الربع الاول
الآية 1، والآية 2: ﴿ الر ﴾ سَبَقَ الكلام عن الحروف المُقطَّعة في أول سورة البقرة.
♦ إنَّ هذا القرآنَ هو ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ﴾ أي أُتقِنَت آياته، ﴿ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ أي: ثم بُيِّنَتْ آياته للناس - بَياناً في أعلى أنواع البَيان - وذلك بتوضيح الحلال والحرام، والقصص والمواعظ، والآداب والأخلاق، والعقائد والبراهين، بما لا مَثِيل له في أيّ كتابٍ سابق.
♦ وقد كان ذلك التفصيل ﴿ مِنْ لَدُنْ ﴾ أي مِن عند﴿ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ وهو اللهُ سبحانه وتعالى، الحكيمُ في تدبيره وتصَرُّفه وشَرْعه وقضائه، الذي يَضع الأمور في مَواضعها، الخبيرُ بأحوال عباده وما يُصلح خَلقه (فلذلك لا يكونُ كتابه إلا المَثَل الأعلى في كل شيء)، وقد أنزله اللهُ تعالى وبَيَّنَ أحكامه لأجْل ﴿ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ إذ لا مَعبودَ بحقٍّ إلا هو، ولا عبادة تنفع إلا عبادته.
♦ وقل أيها النبي للناس: ﴿ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ ﴾ يعني: إنني رسولٌ لكم مِن عند اللهِ تعالى،﴿ نَذِيرٌ ﴾ أُنذِرُكم عقابهُ إنْ أشركتم به وعصيتموه ﴿ وَبَشِيرٌ ﴾ أُبَشِّركم بثوابه إنْ وَحَّدتموهُ وأطعمتموه.
الآية 3، والآية 4: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ﴾ أي اطلبوا منه أن يَغفر لكم ما صَدَرَ منكم من الشرك والذنوب، ﴿ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾ أي: ثم ارجِعوا إليه بالإيمان والعمل الصالح: ﴿ يُمَتِّعْكُمْ ﴾ في دُنياكم ﴿ مَتَاعًا حَسَنًا ﴾ بطِيب العَيش وسعة الرزق ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾: يعني إلى وقت انتهاء آجالكم،﴿ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ يعني: ويُعطِ سبحانه أهلَ الإحسان والبِرّ مِن فضله ونعيمه في الجنة، ما تقِرّ به أعْيُنُهم، (فالفضل المذكور أوّلاً: هو العمل الصالح، والفضل المذكور ثانياً: هو دخول الجنة)، وهذا كقوله تعالى: ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ ﴾.
﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾: يعني وإن تتولوا (والمعنى: وإن تُعرِضوا عمَّا أدعوكم إليه) ﴿ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ (وهو يوم القيامة) الذي يَجمع اللهُ فيه الأولين والآخِرين.
♦ واعلموا أنّما ﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ جميعًا بعد موتكم فاحذروا عقابه، ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي: وهو سبحانه قادرٌ على بَعثكم وحَشركم وجَزائكم.
الآية 5: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ ﴾ - أي المشركين -﴿ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ﴾: أي يُخفونَ الكُفر في صدورهم ﴿ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ﴾ يعني: وذلك ظنًاً منهم أنه يَخفَى على اللهِ تعالى ما تُخفيه نفوسهم.
♦ فرَدَّ اللهُ على ذلك الظن الفاسد بقوله: ﴿ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ﴾: يعني ألاَ يَعلمون أنَّهم- حين يُغَطُّونَ أجسادهم بثيابهم - فإنه تعالى ﴿ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي لا يَخفَى عليه سِرُّهم وعَلانيتهم، بل ﴿ إِنَّهُ ﴾ سبحانه ﴿ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ أي عليمٌ بكل ما تُخفِيهِ صدورهم من النِيَّات والخواطر.
الآية 6: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ﴾ - أي تدبّ على وجه الأرض - ﴿ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾، ﴿ وَيَعْلَمُ ﴾ سبحانه﴿ مُسْتَقَرَّهَا ﴾أي مكان استقرارها في حياتها وبعد موتها، ﴿ وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ أي: ويَعلم الموضع الذي تموت فيه (واعلمأنّ اللفظ "مُستَودَعَها": يُوحِي بأنها تُوَدِّع الدنيا في هذا المكان)، ﴿ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾: أي كل ذلك مكتوبٌ في كتابٍ واضح عند اللهِ تعالى، وهو اللوح المحفوظ.
♦ ومِن لطيفِ ما يُذكَر أنّ حاتم الأصَمّ سُئِلَ يَوماً: (مِن أين تأكل يا حاتم؟)، فقال: (مِن عند الله)، فقيل له: (اللهُ يُنزلُ لك دنانير ودَراهِم من السماء؟)، فقال: (كأنّ ما لَهُ إلاّ السماء! يا هذا: الأرض له، والسماء له، فإن لم يُؤتني رزقي من السماء، ساقَهُ لي من الأرض).
الآية 7: ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ ﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾ - قبل أن يَخلقالسماوات والأرض -، فلمَّا خلق سبحانه السماوات والأرض: استوَى على عرشه فوق السماء السابعة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، وقد كانت أمُّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها تقول: (زَوّجَني اللهُ تعالى من فوق سبع سماوات)، وذلك في قوله تعالى لنَبِيِّهِ محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ﴾، (ولك أن تُراجِع - في إثبات استواء اللهِ تعالى على عرشه فوق السماء السابعة - تفسير قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ﴾، في الآية الثالثة من سورة الأنعام مِن هذا التفسير، فإنّ فيه بَياناً شافياً، وللهِ الحمدُ والمِنَّة).
♦ وقد خَلَقَ سبحانه كلَّ شيءٍ لأجْلِكُم، ثم خَلَقَكم ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾: أي لِيَختبركم أيُّكُم أتقنُ في الطاعةً وأحسنُ في العمل الصالح (وهو كلّ ما كانَ خالصًا للهِ تعالى، وموافقًا لِمَا كان عليه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم).
﴿ وَلَئِنْ قُلْتَ ﴾ - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين: ﴿ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ ﴾ يعني إنكم ستُبعَثون أحياءً بعد موتكم: ﴿ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ - مُسارِعينَ إلى التكذيب مِن غير تدَبُّرٍ وتثَبُّت -: ﴿ إِنْ هَذَا ﴾ أي: ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا﴿ إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ أي سحرٌ ظاهر، وهم يَعلمون أنهم كاذبونَ في ذلك، فلقد اعترف لهم أحد رؤسائهم - وهو الوليدُ بن المُغِيرة - أنّ ما يَقوله السَحَرةُ شيئ، وأنَّ هذا القرآن شيئٌ آخر، وأنه ليس بكلامِ بَشَر (وذلك عندما سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أجْبَره المشركون بعد ذلك أن يقولَ للناس إنه سِحر).
♦ واعلم أنهم عندما يقولون عن القرآن إنه سِحر، فإنهم في حقيقة الأمر يَعترفون بهزيمتهم في أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فيَضطروا إلى اللجوء إلى هذا القول الباطل.
الآية 8: ﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ﴾ يعني إلى أجَلٍ معلوم، فاستبطؤا نزوله: ﴿ لَيَقُولُنَّ ﴾ - يعني حينئذٍ سيقول المشركون - استهزاءً وتكذيبًا: ﴿ مَا يَحْبِسُهُ ﴾: يعني أيّ شيء يَمنع نزول هذا العذاب إن كانَ حقًا؟ ﴿ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ﴾ ذلك العذاب، فإنه ﴿ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ ﴾: أي لا يستطيعُ أحدٌ أن يَدفعه عنهم، ﴿ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾: يعني وحينئذٍ سيُحِيطُ بهم العذاب الذي كانوا به يَستهزئون.
♦ واعلم أنّ لفظ "أمَّة" يأتي أحياناً بمعنى: (جماعة من الناس)، وأحياناً بمعنى: (فترة من الزمن)، واعلم أيضاً أنّ اللهَ تعالى قد ذكَرَ لفظ: (حاقَ) بصيغة الماضي - مع أنّ العذاب لم يأتِ بعد - وذلك لتأكيد وقوعه في عِلم اللهِ تعالى.
الآية 9، والآية 10، والآية 11: ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ﴾ يعني: ولئن أعطينا الإنسان نعمةً مُعَيَّنة - مِن صحةٍ أو رزقٍ أو أمْنٍ أو غير ذلك - ﴿ ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ ﴾ بسبب عِصيانه وغفلته واغتراره بتلك النعمة وعدم شُكره عليها: ﴿ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ ﴾: يعني إنه - حينما تُسلَب منه تلك النعمة - لَشديد اليأس مِن رحمة اللهِ تعالى، ساخطٌ على قضائه، و ﴿ كَفُورٌ ﴾: أي جَحود بالنعم التي أنعمَ اللهُ بها عليه قبل ذلك السَّلب.
﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ﴾ - وذلك كأنْ يُوَسِّعَ اللهُ عليه في رزقه بعد أن كانَ في ضِيقٍ من العَيش -﴿ لَيَقُولَنَّ ﴾ عند ذلك: ﴿ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ﴾: أي ذهب الضِيقُ عني وزالت الشدائد، ﴿ إِنَّهُ ﴾ حينئذٍ﴿ لَفَرِحٌ ﴾ أي مُتكبر بالنعم،﴿ فَخُورٌ ﴾ أي مُبالغ في الفخر والتعالِي على الناس بما أعطاهُ اللهُ له.
♦ ثم استثنى اللهُ الصابرينَ الشاكرين - مِمَّن سبق - فقال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ على ما أصابهم من الضُرّ (احتسابًا للأجر عند اللهِ تعالى)، ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ شُكراً للهِ على نِعَمِه ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم﴿ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ في الآخرة.
الآية 12: ﴿ فَلَعَلَّكَ ﴾ - أيها الرسول لِعِظَم ما تراه مِن تكذيب قومك - ﴿ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ مِمّا أنزله اللهُ عليك وأمَرك بتبليغه، (وهذا الكلام غرضه: النهي والاستنكار، يعني: (لا تترك تبليغ ما فيهِ سَبٌّ لآلهتهم كما طلبوا منك)، وذلك لأنهم قالوا له: لو أتَيْتَنا بكتابٍ ليس فيه سَبُّ آلهتنا لاتَّبعناك).
♦ وقد بَلَّغَ الرسول صلى اللهعليه وسلم رسالة ربه كاملة، تقول السيدة عائشة رضي اللهُ عنها: (لو كانَ النبي صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي، لَكَتَمَ هذه الآية: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾.
﴿ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ أي مِن تلاوة القرآن عليهم خشية أن يَطلبوا منك بعض المَطالب على وجه العِناد، كـ﴿ أَنْ يَقُولُوا ﴾: ﴿ لَوْلَا أُنْزِلَ ﴾ - أي هَلاَّ أُنزِلَ -﴿ عَلَيْهِ كَنْزٌ ﴾ أي مالٌ كثير يَعيشُ عليه فيَدُلّ ذلك على إرسال اللهِ له وعنايته به، ﴿ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ﴾ لِيَشهد له بصِدقه في رسالته.
