السلام عليكم رحمة الله وبركاته
قال الإمام الحافظ شمس الدّين ابن قيم الجوزية -رحمه الله-:
"الهوى ميل الطّبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل خُلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح، فالهوى مستحث له لما يريده كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه، فلا ينبغي ذمّ الهوى مطلقًا، ولا مدحه مطلقًا كما أن الغضب لا يُذمّ مطلقًا ولا يُحمد مطلقًا، ولمّا كان الغالب من مطيع هواه وشهوته وغضبه أنّه لا يقف فيه على حد المنتفع به أطلق ذمّ الهوى والشّهوة والغضب لعموم غلبة الضّرر؛ لأنه يندر من يقصد العدل في ذلك ويقف عنده كما أنه يندر في الأمزجة المزاج المعتدل من كل وجه، بل لابد من غلبة أحد الأخلاط والكيفيات عليه فحرص النّاصح على تعديل قوى الشّهوة، والغضب من كل وجه وهذا أمر يتعذر وجوده إلا في حق أفراد من العالم، فلذلك لم يذكر الله -تعالى- الهوى في كتابة إلا ذمه، وكذلك في السّنّة لم يجئ إلا مذمومًا إلا ما جاء منه مُقَيّدًا كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» [رواه النّووي في الأربعين النّوويه 1/131
وقال: حسن صحيح، وحسنه ابن حجر في في تخريج مشكاة المصابيح 1/131، وضعفه الألباني 166]. وقد قيل: "الهوى كَمِينٌ لا يُؤْمَن".
قال الشّعبي: "وسُمي هوًى؛ لأنه يهوي بصاحبه، ومُطلقه يدعو إلى اللذّة الحاضرة من غير فكرٍ في العاقبة، ويحث على نيل الشّهوات عاجلًا وإن كانت سببًا لأعظم الآلام عاجلًا وآجلًا فللدنيا عاقبة قبل عاقبة الآخرة، والهوى يُعمي صاحبه من ملاحظتها، والمروءة والدّين والعقل ينهي عن لذّةٍ تعقب ألمًا وشهوةٍ تورث ندمًا، فكل منها يقول للّنفس إذا أرادت ذلك لا تفعلي والطّاعة لمن غلب. ألا ترى أن الطّفل يؤثر ما يهوى وإن أدّاه إلى التّلف لضّعف ناهي العقل عنده، ومن لا دين له يؤثر ما يهواه وإن أدّاه إلى هلاكه في الآخرة لضعف ناهي الدّين، ومن لا مروءة له يؤثر ما يهواه وإن ثلم مروءته أو عدمها لضعف ناهي المروءة، فأين هذا من قول الشّافعي -رحمه الله تعالى-: "لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته".
ولمّا امتُحن المكلّف بالهوى من بين سائر البهائم وكان كل وقتٍ تحدث عليه حوادث جعل فيه حاكمان: حاكم العقل وحاكم الدّين؛ وأمر أن يرفع حوادث الهوى دائمًا إلى هذين الحاكمين وأن ينقاد لحكمهما، وينبغي أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب؛ ليتمرن بذلك على ترك ما تُؤذِي عواقبه. فإن قيل: فكيف يتخلص من هذا من قد وقع فيه؟ قيل: يمكنه التّخلص بعون الله وتوفيقه له بأمور:
أحدهما: عزيمة حر ٍّيغار لنفسه وعليها.
الثّاني: جرعة صبرٍ يُصبّر نفسه على مرارتها تلك السّاعة.
الثّالث: قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، والشّجاعة كلها صبر ساعة، وخير عيش أدركه العبد بصبره.
الرّابع: ملاحظته حسن موقع العاقبة والشّفاء بتلك الجرعة.
الخامس: ملاحظته الألم الزّائد على لذّة طاعة هواه.
السّادس: إبقاؤه على منزلته عند الله -تعالى- وفي قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذّة موافقة الهوى.
السّابع: إيثاره لذّة العفة وعزّتها وحلاوتها على لذّة المعصية.
الثّامن: فرحه بغلبة عدوه وردّه خاسئًا بغيظه وغمّه وهمّه حيث لم ينل منه أمنيته، والله -تعالى- يحب من عبده أن يراغم عدوه ويغيظه كما قال الله -تعالى- في كتابه العزيز: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التّوبة: 120]، وقال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النّساء: 100] أي مكانًا يراغم فيه أعداء الله، وعلامة المحبة الصّادقة مغايظة أعداء المحبوب ومراغمتهم.
التّاسع: التّفكر في أنّه لم يُخلق للهوى وإنما هُيئ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قيل.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له***فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
العاشر: ألا يختار لنفسه إن يكون الحيوان البهيم أحسن حالًا منه، فإنّ الحيوان يُميز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه؛ فيؤثر النّافع على الضّار، والإنسان أُعطي العقل لهذا المعنى فإذا لم يميز به بين ما يضره وما ينفعه أو عرف ذلك وآثر ما يضره كان حال الحيوان البهيم أحسن منه.
الحادي عشر: أن يسير بقلبه في عواقب الهوى فيتأمل كم أفاتت معصيته من فضيلة؟ وكم أوقعت في رذيلة؟ وكم أكلة منعت أكلات؟ وكم من لذّة فوتت لذّات؟ وكم من شهوةٍ كسرت جاهًا ونكست رأسًا وقبحت ذكرًا وأورثت ذمًّا، وأعقبت ذلًّا وألزمت عارًا لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء.
الثّاني عشر: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر وما فاته وما حصل له.
الثّالث عشر: أن يتصور ذلك في حق غيره حق التّصور ثم ينزل نفسه تلك المنزلة فحكم الشّيء حكم نظيره.
الرّابع عشر: أن يتفكر فيما تطالبه به نفسه من ذلك ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنّه ليس بشيء.
