وقفة مع آية (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)للشيخ صالح المغامسي
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:٤٦]
.قال صلى الله عليه وسلم: (من أمسى معافى في بدنه آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما جمعت له الدنيا بحذافيرها).
هذه الحياة فيها ضروريات وفيها زينة زائدة على الضروريات،
فالضروريات وفق الشرع ثلاث: أن يكون الإنسان معافى في البدن.وأن يملك الإنسان قوت يومه.وأن يجد الإنسان أمناً ليعبد الله جل وعلا.وقد جمعها نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف، وما زاد عن ذلك فهو من زينة الدنيا،
ولهذا قال الله جل وعلا في آية الكهف: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:٤٦]، أي: ليس من الضروريات، فالإنسان يمكن أن يعيش دون أن يكون له ولد، ويمكن أن يعيش دون أن يكون له مال مدخر في البنوك ولا في المصارف ولا في البيوت، ولا في الصناديق ولا في أي شيء سواها.لكن لا ينغص العيش إلا عدم وجود قوت اليوم، أو السقم في البدن، أو الخوف وعدم الأمن عياذاً بالله من هذه الثلاث كلها.
فلما ذكر الله جل وعلا ضروريات الحياة بعد أن أرشد إلى زينتها جملة قال جل وعلا: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:٤٦].
ثمة مدركات يجب أن ينتبه لها المسلم وهو يتأمل ويتدبر هذه الآية الكريمة.قبل أن نشرع في هذه المدركات نبين أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في الباقيات الصالحات، فمنهم من حصرها بأنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.ولا ريب أن هذه من الباقيات الصالحات لكنها لا تستوعب الباقيات الصالحات كلها،
والأصل والصواب أن يقال: كل عمل صالح أريد به وجه الله جل وعلا فهو من الباقيات الصالحات
(الحياة الدنيا زهرة حائلة ونعمة زائلة)
أما التأمل في الآية تعمقاً فإننا نقول: إن الله يبين من هذه الآية أن الحياة زهرة حائلة ونعمة زائلة لا بد أن تنقضي، وما ادخره الإنسان في حياته الدنيا يتلاشى ويذهب إلا ما أريد به وجه الله جل وعلا فإنه يبقى له مدخراً يوم القيامة،
والواقع أعظم الشهود فعندما يموت الرجل أو المرأة فأول ما ينسى منه اسمه، فإن الناس إذا مات الميت وجاءوا ليسألوا عنه قبل أن يغسل يقولون: أين الجثة؟ لا يقولون: أين فلان! ثم ينتقل الإنسان إلى مرحلة ثانية، فإذا غسل تركوا جسده كما تركوا اسمه.فالذي يريد أن يسأل عنك لن يقول: أين الجثة؟ ولا يقول: أين الاسم ولا أين فلان وإنما يقول: أين الجنازة؟ فينسبونك إلى الخشبة التي تحملك يقول: تبعت الجنازة، صلوا على الجنازة، أين الجنازة؟ قدموا الجنازة، أخروا الجنازة، هاتوا الجنازة.وبعد أن يترك بعد اسمك وجسدك تترك بالكلية، فإنه يوضع الميت في قبره فلا يقال له بعد وضعه في القبر جثة، وإنما يقولون: ميت، مصداقاً لقول الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠]، فيذكر ويترحم عليه إن كان من المؤمنين.والغاية من هذا كله أن يسعى الإنسان في شيء باق، وهذا أعظم ما يعينك على أن تأتي الباقيات الصالحات، وهو علمك بمصيرك وأنك كما قال الرب جل وعلا في كتابه: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦]، فلا بد من ملاقاة الله، جعلنا الله وإياكم ممن طال عمره وحسن عمله.
