تأملات تربوية في سورة الأنبياء - د. عثمان مكناسي
( قصة أبي الأنبياء إبراهيم )
الدكتور عثمان قدري مكانسي
هذه السورة المباركة تتحدث عن غفلة المشركين عن الساعة الوشيك حدوثها ، وقد زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يكون رسولاً لأنه بشر ونسوا أن الأنبياء كلهم بشر ، وقالوا عن القرآن كما قال الأولون : سحرٌ ، وشعر وأضغاث أحلام ، فقصم الله الأولين ، ولئن استمر أهل قريش على ضلالهم ليفعلنّ الله بهم كما فعل بالهالكين قبلهم . ويطيب الله تعالى في هذه السورة قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء الصالحين قبله ، فقد أصابهم ما أصابه من عنت المشركين وضلالهم ، وعلى رأسهم أبو الأنبياء إبراهيم عليهم السلام جميعاً . حين يريد الله تعالى بعبد من عباده الخير ، ويجعله من سعداء الدارين يكرمه بالهداية منذ الصغر ويحيطه برعايته ويربيه التربية التي تليق به داعياً ومرشداً . وعلى راس هؤلاء السعداء أبونا إبراهيم عليه السلام حيث يقول سبحانه " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ، وكنا به عالمين " فقد أخبرنا المولى تعالى أنه آتاه الفهم الثاقب والنظر المتأمل والتفكير الصائب مذ كان صغيراً فألهمه الحق والحجة علَى قَومه كَما قَال تعالَى " وتلك حجتنا آتيناها إِبراهِيم عَلَى قَومه " .
فبدأ يعيب على أبيه وقومه قومه عبادة أصنام لا تعي ولا تعقل ، والأنكى من ذلك أنهم يصنعونها بأيديهم ثم يعكفون على عبادتها ، فهل يعبد العاقل ما يصنعه بيديه أم تراهم يعبدون بذلك أهواءهم ورغباتهم ؟ وكأنهم يكرّسون عبادة الإنسان وشهواته ويشرّعون سطوة القوي منهم على الضعيف المغلوب على أمره . وهنا يأتي دور النبي والداعية الذكي الذي عليه أن يحاورهم ويعلمهم ثم ينقذهم مما هم فيه ، فيسائلهم " ... ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟!" فلا يجد من جواب سوى أنهم ألفـَوا آباءهم كذلك يفعلون " قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين " وكأنهم بهذا التقليد لآبائهم قد أراحوا أنفسهم من عناء التفكير ، والبحث عن الحقيقة ، ولعلهم يجدون التعليل المناسب لاستمرارهم في غيهم وضلالهم ، بل يظنون أنهم يفعلون عين الصواب حين يسيرون على هدي أسلافهم . وهم بهذا يريدونه أن يدعهم وما يعبدون فلا يسفـّه ما يعتقدون . الداعية الشاب إبراهيم يرى جوابهم يحط من قدر الإنسان . إذ كيف يرضى ذو العقل والفهم أن يقلد غيره دون فهم ولا روية ؟ لقد سألهم محفـّزاً عقولهم وقلوبهم أن يتدبروا ما هم عليه ، فما وجد سوى التبعية لخطإ آبائهم ، وهو حين سأل الناس كان أبوه أول المسؤولين " إذ قال لأبيه وقومه ... ، فالولد يحب أباه ويجله . ومن تمام الإجلال أن ينبهه إن أخطأ ، وليس عيباً أن ينبه الصغير الكبير وأن يحذره ، ثم يهديه . وإبراهيم حريص على هداية الناس وهو أحرص على هداية والده وأقربائه ، ألم يقل الله تعالى مخاطباً نبيه الكريم " وأنذر عشيرتك الأقربين " ؟ .
