إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تفسير الشيخ الشعراوى (سورة الأنفال) 2-3( خمسُ صفاتٍ للْمُؤْمِنُونَ)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تفسير الشيخ الشعراوى (سورة الأنفال) 2-3( خمسُ صفاتٍ للْمُؤْمِنُونَ)

    {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}

    في هاتين الآيتين الكريمتين خمسُ صفاتٍ لها ترتيب عقائدي وحركي وجوارحي، وبذلك يتحدد تشخيص كلمة (المؤمنين)، هذه الصفات هي
    الأولى: أنه إذا ذكر الله وجلت قلوبهم،
    وثانية الصفات أنه: إذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيماناً،
    ثالثة الصفات: أنهم على ربهم يتوكلون،
    ورابعة الصفات: أنهم يقيمون الصلاة،
    وخامسة الصفات: أنهم ينفقون مما رزقهم الله.

    والصفة الأولى للمؤمنين هي: {إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
    والوجل هو الخوف في فزع ينشأ منه قشعريرة، واضطراب في القلب، وحينما أراد الشعراء أن يعطوا صورة بهذا الإحساس، نجد شاعراً منهم يقول:
    كأن القلب ليلة قيل يغدي ** بليلي العامرية أو يراح

    قطاط غرها شرك تجا ** ذبه وقد علق الجناح
    فالشاعرُ يصور حالة قلبه حين سمع بنبأ سفر حبيبته، كأنه صار مثل حمامة تحاولُ أن تخلّص نفسها من شبكة أو مَصْيدة وقعت فيها، إنها تجاذب المصيدة حتى تخرج، وهي ترجف في مثل هذا الموقف، هكذا حال القلب لحظة فراق المحبوبة عند الشاعر.
    وإذا كان ذكر الله عز وجل يدفع قلوب المؤمنين إلى الوجل، ألا يتنافى ذلك مع قول الحق سبحانه وتعالى:؟ {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28].
    في الحقيقة لا يوجد تعارض بين القولين؛ لأن ذكر الله تعالى يأتي بأحوال متعددة، فإن كان الإنسان مسرفاً على نفسه، فهو يرجف حين يذكر الله الذي خالف منهجه. وإن كان الإنسان يراعي حق الله في كل عمل قَدْر الاستطاعة، فلابد أن يطمئن قلبه لحظة ذكر الله؛ لأنه اتبع منهج الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا.


    إذن فالخوف أو الوجل إنما ينشأ من مَهابةِ وسطوة صفات الجلال. والاطمئنان إنما يجيء من إشراقات وحنان صفات الجمال. ولذلك تجمعها آية واحدة هي قول الحق تبارك وتعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23].
    فالجلود تقشعر خوفاً ووجَلاً ومهابة من الله عز وجل، ثم تلين اطمئناناً وطمعاً في حنان المنّان سبحانه وتعالى، لأن رّبنا قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} [الحجر: 49].
    إذن فلا يقولن أحد إن هناك تعارضاً بين الوجل والاطمئنان، فكلها من ذكر الله بالأحوال المتعددة للإنسان، فإذا ما وجل الإنسان فهو يتجه إلى فعل الخير فيطمئن مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
    وهل يزيد الإيمان أو ينقص؟
    اختلف العلماء في هذا الأمر. ونحن عندما ننظر إلى قول الحق نجده يؤكد زيادة الإيمان، وحينما نسأل ما الإيمان؟ وما الإسلام؟.... إلخ نجد الجواب في توضيح الرسول صلى الله عليه وسلم ورده على السائل في الحديث الآتي والذي يرويه الصحابي الجليل سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال:
    «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال يا رسول الله: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر، قال يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال يا رسول الله: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك. قال: يا رسول الله: متى الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها فذلك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاءُ البَهْم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا صلى الله عليه وسلم: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا عليّ الرجل فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم».


