قيد الحرية .. وحرية القيد
د. صفية الودغيري | 21/7/1434 هـ
عندما يتأمَّل الإنسان في هذا الكون الرَّحْب المُتَرامي الأطراف، سيجد أنَّ لكلِّ المخلوقات جسدا وروحا، مناسِِبين لخصائصِ خِلَْقتِها، وطبائعِِها، وصفاتِِها .
ولو نَظَرَ هذا الإنسان إلى الحيوانات التي تَدِِبُّ على الأرض، والطُّيور المُحَلِّقة بالسَّماء، والأسماكِ السَّابِِحَة، والنَّبات، والأشجار، وحبَّاتِ التُّراب، وذَرَّاتِ الرِّمال، وقَطراتِِ الماء، ونَسَماتِِ الهواء، سيكتشف أسرارَ الأرواح التي تسكن أجسامََها، والصِّفات التي تَسْرِى في أجزائِها، كيف تَعْتَرِيها الحياة والموت، ويصِيبُها الذُّبول، والكُسوف، والتَّلََوُّث، والرُّكود، والمَدُّ والجََزْر، إنَّها أسرارُ السَّمواتِ والأرض، وأسرارُ حياةٍ إيمانِيَّةٍ كاملة ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) .
ولو نَظَر هذا الإنسان إلى نفسِه وتدبَّر كنظرتِِه في الآفاق، سيكتشف أسرارًا جديدة ودلائل أخرى على الإيمان (سنُرِيهِم آياتِنا في الآفاق وفي أَنْفُسِهِم حتَّى يتَبَيَّنَ لهُم أَنَّهُ الحَق أو لم يَكْفِ برَيِّكَ أنَّه على كلِّ شيءٍ شَهِيد) .
لقد ظلَّ هذا الإنسانَ معجِزَةَ المخلوقات، ومُسْتَوْدَعًا لقِوًى وأسرار موطِنِهُا العقل، والرُّوح، والوِجْدان، تلك الطَّاقَة المُحَرِّكَة للجسد، المُوَحِّهَة لدَبْدَباتِ حَركاتِه وانْفِعالاتِه، نحو مُنْعَطفِ الرُّوح للسُمُوِّ بصفِائِها قبل أن يُمَثِّلَها مُنْعَطَفُ الجسد بالحواس .
وإنَّ ما نراه اليوم لا يتعَدَّى أن يكونَ تعبيراتٍ مادِّيَّة عن هذه المعاني، لا تَرْقَى مَرْقى التَّعبير عن أسرارِ نواميس الكون والخَلق، أو إدراكِ حقيقَةِ المعرفة الكاشِفَة لكَوامِنِ النَّفس وأَسْرارِ الذَّات، لارْتِباطِ الإنسانِ بالجسد بمَعْزِلٍ عن الرُّوح، ولإغْراقِه في الإقبال على مباهِجِ الفِتَن وصَبَواتِها، لا يُبْصِر من خلالها إلا حُجُبًا كِثافًا كقِطَع اللَّيل المظلم، وأَخْيِلَةَ الصُّوَر، والأشكال، والهَيْآت، وظِلالِ الألوان، لا توقِظُ في نفسه إلا الرُّكود وهو يتدَفُّق كقطراتِ الدَّم بمَجْرى عروقِه، يفصِلُ إِحْساسَه عن الانْجِذابِ الذي تُصْدِرُه نَسَماتُ الهواء، وعن الانْفِعالِ الذي تُصْدِرُه هَزَّاتُ الرُّوح، وتَغاريدُ دَقَّاتِها وعَصْفِها، لا يشعرُ منها إلا بالسُّكونِ والجُمودِ وقد الْتَبَسَ بجسده كالوَباءِ فأَوْهَنَه، وسُكونِ الحَركاتِ سُكونَ أرواحِها، وسكونِ الحَنايا دونَما صَخَب، وسكونِ القَلبِ الأَجْوَف، حين لا تصْدَحُ نبضاتُه صوتًا، أو سمعًا، أو إبِْصارًا، أو لَمْسًا، إلا ما وافَقَ منها حركاتِ الجسد وسكونِها آليًّا، لا ما وافقَ مَجْرَى حَركاتِ ذَرَّاتِ الحياة، حين تَدِبُّ أوّلَ ما تَدِبُّ في أوصالنا على فطرتِها ..
