إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين






    قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين:

    قال - تعالى -: ﴿ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: 3 - 6].

    ونلاحظ أنَّ الله - سبحانه وتعالى - يخاطب الذين استضعَفَهم فرعون، يُصَبِّرهم ويقول: "إننا نريد أن نتفضَّل على الذين استضعفَهم فرعون في الأرض، ونجعلهم قادة في الخير ودُعاةً إليه، ونجعلهم يرثون الأرض بعد هلاك فرعون وقومه"؛ "التفسير الميسر".




    ومباشرة بعد هذه الآيات، والتي صوَّرت ظُلمَ فرعون وجنوده، والوعد الربَّاني بالنصر والتمكين، جاء الحل في الآية التالية: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ [القصص: 7].

    وكأنَّ هذه الآية هي بداية تحقيق الوعد الربَّاني، ولكن كيف؟ فالآيات بعد أن أشارتْ إلى عُلو فرعون وتجبُّره، وإلى حتميَّة التغيير، انتقلتْ إلى جوٍّ مختلف تمامًا، أُم تُرضِع ابنَها، فما العلاقة؟! إن في ذلك إشارة بأنَّ النصر يبدأ بأُمهات تربِّي أطفالها، وتُرضعهم مع الحليب التمسُّكَ بهذا الدين، والثقة بوعْد الله - عزَّ وجل.

    إنها قصَّة مولد جيل جديد، بدأت بأُمٍّ واثقة مِن وعْد الله - تعالى - لها، أُم تربِّي طفلَها على طاعة الله والثقة بنصْر الله، وهنا نرى بشكلٍ واضحٍ أنَّ الحلَّ كان في تربية جيل يحمل هَمَّ الإسلام، وهَمَّ الدعوة إلى الله، جيل واثق من نصْر الله - تعالى - كما أن هذه الآية تسلِّط الضوء وبشكلٍ واضح على دور المرأة، ودور الأسرة في نُصرة هذا الدين.



    قال - تعالى - على لسان سيدنا موسى - عليه السلام -: ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 88 - 92].

    لقد مات فرعون مصر، ولَم تُقبَل توبته، على الرغم من أنه نطَق بكلمة التوحيد، وشَهِد بأنه لا إله إلا الله، وأنه من المسلمين؛ ﴿ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90]، لماذا؟ لأنه ما نطَق بها إلاَّ عندما رأى الهلاك، وعَلِم ذلك وعايَنَه، ويقول العلماء: إنَّ الإيمان إنما ينفعَ إذا لَم يُعاين العبد ولَم يُغَرْغِر؛ لأنه إذا عايَنَ صار من باب الإيمان بالشهادة، وليس من الإيمان بالغيب.

    غرق أمام عيون المصريين وبني إسرائيل، وكانت معجزة شقِّ البحر لَم تَزَل طريَّة في أذهانهم، بل وحَفِظ الله - تعالى - صورة اللحظات الأخيرة لموْته في قرآن يُتْلى إلى يوم القيامة، وأنْجَى الله - تعالى - بدنَه؛ ليراه كل الناس، لماذا؟ لأن فرعون كان يريد الخلود في الدنيا، وليكون عِبرة لكل الطُّغاة من بعده، وعلى الرغم من موْته، ظل أثرُه باقيًا في نفوس بني إسرائيل، فمن الصعب على سنوات الدكتاتورية والقهْر الطويلة والذُّل المكثَّف أن تَمرَّ على نفوس الناس مرَّ الكرام، لقد عوَّد فرعون بني إسرائيل الذلَّ لغير الله، هزَم أرواحَهم، وأفسَدَ فِطرتهم، فعذَّبوا موسى عذابًا شديدًا بالعناد والجهل.


