إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

اللقاء السابع عشر | القرآن الكريم حصن اللغة للدكتور رضا السيد | بصائر3

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • اللقاء السابع عشر | القرآن الكريم حصن اللغة للدكتور رضا السيد | بصائر3


    فَضَائِلُ القُرَآنِ العَامَّة على اللُّغَةِ العَرَبِيَّة
    أما عن فَضَائِلِ القُرْآن العامَّة علَى اللُّغَةِ العَرَبِيَّة:
    فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَبْقَى اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ دُوْنَ أَنْ تَذُوْبَ وَتَتَمَاْهَى في غَيْرِها مِنَ اللُّغَات
    فالقُرْآنُ الكَرِيْم هو الَّذِي حَفِظَ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ مِنْ أَنْ تَذُوْبَ وتَتَمَاْهَى كَمَا حَدَث لِغَيْرِها.

    ثُمَّ بعد ذلك القُرْآن الكَرِيْم حَفِظَ اللُّغَةَ مِن تَشَظِّي اللَّهَجَات، وجَمَعَها غَالِبًا فِيْ لَهْجَةِ قُرَيْش؛ لَأَنَّهَا سَادَتْ.
    فقد حَفِظَ اللُّغَةَ مِنْ أَنْ تَضِيْع، وحَفِظَها مِنْ ذَوَبَان وتَفَرُّق اللَّهجات فيها.
    ثُمَّ جَعَل اللُّغَةَ لُغَةً عَالَمِيَّة، جعل اللُّغَةَ العربيَّة لُغَةً عالمية.

    اللقاء السابع عشر | القرآن الكريم حصن اللغة للدكتور رضا السيد | بصائر3


    تفضلوا معنا في تحميل الدرس الأول بجميع الصيغ



    رابط الدرس على الموقع وبه جميع الجودات
    http://way2allah.com/khotab-item-136595.htm

    رابط صوت mp3
    http://way2allah.com/khotab-mirror-136595-217566.htm

    رابط الجودة hd
    http://way2allah.com/khotab-mirror-136595-217565.htm

    رابط يوتيوب



    رابط ساوند كلاود
    https://soundcloud.com/way2allahcom/quran-7sn-allogha


    رابط تفريغ بصيغة pdf
    https://archive.org/download/quran-7...sn-allogha.pdf

    رابط تفريغ بصيغة word
    هنـــا


    لمشاهدة جميع دروس الدورة وتحميلها على هذا الرابط:
    http://way2allah.com/category-585.htm


    | جدول دورة بصائر لإعداد المسلم الرباني | الجزء الثالث |


    موضوع مخصص للاستفسارات الخاصة بالدورة العلمية " بصائر3 "


    لقراءة التفريغ مكتوب
    تابعونا في المشاركة الثانية بإذن الله.

    التعديل الأخير تم بواسطة لؤلؤة باسلامي; الساعة 28-10-2017, 12:55 AM.


    رحمــــةُ الله عليـــكِ أمـــي الغاليــــــــــــة

    اللهــم أعني علي حُسن بِــــر أبــي


    ومَا عِندَ اللهِ خيرٌ وأَبقَىَ.

  • #2

    حياكم الله وبياكم الإخوة الأفاضل والأخوات الفضليات:
    يسر
    فريق التفريغ بشبكة الطريق إلى الله
    أن يقدم لكم تفريغ: القرآن الكريم حصن اللغة
    مع الدكتور/ رضا السيد

    الحَمْدُ لله رَبِّ العالمين، الرَّحْمَنِ الرَّحِيْم، مَالِكِ يَوْمِ الدِّيْن، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أَشْرَفِ المُرْسَلِيْن سَيِّدِنا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْه وعَلَى آلِه وصَحْبِه والتَّابعين، أمَّا بَعْدُ:
    فهذا هو اللقَاءُ الثَّالِثُ مع حضراتكم حول تلك السلسلة المبارَكة بصائر عبر شبكة الطريق إلى الله.
    وأسألُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُبَارِك في هذه السِّلْسِلَة، وأنْ يَنْفَعَنا جميعًا بها، وأن يُبَارِك في القائمين عليها، إنَّه خَيْرُ مَنْ سُئِل، وأَكْرَمُ مَنْ أَجَاب.


    القُرْآنُ حِصْنُ العَرَبِيَّة
    والحَدِيْثُ اليَوْمَ تحت عُنْوَان القُرْآنُ حِصْنُ العَرَبِيَّة. ولِمَ لا يَكُوْنُ القُرْآنُ حِصْنَ العَرَبِيَّةِ الأَكْبَر ولَهُ عَلَيْها فَضَائِلُ تَتْرَى، وفَوَاْئِدُ جَمَّة، مِنْها ما هو عَام ومِنْها ما هو خاص.
    • فَضَائِلُ القُرَآنِ العَامَّة على اللُّغَةِ العَرَبِيَّة
    أما عن فَضَائِلِ القُرْآن العامَّة علَى اللُّغَةِ العَرَبِيَّة فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَبْقَى اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ دُوْنَ أَنْ تَذُوْبَ وَتَتَمَاْهَى في غَيْرِها مِنَ اللُّغَات، فالقُرْآنُ الكَرِيْم هو الَّذِي حَفِظَ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ مِنْ أَنْ تَذُوْبَ وتَتَمَاْهَى كَمَا حَدَث لِغَيْرِها.
    وسَيَأْتِي بَيَانٌ لهذا الأمر.
    ثُمَّ بعد ذلك القُرْآن الكَرِيْم حَفِظَ اللُّغَةَ مِن تَشَظِّي اللَّهَجَات، وجَمَعَها غَالِبًا فِيْ لَهْجَةِ قُرَيْش؛ لَأَنَّهَا سَادَتْ، وسيأتي سَبَبُ ذلك معنا إِنْ شاءَ اللهُ -عَزَّ وَجَلّ- في هذا اللِّقَاء.
    فقد حَفِظَ اللُّغَةَ مِنْ أَنْ تَضِيْع، وحَفِظَها مِنْ ذَوَبَان وتَفَرُّق اللَّهجات فيها.
    ثُمَّ جَعَل اللُّغَةَ لُغَةً عَالَمِيَّة، جعل اللُّغَةَ العربيَّة لُغَةً عالمية.
    • آثار القرآن الخاصَّة على اللُّغَةِ العربية
    ثُمَّ إِنَّ القُرْآنَ الكَرِيْمَ لَهُ آثَارٌ خَاصَّة على اللُّغَة، هَذَّبَ ألفاظها، ونَقَّحَ مفرداتها، وزَوَّدَها بالمعَانِي والمُفْرَدَات والمُتَرَادِفَات الاصْطِلَاحِيَّةِ والشَّرْعِيَّة الجَدِيْدَة الَّتِي لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ تَأْلَفُهَا.

    وَهَاْكَ شَيْئًا مِنَ التَّفْصِيْلِ حَوْلَ هَذِهِ المُقَدِّمَة:
    بَسْطٌ لِفَوَائِدِ القرآن على اللُّغَةِ العربية
    حَفِظَ القرآنُ اللُّغَةَ مِنَ الضَّيَاعِ والتَّمَاهِي في اللُّغَاتِ الأُخْرَى

    أولًا: القرآنُ الكريم وأكبر فضائله على اللُّغَة أنَّه حَفِظَها مِنَ الضَّيَاع، وصَانَها مِنَ التَّمَاهِي في أيِّ لُغَةٍ أُخْرَى
    فأثْبَتَ قوامها، وثبّتها عَبْرَ العُصُوْرِ وطُوْلَ التَّارِيْخ، وليس هذا بعيدًا.