♦ فلا يَضرك قولهم أيها الرسول، ولا يَضِق صدرك بمَطالبهم فـ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ ﴾ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحاه اللهُ إليك،وقد أنذرتَهم، فلا تحزن إذاً على إعراضهم، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ فيَحفظ سبحانه أعمالهم ويُحاسبهم عليها، (واعلم أنّ الوكيل هو مَن يُوَكَّل إليه الأمر لِيُدَبِّرَه).
الآية 13، والآية 14: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ يعني: بل يقولون: (إنّ هذا القرآن قد افتراه محمد مِن عند نفسه)، مع أنهم يَعلمون أنه بَشَرٌ مِثلهم!! إذاً ﴿ قُلْ ﴾ لهم - أيها الرسول -: إذا كانَ هذا مِن كلام البشر ﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ مِن عندكم﴿ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أي: واستعينوا على ذلك بكل مَن تقدرون عليه مِن إنسٍ وجن، ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في دَعواكم، (ولو كانَ ذلك مُمْكِنًا: لادَّعَوا قدرتهم على فِعله، ولكنْ لَمَّا ظهر عَجْزُهُم: تبيَّنَ أنَّ ما زعموه باطل)، ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ﴾ أي: فإن لم يَستجب لكم أعوانكم في الإتيان بمثله - لِعَجْز جميع الخلق عن ذلك - ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ﴾: أي فاعلموا أيها المشركون أنّ هذا القرآن قد أنزله اللهُ على رسوله محمد، بعلمٍ منه سبحانه بأحوال عباده في كل زمان ومكان، وبما يَصلح لهم وما لا يَصلح (فهو تنزيلُ مَن أحاطَ عِلمُهُ بكل شيء، وَوَسِعَتْ رحمته كل شيء)،﴿ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ أي: واعلموا أنه لا معبود بحقٍ إلا الله، ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾: أي فهل أنتم - بعد عَجْزِكم وقيام الحُجَّةِ عليكم - مُسلمونَ مُنقادونَ للهِ تعالى؟
الآية 15، والآية 16: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ﴾ - مُقابل أعمالِهِ الحَسَنة -: ﴿ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ - كالمُرائين الذين يريدون بأعمالهم الثناء من الناس -: ﴿ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ﴾: أي نُعطِهم - مُقابل ثواب أعمالهم - مِن متاع الدنياوزينتها﴿ وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴾ أي لا يُنقَصون من أعمالهم شيئاً في الدنيا، لأنّ اللهَ تعالى لا يريد أن يَجعل لهم نصيباً في الجنة، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ﴾ ﴿ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ﴾ أي: وذهب عنهم ثوابُ ما عملوه في الدنيا، ﴿ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾أي: وكانَ عملهم باطلاً، لأنه لم يكن خالصاً لوجه اللهِ تعالى.
الآية 17: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ أي على حُجَّةٍ مِن ربه، (والمقصود بهذه الحُجَّة: القرآن الكريم، الذي أنزل اللهُ فيه البراهين، وتَحَدَّى به المشركين)، ﴿ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ﴾ أي: ويَتْبَعُ هذا القرآن دليلٌ آخر يَنطق به ويَشهد بصِدقه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام (لسانُ الصِدق، وصاحبُ الخُلُق العظيم)، حيثُ نَظَرَ إليه أعرابي يَوماً فقال: (واللهِ ما هو بوجه كذّاب)، ﴿ وَمِنْ قَبْلِهِ ﴾ يعني: ويَشهد بصِدق القرآن دليلٌ ثالث نَزَلَ قَبله، وهو التوراة﴿ كِتَابُ مُوسَى ﴾ الذي أنزله اللهُ عليه ليكونَ﴿ إِمَامًا ﴾ يُهتَدَى به ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ لمن آمَنَ به (وذلك قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام)، فهذا الكتاب يَشهد بصدقه صلى الله عليه وسلم، حيثُ ذَكَرَ صفاته وصِفات أُمَّته في أكثر مِن مَوضع.
♦ أفمَن هو على هذه البينات والبراهين مِن صِحَّة دينه - والمقصود به النبي صلى الله عليه وسلم - كمن لا دليلَ له إلا التقليد الأعمى؟! لا يَستويان أبداً، ﴿ أُولَئِكَ ﴾ أي الذين جاءتهم تلك البيّنات والحُجَج ﴿ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أي يُصدِّقون بهذا القرآن ويَعملون بأحكامه، ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ ﴾ (وهم الذين تَحَزَّبوا - أي اجتمعوا - على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم مِن جميع الأمم، وأوّلهم: المشركون واليهود، والنصارى والمَجوس) ﴿ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾ أي قد جعلها اللهُ جزاءً لمن كَفر بالقرآن الكريم، على الرغم مِن وضوحه وقوة حُجَته.
﴿ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ﴾: أي فلا تكن - أيها الرسول - في شَكٍّ من القرآن، بعد ما شَهِدَتْ الأدلة على أنه مِن عند اللهِ تعالى ﴿ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾ (واعلم أنَّ هذا - وإنْ كان خطابًا للرسول صلى الله عليه وسلَّم - فإنه مُوَجَّه للأمَّةِ عموماً)،﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ (لِعِنادهم واتِّباعهم لأهوائهم).
الآية 18، والآية 19: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ يعني: ولا أحد أشد ظلماً﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ فزَعَمَ أنّ له شريكٌ أو ولد﴿ أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ ﴾ أي سيُعرَضون﴿ عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ يوم القيامة ليُحاسبهم على أعمالهم، ﴿ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ ﴾ (والأشهاد: جَمْع شاهد، وهم: الملائكة والنبيون وأعضاء الإنسان، والأرض (التي فُعِلتْ عليها الطاعات والمعاصي)، وغير ذلك).
♦ فهؤلاء يَشهدون على الكاذبين يوم القيامة، ويقولون: ﴿ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ فغَضِبَ عليهم، وطَرَدَهم من رحمته﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ (أي بُعداً لهم مِن رحمة اللهِ تعالى)، وهؤلاء الظالمون هم ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أي يَمنعون الناس عن الدخول في سبيل اللهِ المُوَصِّلة إلى جَنَّته (وهي الإسلام) ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ أي يريدون أن تكون هذه السبيل عَوجاء لِتُوافِق أهوائهم، ﴿ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ فلا يُؤمنون ببَعثٍ ولا جزاء.
الآية 20، والآية 21، والآية 22: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ الكافرون﴿ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾: أي لم يكونوا لِيَهربوا من عذاب اللهِ في الدنيا، بل هو قادرٌ على أنْ يُنزل بهم عذابه مَتَى أرادَ ذلك، ﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ﴾ أي: وما كان لهم مِن أنصارٍ يَمنعونهم مِن عقابه سبحانه،﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ في جهنم، لأنهم﴿ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ﴾: أي كانوا لا يَستطيعون أن يَسمعوا القرآن سَماعَ تَدَبُّر وانتفاع ﴿ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ﴾ أي: وما استطاعوا أن يُبصِروا آيات اللهِ - في هذا الكون - إبصارَ تَفَكُّر واهتداء (وذلك لاشتغالهم بالباطل الذي كانوا مُقيمين عليه)، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي أهلكوا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، (إذ معنى خُسران النفس: عدم الانتفاع بها في الدنيا، حين كان في إمكانهم أن يَجعلوها تفعل الخير الذي يُؤدي بهم إلى الجنة)، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾: أي ذهب وغاب عنهم ما كانوا يَزعمونه كَذِباً مِن شفاعة آلهتهم لهم يوم القيامة، ﴿ لَا جَرَمَ ﴾ أي حَقًا، ولا شَكَّ﴿ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ﴾ أي أخْسَرُ الناسِ صَفَقةً، لأنهم استبدلوا النعيم المُقيم بالعذاب الأليم.
الآية 23: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ أي انقادوا للهِ تعالى وخَشَعوا له: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، (واعلم أنّ الخُشوع هو الذل والخوف من اللهِ تبارك وتعالى، فالخاشعون ذليلون مِن كَثرة النِعَم، وذليلون أيضاً من كثرة الذنوب، وهم الخائفون من المَلِك الجبار، الذي سيَحكم عليهم بجنةٍ أو بنار).
الآية 24: ﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ﴾ يعني: مَثَل فريقَي الكفر والإيمان: ﴿ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ ﴾﴿ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ﴾ ففريق الكفر لا يُبصِر الحق ولا يَسمع داعيَ الله، أمّا فريق الإيمان فقد أبصر حُجَجَ اللهِ فآمَنَ بها، وسَمِعَ داعيَ اللهِ فأجابه،﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ﴾ أي: هل يَستوي هذان الفريقان؟ والجواب: لا، ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾: يعني أفلا تتفكرون أيها المشركون بعقولكم، فتعلموا أنَّ ما أنتم عليه هو الباطل، وأنّ اللهَ تعالى هو وحده المُستحق للعبودية؟!
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
تفسير الربع الثاني من سورة هود كاملا بأسلوب بسيط
الآية 25، والآية 26: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ﴾ فقال لهم: ﴿ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ ﴾ مِن عذاب اللهِ تعالى، ﴿ مُبِينٌ ﴾: أي أُوَضِّح لكم ما أُرْسِلتُ به إليكم (توضيحاً يَزولُ به الإشكال)، ولِآمُرَكُم ﴿ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ ﴾ - إنْ أشْرَكتم به - ﴿ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾.
الآية 27: ﴿ فَقَالَ ﴾ له ﴿ الْمَلَأُ ﴾ وهم السادة والرؤساءُ ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ﴾: ﴿ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا ﴾: يعني إنك لستَ مَلَكاً، ولكنك بَشَرٌ مِثلنا، فكيف أُوحِيَ إليك مِن دُوننا؟ (فجعلوا ذلك مانعاً لهم عن اتِّباعه، مع أنّ هذا هو الصواب الذي لا يَنبغي غيره، وذلك حتى يَستطيعوا السَماعَ منه ومُخاطبته)، وكذلك فإنّ المَلَك ليس له شهوة، فإذا جاءهم يوماً وأمَرَهم بالانتهاء عن الشهوات المُحَرَّمة، فإنهم سيَحتجون عليه بقولهم: (نحن لنا شهوة وأنت لستَ مِثلنا، فاتركنا وشأننا)، بخِلاف ما لو كانَ الرسولُ بَشَراً مِثلهم، فإنهم لن يَستطيعوا الاحتجاج عليه بذلك.
♦ ثم قالوا له - عندما رأوا أنّ أتْباعه من الفقراء وأصحاب المِهَن الحِرَفيّة البسيطة -: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾ أي سَفَلَة القوم وضُعفائهم (وهذا بِزَعْمهم الباطل، وإلاَّ، فإنهم في الحقيقة هم الأشراف وأهل العقول، الذين انقادوا للحق بمجرد ظهوره، ولم يكونوا كالسَفَلَة - الذين يُقال لهم المَلأ - الذين اتَّبعوا شهواتهم ومَلَذّاتهم، وعانَدوا مِن أجل الحفاظ على مَناصبهم الفانية، ورضوا بأن يَتَّخذوا آلهةً من الحَجَر والشجر، يَتقربون إليها ويَسجدون لها).
