ذكر سيدنا إبراهيم ابو الأنبياء عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في القرآن 69 مرة .. هو أبو الأنبياء وهو أحد الخمسة أولي العزم من الرسل ،،
أثنى الله سبحانه وتعالى عليه في مواطن عديدة في القرآن الكريم .. فقال سبحانه:
{وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]
وقال تعالى:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]
وقال جل في علاه:
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)} [النحل]
و(أمة) معناها: الرجل الجامع للخير والإمام الذي يُقتدى به.
وقد منَّ الله على عبده ونبيه إبراهيم عليه السلام بمقام الخُلة التي هي أرفع مقامات المحبة ،، وذلك لأنه أدى كل الواجبات
التي عليه ووفى بها فأكرمه الله بهذه المنزلة التي لم يحظَ بها بشرٌ سواه ،،
قال تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]
ذكرت في القرآن الكريم قصص كثيرة ومقتطفات جميلة من حياة نبي الله إبراهيم عليه السلام في عدة مواطن مختلفة من سور القرآن الكريم ،،
أقوم بسردها عليكم بإذن الله تعالى حسب الترتيب الزمني لكل قصة .. ولننهل من الفوائد والعبر المنتقاة منها ،، فنحن نعرف أن الله سبحانه وتعالى لم يذكر لنا قصص الأنبياء إلا لحكمة ولعبرة وليس على سبيل الحكاية وفقط
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]
-1-دعـوة إبـراهـيـم لأبـيـه آزر
بعد أن منَّ الله سبحانه وتعالى على إبراهيم بالنبوة .. بدأ عليه السلام كغيره من الأنبياء بدعوة من حوله إلى عبادة الله وحده لا شريك له ،،
وترك عبادة الأصنام ؛ تلك الأوثان التي لا تنفع ولا تضر ،،
وقد بدأ عليه السلام بدعوة أقرب الناس إليه وهو أبوه آزر وقد صرح القرآن الكريم باسم أبي إبراهيم في قول الله تعالى:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} {الأنعام: 74]
وقد ذهب البعض بأنه لم يكن أبوه وإنما كان عمه .. ولكن صريح القرآن يشهد بأنه أبوه في العديد من الآيات
دعا إبراهيم عليه السلام أباه آزر وذلك لقربه منه ولخوفه عليه من الشرك ومن عبادة الأوثان وإشفاقه عليه ورحمته به ،،
فتودد إليه وتلطف في دعوته ،، ودعاه بأسلوبٍ جميل ومنطقٍ سليم ،، وبيَّن له فساد ما يعتقد .. قال تعالى:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم]
أخبر الله سبحانه وتعالى أن إبراهيم كان نبيًا ورسولًا إلى قومه ،، والنبي يصدق الناس في دعوته ويشفق عليهم .. وأولى الناس بذلك هم أولو القربى ..
فبدأ إبراهيم عليه السلام بمخاطبة والده وإيضاح المنهج القويم الذي بُعِث به
ونلاحظ هنا أن إبراهيم استعمل كلمة جميلة رقيقة في مخاطبة والده وهي كلمة (يا أبتِ) وكرر استخدامها عدة مرات في خطابه لوالده ،،
وهي كلمة مرققة تدل على التودد واستمالة العاطفة الأبوية ،، ويُلاحظ أنه عليه السلام كان غاية في الأدب في حواره مع والده
فسأله باستنكار لم يعبد هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ولا تغني عن نفسها شيئًا فكيف تغني عمن يعبدونها .. وقد خاطبه بلغة العقل والمنطق
في هذه الجملة إذ كيف لإنسان عاقل فُضِّلَ على سائر الكائنات بالعقل أن يعبد حجارة لا تتكلم ولا تسمع ولا ترى ولا تملك شيئًا ،،
بل هي من صنع من يعبدها..
ثم يخبره بأنه رسولٌ من رب العالمين أوحى الله إليه النبوة ليدعو الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور قائلًا:
{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43]،،
وأخبره أن الشيطان عدو لله وعدو للإنسان إذ يدعوه إلى الشرك والكفر بالله تعالى
{ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} ]مريم: 44]،،
وظل إبراهيم عليه السلام يدعو والده إلى الإيمان بالتي هي أحسن ويتخير ألفاظه ويقول له إنه يشفق عليه من الكفر
الذي يجعله مستحقًا لعذاب الله وعقابه وألا يتبع خطوات الشيطان الذى عصى الله تعالى من قبل فأبعده الله وغضب عليه وطرده من رحمته؛ فإنك إن اتبعته أصبحت مثله ؛؛
{ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45]،،
إلا أن والده أبى إلا أن يكون من الكافرين واستكبر أن يؤمن لله تعالى وأغلظ لولده القول وعنَّفه وتوعده بالعقاب
إن لم ينتهِ عما يؤمن به بل وأمره أن يهجره طول العمر وأنه لا يريد أن يراه مرة أخرى،، قال تعالى:
{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]
ومع هذا القول الغليظ وهذا التهديد والوعيد رد إبراهيم عليه السلام بقولِ لين وقال له: سلامٌ عليك ..