[الباقيات الصالحات توفيق من الله تعالى]
الأمر الثاني: أن تعلم أن الباقيات الصالحات توفيق من الله، وأن الهداية نور من الله يضعه الله جل وعلا في قلب من يشاء لا يناله أحد بعلمه ولا بجهده ولا بسعيه ولا بغدوه ولا برواحه، قال الحق تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠].ولقد شبه الله جل وعلا قلب المؤمن بالكوة التي في الجدار والتي فيها مصباح، فالكوة نفسها هي قلب المؤمن والمصباح الذي فيها يضيء من خلال زيت، فيجتمع فيه سببان لأن يضئ، المصباح سبب، وهذا المصباح متكئ على سبب آخر هو الزيت، فالزيت تفسيره: هي الفطرة التي جعلها الله جل وعلا في قلوب الناس، والمصباح هي الآيات البينة التي أنزلها الله على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم.وهذه الفطرة تكاد تهدي صاحبها من غير دليل كما أن الزيت يكاد يضيء من غير نار، فتشع هذه الفطرة مع آيات الله البينات في قلب المؤمن.والكوة أمر مقوس محفوظ، فالشعاع فيه يبقى ظاهراً ممتلئاً، وكذلك قلب المؤمن يشع بنورين نور الفطرة التي فطره الله جل وعلا عليها ونور آيات بينات استفاد منها وجعلها الله جل وعلا في قلبه.ولا سبيل إلى الفطرة ولا إلى الآيات البينات إلا بالله تبارك وتعالى،
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله فكيف يوصل إلى الله بغير الله؟ قال: فإذا كان النور يهدي إلى الله فإنه لا ينكر أن يطلب إلا من الله،
قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:٣٥]،
ثم قال الله الكلمة التي توجب على العبد أن يستكين بين يدي ربه قال جل وعلا: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥].إن العبد إذا تأمل من حرم من هذا النور يعلم أنه فضل من الله، فكم من أستاذ جامعي لا تكاد توجد لغة إلا ويجيدها تتسابق إليه الفضائيات وتتزاحم عليه القنوات وله المال الوفير والجاه العظيم لكن غاب عنه نور الله جل وعلا فلم تكتحل عيناه يوماً بالسجود لرب العالمين تبارك وتعالى.
فانظر فيما وصل وعما ضل حتى تعلم أن قول الحق: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥]، يستوجب أن يستكين العبد بين يدي مولاه،
يسأل الله جل وعلا بكرة وعشية أن يهديه إلى نوره المبين وإلى صراطه المستقيم قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢].
[الله وحده من يعلم الغيب]
الأمر الثالث من المدركات حول الباقيات الصالحات: أن تعلم أن الله جل وعلا وحده من يعلم الغيب كله، فكم من إنسان يسعى في أمر يؤمل خيراً فيلقى ضده، وكم ممن يؤمل غير ذلك فيلقيه الله جل وعلا الخير، ومن علم أن الغيب كله لله اطمأنت نفسه وسكن قلبه ولم يركن إلى أحد من الدنيا يتكئ عليه: واشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه كان بينه وبين عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف نزاع حول الخلافة، فـ عبد الله في الحجاز وعبد الملك في الشام، وكان في الحجاز رجل يقال له كعب الأحبار يهودي أسلم أوتي علماً جماً من علم الكتاب الأول.فكان يسكن مع عبد الله بالحجاز في مكة ويحدث عبد الله ببعض ما هو كائن، فكان مما عبد الله بن الزبير أخبره أنه سيموت ويقتل على يد رجل من ثقيف، قال: يا عبد الله يقتلك رجل من ثقيف! فلما ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي من أهل الطائف وعلا شأنه أمر عبد الله بن الزبير أخاه مصعباً أن يقاتل المختار فقتل مصعب المختار الثقفي، وبعث برأسه إلى عبد الله بن الزبير، فلما وضع رأس المختار الثقفي بين يدي عبد الله بن الزبير قال رضي الله عنه دون أن يدري كل ما أخبرني به كعب الأحبار وجدته رأي العين إلا قوله إنه سيقتلني شاب من ثقيف وما أراني إلا قتلته.وما درى عبد الله رضي الله عنه وأرضاه أن الله خبأ له في القدر الحجاج بن يوسف الثقفي، فمرت أيام وتوالت أعوام فبعث عبد الملك الحجاج بن يوسف وحاصر مكة، وكان من أمره أنه قتل عبد الله بن الزبير، فوقع ما أخبر به كعب من قبل.موضع الشاهد من القصة أن الإنسان لا يعلم الغيب، وما دام لا يعلم الغيب فليس له مفر إلا إلى الله جل وعلا.وهذا العلم في هذه الآية بينه الله جل وعلا في خاتمة سورة هود قال الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:١٢٣]، فإن من أعظم ما يعين على إتيان العمل الصالح أن تستسلم لأمر الله تبارك وتعالى، وأن ترضى بقضائه وقدره، وأن تعلم أن الغيب طوي عنك، {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:٦٥].