♦ ثم وَصَفوا أتْباعه بقولهم: ﴿ بَادِيَ الرَّأْيِ ﴾: أي ظاهر الرأي، يعني: الذين ليس عندهم عُمق في التفكير وتَصَوُّر الأمور، فقد اتَّبعوك مِن غير تَفَكُّر ولا تَمَهُّل، بل بمجرد ما دَعَوْتَهم اتَّبعوك (ولم يَعلم هؤلاء أنّ الحق الواضح تدعو إليه العقول الصحيحة والفِطَر السليمة، وتَعرِفُه بمجرد ظهوره، لا كالأمور الخَفِيّة، التي تحتاجُ إلى تأمُّل وفِكرٍ طويل)، ثم قالوا له: ﴿ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ﴾ يعني: وما نَراكم أفضل مِنَّا في رِزقٍ أو مال (بعدما دخلتم في دينكم هذا)، ولستم أفضل مِنّا لِنَنقادَ لكم ﴿ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ فيما تَدْعوننا إليه.
الآية 28: ﴿ قَالَ ﴾ نوح: ﴿ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ ﴾ يعني أخبِروني﴿ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ﴾ أي على عِلمٍ يَقيني أَوحاه إليَّ ربي وأمَرَني أن أدعو الناس إليه (وهو عبادته وحده لا شريك له) لأنه الخالق الرازق المُستحِق وحده للعبادة، (واعلم أن البَيِّنة: هي الحُجَّة الواضحة، وتُطلَق أيضاً على المُعجزة، فيَجوز أن تكون له مُعجزة لم يَذكرها اللهُ تعالى، فإنّ بعثة الرُسُل عليهم السلام لا تَخلو من المعجزات الدالّة على صِدقهم)، ﴿ وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ﴾ - وهي النُبُوّة والرسالة - ﴿ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ﴾: أي فأخفاها سبحانه عليكم، وصَرَفَكم عن فَهْمها وقبولها، بسبب غروركم واتِّباعكم لأهوائكم، فأخبِروني إذاً: ماذا أصنع معكم أنا والمؤمنونَ بي؟ ﴿ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ يعني:فهل يَصِحّ أن نُلْزمكم باتِّباع هذه الرسالة بالإكراه؟ لا نفعل ذلك أبداً، ولكننا نُفوض أمْرَكم إلى اللهِ تعالى، حتى يَقضي فيكم - بعدله وحِكمته - ما يَشاء.
الآية 29، والآية 30: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ﴾ أي لا أطلب منكم مالاً تؤدونه إليَّ بعد إيمانكم (حتى لا يكون ذلك مانعاً لكم عن اتِّباعي)، ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ يعني: ولكنّ ثوابَ دَعْوَتي لكم على اللهِ وحده، ﴿ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ يعني: وليس لي أن أطرد المؤمنين مِن حَولي - كما اقترحتم عليّ - بحُجَّة أنهم فقراء ضعفاء، حتى أُرضِيكم فتَقبلوا الاستماعَ مِنِّي، فـ ﴿ إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ ﴾ يوم القيامة، وسيَشهدون على مَن ظَلمهم، فكيف يَصِحّ مِنِّي إبعادهم عن سَماع الهُدى وتَعَلُّم الخير؟! ﴿ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴾ أي تَجهلونَ أنّ العِبرة بزكاة النفوس وطهارة الأرواح، لا بالمال والجاه كما تتصورون، ﴿ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ ﴾ يعني مَن يَمنع عني عقابَ اللهِ إنْ طردتُ عباده المؤمنين (الذين تحتقرهم عيونكم المريضة، التي لا تَقدر على رؤية الحق وأهله)؟ ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾:يعني أفلا تتدبرون الأمور، فتعلموا ما هو الأنفع لكم والأصلح؟!
♦ واعلم أنّ هذا قد حدث أيضاً مع بعض المشركين في مكة، حيثُ اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُبعِد عن مَجلسه فقراء المؤمنين - مثل بلال وعَمّار وصُهَيْب - حتى يَجلسوا إليه ويَسمعوا عنه، فقالوا له: (اطرد هؤلاء عنك حتى لا يَجْترئوا علينا)، فهَمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَفعل ذلك (رجاء هِداية أولئك المشركين)، فنَهاه اللهُ تعالى عن ذلك بقوله: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾.
الآية 31: ﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ﴾ يعني: ولا أزعُم أنني أملك التصرف في خزائن اللهِ تعالى، (وقد قال هذا رَدَّاً على قولهم: وما نَرَى لكم علينا مِن فضل)، ﴿ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ فأعرف ما تُخفيه صدور الناس فأطرد هذا وأُبقي هذا،﴿ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ (وذلك رَدَّاً على قولهم: ما نَراك إلا بشراً مِثلنا)، ﴿ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ ﴾ يعني: ولن أقول لهؤلاء الذين تحتقرونهم من المؤمنين أنهم ﴿ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ﴾ لأنهم فقراء ضعفاء، فـ ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ من الخير الذي كان سبباً في هِداية اللهِ لهم - كما قال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ - فإنْ كانوا صادقين في إيمانهم، فلهم الخير الكثير، وإنْ كانوا غير ذلك، فحسابهم على اللهِ تعالى، ولئن حَكَمتُ عليهم بغير عِلم﴿ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾.
الآية 32، والآية 33، والآية 34: ﴿ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾ ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ من العذاب﴿ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم:﴿ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ ﴾: يعني إنّ اللهَ وحده هو الذي يأتيكم بالعذاب إذا شاء ذلك، ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾أي: واعلموا أنكم لن تُفلِتوا مِن عذابِ اللهِ تعالى (إذا أراد أن يُعَذبكم)، ﴿ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ﴾ يعني: إنّ نصيحتي لكم لن تَنفعكم شيئاً، مَهما أرَدْتُ ذلك واجتهدتُ فيهِ ﴿ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ﴾ أي يُبقِيكم في الضلال بسبب عِنادكم وتكَبُّرِكم عن الانقياد للحق، ﴿ هُوَ رَبُّكُمْ ﴾: أي هو مالِكُكُم ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ في الآخرة للحساب والجزاء (وحِكمَتُهُ سبحانه تَقتضي أن يَرحم الصالحين ويُعَذب الظالمين).
الآية 35: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾- هذه الجُملة يُحتمَل أنها تتحدث عن نوح عليه السلام (كما كانَ السِيَاقُ في قصته مع قومه)، فيكون المعنى: بل يقول هؤلاء المشركونَ مِن قوم نوح: (لقد افترى نوحٌ هذا القول مِن عند نفسه، وزعم أنه مِن عند الله)، فقال اللهُ له: ﴿ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾: يعني إنْ كنتُ قد افتريتُ ذلك على الله: فعليَّ وحدي إثم ذلك، وإذا كنتُ صادقًاً: فأنتم المُجرمون الآثمون ﴿ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ﴾ يعني: وأنا بريءٌ مِن كُفركم وتكذيبكم وإجرامكم.
♦ ويُحتمَل أنها تتحدث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ تكون هذه الآية مُعترضة في أثناء قصة نوح وقومه، لأنّ هذه القصص لا يَعلمها إلا الأنبياء (وذلك لِبُعد تاريخها)، فلما قصَّها اللهُ على رسوله - وكانت من الآيات الدالة على صِدقه - ذَكَرَ تعالى تكذيبَ قومه له، فقال: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ أي اختلق هذا القرآن مِن عند نفسه، (وهذا مِن أعْجَب الأقوال وأبْطَلها، فإنهم يَعلمون أنه لم يَقرأ ولم يَكتب، ولم يَرحل عنهم ليَدرس على أهل الكتاب).
♦ فلمَّا جاءهم صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب، تَحَدَّاهم بأن يأتوا بسورةٍ مِن مِثله فلم يستطيعوا، فإذا زعموا بعد ذلك أنه افتراه، عُلِمَ أنهم مُعانِدون، ولم يَبقَ فائدة في جدالهم، بل اللائق في هذه الحال: (الإعراض عنهم)، ولهذا قال تعالى له: ﴿ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ ﴾ كما زعمتم ﴿ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾ أي ذنبي وكذبي، ﴿ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ﴾، إذ لا فائدة مِن جدالكم.
♦ وفي هذا دليل على جَواز الاعتراض أثناء الكلام إذا حَسُنَ مَوقعه (كإقامة حُجَّة، أو إبطال باطل، أو تنبيه على أمْرٍ مُهِمّ).
الآية 36، والآية 37: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ ﴾ - لمَّا حَقَّ العذابُ على قومه - ﴿ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ ﴾ ﴿ فَلَا تَبْتَئِسْ ﴾: أي فلا تَحزن يا نوح﴿ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ من التكذيب والفس
اد، فإني مُنَجِّيك ومَن معك من المؤمنين، ومُهلِكُ المُكَذِبينَ بالغَرَق، ﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾: أي اصنع السفينة تحت بَصَرِنا وتحت رعايتنا، ﴿ وَوَحْيِنَا ﴾ يعني: وبتوجيهنا وتعليمنا (إذ لم يكن يَعرف السُفُن ولا كيفية صُنعها)، ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ أي: ولا تطلب مِنِّي صَرْفَ العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، ولا تَشفع لهم في تخفيفه عنهم، فـ ﴿ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ بالطوفان لا مَحالة.
الآية 38، والآية 39، والآية 40: ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ﴾ أي: ويَصنع نوحٌ السفينة ﴿ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ﴾ لأنه كان يَصنع السفينة على الرمال، وليس هناك بَحْرٌ تمشي عليه، فقالوا له: (تَحمل هذا الفُلك إلى البحر، أو تَحمل البحر إليه)، فـ﴿ قَالَ ﴾ لهم:﴿ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا ﴾ اليوم لِجَهلكم بصِدق وَعْد الله: ﴿ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ ﴾ غدًا عند غَرَقكم﴿ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ - إذا جاء أمْرُ اللهِ تعالى -: ﴿ مَنْ ﴾ مِنَّا الذي ﴿ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ﴾ أي يُذِلُّه ويُهينه ويَكسر كبريائه (هذا في الدنيا)،﴿ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ أي: ويَنزل به في الآخرة عذابٌ دائم، لا يَنتهى أبداً، ولا يفارقه لحظة.
♦ ثم واصل نوح صُنع السفينة ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا ﴾ بإهلاكهم كما وَعَدْنا نوحًا بذلك، ﴿ وَفَارَ التَّنُّورُ ﴾ أي: ونبع الماء بقوة من الفرن - الذي يُخبز فيه - (وكانَ هذا علامة على مجيء العذاب، لأنّ الله تعالى قد فجَّرَ الأرض عُيوناً من الماء، حتى نبع الماء من الفرن)، وحينئذٍ ﴿ قُلْنَا ﴾ لنوح: ﴿ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾: أي احمل في السفينة مِن كل نَوعٍ من أنواع الحيوانات (ذكر وأنثى)، واحمل فيها أهل بيتك﴿ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ مِمَّن لم يُؤمن من أهلك - كامرأتك وابنك -، ﴿ وَمَنْ آَمَنَ ﴾ أي: واحمل فيها مَن آمَنَ معك مِن قومك، ﴿ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ على الرغم مِن طول مُدّة رسالته.