الخامس عشر: أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى؛ فإنّه ما أطاع أحدٌ هواه إلا وجد في نفسه ذلًّا، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكِبْرِهم فهم أذلّ النّاس بواطن قد جمعوا بين فصيلتي الكبر والذّلّ.
السّادس عشر: أن يوازن بين سلامة الدّين والعرض والمال والجاه ونيل اللذّة المطلوبة، فإنه لا يجد بينهما نسبة البتة، فليعلم أنه من أسفه النّاس ببيعه هذا بهذا.
السّابع عشر: أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه فإنّ الشّيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمةٍ وهمّةٍ وميلاً إلى هواه طمع فيه وصرعه وألجمه بلجام الهوى وساقه حيث أراد، ومتى أحسّ منه بقوةٍ عزمٍ وشرف نفسٍ وعلو همّةٍ لم يطمع فيه إلا اختلاسًا وسرقةً.
الثّامن عشر: أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئًا إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضّلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزّهد أخرج صاحبه إلى الرّياء ومخالفة السّنّة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظّلم وصدّه عن الحق، وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يُولِّى بهواه ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعةً وقربةً، فما قارن شيًئا إلا أفسده.
التّاسع عشر: أن يعلم أن الشّيطان ليس له مدخلٌ على ابن آدم إلا من باب هواه، فإنّه يطيف به من أين يدخل عليه حتى يفسد عليه قلبه وأعماله فلا يجد مدخلًا إلا من باب الهوى، فيسرى معه سريان السّمّ في الأعضاء.
العشرون: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الهوى مضادًا لما أنزله على رسوله وجعل اتباعه مقابلًا لمتابعة رسله، وقسّم الناس إلى قسمين: أتباع الوحي، وأتباع الهوى، وهذا كثير في القرآن الكريم كقوله -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، وقوله -تعالى-: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120].
الحادي والعشرون: أنّ الله -سبحانه وتعالى- شبّه أتباع الهوى بأخس الحيوانات صورة ومعنى فشبههم بالكلب تارةً كقوله -تعالى-: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176]، بالحمر تارةً كقوله -تعالى-: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50-51] وقلب صورهم إلى صورة القردة والخنازير تارةً.
الثّاني والعشرون: أن متبع الهوى ليس أهلًا أن يطاع ولا يكون إمامًا ولا متبوعًا، فإنّ الله -سبحانه وتعالى- عزله عن الإمامة ونهى عن طاعته أما عزله فإن الله -سبحانه وتعالى- قال لخليله إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. أي لا ينال عهدي بالإمامة ظالمًا، وكل من اتبع هواه فهو ظالم كما قال الله -تعالى-: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم: 29]. وأمّا النّهي عن طاعته فلقوله -تعالى-: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
الثّالث والعشرون: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل متبع الهوى بمنزلة عابد الوثن فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] في موضعين من كتابه، قال الحسن: "هو المنافق لا يهوي شيئًا إلا فعله".
الرّابع والعشرون: أن الهوى هو حظارُ جهنم المحيط بها حولها، فمن وقع فيه وقع فيها كما في الصّحيحين عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: «حفّت الجنّة بالمكاره. وحفت النّار بالشّهوات» [رواه مسلم 2822]، وفي التّرمذي في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- يرفعه: «لمّا خلق الله الجنّة والنّار أرسل جبريل إلى الجنّة، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه قال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها فإذا هي حفت بالمكاره، فرجع إليه. فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد. قال: اذهب إلى النّار! فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فإذا هي يركب بعضها بعضا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشّهوات، فقال: ارجع إليها فرجع إليها، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها» [قال التّرمذي 2560: هذا حديث حسن صحيح، وقال الألباني: حسن صحيح].
الخامس والعشرون: أنّه يُخاف على من اتبع الهوى أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر وقد ثبت عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» [رواه النّووي في الأربعين النّوويه 1/131 وقال: حسن صحيح، وحسنه ابن حجر في في تخريج مشكاة المصابيح 1/131، وضعفه الألباني 166]، وصح عنه أنّه قال: «إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى» [صححه الألباني في صحيح التّرغيب 2143].
السّادس والعشرون: أن اتباع الهوى من المهلكات. قال -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثٌ منجيات، وثلاثٌ مهلكات: فأما المنجيات: فتقوى الله في السّر والعلانية، والقول بالحق في الرّضى والسّخط، والقصد في الغنى والفقر. وأما المهلكات: فهوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه، وهي أشدهن» [أخرجه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح 5049 وقال: حسن لغيره].
السّابع والعشرون: أن مخالفة الهوى تورث العبد قوةً في بدنه وقلبه ولسانه، قال بعض السّلف: "الغالب لهواه أشدّ من الّذي يفتح المدينة وحده"، وفي الحديث الصّحيح المرفوع: «ليس الشّديد بالصّرعة، إنّما الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب» [رواه البخاري6114 ومسلم 2609]، وكلما تمرن على مخالفة هواه اكتسب قوةً إلى قوته.
الثّامن والعشرون: أنه أغزر النّاس مروءة أشدّهم مخالفة لهواه. قال معاوية: "المروءة ترك الشّهوات وعصيان الهوى فاتباع الهوى يزمن المروءة، ومخالفته تنعشها.
التّاسع والعشرون: أنّه ما من يومٍ إلا والهوى والعقل يعتلجان في صاحبه، فأيّها قوى على صاحبه طرده وتحكم وكان الحكم له، قال أبو الدرداء: "إذا أصبح الرّجل اجتمع هواه وعمله، فإن كان عمله تبعًا لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان هواه تبعًا لعمله فيومه يوم صالح".
الثّلاثون: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين، وجعل الصّواب ومخالفة الهوى قرينين كما قال بعض السلف: "إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيّها أشدّ فخالف أقربهما من هواك، فإن أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى".