لا بد من الصدع بالحقيقة ولو كانت مُرّة وصعبة القبول عند قوم كان الضلال رائدهم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً ، وكانوا يعتزون بما ورثوا عن آبائهم واعتقدوه صحيحاً لا يرقى الشك إليه فقال لهم بصريح العبارة " لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين " وهذه قمة الشجاعة في الداعية حين يصدع بالحق دون خوف ولا وجل ، ويقول ما يعتقده بقوة دون مواربة . فالرجال يُعرفون بالحق ، ولا يُعرف الحق بالرجال ؟ .. أنتم وآباؤكم ضالّون عن الطريق الواضح البيـّن . وحين يختلط الأمر عليهم ويستنكرون ما يقول يسألونه بلسان منعقد من المفاجأة التي وقعت عليهم " أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ؟ " ولِمَ سألوه هذا السؤال ؟ أفعلوا ذلك ليصلوا إلى الحق الحقيق أم يستنكرون ما أتاهم به ؟ أم يسخرون منه ويهزأون ؟ أم إن الأمر خليط بين هذا وذاك ؟ إنه أعلن ذلك على الملأ ، لا يخاف سطوتهم ولا يخشى عقابهم . وعرّفهم بربهم المعبود الحق الذي يستحق العبادة وحده " قال بل ربكم ربُّ السموات والأرض الذي فطرهنّ " فهو الخالق لكل شيء ، وسبب الوجود . ثم رفع الوتيرة حين شهد لله الحق بالوحدانية المطلقة " وأنا على ذلكم من الشاهدين " ..
لم يكتف الداعية بالمحاجة باللسان بل وطن نفسه على مكابدة المكروه وماساته في الذب عن الدين ، فقرر كسر أصنامهم ليعاينوا ضعفها وهوانها علّ الغشاوة تنجلي عن أعينهم فيكفرون بها ويؤمنون بالله وحده . وأقسم بالله ليفعلنّ ذلك في غفلة منهم ليُفاجؤوا بما فعل فيهتزوا هزة قوية يفكرون بعدها بما هم عليه من إفك وزور وضلال . قال ذلك في نفسه ، فما ينبغي لمن عزم على أمر أن يُفشيه قبل إتمامه ، والتمس يوماً يخرجون فيه إلى عيد لهم بعيداً عن المدينة فيغتنم فرصة خلوّ المعبد منهم ، ويحطم أصنامهم . ولا بد من كتم السر فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان. " . دخل المعبد يحمل الفأس يضرب في الأصنام بقوة ففتتها وجعلها قطعاً صغيرة " فراغ عليهم ضرباً باليمين " إلا كبيرها لم يكسره ، وعلّق في عنقه الفأس ليحتج به عليهم . ويبين ضعف معتقداتهم بآلهتم المفتراة ، لعلهم يسألون هذا الإله الكبير عمّن فعل بصغاره هذا الفعل المهين ، ورآه هذا الإله فلم يتحرك مدافعاً عنهم ، بل قبل الإهانة حين عُلّق الفأس على عنقه مقهوراً . ولكنّهم لم يسألوا هذا الربّ فهم يعرفون أنه حجر أصم لا يعي ولا يعقل ، فتساءلوا فزعين مما رأوا " قالوا : من فعل هذا بآلهتنا ؟! " وكان أولى بهم أن يسألوا كبير الآلهة " من فعل هذا بصغارك وأنت أعمى أخرس ! " وكان أولى بهم أن يكسّروه ويفتتوه ويُلحقوه بالآخرين – لو كانت لهم عقول – ولكن تساءلوا فيما بينهم ليصلوا إلى الفاعل الذي حطّم معتقداتهم وذرّاها في الهوان والمذلة . " إنه لمن الظالمين " ولنتساءل : من الذي ظـُلِم؟ إن كانت الآلهة فهي – على زعمهم - قادرة على الدفاع عن نفسها ومعاقبة من يسيء إليها ، بله أن يفكر في ذلك ! وإن كان عـُبـّادها المظلومين ، فقد ظلموا أنفسهم – ابتداء – بعبادة آلهة ذليلة ، وإن كان الفاعل ظلم نفسه بتحطيمها وكسرها فقد أحسن إلى نفسه حقيقة ولم يظلمها ، وهل القضاء على الخبث والفساد ظلم ؟! ويبحثون ويسألون ، ثم يتذكرون أن الفتى إبراهيم ذكر آلهتهم بسوء وخفـّضها وحقـّرها ، فلم لا يكون هو الفاعل ؟ " قالوا سمعنا فتى يُقال له إبراهيم " فجاءوا به على أعين الناس ليقرروه ويحاسبوه ويعاقبوه إن ثبت أنه الفاعل الأثيم !! . جاءوا به على أعين الناس ليظهروا أنهم حماة العقيدة ورجالها ! ، وليخاف من تسوّل له نفسه أن يفعل هذه الفعلة في قابل الأيام !! ويسألونه أمام الجميع " أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ "
لم يكن يريد الكذب حين أشار إلى الفأس معلّقة بعنق كبير الآلهة وزعيمها قائلاً " بل فعله كبيرهم هذا ، فاسألوهم إن كانوا ينطقون ؟! " ولم لا يكون كبيرهم قد قتلهم كي لا يشاركوه ألوهيّته ؟ والدليل قائم فالفأس يشهد على إجرام كبير الآلهة ، ولن يستطيع الدفاع عن نفسه فأداة الجريمة موجودة ، وهو قائم في مكانها لم يبرحه ، وهؤلاء القتلى المثخنون بجراحهم ما زالوا في أرض المذبحة ، ولعل أحدهم لم يلفظ أنفاسه بعد ، فاسألوهم يخبروكم !
حين يخلو الإنسان إلى نفسه دون كبرياء ولا استكبار يصل إلى الصواب ويعرف الحقيقة . وهذا ما قاله الجميع ابتداء " فرجعوا إلى أنفسهم ، قالوا : إنكم أنتم الظالمون " وما أجمل أن يعترف المخطئ بخطئه ، ويرجع عن غيه وضلاله ، إذاً فالحياة حلوة جميلة .. لقد اعترف الحاضرون أنهم يعبدون أصناماً هم صانعوها ، وأرباباً هم أوجدوها . لكن الشيطان اللعين والنفس الأمارة بالسوء لا يتركان الإنسان في صفائه الروحي ، إنما يوسوسان له ، ويقلبان الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، والاستكبار غمط للحق والجبروت أسْرٌ له وقتل . هذا ما كان من الكبراء حين رأوا الزعامة قد تطير من بين أيديهم إن وافقوا الفتى فيما يقول ، فسرعان ما عادوا إلى الضلال بعد أن كانوا على أبواب الهدى ، ومشارف سبل السلامة . " ثم نُكسوا على رؤوسهم " واتخذوا موقع الهجوم ليستروا عوراتهم ويُضلوا العوام ّ من حولهم فاتهموه بتكسير الأصنام حين قالوا له : " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " . ويرى الفتى إبراهيم أنهم لن يسلكوا سبل الهداية - فالكبر يُعمي صاحيه ، ويقذفه في مهاوي الفتن والضلال ، فقرّعهم ، وهزئ بهم وبآلهتهم " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ، ولا يضرّكم " ما هذه الآلهة البليدة التي يتحكّم بها عُبـّادُها ؟ ولِمَ يُعبد إله لا يضر ولا ينفع ؟ إنها الردّة البشرية إلى أعماق الجهالة والهمجية ، إلى الطور البهيمي ! أفتعبدون أيها القوم هذه الآلهة البكماء , وقد علمتم أنها لم تمنع نفسها من أرادها بسوء , ولا هي تقدر أن تجيب إن سُئلت عمن يأتيها بخير فتخبر، أفلا تستحون من عبادة مَا كَانَ هكذا ؟ أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ الذي لا يروج إلا على جاهل فاجر ظَالِم . " أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ؟ " نعم ، إنهم وأمثالهم لا يعقلون . فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها ولهذا قال تعالى " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه "
لا يتحمل الظالم المتجبر أن يرفع الراية البيضاء ويستسلم . فهو في هذه الحياة الدنيا يقلب الحقائق ، وويجترح كل المخازي ليكتم الصوت الحر ، ويقطع لسان الحق ، ويطمس نور الهداية . لا بد من القضاء الكامل على من يقف أمامة ويجعل نفسه له ندّاً . ويتداعى الظلمة وأعوانهم إلى تحريق الفتى وأمثاله على مدى التاريخ ليصفو لهم الجو ، " قالوا حرّقوه " والتحريق فوق الإحراق وأشد منه بمراحل . لكنّ الذي نراه في المتجبرين الظالمين يتكرر دائماً ، فهم نسخة واحدة تتجدد . لقد قالوا " حرقوه وانصروا آلهتكم ! " والحقيقة أنهم يريدون نصر أنفسهم فقط ، وما هذه الآلهة إلا صورة يحكم الجبابرة – في كل زمان ومكان – من ورائها ، ما هي إلا ظل لهم ليس غير ، أم يقل فرعون " ذروني أقتل موسى ولْيدْعُ ربه ! إن أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد؟! " وتصور أن فرعون المتغطرس يتهم الداعي الأول في عصره بالفساد ، يتهم أحد الرسل أولي العزم كليم الله تعالى بالفساد ، ويأمر – ديموقراطياً – بقتله ليتخلص من شروره !!! إنها الديكتاتورية في كل آن ومكان تنطق بلسان واحد .
وينسى الظالمون أن الله تعالى ناصر دعوته ، ناصر رسله ، ناصر دعاته ولو بعد حين . ويُلقى الداعية الأول أبو الأنبياء في النار ، فيأمرها خالقها أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم ، فتكون . وهل تملك غير ذلك ؟ إنه سبحانه الذي وهبها خاصية الإحراق ، وهو الذي يمنعها إياها متى أراد " قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ، وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين " انتصر إبراهيم في الدنيا وكان في صف الأنبياء الأوائل في الآخرة وصلى الله عليه إلى يوم القيامة ، وأمرنا بالصلاة على نبينا كما صلى الله من قبل على أبيه إبراهيم ..
موقع إسلاميات
( قصة أبي الأنبياء إبراهيم )
الدكتور عثمان قدري مكانسي
هذه السورة المباركة تتحدث عن غفلة المشركين عن الساعة الوشيك حدوثها ، وقد زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يكون رسولاً لأنه بشر ونسوا أن الأنبياء كلهم بشر ، وقالوا عن القرآن كما قال الأولون : سحرٌ ، وشعر وأضغاث أحلام ، فقصم الله الأولين ، ولئن استمر أهل قريش على ضلالهم ليفعلنّ الله بهم كما فعل بالهالكين قبلهم . ويطيب الله تعالى في هذه السورة قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء الصالحين قبله ، فقد أصابهم ما أصابه من عنت المشركين وضلالهم ، وعلى رأسهم أبو الأنبياء إبراهيم عليهم السلام جميعاً . حين يريد الله تعالى بعبد من عباده الخير ، ويجعله من سعداء الدارين يكرمه بالهداية منذ الصغر ويحيطه برعايته ويربيه التربية التي تليق به داعياً ومرشداً . وعلى راس هؤلاء السعداء أبونا إبراهيم عليه السلام حيث يقول سبحانه " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ، وكنا به عالمين " فقد أخبرنا المولى تعالى أنه آتاه الفهم الثاقب والنظر المتأمل والتفكير الصائب مذ كان صغيراً فألهمه الحق والحجة علَى قَومه كَما قَال تعالَى " وتلك حجتنا آتيناها إِبراهِيم عَلَى قَومه " .
