الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
فإن من أعظم ما يعاني المؤمن على وجه العموم، والشاب على وجه الخصوص، وغير المتزوج على وجه أخص فتنة النظر، حيث إنه يواجه هذه الفتنة في كل مكان، في السوق، في المستشفى، في الطائرة، بل وفي الأماكن والمشاعر المقدسة!، وتتجلى هذه الفتنة أكثر فيما ينتشر في الأسواق والمحلات من الصحف والمجلات التي تحمل بين ثناياها صور النساء الفاتنات التي استخدمن لترويج تلك السلع.
وزاد أمر هذه الفتنة استفحالا بعد حلول ما يسمى بالبث المباشر، حيث تلتقط الأطباق الفضائية الصور الفاتنة وأفلام الجنس الهابطة مما زاد من تعلق القلوب الضعيفة بها وانهماك ضعفاء الإيمان في متابعتها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» [رواه البخاري ومسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا حلوة خضرة . وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» [رواه مسلم].
وبين يديك أيها الأخ المبارك بعض الأمور المعينة على التغلب على هذه الفتنة:
1- استحضار النصوص الواردة في الأمر بغض البصر والنهي عن إطلاقه في الحرام؛ فمنها قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة النور: 30]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» [رواه مسلم].
وعن جرير بن عبد الله قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال اصرف بصرك» [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى و ليست لك الآخرة» [حسنه الألباني]، والمراد بالنظرة الأولى أي التي وقعت بغير قصد.
2- الاستعانة بالله عز وجل والانطراح بين يديه والإلحاح عليه في أن يقيك شر هذه الفتنة وأن يعصمك منها، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم: «يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم»، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة: 186]، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك» [رواه الترمذي وحسنه الألباني]، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه إلى أن يدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ومن شر بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر منيي» يعني فرجه [رواه أبو داود وصححه الألباني].
3- أن تعلم أنه لا خيار لك في هذا الأمر مهما كانت الظروف والأحوال؛ فإن النظر يجب غضه عن الحرام في جميع الأمكنة والأزمنة والأحوال، فليس لك أن تحتج بفساد الواقع ولا أن تبرر خطاك بوجود ما يدعو إلى الفتنة ، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [سورة الأحزاب: 36].
4- استحضر اطلاع الله تعالى عليك وإحاطته بك لتخافه وتستحي منه، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق: 16]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [سورة غافر: 19]، وقال صلى الله عليه وسلم «أوصيك أن تستحي من الله تعالى ، كما تستحي من الرجل الصالح من قومك» [صححه الألباني]، إذًا استح من الله ولا تجعله أهون الناظرين إليك.
5- تذكر شهادة العينين عليك، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة فصلت: 20]، وفي صحيح مسلم عن أنس قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: "هل تدرون مما أضحك؟"، قال قلنا: "الله ورسوله أعلم"، قال: "من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟"، قال يقول: "بلى"، قال فيقول: "فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني"، قال فيقول: "كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا"، قال فيختم على فيه، فيقال لأركانه: "انطقي"، قال فتنطق بأعماله، قال ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال فيقول: "بعدا لكن وسحقا . فعنكن كنت أناضل"»، فتبين من هذا أن عينك التي أردت أن تمتعها بالحرام ستشهد عليك يوم القيامة فاحبسها عن الحرام.
6- تذكر الملائكة الذين يحصون عليك أعمالك؛ قال تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [سورة ق: 18]، وقال أيضا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿١٠﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿١١﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [سورة الانفطار: 10-12].
7- تذكر شهادة الأرض التي تمارس عليها المعصية. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [سورة الزلزلة: 4].
8- الإكثار من نوافل العبادات فإن الإكثار منها مع القيام بالفرائض سبب في حفظ الله لجوارح العبد كما في الحديث القدسي الذي قال تعالى فيه «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» [رواه البخاري]، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "المراد من هذا الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض ثم النوافل قربة إليه ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى، ومحبته، وعظمته، وخوفه، ومهابته ،وإجلاله، والأنس به، والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدا له بعين البصيرة، فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه ولا إرادة إلا ما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به" أ. هـ
9- تذكر منافع وثمرات غض البصر، وقد ذكر ابن القيم في الجواب الكافي طائفة منها، وإليك بعضها ملخصا:
- أنه امتثال لأمر الله تعالى الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده.
- أنه يمنع وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه.
- أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعية عليه فإن إطلاقه يفرق القلب ويشتته.
- أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب فإنه يدخل مع النظر أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي.
- أن بين العين والقلب منقذا وطريقا يجعل أحدهما يصلح بصلاح الآخر ويفسد بفساده.
- ومنها أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه ويسهل عليه أسبابه وذلك بسبب نور القلب فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات وانكشفت له بسرعة ونفذ من بعضها إلى بعض، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم وانسد عليه باب العلم وطرقه.
- ومنها تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظرة دامت حسرته؛ فأضر شيء على القلب إرسال البصر فإنه يريد ما يشتد طلبه إليه ولا صبر له ولا وصول إليه وذلك غاية ألمه.
- ومنها: أنه يورث القلب سرورا وفرحا وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر وذلك لقهره عدوه بمخالفة نفسه وهواه، وأيضا لما كف لذاته وحبس شهوته لله -وفيها مسرة النفس الأمارة بالسوء- أعاضه الله مسرة ولذة أكمل منها.
- ومنها أنه يخلص القلب من أسر الشهوة فإن الأسير أسير شهوته فهو كما قيل: طليق برأي العين وهو أسير.
- ومنها أنهه يخلص القلب من سكر الشهوة ورقدة الغفلة؛ فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله الدار الآخرة ويوقع في سكر العشق أعظم من سكر الخمر.
- ومنها: السلامة من الوقوع في الفاحشة من زنا أو لواط، فإن النظر طريق إليها.
- ومنها السلامة من العقوبة الأخروية المترتبة على النظر المحرم؛ فإن زنا العينين النظر كما تقدم.
10- مجاهدة النفس وتعويدها على غض البصر والصبر على ذلك والبعد عن اليأس، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [سورة العنكبوت: 69]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ومن يتصبر يصبره الله» رواه البخاري وبوب عليه بقوله: باب الصبر عن محارم الله وأخرج الترمذي وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «واعلم أن النصر من الصبر»، وإذا اعتادت النفس على غض البصر سهل عليها ذلك، فإن المرء تحكمه العادة وتروضه المجاهدة.
11- اتخاذ بعض الوسائل الحسية، ومنها:
- تجنب المواطن التي تخشى فيها من فتنة النظر إذا كان لك مندوحه عنها، وإن ترتب على تجنبها فوات بعض المصالح التي لا توازي مصلحة السلامة من فتنة النظر، فمثلا إذا كان بين منزلك ومكان عملك أو دراستك موضع تخشى فيه من الفتنة فابتعد عنه واسلك طريقا آخر، وإن طال عليك حتى يسلم قلبك من الفتنة. وابتعد أيضا عن مشاهدة الأفلام والمسلسلات بدعوى التسلية وتزجية الفراغ، وكذا لا تسوغ لنفسك الاقتراب من أماكن الفتنة بحجة متابعة الأخبار والإطلاع على الواقع فإن الأخبار رأس المسمار كما ذكر ذلك أحد الشيوخ -حفظه الله-، كما أن عليك الحذر من السفر إلى بلاد الكفر أو بلاد الانحلال حتى لا تعرض نفسك للفتنة.
- البعد عن فضول النظر، وذلك بأن ينظر المرء إلى موضع طريقة ويدع عنه الالتفات يمنة أو يسرة أو خلفه فإنه إذا كان فضولي النظر لابد أن يقع بصره على ما حرم عليه، فإذ اعتاد عدم الفضول سلم من ذلك.
- ومنها أن الإنسان مثلا إذا احتاج إلى شراء مجلة معينة عليه ألا يأتي إلى المحلات التي تجمع كل ما هب ودب، وإنما يأتي المحلات التي تنتقي من هذه المطبوعات، فإن كان ولابد فإن عليه أن يطلب ما يريده من صاحب المحل ولا يباشر البحث بنفسه عن المجلة التي يريدها من بين هذه المطبوعات فيتعرض للنظر إلى صورة محرمة.
- ومنها: أن المرء بمجرد ما يتراءى له سواد امرأة أو من يخشى من الفتنة به فعليه أن يصرف البصر عنها ولا يدقق النظر فيقع في الفتنة.
12- الزواج، وهو من أنفع العلاج وأقواه في معالجة هذا الأمر، قال صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء» [رواه مسلم].
وللزواج ثمرات عديدة:
- منها أنه امتثال لأمر الشرع، وفي امتثاله سعادة العبد دنيا وأخرى.
- أنه أعض للبصر وأحصن للفرج، كما في الحديث آنف الذكر.