    وكلامي في هذا ينبني على مُقَدِّمَتَيْنِ ونَتِيْجَة:
    أمَّا المقدمة الأولى فهي:
    آياتٌ بيّناتٌ من كتاب الله -عز وجل-، القرآن الكريم أَنْزَلَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قُرْآنًا عَرَبِيًّا،
    أَنْزَلَ اللهُ القُرْآنَ عَرَبِيًّا، واللهُ -عَزَّ وجَلَّ- وَعَدَ بِحِفْظِ القُرْآنِ الكَرِيْم.

    فإذا كانت المقدمة الأولى: "القُرْآنُ عَرَبيٌّ".
    والمقدِّمَة الثَّانية:
    "القُرْآنُ مَحْفُوظٌ".


    معنى هذا أَنَّ النَّتِيْجَة الحَتْمِيَّة أنَّ اللُّغَةَ العربيَّة لُغَةٌ مَحْفُوْظَةٌ.

    قال اللهُ -عَزَّ وَجَلّ-: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" يوسف:٢. فأنْزَلَهُ عَرَبِيًّا.
    وجَعَلَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلّ- قُرْآنًا عَرَبِيًّا "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" الزخرف:٣.
    وأَنْزَلَهُ اللهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا "وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا" الرعد:٣٧.
    وفَصَّلَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلّ- قُرْآنًا عَرَبِيًّا "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" فصلت:٣.
    وأَوْحَاهُ اللهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا" الشورى:٧.
    وجَعَلَهُ اللهُ لِسَانًا عَرَبِيًّا "وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ" الأحقاف:١٢.

    فالقُرْآنُ عَرَبِيّ، أُنْزِلَ عَرَبِيًّا، جُعِل عَرَبِيًّا، فُصِّل عَرَبِيًّا، أَوْحَاهُ عَرَبِيًّا، جَعَل لِسَانَه عربيًّا
    وهذه الآيات وغَيْرها مِنَ القُرْآنِ الكَرِيم تُثْبِتُ أَنَّ القُرْآنَ عَرَبِيّ، وتِلْكَ هِيَ المُقَدِّمَةُ الأُوْلَى.


    أَمَّا المُقَدِّمَةُ الثَّانِيَة
    فَفِي آيَةٍ مُحْكَمَةٍ مِنْ كِتَاْبِ اللهِ -عَزَّ وَجَلّ- "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" الحجر:
    ٩.
    فالقُرْآنُ عَرَبِيّ، والقُرْآنُ مَحْفُوظ، فالعَرَبِيَّةُ مَحْفُوْظَةٌ.

    وهذا الكَلام لا يَحْتَاْجُ إلى مَزِيْدِ تَدْلِيْلٍ، لا يَحْتَاْجُ إِلى مَزِيْدِ بَيَانٍ، وَمَزِيْدِ تَدْلِيْل، فلا يَعُوْزُه الدَّلِيْل، وهَلْ يَصِحُّ في الأَذْهَانِ شَيْءٌ إذا احْتَاجَ النَّهَارُ إلى دَلِيْل؟ بالطَّبْعِ لا، اسْتِفْهَامٌ فيه النَّفْيُ والاسْتِنْكَار. فها هُمْ أَهْلُ الإِسْلَامِ يَرْبُوْنَ على المليار، يزيدون على المليار مُسْلِمٍ مِنَ الشَّرْقِ إلى الغَرْب، مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ إلى أَدْنَاها، وكُلُّهم إِمَّا مُتَحَدِّث بتِلْكَ اللُّغَةِ، وإِمَّا يُقِيْمُ شَعَائِرَهُ بِتِلْكَ اللُّغَة؛ صَلاةً، وحجًّا، وذِكْرًا، وقِرَاءةً، وذِكْرًا للهِ -عَزَّ وَجَلّ-، يُؤَدِّي كُلَّ ذلك باللُّغَةِ العربية، على أَقَلِّ تَقْدِيْرٍ لا تَصِحُّ صَلاتُه إلَّا بالفَاتِحَةِ وما تَيَسَّرَ مِنْ آيَاتِ الكِتَابِ وتِلْكَ أَيْضًا عَرَبِيَّة.

    فاللُّغَةُ العَرَبِيَّة حُفِظَت بِحِفْظِ كِتَاْبِ اللهِ -عَزَّ وَجَلّ-، الَّذِي حَفِظَها أَوَّلًا وأَخِيْرًا هُوَ القُرْآنُ الكَرِيْم.
    واللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ لَمْ تَكُنْ لُغَةَ قَوْمٍ أَصْحَاب حَضَاْرَةٍ عُظْمَى، بَلْ كَانُوا بَدْوًا في أَغْلَبِهم، رُحَّلًا في جُمْلَتِهم لا في تَفْصِيْلِهم، فَقَد كَانَت هُنَاكَ المُدُن نَعَم وَلَكِن حَضَارَة العَرَب لَمْ تَكُنْ هِيَ الحَضَارَة الَّتِي تَحْفَظُ تِلْكَ اللُّغَة، انْظُر إلى حَضَارَةِ الفُرْسِ وكِبَرِها، وإلى الرُّوْمِ واسْتِطَارَتِها وتَمَادِيها في أَقْطَارِ الأَرْض، ومَعَ ذَلِك لَمْ تُحْفَظ لُغَاتُهم القَدِيْمَة، ولِمَ؟ لأَنَّهُ لم يَكُنْ لَهُم قُرْآنٌ يَحْمِي تِلْكَ اللُّغَة، فَكُلُّ كِتَابٍ أُنْزِل ذَهَبَتْ لُغَتُه وبَقِيَت كَالآثَارِ في المتَاحِف أو ذِكْرَى في كِتُبِ التَّارِيْخ، ولَمْ تَبْقَ إِلَّا اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ مَحْفُوْظَةً بِحِفْظِ كِتَاْبِ اللهِ -عَزَّ وَجَلّ-.

    تَرَقَّى القرآنُ باللُّغَةِ ونَهَضَ بِهَا نَحْوَ الكَمَالِ
    اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ أَيْضًا مِن فَضَاْئِلِ القُرْآنِ عَلَيْها أَنَّهُ تَرَقَّى بها ونَهَضَ بها نَحْوَ الكَمَال، القُرْآن تَرَقَّى باللُّغَةِ ورَفَعَها إِلى الدَّرَجَةِ العُلْيَا مِنْ لُغَاتِ الأَرْضِ قَاْطِبَةً بِشَهَادَةِ العَدوّ قَبْلَ الحَبِيْب، ومِنْ هَؤُلاء الَّذِيْنَ شَهِدُوا لِلُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مِنْ أَبْنَائِهَا ومِنْ كِبَارِ المُدَافِعِيْنَ عَنْها، ومِنْ حَامِلِي لِوَائِها في العَصْرِ الحَدِيث، الأُسْتَاذ مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- حيث قال يُبَيِّنُ تلك الحقيقة، يقول: "صَفَّى القُرْآنُ الكَرِيْمُ اللُّغَةَ مِن أَكْدَارِها، وأَجْرَاها في ظَاهِرِه على بَوَاطِنِ أَسْرَارِها، فجاء بها في مَاءِ الجَمَالِ أَمْلَأ مِن السّحَاب وفي طَرَاءةِ الخَلْقِ أَجْمَل مِن الشَّبَاب".
    القُرْآنُ الكريم هَذَّب اللُّغَةَ مِنَ الحُوْشِيّ والغريب فأَحَالَها لُغَةً صَافِيةً جذَّابة.

    القُرْآنُ الكَرِيْمُ أَدْخَلَ مَعَانٍ جَدِيْدَةً لَمْ يَكُنْ للعَرَبِ عِلْمٌ بها مِنْ قَبْل، فأَيْنَ هُمْ مِن تِلْكَ الكَلِمَاتِ الَّتِي أَخَذَتْ مُصْطَلَحَاتٍ جَدِيْدَةً كالصَّوْمِ والزَّكَاةٍ والحجِّ والنِّفَاقِ والإِيْمَانِ والكُفْر والشِّرْك والتَّوْحِيْد، نَعَم عَرَفُوا تِلْكَ المُفْرَدَات إِلَّا أَنَّهَم لَمْ يَعْرفُوها بِثَوْبِها الجَدِيْد الَّذِي كَسَاهَا الإِسْلَامُ إِيَّاه.

