورود كلمة الزخرف فيها، وكلمة (الزخرف) وردت في هذه السورة لبيان حقارة الدنيا،
وقد ردت كلمة الزخرف في القرآن قبل سورة الزخرف ثلاث مرات في ثلاثة مواضع:
قال الله جل وعلا في سورة الأنعام: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:١١٢]، وقال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه في سورة يونس: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس:٢٤]، وقال تبارك وتعالى في الإسراء: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:٩٣] فوردت كلمة (زخرف) في الإسراء وفي يونس وفي الأنعام، ووردت في هذه السورة المباركة، وبها سميت سورة الزخرف.ومعنى الزخرف في اللغة: كمال الزينة مع الحسن، وإذا قيل (شيء مزخرف) أي: شيء مزين.
وقفة مع قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)
[الرد على المعتزلة في زعمهم أن القرآن مخلوق]
.الوقفة الثانية: مع قول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:٣].وسيتم التفصيل حول معنى الفعل (جعل) في القرآن؟ وأنتم تسمعون بالمعتزلة، وهي فرقة تنسب إلى الإسلام، وتقوم على بنود خمسة، وهي معتقدات خمسة عندهم.ولا ينفع يا بني أن تقول: المعتزلة ضلال، المعتزلة بعيدون، فأقول: نعم؛ المعتزلة ضلال بعيدون، لكن لن تستطيع أن تدافع عن رأي حتى تتصف بصفتين: تقتنع به، وتفهمه، فلا بد أن تفهم ما تدافع عنه، ولا بد أن تكون مقتنعاً به، فليس كل ما فهمته اقتنعت به، فقد تفهم السورة جيداً لكنك لا تقتنع بها، وقد تفهم المثال جيداً لكنه غير مقنع، فحتى تكون مقتنعاً في دفاعك عن أهل السنة سلك الله بنا وبك في سبيلهم،
والرد على المعتزلة لابد من أمرين: اقتناعك بمذهبك وبطريقة أهل السنة، مع فهمك لأقوالهم، وفهمك لأقوال معارضيهم حتى تتمكن.
فالمعتزلة فرقة تقوم على خمسة أشياء بالأكثر:
على التوحيد، وهم يسمونه التوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين،
ومن ضمن ما قالته المعتزلة: إن القرآن مخلوق، وهذا من أعظم خلافهم مع أهل السنة فقد زعموا أن القرآن مخلوق،
ولهم أدلة منها: أن الله قال في الزخرف: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:١ - ٣]، فقالوا: أنتم تكابرون، فالله يقول: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١]، ومعنى ذلك: خلق الظلمات والنور.والله جل وعلا يقول: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:١]، ويقول في آية أخرى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:١٨٩]، أي: خلق منها زوجها، فيقولون في مخاطبتهم لنا: علامَ الكبر؟
الله يقول: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:٣]، (وجعل) بمعنى: خلق، فلماذا تكابرون وتقولون: إن القرآن غير مخلوق؟ فهذا هو الإشكال.
وقبل أن نتكلم عن الفعل (جعل) نأتي بنظائر حتى لا تصبح المسألة مسألة عاطفة.فهناك أفعال وكلمات في اللغة لا يظهر معناها إلا من سياق الجملة، بمعنى: أنها في كل سياق لها معنى، ومثال ذلك: أنك أنت قد تكون واقفاً وزميلك يستعجل بك ويقول: هيا نذهب، هيا الموعد فات، فأنت تقول له: أنظرني؟ ومعنى أنظرني: أمهلني، فقد جاء ذكرها في القرآن: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣]، أي: أمهلونا، وانتظرونا، حتى نصل إليكم فنأخذ منكم نوراً.وقد يأتيك رجل وأنت عندك ابنة فيقول لك: أريد أن أخطب ابنتك منك، فقلت له: سأنظر في الأمر، أي: أفكر فيه، إذاً: (نظر) الأولى غير (نظر) الثانية، مع أن الفعل واحد وهو: نظر، لكن قولك: نظرت في الأمر عندما تعدت بحرف جر غير (نظر) بمعنى من غير تعدٍ (لازم)، فأصبحت بمعنى: أمهلني، وهنا أصبحت بمعنى: أتفكر وأتدبر، قال الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:١٨٥] يعني: يتدبرون.نأخذ مثالاً آخر: تقول للرجل: إلامَ تنظر؟ فيقول لك: أنظر إلى تلك الكتابة المعلقة، فهو يقصد النظر بالعين الباصرة الحقيقية، وتقول: نظرت إليك، أي: أبصرتك، والفعل هو نفسه.