    ملاحظة مهمة:
    لَم يكتفِ القرآن الكريم بفضْح الفرعونية، والإنكار الشديد عليها، وإنما حمَّل المسؤولية كذلك للجماهير الراضخة المستسلمة للاستبداد، فقال - تعالى - عن فرعون: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [الزخرف: 54]، فالظاهرة الفرعونية تتشكَّل من الطاغية من جهة، والأمة المتَّصِفة بالسلبيَّة من جهة ثانية
    [1]
    وقد يبدو للنظر القصير أنَّ مجموعة المحيطين بالمستبد ضحايا له؛ إذ يعانون مِن استبداده، ويتحمَّلونه على مَضَضٍ، وهذا صحيح من جانب واحدٍ، أما الجانب الآخر فهو أنهم شارَكوا في صُنْع هذا المستبد؛ بعضهم شارَك بالأقوال والأفعال التي ضخَّمت ذات المستبد؛ كالمدح والثناء، والتصفيق والتبرير لكلِّ صفات المستبد وأفعاله، والمشاركة في تنفيذ مشروعاته، وبعضهم الآخر شارَك بالصمْت والانكماش؛ مما سمَح لصوت المستبد أن يعلو عمَّن سواه، وسَمَح لذاته أن تتمدَّد في الفراغ الذي انسحَب منه الآخرون كَرْهًا أو طوعًا[2].

    انتهت المرحلة الأولى من مهمة موسى - عليه السلام - وهي تخليص بني إسرائيل من حياة الذلِّ والتعذيب على يد فرعون وجُنده، والسَّيْر بهم إلى الديار المقدَّسة، لكن القوم لَم يكونوا على استعداد للمهمة الكبرى، مهمة الخلافة في الأرض والحُكم بما أنزَل الله، فكان لا بد من رسالة مفصَّلة ومنهج ربَّاني لتربية هذه الأمة وإعدادها لِمَا هم مقبلون عليه، من أجْل هذه الرسالة كانتْ مواعدة الله لعبده موسى ليَلْقاه؛ ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ [الأعراف: 142].



    فتلقَّى موسى - عليه السلام - بُشرى الاصطفاء، مع التوجيه له بالرسالة إلى قوْمه بعد الخلاص؛ قال - تعالى -: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144].

    ثم يبيِّن الله - تعالى - مضمون الرسالة: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145].

    ففيها كل شيء يختصُّ بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته، والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة، وطبيعتها التي أفْسَدَها الذلُّ وطولُ الأَمَد؛ ﴿ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ﴾ [طه: 86].

    سار موسى بقوْمه في اتجاه بيت المقدس، وكانت محتلَّة من قِبَل قومٍ وصَفَهم الله - تعالى - بالجبَّارين؛ أي: أصحاب قوَّة كبيرة في ذلك الزمان، أمَرَ موسى قومه بدخوله؛ لتحريره والقيام بمهمَّة الإصلاح فيه، وتعبيده لله - تعالى -: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 21].



    وها قد جاء امتحانهم الأخير، بعد كل ما وقَع لهم من المعجزات والآيات والخوارق، جاء دورُهم ليقوموا بمهمة الإصلاح، ولكن رفَض قوم موسى دُخول الأراضي المقدَّسة، وحدَّثهم موسى عن نعمة الله عليهم، وكيف جعَل فيهم أنبياءَ، وجعَلهم مُلُوكًا يرثون مُلك فِرْعون؛ ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 20].

    وكان ردُّ قومه عليه كما جاء في قوله - تعالى -: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾ [المائدة: 22].


    ولعلَّنا هنا نشير مرَّة أخرى إلى نفسيَّة قوم موسى، الذين تربَّوا ونشؤوا وسط هوانٍ وذُلٍّ، أُهْدِرت فيهما إنسانيَّتُهم والْتَوَتْ فِطْرتهم.

    وانضمَّ لموسى وهارون اثنان من القوم، تقول كُتب القُدماء: إنهم خرَجوا في ستمائة ألف، لَم يجد موسى من بينهم غيرَ رجلين على استعداد للقتال، وراحَ هذان الرجلان يحاولان إقناعَ القوم بدخول الأرض من أجْل الإصلاح، قالا: إن مجرد دخولهم من الباب سيجعل لهم النصر؛ ﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23].

    ولكنَّ بني إسرائيل جميعًا كانوا يتدثَّرون بالجُبن والسلبيَّة، ويرتعشون في أعماقهم؛ ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ﴾ [المائدة: 24].

