إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟



    بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
    أما بعد:-
    هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟

    لفضيلة الدكتور / فريد الأنصاري رحمه الله
    المصدر/ موقع الفطرية

    أولًا: نبذة مختصرة عن فضيلة الشيخ رحمه الله:-

    ولد د. فريد الأنصاري بإقليم الرشيدية جنوب شرق المغرب عام 1960
    - حاصل على دكتوراة الدولة في الدراسـات الإسـلامية، تخصص أصول الفقه، من جامعة الحسن الثاني، كلية الآداب، المحمدية (المغرب).
    - حاصل على دبلوم الدراسات العليا، دكتوراة السلك الثالث في الدراسات الإسلامية، تخصص أصول الفقه، من جامعة محمد الخامس، كلية الآداب، *الرباط.
    - حاصل على دبلوم الدراسات الجامعية العليا ( نظام تكوين المكونين )، الماجستير في الدراسات الإسلامية، * تخصص أصول الفقه، من جامعة محمد الخامس، كلية الآداب، الرباط.

    - حاصل على الإجازة في الدراسات الإسلامية من جامعة محمد بن عبد الله، كلية الآداب، * فاس المغرب.
    -عضو المجلس العلمي الأعلى للمغرب.
    - رئيس المجلس العلمي المحلي بمكناس.
    - عضو اللجنة العلمية لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس.

    - عضو مؤسس لمعهد الدراسات المصطلحية، التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد بن عبد الله، بفاس.عضورابطة الأدب الإسلامي العالمية.رئيس سابق لشعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب، جامعة مولاي إسماعيل بمكناس المغرب. لسنوات: 2000-2001م إلى 2002-2003م.
    - أستاذ زائر بدار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا بالرباط لسنتي: 2003-2004م و 2004-2005م.
    - أستاذ بمركز تكوين الأئمة والمرشدات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرباط.رئيس وحدة الدراسات العليا: الاجتهاد المقاصدي: التاريخ والمنهج، بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس.


    - أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس.أستاذ كرسي التفسير بالجامع العتيق لمدينة مكناس.
    - خطيب جمعة وواعظ بعدد جوامع مكناس.
    ولقد كان رحمه الله عضوا في رابطة الأدب الإسلامي العالمية. ومن أعماله الأدبية:
    ديوان القصائد (الدار البيضاء 1992)الوعد (فاس 1997)جداول الروح (بالاشتراك مع الشاعر المغربي عبد الناصر لقاح) مكناس1997ديوان الإشارات الدار البيضاء 1999)كشف المحجوب (رواية) فاس 1999مشاهدات بديع الزمان النورسي (ديوان شعر)فاس 2004آخر الفرسان (رواية)ديوان المقاماتديوان المواجيدمن يحب فرنسا ؟ (شعر مشترك مع الشاعر عبد الناصر لقاح)عودة الفرسان (رواية)قصيدة كيف تلهو وتلعب !

    - توفى رحمه الله عام 2009 بإحدى المستشفيات بتركيا وتم نقل جثمانه إلى المغرب ليدفن بمدينة مكناس
    التعديل الأخير تم بواسطة م/ جيهان; الساعة 05-09-2017, 09:40 PM.

    "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
    وتولني فيمن توليت"

    "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36


  • #2
    رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟



    الرسالة الأولى "في تحديد الوجهة"



    عندما يُضْرَبُ الحِصَارُ على القرآن وأهلِه، وتُغْلَقُ مَدَارِسُهُ ومَحَاضِرُهُ، وتُصَادَرُ ألواحُه وحَنَاجِرُهُ؛ فإن الله - جل جلاله – يبعث له من يتلقى رسالاته من جديد؛ على سبيل التجديد لهذا الدين في النفوس، وتحدي الكيد الشيطاني للدين وأهله! ثم ينشر نوره في الآفاق! ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ!﴾(الصف:8)




    إن المسلمين في كثير من الأقطار يعانون اليومَ أزمةَ غياب التداول الاجتماعي للقرآن الكريم! ومعنى "التداول" ههنا: الانخراط العملي في تصريف آيات الكتاب في السلوك البشري العام، تلاوةً وتزكيةً وتعلماً،
    وتعريض تربة النفس لأمطار القرآن، وفتح حدائقها الْمُشْعِثَةِ لِمَقَارِضِهِ وَمَقَاصِّهِ! حتى يستقيم المجتمع كله على موازين القرآن!








    إن ثمة أزمة منهاجية في التعامل مع القرآن وبياناته النبوية في الصف الإسلامي المعاصر.. إن مشكلتنا أننا نشتغل حول القرآن وليس بالقرآن وفي القرآن! وبينهما فرق كبير كما بيناه في كتاب "الفطرية".
    إن الذي يشتغل بالعمل حول النص الشرعي، معناه أنما هو يتخذه شعاراً فقط، ربما من حيث لا يدري! لأنما هو في الواقع يشتغل بمجموعة من الأفكار المجردة، والآراء الشخصانية، أو الجماعية. ولذلك فإنك تجد عملية تداول القرآن ومكابدته في مثل هذا الصف ضعيفةٌ جِدّاً إن لم تكن منعدمة! لأن التحقق برسالات القرآن، وبحقائق الوحي، ليس مقصوداً لذاته في حركة ذلك العمل. وفي ذلك ما فيه من مَثَالِمَ ومَخَارِمَ!





    أما الاشتغال بالقرآن وفي القرآن، فهو: عمل يتخذ كتابَ الله أساسَ مشروعه، وصُلْبَ عَمَلِهِ ومنهاجِه، تلاوةً وتزكيةً وتَعَلُّماً وتعليماً! إنه دخول في مسلك القرآن، تَلَقِّياً لآياته، وخضوعاً لحركته التربوية في النفس، ومكابدةً لحقائقه الإيمانية،
    واستيعاباً لأحكامه وحِكَمِهِ، في طريق حمل النفس على التحقق بمنازلها والتخلق بأخلاقها! إن السير العملي في ميدان الدعوة والتربية على هذا المنهاج هو عين الالتزام بمنهاج النبوة في إصلاح النفس والمجتمع. إنه تمثل حقيقي بحياة الصحابة الكرام، واتباع للطريقة العلمية الحقة في تجديد الدين، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.