[المسارعة إلى العمل الصالح]
فهذا يعينك برحمة الله على المسارعة في الباقيات الصالحات.ثم تنتقل في هذه المدركات إلى أمر عظيم، وهو المسارعة إلى العمل الصالح وانتهاز الفرص.
والناس في هذا الباب طرائق شتى كما أخبر الله جل وعلا قال سبحانه: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:٤].فمن الناس من يتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة ليل نهار، جاء في سيرة نبي الله إدريس عليه الصلاة والسلام أن الملائكة كانت تعجب منه، يرفع لإدريس وحده من الأعمال الصالحة ما يرفع لأهل الأرض كلهم من أهل زمانه، فكانت الملائكة تغبط إدريس على هذا العمل.ومن تأمل سير الأخيار وطرائق الأبرار وجد كثيراً من ذلك، فمن ذلك الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ففي حادثة الإفك كانت المتهمة بالإفك هي ابنته عائشة رضي الله عنها وأرضاها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان الصديق رضي الله عنه وأرضاه على سقف بيته يقرأ القرآن فيسمع بكاء ابنته عائشة وبكاء أمها أم رومان، فتذرف عيناه ويبكي ويقول: هذا والله أمر ما رمينا به في جاهلية ولا إسلام! ومع ذلك يمكث شهراً كاملاً يستحيي رضي الله عنه وأرضاه أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمه في الأمر رغم أن الشأن شأن ابنته رضي الله عنها وعن أبويها.فهذا عمل صالح قد لا يخطر على بال أحد.وكذلك أنت أيها المؤمن! في طريقك إلى الله لا تدعن عملاً تستطيع أن تعمله تعرف أن فيه رضوان الرب جل وعلا، قد تخرج من مسجد أو من مكتبة أو من مكان موصول بالإيمان فتجد رجلاً يبيع السواك وعندك في بيتك منه ما يغني؛ لكنك تتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)، فتشتريه أملاً أن تنال رضوان الله جل وعلا.وليس المقصود ضرب الأمثال، وإنما المقصود تنبه الناس، ألا ترى إلى نبي الله يونس لما وضع في بطن الحوت وكان في الظلمات الثلاث ثم حرك أطرافه فوجدها تتحرك فعلم أنه حي فأسمعه الله جل وعلا تسبيح الحصى والثرى لرب السموات العلا، فبادر عليه السلام يتخذ في ذلك المكان عملاً صالحاً فسجد،
فورد أنه قال: (اللهم إنني اتخذت لك مسجداً في مكان ما أظن أن أحداً عبدك فيه).وكم من بقعة في الأرض يغلب على الظن أن أحداً لم يعبد الله جل وعلا فيها، فإن أوتيتها اختياراً أو اضطراراً فلا تنس أن تعبد الله جل وعلا فيها، تدخر فيها لنفسك عملاً صالحاً، قال لي أحد الفضلاء يوماً وهو يريد أن يعمل ما يسمى بالأشعة المقطعية وهم يضعونه في أشبه بالتابوت في داخل الجهاز ليمكث ٤٥ دقيقة؛ قال لي: يا أبا هاشم أوصني قبل أن أدخل وكان يخشى أن تطفأ الكهرباء فيموت! قلت له: إن استطعت أن تصلي في هذا المكان ركعتين ولو مستلقياً فافعل، فإنني لا أظن أحداً عبد الله في مثل هذا المكان.الغاية من هذه النصيحة لي ولكم أن يأتي الإنسان إلى موطن يغلب على الظن أنه لم يسجد لله جل وعلا سجدة، ويكون قد دخله كما قلت اختياراً أو اضطراراً فيتذكر قول الله جل وعلا: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:٤٦]، فيدخر لنفسه عملاً صالحاً يخلص لله فيه النية لعل الله جل وعلا أن يتقبل منه هذا العمل يوم يلقاه،
قال علي رضي الله عنه وأرضاه: إن الله أخفى اثنتين في اثنتين؛ أخفى أولياءه في عباده فلا تدري فيمن تلقاه أيهم ولي لله، وأخفى رضوانه في طاعته فلا تدري أي طاعة لك أطعت الله بها كانت سبباً في رضوان الله جل وعلا، فلا تحقرن من الأعمال الصالحة شيئاً.