الحادي والثّلاثون: إن الهوى داء ودواءه مخالفته، قال بعض العارفين: "إن شئت أخبرتك بدائك وإن شئت أخبرتك بدوائك، داؤك هواك، ودواؤك ترك هواك ومخالفته". وقال بشر الحافي -رحمه الله تعالى-: "البلاء كله في هواك، والشّفاء كله في مخالفتك إياه".
الثّاني والثّلاثون: أن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال رجلٌ للحسن البصري -رحمه الله تعالى-: يا أبا سعيد، أي الجهاد أفضل؟ قال: "جهادك هواك". وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنّه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولًا حتى يخرج إليهم.
الثّالث والثّلاثون: أن الهوى تخليط ومخالطة حِميّة، يخاف على من أفرط في التّخليط وجانب الحِميّة أن يصرعه داؤه.
الرابع والثلاثون: أن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفقه لكان كذا وكذا، وقد سدّ على نفسه طرق التّوفيق باتباعه هواه. قال الفضيل بن عياض: "من استحوذ عليه الهوى واتباع الشّهوات انقطعت عنه موارد التّوفيق".
قال بعض العلماء: "الكفر في أربعة أشياءٍ: في الغضب، والشّهوة والرّغبة، والرّهبة ثم قال رأيت منهن اثنتين: رجلًا غضب فقتل أمه، ورجل عشق فتنصر".
الخامس والثّلاثون: أن من نصر هواه فسد عليه عقله ورأيه؛ لأنه قد خان الله في عقله فأفسده عليه، وهذا شأنه -سبحانه وتعالى- في كل من خانه في أمر من الأمور فإنّه يفسده عليه.
السّادس والثّلاثون: إن من فسح لنفسه في اتباع هواه ضيق عليها في قبره ويوم معاده، ومن ضيق عليها بمخالفة الهوى وسع عليها في قبره ومعاده، وقد أشار الله -تعالى- إلى هذا في قوله -تعالى-: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12].
فلما كان في الصّبر الّذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق، جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنّة. وقال أبو سليمان الدّاراني -رحمه الله تعالى- في هذه الآية: "جزاهم بما صبروا عن الشّهوات".
السّابع والثّلاثون: أن اتباع الهوى يصرع العبد عن النّهوض يوم القيامة عن السّعي مع النّاجين كما صرع قلبه في الدّنيا عن مرافقتهم. قال محمد بن أبي الورد: "إن لله -عزّ وجلّ- يومًا لا ينجو من شره منقاد لهواه، وإن أبطأ الصّرعى نهضة يوم القيامة صريعُ شهوته، وإن العقول لما جرت في ميادين الطّلب كان أوفرها حظًّا من يطالبها بقدر ما صحبه من الصّبر. والعقل معدن والفكر مُعَول".
الثّامن والثّلاثون: أن اتباع الهوى يحل العزائم ويهونها، ومخالفته تشدّها وتقويها، والعزائم هي مركب العبد الّذي يسيره إلى الله والدّار الآخرة فمتى تعطل المركب أوشك أن ينقطع المسافر.
قيل ليحي بن معاذ: من أصح النّاس عزمًا؟ قال: "الغالب لهواه".
التّاسع والثلاثون: أن مثل راكب الهوى كمثل راكب فرسٍ حديدٍ صعبٍ جموحٍ لا لجام له فيوشك أن يصرعه فرسه في خلال جريه به أو يسير به إلى مهلك. قال بعض العارفين: أسرع المطايا إلى الجنّة الزّهد في الدّنيا، وأسرع المطايا إلى النّار حب الشّهوات وعلى متن هواه أسرع به إلى وادي الهلكات. وقال آخر: أشرف العلماء من هرب بدينه من الدّنيا، واستصعب قيادة الهوى، وقال عطاء: "من غلب هواه عقله وجزعه صبره افتضح".
الأربعون: أن التّوحيد واتباع الهوى متضادان، فإن الهوى صنمٌ ولكل عبدٍ صنمٌ في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله -سبحانه- كسر الأصنام المجسدة وترك الأصنام الّتي في القلوب، بل المراد كسرها من القلب أولًا. قال الحسن بن علي المطوعي: "صنم كل إنسان هواه فمن كسره بالمخالفة استحق اسم الفتوة". وتأمل قول الخليل -صلى الله عليه وسلم- لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]. كيف تجده مطابقًا للتماثيل الّتي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله؟ قال الله -تعالى-: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 43-44].
الحادي والأربعون: أن مخالفة الهوى طردةٌ للدّاء عن القلب والبدن، ومتابعته مجلبةٌ لداء القلب والبدن، فأمراض القلب كلها من متاتعة الهوى، ولو فتشت على أمراض البدن لرأيت غالبها من إيثار الهوى على ما ينبغي تركه.
الثّاني والأربعون: أن أصل العداوة والشّر والحسد الواقع بين النّاس من اتباع الهوى، فمن خالف هواه أراح قلبه وبدنه وجوارحه فاستراح وأراح. قال أبوبكر الوراق: "إذا غلب الهوى أظلم القلب، وإذا أظلم ضاق الصّدر، وإذا ضاق الصّدر ساء الخلق، وإذا ساء الخلق أبغضه الخَلق، فانظر ماذا يتولد من التّباغض من الشّر والعداوة وترك الحقوق وغيرها".
الثّالث والأربعون: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل في العبد هوًى وعقلًا فأيهما ظهر توارى الآخر كما قال أبو علي الثقفي: "من غلبه هواه توارى عنه عقله، فانظر عاقبة من استتر عنه عقله وظهر عليه خلافه". وقال علي بن سهل -رحمه الله-: "العقل والهوى يتنازعان، فالتّوفيق قرين العقل، والخذلان قرين الهوى، والنّفس واقفةٌ بينهما، فأيهما غلب كانت النّفس معه".