والله جل وعلا يقول: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:١٣]، ومعنى (استويتم عليه) أي: ركبتم وعلوتم، ويقول وهو أصدق القائلين في القرآن: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:١٤]، هل في أحد عاقل يقول: ولما بلغ أشده وركب، فمعنى استوى: كَمُل ونضج.ويقول جل وعلا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:٢٩]، وهنا ليست بمعنى: علا، وليست بمعنى كمل، وإنما بمعنى: انصرف إلى وقصد، فتعددت المعاني والفعل واحد وهو: استوى، لكن من السياق عرفنا أن له عدة معانٍ.
[استخدامات الفعل (جعل) في القرآن]
والآن نعود إلى الفعل (جعل) وننظر استخدامه في القرآن حتى نحكم عليه.فنقول: إذا تأملنا الفعل (جعل) في القرآن وجدنا له أحوالاً ثلاثة تقريباً، فيأتي بمعنى: خلق، وهذا إذا تعدى الفعل (جعل) إلى مفعول به واحد، قال ربنا: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:١٨٩] والمفعول: (زوج)، وقال جل وعلا: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١] المفعول: الظلمات، فإذا جاء الفعل (جعل) متعدياً إلى مفعول به واحد يصبح بمعنى: خلق.وقد يتعدى إلى أكثر من مفعول، فإذا تعدى إلى أكثر من مفعول لا يلزم أن يصبح (جعل) بمعنى خلق، وإنما يصبح بمعنى يدل عليه السياق، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:١٩]، أي: أن المشركين زعموا أن الملائكة إناثاً، ثم قالوا: إنهم بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.فمن المستحيل أن يفهم أحد المعنى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:١٩] أن معناها: أن القرشيين خلقوا الملائكة، ولا القرشيون أرادوا هذا، لكن معنى (جعلوا) هنا: سموا،
والدليل: أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:٢٧]، وهو قولهم: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:١٩].والله جل وعلا يقول على لسان أهل الإشراك في ردهم على نبينا صلى الله عليه وسلم لما جاء بالتوحيد، قالوا كما قال الله في سورة ص: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥]، فلا يمكن أن يفهم أن معنى قول قريش كما حكى الله في كتابه: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥] أن قريش تقول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم خلق الآية وخلق ربه، فهذا لا يقول به أحد، وإنما (جعل) هنا: ليس بمعنى خلق، وإنما بمعنى: صير واتخذ.
نعود الآن نطبق على الآية التي بين أيدينا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:٣]، (عربياً) صفة تابعة، والتابع يأخذ حكم المتبوع، فلا علاقة لنا بها، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا} [الزخرف:٣] فالضمير (الهاء) مفعول أول، وقرآناً مفعول ثانٍ، أي: صيرناه قرآناً عربياً، فهنا ليس بمعنى خلق، إنما بمعنى: صير، وكونه مصير لا يعني أنه مخلوق، هذا بحسب حاله من قبل، فنرجع إلى بقية القرآن،
فقد قال عن القرآن: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:١]، وقال: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:٢]، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:١٩٢].ففهمنا: أن القرآن منزل غير مخلوق، فبهذا يرد على قول المعتزلة: إن (جعل) بمعنى: خلق، فكلمة (جعل) إذا تعدت إلى مفعول واحد صارت بمعنى: خلق، وإذا تعدت إلى مفعولين ننظر في السياق، فأحياناً تكون بمعنى سمى، وأحياناً تكون بمعنى: صير واتخذ، ثم يكون ذلك المصير والمتخذ، بحسب حاله من قبل،
ومحكم القرآن يثبت: أن القرآن منزل غير مخلوق.