    القُرْآنُ الكَرِيْمُ أَوْجَد لِلُّغَةِ المُعْجَمَ التَّرْكِيْبِي العَالِي الوَحِيْد على ظَهْرِ الأَرْض، وللهِ دَرّ الرَّافِعِيّ حِيْنَمَا قَال: "إِذَا كَاْنَ العَرَبُ أَوْجَدُوا لِلُغَتِهِم مَعَاْجِمَ شَتَّى لِمُفْرَدَاتِها، فَإِنَّ المُعْجَمَ الوَحِيْد التَّرْكِيْبِيّ الَّذِيْ لا يُبَارَى ولا يُنَاْفَس ولا يُضَاهَى هُوَ كَلَامُ اللهِ عَزَّ وَجَلّ".
    فالقُرْآنُ حَفِظَ اللُّغَةَ ابْتِدَاْءً مِنْ أَنْ تَضِيْعَ كَغَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاْتِ القَدِيْمَةِ، ثُمَّ تَرَقَّى بِهَا وَنَهَضَ بها إلى دَرَجَةِ الكَمَاْلِ والجَمَالِ والعَظَمَةِ والجَلَال لِلُغَةِ القُرَآنِ الكَرِيْم.

    اسْتَنْقَذَ القُرْآنُ اللُّغَةَ مِن شتَاتِ اللَّهَجَات ووَحَّدَها على لَهْجَةِ قُرَيْش
    ومِن فَوَائِد وفَرَائِد القُرْآن الكَرِيْم الَّتِي مَنَّ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا على تِلْكَ اللُّغَة أَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِن شتَات اللَّهَجَات وَوَحَّدَها في أَغْلَبِها على لَهْجَةِ قُرَيْش الَّتِي تَنَزَّلَ عَلَيْها الذِّكْرُ الحَكِيْمُ، ولَعَلَّ سَائِلًا يَسْأَلُ يَقُوْل: مَا اللَّهْجَةُ؟
    واللَّهْجَةُ كَمَا عَرَّفَهَا عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِم: "طَرِيْقَةٌ مُعَيَّنَةٌ فِي الاسْتِعْمَاْلِ اللُّغَوِيّ" اللَّهْجَةُ: "طَرِيْقَةٌ مُعَيَّنَةٌ فِي الاسْتِعْمَاْلِ اللُّغَوِيّ تُوْجَدُ فِي بِيْئَةٍ خَاْصَّة مِن بِيْئَاتِ اللُّغَةِ الوَاحِدَة". العَرَب عَرَفُوا لُغَاتٍ عِدَّة قَبْلَ الإِسْلَامِ، فَلَمَّا جَاْءَ القُرْآنُ الكَرِيْم وَحَّد لُغَاتهم وصَاْرَت اللُّغَةُ السَّائِدَةُ هِيَ لُغَة قُرَيْش لأَسْبَابٍ كَثِيْرَة وسَتَأْتِي الآنَ مَعَنَا.
    مِنْ تِلْكَ اللَّهَجَاتِ عَلَى سَبِيْلِ التَّمْثِيْلِ لا الحَصْر مِنْهَا مَثَلًا لَهْجَةُ الكَشْكَشَة.
    وَالكَشْكَشَةُ كَانَتْ فِي رَبِيْعَة ومُضَر، ومَعْنَاهَا أَنَّهُم يَجْعَلُونَ الشِّيْنَ مَكَان الكَاف، وذَلِك في خِطَابِ المُؤَنَّثِ خَاصَّة، إِذَا جَاءَ حَرْفُ الكَافِ لِخِطَابِ المُؤَنَّث يَجْعَلُونَه شِيْنًا، وكَذَلِك إِذَا جَاءَ أَيْضًا الكَاف في خِطَابِ المُذَكَّر يَجْعَلُونَه شِيْنًا، فَفِي خِطَابِ المُؤَنَّثِ مَثَلًا قالوا: "عَلَيْشِ" بَدَلًا من "عَلَيْكِ"، و"مِنْشِ" بَدَلًا مِن "مِنْكِ"، و"بِشِ" بَدَلًا مِن "بِكِ"، واللَّهْجَة المَشْهُوْرَة الَّتِي يُقَالُ فِيْهَا: "لَبَّيْشَ اللَّهُمَّ لَبَّيْش" وكَانَت هذه لَهْجَة أَهْلِ اليَمَن عندما يُلَبُّون بالحجّ والعُمْرَة يَقُولُون "لَبَّيْشَ اللَّهُمَّ لَبَّيْش"، يَعْنُون: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْك".

    ومِن تِلْكَ اللَّهَجَات أَيْضًا لَهْجَةُ الفَحْفَحَة.
    في لُغَةِ هُذيل، وهُم يَقُولون: "عَلَتِ العَيَاةُ لِكُلِّ عَيّ"، ومعناها في لَهْجَةِ قُرَيْش الَّتِي نَقْرَؤُهَا الآن: "حَلَتِ الحَيَاةُ لِكُلِّ حَيّ"، انْظُر إلى حَرْفِ الحاء كَيْفَ صار عَيْنًا عندهم، قالوا: عَلَت أيْ حَلَت، العَيَاة أيْ الحَيَاة، لِكُلِّ عَيّ أَيْ لِكُلِّ حَيّ.

    وهُنَاكَ لَهَجَاتٌ أُخْرَى مِنْها العَجْعَجَة.
    فأَبْدَلُوا الياء المُشَدَّدَة والمُخَفَّفَة جيمًا، فقالوا: "أَبُو عَلِجّ" بَدلًا مِن "أَبُو عَلِيّ"، وقالوا: "بالعَشِجّ" بَدَلًا مِن "العَشِيّ".

    وهُنَاكَ لَهَجَاتٌ كَثِيْرة تُسَمَّى الطَّمْطَمَانِيَّة.
    وتلك لَهْجَةُ حمير، يُبْدِلُونَ الألف واللام التَّعْرِيْفِيَّة أَدَاة التَّعْرِيْف أَلْ يُبْدِلُوْنَها أَلِفًا ومِيْمًا، وعليه جاء الحديث "ليس من البِرِّ الصِّيامُ في السَّفَرِ" صححه الألباني. يَقْرَؤونَه: "ليس من امبر امصيام في امسفر".

    تلك اللَّهَجات ذَهَبَت وزَالَت وانْدَثَرت، لماذا؟ لأنَّ لَهْجَةَ القُرْآنِ اللَّهْجَة القُرَشِيَّة الوَاضِحَة وقِرَاءاته المُتَواتِرة هي الَّتي ثَبَّتَت وأقَرَّت تلك اللَّهْجَة وأَخْفَت مَا سِوَاهَا.

    القُرْآن الكَرِيْم في بِدَاية تَدْوِيْنِه كَانَ يَعْتَرِضُ الصَّحَابَةَ في وَقْتِ التَّدْوِيْن بَعْضُ اللَّهَجَات، فكُلَّمَا رُفِعَ أَمْرٌ إلى عُثْمَان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَقُولُ: "اكْتُبُوه عَلى لَهْجَةِ قُرَيْش فَإِنَّمَا بها أُنْزِلَ".
    وفي الصَّحيح ثَبَت أنَّ زَيْد بن ثَابِت -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَرَادَ أَنْ يَكْتُب "التَّابُوت" بالهاء أَيْ "التَّابُوه" على لُغَةِ الأَنْصَار، فَمَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَمَّا رَفَعُوا الأَمْرَ لِعُثْمَان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَمَرَهُم أَنْ يَكْتُبُوه بِالتَّاءِ على لُغَةِ قُرَيْش.
    وَلَمَّا بَلَغَ عُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قِرَاءة ابْنَ مَسْعُوْد لَمَّا قَرَأَ "عَتَّى عِيْن" أَيْ "حَتَّى حِيْن"، نَهَاهُ وزَجَرَهُ، وقال: لا تَقْرَأهَا عَلى النَّاسِ، والْزَم قِرَاءةَ قُرَيْش "حَتَّى حِيْن".