أي أنني لن أؤذيك بكلامي ولا بفعلي بل سأستفغر الله لك وأدعوه أن يهديك ويمن عليك بالإسلام وترك هذا الشرك ،، وأتبرأ إلى الله من كفركم وأوثانكم وأعبد الله وحده لا شريك له ،، قال تعالى:
{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)} [مريم]
وظل إبراهيم عليه السلام يدعو لوالده ويستغفر له أملًا أن يتوب عن الشرك فلما مات أبوه على الشرك كفَّ إبراهيم عليه السلام عن الاستغفار له
لأنه علم أنه مات مشركًا وأن الله لا يغفر الشرك أبدًا ؛ والشرك أعظم الذنوب يستوجب دخول النار خالدًا مخلدًا فيها ،، قال تعالى:
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]
-2-دعوة إبراهيم لقومه بالحجة
هنا نقف مع موقف آخر من مواقف الدعوة التي قام بها سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه علَّهم يؤمنوا بالله تعالى ..
ففي يوم من الأيام أراد أن يقنع أباه وقومه بخطأ ما يعتقدون وأن يثبت لهم بالحجة البينة أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو المدبر
وهو وحده المستحق للعبادة ولا أحد سواه ،، قال تعالى:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 47]
فهو يستنكر على والده عبادته لأصنام لا تنفع ولا تضر وليس لها من الأمر شيء ؛؛ فهذا فعل السفهاء الذين لا عقل لهم.
وقد منَّ الله سبحانه وتعالى على عبده ونبيه إبراهيم عليه السلام بالتفكر في آيات الله تعالى ليرى ما اشتملت عليه من آيات وبراهين
تدل على وحدانية الله تعالى والظاهرة لكل ذي عينٍ بصيرة.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]
وقد حاول إبراهيم عليه السلام أن يبين لقومه الحق ويثبت لهم وحدانية الله سبحانه وتعالى بشتى الطرق والوسائل ،،
وكانوا يعبدون بجانب الأصنام بعض النجوم والكواكب التي يظنون أنها تنفع وتضر ،،
فلما رأى إبراهيم عليه السلام نجمًا من هذه النجوم ساطعًا في السماء قال لهم: أفترض أن هذا ربي الذي خلقني وأنا أعبده
ولكن بعد قليل أفل هذا النجم أي غرب وغاب عن الأفق ،، فأثبت لهم بذلك أنه لا يمكن أن يكون ربًا
قال تعالى:
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]
وقد فسر البعض هذا النجم على أنه كوكب الزهرة.
ثم لما رأى إبراهيم عليه السلام القمر طالعًا في السماء منيرًا مستديرًا ،، انتهز هذه الفرصة وقال لقومه: سأفترض كما تزعمون أن هذا هو ربي ..
وكالعادة اختفى القمر ..
فأخبرهم بأن الله هو الرب الأعلى وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ،، وإن لم يهدهم الله إلى الطريق السليم فسيظلون في ضلالهم هذا.
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77]
ثم بعد ذلك افترض معهم أن الشمس هي رب الكون لأنها نجم كبير ساطع ولكن مع ذلك جاء المساء وغربت كغيرها من النجوم ،،
وحينئذٍ أثبت لهم أن هذه النجوم كلها لا تصلح أن تكون آلهة تُعبد لأن مصيرها إلى الزوال والأفول،،
لكن الله سبحانه هو الحي الذي لا يموت وهو الذي خلق كل هذه النجوم والكواكب وهو وحده المتصرف فيها .. قال تعالى:
{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(78)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام]
ولكن مع كل تلك الآيات والبراهين الواضحة ،، ومع كل هذه الإثباتات العقلية الجلية ،، ظل قومه على عنادهم وكفرهم ،،
بل وحاجوه في دينه وجادلوه وخوفوه بعقاب آلهتهم المزعومة إن هو كفر بها .. فما كان منه عليه السلام إلا أن أخبرهم أنه موحد لله تعالى
ولا يخاف من هذه الآلهة المزعومة التي لا تضر ولا تنفع لأن النفع والضرر بيد الله تعالى إن أراد أن ينفعه بشيء كان ،
وإن أراد أن يضره بشيء كان أيضًا
قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80]
وجدير بالذكر أن هذا الحوار الذي جرى بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه كان على سبيل المناظرة لا على سبيل النظر ؛؛
بمعنى أن إبراهيم عليه السلام كان يناظر قومه ليصل بهم إلى الحق ولذا كان يتنزل في الحوار معهم (أي إنه يقول: أفترض أن هذا النجم هو ربي ،، فماذا بعد؟) ،،
ولم يكن عليه السلام ناظرًا بمعنى أنه لم يكن يتفكر ويتأمل وبعدها وصل أن هذه النجوم لا تصلح أن تكون آلهة وأن الله هو الرب الواحد،، لا، لا؛ وحاشاه أن يكون كذلك ،،
فهو نبي طاهر صاحب فطرة سليمة هداه الله منذ صغره وزكَّاه الله سبحانه وقال:
..
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51]
تعليق