السلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته
حديثنا اليوم عن صحابي جليل ورجل عتيد من صحابة رسول الله
صحابي من أصحاب بيعة العقبة.. لم يتخلف عن رَسُولُ اللَّهِ في غزوة غزاها.. إلا غزوة تبوك..
ومعه اثنان وهما ممن شهد بدرًا.
هذا هو تاريخ كعب وصاحبيه.. والذي لم يمنعهم من الفتنة.. ولم يمنع -أيضاً- من حسم الموقف معهم.
ومن البداية.. كانت مواجهة النفس والصدق معها.
"كَانَ مِنْ خبري أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ في تِلْكَ الْغَزْوَةِ.. وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عندي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا في تِلْكَ الْغَزْوَةِ" (1).
طبيعة الظروف وعناصر البلاء فيها:
"وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ كَثِيرٌ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظ".
يُرِيدُ الدِّيوَانَ.. ولكن الجهاد كان عقيدتهم وهواهم، ومن هنا كانت مسئولية كل فرد عن تجهيز نفسه لتكون مهمة التجهيز مقدمة ومعياراً للرغبة الحقيقية في الغزو.. ومن هنا جاءت حادثة الأشعريين مع حادثة كعب في سورة واحدة:
{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92].
{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا...} [التوبة:118].
"وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ".
وهذه هي عناصر البلاء.. الذي يتناسب مع استحقاق الأمة للانتصار على الروم.
والبلاء ليس فقط القتال المباشر، ولكنه يبدأ بالعزم عليه وإرادته والخروج إليه.. وهي البداية الحقيقية للمعركة التي تدور رحاها في النفس.
تمامًا مثل النهر الذي جعله الله بلاءً لمن كان مع طالوت قبل دخول الحرب مع جالوت.
ويقابل عوامل الإغراء بالقعود عوامل الشدة.. حيث سماها القرآن {سَاعَةِ العُسرَةِ} [التوبة:117]..
والتي وصفها عمر بن الخطاب قائلا: (خرجنا مع رسول الله إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلًا فأصابنا فيه عَطَش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع.. حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده).
تلك هي طبيعة الظروف والبلاء الذي لابد منه.. ولكن الله قادر على رفعه إذ يواصل عمر وصف الغزوة قائلاً:
(فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله -عز وجل- قد عَوّدك في الدعاء خيرًا، فادعُ لنا. قال: تحب ذلك؟ قال: نعم! فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر) (2).
إرادة الخروج في سبيل الله:
"وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لكي أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ في نفسي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جهازي شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ."
والبداية النفسية لإرادة الخروج هي الحال التي يكون عليها المسلم وهو في بيته، وهذا موقف لعمر بن الخطاب يكشف الإستعداد الذي يكون عليه المسلم وهي في نفس ظروف الحرب مع غسان فيقول: أتاني صاحبي عشاءً فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال: حدث أمرٌ عظيم فقلت: ماذا؟ أجاءت غسان؟ قال: لا (3).
فكان عمر لايفكر وهو في بيته إلا في غسان حتى يطلبه الرجل لشيء آخر فيجيبه "أجاءت غسان؟" التي لا يفكر إلا في مواجهتها ولعله من أقوى أمثلة الخروج في سبيل الله ما كان من حنظلة بن الراهب..
قال الحافظ المنذري: حنظلة.. لقب بغسيل الملائكة، لأنه كان يوم أحد جنبًا، وقد غسل أحد شقي رأسه، فلما سمع الهيعة خرج فاستشهد، فقال رَسُولُ اللَّهِ: «لقد رأيت الملائكة تغسله» (4).
وهذا السلوك هو الذي يحقق إرادة الخروج؛ لأن التأخير ولو لحظة عن الخروج -عند الضرورة- هو الذي يسبب القعود، وموقف كعب مثال على تلك الحقيقة.. حيث يقول: "فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لأَتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وليتني فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لي ذَلِكَ.." لأنه تأخر! فلم يقدر له الخروج، كما قال رسول الله: «ولا يزال قومٌ يتأخرون حتى يؤخرهم الله» (5).
وكلمة «وليتني فعلت» تكشف الحالة النفسية لكعب.. حيث لم يرضَ عن التخلف ولم تطمئن نفسه إليه.
ويواصل كعب كشف معاناته من خلال مقارنة حالته بمن تخلف معه:
"فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولُ اللَّهِ فَطُفْتُ فِيهِمْ، أحزنني أَنِّي لاَ أَرَى إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ".