    وهَكَذَا ذَهَبَت تِلْكَ اللَّهَجَات وإِنْ بَقِيَ الفَصِيْحُ مِنْها حِفْظًا لكِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلّ-، وكان ذلك من فضائل القرآن على اللُّغَة أَنْ حَفِظَها من تَشَتُّت اللَّهَجَات، وبَقِيَت لَهْجَةٌ واحدة التي نقرأ بها القرآن الآن.
    حَوَّلَ القُرْآنُ الكَرِيْمُ اللُّغَةَ إلى لُغَةٍ عَالَمِيَّةٍ
    القرآن الكريم حَوَّل اللُّغَة العربية مِنْ لُغَةٍ إقليميةٍ ضَيّقَةٍ إلى لُغَةٍ عَالَمِيَّةٍ يتَحَدَّثُ بِهَا الملايين مِن البَشَرِ قَدِيْمًا وحَدِيثًا، ولله دَرُّ مَن قال: "إِنَّ القُرْآنَ الكَرِيْمَ أَخْرَجَ اللُّغَةَ من جُحْرِ الضَّب إلى فَضَاءِ الكَوْن وسَاحَةِ العَالَم".
    الشَّيْخ الباقوري -رَحِمَه اللهُ- فِي كِتَابٍ لَهُ جَيِّد "أَثَرُ القُرْآنِ الكَرِيْمِ عَلَى اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ" يَقُول: "وَإِنَّ القُرْآنَ الكَرِيْمَ أَخْرَجَ اللُّغَةَ مِنْ جُحْرِ ضَبٍّ إِلَى فَضَاءِ العَالَمِ وسَاحَته".

    يَقُول كارل بروكلمان: "بَلَغَت العَرَبِيَّةُ بِفَضْلِ القُرْآنِ مِنَ الاتِّسَاعِ مَدَى لا تَكَاد تَعْرفه أَيُّ لُغَةٍ أُخْرَى مِنْ لُغَاتِ الدُّنْيَا" والحَقُّ مَا شَهِدَت بِه الأَعْدَاءُ، كارل بروكلمان معروف إنه مُسْتَشْرِق كبير، وله سلسلة كُبْرَى في الأَدَبِ العَرَبِيّ طُبِعَت في دَارِ المَعَارِف، يَقُول: "بَلَغَت العَرَبِيَّةُ.." بِفَضْلِ مَنْ؟ بِفَضْلِ القُرْآن "بَلَغَت العَرَبِيَّةُ بِفَضْلِ القُرْآنِ مِنَ الاتِّسَاعِ مَدَى لا تَكَاد تَعْرفه أَيُّ لُغَةٍ أُخْرَى مِنْ لُغَاتِ الدُّنْيَا".
    ويَقُول أَيْضًا المُسْتَشْرِق نولدكه: "إِنَّ العَرَبِيَّةَ لَمْ تَصِر لُغَةً عَالَمِيَّةً إِلَّا بِفَضْلِ القُرْآنِ".

    وحديثًا ومعلومٌ أنَّ اللُّغَات الَّتِي تتَحَدَّثُ بِهَا الأُمَمُ المُتَّحِدَةُ والَّتِي يُقَرُّ الحديثُ بها سِتُّ لُغَاتٍ: الإنجليزية، والإسبانية، والعربيَّة، والفرنسية، والروسية، والصّينية.
    دَخَلَت اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ باعْتِرَافِ الأُمَم المتحدة أَصْبَحت لُغَةً رَسميَّة في مَحَافِلِها، بل وخَصَّصَت يَوْمًا للاحْتِفَاء والاحْتِفَالِ باللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ يَوْمًا يَتَكَرَّرُ في العام يوم ١٨ ديسمبر مِن كُلِّ عَامٍ يُسَمَّى اليَوْم العالَمِي للُّغَةِ العَرَبِيَّة، وخَصَّصَت لِكُلِّ لُغَةٍ مِن تِلْكَ اللُّغَاتِ يَوْمًا إلا اللُّغَة الصينية لم يُحَدَّد بَعْد لِأَنَّهُم لَمْ يَتَّفِقُوا عليه.
    ثم تَبِعَت مُنَظّمَاتٌ عِدَّة مُنَظّمَةَ الأُمَم المُتَّحدَة، وسَارَت على دَرْبِها، وأَقَّرَت اللُّغَة العَرَبِيَّة لُغَةً رَسْمِيَّةً فِيْهَا، مِنْ هذه المُنَظَّمَات مُنَظَّمَة اليونسكو، ومُنَظَّمَة الصِّحَة العالَميَّة، ومُنَظَّمَة اليونيسيف، وغيرها كثير على هذا المِنْوَال ذَاته، وأَصْبَحَت اللُّغَة العَرَبِيَّة أَخِيْرًا لُغَةً مِن اللُّغَات السِّتّ المُعْتَرَف بها في كُلِّ مَحَافِلِ العَالَم، لِمَاذا؟
    مَن الَّذِي جَعَلَها تَصِيْرُ إلى هذه العَالَمِيَّة؟ إِنَّهُ القُرْآنُ الكَرِيْم.



    كُلُّ عُلُوْمِ اللُّغَةِ نَشَأَتْ بِفَضْلِ القُرْآن
    ومِنْ فَضَائِل القُرْآن الكَرِيم على اللُّغَةِ العَرَبِيَّة أَنَّهُ مَا مِنْ عِلْمٍ مِن علوم اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، ما مِن عِلْمٍ مِن علومها إلّا وَقَدْ نَبَتَ على ضِفَافِ التَّفْسِيْرِ، وعلى ضِفَافِ الإِعْجَاز، بالجُمْلَةِ جُلّ علوم اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ ما نَشَأَتْ إلا بِفَضْلِ القُرْآنِ الكريم؛ خِدْمَةً له، دِفَاعًا عنه، ضَبْطًا له، إِتْقَانًا لتَجْوِيْدِه، حِمَايَةً له.
    وذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ التَّفْصِيْلِ اليَسِيْر، أَقُوْل نَبَتَتْ على ضِفَافِ تَفْسِيْرِ القُرْآنِ الكَرِيْمِ عُلُوْمُ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ في جُمْلَتِها.
    • أَوَّلًا عِلْم المَعَاجِم
    أَوَّلًا عِلْم المَعَاجِم، كَيْفَ نَشَأَ عِلْمُ المَعَاجِمِ؟ كَانَ القُرْآنُ بَاعِثًا على وَضْعِ النَّوَاة الأُوْلَى لِعِلْمِ المَعَاجِم.
    يَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الخَبَر، وهُوَ خَبَرٌ جَيِّدٌ وجَمِيْل، قَالَ الرَّاوِي: بَيْنَمَا عَبْدُ اللهِ بن عبَّاس -رَضِيَ اللهُ عنهما- جَالِسٌ بفناء الكَعْبَةِ، وقَدْ أَسْدَلَ رِجْلَيْه وأَرْخَاهُما في زَمْزَم، والنَّاسُ يَكْتَنِفُونَه مِن كُلِّ اتِّجَاهٍ ليَسْأَلُوه عَن التَّفْسِيْر، وعن القِرَاءات، وعن مَعَانِي القُرْآن، وعَن الفِقْه، وعن الفَرَائِض، وقَدْ كان ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عنهما -بتَعْبِيْرِ العَصْر- كَانَ هَيْئَةً للعُلَمَاءِ وَحْدَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- ولِمَ لا وَقَدْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- في غَيْرِ ما مرَّة:
    "اللَّهُمَّ فَقِّهْه ُفي الدِّيْنِ، وعلِّمْهُ التَّأْوِيْلَ"
    صححه الألباني.