    إن اتخاذ القرآن أساس العمل الدعوي، ليس معناه إلغاء وسائل العمل الإسلامي الاجتهادية، سواء كانت اجتماعية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو إعلامية، أو ثقافية...إلخ. وإنما هذا المنهاج يحكم عليها جميعاً بالانضواء تحت هيمنة القرآن والخضوع لتوجيهه وأولوياته! وكذلك بَنَى محمدr مجتمع الإسلام الأول، تحت عين الوحي وتوجيهه. ودونك سيرته العظمى فانظر!



    إن حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب مهم جداًّ، لكنه لا يمثل بمفرده حقيقة ما نحن فيه! رغم أن تعميم الحفظ والاستظهار لكتاب الله، أو لبعضه، من أهم خطوات السير فيه! إن الحفظ المطلوب في هذا المنهاج إنما هو الحفظ الذي مارسه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا يتلقون خمس آيات أو عشراً، فيدخلون في مكابدة حقائقها الإيمانية ما شاء الله،
    فلا ينتقلون إلى غيرها إلا بعد نجاحهم في ابتلاءاتها! ومن ثم يصير حفظ القرآن بهذا المسلك مشروعَ حياة! وليس مجرد هدف لِسَنَةٍ أو سنتين، أو لبضع سنوات!



    إن الذي لا يكابد منـزلةَ الإخلاص، ولا يجاهد نفسه على حصنها المنيع، ولا يتخلق بمقام توحيد الله في كل شيء رَغَباً ورَهَباً؛ لا يمكن أن يُعْتَبَرَ حافظا لسورة الإخلاص! وإن الذي لا يذوق طعم الأمان عند الدخول في حِمَى "المعوذتين"، لا يكون قد اكتسب سورتي الفلق والناس! ثم إن الذي لا تلتهب مواجيدُه بأشواق التهجد لا يكون من أهل سورة المزمل!

    كما أن الذي لا تحترق نفسه بجمر الدعوة والنذارة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس من المتحققين بسورة المدثر! ثم إن المستظهر لسورة البقرة، إذا لَمْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ لله في كل شيء، ولم يسلك بها إلى ربه، متحققا بأركان الإسلام وأصول الإيمان، متخلقاً بمقام الجهاد في سبيل الله، صابراً في البأساء والضراء وحين البأس، متنـزها عن المحرمات في المطعومات والمشروبات ..إلخ، واضعاً عنقَه تحت رِبْقِ أحكام الشريعة، في دينه ونفسه ومالِه، متحققاً بِخُلُقِ السمع والطاعة لله على كل حال، من غير تردد ولا استدراك؛ لا يكون حافظاً لسورة البقرة! وإنما الحافظ للشيء هو الحافظ لأمانته، المتحقق بحكمته، العامل بمقتضاه، المكابِدُ لما تلقَّى عنه من حقوق الله!





    لقد أجمع العلماء والدعاة على أن هذا الدين - كتاباً وسنةً - مِنْهَاجُ حياة.. وإنه لن يكون كذلك في واقع الناس، أفراداً وجماعات ومؤسسات؛ إلا باتخاذه مَشْرُوعَ حَيَاةٍ، تُفْنَى في سبيله الأعمار! وهذه قضية منهجية أساسٌ لتلقي موازينه الربانية، والتخلق بحقائقه الإيمانية؛ حتى يصبح هو الفضاء المهيمن على حياة المسلم كلِّها دِيناً ودُنْياً.



    إن هذا الهدف العظيم لا يمكن أن يتحقق للإنسان، إلا بعقد العزم على الدخول في مجاهَدات ومكابَدات مستمرة؛ للتحقق بمنازل القرآن ومقاصده التعبدية، من الاعتقاد إلى التشريع، إلى مكارم الأخلاق وأشواق السلوك.. سيراً بمسلك التلقي لحقائق القرآن الإيمانية، والمكابدةِ الجَاهِدَةِ لتكاليفها الشرعية، والسير إلى الله من خلال معراجها العالي الرفيع! ثم تتبع آيات القرآن، من أوله إلى آخره، آيةً آيةً؛ حتى يختم كتاب الله على ذلك المنهاج!



    وإننا لَنَعْلَمُ أن الكمال في هذه الغاية هو مما تفنى دونه الأعمار! ولكن ذلك لا يلغي المقاربة والتسديد! وإن أحق ما توهب له الأعمار كتاب الله! وفي مَثَلٍ بليغ حق بليغ: أن نملة انطلقت في طريقها، عاقدةً عزيمتَها على حج بيت الله من أقصى الأرض! فقيل لها: "كيف تدركين الحج وإنما أنت نملة؟ إنَّكِ ستموتين قَطْعاً قبل الوصول!" قالت: "إذن أموت على تلك الطريق!"..





    وإن القرآن لهو بحق مشروع العمر، وبرنامج العبد في سيره إلى الله حتى يلقى الله! وما كان تنجيم القرآن، وتصريف آياته على مدى ثلاث وعشرين سنةً، إلا خدمةً لهذا المقصد الرباني الحكيم! ولقد استغرقَ القرآنُ عُمْرَ النبي-صلى الله عليه وسلم-، وأعمارَ صحابته الكرام جميعاً، فكان منهم من قضى نحبه قبل تمام نزوله، ومنهم من لم يزل ينتظر، حتى جاهد به على تمامه في الآفاق بَقِيَّةَ عمره، إلى أن توفاه الله! لقد عاشوا بالقرآن وللقرآن، وما بدلوا تبديلاً! فكانوا هم الأحق بلقب: "جيل القرآن"، أو "أمة القرآن!"..



    لقد كان الواحد منهم إذا تلقى الآية، أو الآيتين، أو الثلاث.. يبيت الليالي يكابدها، قائماً بين يدي ربه - عز وجل - متبتلاً! يُلْهِبُ نَفْسَهُ الأمَّارةَ بسياطها، ويبكي ضعفه تجاه حقوقها، وبُعْدَ المسافة بينه وبين مقامها! فلا يزال كذلك مستمرّاً في صِدْقِهِ الصَّافِي ونشيجه الدامي؛ حتى يفتح الله له من بركاتها، ما يرفعه عنده ويزكيه! فإذا كان النَّهَارُ انطلقَ مجاهداً بها نَفْسَهُ، في أمورِ مَعَاشِهِ ومَعَادِهِ، وداعيا بها إلى الله مُعَلِّماً ومُرَبِّياً، أو مقاتلاً عليها عدواً، شاهداً عليه أو مستشهداً!