ومن الأدلة الأخرى أن الله جل وعلا من صفاته: أنه يتكلم متى شاء بما شاء إذا شاء، والكلام صفة من صفاته، والكلام في الذات كالكلام في الصفات، والكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أن لله ذاتاً ليست كذات غيره، فله جل وعلا صفات تليق بجلاله وعظمته ليست كصفات غيره، وهو جل وعلا يتكلم بما شاء، فالكلام صفة من صفاته، والقرآن من كلامه، قال جل وعلا: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦]، الله يقول: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦]، فسمى القرآن كلامه، ولا محيد عن كلام ربنا، وأهل الأصول يقولون: والاجتهاد في محل النص كتارك العين لأجل القص
[معاني لفظة (أم) في اللغة والقرآن]
.الوقفة الثالثة:معنى قول الله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:٤]
نبدأ باللغويات: (الأم) في اللغة: إزاء الأب، وتطلق في حقيقتها على الوالدة التي ولدت، ثم انتقل إلى إطلاقها على أكثر من ذلك، فتطلق على الوالدة القريبة وهي أمك مباشرة، وعلى الوالدة البعيدة مثل الجدات، ولهذا يقال عن حواء: أمنا؛ لأنها ولدتنا أجمعين، وإن كانت ولادة غير مباشرة.وبعض اللغويين كـ الخليل بن أحمد يقول: إن الأم كل شيء ضم إليه ما حوله، هذا من الناحية اللغوية.
وأما كلمة (أم) في القرآن: فوردت على معانٍ عدة، نذكر بعضاً منها: وردت بمعنى (الأم) التي ولدتك، ومنه قول الله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:٤٠]، ولا ريب أن أم موسى هي التي ولدته.
وورد في القرآن لفظ (الأم) بمعنى أصل الشيء، قال الله تبارك وتعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:٧] أي: أصل الكتاب.
وجاءت بمعنى (المآل)، قال الله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:٩] أي: منقلبه إلى الهاوية.
وجاءت بمعنى (الظئر)، وهي المرضعة، قال الله جل وعلا: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:٢٣] فليست أمك التي ولدتك، وإنما هي المرضعة.
وجاءت الأم مقصود بها مكة، قال الله جل وعلا: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الشورى:٧].
وأم الكتاب هي الفاتحة.
وأطلق كذلك في القرآن على أمهات المؤمنين اللاتي هن أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم.
هذا معنى كلمة (أم) في اللغة على وجه التوسع؟
قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:٤]،
وللعلماء رحمهم الله قولان في معنى الآية:
قول يقول: معنى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:٤] أي: أن هذا القرآن منسوخ في اللوح المحفوظ، أي: مكتوب في اللوح المحفوظ، ويدل عليه قول الله جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:٧٥ - ٧٩].وقوله جل وعلا: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:١٥ - ١٦]، هذه شواهد.وقال آخرون: ليس المقصود: أنه منسوخ في اللوح المحفوظ، وإنما المقصود: أن ذكره في اللوح المحفوظ ذكر عليّ وجليل، والمعنى الأول -والعلم عند الله- أقرب إلى الصواب
وقفة مع قوله: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً)
الوقفة الرابعة: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:٥]، وسيبين فيها معاني الضرب في القرآن.
الشيخ: كلمة الضرب في اللغة تأتي بمعنى النوع والصنف، وتأتي في اللغة بمعنى الرجل الخفيف القليل اللحم،
قال طرفة: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني خشاش كرأس الحية المتوقد وعلمياً: يجوز الاستشهاد بقول طرفة؛ لأنه من العصر الجاهلي،
وأما المتنبي: أو أحمد شوقي فلا يجوز الاستشهاد بهما؛ لأنهما بعد زمن الاحتجاج، والاحتجاج تقريباً إلى سنة مائة وعشرين هجرية، فالجاهليون أقوى حجة في شعرهم، فإذا احتجنا إلى شيء نستشهد به فإننا نرجع إلى شعر الجاهلية.
[معاني لفظة (ضرب) في القرآن]
نعود فنقول: هذا في اللغة، وأما في القرآن فقد ورد الضرب على معانٍ منها: السير في الأرض، قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:١٠١]، وقال: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:٢٠]، وقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة:٢٧٣] أي: سيراً في الأرض.
ويأتي الضرب بمعنى (الإيذاء)، ويكون في القرآن على نوعين: ضرب بالسيف، كما في قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال:١٢]، ويكون بالسوط أو بالشيء اليسير أو باليد، ومنه قوله تعالى في تهذيب النساء: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:٣٤].