    ابْنُ عبَّاس كان يَجْلِسُ فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: "قُمْ بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَجْتَرِئُ على تَفْسِيْرِ القُرْآنِ بِمَا لا عِلْمَ لَهُ بِهِ"، قُمْ بِنَا، مَنْ القَائِل؟
    نافع بن الأزرق، قال لِمَن؟ لنجدة بن عويمر، يقول له: "قُمْ بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَجْتَرِئُ على التَّفْسِيْرِ -تَفْسِيْرِ القُرْآنِ- بِمَا لا عِلْمَ لَهُ بِهِ"، سُوْءُ أَدَبٍ مع ابن عبَّاس، ولَكِنْ عند الاخْتِبَار بانَت النّفُوسُ واتَّضَحَت الأَفْكَارُ.


    قال: قُمْ بِنَا، فَقَامَا إليه، فقالا: إِنَّا نُرِيْدُ أَنْ نَسْأَلَكَ عَنْ أَشْيَاء مِنْ كِتَابِ اللهِ فتُفَسِّرها لنا، وتَأْتِيْنَا بِمَا يُصَدِّقُها مِن كَلامِ العَرَب، فقال: سَلُوا أُجِبْكُم بإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلّ، فأَقْبَلا عَلَيْه، وكانَ السُّؤَالُ الأَوَّلُ مِن نافع بن الأزرق، قال: أَخْبِرْنِي عَن قَوْلِ اللهِ تَعَالَى
    "عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ" المعارج:
    ٣٧.
    مَا عزِيْن؟ ما معناها؟ ما معنى كلمة عِزِيْن؟ فقال ابنُ عبَّاس: "العزون حِلَقُ الرِّفَاقِ" أَيْ تَجَمُّعَات الرِّفَاق، حلق الرِّفَاق، قَالَ: وَهَلْ تَعْرفُ العَرَبُ ذَلِك؟ قال: نَعَمْ، قال: أَيْنَ ذَلِك؟ قال: أَمَا سَمعْتَ عبيد بن الأبرص -وهُوَ شَاعِرٌ جَاهِلِيّ- وهُوَ يَقُوْلُ:
    فَجَاءُوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَكُونُوا حَوْلَ مِنْبَرِهِ عِزِينَا
    فَبَيَّنَ لَهُ معنى عِزِيْن هِيَ الجَمَاعات والحِلَق مِن الرِّفَاق، واسْتَدَلَّ عليه بِبَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ.

    فَكَانَ السُّؤَالُ الثَّانِي، قالوا: فَأَخْبِرْنا عَن قَوْلِه "وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ" المائدة:٣٥.
    ما الوَسِيْلَةُ؟ فَرَدَّ ابنُ عبَّاس: الوَسِيْلَة أَيْ الحَاجَة، قال: وهَل تَعرفُ العَرَبُ ذَلِك؟ قال: نَعَم، أَمَا سَمعْتَ عنترة بن شداد العَبْسِيّ -مَعْرُوف، شَاعِر جَاهِلِيّ معروف، وهُوَ صَاحِبُ مُعَلَّقَة- وهُوَ يَقُوْل:
    إنَّ الرِّجالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيْلَة ٌ إِنْ يَأْخُذُوْكِ تَكَحَّلي وتَخَضَّبي
    إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيْلَةٌ، فالوَسِيْلَة هِيَ الحَاجَة.
    وهَكَذَا مَضَى الرَّجُلان يَسْأَلان عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- حَتَّى جَاءا على مائتين وخمسين مَوْضِعًا مِن كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلّ-
    وفي كُلِّ مَوْضِعٍ يُجِيْبُهُم بِبَيْتٍ مِنْ أَبْيَاتِ الشِّعْرِ بِمَا يَنْفِي عَنْه -عن ابن عبَّاس- الجَهْل، ويُثْبِتُ لَهُ العِلْم، فلَقَدْ كَانَ -رَحِمَهُ الله- أُمَّةً وَحْده في العِلْم.


    كَذَلِك وُضِعَ عِلْمُ الشِّعْر، وكَانَت هَذِه الأَسْئِلَة وَغَيْرها كَانت بِمَثَابَة النَّوَاة الأُوْلَى لِوَضْعِ المُعْجَم العَرَبِيّ، لِذَلِكَ نَجِدُ أَنَّ أَوَائِل المَعَاجِم تَحْمِلُ اسْمَ غَرِيْب القُرْآن.
    • ثَانِيًا عِلْم الشِّعْر
    ثُمَّ كَانَ عِلْمُ الشِّعْرِ، وَهَلْ هُنَاكَ علاقة بَيْنَ الشِّعْر، ودِرَاسَة الشِّعْر، وجَمْعه، وتَدْوِينه، ودِرَاسَته، وبَلاغَته، هَلْ لِكُلِّ ذَلِك علاقة بِكِتَابِ اللهِ -عَزَّ وجَلّ-؟ نعَم، لَهُ علاقة كُبْرَى، اسْتَمِع أَيْضًا إلى ابن عباس وهُوَ يَقُوْل: "الشِّعْرُ دِيْوَانُ العَرَب، فَإِذَا خَفِيَ عَلَيْنَا الحَرْفُ مِنَ القُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ بِلُغَةِ العَرَب رَجعنا إِلى دِيْوَانِها فالتَمسْنا مَعْرِفَةَ ذَلِك"، ابن عبَّاس كُلَّمَا أُشْكِلَ على وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْنى مِن مَعَانِي الآيَات -سَوَاء كَانَ مُفْرَدًا أَوْ تَرْكِيْبًا مِنْ تَرَاكِيْبِ القُرْآنِ الكَرِيْم، أَو السُّنَّة- فَإِنَّهُ يَرُدُّهُم سَرِيْعًا إلى الشِّعْرِ لأَنَّهُ دِيْوَانُ العَرَبِ.

    وَعَنْهُ أَيْضًا قَال: "إِذَا سَأَلْتُمُونِي عَن الغَرِيْبِ -أيْ غَرِيْب القُرْآن- فالتَمِسُوْهُ مِنَ الشِّعْرِ؛ فَإِنَّ الشِّعْرَ دِيْوَانُ العَرَبِ"، فاسْتَعَانُوا بالشِّعْرِ لِفَضِّ مَغَالِيْقِ الأَلْفَاظِ، وكَذَلِك لِفَضِّ مَغَالِيْقِ التَّرَاكِيْب، ثُمَّ دَرَسُوا الأَسَالِيْب، وجَمَعُوه، ودَرَسُوا أَغْرَاضَ الشِّعْرِ، ومَعَانِيه، فَكَانَ القُرْآنُ هُوَ البَاعِث الأَوَّل عَلَى الحِفَاظِ وحِمَايَةِ الشِّعْرِ العَرَبِيّ.
    • ثَالِثًا عِلْم النَّحْو
    ولَيْسَ عَنَّا بِبَعِيْد أَنَّ سَبَب وَضْع عِلْم النَّحْو ما كان إلا بِسَبَبِ لَحْنَةِ أَعْرَابِيّ، رُوِيَت لَنَا الأَخْبَارُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَدِمَ المَدِيْنَةَ وأَرَادَ أَنْ يَحْفَظَ كَلامَ اللهِ -عَزَّ وَجَلّ- فَأَقْرَأَهُ رَجُلٌ قَوْلَ اللهِ -تَبَارَكَ وتَعَالَى-
    "وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّـهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ" التوبة:٣.
    وقال: "وَرَسُولِه" وَلَمْ يَقُل: "وَرَسُولُه"، فَعَطَف البَراءة مِن الله، عَطَفَ بَرَاءَةَ اللهِ مِنَ المُشْرِكِين عَلَى بَرَاءَةِ الرَّسُوْلِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، قَالَ: "أَنَّ اللَّـهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهُ" عَطَفَ اسْمَ الرَّسُوْلِ أَوْ عَطَفَ الرِّسَالَةَ عَلَى البَرَاءَةِ مِنَ المُشْرِكِيْن.