    وجبريل عليه السلام حين جاء يسأل ليعلم بعضاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الرسول عليه السلام عن الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، وفي رواية أخرى ذكر القضاء والقدر خيره وشره.
    وهذه كلها أمور غيبية، ولا يقال في الأمر المحسّ إيمان، فلا يقول واحد: أنا مؤمن أنى أتحرك على الأرض؛ لأن هذا أمر حسيّ. والإيمان لا يكون إلاّ بالأمور الغيبية وأولها أن تؤمن بإله واحد لا تدركه الأبصار وهو غيب، وبملائكته وهي غيب، وصدقنا وجودها لأنه أبلغنا بذلك الوجود. وكذلك أن نؤمن بالكتب المنزلة على الرسل. وبالرسل، وصحيح أن الكتاب أمر حسيّ والرسول كذلك له وجود حسيّ، لكن لم نشاهد الوحي وهو ينزل الكتاب على الرسول. إذن فهو أمر غيبي، وكذلك الإيمان باليوم الآخر أمر غيبي أيضاً، والايمان بالقضاء والقدر وهو ما غابت عنا حكمته، وكلها إذن أمور غيبية.


    هذا الإيمان في القمة، لكن هناك إيمان آخر يجيء لأننا نعلم أن التشريعات لم تأت مرة واحدة، بل كانت تأتي على مراحل، فتشريع ينزل أولاً بأن نؤمن أنه من الله. إذن فالذي يزيد وينقص من الإيمان هو الإيمان بالتكليفات، وأنها صادرة من الله عز وجل، وكلما كانت تنزل آية بتشريع جديد كانت تزيد المؤمنين إيماناً، فعندما نزل الأمر بالصلاة آمنوا بإقامتها واستجابوا ونفذوا، ثم جاء الصوم فامتثلوا للأمر به، ثم يجيء الأمر بالزكاة فتكون الطاعة والتنفيذ، وطبعاً هناك فرق بين أن تؤمن بالشيء، وأن تفعل الشيء.
    فالإيمان شيء، وفعله شيء؛ لأن الإسلام هو الانقياد الظاهري للمنهج، وتطبيق كل ما يجيء به الإسلام هو إيمان مستمر متزايد؛ لأننا آمنا بأن ما يجيء من المنهج هو من الله. إذن فالذي يزيد هو توابع الإيمان من التكليفات والامتثال لهذه التكليفات، مثال ذلك: كلنا نعرف قول الحق: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].
    لكن هناك أناس يتمسكون بحرفية قوله الحق: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97].
    والذين يتمسكون بحرفية القول الحق لم يتساءلوا: كفر بماذا؟ هل كفر لأنه لم يحج؟ لا، إن كفره في هذه المسألة لا يكون إلا بأن ينكر أن الحج ركن من أركان الإسلام، فالمطلوب منا إيمانياً أن نقر بالحج كركن من أركان الإسلام في حدود الاستطاعة، فإن فعله الإنسان كان قد نفذ الحكم، أما إن لم يفعله فقد يكون ذلك في حدود عدم الاستطاعة.


    ويذيل الحق تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها بقوله: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
    ومُتَعلّق الجار والمجرور دائماً يكون متأخراً، بينما هنا يتقدم الجار والمجرور؛ لذلك ففي الأسلوب حصر وقصر، مثلما نقول: (لزيد المال) أي أن المال ليس لغيره، وقول الحق: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي لا يتوكلون على غيره، بل قصروا توكلهم على الله سبحانه وتعالى، والتوكل: أن تؤمن بأن لك وكيلاً يقوم لك بمهام أمورك، بدليل أن الشيء الذي لا تقوى عليه تقول بصدده: (وكلت فلاناً ينجزه لي على خير وجه) وحتى تختار الذي توكله ويكون مناسباً لأداء تلك المهمة فأنت تعلن باطمئنان: أنك قد وكلت فلانا.