وتأتي (ضرب) في القرآن بمعنى الالتصاق واللزوم، قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [البقرة:٦١]، وقال الله جل ذكره: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:١١].
وأما هنا: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:٥] أي: أفنعرض، والمقصود من الآية: أن القرشيين أسرفوا على أنفسهم في الذنوب وردوا كلام الله وكلام رسوله، فالله جل وعلا يقول لهم: إن إعراضكم ليس مسوغاً في أن نترك إنذاركم.{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:٥]، هذه صفحة العنق، والإنسان إذا أعطى صفحة عنقه لأحد فكأنه أعرض عنه،
وإعطاؤك صفحة العنق للناس يكون لأحد سببين: إما كبراً، وهو الأغلب، وإما تغافلاً، وهو الأقل، لكنه يقع، يعني: يكون الشيء موجوداً وأنت تتغافل عنه،
لكن العلماء اختلفوا في معنى الذكر هنا على قولين: قال بعضهم: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:٥] أي: القرآن والمواعظ والذكر، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن الذكر هنا هو ذكر العذاب، أي: أفنترك عذابكم لكونكم كنتم قوماً مسرفين، وأياً كان المقصود، فإن المعنى من الآية إجمالاً يقارب قول الله جل وعلا: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:٣٦].
[وقفة مع قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)]
الوقفة الخامسة: مع قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣١ - ٣٢].
الشيخ: الآن تتعلم من الآية -أعاننا الله وإياك- كيفية الرد على المخالف،
فالقرية إذا وردت في القرآن فهي بمعنى: المدينة، والله يقول هنا: (وقالوا) أي: القرشيون، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:٣١]، فهم يقولون: إن محمداً نشأ يتيماً فالأولى ألا ينزل القرآن على يتيم، وكانوا يزعمون أنه كان ينبغي أن ينزل القرآن على رجل عظيم من القريتين، وقصدوا بالقريتين مكة والطائف.
وقيل: إنهم قصدوا بالرجلين: عروة بن مسعود والوليد بن المغيرة،
وأياً كان المقصود من الرجال فهم يقولون: إن محمداً لا يستحق أن يعطى النبوة والرسالة ويختم به الأنبياء، فالله جل وعلا رد عليهم فقال: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:٣١ - ٣٢]، فهذا استفهام إنكاري،
ثم قال بعدها: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٢]، فالآن هؤلاء القائلون بهذا القول يعترفون بأن الذي يوزع الأرزاق ويقسمها هو الله،
فالقرشيون مؤمنون: أن الذي قسم الأرزاق وجعل هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا حراً وهذا عبداً، وهذا خادماً وهذا مخدوماً، وهذا سيداً وهذا تابعاً، مؤمنون أن الذي يفعل هذا هو الله، ويؤمنون أن الأرزاق من الله،
فالله يقول لهم: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٢].فإذا كان الله جل وعلا في مسائل الرزق العادي لم يكلها إليكم، فكيف يكل إليكم تقسيم النبوة! فإعطاء النبوة أعظم من إعطاء الأرزاق، وقسمة النبوة بين الخلق أعظم من قسمة المعيشة،
فالله يقول لهم: أنتم مقرون أن الأرزاق إنما قسمها بينكم الله، فكيف يعقل أن تطالبوا بشيء لا يمكن أن تنالوه، فإذا كان الله لم يكل إلى أحد من خلقه أن يقسم أرزاق الناس طعاماً وشراباً وإيواءً وسكنى، فكيف يكل الله إلى غيره أن يقسم النبوة، والنبوة أعظم من أرزاق الناس.{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:٣٢] كما هو ظاهر اختلاف الناس، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:٣٢] (سُخرياً) هنا بمعنى: الخدمة، مبرأة من الاستهزاء،
فالمقصود: أن الله جل وعلا جعل الناس بعضهم لبعض خدماً؛ حتى تقوم الحياة، فكما تحسنه أنت لا يحسنه غيرك، وما يحسنه غيرك لا تحسنه أنت،
لكن تأمل قول الله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٢] نبه بالأدنى على الأعلى، ((لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا))،
ثم قال الله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣٢].واختلف العلماء في معنى الرحمة هنا، والذي أراه -والعلم عند الله- أن المقصود بها: الجنة؛ لأنه لا يظهر الفرق بين رحمة الله وبين ما يجمعون إلا إذا كان شيئاً خالداً وشيئاً غير خالد، والجنة نعيمها خالد بخلاف متاع الدنيا فإنه مهما عظم فهو غير خالد، فيكون معنى قول الله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣٢] يعود على الجنة في أظهر أقوال العلماء
[وقفة مع قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب)]
الوقفة السادسة: مع قول الله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:٣٩]، حيث تعنى الوقفة ببيان أحوال النار -أعاذنا الله منها-.الشيخ: النار هي الخزي الأعظم، وما فر هارب من شيء مثل النار، وكل بلاء دون النار فهو عافية، لأن الخزي الأكبر في النار.