    فقَالَ الأَعْرَابِيُّ: "إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ بَرِئ مِن رَسُوْلِه فَقَدْ بَرِئْتُ مِنْه أَنَا أَيْضًا" فَقِيْلَ له: كَيْف؟ قَالَ: "هَكَذَا أَقْرَأَنِي أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ من المُشْرِكِينَ ورَسُولِه".
    فرُفِعَ الأَمْرُ إلى عمر بن الخطَّاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ عُمَر: "كَيْفَ تَتَبَرَّأُ مِن رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم؟" قَالَ: "هَذَا الرَّجُل أَقْرَأَنِي قَوْلَ اللهِ: أَنَّ اللهَ بَرِيْءٌ مِّنَ المُشْرِكِيْنَ وَرَسُوْلِه، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ بَرِئ مِنْ رَسُوْلِهِ فَقَدْ بَرِئْتُ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ اللهُ".
    قَالَ: "مَا هَكَذَا أُنْزِلَت"، قَالَ: "وَكَيْفَ أُنْزِلَت يَرْحَمُكَ اللهُ؟" قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَت "أَنَّ اللَّـهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ" بِرَفْعِ كَلِمَةِ "رَسُولُه"، قَالَ: "حَسَنًا لَقَدْ تَبَرَّأْتُ مِمَّنْ تَبَرَّأَ اللهُ وَرَسُوْلُه مِنْه".

    عِنْدَ ذَلِك أَمَرَ عمر بن الخطاب أبا الأسود الدؤلي -رَحِمَهُ اللهُ- أَنْ يَبْدَأَ في تَدْوِيْنِ عِلْمِ النَّحْوِ وَقَوَاعِدِه، فَكَانَ الحِفَاظُ على القُرْآنِ الكَرِيْمِ هُوَ البَاعِث الأَوَّل على تَدْوِيْنِ عِلْمِ النَّحْوِ، ثُمَّ تَتَابَعَت فيه الكُتُب وتَوَاتَرَت فيه الدِّرَاسَات.

    مِنْ هُنَا عَلِمْنَا أَنَّ عِلْمَ النَّحْوِ لم يُوْضَع إلا بفَضْلِ القُرآن الكَريم والحِفَاظ على القُرآنِ الكَرِيم.
    عِلْم الشِّعْرِ لم يُدَوَّن إلا حِفَاظًا على القُرْآن وفهْمًا للنَّصِّ القُرْآنِيّ، وفهمًا لسُنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّم-.
    كَذَلِك عِلْم المعاجم لم يُوْضَع إلا للحِفَاظ على لُغَةِ القُرْآنِ الكَرِيْم، وفهْم كِتَاب الله -عَزَّ وَجَلّ-، وفهْم سُنَّةِ النَّبِيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّم-.

    • رَابِعًا عِلْم البَلاغَةِ
    أَمَّا عِلْم البَلاغَةِ فَمَا وُضِعَ أَيْضًا إلا حِفَاظًا على النَّصّ القُرْآنِيّ، وتَفَهُّمًا له، وبيانًا لإِعْجَازِه. وذَلِكَ خَبَرٌ يُرْوَى ومُتَوَاتِر عَنْ أبي عُبَيْدة -رَحِمَهُ اللهُ- صَاحِب كِتَابِ مجاز القرآن، يُرْوَى أَنَّ أبا عبيدة في سَبَبِ تَأْلِيْفِه لأَوَّلِ كِتَابٍ أُلِّفَ في مَجَازِ القُرْآنِ الكَرِيْم، يَقُول:

    أَرْسَلَ إِلَيَّ الفضل بن الربيع وَالِي البَصْرَة في الخُرُوجِ إليه، فقَدِمْتُ إليه، فلَمَّا اسْتَأْذَنْتُ عَلَيْه أَذِنَ لِي وهُوَ في مَجْلِسٍ له طَوِيْل وعَرِيْض فيه بسَاطٌ وَاحِد قَدْ مَلأه، وفي صَدْرِه فُرُش عالية لا يُرْتَقَى إِلَيْها إلا على كُرْسِيّ، وهُوَ جَالِسٌ عَلَيْها، فَسَلَّمْتُ عليه بالوزارة، فَرَدَّ وضَحك واسْتَدْنَاني، حَتَّى أَجْلَسَنِي بِجِوَارِه، وهَذَا دَأبُ الصَّالِحِيْن مِن الولاة والوزرَاء والكِبَار، دَأبهم أَنْ يُقَرِّبُوا أَهْلَ العِلْمِ، وأَنْ يُجْزِلُوا لَهُم العَطَاء، وأَنْ يَكْتَنِفُوهم بِرِعَايَتِهم؛ لأَنَّهُم مَصَابِيْحُ هَذِه الأُمَّة الَّذِيْن يَهْدُوْنَ الحَائِرَ ويُنِيْرُوْنَ ظَلامَها ولَيْلَها.
    قَالَ: فَاسْتَدْنَانِي -أَيْ طَلَبَ مِنِّي أَنْ أَدْنُوَ إِلَيْه- حَتَّى جَلَسْتُ إِلَيْه على فِرَاشِه، بِجِوَارِه، ثُمَّ سَأَلَنِي، وَأَلْطَفَنِي، وبَاسَطَنِي، وقَالَ: أَنْشِدْنِي؛ فَأَنْشَدْتُه شِعْرًا؛ فطرب، وضَحك، وزَادَ نَشَاطُه، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ في زِيِّ الكُتَّابِ لَهُ هَيْئَةٌ، فَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبٍ وَقَالَ له: أَتَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: لا، قَالَ: هَذَا أبو عُبَيْدَة، عَلَّامَة أَهْل البَصْرَة، أَقْدَمْنَاه لِنَسْتَفِيْدَ مِنْ عِلْمِه، فَدَعَا لَهُ الرَّجُلُ بِخَيْرٍ وأَثْنَى على فِعْلِه هَذَا..

    ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي كُنْتُ إِلَيْكَ مُشْتَاقًا وقَدْ سَأَلْتُ عن مَسْأَلةٍ أَفَتَأَذنُ أَنْ أعرفها مِنْكَ؟ فَقَالَ: سَل يَرْحَمُكَ اللهُ، قَالَ: قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-:
    "طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ" الصافات:٦٥.
    يَصِفُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- تِلْكَ الشَّجَرَة المَلْعُوْنَة الَّتِي تَخْرُجُ في أَصْلِ الجَحِيْمِ طَلْعها أَيْ ثَمَرُها كَأنَّه رُؤوسُ الشَّيَاطِيْن، قَالَ يَرْحَمُكَ اللهُ إِنَّمَا يَقَعُ الوَعْدُ والإِيْعَادُ بِمَا عُرِفَ مثله، وهَذَا مَعْلُوْمٌ فِي اللُّغَة إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُشَبِّه مَجْهُوْلًا فَيَجِب أَنْ تُشَبِّهَه أو يُسْتَحَبّ لك أن تُشَبِّه المجهول بالمَأْلُوْفِ المَعْرُوْفِ لَدَى النَّاس، لَكِنْ أَنْ تُشَبِّه غَامِضًا بِغَامِضٍ فَهَذَا يَحْتَاجُ مِنْكَ إِلى إِعَادَةِ نَظَرٍ أَوْ أَنْ تَكُوْنَ مِمَّن نَالَ قِسْطًا وَافِرًا من البَلاغَةِ حَتَّى لا تُخْطِئ ولا تُخَطِّئ النَّاس.