    إذن معنى {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي أنهم يكلون أمورهم على من ائتمنوه على مصالحهم، وهو الحق سبحانه وتعالى القادر العظيم الذي خلق الكون، وخلق فيه أسباباً تؤدي إلى مسبَّبات الأسباب مقدمة، والمسبّبات هي النتيجة. وبعد ذلك ترك أموراً ليس فيها أسباب، إلا أن نلحظ دائماً المسبب وهو الله تعالى، فكل أمر يعز عليك في أسبابه؛ إياك أن تيأس من أنه لا يحدث، بل قل: تلك هي قضية الأسباب، أما أنا فلي رب خلق الأسباب. وهو القادر فوق كل الأسباب، وفي حياتنا اليومية نلحظ أن الناس يخلطون بين عمل الجوارح، وعمل القلوب، ويظن إنسان ما أنه متوكل ولا يأخذ بالأسباب ويركن إلى الكسل ويقول: أنا متوكل على الله، وهذا نقول له: لا، إن هذا منك تواكلٌ وليس توكلاً؛ لأن التوكل ليس عمل جوارح، التوكل عمل قلوب.

    والمؤمن الذي يستقبل منهج الله بالفهم يجد الأسباب التي يجب أن يأخذها، وسبحانه وتعالى هو المسبب الأعلى، والإيمان يؤكد أن الجوارح تعمل والقلوب تتوكل، فعلى الجوارح أن تحرث الأرض، وأن تختار البذرة الطيبة، وتنثرها في الأرض، ثم ترويها، وتتعهدها، وهذه العمليات اسمها الأسباب، ثم لا تركن إلى الأسباب فقط، بل عليك أن تقول: إن فوق كل الأسباب هناك المسبِّبُ.
    فمن الجائز أن يخضر الزرعُ وينمو، ثم تأتي له آفةٌ من مطر أو حر وتضيعه.
    ومن ينقل التوكل إلى الجوارح. نقول له: أنت تواكلت، أي نقلت عمل القلب إلى الجوارح. ومن يقول ذلك إنما يكذب على نفسه وعلى الناس. لأنه تكاسل عن الأخذ بالأسباب وادّعى أنه متوكل على الله. ولو كان الواحد من هؤلاء صادقاً في توكله على الله لأخذ بالأسباب. وعادة فإني دائماً أقول لمن يدّعي التوكل مع الكسل: لماذا لا تترك الطعام يأتي إلى فمك، لماذا تمد إليه يديك؟. إن من يكسل إنما يكذب في التوكل، فلا أحد مثلاً يترك قطعة اللحم تقفز من طبق الطعام إلى فمه، لكنه يأخذها بيده. ويمضغها بأسنانه، ويبلعها بعد المضغ، ولو كان صادقاً في أن التوكل هو ألا تعمل جوارحه لما فعل شيئاً من ذلك، لكنه يكذب ويتواكل فيما يتعبه ويشغل جوارحه فيما يريحه، ولا يستعملها في الأمور التي تتعبه. وقول الحق تبارك وتعالى: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
    هذا القول يعني أنهم يؤمنون بأن الأسباب من خلق الله. وحين يأخذ المؤمن بالأسباب فهو يؤمن أنه لاجئ إلى الله ومعتمد عليه، لكن إن عزت عليه الأسباب فهو يعلم أن له رباً، ولذلك قال: {وعلى رَبِّهِمْ}، والرب هو الخالق من عَدَم، والممد من عُدْم، وما دام قد خلقك وأمدك من عُدْم قبل أن يكلفك، فهل من المعقول أن يظلمك؟ طبعاً لا. لكن عليك أن تفطن أنه لك جوارح، فاستعملْ الجوارح فيما خلقت من أجله.


    وتأتي الآية التالية لتوضح عمل الجوارح، وهي تحمل الصفتين الرابعة والخامسة من صفات المؤمنين: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال: 3].
    والقيام والقعود والقراءة والتسبيح والتكبير في الصلاة عمل جوارح، وكذلك الزكاة هي عمل ناتج من عمل سبق، فحتى تخرج الزكاة لابد أن تبذل الجهد وتأخذ بالأسباب لتنتج ما يعولك أنت ودائرتك القريبة من زوجة وأبناء ثم أقارب، ومن بعد ذلك يفيض من المال ما تستقطع منه الزكاة، وهذه بطبيعة الحال غير زكاة الزروع التي تُخْرَج في يوم الحصاد. {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].