    ولم يكن ينـزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- من القرآن آيٌ جديد؛ حتى يكون الآيُ السابق قد ارتفعت له في نفوس أصحابه أسوارٌ عالية وحصونٌ، على قَصْدِ بناء عُمْرَانِ الروح العظيم، الذي بِلَبِنَاتِهِ الفردية ارتفع صَرْحُ الأمة وتألَّف! ولم يزل التابعون وأتباعهم على هذا المنهاج القرآني، في التربية والدعوة والجهاد؛ حتى فتح الله لهم الأرض، ومَكَّنَ لهم فيها قروناً!



    إن الدخول الجماعي المؤلَّف من المؤمنين الربانيين، في هذا المشروع القرآني العُمْرِيِّ، هو أساس تجديد الدين، واستنبات جيل الفتح المبين! وإن أغلب فصائل الحركة الإسلامية في شغل شاغل عن هذا المنهاج! ولقد سجلنا في غير ما ورقة وكتابٍ، تشخيصَنا لأزمة العمل الإسلامي المعاصر، وبياناً لانحرافه عن الميزان الشرعي لمسلك الوحي، برنامجاً ومنهاجاً! ومخالفته لمراتب الأولويات الدعوية، كما هي مقررة في الكتاب والسنة!



    إننا في حاجة إلى الدخول في ابتلاءات الآيات القرآنية والكلمات الرحمانية؛ تلقيا لحقائقها الإيمانية، وخضوعاً لعملياتها الجراحية، ومكابدة لهداها المنهاجي؛ حتى يُشَاهِدَ كُلٌّ منا عبوديتَه لله خالصة نقية! ويَشْهَدَ عَبْدِيَّتَهُ له تعالى، على أتم ما يكون الوقوف على باب الخدمة والطاعة!



    إن الأمة اليوم في حاجة ماسة إلى من يُبَلِّغُهَا هذه الرسالات، على سبيل التجديد لدينها، والخروج بها من أزمتها، وتوثيق صلتها بكتاب ربها؛ عسى أن تعود إلى احتلال موقعها، من شهادتها على الناس كل الناس! على منهاج النبوة الحق، ووظائفها الكبرى: تلاوةً للآيات بمنهج التلقي، وتزكيةً للنفوس بمنهج التدبر، وتَعَلُّماً وتعليماً للكتاب والحكمة بمنهج التدارس!
    وإن يقيننا راسخٌ في أن الانخراط العملي الصادق المخلص في هذا المنهاج؛ يجعل الأمة تترقى بمدارج العلم بالله، والتعرف إلى مقامه العظيم؛ ما يجعلها تستأنف حياتها الإسلامية، على وزان جيل القرآن الأول: الصحابة الكرام! وإن ذلك لهو السبيل الأساس لتحرير الأمة من الأهواء والأعداء!


    وإن يقيننا راسخ في أن أول من سيخضع لعمليات هذا المنهاج القرآني، وجراحته العميقة هو حامل رسالاته أولاً! فنور القرآن لا يمتد شعاعه إلى الآخرين؛ إلا باشتعال قلب حامل كلماته، وتوهجه بحقائقه الإيمانية الملتهبة!




    فيا شباب الأمة وأشبالها!



    هذا كتاب الله ينادي!.. وهذه الأمة تستغيث!.. فمن ذا يبادر لحمل الرسالة؟ من ذا يكون في طليعة السفراء الربانيين، الحاملين لرسالات هذا الدين، إلى جموع التائهين والمحتارين هنا وهناك؟.. من يفتح صدره لنور القرآن، فيقدح به أشواقَ العلم بالله والمعرفة به؟ عساه ينال شرفَ الخدمة في صفوف الإغاثة القرآنية، والإنقاذ لملايين الغرقى في مستنقعات الشهوات والشبهات؟
    من يمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يداً غير مرتعشة؛ فيبايعه على أخذ الكتاب بقوة؟ ويقبض على جمر هذا الإرث الدعوي العظيم: رسالات القرآن؟ من يقول: "أنا لها يا رسول الله!" فيقوم بحقها ويَفِي بعهدها؟ ثم ينخرط في مسلك بلاغات الوحي، سيراً على أَثَرِ الأنبياء والصديقين:
    ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا!﴾(الأحزاب: 39).



    فهل من عَبْدٍ – حَقَّ عَبْدٍ لله - يجعل حياتَه وقفاً على دين الله، يتلقى كلمات الله، ويُبَلِّغُ رسالاتِه! عسى أن يتحقق بولاية الله؛ فيفتح الله له، وعلى يديه! ﴿إِنَّ اللهَ بَالِغٌ أَمْرَهُ! قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا!﴾(الطلاق:3)



    ذلك، وإنما الموفَّق من وفقه الله!


    والسلام عليكم ورحمة الله.


    محبكم: فريد الأنصاري.




    "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
    وتولني فيمن توليت"

    "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

    تعليق


    • #3
      رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟

      الرسالة الثانية
      القرآن منهاج الغرباء




      أيها الشباب الْمُتَلَقُّونَ لرسالة القرآن!

      هذه وظيفتكم أختصرها لكم في كلمات:
      إن الانتساب لرسالة القرآن تَلَقِّيّاً وبلاغاً، معناه: الدخول في ابتلاءات القرآن، من منـزلة التحمل إلى منـزلة الأداء!
      إنها تَلَقٍّ صادقٌ لكلمات الله، وتعليمُ القلبِ طريقةَ الاشتعال بلهيبها، والصبر على حَرِّ جمرها؛ حتى يصير مشكاةً بلوريةً تفيض بنور الله..! ثم تعليمُ ذلك للآخرين، بتذويقهم شيئاً فشيئاً لذةَ المعاناة لنور الوحي، ومتعة الحياة بمكابدة القرآن..!



      أيها الأحبةُ الْمَشُوقُونَ بحب الله!..

      إن النورَ طاقةٌ لاهبةٌ، شديدةُ الصعق كالبرق! نعم؛ لكنَّ القلوبَ الْمَشُوقَةَ بوميضه الوهاج حَقّاً، تشتعل به فَتَائِلُهَا اشتعالاً، وتلتهبُ به مصابيحُها التهاباً، ثم لا تحترق!

      أيها الأحبة المكابدون! إن الكلام المجرد لا يكفي لبلاغ رسالات القرآن، بل أَمِدُّوا قلوبَ الآخرين بتيارٍ من شرايينكم المشتعلة! تستضئ أرواحهم كما استضاءت أرواحكم! فتغمر الأنوارُ البلادَ والعباد..!