    فسَدتْ فِطْرتهم، وانهزموا من الداخل، واعتادوا الذُّلَّ، ومَلأتِ الدنيا قلوبَهم، فلم يعد في استطاعتهم أنْ يكونوا إيجابيين، فما عاد بالإمكان أن تُسَيِّرَهم إلاَّ القوَّة، وإن بَقِي في استطاعتِهم أن يتوقَّحوا على نبي الله وعلى دينه - عزَّ وجلَّ - وقال قوم موسى له كلمتهم الشهيرة: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، هكذا بصراحة وبلا الْتِوَاء.

    أدرَك موسى أن قوْمه ما عادوا يصلحون لشيء، مات الفرعون ولكنَّ آثاره في النفوس باقية، يحتاج شفاؤها لفترة طويلة، "وهذا هو حال الشعوب التي عاشَتْ في ظلِّ القهْر والدكتاتوريَّات، فلم يَعُد مُمكنًا بعد زرْع الذُّلِّ في نفوسهم واعتيادهم عليه، لَم يَعُد ممكنًا أن يُساقوا إلى الخير بسهولة، لقد اعتادوا أن تُسَيِّرهم القوَّة القاهرة لسادتهم القُدامى، ولا بد لسيِّدهم الجديد - وهو الإيمان - من أن يُقاسي الأهوال لتسييرهم".





    ملاحظة مهمة:
    إن من قواعد الحُكم عند "الظاهرة الفرعونية الطاغية": إلغاء عقول الناس واختيارهم الحُر، والتحكُّم في أفكارهم، فإذا قال: الاشتراكيَّة هي وحْدها الحلُّ، يجب أن يعتقد الجميع أن أيَّ حال آخرَ مؤامرة وخيانة ورجعيَّة، وإذا رأى أنَّ النظام الليبرالي هو طوق النجاة، فلا يجوز لأحدٍ أن يرى غير ذلك، ولو كانتْ معه ألف حجة علميَّة، بل لا يحقُّ لأحدٍ أن يختار عقيدة دينيَّة إلاَّ التي يؤمن بها الطاغية، وعلى الشعب أن يكون على عقيدة هذا الطاغية وإنْ لَم ينتمِ.


    ألَم يُنكر فرعون على سَحَرته عندما آمنوا بموسى - عليه السلام - بقوله: ﴿ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾ [طه: 71].

    حتى الإيمان الذي محلُّه القلب، يخضع لإذنٍ فرعوني مُسبق، وفي جو الإرهاب الفكري تموت المواهب، ويأفُل نجمُ الحريَّة، ويسود النِّفاق والتعصُّب القبلي والجاهلي، وينتشر الحسَد والحِقْد بين الناس، ويُؤْتَمن الخائن ويُخوَّن الأمين، وإذا ما أضفْنا إلى ذلك الحروب التي لا تحكمها رؤية ولا هدف، وما تستنزفه من طاقات بشريَّة واقتصادية هائلة، فإنَّ النتيجة الحتميَّة تكون في انتشار الجوع والخوف، والرشوة والفساد الأُسري والأخلاقي، والفكري والإداري والاقتصادي، بل وعلى جميع المستويات، وكم عشْنا هذا في عالَمنا العربي وما زِلْنا نعيشه، على الرغم من أنَّ الله - تعالى - لَم يفرضْ دينَه الحقَّ على أحد، بل قال: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، وقال لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].

    لكن شتَّان بين منهج الله - تعالى - الذي يحمل علامات الصدق في قَسَماته، وبين مناهج أرضيَّة من وضْع البشر، إنها ليستْ مسألة متعلِّقة بفترة تاريخيَّة معينة، ولا بحيِّز من الأرض، ولا بقوْمٍ دون آخرين، إنما هي مجموعة من الخصائص تتجمَّع بالتراكُم في شعب أو شعوب، تنهار نفسيًّا فتفقِدُ الثقة بذاتها، ولا تقْوَى على تفعيل طاقاتها البشرية والمادية، فتخلد إلى إسلام أمْرِها إلى كل مُتسلِّط يفعل بها ما يشاء، بل وقد يَصِل بها الحال أنها لا ترضى بغيْر القوَّة لتحكمهم وتُسَيِّر أمورهم[3].