<<<<<<<<<<
تفسير الربع الثالث من سورة هود كاملا بأسلوب بسيط
الآية 41: ﴿ وَقَالَ ﴾ نوحٌ لمن آمَنَ معه: ﴿ ارْكَبُوا فِيهَا ﴾ أي في السفينة، قائلين ﴿ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ أي: ببركة اسم اللهِ تعالى يكونُ جَرْيُها على الماء (حتى يَحفظها من الغَرَق)، وببركة اسمهِ تعالى تَرسو وتَقف (حتى يَحفظها من التَحَطُّم)، ﴿ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ حيثُ غَفَرَ لنا ورَحِمَنا، فلم يُهلكنا بذنوبنا، ونَجّانا من القوم الظالمين.
الآية 42: ﴿ وَهِيَ ﴾ - أي السفينة - ﴿ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ﴾ في عُلُوِّها، ﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ﴾ ﴿ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ ﴾ أي في مكانٍ بعيد عن المؤمنين حين ركبوا، فقال له نوح: ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ حتى لا تغرق كما يَغرقون.
الآية 43: ﴿ قَالَ ﴾ ابن نوح: ﴿ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي ﴾: أي سألجأ إلى جبلٍ أتحَصَّن به ﴿ مِنَ الْمَاءِ ﴾، فـ ﴿ قَالَ ﴾ له نوح: ﴿ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ أي مِن قضائه بالغرق والهلاك ﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ﴾ يعني إلا مَن رحمه اللهُ ونَجّاه معنا في السفينة، فلم يَستجب ابنه له ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ ﴾ أي منعه الموج المرتفع أن يَصل إلى ابنه أو يُكلمه ﴿ فَكَانَ ﴾ الابن ﴿ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾.
الآية 44: ﴿ وَقِيلَ ﴾ أي: وقال اللهُ تعالى - بعد هلاك قوم نوح -: ﴿ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ﴾ ﴿ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ﴾ أي لا تُمطِري ﴿ وَغِيضَ الْمَاءُ ﴾ أي نَقص وجَفّ، ﴿ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ﴾ بهلاك المُكذبين ونجاة المؤمنين، ﴿ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ﴾ أي: ورَسَت السفينة على جبل الجوديِّ، ﴿ وَقِيلَ بُعْدًا ﴾ أي هَلاكًا ﴿ لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ الذين تجاوزوا حدود اللهِ ولم يُوَحِّدوه.
♦ واعلم أنّ اللهَ تعالى قد أمَرَ الأرض أن تَبلع ماءها أولاً، لأنها تحمل الماء الذي خرج منها، وكذلك تحمل الماء الذي نزل إليها (فكانَ عليها أكثر الماء)، وكذلك يَستشعر الإنسان عظمة ربه تعالى في نداءه للأرض والسماء، وكأنهما جُندِيَّان في معركة، ثم أُمِرا بالانسحاب بعد أن أَتَمَّ كُلٌّ منهما مُهِمَّته.
الآية 45: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي ﴾ الذي غرق ﴿ مِنْ أَهْلِي ﴾ ﴿ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ﴾ وقد وعَدْتني أن تُنجيني وأهلي من الغرق والهلاك، ﴿ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴾ وأعْدَلُهم.
الآية 46، والآية 47: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى: ﴿ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ يعني إنّ ابنك - الذي هَلَكَ - ليس مِن أهلِك الذين وعدتُكَ أنْ أُنجيهم، فـ ﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ أي لأنه كافر، وعَمَلُهُ عملٌ غيرُ صالح، ففي قراءةٍ أخرى: ﴿ إنه عَمِلَ غيرَصالح ﴾، ﴿ فَلَا تَسْأَلْنِ ﴾ يانوح ﴿ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾، وفوِّضْ الأمرَ إليَّ، ﴿ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾: يعني أعظك وَعْظاً تنجو به من صفات الجاهلين.
♦ فحينئذٍ نَدِمَ نوحٌ على ما صَدَرَ منه، و ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ ﴾ أي أعتصم بك مِن ﴿ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾ ﴿ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ﴾ يعني: وإنْ لم تغفر لي ذنبي ﴿ وَتَرْحَمْنِي ﴾ برحمتك: ﴿ أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ أيالهالكين في الدنيا والآخرة.
الآية 48: ﴿ قِيلَ ﴾ أي: قال اللهُ تعالى: ﴿ يَا نُوحُ اهْبِطْ ﴾ من السفينة إلى الأرض ﴿ بِسَلَامٍ مِنَّا ﴾ ﴿ وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ﴾ مِن الآدميين وغيرهم (من الأزواج التي حملتَها معك)، وبالفِعل، فقد بارَكَ اللهُ في الجميع، حتى ملأتْ ذرياتهم جميع أنحاء الأرض، ﴿ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ﴾ يعني: وهناك أُمَمٌ - مِن أهل الشَقاء - سنُمَتِّعهم في الدنيا إلى أن يَبلغوا آجالهم ﴿ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ يوم القيامة.
الآية 49: ﴿ تِلْكَ ﴾ القصة التي قصصناها عليك - أيها الرسول - هي ﴿ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ﴾ ﴿ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ﴾ البَيان، ﴿ فَاصْبِرْ ﴾ على تكذيب قومك وإيذائهم لك، كما صَبَرَ نوح على أذى قومه فكانت العاقبة له، ﴿ إِنَّ الْعَاقِبَةَ ﴾ الطيبة في الدنيا والآخرة ﴿ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ الذين يَخشونَ اللهَ تعالى فيَجتنبوا مَعاصيه.
الآية 50: ﴿ وَإِلَى عَادٍ ﴾ أي: ولقد أرسلنا إلى قبيلة عاد: ﴿ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾ حينَ عبدوا الأصنام مِن دون اللهِ تعالى، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده، فـ ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ﴾ يَستحق العبادة ﴿ غَيْرُهُ ﴾ فأخلِصوا له العبادة، ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾ يعني: ما أنتم إلا كاذبونَ على اللهِ تعالى بزَعْمِكم أنّ له شُرَكاء.
الآية 51: ﴿ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ أي لا أطلب منكم أجراً على ما أدعوكم إليه من التوحيد، ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ﴾ يعني: ما أجري إلا على اللهِ الذي خلقني، ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ فتُمَيِّزوا بين الحق والباطل؟!
الآية 52: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ﴾ نادمينَ على ما فعلتم، مُعترفينَ بخطئكم ﴿ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾ مِن شِرككم وذنوبكم، فإنكم إنْ فعلتم ذلك ﴿ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾: أي يُرسل المطر عليكم متتابعًا كثيرًا فتَكثُر خيراتكم ﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ (فإنهم كانوا مِن أقوى الناس)، ولهذا قالوا: (مَن أشَدّ مِنّا قوة)؟، فوعدهم هُود عليه السلام أنهم إن آمَنوا، زادهم اللهُ قوةً إلى قوتهم، ﴿ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ أي: ولا تُعرضوا عَمَّا دعوتُكم إليه، مُصِرِّينَ على إجرامكم.
الآية 53، والآية 54، والآية 55: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ﴾ أي ما جئتنا بحُجَّةٍ واضحةٍ على صحة ما تدعونا إليه، وقد كَذَبوا في ذلك، فإنه ما جاءَ نبيٌ لقومه، إلاَّ وبَعَثَ اللهُ على يديه مُعجِزَةً تَشهَد له بصِدق رسالته، وأمّا إنْ كانَ قَصْدهم بالبَيِّنة: المُعجزة التي يَقترحونها عليه، فهذه غير لازمة، بل اللازم أن يأتي النبي بآيةٍ تدل على صحة ما جاء به.
♦ ثم قالوا له: ﴿ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ ﴾ أي مِن أجْل قولك ﴿ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ يعني: وما نقول إلا أنّ بعض آلهتنا قد أصابتك بجنون بسبب نَهْيِكَ عن عبادتها، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم هود: ﴿ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ ﴾ على ما أقول، ﴿ وَاشْهَدُوا ﴾ أنتم أيضاً على ﴿ أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ من الأصنام التي تعبدونها ﴿ مِنْ دُونِهِ ﴾ سبحانه، ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ﴾:أي فاجتمعوا - أنتم وآلهتكم - على إيذائي ﴿ ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾ أي: ثم لا تؤخروني، بل عَجِّلوا بذلك، فإني لا أهتم بآلهتكم لاعتمادي على حِفظ اللهِ وحده.
الآية 56: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾ أي مالِكُ كُلِّ شيءٍ والمتصرف فيه، فلا يُصيبني شيءٌ إلا بأمْره، و ﴿ مَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ تدِبُّ على هذه الأرض ﴿ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾ يعني إلا واللهُ مالكها، وهي في سلطانه وتصرفه ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ يعني: إنه سبحانه عَدلٌ في شَرعه وقضائه، فيُجازي المُحسِن بإحسانه والمُسِيء بإساءته.
الآية 57: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾: أي فإن تتولوا، والمعنى: (فإن تُعرضوا عمَّا أدعوكم إليه من توحيد اللهِ وإخلاص العبادة له) ﴿ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ﴾ من ربي، وأقمتُ عليكم الحُجَّة، فإن لم تؤمنوا: فستكونوا من الهالكين ﴿ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾ أي: وسيأتي ربي بقومٍ آخرينَ يَخلُفونكم، ويُخلصون له العبادة، ﴿ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ﴾ لأنّ إعراضكم يَضُرُّكم أنتم، أمّا اللهُ تعالى فهو غنيٌ عن عبادتكم، لا تضره مَعصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وإنما مَن عمل صالحاً فلنفسه، ومَن أساءَ فعليها، ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ (فهو سبحانه الذي يَحفظني مِن أن تُصِيبوني بسوء).
الآية 58: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ﴾ بعذابهم: ﴿ نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ﴾ ﴿ وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ أي: ونجَّيناهم مِن عذابٍ شديد أنزلناه بقوم عاد.
الآية 59، والآية 60: ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ - ولهذا قالوا لهود: (مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)، فتَبَيَّنَ بهذا أنهم كانوا مُتَيَقنون بدعوته، وإنما عانَدوا ﴿ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ﴾ (لأنّ مَن عَصَى رسولاً فقد عَصَى جميع الرسل، إذ دعوتهم واحدة وهي التوحيد)، ﴿ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾: أي: وأطاعت عادٌ أمْرَ كل متكبرٍ عنيد، لا يَقبل الحق ولا يَخضع له، ﴿ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ﴾ مِن اللهِ تعالى، فأخبارهم القبيحة قد وصلتْ إلى كل وقتٍ وجِيل، فيَلعنهمالمؤمنون ويَذمُّونهم، ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ لهم أيضاً لعنة، بطَردهم من الجنة وإدخالهم النار، ﴿ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ﴾ أي جحدوا ربهم الذي خَلقهم ورزقهم فعبدوا معه غيره، ﴿ أَلَا بُعْدًا ﴾ وهلاكًا ﴿ لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾ بسبب شِركهم وكُفرهم بنعمة ربهم.
يتبع
(1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
الآية 1، والآية 2: ﴿ الر ﴾ سَبَقَ الكلام عن الحروف المُقطَّعة في أول سورة البقرة.
