الإنبساط إلى الناس
هذا هو الدرسُ الرَّابع والثلاثون من مدارسة كتاب الأدب المفرد،
وسنتناول فيه إن شاء الله تعالى:
"بـاب الانبساط إلى الناس"
قال الإمام البخاري: حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح بن سليمان،
قال: حدثنا هلال بن عليّ، قال: حدثنا عطاء بن يسار،
قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص
فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم
- في التوراة، قال: فقال أجل!
والله إنه لموصوفٌ في التَّوراة ببعضصفته في القرءان
{يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا} [الأحزاب: 45]،
وحرزًا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل
ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواق،
ولا يدفع بالسيئةِ السيئة ولكن يعفو ويغفر،
ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء
بأن يقولوا: "لا إله إلا الله"
ويفتحوا بها أعينًا عميًا وءاذانًا صمًا وقلوبًا غُلفا.
أنت عبدي ورسولي:
هذا أشرف المقامات مقام العبودية وقد وصف الله تبارك وتعالى
نبيه بهذا الوصف في أعلى وأعظم المقامات ففي مقام الدعوة
قال: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه}[الجن: 19]،
وفي مقام الإسراء قال:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا}[الإسراء: 1]،
فمقام العبودية أعظم المقامات،
وفي قول أنت عبدي ردٌ على من يغلو في النبي،
وفي كلمة رسول ردٌ على من ينكر بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-
ونبوَّته ورسالته وبذلك جمع بين مقامين عظيمين:
مقام العبودية ومقام الرسالة.
سميتك المتوكِّل:
المتوكل على الله لقناعته باليسير والصبر على ما كان يُكره،
والمراد بالتوكل إعتقاد ما دلت عليه هذه الآية
{وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} [هود:6]
، فليس المراد بالتوكل ترك الأسباب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين؛
لأن هذا يجرُّ إلى التواكل لا التوكل،
وقد سئل الإمام أحمد عن رجل جلس في المسجد أو في بيته
وقال لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي فقال هذا رجل جهل العلم،
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"إن الله جعل رزقي تحت ظلِّ رمحي" [رواه البخاري]،
وهكذا كان الصحابة يعملون وكانوا القدوة في هذا الباب
وقد أمرنا بالتوكل في غير آية في كتاب الله تبارك وتعالى،
بل من أوائل ما نزل على نبينا –صلى الله عليه وسلم
- {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلًا} [المزمل: 9]،
وقال الله تبارك وتعالى: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} [إبراهيم:12]،
{وتوكل على العزيز الرحيم، الذي يراك حين تقوم} [الشعراء: 217، 218]،
{وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58]،
كل هذا لنتعلم درس التوكل الذي هو بيسر أن تتخذ الأسباب وتستعين بالله عز وجل،
فإذا اتخذت الأسباب ولم تستعن بالله
واعتقدت أن الأسباب هي الفاعلة فقد وقعت في الشرك؛
لأنه لا فاعل في الكون إلا الله،
وإذا اتخذت أمر الاستعانة دون اتخاذ الأسباب
فقد خالفت أمر الله بأن تضرب في الأرض
وتتخذ الأسباب ومن يصنع ذلك فهو مجنون،
الذي يظن أن السماء ستمطر ذهبًا هذا جنون ومخالفٌ للواقع والعقل والحكمة
فينبغي أن نتوازن في معادلة التوكل بين اتخاذ الأسباب والاستعانة بالله تبارك وتعالى.
- ليس بفظٍّ ولا غليظ
حتى يوافق قول ربنا تبارك وتعالى:
{فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159]، د
فنبينا -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعرف معنى الفظاظة،
الفظ سيء الخلق قليل الاحتمال، أما نبينا -صلى الله عليه وسلم
- فإنه على الخلق العظيم كان كثير الاحتمال ولا يعرف معنى الجفاء
بل كان ينبسط إلى الناس كان بالمؤمنين رءوف رحيم ،
فكان رقيق الخلق والطبع والفعل والمنطق والعيش
وكان بأبي هو وأمي ونفسي رسولالله -صلى الله عليه وسلم
- يحثنا على الرفق في كل شيء
ويقول" ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلاشانه"
- ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر:
فيدفع بالتي هي أحسن السيئة
كما قال الله تباركوتعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون}[المؤمنون: 96]،
وقوله {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍ عظيم} [فصلت: 34، 35]،
فكان صفة نبينا -صلى الله عليه وسلم
- العفو، التجاوز عن الذنوب وترك العقوبة، العفو والمغفرة اعفُ يُعف عنك واغفر يُغفر لك،
- ولم يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء
أي: ملة الكفر فينفي الشرك ويثبت التوحيد بأن يقول لا إله إلا الله،
فيخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان،
ويفتحوا بها من الإسلام أعينًا عمًا وءاذانًا صمًا،
وهذه الأعين لم توصف بالعمى إلا لأنها عميت عن الحق وإلا فهي مبصرة كما يظن الناس
{فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46]
وهذه الآذان هي ءاذان تسمع في واقع الناس
ولكنها لا تسمع الحق فهي صمَّاء عن الحق
لا تقبل الحقوهذه القلوب الغل المغطاة عن سماع الحق وقبوله
كما وصف الله تبارك وتعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها
ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}[الأعراف: 179]،
السؤال يا ترى بك أو بكِ شيء من هذه الصفات؟
هل تشتكي من أنك لا تشعر بقلبك؟ أنك تسمع ولا تطبق؟
أنك ترى البينات من الله تبارك وتعالى ولا تتأثر؟
هذه صفات أهل الغفلة فنسأل الله عز وجل أن يطهرنا
وإياكم من هذه الصفات وأن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.