    عاد موسى إلى ربِّه يُحَدثه أنه لا يَملك إلاَّ نفسه وأخاه، دعا موسى على قوْمه أن يفرِّق الله بينه وبينهم؛ ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 25].

    وبهذه النفسية أصْدَرَ الله - تعالى - حُكْمه على هذا الجيل الذي فسَدَت فِطرته، واستسلَم للسلبية والقعود، كان الحُكم هو التيه أربعين عامًا؛ قال - تعالى -: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 26].

    حكَم الله عليهم بالتيه، وكان الحكم يُحدد أربعين عامًا كاملة، وهنا نسأل: لماذا حدَّد الله الرقْم أربعين؟ حتى يموت هذا الجيل أو يَصِل إلى الشيخوخة، ويولَد بدلاً منه جيلٌ آخرُ، جيل لَم يَهْزمه أحدٌ من الداخل، ويستطيع ساعتها أن يُصلح وأن يَنتصر.



    نحن نخشى أن يكون فينا شباب مثل هذا الجيل - الذي حُكِم عليه بالتيه - المذكور في القرآن!

    وقد مكثَ بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة، حتى فَنِي جيل بأكمله، فَنِي الجيل الخائر المهزوم من الداخل، ووُلِد في ضياع الشتات وقَسوة التيه جيل جديد، جيل لَم يتربَّ وسط مناخ يتصِف بالبُعد عن الله - تعالى - والسلبيَّة في مجال الإصلاح والدعوة، ولَم يشلَّ رُوحَه انعدامُ الحريَّة، جيل لَم ينهزِمْ من الداخل، جيل لَم يَعُد يستطيع الأبناء فيه أن يفهموا لماذا يطوف الآباء هكذا بغير هدفٍ في تيهٍ؛ لا يبدو له أوَّل، ولا تَستبين له نهاية، إلاَّ خشية من لقاء العدو.

    جيل صارَ مستعدًّا لدفْع ثمن آدميَّته وكرامته من دمائه، جيل لا يقول لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24].

    جيل آخر، جيل ليست الدنيا هي كل حياته، وليست الدنيا هي التي تُسَيِّره، جيل لا يسعى وراء الشهوات والمحرَّمات، ومصالِحه الشخصية، بل جيل من الشباب قضيَّته الأولى هي نُصرة الله - تعالى - ونُصرة دينه الإسلام، جيل مساجد وصلاة وقرآن، جيل يَصْلُح لأنْ يفتحَ فلسطين، ويقود عمليَّة الإصلاح، ويقود الأمة الإسلامية من جديد.

    أخيرًا، وُلِد هذا الجيل وسط تيه الأربعين عامًا.



    ولقد قُدِّر لموسى - زيادة في معاناته ورَفْعًا لدرجته عند الله تعالى - ألاَّ تَكتحل عيناه بِمَرأى هذا الجيل، فقد مات موسى - عليه السلام - قبل أن يدخلَ بنو إسرائيل الأرض التي كتَب الله عليهم دخولها، ومات سيدنا هارون أيضًا، وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين كان قومه يؤذونه في الله: ((قد أُوذِي موسى بأكثر من ذلك فصبَر))، وفي هذا دَلالة على أنَّ على المسلم الجاد أن يبذُل ما في وُسعه؛ لبناء نفسه وتربيتها، والأخْذ بجميع الأسباب؛ للإصلاح والمشاركة في نهضة الأمة، وبِناء جيل النصر والتمكين، وليس عليه إدراكُ النتائج؛ ذلك لأن النجاح والنتائج بيد الله - تعالى.




    لحظة التمكين: وهنا ظهر "يوشع بن نون"؛ ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ﴾ [الكهف: 60].

    كان يوشع فتًى تربَّى على يد سيدنا موسى، وكان يحضر دروسَ العلم على يده، وكان طالبَ علْمٍ متميِّزًا، فأصبح اليوم يصلُح لأن يقود بني إسرائيل؛ لتحرير القُدس، وخرَج يوشع مع بني إسرائيل، وحاصروا فلسطين، وحاصروا مدينة القدس، حاصروها 6 أشهر؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن آخر يوم في المعركة كان يوم جمعة)).