إن َّ ما يحدثُ اليوم أشْبَهَ بالجاهِليَّة القديمة، ولكنَّها جاهِليَّةُ العَصر الحديث، وجاهليَّةٌ تَجْمَعُ مِنْ سَكَراتِ الأَرْواحِ للعُشَّاق من الشَّهواتِ والمَلذَّات، لها عِبادَِةٌ كعبادَةِ الأوثانِ والأصنام ولكنَّها بأسماء جديدة، وأنواع وأشكال توافِقُ المَدنِيَّة الحَديثَة، ، والمَلْجَأَ الخَرابَ لبَثِّ أوهامِ المذاهب المادِّية ووُعودِها المُزَيَّفة، وموطِنَ نشرِ شِعاراتِها الكاذِبَة مِنْ إشاعَةٍ للحُرِّيَّة، وللعَدالة، وللمُساواة، إلى ديمُقْراطِيَّة الرَّأي والتَّعبير، ونشر السِّلم والأَمن ..
وقد حمانا الدِّين الإسلامي من هذه الجاهليَّة، ومن هذا العبَث القائِم على نشرِ فلسفة الغريزة، وفلسفَة الشَّهوات الحُرَّة، وما يسمُّونه اليوم "بالأدب المكشوف"، كما يصوِّرها عشَّاق المدنيَّة الغربية الحديثة والمنظِّرين لها .
ولو تتَبَّعنا آيات القرآن الكريم سنجد فيها ما يخالِف ذلك، وما يُؤَكِّد على ضرورَة سَتْرِ العَوْرات، والتَّحذير من فِتَنِ الجسد وشَهَواتِه، وتحقيق التَّوازن بين سَتْرِ الإنسان لسَوءتِه باللِّباس والاعْْتِدال في زينَتِه، وبين سَتْرِ عُيوبِ نَفْسِه وعَوْراتِها بلباسِ التَّقوى، وأنَّ التَّكَشُّف والتَّعَرِّي والتَّجَرُّد عن لباسِ الرُّوح ولباسِ الجسد هو سببُ انْحِطاط النُّفوس، وفسادِ فِطْرَتِها وانْحِرافِِِ ذَوقِها، وسبَبٌ من أسبابِ هلاكِ الأُمَم وتَصَدُّع أركانِها، كما في قوله تعالى: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما)، وقوله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون)، وقوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ..
وقد اجْتاحَتْنا بسبب هذه الجاهليَّة الحديثَة ثقافَةٌ جديدة على مجتمعاتِنا العَربِيَّة والإسلامِيَّة، تطالِبُ بتحقيقِ العَدالة والمساواة بين الجنسين بشكلٍ مُتَكافِئ، حتى فيما يتعَلَّق بالجسد وفي غير المُمْكِن والمَشْروع، وتطالِبُ بحُرِّيَّةِ المرأة وانْعِتاقِها من سلطة الرَّجل ومن مُسْتَعْمَرَتِه
ووجدت هذه الثَّقافة من يسانِدُها ويُدَعِّمها، من نُخَب المُثَقَّفين الجُدُد المُنَظِّرين لها، المُدَرِّسين لقِيَمِها ومبادِئِها، مِن جمعِيَّاتٍ ومنظَّماتٍ نسائِيَّة، وتقارير دَولِيَّة، وعقدِ مُؤْتَمراتٍ وندَواتٍ تدافع عن حقوقِِ المرأة وِفْقَ تصَوُّراتٍ غربِيَّة، وتفعيلِِ أبعادِها الرَّمزِيَّة والسُّلوكِيَّة في الواقع العربي، ضمن نصوصٍ تشريعِيَّة وقانونِيَّة، تعيدُ هَيْكَلَة سلوكِ المرأة في علاقتها بجَسَدِها، كمِلْكٍ من ممتلكاتِها المادِّيَّة، له ذمَّةٌ مستقِلَّة، وله حَقُّ التَّعبيرِ بحُرِّيَّة، كما للفكرِ والرَّأيِ حقوقُ التَّعبير، اسْتِجابَةً لمُتَطَلَّباتِ التَّنمِيَّة، والتَّفاعُلِ مع مختلفِ مشاريعِها، والنُّهوض بأوضاع المرأة وحماية حقوقها، وهذا لا يتعدَّى أن يكون نوعًا جديدا من التَّطبيع داخل مجتمعاتنا .
