الحمد لله رب العالمين
الجوع الشافي
فوائد الصوم العلاجية :
ومن أعظم آثار الصوم شأنا وأنصعها برهانا وأعلاها خطرا :
1. الحرية :
أفضل ما في الصوم أنه يحرِّر الإنسان من سلطان غرائزه وقيود شهواته ، ويتيح له أن ينطلق من سجن جسده ، ويتحكم في مظاهر حيوانيته ، ويلتحق بالملائكة في السمو إلى المستوى الإيماني الرفيع ، وصون حواسه عن الشرور والآثام ، إنه كسر القيد الثقيل وتنسم نسائم الحرية ، وهل الحرية إلا حرية القلب؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فإنَّ أسْرَ القلب أعظم من أسر البدن ، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن ؛ فإن من استُعْبِد بدنُه واستُرِقَّ وأُسِر لا يبالي إذا كان قلبُه مستريحا من ذلك مطمئنا ، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص ؛ وأما إذا كان القلب - الذي هو مَلِك الجسم - رقيقاً مستعبداً متيَّماً لغير الله ؛ فهذا هو الذلُّ ، والأسرُ المَحْض ، والعبودية الذليلة لما استعْبد القلب ، ولو كان في الظاهر ملكَ الناس ؛ فالحريةُ حرية القلب ، والعبودية عبودية القلب " .
فلينزل هذا الدواء على قلبك نزول الماء من الظمآن كما أوصاك بذلك رسول الله :
« ألا أُخبِركم بما يذهب وَحَر الصدر؟ صوم ثلاثة أيام من كل شهر » .
ووَحر الصدر : غِشُّه ووساوِسُه ، وقيل : الحِقْد والغَيْظ والعَداوَة ، وقيل : أشدُّ الغَضَب ، وهي كلها أمراض قلوب يقضي عليها الصوم كما أخبر بذلك الحبيب .
ويُقال إِن أَصل هذه الكلمة من الدُّوَيْبَّة التي يقال لها الوَحَرَة ، فشبَّه النبي العداوة والغلَّ ولصوقها بالصدر بالتصاق الوَحَرَةِ بالأَرض ، ومع هذا يقضي الصوم على كل هذا ، وذلك في ثلاثة أيام فقط إذا حافظت عليها.
وأشار إلى فاعلية هذا الدواء مقارنة بغيره من الأدوية في قوله لأبي أمامة : « عليك بالصوم ، فإنه لا مِثْل له » وفي رواية : « لا عدل له ». *إنه قطع الطريق على الشيطان ومباغتته وإتيانه من حيث لا يحتسب.
أما عن سِرِّ فاعلية الدواء وسبب قوته فقد أوجزها أبو قدامة في سطرين اثنين فحسب حين قال :
" أنه قهر لعدو الله ، لأن وسيلة العدو الشهوات ، وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب ، وما دامت أرض الشهوات مخصبة ، فالشياطين يتردَّدون إلى ذلك المرعى ، وبترك الشهوات تضيق عليهم المسالك " .
وهذا ما شاهده أحمد بن أبي الحوارى أمام عينيه حين قال : خرجت مع أبي سليمان الداراني ، فمررنا على زرع ، وإذا طائران يلقتطان الحب ، فلما شبعا أراد الذكر الأنثى ، فقال : " يا أحمد .. انظر فيما كان ؛ لما شبعا دعته بطنه إلى ما ترى " .
ولأن الروح سماوية علوية ، والجسد أرضى سفلي ، وكانت منافذ الروح تُغلق بالشبع وملء البطون ، وتُفتح بالصوم ومكابدة الجوع ، ذلك أن الصوم يُضعف سيطرة البدن على الروح ، فتتحرر تلك النفحة العلوية في الإنسان من براثن الجسد والشهوات المقيِّدة ، وتنتصر على ما كان يغلبها في الماضي ، ولسان حال القلب :
وانكسر القيد يا روحي وحانت ساعة النصر
2. التدريب التربوي :
ومن آثار الصوم كذلك التغلب على نزعات الشهوة ، واتخاذ الكف عن الطعام والشراب وسيلة تدريبية إلى كفِّ اللسان عن السب والشتم والصخب ، وإلى كفِّ اليد عن الأذى والبطش ، وإلى كفِّ البصر عن النظرة الخائنة ، وإلى كفِّ السمع عن الإصغاء للغيبة والنميمة وأي قول يُرضي الشيطان ويغضب الرحمن ، ولهذا قيل : إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء ، وإذا شبعت جاعت كلُّها.
إن من أهم فوائد الصوم كذلك تيقن المريض بإمكانية الشفاء وعدم استحالته ، والاطمئنان إلى وجود القدرة النافذة والإرادة المُنجِزة طوال ساعات الصوم ، مما يجعل الاستمرار على الاهتداء أسهل والمداومة ممكنة إذا وُجِدت النية.
يقول ابن القيِّم مبيِّنا الحقيقة السابقة :
" وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة ، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها ، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحَّتها ؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات " .
ولهذا جاء رمضان جرعة إجبارية سنوية يتناولها كل مسلم ، لينال الجميع من هذه الجرعة الحد الأدنى والفائدة الأساسية المرتجاة فضلا من الله ونعمة.