الرّابع والأربعون: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل القلب مَلِكَ الجوارح ومعدن معرفته ومحبته وعبوديته، وامتحنه بسلطانين وجيشين وعونين وعُدّتين: فالحق والزّهد والهدى سلطان، وأعوانه الملائكة، وجيشه الصّدق والإخلاص ومجانبة الهوى، والباطل سلطان، وأعوانه الشّياطين وجنده وعدته اتباع الهوى والنّفس واقفة بين الجيشين. ولا يقدم جيش الباطل على القلب إلا من ثغرتها وناحيتها فهي تخامر على القلب وتصير مع عدوه عليه فتكون الدّائرة عليه، فهي الّتي تعطي عدوها عدة من قِبَلها وتفتح له باب المدينة فيدخل ويتملك ويقع الخذلان على القلب.
الخامس والأربعون: إن أعدى عدوٍّ للمرء شيطانه وهواه، وأصدق صديق له عقله والملك النّاصح له، فإذا اتبع هواه أعطى بيده لعدوه واستأثر له وأشمته به وساء صديقه ووليه، وهذا هو بعينه هو جهد البلاء، ودرك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
السّادس والأربعون: أن لكل عبدٍ بدايةٌ ونهايةٌ، فمن كانت بدايته اتباع الهوى، كانت نهايته الذّلّ والصّغار والحرمان والبلاء، والمتبوع بحسب ما اتبع من هواه ، بل يصير له ذلك في نهايته عذابًا يُعذب به في قلبه.
فلو تأملت حال كل ذي حال سيئة زرية لرأيت بدايته الذّهاب مع هواه وإيثاره على عقله، ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز والشّرف والغنى والجاه عند الله وعند النّاس. قال أبو علي الدقاق: "من ملك شهوته في حال شبيبته أعزه الله -تعالى- في حال كهولته".
وقيل للمهلب بن أبي صفرة: بم نلت ما نلت؟ قال: "بطاعة الحزم وعصيان الهوى"، فهذا في بداية الدّنيا ونهايتها، وأما الآخرة فقد جعل الله -سبحانه- الجنّة نهاية من خالف هواه والنّار نهاية من اتبع هواه.
السّابع والأربعون: أن الهوى رقٌّ في القلب، وغلٌّ في العنق، وقيدٌ في الرّجل، ومتابعة أسير لكل سيّئ الملكة، فمن خالفه عُتِق من رقّه وصار حرًّا، وخلع الغُل من عنقه والقيد من رجله وصار بمنزلة رجلٍ سالمٍ لرجل، بعد أن كان رجلًا فيه شركاء متشاكسون.
ربّ مستورٍ سبَتْه شهوة***فتعرى ستره فانتهكا
صاحبُ الشّهوةِ عبدٌ فإذا *** غلب الشّهوة صار مَلِكا
وقال ابن المبارك:
ومن البلاء وللبلاء علامة***أن لا يُرى لك عن هواك نزوعُ
العبد عبد النّفس في شهواتها***والحر يشبع تارة ويجوع
الثّامن والأربعون: أن مخالفة الهوى تُقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبره، فيقضي له من الحوائج أضعاف أضعاف ما فاته من هواه، فهو كمن رغب عن بعرةٍ فأُعطى عِوَضَها درةً، ومتبع الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة والعيش الهنيء ما لا نسبة لما ظفر به من هواه البتة، فتأمل إنبساط يد يوسف الصّديق -عليه الصّلاة والسّلام- بعد خروجه من السّجن لما قبض نفسه عن الحرام.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: "رأيت سفيان الثّوري -رحمه الله تعالى- في المنام فقلت له ما فعل الله بك؟ قال: "لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله- تبارك وتعالى-، فحاسبني حسابًا يسيرًا ثم أمر بي إلى الجنّة فبينما أن أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حسًّا ولا حركةً إذ سمعت قائلًا يقول: سفيان بن سعيد فقلت: سفيان بن سعيد؟ فقال: "تحفظ أنك آثرت الله -عزّ وجلّ- على هواك يومًا؟ قلت: "إي والله، فأخذني النّثار من كل جانب".
التّاسع والأربعون: أن مخالفة الهوى توجب شرف الدّنيا وشرف الآخرة، وعزّ الظّاهر وعزّ الباطن، ومتابعته تضع العبد في الدّنيا والآخرة وتُذله في الظاهر وفي الباطن، وإذا جمع الله النّاس في صعيدٍ واحدٍ نادى منادٍ: "ليعلمن أهل الجمع من أهل الكرم اليوم، ألا ليقم المتقون، فيقومون إلى محل الكرامة، وأتباع الهوى ناكسو رؤوسهم في الموقف في حر الهوى وعرقه وألمه، وأولئك في ظلّ العرش.
الخمسون: أنك إذا تأملت السّبعة الّذين ُيظلهم الله -عزّ وجلّ- في ظل عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، وجدتهم إنما نالوا ذلك الظّلّ بمخالفة الهوى، فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه، والشّاب المؤثر لعبادة الله على داعي شبابه لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، والرّجل الّذي قلبه معلقٌ بالمساجد إنما حمله على ذلك، مخالفة الهوى الدّاعي له إلى أماكن اللذّات، والمتصدق المُخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك، والّذي دعته المرأة الجميلة الشّريفة فخاف الله -عزّ وجلّ- وخالف هواه، والّذي ذكر الله عز وجل خاليًا ففاضت عيناه من خشيته إنّما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة، وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحر والعرق كل مبلغ وهم ينتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى.