    لأن السبت بالنسبة لبني إسرائيل محرَّم، فكان محرَّمًا عليهم العملُ فيه أو القتال، اليوم سينتهي مع غروب الشمس، وكان يوشع ينظر إلى الشمس وهي تبدأ بالغروب، لو أنها غربتْ ستتوقَّف المعركة، وسيحصنون أنفسَهم، ويَضيع كلُّ النصر الذي تحقَّق؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فقال للشمس: إنكِ مأمورة وأنا مأمور، اللهم احْبِسْها علينا..))، ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فحُبِسَتْ، حتى فتَح الله عليه))، قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الشمس لَم تُحْبَس إلاَّ ليوشع بن نون ليالي سارَ إلى بيت المقدس))؛ [4].

    وتحقَّق النصر، وبمجرد دخولهم القدس، غربت الشمس، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء، وسبحان الذي يقول للشيء: كنْ فيكون، ظلوا يعملون أربعين سنة من أجْل أن يُحرِّروا المسجد الأقصى، ولا تأتي المعجزة إلاَّ في آخر ثلث ساعة؟! وذلك النصر الذي لا يأتي إلاَّ لجيل تربَّى على القرآن الكريم، جيل مؤمن مُخْلص لنُصرة الله - تعالى - ونُصرة دينه ونبيِّه، فتتحرَّر بلادنا، ويتحرَّر المسجد الأقصى - بإذن الله.



    إيَّاكم أن تيئسوا، والله سيعزُّ دينه، ونَصْرُه قريبٌ جدًّا، ولا تستغربوا ورسولكم القائل:
    ((حتى الحجر ينطق، ويقول: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعالَ فاقْتُله))؛
    [5].

    ألَم يقلْ هذا رسول الله في حديث صحيح؟! ما الفرق بين معجزة حبْس الشمس ومعجزة نُطْق الحجر؟ تلك المعجزة التي بانتظارنا، فقط علينا أن نأخذَ بالأسباب، فقط علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الله - تعالى - بالعمل على نُصرة الله - عزَّ وجلَّ - ونُصرة دينه الإسلام، والمبادرة بعمليَّة الإصلاح؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن.. ﴾، و"إن" - كما هو معروف - أداة شرطٍ جازمة؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].



    عِبرة مهمة:
    ومن خلال هذه القصة نرى بشكلٍ واضح أنَّ الحلَّ كان في تربية جيل من الشباب، جيل رجال، جيل نافع مؤمن بالله، واثق من نصْر الله - تعالى - ولن يكون هذا إلاَّ عن طريق التعاون معًا؛ آباءً وأُمَّهات، وأولياءَ أمور وأُسَر، وأصدقاء وزُملاء وإخوة، ومُعلمين وتربويين، وأُدباء وكُتَّاب وشعراء، وإعلاميين ورياضيين وعلماء، وأطبَّاء ومهندسين، ومحامين وموظفين، وعُمَّالاً وفلاحين، ومِهَنيين وغيرهم؛ لننتجَ جيلاً مُعَدًّا إعدادًا مميَّزًا للخدمة والإسهام والبناء، وأقل تشبُّثًا بأخطائه وأقل أنانية، جيلاً أكثر انفتاحًا، وأكثر ثقة، وأكثر عطاءً وحبًّا وتلاحُمًا، جيلاً له رؤية نحو صناعة النجاح؛ قال - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].




    المستقبل للإسلام

    قال الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاًّ يذل الله به الكفر"[6].

    وقال : "تكون النبوة فيكم ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون فيكم ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكًا عاضًّا فيظل فيكم ما شاء الله له أن يكون، ثم يرفعه إذا شاء أن يرفعه، ثم يكون ملكًا جبريًّا، فيكون فيكم ما شاء الله له أن يكون ثم يرفعه إذا شاء أن يرفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"[7].