كتاب دروس للشيخ صالح المغامسي
المكتبة الشاملة
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:٤٦]
.قال صلى الله عليه وسلم: (من أمسى معافى في بدنه آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما جمعت له الدنيا بحذافيرها).
هذه الحياة فيها ضروريات وفيها زينة زائدة على الضروريات،
فالضروريات وفق الشرع ثلاث: أن يكون الإنسان معافى في البدن.وأن يملك الإنسان قوت يومه.وأن يجد الإنسان أمناً ليعبد الله جل وعلا.وقد جمعها نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف، وما زاد عن ذلك فهو من زينة الدنيا،
ولهذا قال الله جل وعلا في آية الكهف: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:٤٦]، أي: ليس من الضروريات، فالإنسان يمكن أن يعيش دون أن يكون له ولد، ويمكن أن يعيش دون أن يكون له مال مدخر في البنوك ولا في المصارف ولا في البيوت، ولا في الصناديق ولا في أي شيء سواها.لكن لا ينغص العيش إلا عدم وجود قوت اليوم، أو السقم في البدن، أو الخوف وعدم الأمن عياذاً بالله من هذه الثلاث كلها.
فلما ذكر الله جل وعلا ضروريات الحياة بعد أن أرشد إلى زينتها جملة قال جل وعلا: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:٤٦].
ثمة مدركات يجب أن ينتبه لها المسلم وهو يتأمل ويتدبر هذه الآية الكريمة.قبل أن نشرع في هذه المدركات نبين أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في الباقيات الصالحات، فمنهم من حصرها بأنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.ولا ريب أن هذه من الباقيات الصالحات لكنها لا تستوعب الباقيات الصالحات كلها،
والأصل والصواب أن يقال: كل عمل صالح أريد به وجه الله جل وعلا فهو من الباقيات الصالحات
(الحياة الدنيا زهرة حائلة ونعمة زائلة)
أما التأمل في الآية تعمقاً فإننا نقول: إن الله يبين من هذه الآية أن الحياة زهرة حائلة ونعمة زائلة لا بد أن تنقضي، وما ادخره الإنسان في حياته الدنيا يتلاشى ويذهب إلا ما أريد به وجه الله جل وعلا فإنه يبقى له مدخراً يوم القيامة،
والواقع أعظم الشهود فعندما يموت الرجل أو المرأة فأول ما ينسى منه اسمه، فإن الناس إذا مات الميت وجاءوا ليسألوا عنه قبل أن يغسل يقولون: أين الجثة؟ لا يقولون: أين فلان! ثم ينتقل الإنسان إلى مرحلة ثانية، فإذا غسل تركوا جسده كما تركوا اسمه.فالذي يريد أن يسأل عنك لن يقول: أين الجثة؟ ولا يقول: أين الاسم ولا أين فلان وإنما يقول: أين الجنازة؟ فينسبونك إلى الخشبة التي تحملك يقول: تبعت الجنازة، صلوا على الجنازة، أين الجنازة؟ قدموا الجنازة، أخروا الجنازة، هاتوا الجنازة.وبعد أن يترك بعد اسمك وجسدك تترك بالكلية، فإنه يوضع الميت في قبره فلا يقال له بعد وضعه في القبر جثة، وإنما يقولون: ميت، مصداقاً لقول الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠]، فيذكر ويترحم عليه إن كان من المؤمنين.والغاية من هذا كله أن يسعى الإنسان في شيء باق، وهذا أعظم ما يعينك على أن تأتي الباقيات الصالحات، وهو علمك بمصيرك وأنك كما قال الرب جل وعلا في كتابه: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦]، فلا بد من ملاقاة الله، جعلنا الله وإياكم ممن طال عمره وحسن عمله.