فالله -سبحانه وتعالى- المسؤول أن يُعيذنا من أهواء نفوسنا الأمارة بالسّوء، وأن يجعل هوانا تبعا لما يُحبه ويرضاه، إنّه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
من كلام الإمام ابن قيم الجوزية
قال الإمام الحافظ شمس الدّين ابن قيم الجوزية -رحمه الله-:
"الهوى ميل الطّبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل خُلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح، فالهوى مستحث له لما يريده كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه، فلا ينبغي ذمّ الهوى مطلقًا، ولا مدحه مطلقًا كما أن الغضب لا يُذمّ مطلقًا ولا يُحمد مطلقًا، ولمّا كان الغالب من مطيع هواه وشهوته وغضبه أنّه لا يقف فيه على حد المنتفع به أطلق ذمّ الهوى والشّهوة والغضب لعموم غلبة الضّرر؛ لأنه يندر من يقصد العدل في ذلك ويقف عنده كما أنه يندر في الأمزجة المزاج المعتدل من كل وجه، بل لابد من غلبة أحد الأخلاط والكيفيات عليه فحرص النّاصح على تعديل قوى الشّهوة، والغضب من كل وجه وهذا أمر يتعذر وجوده إلا في حق أفراد من العالم، فلذلك لم يذكر الله -تعالى- الهوى في كتابة إلا ذمه، وكذلك في السّنّة لم يجئ إلا مذمومًا إلا ما جاء منه مُقَيّدًا كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» [رواه النّووي في الأربعين النّوويه 1/131
وقال: حسن صحيح، وحسنه ابن حجر في في تخريج مشكاة المصابيح 1/131، وضعفه الألباني 166]. وقد قيل: "الهوى كَمِينٌ لا يُؤْمَن".
قال الشّعبي: "وسُمي هوًى؛ لأنه يهوي بصاحبه، ومُطلقه يدعو إلى اللذّة الحاضرة من غير فكرٍ في العاقبة، ويحث على نيل الشّهوات عاجلًا وإن كانت سببًا لأعظم الآلام عاجلًا وآجلًا فللدنيا عاقبة قبل عاقبة الآخرة، والهوى يُعمي صاحبه من ملاحظتها، والمروءة والدّين والعقل ينهي عن لذّةٍ تعقب ألمًا وشهوةٍ تورث ندمًا، فكل منها يقول للّنفس إذا أرادت ذلك لا تفعلي والطّاعة لمن غلب. ألا ترى أن الطّفل يؤثر ما يهوى وإن أدّاه إلى التّلف لضّعف ناهي العقل عنده، ومن لا دين له يؤثر ما يهواه وإن أدّاه إلى هلاكه في الآخرة لضعف ناهي الدّين، ومن لا مروءة له يؤثر ما يهواه وإن ثلم مروءته أو عدمها لضعف ناهي المروءة، فأين هذا من قول الشّافعي -رحمه الله تعالى-: "لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته".
ولمّا امتُحن المكلّف بالهوى من بين سائر البهائم وكان كل وقتٍ تحدث عليه حوادث جعل فيه حاكمان: حاكم العقل وحاكم الدّين؛ وأمر أن يرفع حوادث الهوى دائمًا إلى هذين الحاكمين وأن ينقاد لحكمهما، وينبغي أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب؛ ليتمرن بذلك على ترك ما تُؤذِي عواقبه. فإن قيل: فكيف يتخلص من هذا من قد وقع فيه؟ قيل: يمكنه التّخلص بعون الله وتوفيقه له بأمور:
أحدهما: عزيمة حر ٍّيغار لنفسه وعليها.
الثّاني: جرعة صبرٍ يُصبّر نفسه على مرارتها تلك السّاعة.
الثّالث: قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، والشّجاعة كلها صبر ساعة، وخير عيش أدركه العبد بصبره.
الرّابع: ملاحظته حسن موقع العاقبة والشّفاء بتلك الجرعة.
الخامس: ملاحظته الألم الزّائد على لذّة طاعة هواه.
السّادس: إبقاؤه على منزلته عند الله -تعالى- وفي قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذّة موافقة الهوى.
السّابع: إيثاره لذّة العفة وعزّتها وحلاوتها على لذّة المعصية.
الثّامن: فرحه بغلبة عدوه وردّه خاسئًا بغيظه وغمّه وهمّه حيث لم ينل منه أمنيته، والله -تعالى- يحب من عبده أن يراغم عدوه ويغيظه كما قال الله -تعالى- في كتابه العزيز: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التّوبة: 120]، وقال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النّساء: 100] أي مكانًا يراغم فيه أعداء الله، وعلامة المحبة الصّادقة مغايظة أعداء المحبوب ومراغمتهم.
التّاسع: التّفكر في أنّه لم يُخلق للهوى وإنما هُيئ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قيل.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له***فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
العاشر: ألا يختار لنفسه إن يكون الحيوان البهيم أحسن حالًا منه، فإنّ الحيوان يُميز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه؛ فيؤثر النّافع على الضّار، والإنسان أُعطي العقل لهذا المعنى فإذا لم يميز به بين ما يضره وما ينفعه أو عرف ذلك وآثر ما يضره كان حال الحيوان البهيم أحسن منه.
الحادي عشر: أن يسير بقلبه في عواقب الهوى فيتأمل كم أفاتت معصيته من فضيلة؟ وكم أوقعت في رذيلة؟ وكم أكلة منعت أكلات؟ وكم من لذّة فوتت لذّات؟ وكم من شهوةٍ كسرت جاهًا ونكست رأسًا وقبحت ذكرًا وأورثت ذمًّا، وأعقبت ذلًّا وألزمت عارًا لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء.
الثّاني عشر: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر وما فاته وما حصل له.
الثّالث عشر: أن يتصور ذلك في حق غيره حق التّصور ثم ينزل نفسه تلك المنزلة فحكم الشّيء حكم نظيره.
الرّابع عشر: أن يتفكر فيما تطالبه به نفسه من ذلك ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنّه ليس بشيء.
