الطابور الخامس .. من وحي قصة نبي الله إبراهيم
ما أشبهَ اليَوم بالأمس، وما أكثر دورات الزَّمان، فتطوي أيامه وتنشر حاملة مشابه ومفارق ومقاربات بين حدث وآخر، فإنَّه وإن تباعدت الأيام إلاَّ أنَّ الشخوص متكرّرة رغم اختلاف الأسماء والمسمّيات، غير أنَّ تركيبة هذه الشخوص وصفاتها ووسائلها وأساليبها ثابتة ملازمة لأصحابها لا ينفكون عنها، وإن تغيَّر الزَّمان والمكان.
وهنا تطالعنا قصة إبراهيم عليه السَّلام في سورة الأنبياء عن نموذج بشري غريب التَّركيب عجيب الفكر خبيث الطباع ماكر الأساليب، فمن المعروف أنَّ هناك طرفين في قصص الأنبياء؛ وهما الأنبياء ومن أمامهم والطواغيت وأتباعهم، ولكن يطلُّ علينا في قصة إبراهيم صنفٌ آخر وهو الطابور الخامس * ، وإن شئت فقل: العملاء والمرجفون، وقد أخذ هذا الصِّنف على عاتقه إثارة الفتن، وإشعال النيران، وحمل بمعوله على بناء الخير يريد هدمه ونقض أركانه، مزوّداً بالحقد والمكر، مستعيناً بالشَّيطان للقضاء على أهل الإيمان.
بداية القصة ..
تبدأ قصة إبراهيم عليه السَّلام بعدما آتاه الله الرُّشد والعلم، ووعظ قومه ونصحهم بترك الأصنام وعبادتها، وبعدها قرَّر إبراهيم عليه السَّلام أن ينتقل للفعل والمواجهة، وأقسم على هدم أصنامهم وإزالة طواغيتهم، واختار الوقت المناسب ليبدأ الثورة ضد الفساد والظلم والشّرك والطواغيت،وأقسم على هدم أصنامهم وإزالة طواغيتهم، واختار الوقت المناسب ليبدأ الثورة ضد الفساد والظلم والشّرك والطواغيت وهو غياب قومه عن مسرح الحدث، وانشغالهم في مراسم كفرهم وضلالهم، وأحكم خطته وعقد عزمه، فقال: {تَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُون} (سورة الأنبياء).
فرجع القوم من ضلالهم، وحصلت الصَّدمة عندما تحطمت كذباتهم بمعول الحق، فوقفوا مشدوهين أمام ضعف طواغيتهم، وهم يعتقدون أنَّها لا تسقط ولا تحطم، ولكنَّ ثورة الحق قادرة على تحطيم الأصنام الحجرية والبشرية، لأنها تستمدُّ العون من الله، وهنا برز التساؤل عن الفاعل، وكانوا به جاهلين {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء-59).
ظهور الطَّابور الخامس ..
وبرز مع التَّساؤل الطابور الخامس الذي يتطوّع فرحاً في معاداة الحقِّ بحجة الواجب الوطني والحتمية الضميرية إشعال الفتن بداعي الحرص على الخير وحقوق النَّاس، فكان جوابهم دالاً على حقيقة نفوسهم كما بينها القرآن فقالوا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء-60)، لقد نقلوا الصُّورة بكل حرفية تخريبية خبيثة، فجاء التَّعبير القرآني يبين مقالتهم وأسلوبهم فوصفوا إبراهيم بالفتى تقليلاً من شأنه واستضعافاً لحاله، حتَّى يزينوا لأهل الضَّلال سهولة التخلص منه فهو صغير ضعيف (أو هم أقلية لا يمثلون أهل البلد ويريدون شراً فكيف نجيب مطالبهم)، فيجري الطابور الخامس الاستفتاءات الكاذبة، ويوهموا الناس أن الثوار قلة نكرة، والشعب كلُّه في خندق مقابل.
وحشدوا قومه ضده بقولهم (يذكرهم) أي يشتمهم، وجاءت هذه الجملة الفعلية نعتا لأنها بعد نكرة، والصفة تدل على ملازمة إبراهيم لشتم هذه الأصنام وبيان حقيقتها، لا على حال مؤقتة، أو هيئة عارضة، وتأخر ذكر اسم إبراهيم عليه السلام لأنهم أرادوا أن يمهدوا الطريق أمام قومهم باستخراج الحقد من مكنونات نفوسهم واستنفارهم مقابل هذا الثائر الحرِّ الحقِّ وتحريضهم عليه، فهو عندهم مثير فتنة، ومغير أديان، وقائد إلى الضلال.