فبدأ يعيب على أبيه وقومه قومه عبادة أصنام لا تعي ولا تعقل ، والأنكى من ذلك أنهم يصنعونها بأيديهم ثم يعكفون على عبادتها ، فهل يعبد العاقل ما يصنعه بيديه أم تراهم يعبدون بذلك أهواءهم ورغباتهم ؟ وكأنهم يكرّسون عبادة الإنسان وشهواته ويشرّعون سطوة القوي منهم على الضعيف المغلوب على أمره . وهنا يأتي دور النبي والداعية الذكي الذي عليه أن يحاورهم ويعلمهم ثم ينقذهم مما هم فيه ، فيسائلهم " ... ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟!" فلا يجد من جواب سوى أنهم ألفـَوا آباءهم كذلك يفعلون " قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين " وكأنهم بهذا التقليد لآبائهم قد أراحوا أنفسهم من عناء التفكير ، والبحث عن الحقيقة ، ولعلهم يجدون التعليل المناسب لاستمرارهم في غيهم وضلالهم ، بل يظنون أنهم يفعلون عين الصواب حين يسيرون على هدي أسلافهم . وهم بهذا يريدونه أن يدعهم وما يعبدون فلا يسفـّه ما يعتقدون . الداعية الشاب إبراهيم يرى جوابهم يحط من قدر الإنسان . إذ كيف يرضى ذو العقل والفهم أن يقلد غيره دون فهم ولا روية ؟ لقد سألهم محفـّزاً عقولهم وقلوبهم أن يتدبروا ما هم عليه ، فما وجد سوى التبعية لخطإ آبائهم ، وهو حين سأل الناس كان أبوه أول المسؤولين " إذ قال لأبيه وقومه ... ، فالولد يحب أباه ويجله . ومن تمام الإجلال أن ينبهه إن أخطأ ، وليس عيباً أن ينبه الصغير الكبير وأن يحذره ، ثم يهديه . وإبراهيم حريص على هداية الناس وهو أحرص على هداية والده وأقربائه ، ألم يقل الله تعالى مخاطباً نبيه الكريم " وأنذر عشيرتك الأقربين " ؟ .
لا بد من الصدع بالحقيقة ولو كانت مُرّة وصعبة القبول عند قوم كان الضلال رائدهم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً ، وكانوا يعتزون بما ورثوا عن آبائهم واعتقدوه صحيحاً لا يرقى الشك إليه فقال لهم بصريح العبارة " لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين " وهذه قمة الشجاعة في الداعية حين يصدع بالحق دون خوف ولا وجل ، ويقول ما يعتقده بقوة دون مواربة . فالرجال يُعرفون بالحق ، ولا يُعرف الحق بالرجال ؟ .. أنتم وآباؤكم ضالّون عن الطريق الواضح البيـّن . وحين يختلط الأمر عليهم ويستنكرون ما يقول يسألونه بلسان منعقد من المفاجأة التي وقعت عليهم " أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ؟ " ولِمَ سألوه هذا السؤال ؟ أفعلوا ذلك ليصلوا إلى الحق الحقيق أم يستنكرون ما أتاهم به ؟ أم يسخرون منه ويهزأون ؟ أم إن الأمر خليط بين هذا وذاك ؟ إنه أعلن ذلك على الملأ ، لا يخاف سطوتهم ولا يخشى عقابهم . وعرّفهم بربهم المعبود الحق الذي يستحق العبادة وحده " قال بل ربكم ربُّ السموات والأرض الذي فطرهنّ " فهو الخالق لكل شيء ، وسبب الوجود . ثم رفع الوتيرة حين شهد لله الحق بالوحدانية المطلقة " وأنا على ذلكم من الشاهدين " ..