وهذا الحديث فيه بيان للخصائل والصفات الحميدة للنبي -صلى الله عليه وسلم-
ودليل على أن أخلاقه الكريمة مذكورة في الكتب السماوية.
ثم قال الإمام البخاري: حدثنا عبد الله بن صالح
قال: حدثني عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال بن أبي هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو
قال: إن هذه الآية التي في القرءان: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا} [الأحزاب: 45] في التوراة.
- قال الإمام: حدثنا إسحاق بن العلاء قال: حدثنا عمرو بن الحارث
قال: حدثني عبد الله بن سالم الأشعري عن محمد وهو ابن الوليد الزُّبيدي
عن ابن جابر وهو يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن جُبَير بن نُفَير أن أباه حدثه
أنه سمع معاوية يقول: سمعت من النبي -صلى الله عليه وسلم
- كلامًا نفعني الله به يقول: "إنك إذا اتبعت الريبة في الناسأفسدتهم"
قال معاوية فإني لا أتبع الريبة فيهم فأفسدهم
أي إذا اتهمت الناس وجاهرتهم بسوء الظن
أدَّاهم ذلك إلى ارتكاب ما ظُنَّ بهم ففسدوا،
وفي رواية "إنك إذا اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم"
وفيه أيضًا في لفظٍ ءاخر وهو أصرح في انتفاع معاوية بهذا الحديث:
"إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم"
فلعل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-
إن الأمير إذا ابتغى الريبة إشارة إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم
- كان يعرف أن معاوية سيصير أميرًا،
وعدم اتباع الريبة في الناس هو معنى الانبساط إلى الناس الذي بوَّب له الإمام البخاري هنا
والمقصود:
ألا يتجسس إنسان على إنسان ولا تتبع عورات المسلمين،
وينبغي ألا نتهم الناس ونرميهم بالتهم ونتهم نواياهم وهذا خائن
وهذا عميل وهذا مرجئ وهذا قطبي وهذا خارجي وهذا وهذا
بل ينبغي أن نبتعد عما يفتن الناس ويصدهم عن الدين
وينبغي أن نأخذ بمقتضى قول ربنا
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
الأعراف
وقد نُهينا عن التجسس والتحسس
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وكونوا عباد الله إخوانًا" [رواه مسلم]
وعن زيد بن وهب قال: "أتى ابن أبي مسعود فقيل هذا فلان تقطر لحيته خمرًا فقال عبد الله بن مسعود:
إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إنيظهر لنا شيء نأخذ به" [أخرجه أبو داوُد]،
فلا ينبغي أن نتتبع عورات الناس ولا ينبغي أن نخوض فيما لا ينبغي أن يخاض فيه
السبيل إلى السلام من عورات الناس والتشكيك بهم:
الأمر الأول: لا نصغي إلى هذه الحماقات وهذه الوشايات.
ذكر المُزنيّ –رحمه الله-
كما في تهذيب الكمال:
عن مجلس كان فيه سفيان بن حسين
فقال: "كنت عند إياس بن معاوية وعنده رجل تخوفت إن قمت من عنده أن يقع فيَّ
فجلست حتى قام فلما قام ذكرته لإياس قال فجعل ينظر في وجهي ولا يقول لي شيئًا حتى فرغت
فقال لي: أغزوت الديلم؟ قلت: لا، قال: غزوت السند؟ قلت: لا، قال: غزوت الهند؟
قلت: لا، قال: غزوت الروم؟ قلت: لا، قال: تسلمُ منك الديلم والسند والهند والروم
وليس يسلم منك أخوك هذا فلم يعد سفيان إلى ذاك بعد هذا أبدًا"،
وساق ابن عساكر عن سفيان رحمه الله قال: جاء رجل
فقال ما تقول في شتم معاوية؟
فقال: ما عهدك بشتيمة فرعون؟
قال: ما خطر ببالي،
قال: ففرعون أولى بالشتم من أن تقع في معاوية"؟
- وقال رجل لأهب بن منبِّه: إن فلانًا شتمك فقال وهب:
أما وجد الشيطان بريدًا غيرك؟
(ألم يجد الشيطان من يلعب به ويشغله غيرك؟)
وعن محمد بن سلام قال: جاء رجل إلى عمرو بن عُبيد فقال له:
"إن الإسواريّ لم يزل يذكرك أمس في قَصَص
" فقال عمرو بن عبيد: "يا هذا ما رعَيت مجالسة الرجل إنَّ المجالس أمانات
(هذا هو أدب السلف وما أدراك ما أدب السلف)
حيث نقلت إلينا حديثه ولا أديت حقي حين أبلغتي عن أخي ما أكره
أبلغه أن الموت يعمنا والبعث يحشرنا القيامة تجمعنا
والله يحكم بيننا" فينبغي ألا نصغي إلا الوشاة
وألا نكون مُسعّرين للفتن بل نخمد هذه الفتن
الأمر الثاني:
علينا أن نلتمس الأعذار نقبل الاعتذار
ولا نفتح الأبواب لأهل الضلال.