      أيها الأحبة المكابدون! إن اللغة عاجزة عن وصف النور..! ولكنَّ الوسيلة الوحيدة لوصفه، والتعريف به، إنما هي قَدْحُ زُرِّ كهربائه، وإشعال فتيل مصباحه! وإنما قلوبكم هي مصابيحه، وشرايينكم هي مجرى تياره! فأشعلوا نَارَهُ بقلوبكم، واقْدَحُوا فتيله بنفوسكم! والتهبوا به التهاباً حتى تكتووا بناره، وتجدوا حَرَّ تياره! فإذا صافحتم الناسَ بحقائق القرآن بعدها؛ وجدوا حَرَّ النور في أيديكم، وتلقوا لهيبه من أنفاسكم، ووقعت عليهم كلمات الله من ألسنتكم وقوعَ النيازك المشتعلة! وذاقوا حقيقةَ مكابدة القرآن كما ذقتم..! فآنئذ - وآنئذ فقط - يدرك الناس معنى رسالتكم!



      أيها الأحبة المكابدون! إن حُمَّالَ هذه الحقائق الإيمانية في الأمة اليومَ هم القليل.. وإن الحامل لجمرة واحدة من جمر آية واحدة، يكتوي بلهيبها، ويستهدي بنورها؛ لأنفع لنفسه وللناس – بإذن الله – من مئات الحفاظ للقرآن كاملاً، الذين استظهروه من غير شعور منهم بحرارته، ولا معاناة للهيبه، ولا مشاهدة لجماله وجلاله!



      فلا يحقرن نفسَه صاحبُ الآية والآيتين والثلاث... إذا كان حقا ممن قبض على جمرهن بيد غير مرتشعة! وارتقى بقرائتهن إلى منازل الثريا، نجما ينير شبراً من الأرض في ظلمات هذا العصر العصيب!




      أيها الأحبة المكابدون..!
      يا أيها السالكون إلى الله في زمن الغربة!



      إن قلة السائرين على الطريق لا ينبغي أن تثني عزم الصادقين، ولا أن تثبط المؤمن عن الانخراط الإيماني في حمل رسالات القرآن وبلاغها.. بل ربما كانت القلة أحيانا دليلا على صواب المنهج! قال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾(الواقعة:14)
      وقال عز وجل في حق نوح عليه السلام: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ!﴾(هود: 40) وقال سبحانه في حق موسى: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ!﴾(يونس: 83)

      وقد كان الأنبياء - من قَبْلُ - ليس يتبع الواحدَ منهم إلا الرجل والرجلان والثلاثة، أو النفر القليل! فعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلانِ، وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ!)( رواه مسلم)

      وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأَنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأُمَمِهَا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ وَمَعَهُ الثَّلاَثَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الْعِصَابَةُ، وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ! (رواه أحمد، والحاكم وصححه، وابن حبان، والطبراني في الكبير. وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند، والألباني في الإسراء والمعراج) وكذلك كان بدء دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صار بَعْدُ أكثرَ الأنبياء أتباعاً.





      ولنا اليقين أن القِلَّةَ إذا تحققت بولاية اللهِ صَنَعَ اللهُ بها الأعاجيب! وإن الله تعالى إذا نظر بعين الرضا إلى عبد من عباده، أو إلى ثلة قليلة منهم - ولو كانوا معدودين على رؤوس الأصابع – جعل منهم مفاتيح للخير، شهداء على الناس! وقد نُقِلَ عن الفضيل بن عياض حكمةٌ من أبلغ الحكم فيما نحن فيه! قال رحمه الله: (اِلْزَمْ طُرُقَ الْهُدَى وَلاَ يَضُرُّكَ قِلَّةُ السَّالِكِينَ! وإيَّاكَ وَطُرُقَ الضَّلاَلَةِ، وَلاَ تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ!)(الأذكار للنووي: 160)

      وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه: (وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ! وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ! وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً! وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ! إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ! وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ! وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَاباً لاَ يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِماً وَيَقْظَانَ!)(جزء حديث رواه مسلم، عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم)



      والشاهد عندنا في هذا الحديث: هو نظر الرحمن بعين الرضا إلى تلك البقية القليلة - بل النادرة - من موحدي أهل الكتاب، واستثناؤهم من مقت الله وغضبه! ومعلوم أن بضعة رجال من النصارى الموحدين، ممن بقي على دين عيسى - عليه السلام – من غير تحريف ولا تبديل؛ قد فروا بدينهم - خوفاً من اضطهاد الكنيسة البيزنطية، القائمة على عقيدة التثليث،
      وعبادة الصليب - وتفرغوا لعبادة الله بعيداً في أطراف الجزيرة العربية(لك أن تنظر قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه، وهي بطولها في مسند أحمد، وفيها قوله رضي الله عنه لمعلمه الراهب عندما حضرته الوفاة، وما بقي على الأرض أحد سواه، ممن هو على دين عيسى الحق، فقال له سلمان: (إِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! وَاللهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ! وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ، هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ..) الحديث. رواه أحمد، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة. ).

      فالتفتَ إليهم الرحمن بعنايته ورحمته، وذكرهم بخير في محكم كتابه، قرآناً يُتْلَى إلى يوم القيامة! وفي ذلك ما فيه من التشريف والتكريم! قال جل جلاله: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ!﴾(المائدة: 82-83) وعلى ذلك الوزان جرى ذكر أصحاب الكهف قبلهم، وإنما هم سبعة شبان، في سواد عظيم من الكفار!





      فهل من شباب يستجيبون لنداء الله؟ ويسلكون بمسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيدخلون في ابتلاءات القرآن المجيد؛ تخلقاً بأخلاقه، وتحققاً بمنهاجه، وتلقيا لرسالاته، ثم بلاغها إلى سواد الأمة عبر مجالس القرآن ومدارساته، تدبراً وتفكراً!



      من يبادر إلى إنقاذ نفسه، مع من وفقه الله إلى إصلاحهم من المسلمين؟ فيعود بهم من متاهات الشرود إلى هُدَى القرآن القويم، ويتحلل من شكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِيَ اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا!﴾(الفرقان: 30)


      إن تأسيس "مجالس القرآن"، والسلوك إلى الله عبر مَدَارِجِهَا الربانية، واتخاذها مدارسَ لِتَلَقِّي حقائق الإيمان، وأخلاق القرآن، والترقي بمعارج العلم بالله والمعرفة به؛ لهو المفتاح الرئيس للولوج إلى مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسير على خطاه في تجديد الدين، ومنهاج الدعوة إلى رب العالمين!