♦ إنَّ هذا القرآنَ هو ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ﴾ أي أُتقِنَت آياته، ﴿ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾ أي: ثم بُيِّنَتْ آياته للناس - بَياناً في أعلى أنواع البَيان - وذلك بتوضيح الحلال والحرام، والقصص والمواعظ، والآداب والأخلاق، والعقائد والبراهين، بما لا مَثِيل له في أيّ كتابٍ سابق.
♦ وقد كان ذلك التفصيل ﴿ مِنْ لَدُنْ ﴾ أي مِن عند﴿ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ وهو اللهُ سبحانه وتعالى، الحكيمُ في تدبيره وتصَرُّفه وشَرْعه وقضائه، الذي يَضع الأمور في مَواضعها، الخبيرُ بأحوال عباده وما يُصلح خَلقه (فلذلك لا يكونُ كتابه إلا المَثَل الأعلى في كل شيء)، وقد أنزله اللهُ تعالى وبَيَّنَ أحكامه لأجْل ﴿ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ إذ لا مَعبودَ بحقٍّ إلا هو، ولا عبادة تنفع إلا عبادته.
♦ وقل أيها النبي للناس: ﴿ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ ﴾ يعني: إنني رسولٌ لكم مِن عند اللهِ تعالى،﴿ نَذِيرٌ ﴾ أُنذِرُكم عقابهُ إنْ أشركتم به وعصيتموه ﴿ وَبَشِيرٌ ﴾ أُبَشِّركم بثوابه إنْ وَحَّدتموهُ وأطعمتموه.
الآية 3، والآية 4: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ﴾ أي اطلبوا منه أن يَغفر لكم ما صَدَرَ منكم من الشرك والذنوب، ﴿ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾ أي: ثم ارجِعوا إليه بالإيمان والعمل الصالح: ﴿ يُمَتِّعْكُمْ ﴾ في دُنياكم ﴿ مَتَاعًا حَسَنًا ﴾ بطِيب العَيش وسعة الرزق ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾: يعني إلى وقت انتهاء آجالكم،﴿ وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ يعني: ويُعطِ سبحانه أهلَ الإحسان والبِرّ مِن فضله ونعيمه في الجنة، ما تقِرّ به أعْيُنُهم، (فالفضل المذكور أوّلاً: هو العمل الصالح، والفضل المذكور ثانياً: هو دخول الجنة)، وهذا كقوله تعالى: ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ ﴾.
﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾: يعني وإن تتولوا (والمعنى: وإن تُعرِضوا عمَّا أدعوكم إليه) ﴿ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ (وهو يوم القيامة) الذي يَجمع اللهُ فيه الأولين والآخِرين.
♦ واعلموا أنّما ﴿ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ جميعًا بعد موتكم فاحذروا عقابه، ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي: وهو سبحانه قادرٌ على بَعثكم وحَشركم وجَزائكم.
الآية 5: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ ﴾ - أي المشركين -﴿ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ﴾: أي يُخفونَ الكُفر في صدورهم ﴿ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ﴾ يعني: وذلك ظنًاً منهم أنه يَخفَى على اللهِ تعالى ما تُخفيه نفوسهم.
♦ فرَدَّ اللهُ على ذلك الظن الفاسد بقوله: ﴿ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ﴾: يعني ألاَ يَعلمون أنَّهم- حين يُغَطُّونَ أجسادهم بثيابهم - فإنه تعالى ﴿ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي لا يَخفَى عليه سِرُّهم وعَلانيتهم، بل ﴿ إِنَّهُ ﴾ سبحانه ﴿ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ أي عليمٌ بكل ما تُخفِيهِ صدورهم من النِيَّات والخواطر.
الآية 6: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ﴾ - أي تدبّ على وجه الأرض - ﴿ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾، ﴿ وَيَعْلَمُ ﴾ سبحانه﴿ مُسْتَقَرَّهَا ﴾أي مكان استقرارها في حياتها وبعد موتها، ﴿ وَمُسْتَوْدَعَهَا ﴾ أي: ويَعلم الموضع الذي تموت فيه (واعلمأنّ اللفظ "مُستَودَعَها": يُوحِي بأنها تُوَدِّع الدنيا في هذا المكان)، ﴿ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾: أي كل ذلك مكتوبٌ في كتابٍ واضح عند اللهِ تعالى، وهو اللوح المحفوظ.
♦ ومِن لطيفِ ما يُذكَر أنّ حاتم الأصَمّ سُئِلَ يَوماً: (مِن أين تأكل يا حاتم؟)، فقال: (مِن عند الله)، فقيل له: (اللهُ يُنزلُ لك دنانير ودَراهِم من السماء؟)، فقال: (كأنّ ما لَهُ إلاّ السماء! يا هذا: الأرض له، والسماء له، فإن لم يُؤتني رزقي من السماء، ساقَهُ لي من الأرض).
الآية 7: ﴿ وَهُوَ ﴾ سبحانه﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ ﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾ - قبل أن يَخلقالسماوات والأرض -، فلمَّا خلق سبحانه السماوات والأرض: استوَى على عرشه فوق السماء السابعة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، وقد كانت أمُّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها تقول: (زَوّجَني اللهُ تعالى من فوق سبع سماوات)، وذلك في قوله تعالى لنَبِيِّهِ محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ﴾، (ولك أن تُراجِع - في إثبات استواء اللهِ تعالى على عرشه فوق السماء السابعة - تفسير قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ﴾، في الآية الثالثة من سورة الأنعام مِن هذا التفسير، فإنّ فيه بَياناً شافياً، وللهِ الحمدُ والمِنَّة).
♦ وقد خَلَقَ سبحانه كلَّ شيءٍ لأجْلِكُم، ثم خَلَقَكم ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾: أي لِيَختبركم أيُّكُم أتقنُ في الطاعةً وأحسنُ في العمل الصالح (وهو كلّ ما كانَ خالصًا للهِ تعالى، وموافقًا لِمَا كان عليه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم).
﴿ وَلَئِنْ قُلْتَ ﴾ - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين: ﴿ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ ﴾ يعني إنكم ستُبعَثون أحياءً بعد موتكم: ﴿ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ - مُسارِعينَ إلى التكذيب مِن غير تدَبُّرٍ وتثَبُّت -: ﴿ إِنْ هَذَا ﴾ أي: ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا﴿ إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ أي سحرٌ ظاهر، وهم يَعلمون أنهم كاذبونَ في ذلك، فلقد اعترف لهم أحد رؤسائهم - وهو الوليدُ بن المُغِيرة - أنّ ما يَقوله السَحَرةُ شيئ، وأنَّ هذا القرآن شيئٌ آخر، وأنه ليس بكلامِ بَشَر (وذلك عندما سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أجْبَره المشركون بعد ذلك أن يقولَ للناس إنه سِحر).
♦ واعلم أنهم عندما يقولون عن القرآن إنه سِحر، فإنهم في حقيقة الأمر يَعترفون بهزيمتهم في أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فيَضطروا إلى اللجوء إلى هذا القول الباطل.
الآية 8: ﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ﴾ يعني إلى أجَلٍ معلوم، فاستبطؤا نزوله: ﴿ لَيَقُولُنَّ ﴾ - يعني حينئذٍ سيقول المشركون - استهزاءً وتكذيبًا: ﴿ مَا يَحْبِسُهُ ﴾: يعني أيّ شيء يَمنع نزول هذا العذاب إن كانَ حقًا؟ ﴿ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ﴾ ذلك العذاب، فإنه ﴿ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ ﴾: أي لا يستطيعُ أحدٌ أن يَدفعه عنهم، ﴿ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾: يعني وحينئذٍ سيُحِيطُ بهم العذاب الذي كانوا به يَستهزئون.
♦ واعلم أنّ لفظ "أمَّة" يأتي أحياناً بمعنى: (جماعة من الناس)، وأحياناً بمعنى: (فترة من الزمن)، واعلم أيضاً أنّ اللهَ تعالى قد ذكَرَ لفظ: (حاقَ) بصيغة الماضي - مع أنّ العذاب لم يأتِ بعد - وذلك لتأكيد وقوعه في عِلم اللهِ تعالى.
الآية 9، والآية 10، والآية 11: ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ﴾ يعني: ولئن أعطينا الإنسان نعمةً مُعَيَّنة - مِن صحةٍ أو رزقٍ أو أمْنٍ أو غير ذلك - ﴿ ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ ﴾ بسبب عِصيانه وغفلته واغتراره بتلك النعمة وعدم شُكره عليها: ﴿ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ ﴾: يعني إنه - حينما تُسلَب منه تلك النعمة - لَشديد اليأس مِن رحمة اللهِ تعالى، ساخطٌ على قضائه، و ﴿ كَفُورٌ ﴾: أي جَحود بالنعم التي أنعمَ اللهُ بها عليه قبل ذلك السَّلب.
﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ﴾ - وذلك كأنْ يُوَسِّعَ اللهُ عليه في رزقه بعد أن كانَ في ضِيقٍ من العَيش -﴿ لَيَقُولَنَّ ﴾ عند ذلك: ﴿ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ﴾: أي ذهب الضِيقُ عني وزالت الشدائد، ﴿ إِنَّهُ ﴾ حينئذٍ﴿ لَفَرِحٌ ﴾ أي مُتكبر بالنعم،﴿ فَخُورٌ ﴾ أي مُبالغ في الفخر والتعالِي على الناس بما أعطاهُ اللهُ له.
♦ ثم استثنى اللهُ الصابرينَ الشاكرين - مِمَّن سبق - فقال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾ على ما أصابهم من الضُرّ (احتسابًا للأجر عند اللهِ تعالى)، ﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ شُكراً للهِ على نِعَمِه ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم﴿ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ في الآخرة.
الآية 12: ﴿ فَلَعَلَّكَ ﴾ - أيها الرسول لِعِظَم ما تراه مِن تكذيب قومك - ﴿ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ مِمّا أنزله اللهُ عليك وأمَرك بتبليغه، (وهذا الكلام غرضه: النهي والاستنكار، يعني: (لا تترك تبليغ ما فيهِ سَبٌّ لآلهتهم كما طلبوا منك)، وذلك لأنهم قالوا له: لو أتَيْتَنا بكتابٍ ليس فيه سَبُّ آلهتنا لاتَّبعناك).
♦ وقد بَلَّغَ الرسول صلى اللهعليه وسلم رسالة ربه كاملة، تقول السيدة عائشة رضي اللهُ عنها: (لو كانَ النبي صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي، لَكَتَمَ هذه الآية: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾.
﴿ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ أي مِن تلاوة القرآن عليهم خشية أن يَطلبوا منك بعض المَطالب على وجه العِناد، كـ﴿ أَنْ يَقُولُوا ﴾: ﴿ لَوْلَا أُنْزِلَ ﴾ - أي هَلاَّ أُنزِلَ -﴿ عَلَيْهِ كَنْزٌ ﴾ أي مالٌ كثير يَعيشُ عليه فيَدُلّ ذلك على إرسال اللهِ له وعنايته به، ﴿ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ﴾ لِيَشهد له بصِدقه في رسالته.