فهنا الله جل وعلا ينكل بأهل النار قائلاً: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:٣٦ - ٣٨] ثم قال الله: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:٣٩].
فالمقصود من الآية: أن أهل النار عياذاً بالله محرومون حتى من التأسي.والتأسي والتسلي أن يرى الإنسان مصيبة غيره فيتعزى بها عن مصيبته، وهذا من أعظم ما يهون مصائب الدنيا، وأي أحد في الدنيا لديه مصيبة لو أراد أن يرى أحداً أعظم منه لوجد، أو أحداً نظيراً له في مصيبته لوجد،
تقول الخنساء وقد فقدت أخاها صخراً: يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل مغيب شمس ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي فمن أعظم ما يخفف المصائب: التأسي، وذلك أن الإنسان يتذكر أن مثل هذه المصيبة تقع في غيره، لكن الله جل وعلا يحرم أهل النار عياذاً بالله من هذا، فلا يجدون تأسية، قال الله: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:٣٩]، مع أن الاشتراك في المصيبة ينفع في الدنيا، لكن عذاب الآخرة -عياذاً بالله- لو اشترك فيه أهل الأرض جميعاً فلا ينفع ذلك فيه، إذاً فالمعنى المقصود من الآية نفي وجود التأسي في أهل النار.
وقفة مع قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك)
الملقي: الوقفة الأخيرة: وهي مع قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:٥٧]، حيث تعنى الوقفة بما يلي:
أولاً: بيان ضارب المثل.
ثانياً: الجمع بين الإفراد والجمع في الآية التي بعدها.
ثالثاً: إظهار المعنى الأرجح لقوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:٦١].
الشيخ: هذه الآيات نختم بها، وهي هامة جداً في أن تتصورها علمياً، ولا يمكن فهم القرآن بغير السنة، وسورة الزخرف قلنا: إنها سورة مكية، ومن السور المكية سورة مريم، وسورة مريم فيها ثناء على عيسى، وإخبار أن النصارى عبدت عيسى.ومن السور المكية سورة الأنبياء، قال الله في الأنبياء: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨]، وقد كان هناك صراع بين النبي صلى الله عليه وسلم والملأ من قريش، فذات مرة كان هناك رجل قرشي اسمه عبد الله بن الزبعرى، وعبد الله هذا أسلم بعد ذلك حتى لا أحد يقع فيه، لكنه قبل إسلامه كان بليغاً فصيحاً ورجلاً ذا جدل، فجلس مع المكيين، فالمكيون يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:٩٨]، فقال لقريش: للوليد وأبي جهل: فسكتم؟ قالوا: سكتنا، قال: أما تعرفون كيف تردون؟ قالوا: كيف نرد؟! قال: ألم يثن محمد على عيسى؟ قالوا: نعم، فقال: إن محمداً يقول: إن الآلهة ومن يعبدها في النار، ونحن نرضى أن نكون مع آلهتنا في النار إذا كان عيسى مع من يعبده في النار، فيكفينا فخراً أن نكون نحن وآلهتنا والنصارى وعيسى في النار، وكلام محمد متناقض؛ لأنه يقول لكم: إن عيسى نبي ومرسل ومصدق، ويقول في نفس الوقت: إن عيسى في النار.ففرح القرشيون بكلامه وضجوا.