-قال ابن عبد البرّ -رحمه الله- في كتاب "بهجة المجالس
" قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظن بها سوءًا
وهو يجد لها في شيءٍ من الخير مخرجًا"،
أي: حرام أن يقول أحدهم كلمة تحتمل شر أو خير
فتحملها على الشر ولا تحملها على الخير
طالما لها مخرج وتأويل بل التمس الأعذار
- كان ابن سيرين يقول: "يحتمل الرجل أخيه إلى سبعين ذلة"
يخطأ مرة والثانية والثالثة والعاشرة والخمسين والسبعين
فيطلب له المعاذير فإن أعناه ذلك يقول لعل لأخي عذرًا غاب عني"
- وكان عبد الله بن زيد أبو قلابة يقول
: "إذا بلغك من أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر
فإن لم تجد له العذر فقل في نفسك لعل لأخي عذرًا لا أعلمه"
- وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما
يقول: "لو أن رجلًا شتمني في أذني هذه واعتذر في أذني الأخرى لقبلت عذره"،
وساق ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وآداب اللسان
عن عبد الله بن عون بإسنادٍ صححه شيخنا الحويني
قال: "اعتذر رجل عند إبراهيم فقال قد عذرناك غير معتذر (أي لا تحتاج أن تعتذر)
أخاف أن تقع في كذب إن الاعتذار يخالطه الكذب أنا أعذرك بدون أن تعتذر"،
- فلا ينبغي بحال أن يُتَّهم الناس هكذا ينبغي أن نفتح باب الاعتذار
نعم ليس على مصراعيه فلا يدخل في هذا كل من كفر وضلَّ وكذا
ولكن علينا أن يكون هذا الأمر هو الأساس عندنا حسن الظن بالمسلمين
فلا نفتش عن معايب الناس بل نعفو ونتغافل عن ذلات الناس
فالتنقيب عن كل شيءٍ يوقع الناس في الأخطاء والذلات،
وفي حديث أم زرع: قالت إحدى النسوة في صفة زوجها زوجي إن دخل فهد وإن خرج أسد
ولا يسئل عما عهد فكانت تصفه بكثرة التغافل
" هو أسد تمدحه بالشجاعة إذا خرج، ولا يسئل عما عهد
أي: لا يفتش عما رأى في البيت بل يغض الطرف ويتغافل
كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ } [التَّحريم: 3]،
لما لا يكون هذا هو الخلق بيننا؟
فكان الحكماء يقولون "العاقل هو الحكيم المتغافل"،
وقالوا في تعريف المروءة" التغافل عن ذلة الإخوان"،
- وفي كتاب الفروع لابن مفلح حدث رجل للإمام أحمد عن مسألة التغافل
وذكر أن العافية عشرة أجزاء تسع منها في التغافل
فقال الإمام أحمد العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل،
ألا تتبع عثرات الناس
فإن من يطلب إنسانًا بلا عيب فإنه سيبقى بلا صاحب
فلا إنسان بغير عيوب وإنما نحن أهل ستر نتخلق بصفة ربنا تبارك وتعالى،
إن الله حليمٌ حييٌّ ستير يحب الحياء والستر
فينبغي أن نكون كذلك نستر عورة المسلم
لأن" من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة،
من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة"،
" لا يستر عبدٌ عبدٍ في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة "
- هل تعرفون انماعز الذي رجمه النبي -صلى الله عليه وسلم
- في الزنى كان له صاحب يدعى هزَّال، هزَّال هذا لما جاءه ماعز في أول الأمر
وطلب منه النصيحة في أنه وقع في الزنى ويريد أن يتطهر من ذلك
فأرشده إلى أن يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم- وأتى النبي صلى الله عليه وسلم
- "وقال يا رسول الله طهرني، فإذا بالنبي
يقول له: أبك جنون؟ لعلك قبَّلتها؟ لعلك صنعت كذا
وهو في كل مرة يقول: طهرني قال: ما صنعت؟
قال: زنيت وفي ءاخر الأمر رجمه النبي صلى الله عليه وسلم-،
هل تعرفون ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم- لهزَّال صاحب ماعز؟
قال: يا هزَّال لو سترته بثوبك كان خيرًا لك فأمره بالستر"
وقال النبي صلى الله عليه وسلم-: "أقيلوا ذوي الهيئات" (
أهل العلم وأهل الفضل ومن لهم مقام في المجتمع
ينبغي أن نقيل عثراتهم إذا أخطأوا نتلمس لهم الأعذار ولا نجعلها فضائح
ولا نزيع وننشر مثل هذا فهذا يوقع الناس في أخطاء أشد إذا كان فلان يفعل كذا ويخون أنا لن أخون؟
إشاعة السوء عن المؤمنين إيذاءٌ لهم وإضرارٌ بهم
- قال ابن الجوزي: "سمعت الوزير بن هبير يقول لبعض من يأمر بالمعروف
اجتهد أن تستر العصاة،
فإن ظهور معاصيهم عيبٌ فيأهل الإسلام وأولى الأمور ستر العيوب"
- وقال الإمام مالك: "من لم يعرف منه أذىً للناس
وإنما كانت منه ذلة فلا بأس أن يُشفع له"، أخطأ أول الأمر بغير ما يصح أن يؤله به
ينبغي ألا نمسك بالسيوف على أعناق الناس وإنما نستر عوراتهم ونتجاوز عن أخطائهم