لم يكتف الداعية بالمحاجة باللسان بل وطن نفسه على مكابدة المكروه وماساته في الذب عن الدين ، فقرر كسر أصنامهم ليعاينوا ضعفها وهوانها علّ الغشاوة تنجلي عن أعينهم فيكفرون بها ويؤمنون بالله وحده . وأقسم بالله ليفعلنّ ذلك في غفلة منهم ليُفاجؤوا بما فعل فيهتزوا هزة قوية يفكرون بعدها بما هم عليه من إفك وزور وضلال . قال ذلك في نفسه ، فما ينبغي لمن عزم على أمر أن يُفشيه قبل إتمامه ، والتمس يوماً يخرجون فيه إلى عيد لهم بعيداً عن المدينة فيغتنم فرصة خلوّ المعبد منهم ، ويحطم أصنامهم . ولا بد من كتم السر فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان. " . دخل المعبد يحمل الفأس يضرب في الأصنام بقوة ففتتها وجعلها قطعاً صغيرة " فراغ عليهم ضرباً باليمين " إلا كبيرها لم يكسره ، وعلّق في عنقه الفأس ليحتج به عليهم . ويبين ضعف معتقداتهم بآلهتم المفتراة ، لعلهم يسألون هذا الإله الكبير عمّن فعل بصغاره هذا الفعل المهين ، ورآه هذا الإله فلم يتحرك مدافعاً عنهم ، بل قبل الإهانة حين عُلّق الفأس على عنقه مقهوراً . ولكنّهم لم يسألوا هذا الربّ فهم يعرفون أنه حجر أصم لا يعي ولا يعقل ، فتساءلوا فزعين مما رأوا " قالوا : من فعل هذا بآلهتنا ؟! " وكان أولى بهم أن يسألوا كبير الآلهة " من فعل هذا بصغارك وأنت أعمى أخرس ! " وكان أولى بهم أن يكسّروه ويفتتوه ويُلحقوه بالآخرين – لو كانت لهم عقول – ولكن تساءلوا فيما بينهم ليصلوا إلى الفاعل الذي حطّم معتقداتهم وذرّاها في الهوان والمذلة . " إنه لمن الظالمين " ولنتساءل : من الذي ظـُلِم؟ إن كانت الآلهة فهي – على زعمهم - قادرة على الدفاع عن نفسها ومعاقبة من يسيء إليها ، بله أن يفكر في ذلك ! وإن كان عـُبـّادها المظلومين ، فقد ظلموا أنفسهم – ابتداء – بعبادة آلهة ذليلة ، وإن كان الفاعل ظلم نفسه بتحطيمها وكسرها فقد أحسن إلى نفسه حقيقة ولم يظلمها ، وهل القضاء على الخبث والفساد ظلم ؟! ويبحثون ويسألون ، ثم يتذكرون أن الفتى إبراهيم ذكر آلهتهم بسوء وخفـّضها وحقـّرها ، فلم لا يكون هو الفاعل ؟ " قالوا سمعنا فتى يُقال له إبراهيم " فجاءوا به على أعين الناس ليقرروه ويحاسبوه ويعاقبوه إن ثبت أنه الفاعل الأثيم !! . جاءوا به على أعين الناس ليظهروا أنهم حماة العقيدة ورجالها ! ، وليخاف من تسوّل له نفسه أن يفعل هذه الفعلة في قابل الأيام !! ويسألونه أمام الجميع " أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ "
لم يكن يريد الكذب حين أشار إلى الفأس معلّقة بعنق كبير الآلهة وزعيمها قائلاً " بل فعله كبيرهم هذا ، فاسألوهم إن كانوا ينطقون ؟! " ولم لا يكون كبيرهم قد قتلهم كي لا يشاركوه ألوهيّته ؟ والدليل قائم فالفأس يشهد على إجرام كبير الآلهة ، ولن يستطيع الدفاع عن نفسه فأداة الجريمة موجودة ، وهو قائم في مكانها لم يبرحه ، وهؤلاء القتلى المثخنون بجراحهم ما زالوا في أرض المذبحة ، ولعل أحدهم لم يلفظ أنفاسه بعد ، فاسألوهم يخبروكم !