الخامس عشر: أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى؛ فإنّه ما أطاع أحدٌ هواه إلا وجد في نفسه ذلًّا، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكِبْرِهم فهم أذلّ النّاس بواطن قد جمعوا بين فصيلتي الكبر والذّلّ.
السّادس عشر: أن يوازن بين سلامة الدّين والعرض والمال والجاه ونيل اللذّة المطلوبة، فإنه لا يجد بينهما نسبة البتة، فليعلم أنه من أسفه النّاس ببيعه هذا بهذا.
السّابع عشر: أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه فإنّ الشّيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمةٍ وهمّةٍ وميلاً إلى هواه طمع فيه وصرعه وألجمه بلجام الهوى وساقه حيث أراد، ومتى أحسّ منه بقوةٍ عزمٍ وشرف نفسٍ وعلو همّةٍ لم يطمع فيه إلا اختلاسًا وسرقةً.
الثّامن عشر: أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئًا إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضّلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزّهد أخرج صاحبه إلى الرّياء ومخالفة السّنّة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظّلم وصدّه عن الحق، وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يُولِّى بهواه ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعةً وقربةً، فما قارن شيًئا إلا أفسده.
التّاسع عشر: أن يعلم أن الشّيطان ليس له مدخلٌ على ابن آدم إلا من باب هواه، فإنّه يطيف به من أين يدخل عليه حتى يفسد عليه قلبه وأعماله فلا يجد مدخلًا إلا من باب الهوى، فيسرى معه سريان السّمّ في الأعضاء.
العشرون: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الهوى مضادًا لما أنزله على رسوله وجعل اتباعه مقابلًا لمتابعة رسله، وقسّم الناس إلى قسمين: أتباع الوحي، وأتباع الهوى، وهذا كثير في القرآن الكريم كقوله -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، وقوله -تعالى-: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120].
الحادي والعشرون: أنّ الله -سبحانه وتعالى- شبّه أتباع الهوى بأخس الحيوانات صورة ومعنى فشبههم بالكلب تارةً كقوله -تعالى-: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176]، بالحمر تارةً كقوله -تعالى-: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50-51] وقلب صورهم إلى صورة القردة والخنازير تارةً.
الثّاني والعشرون: أن متبع الهوى ليس أهلًا أن يطاع ولا يكون إمامًا ولا متبوعًا، فإنّ الله -سبحانه وتعالى- عزله عن الإمامة ونهى عن طاعته أما عزله فإن الله -سبحانه وتعالى- قال لخليله إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]. أي لا ينال عهدي بالإمامة ظالمًا، وكل من اتبع هواه فهو ظالم كما قال الله -تعالى-: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم: 29]. وأمّا النّهي عن طاعته فلقوله -تعالى-: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
الثّالث والعشرون: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل متبع الهوى بمنزلة عابد الوثن فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] في موضعين من كتابه، قال الحسن: "هو المنافق لا يهوي شيئًا إلا فعله".
الرّابع والعشرون: أن الهوى هو حظارُ جهنم المحيط بها حولها، فمن وقع فيه وقع فيها كما في الصّحيحين عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: «حفّت الجنّة بالمكاره. وحفت النّار بالشّهوات» [رواه مسلم 2822]، وفي التّرمذي في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- يرفعه: «لمّا خلق الله الجنّة والنّار أرسل جبريل إلى الجنّة، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه قال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها فإذا هي حفت بالمكاره، فرجع إليه. فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد. قال: اذهب إلى النّار! فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فإذا هي يركب بعضها بعضا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشّهوات، فقال: ارجع إليها فرجع إليها، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها» [قال التّرمذي 2560: هذا حديث حسن صحيح، وقال الألباني: حسن صحيح].
الخامس والعشرون: أنّه يُخاف على من اتبع الهوى أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر وقد ثبت عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» [رواه النّووي في الأربعين النّوويه 1/131 وقال: حسن صحيح، وحسنه ابن حجر في في تخريج مشكاة المصابيح 1/131، وضعفه الألباني 166]، وصح عنه أنّه قال: «إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى» [صححه الألباني في صحيح التّرغيب 2143].
السّادس والعشرون: أن اتباع الهوى من المهلكات. قال -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثٌ منجيات، وثلاثٌ مهلكات: فأما المنجيات: فتقوى الله في السّر والعلانية، والقول بالحق في الرّضى والسّخط، والقصد في الغنى والفقر. وأما المهلكات: فهوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه، وهي أشدهن» [أخرجه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح 5049 وقال: حسن لغيره].
السّابع والعشرون: أن مخالفة الهوى تورث العبد قوةً في بدنه وقلبه ولسانه، قال بعض السّلف: "الغالب لهواه أشدّ من الّذي يفتح المدينة وحده"، وفي الحديث الصّحيح المرفوع: «ليس الشّديد بالصّرعة، إنّما الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب» [رواه البخاري6114 ومسلم 2609]، وكلما تمرن على مخالفة هواه اكتسب قوةً إلى قوته.
الثّامن والعشرون: أنه أغزر النّاس مروءة أشدّهم مخالفة لهواه. قال معاوية: "المروءة ترك الشّهوات وعصيان الهوى فاتباع الهوى يزمن المروءة، ومخالفته تنعشها.
التّاسع والعشرون: أنّه ما من يومٍ إلا والهوى والعقل يعتلجان في صاحبه، فأيّها قوى على صاحبه طرده وتحكم وكان الحكم له، قال أبو الدرداء: "إذا أصبح الرّجل اجتمع هواه وعمله، فإن كان عمله تبعًا لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان هواه تبعًا لعمله فيومه يوم صالح".
الثّلاثون: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين، وجعل الصّواب ومخالفة الهوى قرينين كما قال بعض السلف: "إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيّها أشدّ فخالف أقربهما من هواك، فإن أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى".