فقد تَحَوَّلَت تدريجِيًّا المطالبة بحرِّيَّة الجسد إلى ثورةٍ على الدِّين، وعلى الأخلاق، وعلى الفضيلة، وعلى التَّقاليدِ والأعراف، والقوانين، والنُّظُم الاجتماعِيَّة العَربِيَّة والشَّرقِيَّة الإسلاميَّة، وثورةٍ على الفطرة الإِنسانِيَّة المناسِبَة لكلِّ جنس، وانْفِلاتٍ من كلِّ القيود، وتحَرُّرٍ من الضَّوابط، والعقود، والالتِزامات، والشُّروط، وتَمَرُّدٍ على وحدة المراقبة، والمُتابَعَة القانونِيَّة والأسرِيَّة، النَّاتِج عن سوءِ الفهمٍ الحقيقي لمعنى الحُرِّيَّة، الذي يختلف من مجتمع لآخر، فالحُرِّيَّة التي تناسِبُ مجتمعاتِ الغرب ليست هي الحُرِّيَّة التي تناسِبُ مجتمعاتِ الشَّرق، وهذا يستدعي إعادة النَّظَر في ضبطِ مفهومِ الحُرِّيَّة، قبل المطالبة بالاعترافِ بها كحَقٍّ للمرأة أو للرجل، أو كحَقٍّ للمجتمع، أو كحََقٍّ للجَسد ..
وضرورة الوعْيِِ بوظيفَةِ الجسد، ضِمْنَ انتماءاتِه الثّقافيَّة، والدِّينيَّة، والاجتِماعِيَّة، وممارَسَة حرِّيَّتِه بمنطقٍ كلِّ مجتمع لا بالمنطِقٍ الواحِد أو في الاتِّجاهٍ الواحِد، إذ لكُلِّ مجتمعٍ حُرِّيَّتُه، كما لكُلِّ مجتمعٍ لغَتُه، ولباسُه، وثقافَتُه، وسياسَتُه، ومُعْتَقَدُه، وهُوِيَّتُه، وطريقَتُه ومَنْهَجُه الخاص في تَعامُلِه مع الجسد وثقافَتِه، وفي تنظيمِ علاقاتِه وتفاعُلاتِه، وفي تشخيصِ رُموزِه وسُلوكِه ..
أما ممارسة مفهوم الحُرِّيَّة بمعنى تَحَرُّر جسد المرأة انْسِجامًا مع فنونِ التَّأَنيث الأوروبِّي، وقِيَم الحَداثة، وقِيَمِ الجَمالِ والذَّوق، وممارسَةِ التَّنمِيَّة والمَدَنِيَّة الحديثة، لا تتعَدَّى أن تكونَ ذريعَةً ومَطِيَّةً للانْفِلاتِ من الأحكام، ونوعًا من أنواعِ الاسْتِغلالِ غيرِ الشَّريف لجسدِ المرأة للتَّرويجِ لأفكارٍ ومذاهب جديدة .
كما لا تتَعَدَّى أن تكون هذه الحُرِّيَّة نوعًا من أنواعِ التَّمَرُّد الذي تمارسه المرأة اليوم، نتيجة شعورِها بالقهر، والظلم، والاستبداد في مجتمع ذُكوري تحكُمُه سُلْطَةُ الرَّجل، وشعورِها بالمعاناة في واقعٍ مُتَأَزِّم لا تجد فيه كِفايتَها من المال، أو من الحب، أو من السِّيادة، أو ما يلبِّي رغَباتِها الفطرِيَّة والعاطِفِيَّة، لتحقيقِ السَّكَن، وتكوينِ أسرة وبيت، وإثباتِ ذاتِها ثقافيًِّا وسياسِيًّا، واقتصادِيًّا، واجتماعيِاًّ ..
حتى تحَوَّلَ هذا التَّمرُّد إلى ثورةٍ أَشْبَهَ بالثَّوراتِ العَربِيَّة، إلا أَنَّها ثورةٌ ليست على أَنْظِمَةٍ سياسِيَّة، بل على نظامِ الأَخلاق، والقِيَمِ الثَّقافِيَّة والاجتماعِيَّة، وثورةٌ على نظامٍ ذكوري بكامله .