فإن البحث عن العيوب يساعد على تهويد ارتكاب الآثام ويشجِّع عليها
"إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم" أو كدت أن تفسدهم"
فعلينا أن نأخذ بوصية الحبيب صلى الله عليه وسلم-
كما في الحديث عن أبي برزة الأسلمي قال النبي صلى الله عليه وسلم-:
"يا معشر من ءامن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبَه
لا تغتاب المسلمين ولا تتبع عوراتهم
فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته
(أي يقيض الله من يتبع عورته فيكشف عيوبه ومساوئه)
ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته"[رواه الترمذي في جامعه]،
- قال ابن رجب كما في جامع العلوم والحكم
قال: "أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب فذكروا عيوب الناس فذكر الناس لهم عيوبًا،
وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوب فكفوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم"،
الحديث حديث له شؤون في الواقع
ونحن نحتاج أن نأخذ بأسباب النجاة من صمت نجا،
من انشغل بعيب نفسه عن عيب غيره فقد رحم،
ومن انشغل بعيب غيره عن عيب نفسه فقد استدرج وقد مُكرَ به
{سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182]،
إن اتباع الريبة وإفساد الظنون في الناس
يجعل الناس يقعون في المحرمات التي لم يصنعوها،
عندما لذلك أحسنوا الظن بالمسلمين لا تتبعوا عوراتهم واستروا عليهم واعفوا عنهم
ومن أجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم
- أن يطرق الرجل أهل ليلًا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم"
ديننا دين ستر ديننا دين ستر وانبساط وسماحة في التعامل.
ثم قال الإمام البخاري: حدثنا محمد بن عبيد الله
قال: حدثنا حاتم بن معاوية بن أبي مزرَّد عن أبيه
قال: سمعت أبو هريرة يقول:
سمع أذناي هاتان وبَصُرَ عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم
- أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين صلوات الله عليهما
وقدميه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم-
ورسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: "ارقَ"
قال: فرقي الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم
- ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: افتح فاك ثم قبَّله
ثم قال: اللهم أحبه فإني أحبه" الحديث
جميل لكنه ضعيف، وذلك يتبين لنا من مدارسة إسناده.
تعرفون طريقة المرجحة التي نفعلها مع الأطفال الصغار النبي صلى الله عليه وسلم
- مسِكَ بيدي الحسن أو الحسين وجعل رجليهما على رجله صلى الله عليه وسلم
- على طريقة المرجحة التي نصنعها مع الصبية ثم قال له اطلع برجليك عليَّ
حتى أنه رقى فوصل إلى صدر النبي صلى الله عليه وسلم-
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم- افتح فاك وقبَّله وتعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم
- كان يصنع ذلك ولما رءاه أحد الصَّحابة وتغيَّر كيف أنه يصنع هذا ويقبِّل الصغار
وقال إني لا أصنعه وقال النبي صلى الله عليه وسلم
- من لا يرحم لا يُرحم وهنا قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم
- الحسن أو الحسين ثم قال: اللهم أحبَّه فإني أحبه،
ونحن نحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم
- من حبنا في النبي آله الَّذين اتبعوه بإحسان ومعلوم
قول الله تبارك وتعالى:قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ [الشورى: 23]،
وهذا الحديث فيه حثٌّ على حبِّ آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم
- وفيه بيان لفضيلة الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنَّة
وفيه رقَّة النبي صلى الله عليه وسلم
- وانبساطه مع آل بيته
من درس الإنبساط إلى الناس - الشيخ هاني حلمي شرح كتاب الأدب المفرد
هذا هو الدرسُ الرَّابع والثلاثون من مدارسة كتاب الأدب المفرد،
وسنتناول فيه إن شاء الله تعالى:
"بـاب الانبساط إلى الناس"
قال الإمام البخاري: حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح بن سليمان،
قال: حدثنا هلال بن عليّ، قال: حدثنا عطاء بن يسار،
قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص
فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم
- في التوراة، قال: فقال أجل!