♦ فلا يَضرك قولهم أيها الرسول، ولا يَضِق صدرك بمَطالبهم فـ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ ﴾ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحاه اللهُ إليك،وقد أنذرتَهم، فلا تحزن إذاً على إعراضهم، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ فيَحفظ سبحانه أعمالهم ويُحاسبهم عليها، (واعلم أنّ الوكيل هو مَن يُوَكَّل إليه الأمر لِيُدَبِّرَه).
الآية 13، والآية 14: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ يعني: بل يقولون: (إنّ هذا القرآن قد افتراه محمد مِن عند نفسه)، مع أنهم يَعلمون أنه بَشَرٌ مِثلهم!! إذاً ﴿ قُلْ ﴾ لهم - أيها الرسول -: إذا كانَ هذا مِن كلام البشر ﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ مِن عندكم﴿ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أي: واستعينوا على ذلك بكل مَن تقدرون عليه مِن إنسٍ وجن، ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في دَعواكم، (ولو كانَ ذلك مُمْكِنًا: لادَّعَوا قدرتهم على فِعله، ولكنْ لَمَّا ظهر عَجْزُهُم: تبيَّنَ أنَّ ما زعموه باطل)، ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ﴾ أي: فإن لم يَستجب لكم أعوانكم في الإتيان بمثله - لِعَجْز جميع الخلق عن ذلك - ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ﴾: أي فاعلموا أيها المشركون أنّ هذا القرآن قد أنزله اللهُ على رسوله محمد، بعلمٍ منه سبحانه بأحوال عباده في كل زمان ومكان، وبما يَصلح لهم وما لا يَصلح (فهو تنزيلُ مَن أحاطَ عِلمُهُ بكل شيء، وَوَسِعَتْ رحمته كل شيء)،﴿ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ أي: واعلموا أنه لا معبود بحقٍ إلا الله، ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾: أي فهل أنتم - بعد عَجْزِكم وقيام الحُجَّةِ عليكم - مُسلمونَ مُنقادونَ للهِ تعالى؟
الآية 15، والآية 16: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ﴾ - مُقابل أعمالِهِ الحَسَنة -: ﴿ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ - كالمُرائين الذين يريدون بأعمالهم الثناء من الناس -: ﴿ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا ﴾: أي نُعطِهم - مُقابل ثواب أعمالهم - مِن متاع الدنياوزينتها﴿ وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴾ أي لا يُنقَصون من أعمالهم شيئاً في الدنيا، لأنّ اللهَ تعالى لا يريد أن يَجعل لهم نصيباً في الجنة، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ﴾ ﴿ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ﴾ أي: وذهب عنهم ثوابُ ما عملوه في الدنيا، ﴿ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾أي: وكانَ عملهم باطلاً، لأنه لم يكن خالصاً لوجه اللهِ تعالى.
الآية 17: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ أي على حُجَّةٍ مِن ربه، (والمقصود بهذه الحُجَّة: القرآن الكريم، الذي أنزل اللهُ فيه البراهين، وتَحَدَّى به المشركين)، ﴿ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ﴾ أي: ويَتْبَعُ هذا القرآن دليلٌ آخر يَنطق به ويَشهد بصِدقه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام (لسانُ الصِدق، وصاحبُ الخُلُق العظيم)، حيثُ نَظَرَ إليه أعرابي يَوماً فقال: (واللهِ ما هو بوجه كذّاب)، ﴿ وَمِنْ قَبْلِهِ ﴾ يعني: ويَشهد بصِدق القرآن دليلٌ ثالث نَزَلَ قَبله، وهو التوراة﴿ كِتَابُ مُوسَى ﴾ الذي أنزله اللهُ عليه ليكونَ﴿ إِمَامًا ﴾ يُهتَدَى به ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ لمن آمَنَ به (وذلك قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام)، فهذا الكتاب يَشهد بصدقه صلى الله عليه وسلم، حيثُ ذَكَرَ صفاته وصِفات أُمَّته في أكثر مِن مَوضع.
♦ أفمَن هو على هذه البينات والبراهين مِن صِحَّة دينه - والمقصود به النبي صلى الله عليه وسلم - كمن لا دليلَ له إلا التقليد الأعمى؟! لا يَستويان أبداً، ﴿ أُولَئِكَ ﴾ أي الذين جاءتهم تلك البيّنات والحُجَج ﴿ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أي يُصدِّقون بهذا القرآن ويَعملون بأحكامه، ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ ﴾ (وهم الذين تَحَزَّبوا - أي اجتمعوا - على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم مِن جميع الأمم، وأوّلهم: المشركون واليهود، والنصارى والمَجوس) ﴿ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾ أي قد جعلها اللهُ جزاءً لمن كَفر بالقرآن الكريم، على الرغم مِن وضوحه وقوة حُجَته.
﴿ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ﴾: أي فلا تكن - أيها الرسول - في شَكٍّ من القرآن، بعد ما شَهِدَتْ الأدلة على أنه مِن عند اللهِ تعالى ﴿ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾ (واعلم أنَّ هذا - وإنْ كان خطابًا للرسول صلى الله عليه وسلَّم - فإنه مُوَجَّه للأمَّةِ عموماً)،﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ (لِعِنادهم واتِّباعهم لأهوائهم).
الآية 18، والآية 19: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ يعني: ولا أحد أشد ظلماً﴿ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ فزَعَمَ أنّ له شريكٌ أو ولد﴿ أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ ﴾ أي سيُعرَضون﴿ عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ يوم القيامة ليُحاسبهم على أعمالهم، ﴿ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ ﴾ (والأشهاد: جَمْع شاهد، وهم: الملائكة والنبيون وأعضاء الإنسان، والأرض (التي فُعِلتْ عليها الطاعات والمعاصي)، وغير ذلك).
♦ فهؤلاء يَشهدون على الكاذبين يوم القيامة، ويقولون: ﴿ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ﴾ فغَضِبَ عليهم، وطَرَدَهم من رحمته﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ (أي بُعداً لهم مِن رحمة اللهِ تعالى)، وهؤلاء الظالمون هم ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أي يَمنعون الناس عن الدخول في سبيل اللهِ المُوَصِّلة إلى جَنَّته (وهي الإسلام) ﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ أي يريدون أن تكون هذه السبيل عَوجاء لِتُوافِق أهوائهم، ﴿ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ فلا يُؤمنون ببَعثٍ ولا جزاء.
الآية 20، والآية 21، والآية 22: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ الكافرون﴿ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾: أي لم يكونوا لِيَهربوا من عذاب اللهِ في الدنيا، بل هو قادرٌ على أنْ يُنزل بهم عذابه مَتَى أرادَ ذلك، ﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ﴾ أي: وما كان لهم مِن أنصارٍ يَمنعونهم مِن عقابه سبحانه،﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ في جهنم، لأنهم﴿ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ﴾: أي كانوا لا يَستطيعون أن يَسمعوا القرآن سَماعَ تَدَبُّر وانتفاع ﴿ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ﴾ أي: وما استطاعوا أن يُبصِروا آيات اللهِ - في هذا الكون - إبصارَ تَفَكُّر واهتداء (وذلك لاشتغالهم بالباطل الذي كانوا مُقيمين عليه)، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ أي أهلكوا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها، (إذ معنى خُسران النفس: عدم الانتفاع بها في الدنيا، حين كان في إمكانهم أن يَجعلوها تفعل الخير الذي يُؤدي بهم إلى الجنة)، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾: أي ذهب وغاب عنهم ما كانوا يَزعمونه كَذِباً مِن شفاعة آلهتهم لهم يوم القيامة، ﴿ لَا جَرَمَ ﴾ أي حَقًا، ولا شَكَّ﴿ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ﴾ أي أخْسَرُ الناسِ صَفَقةً، لأنهم استبدلوا النعيم المُقيم بالعذاب الأليم.
الآية 23: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ ﴾ أي انقادوا للهِ تعالى وخَشَعوا له: ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، (واعلم أنّ الخُشوع هو الذل والخوف من اللهِ تبارك وتعالى، فالخاشعون ذليلون مِن كَثرة النِعَم، وذليلون أيضاً من كثرة الذنوب، وهم الخائفون من المَلِك الجبار، الذي سيَحكم عليهم بجنةٍ أو بنار).
الآية 24: ﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ﴾ يعني: مَثَل فريقَي الكفر والإيمان: ﴿ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ ﴾﴿ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ﴾ ففريق الكفر لا يُبصِر الحق ولا يَسمع داعيَ الله، أمّا فريق الإيمان فقد أبصر حُجَجَ اللهِ فآمَنَ بها، وسَمِعَ داعيَ اللهِ فأجابه،﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ﴾ أي: هل يَستوي هذان الفريقان؟ والجواب: لا، ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾: يعني أفلا تتفكرون أيها المشركون بعقولكم، فتعلموا أنَّ ما أنتم عليه هو الباطل، وأنّ اللهَ تعالى هو وحده المُستحق للعبودية؟!
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
تفسير الربع الثاني من سورة هود كاملا بأسلوب بسيط
الآية 25، والآية 26: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ﴾ فقال لهم: ﴿ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ ﴾ مِن عذاب اللهِ تعالى، ﴿ مُبِينٌ ﴾: أي أُوَضِّح لكم ما أُرْسِلتُ به إليكم (توضيحاً يَزولُ به الإشكال)، ولِآمُرَكُم ﴿ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ ﴾ - إنْ أشْرَكتم به - ﴿ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾.
الآية 27: ﴿ فَقَالَ ﴾ له ﴿ الْمَلَأُ ﴾ وهم السادة والرؤساءُ ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ﴾: ﴿ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا ﴾: يعني إنك لستَ مَلَكاً، ولكنك بَشَرٌ مِثلنا، فكيف أُوحِيَ إليك مِن دُوننا؟ (فجعلوا ذلك مانعاً لهم عن اتِّباعه، مع أنّ هذا هو الصواب الذي لا يَنبغي غيره، وذلك حتى يَستطيعوا السَماعَ منه ومُخاطبته)، وكذلك فإنّ المَلَك ليس له شهوة، فإذا جاءهم يوماً وأمَرَهم بالانتهاء عن الشهوات المُحَرَّمة، فإنهم سيَحتجون عليه بقولهم: (نحن لنا شهوة وأنت لستَ مِثلنا، فاتركنا وشأننا)، بخِلاف ما لو كانَ الرسولُ بَشَراً مِثلهم، فإنهم لن يَستطيعوا الاحتجاج عليه بذلك.
♦ ثم قالوا له - عندما رأوا أنّ أتْباعه من الفقراء وأصحاب المِهَن الحِرَفيّة البسيطة -: ﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ﴾ أي سَفَلَة القوم وضُعفائهم (وهذا بِزَعْمهم الباطل، وإلاَّ، فإنهم في الحقيقة هم الأشراف وأهل العقول، الذين انقادوا للحق بمجرد ظهوره، ولم يكونوا كالسَفَلَة - الذين يُقال لهم المَلأ - الذين اتَّبعوا شهواتهم ومَلَذّاتهم، وعانَدوا مِن أجل الحفاظ على مَناصبهم الفانية، ورضوا بأن يَتَّخذوا آلهةً من الحَجَر والشجر، يَتقربون إليها ويَسجدون لها).