الحادي والثّلاثون: إن الهوى داء ودواءه مخالفته، قال بعض العارفين: "إن شئت أخبرتك بدائك وإن شئت أخبرتك بدوائك، داؤك هواك، ودواؤك ترك هواك ومخالفته". وقال بشر الحافي -رحمه الله تعالى-: "البلاء كله في هواك، والشّفاء كله في مخالفتك إياه".
الثّاني والثّلاثون: أن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال رجلٌ للحسن البصري -رحمه الله تعالى-: يا أبا سعيد، أي الجهاد أفضل؟ قال: "جهادك هواك". وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنّه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولًا حتى يخرج إليهم.
الثّالث والثّلاثون: أن الهوى تخليط ومخالطة حِميّة، يخاف على من أفرط في التّخليط وجانب الحِميّة أن يصرعه داؤه.
الرابع والثلاثون: أن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفقه لكان كذا وكذا، وقد سدّ على نفسه طرق التّوفيق باتباعه هواه. قال الفضيل بن عياض: "من استحوذ عليه الهوى واتباع الشّهوات انقطعت عنه موارد التّوفيق".
قال بعض العلماء: "الكفر في أربعة أشياءٍ: في الغضب، والشّهوة والرّغبة، والرّهبة ثم قال رأيت منهن اثنتين: رجلًا غضب فقتل أمه، ورجل عشق فتنصر".
الخامس والثّلاثون: أن من نصر هواه فسد عليه عقله ورأيه؛ لأنه قد خان الله في عقله فأفسده عليه، وهذا شأنه -سبحانه وتعالى- في كل من خانه في أمر من الأمور فإنّه يفسده عليه.
السّادس والثّلاثون: إن من فسح لنفسه في اتباع هواه ضيق عليها في قبره ويوم معاده، ومن ضيق عليها بمخالفة الهوى وسع عليها في قبره ومعاده، وقد أشار الله -تعالى- إلى هذا في قوله -تعالى-: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12].
فلما كان في الصّبر الّذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق، جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنّة. وقال أبو سليمان الدّاراني -رحمه الله تعالى- في هذه الآية: "جزاهم بما صبروا عن الشّهوات".
السّابع والثّلاثون: أن اتباع الهوى يصرع العبد عن النّهوض يوم القيامة عن السّعي مع النّاجين كما صرع قلبه في الدّنيا عن مرافقتهم. قال محمد بن أبي الورد: "إن لله -عزّ وجلّ- يومًا لا ينجو من شره منقاد لهواه، وإن أبطأ الصّرعى نهضة يوم القيامة صريعُ شهوته، وإن العقول لما جرت في ميادين الطّلب كان أوفرها حظًّا من يطالبها بقدر ما صحبه من الصّبر. والعقل معدن والفكر مُعَول".
الثّامن والثّلاثون: أن اتباع الهوى يحل العزائم ويهونها، ومخالفته تشدّها وتقويها، والعزائم هي مركب العبد الّذي يسيره إلى الله والدّار الآخرة فمتى تعطل المركب أوشك أن ينقطع المسافر.
قيل ليحي بن معاذ: من أصح النّاس عزمًا؟ قال: "الغالب لهواه".
التّاسع والثلاثون: أن مثل راكب الهوى كمثل راكب فرسٍ حديدٍ صعبٍ جموحٍ لا لجام له فيوشك أن يصرعه فرسه في خلال جريه به أو يسير به إلى مهلك. قال بعض العارفين: أسرع المطايا إلى الجنّة الزّهد في الدّنيا، وأسرع المطايا إلى النّار حب الشّهوات وعلى متن هواه أسرع به إلى وادي الهلكات. وقال آخر: أشرف العلماء من هرب بدينه من الدّنيا، واستصعب قيادة الهوى، وقال عطاء: "من غلب هواه عقله وجزعه صبره افتضح".
الأربعون: أن التّوحيد واتباع الهوى متضادان، فإن الهوى صنمٌ ولكل عبدٍ صنمٌ في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله -سبحانه- كسر الأصنام المجسدة وترك الأصنام الّتي في القلوب، بل المراد كسرها من القلب أولًا. قال الحسن بن علي المطوعي: "صنم كل إنسان هواه فمن كسره بالمخالفة استحق اسم الفتوة". وتأمل قول الخليل -صلى الله عليه وسلم- لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]. كيف تجده مطابقًا للتماثيل الّتي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله؟ قال الله -تعالى-: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 43-44].
الحادي والأربعون: أن مخالفة الهوى طردةٌ للدّاء عن القلب والبدن، ومتابعته مجلبةٌ لداء القلب والبدن، فأمراض القلب كلها من متاتعة الهوى، ولو فتشت على أمراض البدن لرأيت غالبها من إيثار الهوى على ما ينبغي تركه.
الثّاني والأربعون: أن أصل العداوة والشّر والحسد الواقع بين النّاس من اتباع الهوى، فمن خالف هواه أراح قلبه وبدنه وجوارحه فاستراح وأراح. قال أبوبكر الوراق: "إذا غلب الهوى أظلم القلب، وإذا أظلم ضاق الصّدر، وإذا ضاق الصّدر ساء الخلق، وإذا ساء الخلق أبغضه الخَلق، فانظر ماذا يتولد من التّباغض من الشّر والعداوة وترك الحقوق وغيرها".
الثّالث والأربعون: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل في العبد هوًى وعقلًا فأيهما ظهر توارى الآخر كما قال أبو علي الثقفي: "من غلبه هواه توارى عنه عقله، فانظر عاقبة من استتر عنه عقله وظهر عليه خلافه". وقال علي بن سهل -رحمه الله-: "العقل والهوى يتنازعان، فالتّوفيق قرين العقل، والخذلان قرين الهوى، والنّفس واقفةٌ بينهما، فأيهما غلب كانت النّفس معه".