3. صناعة النفس الذلول :
كما تجمح الدابة أحيانا فتهوي بصاحبها ، كذا تجمح النفس أحيانا كثيرة فتهوي بصاحبها إلى مهاوي سحيقة من غضب الله وسخطه ، وتفور كما تفور القِدر إذا استجمعت غليانا ، لذا ألزمنا الله سبحانه بالصوم حتى إذا جاع العاتي منا وظمئ ذلَّت نفسه ، وتصدَّع كبره وفخره ، وأحس أنه - مهما أوتي - فهو مسكين تُقعده اللقمة إذا فُقدت ، وتُضعفه جرعة الماء إذا مُنعت ، وهنالك ينزل من عليائه ويخفِّف من غلوائه ، ويعترف بفضل الله عليه حتى في كسرة الخبز ورشفة الماء ، ومتى عرف فضل الله تواضع ، ومتى تواضع استقام ، ومتى استقام شُفي مما عاناه من بغي وعتو واستطالة وعلو.
إنها القوة المكتسبة من الصوم ولو كنت في أدنى درجات القوة ، وقهر الضعف ولو كنت غارقا في لجة الضعف ، واسمع خبر إبراهيم بن هانىء أبي إسحاق النيسابوري واستنشق عبيره واملأ به صدرك :
نقل عن إمامنا مسائل كثيرة وكان ورعًا صالحا صبورا على الفقر قال ابنه إسحاق : كان أحمد بن حنبل مختفيا ها هنا عندنا في الدار فقال لي : ليس أطيق ما يطيق أبوك يعني من العبادة!!
وداوم على هذا الدواء حتى لانت له واستسلمت على الدوام حتى وهو في أضعف حالاته وهو يحتضر ، فقد زاره ملك الموت وهو صائم ، فدعا إبنه إسحاق حين حضرته الوفاة فقال : هل غربت الشمس؟! قال : لا ، ثم قال : يا أبت! رُخِّص لك في الإفطار في الفرض وأنت متطوع. قال : أمهل ، ثم قال : " لمثل هذا فيعمل العاملون " ، ثم خرجت نفسه .
4. قتل بذور الشر :
قال ابن القيم : " وأما فضول الطعام : فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر ؛ فإنه يحرك الجوارحَ إلى المعاصي ، ويثقلُها عن الطاعات ، وحسبك بهذين شرا ، فكم من معصية جَلَبها الشبعُ ، وفضول الطعام ، وكم من طاعة حال دونها ؛ فمن وُقِي شرَّ بطنه ؛ فقد وُقِي شراً عظيما ، والشيطان أعظم ما يتحكَّم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام " .
إلى أن قال رحمه الله : " ولو لم يكن من الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز جل ، وإذا غفل القلب عن الذكر ساعةً واحدةً جَثَم عليه الشيطانُ ، ووعده ، ومنَّاه ، وشهَّاه وهام به في كل وادٍ ؛ فإن النفس إذا شبعت تحرَّكت ، وجالت وطافت على أبواب الشهوات ، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت " .
لقد أثبت العلماء في أحدث أبحاثهم أن الصوم له دور فعال في كبح الرغبة الجنسية ، وقد ثبت هبوط مستوى هرمون الذكورة هبوطا كبيرا أثناء الصوم الدائم ، بل وبعد إعادة التغذية بثلاثة أيام ، ثم ارتفع المعدل عاليا بعد ذلك ، مما يؤكِّد إعجاز السنة النبوية والتشريع الإلهي في عصر العلم.
إنها الحماية الأكيدة والدفاع المتين والوقاية من كيد الشيطان ، والتي بدورها تؤدي إلى الوقاية من النيران.
قال : « الصيام جُنَّة ، وهو حصن من حصون المؤمن » .
أخي .. كيف تجمع مع النوم الشبع؟! إن لم يكن قيام فصيام ، في متناول يديك شفيعان ؛ إن فاتك الأول فعليك بالثاني ، وإلا لم تجد من يقف بجوارك يوم لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه.
5. دواء الدنيا والآخرة :
قال مالك بن دينار لحوشب : لا تبيتن وأنت شبعان ، ودع الطعام وأنت تشتهيه ، فقال حوشب : هذا وصف أطباء أهل الدنيا. قال : ومحمد بن واسع يستمع كلامهما ، فقال محمد : نعم ، ووصف أطباء طريق الآخرة ، فقال مالك : " بخ بخ للدين والدنيا " .
وقد كان أسلافنا الكبار ينهون عن كثرة الأكل ؛ ويقولون : المعدة بيت الداء ، وقد قال لقمان لابنه : يا بني! إذا امتلأت المعدة ، نامت الفكرة ، وخرست الحكمة ، وقعدت الأعضاء عن العبادة ، حتى حاتم الطائي قال وهو في الجاهلية :
فإنَّك إن أعطيتَ بطنك سؤله وفرجَك نالا منتهى الذمِّ أجمعا
وقد غدت السمنة داء العصر ، وهي تنتج إما عن إسراف في تناول الطعام ، أو الضغوط النفسية أو الاجتماعية مما يؤدي إلى الإصابة بالسمنة ، والصوم يقضي على العاملين معا ويولد الاستقرار البدني والنفسي ؛ نتيجة الجو الإيماني المحيط بالصائم والذكر والعبادة ، وتهذيب النوازع والرغبات ، وتوجيه الطاقة النفسية توجيها إيجابيا نافعا.