[الباقيات الصالحات توفيق من الله تعالى]
الأمر الثاني: أن تعلم أن الباقيات الصالحات توفيق من الله، وأن الهداية نور من الله يضعه الله جل وعلا في قلب من يشاء لا يناله أحد بعلمه ولا بجهده ولا بسعيه ولا بغدوه ولا برواحه، قال الحق تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠].ولقد شبه الله جل وعلا قلب المؤمن بالكوة التي في الجدار والتي فيها مصباح، فالكوة نفسها هي قلب المؤمن والمصباح الذي فيها يضيء من خلال زيت، فيجتمع فيه سببان لأن يضئ، المصباح سبب، وهذا المصباح متكئ على سبب آخر هو الزيت، فالزيت تفسيره: هي الفطرة التي جعلها الله جل وعلا في قلوب الناس، والمصباح هي الآيات البينة التي أنزلها الله على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم.وهذه الفطرة تكاد تهدي صاحبها من غير دليل كما أن الزيت يكاد يضيء من غير نار، فتشع هذه الفطرة مع آيات الله البينات في قلب المؤمن.والكوة أمر مقوس محفوظ، فالشعاع فيه يبقى ظاهراً ممتلئاً، وكذلك قلب المؤمن يشع بنورين نور الفطرة التي فطره الله جل وعلا عليها ونور آيات بينات استفاد منها وجعلها الله جل وعلا في قلبه.ولا سبيل إلى الفطرة ولا إلى الآيات البينات إلا بالله تبارك وتعالى،
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله فكيف يوصل إلى الله بغير الله؟ قال: فإذا كان النور يهدي إلى الله فإنه لا ينكر أن يطلب إلا من الله،
قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:٣٥]،
ثم قال الله الكلمة التي توجب على العبد أن يستكين بين يدي ربه قال جل وعلا: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥].إن العبد إذا تأمل من حرم من هذا النور يعلم أنه فضل من الله، فكم من أستاذ جامعي لا تكاد توجد لغة إلا ويجيدها تتسابق إليه الفضائيات وتتزاحم عليه القنوات وله المال الوفير والجاه العظيم لكن غاب عنه نور الله جل وعلا فلم تكتحل عيناه يوماً بالسجود لرب العالمين تبارك وتعالى.
فانظر فيما وصل وعما ضل حتى تعلم أن قول الحق: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:٣٥]، يستوجب أن يستكين العبد بين يدي مولاه،
يسأل الله جل وعلا بكرة وعشية أن يهديه إلى نوره المبين وإلى صراطه المستقيم قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢].
[الله وحده من يعلم الغيب]
الأمر الثالث من المدركات حول الباقيات الصالحات: أن تعلم أن الله جل وعلا وحده من يعلم الغيب كله، فكم من إنسان يسعى في أمر يؤمل خيراً فيلقى ضده، وكم ممن يؤمل غير ذلك فيلقيه الله جل وعلا الخير، ومن علم أن الغيب كله لله اطمأنت نفسه وسكن قلبه ولم يركن إلى أحد من الدنيا يتكئ عليه: واشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه كان بينه وبين عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف نزاع حول الخلافة، فـ عبد الله في الحجاز وعبد الملك في الشام، وكان في الحجاز رجل يقال له كعب الأحبار يهودي أسلم أوتي علماً جماً من علم الكتاب الأول.فكان يسكن مع عبد الله بالحجاز في مكة ويحدث عبد الله ببعض ما هو كائن، فكان مما عبد الله بن الزبير أخبره أنه سيموت ويقتل على يد رجل من ثقيف، قال: يا عبد الله يقتلك رجل من ثقيف! فلما ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي من أهل الطائف وعلا شأنه أمر عبد الله بن الزبير أخاه مصعباً أن يقاتل المختار فقتل مصعب المختار الثقفي، وبعث برأسه إلى عبد الله بن الزبير، فلما وضع رأس المختار الثقفي بين يدي عبد الله بن الزبير قال رضي الله عنه دون أن يدري كل ما أخبرني به كعب الأحبار وجدته رأي العين إلا قوله إنه سيقتلني شاب من ثقيف وما أراني إلا قتلته.وما درى عبد الله رضي الله عنه وأرضاه أن الله خبأ له في القدر الحجاج بن يوسف الثقفي، فمرت أيام وتوالت أعوام فبعث عبد الملك الحجاج بن يوسف وحاصر مكة، وكان من أمره أنه قتل عبد الله بن الزبير، فوقع ما أخبر به كعب من قبل.موضع الشاهد من القصة أن الإنسان لا يعلم الغيب، وما دام لا يعلم الغيب فليس له مفر إلا إلى الله جل وعلا.وهذا العلم في هذه الآية بينه الله جل وعلا في خاتمة سورة هود قال الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:١٢٣]، فإن من أعظم ما يعين على إتيان العمل الصالح أن تستسلم لأمر الله تبارك وتعالى، وأن ترضى بقضائه وقدره، وأن تعلم أن الغيب طوي عنك، {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:٦٥].