- أنه سكن واستقرار، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَة} [سورة الروم: 21]، ويترتب عل هذا السكن والاستقرار أن يؤدي المرء عبادته ويمارس نشاطه العلمي والدعوي بنفس منشرحه وهم مجتمع على ما هو فيه، فيؤدي أكثر وأفضل من غيره.
13- ومنها أن يستحضر أن لكل نعمة ينعم الله بها على العبد ما يناسبها من الشكر فشكر نعمة البصر استعماله فيما شرع وما أبيح، وحفظه عن المحرمات.. فإذا أطلقه في الحرام فقد كفر تلك النعمة ولم يقم بشكرها.
14- كثرة ذكر الله فإنه وقاية جنة من الشيطان، وفي حديث الحارث الأشعري: «وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتي على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحصن نفسه من الشيطان إلا بذكر الله» [صححه الألباني]، فأكثر من الذكر كل وقت وحافظ لى أذكار الصباح والمساء وسائر الأذكار المقيدة بزمان أو مكان، وأكثر منه في وقت مواجهة الفتنة حتى تطرد الشيطان وتحصن منه، ولأن النفس تشتغل بالذكر عن الفكر بالنظر، والذكر أيضا يذكر العبد بربه فيحول ذلك بينه وبين النظر حياء من الله وخوفا منه.
15- ومما يعين على غض البصر علم العبد أن تماديه في النظر يزهده فيما أباح الله له من الزوجات فإنه الشيطان يزين الممنوع ويزهد في المباح ويجعل صورة المنظور إليه على خلاف ما هي عليه وحسنها في عين الناظر.
16- تذكر الحور العين، ليكون ذلك حاديا إلى الصبر عن الحرام، طلبا لوصالهن، قال صلى الله عليه وسلم: «ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» [رواه البخاري].
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين، يرى مخ سوقهن من وراء العظم واللحم» [رواه البخاري]، فمن صبر نفسه عن النظر إلى ما حرم الله عوضه الله ما هو خير له مما صرف بصره عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تدع شيئا لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه» [قال الألباني إسناده صحيح].
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويوفقنا لاتباعه ويرينا الباطل باطلا ويوفقنا لاجتنابه ويهدينا صراطه المستقيم، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
-بتصرف يسير-
إعداد
عبدالله بن على الجعيثن
فإن من أعظم ما يعاني المؤمن على وجه العموم، والشاب على وجه الخصوص، وغير المتزوج على وجه أخص فتنة النظر، حيث إنه يواجه هذه الفتنة في كل مكان، في السوق، في المستشفى، في الطائرة، بل وفي الأماكن والمشاعر المقدسة!، وتتجلى هذه الفتنة أكثر فيما ينتشر في الأسواق والمحلات من الصحف والمجلات التي تحمل بين ثناياها صور النساء الفاتنات التي استخدمن لترويج تلك السلع.
وزاد أمر هذه الفتنة استفحالا بعد حلول ما يسمى بالبث المباشر، حيث تلتقط الأطباق الفضائية الصور الفاتنة وأفلام الجنس الهابطة مما زاد من تعلق القلوب الضعيفة بها وانهماك ضعفاء الإيمان في متابعتها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» [رواه البخاري ومسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا حلوة خضرة . وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؛ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» [رواه مسلم].
وبين يديك أيها الأخ المبارك بعض الأمور المعينة على التغلب على هذه الفتنة:
1- استحضار النصوص الواردة في الأمر بغض البصر والنهي عن إطلاقه في الحرام؛ فمنها قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة النور: 30]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» [رواه مسلم].
وعن جرير بن عبد الله قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال اصرف بصرك» [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى و ليست لك الآخرة» [حسنه الألباني]، والمراد بالنظرة الأولى أي التي وقعت بغير قصد.
2- الاستعانة بالله عز وجل والانطراح بين يديه والإلحاح عليه في أن يقيك شر هذه الفتنة وأن يعصمك منها، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم: «يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم»، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة: 186]، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك» [رواه الترمذي وحسنه الألباني]، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه إلى أن يدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ومن شر بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر منيي» يعني فرجه [رواه أبو داود وصححه الألباني].
3- أن تعلم أنه لا خيار لك في هذا الأمر مهما كانت الظروف والأحوال؛ فإن النظر يجب غضه عن الحرام في جميع الأمكنة والأزمنة والأحوال، فليس لك أن تحتج بفساد الواقع ولا أن تبرر خطاك بوجود ما يدعو إلى الفتنة ، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [سورة الأحزاب: 36].