الرّابع والأربعون: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل القلب مَلِكَ الجوارح ومعدن معرفته ومحبته وعبوديته، وامتحنه بسلطانين وجيشين وعونين وعُدّتين: فالحق والزّهد والهدى سلطان، وأعوانه الملائكة، وجيشه الصّدق والإخلاص ومجانبة الهوى، والباطل سلطان، وأعوانه الشّياطين وجنده وعدته اتباع الهوى والنّفس واقفة بين الجيشين. ولا يقدم جيش الباطل على القلب إلا من ثغرتها وناحيتها فهي تخامر على القلب وتصير مع عدوه عليه فتكون الدّائرة عليه، فهي الّتي تعطي عدوها عدة من قِبَلها وتفتح له باب المدينة فيدخل ويتملك ويقع الخذلان على القلب.
الخامس والأربعون: إن أعدى عدوٍّ للمرء شيطانه وهواه، وأصدق صديق له عقله والملك النّاصح له، فإذا اتبع هواه أعطى بيده لعدوه واستأثر له وأشمته به وساء صديقه ووليه، وهذا هو بعينه هو جهد البلاء، ودرك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
السّادس والأربعون: أن لكل عبدٍ بدايةٌ ونهايةٌ، فمن كانت بدايته اتباع الهوى، كانت نهايته الذّلّ والصّغار والحرمان والبلاء، والمتبوع بحسب ما اتبع من هواه ، بل يصير له ذلك في نهايته عذابًا يُعذب به في قلبه.
فلو تأملت حال كل ذي حال سيئة زرية لرأيت بدايته الذّهاب مع هواه وإيثاره على عقله، ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز والشّرف والغنى والجاه عند الله وعند النّاس. قال أبو علي الدقاق: "من ملك شهوته في حال شبيبته أعزه الله -تعالى- في حال كهولته".
وقيل للمهلب بن أبي صفرة: بم نلت ما نلت؟ قال: "بطاعة الحزم وعصيان الهوى"، فهذا في بداية الدّنيا ونهايتها، وأما الآخرة فقد جعل الله -سبحانه- الجنّة نهاية من خالف هواه والنّار نهاية من اتبع هواه.
السّابع والأربعون: أن الهوى رقٌّ في القلب، وغلٌّ في العنق، وقيدٌ في الرّجل، ومتابعة أسير لكل سيّئ الملكة، فمن خالفه عُتِق من رقّه وصار حرًّا، وخلع الغُل من عنقه والقيد من رجله وصار بمنزلة رجلٍ سالمٍ لرجل، بعد أن كان رجلًا فيه شركاء متشاكسون.
ربّ مستورٍ سبَتْه شهوة***فتعرى ستره فانتهكا
صاحبُ الشّهوةِ عبدٌ فإذا *** غلب الشّهوة صار مَلِكا
وقال ابن المبارك:
ومن البلاء وللبلاء علامة***أن لا يُرى لك عن هواك نزوعُ
العبد عبد النّفس في شهواتها***والحر يشبع تارة ويجوع
الثّامن والأربعون: أن مخالفة الهوى تُقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبره، فيقضي له من الحوائج أضعاف أضعاف ما فاته من هواه، فهو كمن رغب عن بعرةٍ فأُعطى عِوَضَها درةً، ومتبع الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة والعيش الهنيء ما لا نسبة لما ظفر به من هواه البتة، فتأمل إنبساط يد يوسف الصّديق -عليه الصّلاة والسّلام- بعد خروجه من السّجن لما قبض نفسه عن الحرام.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: "رأيت سفيان الثّوري -رحمه الله تعالى- في المنام فقلت له ما فعل الله بك؟ قال: "لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله- تبارك وتعالى-، فحاسبني حسابًا يسيرًا ثم أمر بي إلى الجنّة فبينما أن أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حسًّا ولا حركةً إذ سمعت قائلًا يقول: سفيان بن سعيد فقلت: سفيان بن سعيد؟ فقال: "تحفظ أنك آثرت الله -عزّ وجلّ- على هواك يومًا؟ قلت: "إي والله، فأخذني النّثار من كل جانب".
التّاسع والأربعون: أن مخالفة الهوى توجب شرف الدّنيا وشرف الآخرة، وعزّ الظّاهر وعزّ الباطن، ومتابعته تضع العبد في الدّنيا والآخرة وتُذله في الظاهر وفي الباطن، وإذا جمع الله النّاس في صعيدٍ واحدٍ نادى منادٍ: "ليعلمن أهل الجمع من أهل الكرم اليوم، ألا ليقم المتقون، فيقومون إلى محل الكرامة، وأتباع الهوى ناكسو رؤوسهم في الموقف في حر الهوى وعرقه وألمه، وأولئك في ظلّ العرش.
الخمسون: أنك إذا تأملت السّبعة الّذين ُيظلهم الله -عزّ وجلّ- في ظل عرشه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، وجدتهم إنما نالوا ذلك الظّلّ بمخالفة الهوى، فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه، والشّاب المؤثر لعبادة الله على داعي شبابه لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، والرّجل الّذي قلبه معلقٌ بالمساجد إنما حمله على ذلك، مخالفة الهوى الدّاعي له إلى أماكن اللذّات، والمتصدق المُخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه لم يقدر على ذلك، والّذي دعته المرأة الجميلة الشّريفة فخاف الله -عزّ وجلّ- وخالف هواه، والّذي ذكر الله عز وجل خاليًا ففاضت عيناه من خشيته إنّما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيل عليهم يوم القيامة، وأصحاب الهوى قد بلغ منهم الحر والعرق كل مبلغ وهم ينتظرون بعد هذا دخول سجن الهوى.
فالله -سبحانه وتعالى- المسؤول أن يُعيذنا من أهواء نفوسنا الأمارة بالسّوء، وأن يجعل هوانا تبعا لما يُحبه ويرضاه، إنّه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
من كلام الإمام ابن قيم الجوزية
تعليق