    ودائما ما نجد الصلاة والزكاة وهما مقترنتان ببعضهما، ولا تجد آية فيها ذكر للصلاة إلا وفيها ذكر للزكاة أيضاً؛ لأن الصلاة تعني ترك أمورك الحياتية التي تسعى فيها لدنيا الأسباب، وتذهب إلى الحق سبحانه وتعالى وتقف بين يديه، أي أنك قد اقتطعت جزءاً من الزمن الذي كنت تقضيه في حركة حياتك لتقف فيه أمام ربك خالق الأسباب.
    والزكاة تعني أنك تقتطع جزءاً من مالك، ولذلك قلنا: إن الصلاة فيها زكاة وزيادة، فأنت تخرج مقدار اثنين ونصف في المائة مما يتبقى معك من مال يبلغ نصاباً ويكون زائداً عن الحاجة الأصلية، لكنك بالصلاة تضحي ببعض الوقت الذي تقضيه في العمل الذي يأتي لك بأصل المال، إذن ففي الصلاة زكاة وأكثر. وأنت في الزكاة تتنازل عن بعض المال، لكنك في الصلاة تتنازل عن الوقت الذي هو محل العمل، وهو الذي تنتج فيه الرزق، والرزق وعاء الزكاة.


    ويذيل الحق سبحانه وتعالى هذه الآية قائلاً: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ونعلم أن الرزق كما ذكر العلماء هو كل شيء ينتفع به الإنسان، وحتى اللص الذي يسرق وينتفع بسرقته يعد هذا بالنسبة له رزقاً لكنه رزق غير طيب وله عقاب في الدنيا إن تم ضبطه، ولن يفلت من عقاب الله الحاكم العادل في الدنيا والآخرة، وهو بطبيعة الحال غير الرزق الحلال الذي يأتي من عمل مشروع، والمؤمن الحق هو من ينفق من هذا الرزق الحلال؛ سواء لمتطلبات حياته أو رعاية المجتمع الإيماني.



    {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}
    و(أولئك) تشير إلى من أنعم الله عليهم بالصفات الخمس السابق ذكرها، وهؤلاء هم من وجلت قلوبهم من ذكر الله، وزادتهم الآيات في إيمانهم، وعلى ربهم يتوكلون ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، هؤلاء هم المؤمنون حقاً {أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً}.
    ولنعلم أن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير ولا تذهب به الأغيار، ويخضع له كل الناس لأنه يتعلق بمصالح حياتهم. وإن جاء الباطل ليزحزح الحق، نجد الحق ثابتاً لا يتزحزح لأنه قوي. ولنقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17].


    وحين ينزل المطر من السماء، يأخذ من مائة كل وادٍ من الوديان على قدر اتساعه وعمقه، ويمتلئ، ترى الرغاوي وهي الزبد تطفو فوق السيْل، وهي عبارة عن هؤلاء سببه وجود الشوائب من قش وغيره، وهذا مثل نراه في حياتنا، ونجد الأرض والناس وكل المخلوقات تنتفع بالمياه، لكنها لا تنتفع بالزبد أو الرغاوي. ثم ينتقل الحق في ذات الآية من ضرب المثل بالماء، إلى ضرب المثل بالنار فيقول: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} [الرعد: 17].