خرج الناس رغم الظروف كما قال كعب: «كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ في حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا» ومع ذلك فما أن بلغ رَسُولُ اللَّهِ تَبُوكَ، حتى قَالَ وَهْوَ جَالِسٌ في الْقَوْمِ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟».
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ في عِطْفِهِ.
وكلام الرجل يعني أن نظرة من الإنسان إلى حياته أو لحظة تردد.. قد تكون سببًا في قعوده.
فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا.
أما المعنى الذي في رد معاذ.. فهو ثقة المسلمين بعضهم في بعض وهو معالجة لنظرة كل من يؤدي ما عليه.. إلى من يبتليه الله بالتقصير فيما عليه.
فرغم وضوح الموقف وثبوت التخلف.. كان الحب والعذر، وليس الترصد والتربص.
وكل كلمة قيلت في هذا النص تساهم بصورة قوية في تحديد صورة المجتمع المسلم المقاتل الذي سينتصر على الروم، ويتحول به وجه التاريخ، وهذه الغزوة بما فيها ومن فيها هي هذا الموقف المقدر للتحول.
فَسَكَتَ رسول الله لأن قوله هو القول الفصل، ولم يأتِ أوانه بعد.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: "فَلَمَّا بلغني أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلاً حضرني همي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذي رَأْيٍ مِنْ أهلي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ."
لما اقتربت المواجهة تهيئ كعب بالحق وعزم على الصدق.
"وَعَرَفْتُ أَنِّى لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بشيء فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ عَلاَنِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ. فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ.." الدال على الحسم الرحيم.
"ثُمَّ قَالَ «تَعَالَ» فَجِئْتُ أَمْشِى حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لي: «مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» فَقُلْتُ: بَلَى، إني وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَليَّ فِيهِ إني لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَ لي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ فِيكَ». فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فاتبعوني، فَقَالُوا لي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولُ اللَّهِ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ لَكَ، فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يؤنبوني حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبُ نفسي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لقي هَذَا معي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَمَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ. فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العمري وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ. فَذَكَرُوا لي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أسوة، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لي."
عذرا علي الإطالة ولكنه صحابي جليل والكلام عنه ماتع
يستكمل بإذن المولى عز وجل
حديثنا اليوم عن صحابي جليل ورجل عتيد من صحابة رسول الله
صحابي من أصحاب بيعة العقبة.. لم يتخلف عن رَسُولُ اللَّهِ في غزوة غزاها.. إلا غزوة تبوك..
ومعه اثنان وهما ممن شهد بدرًا.
هذا هو تاريخ كعب وصاحبيه.. والذي لم يمنعهم من الفتنة.. ولم يمنع -أيضاً- من حسم الموقف معهم.
ومن البداية.. كانت مواجهة النفس والصدق معها.
"كَانَ مِنْ خبري أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ في تِلْكَ الْغَزْوَةِ.. وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عندي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا في تِلْكَ الْغَزْوَةِ" (1).
طبيعة الظروف وعناصر البلاء فيها:
"وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ كَثِيرٌ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظ".
يُرِيدُ الدِّيوَانَ.. ولكن الجهاد كان عقيدتهم وهواهم، ومن هنا كانت مسئولية كل فرد عن تجهيز نفسه لتكون مهمة التجهيز مقدمة ومعياراً للرغبة الحقيقية في الغزو.. ومن هنا جاءت حادثة الأشعريين مع حادثة كعب في سورة واحدة:
{وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92].
{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا...} [التوبة:118].
"وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ".
وهذه هي عناصر البلاء.. الذي يتناسب مع استحقاق الأمة للانتصار على الروم.
والبلاء ليس فقط القتال المباشر، ولكنه يبدأ بالعزم عليه وإرادته والخروج إليه.. وهي البداية الحقيقية للمعركة التي تدور رحاها في النفس.
تمامًا مثل النهر الذي جعله الله بلاءً لمن كان مع طالوت قبل دخول الحرب مع جالوت.
ويقابل عوامل الإغراء بالقعود عوامل الشدة.. حيث سماها القرآن {سَاعَةِ العُسرَةِ} [التوبة:117]..
والتي وصفها عمر بن الخطاب قائلا: (خرجنا مع رسول الله إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلًا فأصابنا فيه عَطَش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع.. حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده).