إنَّها جاهليَّةُ العصر الحديث، التي صار فيها العُرْيُ مشهدًا من مشاهِد الاخْتلالِ النَّفسي، ومشهدًا من مشاهدِ اخْتِلالِ القِيمِ الدِّينِيَّة والعقائدِيَّة، واخْتِلالِ التَّقاليدِ الثَّقافِيَّة، والفِكرِيَّة، والاجتماعِيَّة، واخِْتلالِ وسائلِ التَّعبيرِ المَشروعَة، واسْتِبْدالِها بوسائلَ وقنواتٍ جديدة أكثرَ تعبيرًا عن الرَّأي، وأسرع تواصُلاً باستخدامِ الصُّورة والتَّعبيرِ بالجسد ..
ولا خلاص لنا من هذه الجاهلِيَّة، ومما نعاني منه من مظاهِرِها غَيرِ الصِّحِيَّة، وأعراضِها المَرَضِيَّة الشَّاذَّة داخلَ مجتمعاتِنا العربية والإسلامِيَّة إلا بمعرفةِ الأسباب الحقيقِيَّة، وإيجادِ الحلولِ اللاَّزِمة، حتى لا تتحَوَّل ظاهرة عُرْيِ المرأة، والمطالبة بتحَرُّرِ جسدِها إلى ظاهرةٍ مرضِيَّةٍ مُتَمكِّنةٍ من مجتمعاتنا، وثورةٍ هستيرِيَّة، وعُرْفٍ، وعادَةٍ، وتقليدٍ يهدِمُ كيانَنا وأصالتَنا، ويهدِّدُ تقاليدَنا، وقيمَنا، وفضائِلَنا، ويهدِّدُ جذورَنا، وثوابِتَنا الدِّينِيَّة والعقَدِيَّة، وأصولَنا الحضارِيَّة والتَّاريخِيَّة، وموروثاتِنا الثَّقافِيَّة وهُوِيَّتَنا العربيَّة الإسلامِيَّة ..
وحتى لا تتحوَّلَ ثورةُ الحُرِّية وثورةُ الجسد إلى إعلان حربٍ على النُّفوس وخَرابِها، وتَمَزُّقِ الأرواح وتَرَفِها، وتهَتُّكِها في ممارسةِ الشَّهوة بلا رادِعٍ ولا توجيه، لابدَّ من إيقاف هذا التَّمَرُّد وكبحِ هذا الصُّراخ، والعويل، والحداد، وقمع كل أنواع الغل والتَّمَرُّد الوحشي على الواقع والمجتمع، والتي كان من أخطر نتائجِها فصل العالم والكون عن وجودِ الإلهِ المُسَيِّر لشؤونِها، والسُّقوطِ بالإِنسانِيَّة في مَدارِكِ الشَّهواتِ الحرَّة البهيمِيَّة ..
لهذا نحن بحاجَةٍ إلى توعِيَةٍ شامِلَة، لحَسْرِ هذا المَدِّ الخطير الذي يهدِّد كيانَ الأمَّةِ بكامِلِها، وفَتْحِ قَنواتٍ جديدة للحِوار والنِّقاش البنَّاء، حوارٍ يسعى إلى تحقيقِ الانْسِجامِ بين الظَّاهرِ والباطِن في ممارسَةِ التَّديُّن، وتحقيقِ المُصالحَة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين المرأة والرجل، وتصحيحِ العلاقة الإنسانِيَّة بينهما، وإرساءِ ثقافَةٍ جديدة تسعى لإشاعةِ العدالة بين الجنسين في حدودِ الشَّرع والقانون، الموافِق لفِطْرَتِهِما وخصائِصِ جِنْسِ كلٍّ منهما، وبثِّ الانسجاِم بين الرُّوحِ والجسد في نظامٍ محكم، وتطهيرِ الذَّوات العارِيَة من صبَواتِها الحرَّة، وقمعِ رغباتِها المسعورَة، ورَدْعِ مخاضِ النُّفوسِ وكبحِ شهواتِها الحيوانيَّة، وإخمادِ نارها المشتعلة، والتَّخَلُّص من عبودِيَّةِ الجسد، والتَّحَرُّر من سِجْنِه ومن أغلالِه، وتصحيحِ نظرة المرأة عن جسدِها، وتلوينِه بألوانِ ما يجوزُ وما لا يجوز، لا بتلوينِ مِرْآتها وأهوائِها، ولا بتقييمِ نظراتِ الرِّجالِ أو نظراتِها إلى نفسِها، وما يعجِبُها وما لا يُعْجِبُها ..
والإخلاصِ في العبودية لله وحده ..