[المسارعة إلى العمل الصالح]
فهذا يعينك برحمة الله على المسارعة في الباقيات الصالحات.ثم تنتقل في هذه المدركات إلى أمر عظيم، وهو المسارعة إلى العمل الصالح وانتهاز الفرص.
والناس في هذا الباب طرائق شتى كما أخبر الله جل وعلا قال سبحانه: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:٤].فمن الناس من يتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة ليل نهار، جاء في سيرة نبي الله إدريس عليه الصلاة والسلام أن الملائكة كانت تعجب منه، يرفع لإدريس وحده من الأعمال الصالحة ما يرفع لأهل الأرض كلهم من أهل زمانه، فكانت الملائكة تغبط إدريس على هذا العمل.ومن تأمل سير الأخيار وطرائق الأبرار وجد كثيراً من ذلك، فمن ذلك الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ففي حادثة الإفك كانت المتهمة بالإفك هي ابنته عائشة رضي الله عنها وأرضاها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان الصديق رضي الله عنه وأرضاه على سقف بيته يقرأ القرآن فيسمع بكاء ابنته عائشة وبكاء أمها أم رومان، فتذرف عيناه ويبكي ويقول: هذا والله أمر ما رمينا به في جاهلية ولا إسلام! ومع ذلك يمكث شهراً كاملاً يستحيي رضي الله عنه وأرضاه أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمه في الأمر رغم أن الشأن شأن ابنته رضي الله عنها وعن أبويها.فهذا عمل صالح قد لا يخطر على بال أحد.وكذلك أنت أيها المؤمن! في طريقك إلى الله لا تدعن عملاً تستطيع أن تعمله تعرف أن فيه رضوان الرب جل وعلا، قد تخرج من مسجد أو من مكتبة أو من مكان موصول بالإيمان فتجد رجلاً يبيع السواك وعندك في بيتك منه ما يغني؛ لكنك تتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)، فتشتريه أملاً أن تنال رضوان الله جل وعلا.وليس المقصود ضرب الأمثال، وإنما المقصود تنبه الناس، ألا ترى إلى نبي الله يونس لما وضع في بطن الحوت وكان في الظلمات الثلاث ثم حرك أطرافه فوجدها تتحرك فعلم أنه حي فأسمعه الله جل وعلا تسبيح الحصى والثرى لرب السموات العلا، فبادر عليه السلام يتخذ في ذلك المكان عملاً صالحاً فسجد،
فورد أنه قال: (اللهم إنني اتخذت لك مسجداً في مكان ما أظن أن أحداً عبدك فيه).وكم من بقعة في الأرض يغلب على الظن أن أحداً لم يعبد الله جل وعلا فيها، فإن أوتيتها اختياراً أو اضطراراً فلا تنس أن تعبد الله جل وعلا فيها، تدخر فيها لنفسك عملاً صالحاً، قال لي أحد الفضلاء يوماً وهو يريد أن يعمل ما يسمى بالأشعة المقطعية وهم يضعونه في أشبه بالتابوت في داخل الجهاز ليمكث ٤٥ دقيقة؛ قال لي: يا أبا هاشم أوصني قبل أن أدخل وكان يخشى أن تطفأ الكهرباء فيموت! قلت له: إن استطعت أن تصلي في هذا المكان ركعتين ولو مستلقياً فافعل، فإنني لا أظن أحداً عبد الله في مثل هذا المكان.الغاية من هذه النصيحة لي ولكم أن يأتي الإنسان إلى موطن يغلب على الظن أنه لم يسجد لله جل وعلا سجدة، ويكون قد دخله كما قلت اختياراً أو اضطراراً فيتذكر قول الله جل وعلا: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:٤٦]، فيدخر لنفسه عملاً صالحاً يخلص لله فيه النية لعل الله جل وعلا أن يتقبل منه هذا العمل يوم يلقاه،
قال علي رضي الله عنه وأرضاه: إن الله أخفى اثنتين في اثنتين؛ أخفى أولياءه في عباده فلا تدري فيمن تلقاه أيهم ولي لله، وأخفى رضوانه في طاعته فلا تدري أي طاعة لك أطعت الله بها كانت سبباً في رضوان الله جل وعلا، فلا تحقرن من الأعمال الصالحة شيئاً.
كتاب دروس للشيخ صالح المغامسي
المكتبة الشاملة