تلك هي طبيعة الظروف والبلاء الذي لابد منه.. ولكن الله قادر على رفعه إذ يواصل عمر وصف الغزوة قائلاً:
(فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله -عز وجل- قد عَوّدك في الدعاء خيرًا، فادعُ لنا. قال: تحب ذلك؟ قال: نعم! فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر) (2).
إرادة الخروج في سبيل الله:
"وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لكي أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ في نفسي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جهازي شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ."
والبداية النفسية لإرادة الخروج هي الحال التي يكون عليها المسلم وهو في بيته، وهذا موقف لعمر بن الخطاب يكشف الإستعداد الذي يكون عليه المسلم وهي في نفس ظروف الحرب مع غسان فيقول: أتاني صاحبي عشاءً فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال: حدث أمرٌ عظيم فقلت: ماذا؟ أجاءت غسان؟ قال: لا (3).
فكان عمر لايفكر وهو في بيته إلا في غسان حتى يطلبه الرجل لشيء آخر فيجيبه "أجاءت غسان؟" التي لا يفكر إلا في مواجهتها ولعله من أقوى أمثلة الخروج في سبيل الله ما كان من حنظلة بن الراهب..
قال الحافظ المنذري: حنظلة.. لقب بغسيل الملائكة، لأنه كان يوم أحد جنبًا، وقد غسل أحد شقي رأسه، فلما سمع الهيعة خرج فاستشهد، فقال رَسُولُ اللَّهِ: «لقد رأيت الملائكة تغسله» (4).
وهذا السلوك هو الذي يحقق إرادة الخروج؛ لأن التأخير ولو لحظة عن الخروج -عند الضرورة- هو الذي يسبب القعود، وموقف كعب مثال على تلك الحقيقة.. حيث يقول: "فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لأَتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وليتني فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لي ذَلِكَ.." لأنه تأخر! فلم يقدر له الخروج، كما قال رسول الله: «ولا يزال قومٌ يتأخرون حتى يؤخرهم الله» (5).
وكلمة «وليتني فعلت» تكشف الحالة النفسية لكعب.. حيث لم يرضَ عن التخلف ولم تطمئن نفسه إليه.
ويواصل كعب كشف معاناته من خلال مقارنة حالته بمن تخلف معه:
"فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولُ اللَّهِ فَطُفْتُ فِيهِمْ، أحزنني أَنِّي لاَ أَرَى إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ".
خرج الناس رغم الظروف كما قال كعب: «كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ في حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا» ومع ذلك فما أن بلغ رَسُولُ اللَّهِ تَبُوكَ، حتى قَالَ وَهْوَ جَالِسٌ في الْقَوْمِ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟».
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ في عِطْفِهِ.
وكلام الرجل يعني أن نظرة من الإنسان إلى حياته أو لحظة تردد.. قد تكون سببًا في قعوده.
فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا.
أما المعنى الذي في رد معاذ.. فهو ثقة المسلمين بعضهم في بعض وهو معالجة لنظرة كل من يؤدي ما عليه.. إلى من يبتليه الله بالتقصير فيما عليه.
فرغم وضوح الموقف وثبوت التخلف.. كان الحب والعذر، وليس الترصد والتربص.
وكل كلمة قيلت في هذا النص تساهم بصورة قوية في تحديد صورة المجتمع المسلم المقاتل الذي سينتصر على الروم، ويتحول به وجه التاريخ، وهذه الغزوة بما فيها ومن فيها هي هذا الموقف المقدر للتحول.
فَسَكَتَ رسول الله لأن قوله هو القول الفصل، ولم يأتِ أوانه بعد.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: "فَلَمَّا بلغني أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلاً حضرني همي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذي رَأْيٍ مِنْ أهلي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ."
لما اقتربت المواجهة تهيئ كعب بالحق وعزم على الصدق.
"وَعَرَفْتُ أَنِّى لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بشيء فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ عَلاَنِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ. فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ.." الدال على الحسم الرحيم.
"ثُمَّ قَالَ «تَعَالَ» فَجِئْتُ أَمْشِى حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لي: «مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» فَقُلْتُ: بَلَى، إني وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَليَّ فِيهِ إني لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَ لي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللَّهُ فِيكَ». فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فاتبعوني، فَقَالُوا لي: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولُ اللَّهِ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ لَكَ، فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يؤنبوني حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبُ نفسي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لقي هَذَا معي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَمَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ. فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العمري وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ. فَذَكَرُوا لي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أسوة، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لي."
عذرا علي الإطالة ولكنه صحابي جليل والكلام عنه ماتع
يستكمل بإذن المولى عز وجل
تعليق