    فَأَبُو عُبَيْدَة لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وتَعَالَى-
    "طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ" فَكَأَنَّ السَّائِل استشكل في نَفْسِه ذَلِكَ التَّشْبِيْه، فَكَيْفَ يُشَبَّهُ مَا هُوَ غَائِب عَن الحَواس كَيْفَ يُشَبَّه مَا غَابَ عن حَواس النَّاس بِشَيْءٍ آخَر غَابَ عن حَواسهم، فالشَّجَرَة تِلْك الشَّجَرَة التي تنبت في أَصْلِ الجَحِيْم -أَعَاذَنَا اللهُ وَإِيَّاكُم مِنْها- لَمْ يَرَهَا النَّاسُ بَعْد، ورُؤوس الشَّيَاطِين أَيْضًا لَمْ يَرَها النَّاسُ، فَكَيْفَ يُشَبَّهُ غَائِبٌ بِغَائِبٍ، استشكل الأَمْرُ عَلَيْه، فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا يَقَعُ الوَعْدُ وَالإِيْعَادُ بِمَا عُرِفَ مِثْلُه، وَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ، فَقُلْت -اللي هو أبو عُبَيْدَة-:

    إِنَّمَا كَلَّمَ اللهُ العَرَبَ عَلَى قَدْرِ كَلامِهِم، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ امرئ القيس الشَّاعِر الجَاهِلِيّ المَعْرُوف أَمِيْر الشِّعْر الجَاهِلِيّ.
    قَالَ:
    أَيَقْتُلُنِي وَالمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي وَمَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ
    انْظُر إِلى البَيْتِ مَرَّةً ثَانِيَة: أَيَقْتُلُنِي دا طَبْعًا اسْتِفْهَام فِيْهِ سُخْرِيَة، هَلْ يَسْتَطِيْعُ أَنْ يَقْتُلَنِي؟! أَيَقْتُلُنِي وَالمَشْرَفِيُّ الرُّمْحُ مُضَاجِعِي يَعْنِي في حضْنِي، وَمَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ، فَشَبَّهَ الحَرْبَة المَسْنُوْنَة الزَّرْقَاء، بِمَ شَبَّهَها؟ بِأَنْيَابِ الغُوْل.
    هَلْ رَأَت العَرَبُ الغُوْلَ؟ أَوْ هَلْ أَصْلًا الغُوْل هَذَا خُرَافِي أَمْ حَقِيْقَة؟ بِالطَّبْعِ هُوَ خُرَافِيّ، قَالُوا المُسْتَحِيْلُ ثَلاثَةٌ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ البَائِسُ مِنْ أَصْدِقَائِه، قَالَ: "المُسْتَحِيْلُ ثَلاثَةٌ الغُوْلُ وَالعَنْقَاءُ وَالخِلُّ الوَفِي"، فَنَحْنُ نَقُوْلُ نَعَمْ الغُوْل خُرَافِي، والعَنْقَاء خُرَافِيَّة لَيْسَت حَقِيْقَةً، وَلَكِن الخِلّ الوَفِي مَوْجُود، فَالخَيْرُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ.

    لَمَّا قَالَ لَهُ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ امرئ القيس: أَيَقْتُلُنِي وَالمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي أَيْ في حضْنِي أُضَاجِعُه، وَمَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ، فَشَبَّه تِلْكَ الحَرْبَة الزَّرْقَاء بِأَنْيَابِ الأَغْوَال، شَبَّهَ مَعْلُومًا بِمَا لا يُعْلَمُ وَلا يُرَى ولا يُحََسّ، وَالقُرْآنُ نَزَلَ عَلَى كَلامِ العَرَبِ، وَالعَرَبُ يَسْتَحْسِنُونَ ذَلِكَ، وَهُمْ لَمْ يَرَوا الغُوْلَ قَطّ، وَلَكِنَّهُم لَمَّا كَانَ أَمْرُ الغُوْلِ يَهُوْلُهُم، أُوْعِدُوا بِهِ، فاسْتَحْسَنَ الفضلُ ذَلِكَ، واسْتَحْسَنَه السَّائِلُ، واعْتَقَدْتُ مِنْ ذَلِكَ اليَوْم أَنْ أَضَعَ كِتَابًا في القُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا وَأَشْبَاهه وَمَا يُحْتَاجُ إلى علمه، فَلَمَّا رَجعتُ إِلى البصرة عَملتُ كِتَابِي الَّذِي أَسْمَيْتُه المَجَاز.

    تِلْكَ القِصَّةُ تَرْوِيْهَا كُلُّ الكُتُبِ الَّتِي تَحَدَّثَت عَنْ نَشْأَةِ عِلْمِ البَلاغَةِ، إِلَّا أَنَّ الدكتور محمد رجب البيومي -رَحِمَهُ اللهُ- يَنْفِي هَذَا الخَبْرَ تَمَامًا، كَيْفَ يَنْفِيه؟ قَالَ: اقْرَأ كِتَابَ مجَازِ القُرْآنِ لِأَبِي عُبَيْدَة لَنْ تَجِدَ ذِكْرًا لِهَذَا الخَبَر، وَمَنَاطُ الاسْتِبْعَاد أَنَّهُ يَقُوْلُ وَكَيْفَ يَكُوْنُ هَذَا الخَبَرُ هُوَ البَاعِث عَلَى نَشْأَةِ هَذَا الكِتَاب؟ كَيْفَ يَكُوْنُ هَذَا الخَبَرُ هُوَ البَاعِث عَلَى كِتَابَة هَذَا الكِتَاب وَلَمْ يَرِدْ هَذَا الخَبَرُ لا في المُقَدِّمَةِ وَلا في مَتْنِ الكِتَابِ ولا في ذَيْلِه، لَمْ يَرِدْ هَذَا الخَبَر أَبَدًا في كِتَابِ مَجَاز القُرْآن، لِذَلِكَ شَكَّكَ في ذَلِكَ الخَبَر أَوْ أَنَّهُ كَانَ البَاعِث.

    عَلَى كُلِّ حَالٍ نَشْأَة عُلُوْمِ البَلاغَةِ وكُتُب الإِعْجَاز وَعَلَى رَأْسِهم كِتَابُ دَلائِلِ الإِعْجَازِ للإِمَامِ عبد القاهر الجرجاني -رَحِمَهُ اللهُ- وغَيْره وأَشْبَاهه وَكِتَاب أَوِّل مَا أُلِّفَ في إِعْجَازِ القُرْآنِ الكَرِيْمِ في البَلاغَةِ كَتَاب الجَاحِظ إِلَّا أَنَّ الكِتَابَ مَفْقُوْدٌ لَمْ نَقْرَأه وَإِنْ كَانَ اسْمُه وَرَدَ في كَثِيْرٍ مِن الكُتُب فَنَحْنُ نَعْرِفُ كِتَابَ الجَاحِظ أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ كِتَابه شَيْخ مِن شيُوخِ البَلاغَةِ العَرَبيَّةِ وَالأَدَب، كِتَابه الَّذِي وُسِمَ بِقَوْلِه إِعْجَاز القُرْآن، لَمْ نَرَهُ لَكِن انْظُر إِلَى كِتَابِ الرُّمَاني في الإِعْجَاز، وكِتَاب الباقلاني، والخطابي، وكتاب الإمام عبد القاهر، وغير ذلك مِنَ الكُتُب، انْظُر إِلَيْها تَجِد أَنَّهَا كُلّها مَا وُضِعَت إِلَّا لِإِثْبَاتِ إِعْجَازِ القُرْآنِ وَلِبَيَانِ بَلاغَة القُرْآنِ الكَرِيْم.
    فَكَم مِنْ عِلْمٍ نَبَتَ عَلَى ضِفَافِ التَّفْسِيْرِ بَيَانًا لِإِعْجَازِهِ وَرَسْمِهِ وَرَسْمِ القُرْآنِ الكَرِيْم.