بقلم : د. صفية الودغيري
د. صفية الودغيري | 21/7/1434 هـ
عندما يتأمَّل الإنسان في هذا الكون الرَّحْب المُتَرامي الأطراف، سيجد أنَّ لكلِّ المخلوقات جسدا وروحا، مناسِِبين لخصائصِ خِلَْقتِها، وطبائعِِها، وصفاتِِها .
ولو نَظَرَ هذا الإنسان إلى الحيوانات التي تَدِِبُّ على الأرض، والطُّيور المُحَلِّقة بالسَّماء، والأسماكِ السَّابِِحَة، والنَّبات، والأشجار، وحبَّاتِ التُّراب، وذَرَّاتِ الرِّمال، وقَطراتِِ الماء، ونَسَماتِِ الهواء، سيكتشف أسرارَ الأرواح التي تسكن أجسامََها، والصِّفات التي تَسْرِى في أجزائِها، كيف تَعْتَرِيها الحياة والموت، ويصِيبُها الذُّبول، والكُسوف، والتَّلََوُّث، والرُّكود، والمَدُّ والجََزْر، إنَّها أسرارُ السَّمواتِ والأرض، وأسرارُ حياةٍ إيمانِيَّةٍ كاملة ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) .
ولو نَظَر هذا الإنسان إلى نفسِه وتدبَّر كنظرتِِه في الآفاق، سيكتشف أسرارًا جديدة ودلائل أخرى على الإيمان (سنُرِيهِم آياتِنا في الآفاق وفي أَنْفُسِهِم حتَّى يتَبَيَّنَ لهُم أَنَّهُ الحَق أو لم يَكْفِ برَيِّكَ أنَّه على كلِّ شيءٍ شَهِيد) .
لقد ظلَّ هذا الإنسانَ معجِزَةَ المخلوقات، ومُسْتَوْدَعًا لقِوًى وأسرار موطِنِهُا العقل، والرُّوح، والوِجْدان، تلك الطَّاقَة المُحَرِّكَة للجسد، المُوَحِّهَة لدَبْدَباتِ حَركاتِه وانْفِعالاتِه، نحو مُنْعَطفِ الرُّوح للسُمُوِّ بصفِائِها قبل أن يُمَثِّلَها مُنْعَطَفُ الجسد بالحواس .
وإنَّ ما نراه اليوم لا يتعَدَّى أن يكونَ تعبيراتٍ مادِّيَّة عن هذه المعاني، لا تَرْقَى مَرْقى التَّعبير عن أسرارِ نواميس الكون والخَلق، أو إدراكِ حقيقَةِ المعرفة الكاشِفَة لكَوامِنِ النَّفس وأَسْرارِ الذَّات، لارْتِباطِ الإنسانِ بالجسد بمَعْزِلٍ عن الرُّوح، ولإغْراقِه في الإقبال على مباهِجِ الفِتَن وصَبَواتِها، لا يُبْصِر من خلالها إلا حُجُبًا كِثافًا كقِطَع اللَّيل المظلم، وأَخْيِلَةَ الصُّوَر، والأشكال، والهَيْآت، وظِلالِ الألوان، لا توقِظُ في نفسه إلا الرُّكود وهو يتدَفُّق كقطراتِ الدَّم بمَجْرى عروقِه، يفصِلُ إِحْساسَه عن الانْجِذابِ الذي تُصْدِرُه نَسَماتُ الهواء، وعن الانْفِعالِ الذي تُصْدِرُه هَزَّاتُ الرُّوح، وتَغاريدُ دَقَّاتِها وعَصْفِها، لا يشعرُ منها إلا بالسُّكونِ والجُمودِ وقد الْتَبَسَ بجسده كالوَباءِ فأَوْهَنَه، وسُكونِ الحَركاتِ سُكونَ أرواحِها، وسكونِ الحَنايا دونَما صَخَب، وسكونِ القَلبِ الأَجْوَف، حين لا تصْدَحُ نبضاتُه صوتًا، أو سمعًا، أو إبِْصارًا، أو لَمْسًا، إلا ما وافَقَ منها حركاتِ الجسد وسكونِها آليًّا، لا ما وافقَ مَجْرَى حَركاتِ ذَرَّاتِ الحياة، حين تَدِبُّ أوّلَ ما تَدِبُّ في أوصالنا على فطرتِها ..