      ولعلك تَتَقَالُّ هذا العمل إلى جانب ما ترى في الساحة الإسلامية من كثرة المناهج والبرامج والخطط، والهياكل والأشكال والألقاب، مع غفلة شبه تامة عن موارد القرآن! فتتساءل: أيمكن أن يكون كل هذا العجيج والضجيج على غير صواب في المنهج؟ ولكننا نقول لك كلمة واحدة: إن القرآن وبياناته النبوية في هذا الدين هي كل شيء! نعم هي كل شيء! وإننا نعيش اليوم أزمة خفية في تحديد مفهوم "الدين!" تترتب عنها أزمة أخرى في تحديد مسلكه ومنهاج تجديده!



      ومن قَبْلُ تَقَالَّ رجالٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادتَه لربه، فرغبوا في الزيادة على مقادير سنته؛ فغضب من ذلك، وقال: (مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي!)(متفق عليه.
      ونصه: عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قالَ: (جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا! فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً! وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ!
      وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَداً! فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ! لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي!)
      )
      والعبرة بعموم اللفظ في كل من خالف النبي صلى الله عليه وسلم، وسار على غير منهاجه، في الدين والدعوة جميعاً!






      إن القرآن المجيد مع بياناته النبوية هو كل شيء! وهو - في مسلك الدعوة إلى الله - البرنامج والمنهاج، بما للكلمتين من معنى! فَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَبْشِرُوا! أَبْشِرُوا!.. أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؟" قَالُوا: بَلَى! قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ [أي: حَبْلٌ] طَرَفَهُ بِيَدِ اللهِ، وَطَرَفَهُ بِأَيْدِيكُمْ! فَتَمَسَّكُوا بِهِ! فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلَكُوا بَعْدَهُ أَبَداً!)(رواه الطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شُعَبِهِ، وعبد بن حميد في المنتخب. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وصحيح الترغيب ) والأحاديث الصحيحة في هذا المعنى كثيرة وفيرة! وماذا يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ!)(رواه البخاري)

      إذا لم يكن تعلمَ آياته، وأحكامه، وحِكَمِهِ، وتزكية النفس به، والدعوة إليه وبه؟ على ما هو مقرر في غير ما موطن من كتاب الله، في بيان وظائف النبوة الثلاث: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ!﴾(آل عمران: 164)




      وإن مجلساً ينعقد لهذا الهدف العظيم - بصدق وإخلاص - لهو حلقة من حلقات الصِّديقين! ومشكاةُ نورٍ مستمدةٌ من مصباح سيد المرسلين! مُتَّحِدٌ مع قافلة الربانيين، من أوائل المؤمنين، من عهد نوح – عليه السلام - إلى خُلَّصِ الحواريين، إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من تبعهم من الدعاة المخلصين، رضوان الله عليهم أجمعين! سلسلة واحدة بعضها من بعض!


      فيا شباب الإسلام!



      هذا نداء الله فمن يجيبه؟ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ!﴾(الأنفال: 24) وأي حياة أعظم للنفس وللأمة من حياة القرآن؟ وكيف لا؟
      وقد جعل الله "الرُّوحَ" اسماً من أسماء القرآن! قال جل جلاله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ!﴾(الشورى: 52)

      وقال سبحانه: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ!﴾(النحل: 2) وقال عز وجل: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ!﴾(غافر: 15) وجمهور المفسرين على أن المقصود بلفظ "الروح" في هذه الآيات إنما هو الوحي والقرآن! وكفى بذلك دلالةً على سره الإحيائي العجيب!



      إن نداء الدعوة بالقرآن هو نداء عام في كل مسلم ومسلمة، بمعنى أنه لا يلزم أن يكون الداعية به، أو المنخرط في مدرسته، والعاقد لمجالسه، والمكابد لتكاليفه، من أهل العلم المتخصصين به! رغم أن حضور العلماء في الإشراف على مسيرته الدعوية ضرورة شرعية!
      بل يجوز أن يكون الداعية المنخرط في مدرسة القرآن، مختصا بعلم آخر من العلوم الإنسانية أو الطبيعية، كالهندسة، والطب، والفلك، والرياضيات، أو علوم الأرض والحياة وغيرها.. وربما كان تقنيا في هذا الفن أو ذاك، أو كان تاجراً، أو فلاحاً، أو صاحب صناعة، أو ربما كان ما كان!
      فيكفي أن يحوز على رصيد من العلم بالعربية، يكفيه لفهم خطاب القرآن على الإجمال. وله - بعد ذلك - في كتب التفسير، وفي إرشاد أهل العلم، ما يسدد خطوه في التدرج بمنازل القرآن، والترقي بمعارجه الإيمانية؛ حتى يكون من الْمَهَرَةِ به، تلاوةً وتعبداً وبلاغاً! قال رب الرحمة جل ثناؤه:
      ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ!﴾(القمر: 17، و22، و32، و40).



      وإنما كان المخاطَبون بهذا القرآن في البدء قوماً أميين، لا يكتبون ولا يقرؤون! ولا معرفة لهم حتى بمبادئ العلوم، بَلْهَ تخصصاتها المعقدة! وإنما كانوا على فطرة صافية من اللسان العربي، تلقوا بها كلمات الله؛ فجعلت منهم خير أمة أخرجت للناس! وتلك خاصية هذا القرآن العظيم، وهي مستمرة إلى يوم الدين! قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ!﴾(الجمعة: 2)


      تلك حقيقة القرآن المجيد! فمن يتلقَّى رسالاتها؟ مَنْ يُسْلِمُ نفسَه لله فَيَدْخُلُ في ابتلاءاتها؟ مَنْ ينطلق في الناس ببلاغاتها، ويبادر إلى عقد مجالسها؟ ويجدد عُمْرَانَ روحِه بِلَبِنَاتِهَا وبركاتها؟ من يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بأنوارها وأمطارها؟
      من يجاهد حزبَ الشيطان ببوارقها؟ من يتجرد لها فيكون من أهلها ورجالها؟ ولَعَسَاهُ يكون من أهل الله وخاصته؛ بمكابدة آياتها! وإنما: (أهلُ القرآن هم أهل الله وخاصته*!)( رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2165 )



      فيا عبد الله بحق! هذا زمانك قد أتى! فحتى متى الانتظار؟.. حتى متى؟ وإلى متى..؟

      ذلك، وإنما الموفَّق من وفقه الله!