والله إنه لموصوفٌ في التَّوراة ببعضصفته في القرءان
{يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا} [الأحزاب: 45]،
وحرزًا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل
ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواق،
ولا يدفع بالسيئةِ السيئة ولكن يعفو ويغفر،
ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء
بأن يقولوا: "لا إله إلا الله"
ويفتحوا بها أعينًا عميًا وءاذانًا صمًا وقلوبًا غُلفا.
أنت عبدي ورسولي:
هذا أشرف المقامات مقام العبودية وقد وصف الله تبارك وتعالى
نبيه بهذا الوصف في أعلى وأعظم المقامات ففي مقام الدعوة
قال: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه}[الجن: 19]،
وفي مقام الإسراء قال:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا}[الإسراء: 1]،
فمقام العبودية أعظم المقامات،
وفي قول أنت عبدي ردٌ على من يغلو في النبي،
وفي كلمة رسول ردٌ على من ينكر بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-
ونبوَّته ورسالته وبذلك جمع بين مقامين عظيمين:
مقام العبودية ومقام الرسالة.
سميتك المتوكِّل:
المتوكل على الله لقناعته باليسير والصبر على ما كان يُكره،
والمراد بالتوكل إعتقاد ما دلت عليه هذه الآية
{وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} [هود:6]
، فليس المراد بالتوكل ترك الأسباب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين؛
لأن هذا يجرُّ إلى التواكل لا التوكل،
وقد سئل الإمام أحمد عن رجل جلس في المسجد أو في بيته
وقال لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي فقال هذا رجل جهل العلم،
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"إن الله جعل رزقي تحت ظلِّ رمحي" [رواه البخاري]،
وهكذا كان الصحابة يعملون وكانوا القدوة في هذا الباب
وقد أمرنا بالتوكل في غير آية في كتاب الله تبارك وتعالى،
بل من أوائل ما نزل على نبينا –صلى الله عليه وسلم
- {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلًا} [المزمل: 9]،
وقال الله تبارك وتعالى: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} [إبراهيم:12]،
{وتوكل على العزيز الرحيم، الذي يراك حين تقوم} [الشعراء: 217، 218]،
{وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58]،
كل هذا لنتعلم درس التوكل الذي هو بيسر أن تتخذ الأسباب وتستعين بالله عز وجل،
فإذا اتخذت الأسباب ولم تستعن بالله
واعتقدت أن الأسباب هي الفاعلة فقد وقعت في الشرك؛
لأنه لا فاعل في الكون إلا الله،
وإذا اتخذت أمر الاستعانة دون اتخاذ الأسباب
فقد خالفت أمر الله بأن تضرب في الأرض
وتتخذ الأسباب ومن يصنع ذلك فهو مجنون،
الذي يظن أن السماء ستمطر ذهبًا هذا جنون ومخالفٌ للواقع والعقل والحكمة
فينبغي أن نتوازن في معادلة التوكل بين اتخاذ الأسباب والاستعانة بالله تبارك وتعالى.
- ليس بفظٍّ ولا غليظ
حتى يوافق قول ربنا تبارك وتعالى:
{فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159]، د
فنبينا -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعرف معنى الفظاظة،
الفظ سيء الخلق قليل الاحتمال، أما نبينا -صلى الله عليه وسلم
- فإنه على الخلق العظيم كان كثير الاحتمال ولا يعرف معنى الجفاء
بل كان ينبسط إلى الناس كان بالمؤمنين رءوف رحيم ،
فكان رقيق الخلق والطبع والفعل والمنطق والعيش
وكان بأبي هو وأمي ونفسي رسولالله -صلى الله عليه وسلم
- يحثنا على الرفق في كل شيء
ويقول" ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلاشانه"
- ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر:
فيدفع بالتي هي أحسن السيئة
كما قال الله تباركوتعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون}[المؤمنون: 96]،
وقوله {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍ عظيم} [فصلت: 34، 35]،
فكان صفة نبينا -صلى الله عليه وسلم
- العفو، التجاوز عن الذنوب وترك العقوبة، العفو والمغفرة اعفُ يُعف عنك واغفر يُغفر لك،
- ولم يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء
أي: ملة الكفر فينفي الشرك ويثبت التوحيد بأن يقول لا إله إلا الله،
فيخرج الناس من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان،
ويفتحوا بها من الإسلام أعينًا عمًا وءاذانًا صمًا،
وهذه الأعين لم توصف بالعمى إلا لأنها عميت عن الحق وإلا فهي مبصرة كما يظن الناس
{فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46]
وهذه الآذان هي ءاذان تسمع في واقع الناس
ولكنها لا تسمع الحق فهي صمَّاء عن الحق
لا تقبل الحقوهذه القلوب الغل المغطاة عن سماع الحق وقبوله
كما وصف الله تبارك وتعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها
ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}[الأعراف: 179]،
السؤال يا ترى بك أو بكِ شيء من هذه الصفات؟
هل تشتكي من أنك لا تشعر بقلبك؟ أنك تسمع ولا تطبق؟
أنك ترى البينات من الله تبارك وتعالى ولا تتأثر؟
هذه صفات أهل الغفلة فنسأل الله عز وجل أن يطهرنا
وإياكم من هذه الصفات وأن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.