    • خَامِسًا عِلْم الرَّسْم
    وَهُنَاكَ عِلْمُ الرَّسْمِ وَهُوَ عِلْمٌ كَبِيْر وَإِنْ كَانَ قِلَّة مِنَ العُلَمَاءِ مَنْ يَحْتَفُون بِهَذَا العِلْم في هَذِه الأَيَام، وَأَنا كُنْتُ أُعِدُّ رِسَالَةَ الدكتوراه وكَانَ البَابُ الأَوَّل فيها الفَرَائِد في رَسْمِ القُرْآنِ الكَرِيم، الفَرَائِد هِي الكَلِمَة الفَرِيْدَة الَّتِي رُسِمَت في كِتَابِ اللهِ بِصُوْرَةٍ مُخَالِفَةٍ للقِيَاس، ولَمْ تَرِد إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَة.

    خُذْ لِذلك مَثَلًا قَوْل الله -تَبَارَكَ وَتَعَالى- فِي حَدِيْثِه عَن الرِّبَا أَنَّ كَلِمَةَ الرِّبَا وَرَدَت في القُرْآنِ سِتّ مَرَّاتٍ وفي كُلِّ مَرَّةٍ تُرْسَمُ الرِّبَا بالواو، وسَبَبُ رَسْمِهَا بالواو أَنَّ أَصْلَها رَبَوَ، فَإِنَّ الرَّسْمَ أَحْيَانًا يُرَاعِي أَصْلَ الكَلِمَة، رَبَوَ، رُسِمَت في كِتَابِ اللهِ سِتّ مَرَّات بالواو، ومَرَّة وَحِيْدَة رُسِمَت بالأَلِف، في قَوْلِ اللهِ -تَبَارَك وَتَعَالى-:
    "وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّـهِ" الروم:٣٩.


    وَجَدْتُ أَنَّ صَحَابَة النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّم- مِن الكَتَبَة كَانُوا على أَقَلِّ تَقْدِيْرٍ إِنْ لَمْ يَكُن هَذا الرَّسْمُ تَوْقِيْفِيًّا فَلا أَقَلّ مَن أَن يَكُوْنَ تَوْفِيْقِيًّا، إِنْ لَم يَكُنْ مِن بَابِ التَّوْقِيْف فَعَلَى أَقَلِّ تَقْدِير مِن بَابِ التَّوْفِيق.

    انْظُر إلى كَلِمَة الرِّبَا في القُرْآنِ مَرْسُومَة دَائِمًا بِالوَاو، وَمَرَّة وَاحِدَة في سُوْرَة الرُّوْم رُسِمَت بِالأَلِف.
    بَحَثْتُ عَن سَبَبِ ذَلِك وَهَدَانِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ كَلِمَةَ الرِّبَا إِذَا رُسِمَت في القُرْآنِ بِالوَاو في مَوَاضِع خَمْسَة فَلَيْسَتْ إِلا الرِّبَا الكَبِيْرَة الَّتِي حَذَّرَ اللهُ مِنْها.
    أَمَّا كَلِمَة رِبا الوَحِيْدَة الَّتِي رُسِمَت بِالأَلِفِ فَمَعْنَاهَا الهدِيَّة "وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّـهِ" أَيْ مَا قَدَّمْتُم من هديَّة تُرِيْدُون العِوَض فَلا أَجْرَ لَكُم عِنْد اللهِ مُقَابِل هَذِه الهديَّة.

    العُلَمَاء المُسْلِمِيْن مِن الصَّحَابَةِ والتَّابِعِيْن رَسَمُوا القُرْآنَ وَأَحْكَمُوا رَسْمَهُ حِفَاظًا عَلَى القُرْآنِ الكَرِيْم، بَل وَابْتَدَعُوا عَلامَاتِ التَّشْكِيْل مِن الضَّمَّةِ وَالفَتْحَةِ وَالكَسْرَةِ وَإِنْ كَانَت فِي أَوَّل الأَمْرِ الَّتِي وَضَعَها أبو الأسود الدؤلي وَوَضَعَها نُقْطَة أَوْ نُقْطَتَيْن فَوْقَ الحَرْف أَوْ عَنْ يَمِيْن الحَرْف أَوْ تَحْت الحَرْف، في الضَّمّ والفَتْح والكَسْر والتَنْوِيْن، ثُمَّ جَاءَ الخَلِيْل بن أَحْمَد الفَرَاهِيْدي -رَحِمَهُ اللهُ- وَضَعَ الضَّمَّة بِشَكْلِها المَعْرُوف وَاوْ صَغِيْرَة، وَالفَتْحَة المَعْرُوفَة أَلِف مُنْبَطِحَة، وَالكَسْرَة المَعْرُوفَة أَلِف مُنْبَطِحَة تَحْتَ الحَرْف، والشَّدَّة إِلى آَخِرِهِ.

    الخَاتِمَة
    لَكِن كُلّ هَذِه العُلُوْم مَا وُضِعَتْ إِلا خِدْمَةً لِكِتَابِ اللهِ، فَصَدَقَ فِيْهِ أَنَّ القُرْآنَ الكَرِيْمَ كَانَ هُوَ الحِصْن الأَكْبَر للحِفَاظِ على اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، فَهُوَ الَّذِي حَفظَها مِنَ الضَّيَاع، وَهُوَ الَّذِي حَفظَها مِنْ تَمَاهِي اللَّهَجَات، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَها لُغَةً عَالَمِيَّةً، وَالقُرْآنُ هُوَ الَّذِي جَعَلها لُغَةَ المَحَافِلِ، وَجَعَلَها لُغَةَ التَّعْلِيْمِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لُغَةً تُكْتَسَبُ بِالمَلكَاتِ فِطْرَةً واكْتِسَابًا، وَهُوَ الَّذِي هَذَّبَ أَلْفَاظَهَا، وَحَضَّر مَعَانِيها بَعْدَ بَدَاوَتِهَا، وَسَمَا بِأَغْرَاضِهَا، وارْتَقَى بِأَسَالِيْبِهَا.
    فَلِلَّهِ الفَضْلُ والمِنَّةُ أَنْ أَنْزَلَ هَذَا الكِتَابَ عَلى خَيْرِ الرُّسُلِ لِخَيْرِ الأُمَمِ لِحِفَاظِ أَفْضَلِ اللُّغَاتِ.
    أَسْأَلُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَحْفَظَ لَنَا قُرْآنَنَا، وَأَنْ يَحْفَظَ لَنَا لُغَتَنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ سَدَنَتِهَا، المُخْلِصِيْنَ لَهَا، القَائِمِيْنَ بِهَا، المُتَعَلِّمِيْنَ والمُعَلِّمِيْنَ لَهَا، إِنَّهُ خَيْرُ مَنْ سُئِلَ.
    أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَالسَّلامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.



    تم بحمد الله

    وللمزيد من تفريغات الفريق تفضلوا:
    هنـــا
    ونتشرف بانضمامكم لفريق عمل التفريغ بالموقع
    فرغ درسًا وانشر خيرًا ونل أجرًا
    رزقنا الله وإياكم الإخلاص والقبول.







    التعديل الأخير تم بواسطة آمــال الأقصى; الساعة 23-10-2017, 10:25 PM.


    رحمــــةُ الله عليـــكِ أمـــي الغاليــــــــــــة

    اللهــم أعني علي حُسن بِــــر أبــي


    ومَا عِندَ اللهِ خيرٌ وأَبقَىَ.

    تعليق


    • #3
      جزاكم الله خيرًا

      تعليق

      يعمل...
      X