      خادمكم المحب: فريد الأنصاري.



      التعديل الأخير تم بواسطة روعة القران; الساعة 26-01-2015, 12:59 AM. سبب آخر: اضافة فواصل

      "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
      وتولني فيمن توليت"

      "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

      تعليق


      • #4
        رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟



        الرسالة الثالثة: إِنَّهُ وَحْيٌ.. فَتَعَرَّضُوا لَه!


        سألني بعضُ الْمَشُوقِينَ بنور القرآن قال:


        هذا كتاب الله بين أيدينا، فكيف نقتبس نوره؟ كيف نتلقَّى رسالاته؟ كيف نشعر بوقع كلماته في قلوبنا؟
        كيف نكتشف ذلك النور الذي تتحدث عنه الآيات؟ وكيف نتلقى ذلك الروح الذي تفيض به الكلمات؟
        ماذا نصنع حتى نتفاعل مع القرآن كما تفاعل معه جيل الصحابة الكرام،
        ومَنْ سار على أشواقهم من الصديقين والشهداء والصالحين عبر التاريخ؟
        أوليس هذا القرآن نفسه هو الذي تخرجت به هذه الأمة؟




        قلت: بلى!
        إلا أن المشكلة اليوم هي أننا نقرأ القرآن على أنه مجرد مصحف لا روح فيه! صحيح أننا نؤمن أنه نزل في يوم ما من السماء،
        وأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - تلقاه عن ربه رسالةً إلى العالمين كافة.. تلك عقيدة لا يصح إيمان المسلم إلا بها.
        نعم، ولكن المشكلة هي أن الشعور بهذه الحقيقة العظيمة اليومَ شعورٌ ميت لا حياة فيه! لأننا في الغالب نربطه بالتاريخ الذي كان فقط،
        وكأن الطبيعة التنـزيلية للقرآن شيء كان وانتهى
        ،

        ولا معنى له اليوم في حياتنا المعاصرة! إنه في مخيلتنا العامة أشبه ما يكون بحجر أو نَيْزَكٍ سقط يوما ما من نجمٍ مُذَنَّبٍ عابر في السماء، فكان أولَّ سقوطه حاميا ملتهبا! لكنه لم يزل يبرد شيئا فشيئا حتى خَفَتَ، ثم انطفأت جمرته فصار حجراً كأي حجر!
        وأقصى ما ينتبه إليه الناس اليوم هو أنه حجر له قصة،
        وهي: أنه نزل في يوم ما من السماء..

        وهنا ينتهي الأمر! فإذا فزعنا إلى التفاسير والدراسات القرآنية؛ وجدناها في الغالب تحاول تحليل طبيعته على المستوى الشكلي، فتدرس المكونات اللغوية والبلاغية والطبقات الدلالية لهذه الآية أو تلك، وكأنها مجرد معاجم للمعاني ليس إلا! تماما كما يدرس الجيولوجيون
        مكونات الحجر المعدنية، وطبيعتها، وتاريخها، ومستويات بريقها واختلاف ألوانها وأحجامها.. إلخ.
        هكذا نتعامل مع القرآن في كثير من الأحيان.
        إن ذلك كله شيء مهم.. ولكنه لا يرتقي بالتعامل مع كتاب الله من مستوى "المصحفية" إلى مستوى "القرآنية"!



        إن أهم فصل في تعريف القرآن المجيد هو أنه: "كلام الله رب العالمين!"
        وما كان لكلام الحي الذي لا يموت أن يبلى أو يموت! ولكن الذي يموت هو شعورنا نحن! والذي يبلى هو إيماننا نحن!
        أما الوحي فهو عين الحياة!
        وحقيقة "الوحي" هي أول صفة يجب أن نتلقى بها القرآن الكريم، وهي أهم جوهر يجب أن ننظر من خلاله إلى كلماته؛
        بما هي كلمات الله رب العالمين!
        ذلك أن كلام الله لا يتنـزل على الرسل إلا وحيا..
        قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ
        إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)
        (الشورى: 51).

        وهذا شيء مهم جدّاً! فكون القرآن "وَحْياً" هو المعراج الرئيس الذي به يرتقي القارئ له إلى سماء القرآنية!
        إنه المصطلح المفتاح الذي به يكتشف طبيعة القرآن، ويبصر نوره، ويتلقى حقائقه الإيمانية ورسالاته الربانية،
        ويشاهد شلالات الجمال والجلال، حية متدفقة من منابع القرآن!

        إن كون القرآن "وَحْياً" ليس معنى تاريخيا فحسب؛ بل هو معنى مصاحب لطبيعته أبداً! بمعنى أن صلة القرآن بالسماء هي صلة أبدية..!
        إن المشكلة هي أننا عندما نقرأ القرآن نربط الوحي فيه بذلك الماضي الذي كان! بينما الوحي نور حاضرٌ، وروح حي،
        يتدفق الآن في كل آيات القرآن، وينبع من تحت كل كلماته، شلالاتٍ من كوثر ثَجَّاجٍ!

        لقد قُبِضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فانقطع الوحي التاريخي، أي انقطع فعل التنـزيل الذي كان في الزمان والمكان،
        بواسطة الملاك جبريل عليه السلام. ولكن بقي الوحي القرآني، أو الوحي/القرآن! والوحي هنا صفة اسمية من أسماء القرآن المجيد،
        قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ!)(الأنبياء: 45) وقال سبحانه: (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(النجم: 4).
        وقد قال أبو بكر لزيد بن ثابت رضي الله عنه: (إِنَّكَ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
        الْوَحْيَ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ!)
        (1) وإنما سمي القرآن "وَحْياً" لأنه نزل كذلك،
        قال تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)(الأنعام: 19).