    وملكًا عاضًّا: هو كناية عن شدة الاستمساك بأمر ما، وهو أمر أشبه بالملك الوراثي كما كان عليه الحال في القرون السابقة. وملكًا جبريًّا: أي من الإجبار (القهر والإكراه)، وهو الذي يقوم على التجبر والطغيان، وهو أمر أشبه بالأنظمة الدكتاتورية التي تحكم بالنار والحديد، كما هو الحال في عصرنا هذا.
    وها نحن نرى اليوم بأعيننا -لنعلم علم اليقين- صدق هذا الحديث الشريف من خلال السقوط المتتالي لهذه الأنظمة الدكتاتورية كما حدث في تونس ومصر، وما زلنا ننتظر -انتظار الموقن بنصر الله تعالى- سقوط البقية المتبقية {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

    قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
    فهنيئًا لمن كتبه الله تعالى من الدعاة الإيجابيين السابقين، المساهمين بنهضة الأمة وعزة الإسلام.




    [1] انظر: مقال "الفرعونية: صفاتها ونهايتها"؛ عبدالعزيز كحيل.
    [2] انظر: مقال سيكولوجية الاستبداد؛ د. محمد المهدي.
    [3] انظر: مقال "الفرعونية: صفاتها ونهايتها"؛ عبدالعزيز كحيل.
    [4] أخرجه البخاري.
    [5] أخرجه مسلم.
    [6] رواه تميم الداري، وصححه الألباني.
    [7] رواه أحمد.
    المصدر :
    مأخوذ من مقال جيل النصر والتمكين لـ د/محمد بهجت الحديثي



    التعديل الأخير تم بواسطة عطر الفجر; الساعة 28-12-2014, 12:14 AM.


  • #2
    رد: قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين
    عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    جزاكم الله خيرًا ونفع بكم

    اللهم إن أبي وأمي و عمتي في ذمتك وحبل جوارك، فَقِهِم من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر لهما وارحمهما، فإنك أنت الغفور الرحيم.

    تعليق


    • #3
      رد: قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين


      عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      جزاكم الله خيرًا ونفع بكم



      "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
      وتولني فيمن توليت"

      "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

      تعليق


      • #4
        رد: قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين


        وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
        بارك الله فيكم ونفع بكم وجزاكم كل الخير
        ،
        وكتب أعمالكم في ميزان حسناتكم

        إنّ من جملة الهجر أن يهجر المرء الإعتقاد الفاسد إلى الإعتقاد الصحيح،
        والسلوك الفاسد إلى السلوك الصحيح، والفقه الفاسد إلى الفقه الصحيح،
        يهجُر البدعة إلى السنة، ويهجر المعصية إلى الطاعة.

        الشيخ/ أبو اسحق الحويني ، حفظه الله

        تعليق


        • #5
          رد: قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين

          عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
          بارك الله فيكم ونفع بكم
          رحمك الله يا أمي
          ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق!".الشافعي رحمه الله
          وظني بكـَ لايخيبُ

          تعليق


          • #6
            رد: قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين

            جزاكم الله خيرا اختاه موضوع رائع ودروس مستفادة كثيرة من ايات الله الكريمة

            اسئلكم الدعاء ﻻخي بالشفاء العاجل وان يمده الله بالصحة والعمر الطويل والعمل الصالح

            تعليق


            • #7
              رد: قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين

              جزاكم الله خيراً ونفع بكم
              .

              تعليق


              • #8
                رد: قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين

                جزاكم الله خير الجزاء اختاه

                اسئلكم الدعاء ﻻخي بالشفاء العاجل وان يمده الله بالصحة والعمر الطويل والعمل الصالح

                تعليق


                • #9
                  رد: قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين

                  جزانا الله وإيّاكم جميعًا
                  وبوركتم لمروركم الطيب


                  تعليق


                  • #10
                    رد: قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين

                    1. [*=center]عليكم السلام ورحمة الله وبركاته

                    1. [*=center]
                      [*=center]جزاكم الله خيرًا ونفع بكم

                    اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ



                    تعليق


                    • #11
                      رد: قصة مولد جيل النصر والتَّمْكين

                      عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
                      بارك الله فيكم ونفع بكم
                      وجعل عملكم هذا في موازين حسناتكم

                      تعليق

                      يعمل...
                      X