وهذا الحديث فيه بيان للخصائل والصفات الحميدة للنبي -صلى الله عليه وسلم-
ودليل على أن أخلاقه الكريمة مذكورة في الكتب السماوية.
ثم قال الإمام البخاري: حدثنا عبد الله بن صالح
قال: حدثني عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال بن أبي هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو
قال: إن هذه الآية التي في القرءان: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا} [الأحزاب: 45] في التوراة.
- قال الإمام: حدثنا إسحاق بن العلاء قال: حدثنا عمرو بن الحارث
قال: حدثني عبد الله بن سالم الأشعري عن محمد وهو ابن الوليد الزُّبيدي
عن ابن جابر وهو يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن جُبَير بن نُفَير أن أباه حدثه
أنه سمع معاوية يقول: سمعت من النبي -صلى الله عليه وسلم
- كلامًا نفعني الله به يقول: "إنك إذا اتبعت الريبة في الناسأفسدتهم"
قال معاوية فإني لا أتبع الريبة فيهم فأفسدهم
أي إذا اتهمت الناس وجاهرتهم بسوء الظن
أدَّاهم ذلك إلى ارتكاب ما ظُنَّ بهم ففسدوا،
وفي رواية "إنك إذا اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم"
وفيه أيضًا في لفظٍ ءاخر وهو أصرح في انتفاع معاوية بهذا الحديث:
"إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم"
فلعل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-
إن الأمير إذا ابتغى الريبة إشارة إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم
- كان يعرف أن معاوية سيصير أميرًا،
وعدم اتباع الريبة في الناس هو معنى الانبساط إلى الناس الذي بوَّب له الإمام البخاري هنا
والمقصود:
ألا يتجسس إنسان على إنسان ولا تتبع عورات المسلمين،
وينبغي ألا نتهم الناس ونرميهم بالتهم ونتهم نواياهم وهذا خائن
وهذا عميل وهذا مرجئ وهذا قطبي وهذا خارجي وهذا وهذا
بل ينبغي أن نبتعد عما يفتن الناس ويصدهم عن الدين
وينبغي أن نأخذ بمقتضى قول ربنا
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
الأعراف
وقد نُهينا عن التجسس والتحسس
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وكونوا عباد الله إخوانًا" [رواه مسلم]
وعن زيد بن وهب قال: "أتى ابن أبي مسعود فقيل هذا فلان تقطر لحيته خمرًا فقال عبد الله بن مسعود:
إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إنيظهر لنا شيء نأخذ به" [أخرجه أبو داوُد]،
فلا ينبغي أن نتتبع عورات الناس ولا ينبغي أن نخوض فيما لا ينبغي أن يخاض فيه
السبيل إلى السلام من عورات الناس والتشكيك بهم:
الأمر الأول: لا نصغي إلى هذه الحماقات وهذه الوشايات.
ذكر المُزنيّ –رحمه الله-
كما في تهذيب الكمال:
عن مجلس كان فيه سفيان بن حسين
فقال: "كنت عند إياس بن معاوية وعنده رجل تخوفت إن قمت من عنده أن يقع فيَّ
فجلست حتى قام فلما قام ذكرته لإياس قال فجعل ينظر في وجهي ولا يقول لي شيئًا حتى فرغت
فقال لي: أغزوت الديلم؟ قلت: لا، قال: غزوت السند؟ قلت: لا، قال: غزوت الهند؟
قلت: لا، قال: غزوت الروم؟ قلت: لا، قال: تسلمُ منك الديلم والسند والهند والروم
وليس يسلم منك أخوك هذا فلم يعد سفيان إلى ذاك بعد هذا أبدًا"،
وساق ابن عساكر عن سفيان رحمه الله قال: جاء رجل
فقال ما تقول في شتم معاوية؟
فقال: ما عهدك بشتيمة فرعون؟
قال: ما خطر ببالي،
قال: ففرعون أولى بالشتم من أن تقع في معاوية"؟
- وقال رجل لأهب بن منبِّه: إن فلانًا شتمك فقال وهب:
أما وجد الشيطان بريدًا غيرك؟
(ألم يجد الشيطان من يلعب به ويشغله غيرك؟)
وعن محمد بن سلام قال: جاء رجل إلى عمرو بن عُبيد فقال له:
"إن الإسواريّ لم يزل يذكرك أمس في قَصَص
" فقال عمرو بن عبيد: "يا هذا ما رعَيت مجالسة الرجل إنَّ المجالس أمانات
(هذا هو أدب السلف وما أدراك ما أدب السلف)
حيث نقلت إلينا حديثه ولا أديت حقي حين أبلغتي عن أخي ما أكره
أبلغه أن الموت يعمنا والبعث يحشرنا القيامة تجمعنا
والله يحكم بيننا" فينبغي ألا نصغي إلا الوشاة
وألا نكون مُسعّرين للفتن بل نخمد هذه الفتن
الأمر الثاني:
علينا أن نلتمس الأعذار نقبل الاعتذار
ولا نفتح الأبواب لأهل الضلال.