♦ ثم وَصَفوا أتْباعه بقولهم: ﴿ بَادِيَ الرَّأْيِ ﴾: أي ظاهر الرأي، يعني: الذين ليس عندهم عُمق في التفكير وتَصَوُّر الأمور، فقد اتَّبعوك مِن غير تَفَكُّر ولا تَمَهُّل، بل بمجرد ما دَعَوْتَهم اتَّبعوك (ولم يَعلم هؤلاء أنّ الحق الواضح تدعو إليه العقول الصحيحة والفِطَر السليمة، وتَعرِفُه بمجرد ظهوره، لا كالأمور الخَفِيّة، التي تحتاجُ إلى تأمُّل وفِكرٍ طويل)، ثم قالوا له: ﴿ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ﴾ يعني: وما نَراكم أفضل مِنَّا في رِزقٍ أو مال (بعدما دخلتم في دينكم هذا)، ولستم أفضل مِنّا لِنَنقادَ لكم ﴿ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ فيما تَدْعوننا إليه.
الآية 28: ﴿ قَالَ ﴾ نوح: ﴿ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ ﴾ يعني أخبِروني﴿ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ﴾ أي على عِلمٍ يَقيني أَوحاه إليَّ ربي وأمَرَني أن أدعو الناس إليه (وهو عبادته وحده لا شريك له) لأنه الخالق الرازق المُستحِق وحده للعبادة، (واعلم أن البَيِّنة: هي الحُجَّة الواضحة، وتُطلَق أيضاً على المُعجزة، فيَجوز أن تكون له مُعجزة لم يَذكرها اللهُ تعالى، فإنّ بعثة الرُسُل عليهم السلام لا تَخلو من المعجزات الدالّة على صِدقهم)، ﴿ وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ﴾ - وهي النُبُوّة والرسالة - ﴿ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ﴾: أي فأخفاها سبحانه عليكم، وصَرَفَكم عن فَهْمها وقبولها، بسبب غروركم واتِّباعكم لأهوائكم، فأخبِروني إذاً: ماذا أصنع معكم أنا والمؤمنونَ بي؟ ﴿ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ يعني:فهل يَصِحّ أن نُلْزمكم باتِّباع هذه الرسالة بالإكراه؟ لا نفعل ذلك أبداً، ولكننا نُفوض أمْرَكم إلى اللهِ تعالى، حتى يَقضي فيكم - بعدله وحِكمته - ما يَشاء.
الآية 29، والآية 30: ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ﴾ أي لا أطلب منكم مالاً تؤدونه إليَّ بعد إيمانكم (حتى لا يكون ذلك مانعاً لكم عن اتِّباعي)، ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ يعني: ولكنّ ثوابَ دَعْوَتي لكم على اللهِ وحده، ﴿ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ يعني: وليس لي أن أطرد المؤمنين مِن حَولي - كما اقترحتم عليّ - بحُجَّة أنهم فقراء ضعفاء، حتى أُرضِيكم فتَقبلوا الاستماعَ مِنِّي، فـ ﴿ إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ ﴾ يوم القيامة، وسيَشهدون على مَن ظَلمهم، فكيف يَصِحّ مِنِّي إبعادهم عن سَماع الهُدى وتَعَلُّم الخير؟! ﴿ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴾ أي تَجهلونَ أنّ العِبرة بزكاة النفوس وطهارة الأرواح، لا بالمال والجاه كما تتصورون، ﴿ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ ﴾ يعني مَن يَمنع عني عقابَ اللهِ إنْ طردتُ عباده المؤمنين (الذين تحتقرهم عيونكم المريضة، التي لا تَقدر على رؤية الحق وأهله)؟ ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾:يعني أفلا تتدبرون الأمور، فتعلموا ما هو الأنفع لكم والأصلح؟!
♦ واعلم أنّ هذا قد حدث أيضاً مع بعض المشركين في مكة، حيثُ اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُبعِد عن مَجلسه فقراء المؤمنين - مثل بلال وعَمّار وصُهَيْب - حتى يَجلسوا إليه ويَسمعوا عنه، فقالوا له: (اطرد هؤلاء عنك حتى لا يَجْترئوا علينا)، فهَمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَفعل ذلك (رجاء هِداية أولئك المشركين)، فنَهاه اللهُ تعالى عن ذلك بقوله: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾.
الآية 31: ﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ﴾ يعني: ولا أزعُم أنني أملك التصرف في خزائن اللهِ تعالى، (وقد قال هذا رَدَّاً على قولهم: وما نَرَى لكم علينا مِن فضل)، ﴿ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ فأعرف ما تُخفيه صدور الناس فأطرد هذا وأُبقي هذا،﴿ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ (وذلك رَدَّاً على قولهم: ما نَراك إلا بشراً مِثلنا)، ﴿ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ ﴾ يعني: ولن أقول لهؤلاء الذين تحتقرونهم من المؤمنين أنهم ﴿ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ﴾ لأنهم فقراء ضعفاء، فـ ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ من الخير الذي كان سبباً في هِداية اللهِ لهم - كما قال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ - فإنْ كانوا صادقين في إيمانهم، فلهم الخير الكثير، وإنْ كانوا غير ذلك، فحسابهم على اللهِ تعالى، ولئن حَكَمتُ عليهم بغير عِلم﴿ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾.
الآية 32، والآية 33، والآية 34: ﴿ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾ ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ من العذاب﴿ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم:﴿ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ ﴾: يعني إنّ اللهَ وحده هو الذي يأتيكم بالعذاب إذا شاء ذلك، ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾أي: واعلموا أنكم لن تُفلِتوا مِن عذابِ اللهِ تعالى (إذا أراد أن يُعَذبكم)، ﴿ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ﴾ يعني: إنّ نصيحتي لكم لن تَنفعكم شيئاً، مَهما أرَدْتُ ذلك واجتهدتُ فيهِ ﴿ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ﴾ أي يُبقِيكم في الضلال بسبب عِنادكم وتكَبُّرِكم عن الانقياد للحق، ﴿ هُوَ رَبُّكُمْ ﴾: أي هو مالِكُكُم ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ في الآخرة للحساب والجزاء (وحِكمَتُهُ سبحانه تَقتضي أن يَرحم الصالحين ويُعَذب الظالمين).
الآية 35: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾- هذه الجُملة يُحتمَل أنها تتحدث عن نوح عليه السلام (كما كانَ السِيَاقُ في قصته مع قومه)، فيكون المعنى: بل يقول هؤلاء المشركونَ مِن قوم نوح: (لقد افترى نوحٌ هذا القول مِن عند نفسه، وزعم أنه مِن عند الله)، فقال اللهُ له: ﴿ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾: يعني إنْ كنتُ قد افتريتُ ذلك على الله: فعليَّ وحدي إثم ذلك، وإذا كنتُ صادقًاً: فأنتم المُجرمون الآثمون ﴿ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ﴾ يعني: وأنا بريءٌ مِن كُفركم وتكذيبكم وإجرامكم.
♦ ويُحتمَل أنها تتحدث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ تكون هذه الآية مُعترضة في أثناء قصة نوح وقومه، لأنّ هذه القصص لا يَعلمها إلا الأنبياء (وذلك لِبُعد تاريخها)، فلما قصَّها اللهُ على رسوله - وكانت من الآيات الدالة على صِدقه - ذَكَرَ تعالى تكذيبَ قومه له، فقال: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ أي اختلق هذا القرآن مِن عند نفسه، (وهذا مِن أعْجَب الأقوال وأبْطَلها، فإنهم يَعلمون أنه لم يَقرأ ولم يَكتب، ولم يَرحل عنهم ليَدرس على أهل الكتاب).
♦ فلمَّا جاءهم صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب، تَحَدَّاهم بأن يأتوا بسورةٍ مِن مِثله فلم يستطيعوا، فإذا زعموا بعد ذلك أنه افتراه، عُلِمَ أنهم مُعانِدون، ولم يَبقَ فائدة في جدالهم، بل اللائق في هذه الحال: (الإعراض عنهم)، ولهذا قال تعالى له: ﴿ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ ﴾ كما زعمتم ﴿ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ﴾ أي ذنبي وكذبي، ﴿ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ﴾، إذ لا فائدة مِن جدالكم.
♦ وفي هذا دليل على جَواز الاعتراض أثناء الكلام إذا حَسُنَ مَوقعه (كإقامة حُجَّة، أو إبطال باطل، أو تنبيه على أمْرٍ مُهِمّ).
الآية 36، والآية 37: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ ﴾ - لمَّا حَقَّ العذابُ على قومه - ﴿ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ ﴾ ﴿ فَلَا تَبْتَئِسْ ﴾: أي فلا تَحزن يا نوح﴿ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ من التكذيب والفس
اد، فإني مُنَجِّيك ومَن معك من المؤمنين، ومُهلِكُ المُكَذِبينَ بالغَرَق، ﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾: أي اصنع السفينة تحت بَصَرِنا وتحت رعايتنا، ﴿ وَوَحْيِنَا ﴾ يعني: وبتوجيهنا وتعليمنا (إذ لم يكن يَعرف السُفُن ولا كيفية صُنعها)، ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ أي: ولا تطلب مِنِّي صَرْفَ العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، ولا تَشفع لهم في تخفيفه عنهم، فـ ﴿ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ بالطوفان لا مَحالة.
الآية 38، والآية 39، والآية 40: ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ﴾ أي: ويَصنع نوحٌ السفينة ﴿ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ﴾ لأنه كان يَصنع السفينة على الرمال، وليس هناك بَحْرٌ تمشي عليه، فقالوا له: (تَحمل هذا الفُلك إلى البحر، أو تَحمل البحر إليه)، فـ﴿ قَالَ ﴾ لهم:﴿ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا ﴾ اليوم لِجَهلكم بصِدق وَعْد الله: ﴿ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ ﴾ غدًا عند غَرَقكم﴿ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ - إذا جاء أمْرُ اللهِ تعالى -: ﴿ مَنْ ﴾ مِنَّا الذي ﴿ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ﴾ أي يُذِلُّه ويُهينه ويَكسر كبريائه (هذا في الدنيا)،﴿ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ أي: ويَنزل به في الآخرة عذابٌ دائم، لا يَنتهى أبداً، ولا يفارقه لحظة.
♦ ثم واصل نوح صُنع السفينة ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا ﴾ بإهلاكهم كما وَعَدْنا نوحًا بذلك، ﴿ وَفَارَ التَّنُّورُ ﴾ أي: ونبع الماء بقوة من الفرن - الذي يُخبز فيه - (وكانَ هذا علامة على مجيء العذاب، لأنّ الله تعالى قد فجَّرَ الأرض عُيوناً من الماء، حتى نبع الماء من الفرن)، وحينئذٍ ﴿ قُلْنَا ﴾ لنوح: ﴿ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾: أي احمل في السفينة مِن كل نَوعٍ من أنواع الحيوانات (ذكر وأنثى)، واحمل فيها أهل بيتك﴿ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ مِمَّن لم يُؤمن من أهلك - كامرأتك وابنك -، ﴿ وَمَنْ آَمَنَ ﴾ أي: واحمل فيها مَن آمَنَ معك مِن قومك، ﴿ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ على الرغم مِن طول مُدّة رسالته.