    وأنت حين ترى قطعة الحديد وهي تتحول إلى السيولة بالانصهار في النار، تجد شرراً يتطاير منها، ويطفو فوق سطح الحديد المصهور، وهو ما يسمى ب (خبث الحديد) وتتم إزالة هذا الخبث ليبقى الحديد صافياً لتصنع منه السيوف أو الخناجر وغيرها، وهذه الحالة تحدث في الذهب حين يصهره الصائغ ليزيل عنه أية شوائب ويعيد تشكيله ليكون حلياً.
    وزبد الماء وزبد الحديد وزبد الذهب يتجمع على الجوانب ويبقى الماء صافياً، وكذلك الحديد والذهب، ولهذا يقول الحق: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} [الرعد: 17].
    أي أن الحق يبقى صافياً ثابتاً، أما الباطل فيعلو ليتجمع على الجوانب ليذهب بغير فائدة.
    ويوضح الحق علو كلمته سبحانه وتعالى في آية أخرى فيقول: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} [التوبة: 40].


    ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى جاء بالجعل لكلمة الكافرين، أما كلمته سبحانه وتعالى فلها العلو الثابت.
    والحق هنا يبين أن المؤمنين الذين يتصفون بهذه الصفات الخمس هم مؤمنون حق الإيمان فيقول عز وجل: {أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً}.
    ومعنى هذا أن هناك مؤمنين ليسوا على درجة عالية من الإيمان، أي أن هناك منازل ودرجات للإيمان متفاوتة، ولكل قدر من الصفات منزلة وعطاء مناسب.
    ونحن نرى البشر حينما يخصهم واحد بوده يفيضون عليه من خيراتهم، فنجد غير العالم يأخذ ممن يودهم من العلماء بعض العلم، والضعيف الذي يعطي وده لقوي، يعينه القوي ببعضٍ من قوته، والفقير الذي يعطي وده لغني، يعطيه الغني بعضاً من المال، والأرعن يأخذ ممن يودهم من العقلاء قدراً من التعقل للأمور.
    إذن أهل المودة والقرب والتقوى يفاض عليهم من المولى وهم ممن اختصهم الله بالعطاءات، فالذي وجدت فيه هذه الصفات، ومؤمن حقاً تكون له درجات عند ربه تناسب حظه من الحق وحظه من الصفاء، ولنعرف أن السير في درب الحق يعطي الكثير. والمثال الذي نقدمه على ذلك أننا نجد من يصلي الأوقات الخمسة في مواعيدها، وهذا هو المطلوب العام، إذا ما صلى ضعف ذلك بالليل، أو واظب على الصلاة في الجماعة ويلزم نفسه بمنهج الله، سوف يأخذ حظاً من الصفاء لم يكن موجوداً عنده من قبل ذلك، وسيجد في قلبه إشراقات وتجليات، وتسير أمور حياته بسهولة ويسر.
    وقد يكون الإنسان من هؤلاء- على سبيل المثال- خارجاً من البيت وسألته زوجته: ماذا نطبخ اليوم؟ ويجيبها: لنقض هذا اليوم بما تبقى عندنا من الأمس. وعندما يعود قد يفاجأ بأن شقيقه قد قدم من الريف، وأحضر له هدية من البط، والقشدة والفطائر. فتسأله زوجته: أكنت تعلم بمجيء أخيك؟ فيقول: لم أكن أعلم، وهذا مجرد مثال، لكن عطاءات الصفاء تكون أكثر من ذلك مادياً ومعنوياً، ومن يستمر في العبادة ويزيد عليها ويؤدي كل ذلك بحقه، سيزيد عطاء الله له؛ لأن الله لا يمل عطاء أهل الصفاء أبداً. ومن يجرب مثل هذه العبادة ويزيدها سيجد عطاء الله وهو يزيد.