        فالوحي – كما ترى - له دلالتان: الوحي الحَدَثُ، أي النـزول الخفي من السماء، وهو سبب النبوة، وهو الذي انقطع.
        والوحي الصفة، وهو لا ينقطع أبداً.
        وعليه سمي هذا القرآن المجيد "وَحْياً". فالمعنى الأول مصدري، أي أنه مصدر لفعل "وَحَى، يَحِي وَحْياً" ويقال "أوحى"
        أيضا كما هو في القرآن الكريم. وأما المعنى الثاني فهو "الوحي" بالمعنى الاسمي لا المصدري،

        أي بما هو اسم من أسماء القرآن، وصفة من صفاته الجوهرية الثابتة. وهو معنى متولد من المعنى الأول؛ فلأن القرآن نزل وحيا من الله؛
        صارت له تلك الصفة فسُمي: "وَحْياً"، وأصبح هذا اللفظ اسماً عَلَماً على كتاب الله تعالى. فلك أنت تقول: القرآن هو الوحي،
        والوحي هو القرآن. والآيات المذكورة قبلُ دالة على هذا.

        قال الإمام الطبري رحمه الله: (أما "الوَحْيُ"، فهو: الواقع من الْمُوحِي إلى الْمُوحَى إليه، ولذلك سَمَّتِ العربُ الْخَطَّ والكِتَابَ "وَحْياً"؛
        لأنه واقعٌ فيما كُتِبَ، ثَابِتٌ فيه.)(2)
        وعلى هذا جرت معاجم اللغة. قال صاحب الصحاح: (الْوَحْيُ: الكتابُ، وجمعه وُحِيٌّ.
        والوَحْيُ أيضاً: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفيُّ، وكلُّ ما ألقيته إلى غيرك.
        يقال: وَحَيْتُ إليه الكلامَ وأوْحَيْتُ، وهو: أن تكلِّمه بكلامٍ تخفيه.)(3)
        وفي اللسان: (والوَحْيُ: المكتوبُ، والكِتَابُ أَيضاً. وعلى ذلك جمعوا فقالوا: وُحِيٌّ، مِثْلُ حَلْيٍ وحُلِيٍّ.)(4)

        وقد يقول قائل هذه حقائق بَدَهِيَّةٌ فَلِمَ العَنَاءُ؟ أقول: نعم؛ ولكننا ننساها فنضل الطريق إلى القرآن!..
        وإنما مشكلة أجيالنا المعاصرة أنها أضاعت بَدَهِيَّاتِهَا! حتى صرنا في حاجة إلى إعادة تقرير معنى "الدين" نفسه!(5)
        نعم! إن تَلَقِّي القرآن بوصفه "وَحْياً" هو المفتاح الأساس لاكتشاف كنوزه الروحية، والتخلق بحقائقه الإيمانية العظمى!

        النور.. تلك هي طبيعة الوحي وصِبْغَتُهُ، وصفته الثابتة للقرآن، حقيقة جوهرية لا تنفك عنه.. والنور روحٌ،
        لكنه روحٌ يسري في كلمات القرآن بخفاء، وإنما المؤمنون وحدهم يبصرون جداوله الرقراقة، وهي تتدفق بالجمال والجلال!



        ولكن كيف يكون هذا؟

        لنعد إلى مثال النجم المذنَّب!.. إن ذلك النَّيْزَكَ الناري الواقع من السماء إلى الأرض، ما يزال يحتفظ بأسرار العالم الخارجي الذي قَدِمَ منه!
        إنه فِهْرِسْتٌ مكنون، لو تدبرته لوجدته يكتنـز خريطةَ الكون كله! ويحتفظ من الأسرار ما عجزت عن إدراكه أحدث مراصد الفلك،
        وأعقد معادلات الرياضيات، وأحدث نظريات الفيزياء!.. إنه لم يفقد حرارته ولا طاقته قط!
        وإنما حُجِبَ لهيبُه رحمةً بالناس، وتيسيراً لهم، وتشجيعا للسائرين في الظلمات على حمل قنديله الوهاج،
        والقبض عليه بأصابع غير مرتعشة، بل على احتضانه وضمه إلى القلب، نوراً متوهجاً بين الجوانح!

        إن مَثَلَ القرآن ومَثَلَ الناس في هذا الزمان، هو كثلاثة مسافرين تَاهُوا في الصحراء بليل مظلم! صحارى وظلمات لا أول لها ولا آخر..!
        فبينما هم كذلك إذ شاهدوا في السماء نجماً مُذَنَّباً لاَهِباً، لم يزل يخرق ظلمات الأفق بنوره العظيم، حتى ارتطم بالأرض!
        فافترقوا ثلاثتهم إزاءه على ثلاثة مواقف:

        فأما أحدهما فلم يُعِرْ لتلك الظاهرة اهتماماً، بل رآها مجرد حركة من حركات الطبيعة العشوائية! وأما الآخران
        فقد هرعا إلى موقع النَّيْزَكِ فالتقطا أحجارة المتناثرة هنا وهناك.. وكانا في تعاملهما مع تلك الأحجار الكريمة على مذهبين:

        فأما أحدهما فقد أُعْجِبَ بالحجر؛ لِمَا وجد فيه من جمال وألوان ذات بريق، وقال في نفسه:
        لعله يستأنس به في وحشة هذه الطريق المظلمة، ثم دسه في جرابه وانتهى الأمر!

        وأما الآخر فقد انبهر كصديقه بجمال الحجر الغريب! وجعل يقلبه في يده، ويقول في نفسه: لا بد أن يكون هذا المعدن النفيس القادم من عالم الغيب يحمل سِرّاً! لا يجوز أن يكون وقوعه على الأرض بهذه الصورة الرهيبة عبثاً! كلاَّ كلاَّ! لا بد أن في الأمر حكمةً ما! ثم جعل يفرك حجراً منه بحجر، حتى تطاير من بين معادنه الشَّرَر..! وانبهر الرجل لذلك؛ فازداد فركاً للحجر، فازداد بذلك تَوَهُّجُ الشَّرَرِ..
        وجعلت حرارة معدنه تشتد شيئاً فشيئاً؛ حتى وجد ألم ذلك بين كفيه! بل جعلت الحرارة الشديدة تسري بكل أطراف جسمه، وجعل الألم يعتصر قلبَه، ويرفع من وتيرة نبضه..! لكنه صبر وصابر، فقد كان قلبه - رغم الإحساس بالألم والمعاناة - يشعر بسعادة
        غامرة، ولذة روحية لا توصف!.. وما هي إلا لحظات حتى تحول الحجر الكريم بين يديه إلى مشكاة من نور عظيم!

        ثم امتد النور منها إلى ذاته، حتى صار كل جسمه سَبِيكَةً من نور، وكأنه ثريا حطت سُرُجَهَا ومصابيحَها على الأرض! وجعل شعاع النور يفيض من قلبه الملتهب فيعلو في الفضاء، ويعلو، ثم يعلو، حتى اتصل بالسماء!..