وانتقلوا إلى حرب إعلامية بصورة أخرى، وهي جمع الحشود وإقامة الحجة أمام الملأ، للتأثير في الرأي العام، ويجعلوا الأمة كلها في خندق مقابل لإبراهيم، فقالوا: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} (الأنبياء-61)، وسألوه عن فعلته، وكأنهم أرادوا بصيغة سؤالهم تقريره لفعله، وأخذ الاعتراف من كلامه ضمناً، فكان سؤالهم في التحقيق العلني أمام المحكمة الصُّورية، {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء-62)، وما زالوا حتَّى في سؤالهم يؤخّرون ذكره ويركِّزون في خطابهم على تصديه للآلهة.
فكان الثائر الملهم، المؤيّد من العليم الخبير، قوي الحجَّة، واضح البيان، فالشمس لا تحتاج لدليل، والفطرة لا تخفى بغبار الظلم، فقال وقد وجه إليه صاروخاً بيانياً: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} (الأنبياء-63).
فأدرك القوم أنَّه راشد عليم، وحجته بالغة، ودليله مقنع، فرقت قلوبهم، ولانوا لقوله، واقتنعوا بكلامه، وساورهم الشك في كلام العابثين، وأخضعوا رقابهم لله رب العالمين، وعلموا أنّ ثورته على الطاغوت والأصنام الحجرية والبشرية، هي طريق الصلاح والإصلاح، {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ (65)}. (سورة الأنبياء).
فانطلق إبراهيم بصوت الحق صادحاً، يحطم ما بقي من آثار هذه الأصنام في صدورهم، وبقيا ضلالهم، فهتف بحرية وحرقة، فقال: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(67)} (سورة الأنبياء).
ولكن هذا الحال لا يعجب العابثين بعقائد النَّاس، فاستنفر المرتزقة والبلطجية وأصحاب المنافع والمصالح، وبادروا إلى قوم إبراهيم وذكروهم بتلكم الآلهة، فحرَّكوا مشاعر الاستكبار في نفوسهم، وساروا بصور الطواغيت، وهتفوا لهم، وذكّروا النَّاس بتاريخهم النِّضالي، وحفظهم لمصالحهم.
وصاحوا أمام النّاس: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} (الأنبياء-68)، لقد جعلوا حرقه نصرة للآلهة وقتله وأداً للفتنة، ورجمه واجباً ضميرياً، فاستأجروا بلطجيتهم، واستقدموا مرتزقتهم، وحركوا حافلاتهم، وأشعلوا الحماسة في النفوس، وغنت أبواقهم، انصروا الآلهة، انصروا عقيدتكم الفاسدة، حافظوا على ضلالكم، اجمعوا حطبكم، احرقوا مخالفكم، عذِّبوا ثائركم.
المخطّط ..
فخطَّطوا وجمعوا وقرَّروا ومكروا ونفّذوا ورموا الثَّائر الحق في النَّار، وظنّوا أنَّ القصة انتهت، والثورة أخمدت، ولكنَّ الأمر الإلهي نافذ، فانطفأت نارهم، وأصبحت برداً وسلاماً على ناصر الدِّين، فجاء الأمر الرباني على غير ما يتوقعون، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء-69).
فردّ كيدهم إلى نحورهم، وحبط عملهم، وفشل مخططهم، وخسر رهانهم، وجرى ناموس الله في الكون بنصر الحق، وإنقاذ الصدق، وزوال الباطل.
وجرت قصة إبراهيم مضرب المثل في الصبر والمصابرة، والجهاد والمرابطة، وكان أمر الله حتماً مقضياً ليتحقّق النَّصر في كلِّ زمان ومكان إن صدق الثائر، بهدم الفساد، وبناء الأمجاد، وتحقيق العبودية لربِّ العباد، {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} (الأنبياء-70).
______________________
*الطابور الخامس هو تعبير نشأ أثناء الحرب الأهلية الأسبانية التي نشبت عام 1936م. واستمرت ثلاث سنوات، وأول من أطلق هذا التعبير هو الجنرال أميليو مولا أحد قادة القوات الوطنية الزاحفة على مدريد وكانت تتكون من أربعة طوابير من الثوار وقال: إنَّ هناك طابورًا خامسًاً يعمل مع الوطنيين لجيش الجنرال فرانكو ضد الحكومة الجمهورية التي كانت ذات ميول ماركسية يسارية من داخل مدريد ويقصد به مؤيدي فرانكو من الشعب.
وترسخ هذا المعنى في الاعتماد على الجواسيس في الحروب واتسع ليشمل مروجي الإشاعات ومنظمي الحروب النفسية التي انتشرت نتيجة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرَّأسمالي.
المصدر: موقع بصائر