والآية فيها قراءتان: قال الله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:٥٧] (يصِدون) -بالكسر- و (يصُدون) بالضم، معناه: يضجون بالحديث، فإذا قلنا: إن الآية في قراءة (يصدون) أصبحت منه، أي: بسببه، وإذا قلنا: يصدون بالكسر، تصبح منه هنا: أي عنه، أي: يعرضون عنه.فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وفرح القرشيون، أنزل الله جل وعلا قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:١٠١]، مع أنه ليس لـ عبد الله بن الزبعرى حجة فيما قال؛ لأن الآية تتكلم عن غير العاقل: (إنكم وما تعبدون).يقول الله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف:٥٧] الذي ضرب المثل هو عبد الله بن الزبعرى السهمي، وضرب المثل بعيسى، قال الله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:٥٧] أي: يعرضون عنك، وقالوا في مثلهم: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف:٥٨] يعني: نقبل أن تكون آلهتنا مثل عيسى في الحال، قال الله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:٥٨]؛ لأن أمرهم هذا لا يقوم على حجة؛ لأن (ما) في قول الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:٩٨] تدل على غير العاقل.
[إشكال وجوابه]
لكن يبقى إشكال وهو: أن الله قال: (ما ضربوه) بواو الجماعة،
ونحن قلنا: إن الذي ضرب المثال رجل واحد وهو عبد الله بن الزبعرى،
والجمع أن يقال: هناك أمران: الأمر الأول: أن العرب جرى في كلامها أنها تطلق الفرد وتريد الجماعة، وتطلق الجماعة وتريد الفرد،
قال قائلهم: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد ومعنى البيت: أنه كان هناك رجل اسمه ورقاء بن جهير، فجاء رجل اسمه خالد فقتل: جهيراً والد ورقاء، فغضبت قبيلته بنو عبس، فجاء ورقاء ينتقم لأبيه، وأخذ السيف وهو رجل واحد، وأراد أن يضرب خالداً لكن السيف نبا، أي: أخطأ ولم يصب، والعرب تقول: لكل سيف نبوة، ولكل عالم هفوة، ولكل صديق جفوة، ولكل جواد كبوة.فالجواد إذا عثر يقال: كبا، والصديق إذا بعد يقال: جفا، والسيف إذا لم يصب يقال: نبا، والعالم إذا أخطأ يقال: هفا، ولا يسلم أحد من ذلك.الشاهد: أن الشاعر يريد أن يسخر من بني عبس، فجمع ما بين الأمرين اللذين نريد إثباتهما في القصة، فقال: فسيف بني عبس وقد ضربوا به فتكلم عن الجماعة ثم أفرد فقال: بيدي ورقاء، وورقاء رجل واحد.فهذا من الأدلة على أن العرب تذكر الجمع وتريد به الإفراد.
والأمر الثاني: أن الإنسان إذا أيد قولاً فإنه يصبح كالمشارك فيه، فالجاهليون فرحوا بقول عبد الله بن الزبعرى فكانوا شركاء معه، قال الله جل وعلا: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس:١٢]، وقال: (فعقروها) فذكر فرداً، وذكر جماعة؛ لأنهم كانوا راضين عن صنيع من عقر الناقة، فالذي ضرب المثل هو عبد الله بن الزبعرى.قال الله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:٥٧ - ٥٨]، ثم قال الله بعد هذه بآيتين: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:٦١]،
وفي قراءة: (وإنه لَعَلَم للساعة).والأولى هي المشهورة عندنا.{وَإِنَّهُ} [الزخرف:٦١] الضمير في (إنه) يعود على عيسى، هذا أرجح الأقوال، ولا ينبغي أن يقال غيره، وإن كان بعض العلماء قد قال بغيره لكنه بعيد جداً، فسنبقيه على عيسى.{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:٦١] يحتمل معنيين: الجمهور على أن معناه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:٦١] أي: وإنه أمارة وعلامة من علامات الساعة، أي: نزول عيسى علامة من علامات الساعة، وهذا تؤيده السنة.وقال آخرون -وهو منسوب لـ مجاهد فيما أظن وغيره لكنه بعيد-: إن المعنى: إن قدرة عيسى على إحياء الموتى دلالة على قدرة الله على إحياء الناس؛ لأن الذي أعطى عيسى القدرة هو الله، لكن هذا القول بعيد، والصواب: أنه أمارة من أمارات الساعة
كتاب دروس للشيخ صالح المغامسي
المكتبة الشاملة