    ودائما أضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى وهو منزه سبحانه وتعالى عن التشبيه لنفترض أن إنساناً أراد أن يسافر من القاهرة إلى الإسكندرية، وسأل إنساناً آخر، فقال له: إن ذهبت من الطريق الفلاني ستجد استراحة طيبة، عكس الطريق الفلاني.
    ويتبع المسافر نصائح من أرشده، فيجده صادقاً، فيرتاح من بعد ذلك لرأيه، وكذلك أهل الصفاء، هم أهل العطاء، وعلى قدر صفائهم يكون هذا العطاء. والذي يشجع الناس الذين يبالغون في التعبد هو هذا الإشراق، وهناك من يصف الواحد منهم بأنه مجذوب وإن من يطلق على المتعبد الزاهد هذا الوصف يرى المنزلة العالية وهي تشد هذا المتعبد إليها، وهو من جهة أخرى ينظر هذا الزاهد إلى من يتعثرون في طلب الدنيا، ويصفهم بينه وبين نفسه بأنهم من (الغلابة) ويدعو لهم.


    وأقول لمن يرى واحداً من هؤلاء: لا شأن لك بأي إنسان من هؤلاء وإياك أن تتعرض لهم واتركهم في حالهم، ما دام الواحد منهم لا يسألك شيئا. {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ}.
    والدرجات عند البشر هي ارتقاءات يسعى إليها، فما بالنا بالدرجات التي عند الرب؟ وما دام الله سبحانه وتعالى قد وعدهم بالدرجات العالية عنده فقد ضمنوا المغفرة؛ لأن الواحد منهم سيطهر بالمغفرة، وجاء الحق بعطاء الدرجات قبل المغفرة لأنه سبحانه خلق الخلق ويعرف أنهم أهل أغيار، ويعلم أن هناك من أسرفوا على أنفسهم، ويحاولون فعل الخيرات لأنهم يؤمنون بأن الحسنات يذهبن السيئات، وسبحانه علمنا أن معالم الدين تأخذ حظها من المسرفين على أنفسهم، لأن من لم يسرف على نفسه تجده يطيع الله طاعة هادئة رتيبة فليس وراءه ما يلهب ظهره.


    أما من عملوا السيئات فإن هذه السيئات تقض مضاجعهم. والمسرف على نفسه لحظة الإسراف يظن أنه أخذ من الله شيئاً واحداً من خلف منهجه، فيوضح له ربنا: إياك أن تظن أن هناك من يخدع الله. فأنت ستعمل كثيراً وبشوق لخدمة منهج الله، ونجد المسرف على نفسه لحظة الإفاقة والتوبة، وهو يندفع إلى فعل الخيرات. مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليؤيد الدين بالرجل الفاجر». لأن فجر الفاجر يتجسد أمامه ويريه سوء المصير، فيندفع إلى فعل الخيرات ليمحو السيئات، أما من لم يخطئ فنجده هادئ القلب، مطمئن النفس، لا يلهب ظهره شيء.
    {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4].
    وهل هذا الرزق ناشئ من كريم؟ الجواب لا؛ لأن الكرم تعدى من الكريم الأصيل، إلى أن صار الرزق نفسه كريماً، وكأن هذا الرزق يتعشق صاحبه؛ لأن ربنا ساعة يعطي إنساناً نعمةً، ثم يستعملها العبد في الطاعة، تحس النعمة أنها مسرورة بالذهاب إلى هذا الإنسان لأنه استعملها في طاعة وفيما يرضى الله عز وجل.
    ولك أن تعرف أن الرزق أعلم بمكانك منك بمكانه. فلا أحد يعرف عنوان الرزق الذي قدره الله له، لكن الرزق يعرف عنوان صاحبه، ويبحث عنه في كل مكان إلى أن يجده. هكذا نفهم أن الكرم يتعدى إلى الرزق نفسه فيصبح الرزق كريماً.



    وجاء كل هذا الحديث بمناسبة الخلاف على الغنائم والأنفال، وفصل ربنا بالحكم وبين وأوضح أن الأنفال لله والرسول ولم يعد لأحد كلام بعد كلام الله، وهذه الحادثة في الأنفال حدثت في الخروج إلى الحرب، فحين أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج للحرب، كان هناك فريق منهم كاره لهذا الخروج ثم رضي به. لكن حالهم اختلف في الغنائم فطالب بعضهم بأكثر مما يستحق؛ لذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}.
يعمل...
X