إن َّ ما يحدثُ اليوم أشْبَهَ بالجاهِليَّة القديمة، ولكنَّها جاهِليَّةُ العَصر الحديث، وجاهليَّةٌ تَجْمَعُ مِنْ سَكَراتِ الأَرْواحِ للعُشَّاق من الشَّهواتِ والمَلذَّات، لها عِبادَِةٌ كعبادَةِ الأوثانِ والأصنام ولكنَّها بأسماء جديدة، وأنواع وأشكال توافِقُ المَدنِيَّة الحَديثَة، ، والمَلْجَأَ الخَرابَ لبَثِّ أوهامِ المذاهب المادِّية ووُعودِها المُزَيَّفة، وموطِنَ نشرِ شِعاراتِها الكاذِبَة مِنْ إشاعَةٍ للحُرِّيَّة، وللعَدالة، وللمُساواة، إلى ديمُقْراطِيَّة الرَّأي والتَّعبير، ونشر السِّلم والأَمن ..
وقد حمانا الدِّين الإسلامي من هذه الجاهليَّة، ومن هذا العبَث القائِم على نشرِ فلسفة الغريزة، وفلسفَة الشَّهوات الحُرَّة، وما يسمُّونه اليوم "بالأدب المكشوف"، كما يصوِّرها عشَّاق المدنيَّة الغربية الحديثة والمنظِّرين لها .
ولو تتَبَّعنا آيات القرآن الكريم سنجد فيها ما يخالِف ذلك، وما يُؤَكِّد على ضرورَة سَتْرِ العَوْرات، والتَّحذير من فِتَنِ الجسد وشَهَواتِه، وتحقيق التَّوازن بين سَتْرِ الإنسان لسَوءتِه باللِّباس والاعْْتِدال في زينَتِه، وبين سَتْرِ عُيوبِ نَفْسِه وعَوْراتِها بلباسِ التَّقوى، وأنَّ التَّكَشُّف والتَّعَرِّي والتَّجَرُّد عن لباسِ الرُّوح ولباسِ الجسد هو سببُ انْحِطاط النُّفوس، وفسادِ فِطْرَتِها وانْحِرافِِِ ذَوقِها، وسبَبٌ من أسبابِ هلاكِ الأُمَم وتَصَدُّع أركانِها، كما في قوله تعالى: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما)، وقوله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون)، وقوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) ..
وقد اجْتاحَتْنا بسبب هذه الجاهليَّة الحديثَة ثقافَةٌ جديدة على مجتمعاتِنا العَربِيَّة والإسلامِيَّة، تطالِبُ بتحقيقِ العَدالة والمساواة بين الجنسين بشكلٍ مُتَكافِئ، حتى فيما يتعَلَّق بالجسد وفي غير المُمْكِن والمَشْروع، وتطالِبُ بحُرِّيَّةِ المرأة وانْعِتاقِها من سلطة الرَّجل ومن مُسْتَعْمَرَتِه
ووجدت هذه الثَّقافة من يسانِدُها ويُدَعِّمها، من نُخَب المُثَقَّفين الجُدُد المُنَظِّرين لها، المُدَرِّسين لقِيَمِها ومبادِئِها، مِن جمعِيَّاتٍ ومنظَّماتٍ نسائِيَّة، وتقارير دَولِيَّة، وعقدِ مُؤْتَمراتٍ وندَواتٍ تدافع عن حقوقِِ المرأة وِفْقَ تصَوُّراتٍ غربِيَّة، وتفعيلِِ أبعادِها الرَّمزِيَّة والسُّلوكِيَّة في الواقع العربي، ضمن نصوصٍ تشريعِيَّة وقانونِيَّة، تعيدُ هَيْكَلَة سلوكِ المرأة في علاقتها بجَسَدِها، كمِلْكٍ من ممتلكاتِها المادِّيَّة، له ذمَّةٌ مستقِلَّة، وله حَقُّ التَّعبيرِ بحُرِّيَّة، كما للفكرِ والرَّأيِ حقوقُ التَّعبير، اسْتِجابَةً لمُتَطَلَّباتِ التَّنمِيَّة، والتَّفاعُلِ مع مختلفِ مشاريعِها، والنُّهوض بأوضاع المرأة وحماية حقوقها، وهذا لا يتعدَّى أن يكون نوعًا جديدا من التَّطبيع داخل مجتمعاتنا .