-قال ابن عبد البرّ -رحمه الله- في كتاب "بهجة المجالس
" قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
"لا يحل لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمة يظن بها سوءًا
وهو يجد لها في شيءٍ من الخير مخرجًا"،
أي: حرام أن يقول أحدهم كلمة تحتمل شر أو خير
فتحملها على الشر ولا تحملها على الخير
طالما لها مخرج وتأويل بل التمس الأعذار
- كان ابن سيرين يقول: "يحتمل الرجل أخيه إلى سبعين ذلة"
يخطأ مرة والثانية والثالثة والعاشرة والخمسين والسبعين
فيطلب له المعاذير فإن أعناه ذلك يقول لعل لأخي عذرًا غاب عني"
- وكان عبد الله بن زيد أبو قلابة يقول
: "إذا بلغك من أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر
فإن لم تجد له العذر فقل في نفسك لعل لأخي عذرًا لا أعلمه"
- وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما
يقول: "لو أن رجلًا شتمني في أذني هذه واعتذر في أذني الأخرى لقبلت عذره"،
وساق ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وآداب اللسان
عن عبد الله بن عون بإسنادٍ صححه شيخنا الحويني
قال: "اعتذر رجل عند إبراهيم فقال قد عذرناك غير معتذر (أي لا تحتاج أن تعتذر)
أخاف أن تقع في كذب إن الاعتذار يخالطه الكذب أنا أعذرك بدون أن تعتذر"،
- فلا ينبغي بحال أن يُتَّهم الناس هكذا ينبغي أن نفتح باب الاعتذار
نعم ليس على مصراعيه فلا يدخل في هذا كل من كفر وضلَّ وكذا
ولكن علينا أن يكون هذا الأمر هو الأساس عندنا حسن الظن بالمسلمين
فلا نفتش عن معايب الناس بل نعفو ونتغافل عن ذلات الناس
فالتنقيب عن كل شيءٍ يوقع الناس في الأخطاء والذلات،
وفي حديث أم زرع: قالت إحدى النسوة في صفة زوجها زوجي إن دخل فهد وإن خرج أسد
ولا يسئل عما عهد فكانت تصفه بكثرة التغافل
" هو أسد تمدحه بالشجاعة إذا خرج، ولا يسئل عما عهد
أي: لا يفتش عما رأى في البيت بل يغض الطرف ويتغافل
كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ } [التَّحريم: 3]،
لما لا يكون هذا هو الخلق بيننا؟
فكان الحكماء يقولون "العاقل هو الحكيم المتغافل"،
وقالوا في تعريف المروءة" التغافل عن ذلة الإخوان"،
- وفي كتاب الفروع لابن مفلح حدث رجل للإمام أحمد عن مسألة التغافل
وذكر أن العافية عشرة أجزاء تسع منها في التغافل
فقال الإمام أحمد العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل،
ألا تتبع عثرات الناس
فإن من يطلب إنسانًا بلا عيب فإنه سيبقى بلا صاحب
فلا إنسان بغير عيوب وإنما نحن أهل ستر نتخلق بصفة ربنا تبارك وتعالى،
إن الله حليمٌ حييٌّ ستير يحب الحياء والستر
فينبغي أن نكون كذلك نستر عورة المسلم
لأن" من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة،
من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة"،
" لا يستر عبدٌ عبدٍ في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة "
- هل تعرفون انماعز الذي رجمه النبي -صلى الله عليه وسلم
- في الزنى كان له صاحب يدعى هزَّال، هزَّال هذا لما جاءه ماعز في أول الأمر
وطلب منه النصيحة في أنه وقع في الزنى ويريد أن يتطهر من ذلك
فأرشده إلى أن يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم- وأتى النبي صلى الله عليه وسلم
- "وقال يا رسول الله طهرني، فإذا بالنبي
يقول له: أبك جنون؟ لعلك قبَّلتها؟ لعلك صنعت كذا
وهو في كل مرة يقول: طهرني قال: ما صنعت؟
قال: زنيت وفي ءاخر الأمر رجمه النبي صلى الله عليه وسلم-،
هل تعرفون ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم- لهزَّال صاحب ماعز؟
قال: يا هزَّال لو سترته بثوبك كان خيرًا لك فأمره بالستر"
وقال النبي صلى الله عليه وسلم-: "أقيلوا ذوي الهيئات" (
أهل العلم وأهل الفضل ومن لهم مقام في المجتمع
ينبغي أن نقيل عثراتهم إذا أخطأوا نتلمس لهم الأعذار ولا نجعلها فضائح
ولا نزيع وننشر مثل هذا فهذا يوقع الناس في أخطاء أشد إذا كان فلان يفعل كذا ويخون أنا لن أخون؟
إشاعة السوء عن المؤمنين إيذاءٌ لهم وإضرارٌ بهم
- قال ابن الجوزي: "سمعت الوزير بن هبير يقول لبعض من يأمر بالمعروف
اجتهد أن تستر العصاة،
فإن ظهور معاصيهم عيبٌ فيأهل الإسلام وأولى الأمور ستر العيوب"