حين يخلو الإنسان إلى نفسه دون كبرياء ولا استكبار يصل إلى الصواب ويعرف الحقيقة . وهذا ما قاله الجميع ابتداء " فرجعوا إلى أنفسهم ، قالوا : إنكم أنتم الظالمون " وما أجمل أن يعترف المخطئ بخطئه ، ويرجع عن غيه وضلاله ، إذاً فالحياة حلوة جميلة .. لقد اعترف الحاضرون أنهم يعبدون أصناماً هم صانعوها ، وأرباباً هم أوجدوها . لكن الشيطان اللعين والنفس الأمارة بالسوء لا يتركان الإنسان في صفائه الروحي ، إنما يوسوسان له ، ويقلبان الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، والاستكبار غمط للحق والجبروت أسْرٌ له وقتل . هذا ما كان من الكبراء حين رأوا الزعامة قد تطير من بين أيديهم إن وافقوا الفتى فيما يقول ، فسرعان ما عادوا إلى الضلال بعد أن كانوا على أبواب الهدى ، ومشارف سبل السلامة . " ثم نُكسوا على رؤوسهم " واتخذوا موقع الهجوم ليستروا عوراتهم ويُضلوا العوام ّ من حولهم فاتهموه بتكسير الأصنام حين قالوا له : " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " . ويرى الفتى إبراهيم أنهم لن يسلكوا سبل الهداية - فالكبر يُعمي صاحيه ، ويقذفه في مهاوي الفتن والضلال ، فقرّعهم ، وهزئ بهم وبآلهتهم " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ، ولا يضرّكم " ما هذه الآلهة البليدة التي يتحكّم بها عُبـّادُها ؟ ولِمَ يُعبد إله لا يضر ولا ينفع ؟ إنها الردّة البشرية إلى أعماق الجهالة والهمجية ، إلى الطور البهيمي ! أفتعبدون أيها القوم هذه الآلهة البكماء , وقد علمتم أنها لم تمنع نفسها من أرادها بسوء , ولا هي تقدر أن تجيب إن سُئلت عمن يأتيها بخير فتخبر، أفلا تستحون من عبادة مَا كَانَ هكذا ؟ أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ الذي لا يروج إلا على جاهل فاجر ظَالِم . " أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ؟ " نعم ، إنهم وأمثالهم لا يعقلون . فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها ولهذا قال تعالى " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه "
لا يتحمل الظالم المتجبر أن يرفع الراية البيضاء ويستسلم . فهو في هذه الحياة الدنيا يقلب الحقائق ، وويجترح كل المخازي ليكتم الصوت الحر ، ويقطع لسان الحق ، ويطمس نور الهداية . لا بد من القضاء الكامل على من يقف أمامة ويجعل نفسه له ندّاً . ويتداعى الظلمة وأعوانهم إلى تحريق الفتى وأمثاله على مدى التاريخ ليصفو لهم الجو ، " قالوا حرّقوه " والتحريق فوق الإحراق وأشد منه بمراحل . لكنّ الذي نراه في المتجبرين الظالمين يتكرر دائماً ، فهم نسخة واحدة تتجدد . لقد قالوا " حرقوه وانصروا آلهتكم ! " والحقيقة أنهم يريدون نصر أنفسهم فقط ، وما هذه الآلهة إلا صورة يحكم الجبابرة – في كل زمان ومكان – من ورائها ، ما هي إلا ظل لهم ليس غير ، أم يقل فرعون " ذروني أقتل موسى ولْيدْعُ ربه ! إن أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد؟! " وتصور أن فرعون المتغطرس يتهم الداعي الأول في عصره بالفساد ، يتهم أحد الرسل أولي العزم كليم الله تعالى بالفساد ، ويأمر – ديموقراطياً – بقتله ليتخلص من شروره !!! إنها الديكتاتورية في كل آن ومكان تنطق بلسان واحد .
وينسى الظالمون أن الله تعالى ناصر دعوته ، ناصر رسله ، ناصر دعاته ولو بعد حين . ويُلقى الداعية الأول أبو الأنبياء في النار ، فيأمرها خالقها أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم ، فتكون . وهل تملك غير ذلك ؟ إنه سبحانه الذي وهبها خاصية الإحراق ، وهو الذي يمنعها إياها متى أراد " قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ، وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين " انتصر إبراهيم في الدنيا وكان في صف الأنبياء الأوائل في الآخرة وصلى الله عليه إلى يوم القيامة ، وأمرنا بالصلاة على نبينا كما صلى الله من قبل على أبيه إبراهيم ..
موقع إسلاميات