فقد تَحَوَّلَت تدريجِيًّا المطالبة بحرِّيَّة الجسد إلى ثورةٍ على الدِّين، وعلى الأخلاق، وعلى الفضيلة، وعلى التَّقاليدِ والأعراف، والقوانين، والنُّظُم الاجتماعِيَّة العَربِيَّة والشَّرقِيَّة الإسلاميَّة، وثورةٍ على الفطرة الإِنسانِيَّة المناسِبَة لكلِّ جنس، وانْفِلاتٍ من كلِّ القيود، وتحَرُّرٍ من الضَّوابط، والعقود، والالتِزامات، والشُّروط، وتَمَرُّدٍ على وحدة المراقبة، والمُتابَعَة القانونِيَّة والأسرِيَّة، النَّاتِج عن سوءِ الفهمٍ الحقيقي لمعنى الحُرِّيَّة، الذي يختلف من مجتمع لآخر، فالحُرِّيَّة التي تناسِبُ مجتمعاتِ الغرب ليست هي الحُرِّيَّة التي تناسِبُ مجتمعاتِ الشَّرق، وهذا يستدعي إعادة النَّظَر في ضبطِ مفهومِ الحُرِّيَّة، قبل المطالبة بالاعترافِ بها كحَقٍّ للمرأة أو للرجل، أو كحَقٍّ للمجتمع، أو كحََقٍّ للجَسد ..
وضرورة الوعْيِِ بوظيفَةِ الجسد، ضِمْنَ انتماءاتِه الثّقافيَّة، والدِّينيَّة، والاجتِماعِيَّة، وممارَسَة حرِّيَّتِه بمنطقٍ كلِّ مجتمع لا بالمنطِقٍ الواحِد أو في الاتِّجاهٍ الواحِد، إذ لكُلِّ مجتمعٍ حُرِّيَّتُه، كما لكُلِّ مجتمعٍ لغَتُه، ولباسُه، وثقافَتُه، وسياسَتُه، ومُعْتَقَدُه، وهُوِيَّتُه، وطريقَتُه ومَنْهَجُه الخاص في تَعامُلِه مع الجسد وثقافَتِه، وفي تنظيمِ علاقاتِه وتفاعُلاتِه، وفي تشخيصِ رُموزِه وسُلوكِه ..
أما ممارسة مفهوم الحُرِّيَّة بمعنى تَحَرُّر جسد المرأة انْسِجامًا مع فنونِ التَّأَنيث الأوروبِّي، وقِيَم الحَداثة، وقِيَمِ الجَمالِ والذَّوق، وممارسَةِ التَّنمِيَّة والمَدَنِيَّة الحديثة، لا تتعَدَّى أن تكونَ ذريعَةً ومَطِيَّةً للانْفِلاتِ من الأحكام، ونوعًا من أنواعِ الاسْتِغلالِ غيرِ الشَّريف لجسدِ المرأة للتَّرويجِ لأفكارٍ ومذاهب جديدة .
كما لا تتَعَدَّى أن تكون هذه الحُرِّيَّة نوعًا من أنواعِ التَّمَرُّد الذي تمارسه المرأة اليوم، نتيجة شعورِها بالقهر، والظلم، والاستبداد في مجتمع ذُكوري تحكُمُه سُلْطَةُ الرَّجل، وشعورِها بالمعاناة في واقعٍ مُتَأَزِّم لا تجد فيه كِفايتَها من المال، أو من الحب، أو من السِّيادة، أو ما يلبِّي رغَباتِها الفطرِيَّة والعاطِفِيَّة، لتحقيقِ السَّكَن، وتكوينِ أسرة وبيت، وإثباتِ ذاتِها ثقافيًِّا وسياسِيًّا، واقتصادِيًّا، واجتماعيِاًّ ..
حتى تحَوَّلَ هذا التَّمرُّد إلى ثورةٍ أَشْبَهَ بالثَّوراتِ العَربِيَّة، إلا أَنَّها ثورةٌ ليست على أَنْظِمَةٍ سياسِيَّة، بل على نظامِ الأَخلاق، والقِيَمِ الثَّقافِيَّة والاجتماعِيَّة، وثورةٌ على نظامٍ ذكوري بكامله .