4- استحضر اطلاع الله تعالى عليك وإحاطته بك لتخافه وتستحي منه، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق: 16]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [سورة غافر: 19]، وقال صلى الله عليه وسلم «أوصيك أن تستحي من الله تعالى ، كما تستحي من الرجل الصالح من قومك» [صححه الألباني]، إذًا استح من الله ولا تجعله أهون الناظرين إليك.
5- تذكر شهادة العينين عليك، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة فصلت: 20]، وفي صحيح مسلم عن أنس قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: "هل تدرون مما أضحك؟"، قال قلنا: "الله ورسوله أعلم"، قال: "من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟"، قال يقول: "بلى"، قال فيقول: "فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني"، قال فيقول: "كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا"، قال فيختم على فيه، فيقال لأركانه: "انطقي"، قال فتنطق بأعماله، قال ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال فيقول: "بعدا لكن وسحقا . فعنكن كنت أناضل"»، فتبين من هذا أن عينك التي أردت أن تمتعها بالحرام ستشهد عليك يوم القيامة فاحبسها عن الحرام.
6- تذكر الملائكة الذين يحصون عليك أعمالك؛ قال تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [سورة ق: 18]، وقال أيضا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿١٠﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿١١﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [سورة الانفطار: 10-12].
7- تذكر شهادة الأرض التي تمارس عليها المعصية. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [سورة الزلزلة: 4].
8- الإكثار من نوافل العبادات فإن الإكثار منها مع القيام بالفرائض سبب في حفظ الله لجوارح العبد كما في الحديث القدسي الذي قال تعالى فيه «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» [رواه البخاري]، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "المراد من هذا الكلام أن من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض ثم النوافل قربة إليه ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى، ومحبته، وعظمته، وخوفه، ومهابته ،وإجلاله، والأنس به، والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدا له بعين البصيرة، فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه ولا إرادة إلا ما يريده منه مولاه، فحينئذ لا ينطق إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به" أ. هـ
9- تذكر منافع وثمرات غض البصر، وقد ذكر ابن القيم في الجواب الكافي طائفة منها، وإليك بعضها ملخصا:
- أنه امتثال لأمر الله تعالى الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده.
- أنه يمنع وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه.
- أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعية عليه فإن إطلاقه يفرق القلب ويشتته.
- أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب فإنه يدخل مع النظر أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي.
- أن بين العين والقلب منقذا وطريقا يجعل أحدهما يصلح بصلاح الآخر ويفسد بفساده.
- ومنها أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه ويسهل عليه أسبابه وذلك بسبب نور القلب فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات وانكشفت له بسرعة ونفذ من بعضها إلى بعض، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم وانسد عليه باب العلم وطرقه.
- ومنها تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظرة دامت حسرته؛ فأضر شيء على القلب إرسال البصر فإنه يريد ما يشتد طلبه إليه ولا صبر له ولا وصول إليه وذلك غاية ألمه.
- ومنها: أنه يورث القلب سرورا وفرحا وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر وذلك لقهره عدوه بمخالفة نفسه وهواه، وأيضا لما كف لذاته وحبس شهوته لله -وفيها مسرة النفس الأمارة بالسوء- أعاضه الله مسرة ولذة أكمل منها.
- ومنها أنه يخلص القلب من أسر الشهوة فإن الأسير أسير شهوته فهو كما قيل: طليق برأي العين وهو أسير.
- ومنها أنهه يخلص القلب من سكر الشهوة ورقدة الغفلة؛ فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله الدار الآخرة ويوقع في سكر العشق أعظم من سكر الخمر.
- ومنها: السلامة من الوقوع في الفاحشة من زنا أو لواط، فإن النظر طريق إليها.
- ومنها السلامة من العقوبة الأخروية المترتبة على النظر المحرم؛ فإن زنا العينين النظر كما تقدم.
10- مجاهدة النفس وتعويدها على غض البصر والصبر على ذلك والبعد عن اليأس، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [سورة العنكبوت: 69]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ومن يتصبر يصبره الله» رواه البخاري وبوب عليه بقوله: باب الصبر عن محارم الله وأخرج الترمذي وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «واعلم أن النصر من الصبر»، وإذا اعتادت النفس على غض البصر سهل عليها ذلك، فإن المرء تحكمه العادة وتروضه المجاهدة.