<<<<<<<<<<
تفسير الربع الثالث من سورة هود كاملا بأسلوب بسيط
الآية 41: ﴿ وَقَالَ ﴾ نوحٌ لمن آمَنَ معه: ﴿ ارْكَبُوا فِيهَا ﴾ أي في السفينة، قائلين ﴿ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ أي: ببركة اسم اللهِ تعالى يكونُ جَرْيُها على الماء (حتى يَحفظها من الغَرَق)، وببركة اسمهِ تعالى تَرسو وتَقف (حتى يَحفظها من التَحَطُّم)، ﴿ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ حيثُ غَفَرَ لنا ورَحِمَنا، فلم يُهلكنا بذنوبنا، ونَجّانا من القوم الظالمين.
الآية 42: ﴿ وَهِيَ ﴾ - أي السفينة - ﴿ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ﴾ في عُلُوِّها، ﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ﴾ ﴿ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ ﴾ أي في مكانٍ بعيد عن المؤمنين حين ركبوا، فقال له نوح: ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ حتى لا تغرق كما يَغرقون.
الآية 43: ﴿ قَالَ ﴾ ابن نوح: ﴿ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي ﴾: أي سألجأ إلى جبلٍ أتحَصَّن به ﴿ مِنَ الْمَاءِ ﴾، فـ ﴿ قَالَ ﴾ له نوح: ﴿ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ أي مِن قضائه بالغرق والهلاك ﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ﴾ يعني إلا مَن رحمه اللهُ ونَجّاه معنا في السفينة، فلم يَستجب ابنه له ﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ ﴾ أي منعه الموج المرتفع أن يَصل إلى ابنه أو يُكلمه ﴿ فَكَانَ ﴾ الابن ﴿ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾.
الآية 44: ﴿ وَقِيلَ ﴾ أي: وقال اللهُ تعالى - بعد هلاك قوم نوح -: ﴿ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ﴾ ﴿ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ﴾ أي لا تُمطِري ﴿ وَغِيضَ الْمَاءُ ﴾ أي نَقص وجَفّ، ﴿ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ﴾ بهلاك المُكذبين ونجاة المؤمنين، ﴿ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ﴾ أي: ورَسَت السفينة على جبل الجوديِّ، ﴿ وَقِيلَ بُعْدًا ﴾ أي هَلاكًا ﴿ لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ الذين تجاوزوا حدود اللهِ ولم يُوَحِّدوه.
♦ واعلم أنّ اللهَ تعالى قد أمَرَ الأرض أن تَبلع ماءها أولاً، لأنها تحمل الماء الذي خرج منها، وكذلك تحمل الماء الذي نزل إليها (فكانَ عليها أكثر الماء)، وكذلك يَستشعر الإنسان عظمة ربه تعالى في نداءه للأرض والسماء، وكأنهما جُندِيَّان في معركة، ثم أُمِرا بالانسحاب بعد أن أَتَمَّ كُلٌّ منهما مُهِمَّته.
الآية 45: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي ﴾ الذي غرق ﴿ مِنْ أَهْلِي ﴾ ﴿ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ﴾ وقد وعَدْتني أن تُنجيني وأهلي من الغرق والهلاك، ﴿ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴾ وأعْدَلُهم.
الآية 46، والآية 47: ﴿ قَالَ ﴾ اللهُ تعالى: ﴿ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ يعني إنّ ابنك - الذي هَلَكَ - ليس مِن أهلِك الذين وعدتُكَ أنْ أُنجيهم، فـ ﴿ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ أي لأنه كافر، وعَمَلُهُ عملٌ غيرُ صالح، ففي قراءةٍ أخرى: ﴿ إنه عَمِلَ غيرَصالح ﴾، ﴿ فَلَا تَسْأَلْنِ ﴾ يانوح ﴿ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾، وفوِّضْ الأمرَ إليَّ، ﴿ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾: يعني أعظك وَعْظاً تنجو به من صفات الجاهلين.
♦ فحينئذٍ نَدِمَ نوحٌ على ما صَدَرَ منه، و ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ ﴾ أي أعتصم بك مِن ﴿ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾ ﴿ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ﴾ يعني: وإنْ لم تغفر لي ذنبي ﴿ وَتَرْحَمْنِي ﴾ برحمتك: ﴿ أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ أيالهالكين في الدنيا والآخرة.
الآية 48: ﴿ قِيلَ ﴾ أي: قال اللهُ تعالى: ﴿ يَا نُوحُ اهْبِطْ ﴾ من السفينة إلى الأرض ﴿ بِسَلَامٍ مِنَّا ﴾ ﴿ وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ﴾ مِن الآدميين وغيرهم (من الأزواج التي حملتَها معك)، وبالفِعل، فقد بارَكَ اللهُ في الجميع، حتى ملأتْ ذرياتهم جميع أنحاء الأرض، ﴿ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ﴾ يعني: وهناك أُمَمٌ - مِن أهل الشَقاء - سنُمَتِّعهم في الدنيا إلى أن يَبلغوا آجالهم ﴿ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ يوم القيامة.
الآية 49: ﴿ تِلْكَ ﴾ القصة التي قصصناها عليك - أيها الرسول - هي ﴿ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ﴾ ﴿ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ﴾ البَيان، ﴿ فَاصْبِرْ ﴾ على تكذيب قومك وإيذائهم لك، كما صَبَرَ نوح على أذى قومه فكانت العاقبة له، ﴿ إِنَّ الْعَاقِبَةَ ﴾ الطيبة في الدنيا والآخرة ﴿ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ الذين يَخشونَ اللهَ تعالى فيَجتنبوا مَعاصيه.
الآية 50: ﴿ وَإِلَى عَادٍ ﴾ أي: ولقد أرسلنا إلى قبيلة عاد: ﴿ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾ حينَ عبدوا الأصنام مِن دون اللهِ تعالى، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ وحده، فـ ﴿ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ ﴾ يَستحق العبادة ﴿ غَيْرُهُ ﴾ فأخلِصوا له العبادة، ﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾ يعني: ما أنتم إلا كاذبونَ على اللهِ تعالى بزَعْمِكم أنّ له شُرَكاء.
الآية 51: ﴿ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ أي لا أطلب منكم أجراً على ما أدعوكم إليه من التوحيد، ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ﴾ يعني: ما أجري إلا على اللهِ الذي خلقني، ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ فتُمَيِّزوا بين الحق والباطل؟!
الآية 52: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ﴾ نادمينَ على ما فعلتم، مُعترفينَ بخطئكم ﴿ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾ مِن شِرككم وذنوبكم، فإنكم إنْ فعلتم ذلك ﴿ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴾: أي يُرسل المطر عليكم متتابعًا كثيرًا فتَكثُر خيراتكم ﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ﴾ (فإنهم كانوا مِن أقوى الناس)، ولهذا قالوا: (مَن أشَدّ مِنّا قوة)؟، فوعدهم هُود عليه السلام أنهم إن آمَنوا، زادهم اللهُ قوةً إلى قوتهم، ﴿ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ أي: ولا تُعرضوا عَمَّا دعوتُكم إليه، مُصِرِّينَ على إجرامكم.
الآية 53، والآية 54، والآية 55: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ﴾ أي ما جئتنا بحُجَّةٍ واضحةٍ على صحة ما تدعونا إليه، وقد كَذَبوا في ذلك، فإنه ما جاءَ نبيٌ لقومه، إلاَّ وبَعَثَ اللهُ على يديه مُعجِزَةً تَشهَد له بصِدق رسالته، وأمّا إنْ كانَ قَصْدهم بالبَيِّنة: المُعجزة التي يَقترحونها عليه، فهذه غير لازمة، بل اللازم أن يأتي النبي بآيةٍ تدل على صحة ما جاء به.
♦ ثم قالوا له: ﴿ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ ﴾ أي مِن أجْل قولك ﴿ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ ﴾ يعني: وما نقول إلا أنّ بعض آلهتنا قد أصابتك بجنون بسبب نَهْيِكَ عن عبادتها، فـ ﴿ قَالَ ﴾ لهم هود: ﴿ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ ﴾ على ما أقول، ﴿ وَاشْهَدُوا ﴾ أنتم أيضاً على ﴿ أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ من الأصنام التي تعبدونها ﴿ مِنْ دُونِهِ ﴾ سبحانه، ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ﴾:أي فاجتمعوا - أنتم وآلهتكم - على إيذائي ﴿ ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾ أي: ثم لا تؤخروني، بل عَجِّلوا بذلك، فإني لا أهتم بآلهتكم لاعتمادي على حِفظ اللهِ وحده.
الآية 56: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾ أي مالِكُ كُلِّ شيءٍ والمتصرف فيه، فلا يُصيبني شيءٌ إلا بأمْره، و ﴿ مَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ تدِبُّ على هذه الأرض ﴿ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾ يعني إلا واللهُ مالكها، وهي في سلطانه وتصرفه ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ يعني: إنه سبحانه عَدلٌ في شَرعه وقضائه، فيُجازي المُحسِن بإحسانه والمُسِيء بإساءته.
الآية 57: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا ﴾: أي فإن تتولوا، والمعنى: (فإن تُعرضوا عمَّا أدعوكم إليه من توحيد اللهِ وإخلاص العبادة له) ﴿ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ﴾ من ربي، وأقمتُ عليكم الحُجَّة، فإن لم تؤمنوا: فستكونوا من الهالكين ﴿ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾ أي: وسيأتي ربي بقومٍ آخرينَ يَخلُفونكم، ويُخلصون له العبادة، ﴿ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ﴾ لأنّ إعراضكم يَضُرُّكم أنتم، أمّا اللهُ تعالى فهو غنيٌ عن عبادتكم، لا تضره مَعصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وإنما مَن عمل صالحاً فلنفسه، ومَن أساءَ فعليها، ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ (فهو سبحانه الذي يَحفظني مِن أن تُصِيبوني بسوء).
الآية 58: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ﴾ بعذابهم: ﴿ نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ﴾ ﴿ وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ أي: ونجَّيناهم مِن عذابٍ شديد أنزلناه بقوم عاد.
الآية 59، والآية 60: ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ - ولهذا قالوا لهود: (مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)، فتَبَيَّنَ بهذا أنهم كانوا مُتَيَقنون بدعوته، وإنما عانَدوا ﴿ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ﴾ (لأنّ مَن عَصَى رسولاً فقد عَصَى جميع الرسل، إذ دعوتهم واحدة وهي التوحيد)، ﴿ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾: أي: وأطاعت عادٌ أمْرَ كل متكبرٍ عنيد، لا يَقبل الحق ولا يَخضع له، ﴿ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ﴾ مِن اللهِ تعالى، فأخبارهم القبيحة قد وصلتْ إلى كل وقتٍ وجِيل، فيَلعنهمالمؤمنون ويَذمُّونهم، ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ لهم أيضاً لعنة، بطَردهم من الجنة وإدخالهم النار، ﴿ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ﴾ أي جحدوا ربهم الذي خَلقهم ورزقهم فعبدوا معه غيره، ﴿ أَلَا بُعْدًا ﴾ وهلاكًا ﴿ لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾ بسبب شِركهم وكُفرهم بنعمة ربهم.
يتبع
(1) وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.
تعليق