إنَّها جاهليَّةُ العصر الحديث، التي صار فيها العُرْيُ مشهدًا من مشاهِد الاخْتلالِ النَّفسي، ومشهدًا من مشاهدِ اخْتِلالِ القِيمِ الدِّينِيَّة والعقائدِيَّة، واخْتِلالِ التَّقاليدِ الثَّقافِيَّة، والفِكرِيَّة، والاجتماعِيَّة، واخِْتلالِ وسائلِ التَّعبيرِ المَشروعَة، واسْتِبْدالِها بوسائلَ وقنواتٍ جديدة أكثرَ تعبيرًا عن الرَّأي، وأسرع تواصُلاً باستخدامِ الصُّورة والتَّعبيرِ بالجسد ..
ولا خلاص لنا من هذه الجاهلِيَّة، ومما نعاني منه من مظاهِرِها غَيرِ الصِّحِيَّة، وأعراضِها المَرَضِيَّة الشَّاذَّة داخلَ مجتمعاتِنا العربية والإسلامِيَّة إلا بمعرفةِ الأسباب الحقيقِيَّة، وإيجادِ الحلولِ اللاَّزِمة، حتى لا تتحَوَّل ظاهرة عُرْيِ المرأة، والمطالبة بتحَرُّرِ جسدِها إلى ظاهرةٍ مرضِيَّةٍ مُتَمكِّنةٍ من مجتمعاتنا، وثورةٍ هستيرِيَّة، وعُرْفٍ، وعادَةٍ، وتقليدٍ يهدِمُ كيانَنا وأصالتَنا، ويهدِّدُ تقاليدَنا، وقيمَنا، وفضائِلَنا، ويهدِّدُ جذورَنا، وثوابِتَنا الدِّينِيَّة والعقَدِيَّة، وأصولَنا الحضارِيَّة والتَّاريخِيَّة، وموروثاتِنا الثَّقافِيَّة وهُوِيَّتَنا العربيَّة الإسلامِيَّة ..
وحتى لا تتحوَّلَ ثورةُ الحُرِّية وثورةُ الجسد إلى إعلان حربٍ على النُّفوس وخَرابِها، وتَمَزُّقِ الأرواح وتَرَفِها، وتهَتُّكِها في ممارسةِ الشَّهوة بلا رادِعٍ ولا توجيه، لابدَّ من إيقاف هذا التَّمَرُّد وكبحِ هذا الصُّراخ، والعويل، والحداد، وقمع كل أنواع الغل والتَّمَرُّد الوحشي على الواقع والمجتمع، والتي كان من أخطر نتائجِها فصل العالم والكون عن وجودِ الإلهِ المُسَيِّر لشؤونِها، والسُّقوطِ بالإِنسانِيَّة في مَدارِكِ الشَّهواتِ الحرَّة البهيمِيَّة ..
لهذا نحن بحاجَةٍ إلى توعِيَةٍ شامِلَة، لحَسْرِ هذا المَدِّ الخطير الذي يهدِّد كيانَ الأمَّةِ بكامِلِها، وفَتْحِ قَنواتٍ جديدة للحِوار والنِّقاش البنَّاء، حوارٍ يسعى إلى تحقيقِ الانْسِجامِ بين الظَّاهرِ والباطِن في ممارسَةِ التَّديُّن، وتحقيقِ المُصالحَة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين المرأة والرجل، وتصحيحِ العلاقة الإنسانِيَّة بينهما، وإرساءِ ثقافَةٍ جديدة تسعى لإشاعةِ العدالة بين الجنسين في حدودِ الشَّرع والقانون، الموافِق لفِطْرَتِهِما وخصائِصِ جِنْسِ كلٍّ منهما، وبثِّ الانسجاِم بين الرُّوحِ والجسد في نظامٍ محكم، وتطهيرِ الذَّوات العارِيَة من صبَواتِها الحرَّة، وقمعِ رغباتِها المسعورَة، ورَدْعِ مخاضِ النُّفوسِ وكبحِ شهواتِها الحيوانيَّة، وإخمادِ نارها المشتعلة، والتَّخَلُّص من عبودِيَّةِ الجسد، والتَّحَرُّر من سِجْنِه ومن أغلالِه، وتصحيحِ نظرة المرأة عن جسدِها، وتلوينِه بألوانِ ما يجوزُ وما لا يجوز، لا بتلوينِ مِرْآتها وأهوائِها، ولا بتقييمِ نظراتِ الرِّجالِ أو نظراتِها إلى نفسِها، وما يعجِبُها وما لا يُعْجِبُها ..
والإخلاصِ في العبودية لله وحده ..
بقلم : د. صفية الودغيري
تعليق