- وقال الإمام مالك: "من لم يعرف منه أذىً للناس
وإنما كانت منه ذلة فلا بأس أن يُشفع له"، أخطأ أول الأمر بغير ما يصح أن يؤله به
ينبغي ألا نمسك بالسيوف على أعناق الناس وإنما نستر عوراتهم ونتجاوز عن أخطائهم
فإن البحث عن العيوب يساعد على تهويد ارتكاب الآثام ويشجِّع عليها
"إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم" أو كدت أن تفسدهم"
فعلينا أن نأخذ بوصية الحبيب صلى الله عليه وسلم-
كما في الحديث عن أبي برزة الأسلمي قال النبي صلى الله عليه وسلم-:
"يا معشر من ءامن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبَه
لا تغتاب المسلمين ولا تتبع عوراتهم
فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته
(أي يقيض الله من يتبع عورته فيكشف عيوبه ومساوئه)
ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته"[رواه الترمذي في جامعه]،
- قال ابن رجب كما في جامع العلوم والحكم
قال: "أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب فذكروا عيوب الناس فذكر الناس لهم عيوبًا،
وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوب فكفوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم"،
الحديث حديث له شؤون في الواقع
ونحن نحتاج أن نأخذ بأسباب النجاة من صمت نجا،
من انشغل بعيب نفسه عن عيب غيره فقد رحم،
ومن انشغل بعيب غيره عن عيب نفسه فقد استدرج وقد مُكرَ به
{سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182]،
إن اتباع الريبة وإفساد الظنون في الناس
يجعل الناس يقعون في المحرمات التي لم يصنعوها،
عندما لذلك أحسنوا الظن بالمسلمين لا تتبعوا عوراتهم واستروا عليهم واعفوا عنهم
ومن أجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم
- أن يطرق الرجل أهل ليلًا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم"
ديننا دين ستر ديننا دين ستر وانبساط وسماحة في التعامل.
ثم قال الإمام البخاري: حدثنا محمد بن عبيد الله
قال: حدثنا حاتم بن معاوية بن أبي مزرَّد عن أبيه
قال: سمعت أبو هريرة يقول:
سمع أذناي هاتان وبَصُرَ عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم
- أخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين صلوات الله عليهما
وقدميه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم-
ورسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: "ارقَ"
قال: فرقي الغلام حتى وضع قدميه على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم
- ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: افتح فاك ثم قبَّله
ثم قال: اللهم أحبه فإني أحبه" الحديث
جميل لكنه ضعيف، وذلك يتبين لنا من مدارسة إسناده.
تعرفون طريقة المرجحة التي نفعلها مع الأطفال الصغار النبي صلى الله عليه وسلم
- مسِكَ بيدي الحسن أو الحسين وجعل رجليهما على رجله صلى الله عليه وسلم
- على طريقة المرجحة التي نصنعها مع الصبية ثم قال له اطلع برجليك عليَّ
حتى أنه رقى فوصل إلى صدر النبي صلى الله عليه وسلم-
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم- افتح فاك وقبَّله وتعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم
- كان يصنع ذلك ولما رءاه أحد الصَّحابة وتغيَّر كيف أنه يصنع هذا ويقبِّل الصغار
وقال إني لا أصنعه وقال النبي صلى الله عليه وسلم
- من لا يرحم لا يُرحم وهنا قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم
- الحسن أو الحسين ثم قال: اللهم أحبَّه فإني أحبه،
ونحن نحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم
- من حبنا في النبي آله الَّذين اتبعوه بإحسان ومعلوم
قول الله تبارك وتعالى:قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ [الشورى: 23]،
وهذا الحديث فيه حثٌّ على حبِّ آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم
- وفيه بيان لفضيلة الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنَّة
وفيه رقَّة النبي صلى الله عليه وسلم
- وانبساطه مع آل بيته
من درس الإنبساط إلى الناس - الشيخ هاني حلمي شرح كتاب الأدب المفرد
تعليق