11- اتخاذ بعض الوسائل الحسية، ومنها:
- تجنب المواطن التي تخشى فيها من فتنة النظر إذا كان لك مندوحه عنها، وإن ترتب على تجنبها فوات بعض المصالح التي لا توازي مصلحة السلامة من فتنة النظر، فمثلا إذا كان بين منزلك ومكان عملك أو دراستك موضع تخشى فيه من الفتنة فابتعد عنه واسلك طريقا آخر، وإن طال عليك حتى يسلم قلبك من الفتنة. وابتعد أيضا عن مشاهدة الأفلام والمسلسلات بدعوى التسلية وتزجية الفراغ، وكذا لا تسوغ لنفسك الاقتراب من أماكن الفتنة بحجة متابعة الأخبار والإطلاع على الواقع فإن الأخبار رأس المسمار كما ذكر ذلك أحد الشيوخ -حفظه الله-، كما أن عليك الحذر من السفر إلى بلاد الكفر أو بلاد الانحلال حتى لا تعرض نفسك للفتنة.
- البعد عن فضول النظر، وذلك بأن ينظر المرء إلى موضع طريقة ويدع عنه الالتفات يمنة أو يسرة أو خلفه فإنه إذا كان فضولي النظر لابد أن يقع بصره على ما حرم عليه، فإذ اعتاد عدم الفضول سلم من ذلك.
- ومنها أن الإنسان مثلا إذا احتاج إلى شراء مجلة معينة عليه ألا يأتي إلى المحلات التي تجمع كل ما هب ودب، وإنما يأتي المحلات التي تنتقي من هذه المطبوعات، فإن كان ولابد فإن عليه أن يطلب ما يريده من صاحب المحل ولا يباشر البحث بنفسه عن المجلة التي يريدها من بين هذه المطبوعات فيتعرض للنظر إلى صورة محرمة.
- ومنها: أن المرء بمجرد ما يتراءى له سواد امرأة أو من يخشى من الفتنة به فعليه أن يصرف البصر عنها ولا يدقق النظر فيقع في الفتنة.
12- الزواج، وهو من أنفع العلاج وأقواه في معالجة هذا الأمر، قال صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء» [رواه مسلم].
وللزواج ثمرات عديدة:
- منها أنه امتثال لأمر الشرع، وفي امتثاله سعادة العبد دنيا وأخرى.
- أنه أعض للبصر وأحصن للفرج، كما في الحديث آنف الذكر.
- أنه سكن واستقرار، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَة} [سورة الروم: 21]، ويترتب عل هذا السكن والاستقرار أن يؤدي المرء عبادته ويمارس نشاطه العلمي والدعوي بنفس منشرحه وهم مجتمع على ما هو فيه، فيؤدي أكثر وأفضل من غيره.
13- ومنها أن يستحضر أن لكل نعمة ينعم الله بها على العبد ما يناسبها من الشكر فشكر نعمة البصر استعماله فيما شرع وما أبيح، وحفظه عن المحرمات.. فإذا أطلقه في الحرام فقد كفر تلك النعمة ولم يقم بشكرها.
14- كثرة ذكر الله فإنه وقاية جنة من الشيطان، وفي حديث الحارث الأشعري: «وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتي على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحصن نفسه من الشيطان إلا بذكر الله» [صححه الألباني]، فأكثر من الذكر كل وقت وحافظ لى أذكار الصباح والمساء وسائر الأذكار المقيدة بزمان أو مكان، وأكثر منه في وقت مواجهة الفتنة حتى تطرد الشيطان وتحصن منه، ولأن النفس تشتغل بالذكر عن الفكر بالنظر، والذكر أيضا يذكر العبد بربه فيحول ذلك بينه وبين النظر حياء من الله وخوفا منه.
15- ومما يعين على غض البصر علم العبد أن تماديه في النظر يزهده فيما أباح الله له من الزوجات فإنه الشيطان يزين الممنوع ويزهد في المباح ويجعل صورة المنظور إليه على خلاف ما هي عليه وحسنها في عين الناظر.
16- تذكر الحور العين، ليكون ذلك حاديا إلى الصبر عن الحرام، طلبا لوصالهن، قال صلى الله عليه وسلم: «ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» [رواه البخاري].
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين، يرى مخ سوقهن من وراء العظم واللحم» [رواه البخاري]، فمن صبر نفسه عن النظر إلى ما حرم الله عوضه الله ما هو خير له مما صرف بصره عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تدع شيئا لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه» [قال الألباني إسناده صحيح].
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويوفقنا لاتباعه ويرينا الباطل باطلا ويوفقنا لاجتنابه ويهدينا صراطه المستقيم، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
-بتصرف يسير-
إعداد
عبدالله بن على الجعيثن