        كان الرجل يتتبع ببصره المبهور حبل النور المتصاعد من ذاته نحو السماء، حتى إذا اتصل بالأفق الأعلى تراءت له خارطة الطريق في الصحراء! واضحة جلية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك! ووقع في قلبه من الفرح الشديد
        ما جعله يصرخ وينادي صاحبيه معاً: أخويَّ العزيزين!.. هَلُمَّا إِليَّ!.. إِليَّ! لقد وجدت خارطة الطريق!.. لقد من الله علينا بالفرج..! أخويَّ العزيزين!.. اُنْظُرَا اُنْظُرَا!.. هذا مسلك الخروج من الظلمات إلى النور! شَاهِدُوا شُعَاعَ النورِ المتدفق من السماء..
        إنه يشير بوضوح إلى قبلة النجاة!.. فالنجاةَ النجاةَ!

        أما الذي احتفظ بقطعة من الحجر في جرابه فلم يتردد في اتباع صاحبه والاقتداء بهديه؛ لأنه كان يؤمن بأن لهذا المعدن الكريم سِراًّ!
        ولقد أبصر شعاعه ببصيرة صاحبه، لا ببصيرة نفسه!

        وأما الأول الذي لم ير في النجم الواقع على الأرض شيئا ذا بال؛ فإنه رغم نداء صاحبه له لم يبصر شيئاً
        من أمر الشعاع المتدفق بالهدى! لقد كان محجوبا باعتقاده الفاسد، فلم تَعْكِسْ مِرْآةُ قلبِه الصَّدِئَةُ نوراً! ولذلك لم يصدق من
        نداء صاحب النور شيئاً من كلامه، بل اتهمه بالجنون والهذيان! ومضى وحده يخبط في الصحراء، ضارباً في تيه الظلمات!
        (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ!)(النور: 40)

        ثم انطلق الرجلان المهتديان يسيران في طريق النور.. وإنما هما تابع ومتبوع، فالمتبوع داعية يرى بنور الله.. ويسير على بصيرة من ربه؛
        بما كابد من نار الحجر وشاهد من نوره! والثاني مؤمن بالنور مصدق بدعوة صاحبه، يسير على خطاه وهديه..
        ولكنه يكابد في سيره عثرات من حين لآخر وهَنَاتٍ؛ وذلك بسبب ما يلقي إليه الشيطان من وساوس ومخاوف!
        وليس لديه ما يدفع به كيد الشيطان إلا ما يتلقى عن صاحبه!


        وبينما هما كذلك يسيران مطمئنين في طريقهما، إذْ سأل الرجلُ التابعُ صاحبَه المتبوع فقال:
        أناشدك الله أن تخبرني كيف اكتشفت سر النور في هذا الحجر الكريم!

        لكن صاحب النور وجد أن اللغة عاجزة عن بيان حقيقة النور لصاحبه، فما كان منه إلا أن دس قطعة من
        الحجر الذي كان بين يديه في كف السائل؛ فصرخ الرجل من شدة حر الحجر الكريم والتهابه! وجعل يقلبه بين يديه ثم ألقاه بسرعة في كفه صاحبه! لكن صاحب النور قبض عليه بيد ثابتة مطمئنة! فعجب منه رفيقه وقال: إنما أنت قابض على الجمر!

        قال: نعم، هو كذلك! إنه القبض على الجمر! لكن لذة الروح بما يشاهد القلب من نور، وبما يجد من سعادة غامرة؛
        ترفع عن الجسد الشعور بالألم، وتمنع حدوث الاحتراق! وإن نار الشوق والإيمان لهي أقوى ألف مرة ومرة من نار الكفر والفسوق والعصيان!
        ولو وقعت الأولى على الثانية؛ لجعلتها سلاماً وأماناً على قلب العبد المؤمن!
        (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ! قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ! وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ!)
        (الأنبياء: 68- 70)

        نعم يا رفيقي في طريق النور! إن مكابدة القرآن في زمان الفتن، والصبر على جمره اللاَّهِبِ في ظلمات المحن؛ تلقيّاً، وتزكيةً، وتدارساً،
        وسيراً به إلى الله في خلوات الليل؛ هو وحده الكفيل بإشعال مشكاته، واكتشاف أسرار وحيه، والارتواء من جداول روحه،
        والتطهر بشلال نوره.. النور المتدفق بالحياة على قلوب المحبين، فيضاً ربانيا نازلاً من هناك، من عند الرحمن، الملك الكريم الوهاب!



        فتدبر يا صاح هذا المشهد القرآني الجليل! في بيان حقيقة تَلَقِّي محمد - صلى الله عليه وسلم -
        للوحي عن الملَك العظيم جبريل عليه السلام، حيث تلقَّى عنه ما تلقَّى من قرآن كريم، وحياً من الله رب العرش العظيم،
        وشاهدَ ما شاهدَ خِلاَلَ ذلك من حقائق إيمانية، ومنازل روحانية، ضاربة في عمق الغيب الأعلى!
        (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى* وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى*
        مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى*
        إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى.)(النجم: 1- 18
        )

        ذلك هو القرآن الوحي! إنه حجر كريم، بل إنه نجم عظيم وقع على الأرض! ولم يزل معدنه النفيس يشتعل بين يدي كل من فركه بقلبه،
        وكابده بروحه، تخلقاً وتحققاً! حتى يرتفع شعاعُه عاليا، عاليا في السماء، دالا على مصدره وأصله،
        هناك بموقعه الأعلى في مقام اللوح المحفوظ! ومشيراً مِنْ عَلُ ببرقه العظيم إلى باب الخروج..! فهنيئاً لمن تمسك بحبله،
        واتصل قلبُه بتياره، وتزود من رقراق أسراره، ثم مشى على الأرض في أمان أنواره!

        نعم! ذلك هو القرآن الوحي، الذي يصل قارئَه وَحْياً بملأ السماء مباشرةً.. من أول كلمة يقرؤها! فإذا به يطل على عالم الشهادة من شرفات عالم الغيب! بصائر قرآنية واضحة ومشاهدات، لا يضام في حقائقها شيئاً! بصائر ومشاهدات لا تلبيس فيها ولا تدليس،
        ولا خرافة ولا تخرصات! وإنما هو نور الفرقان! قال جل جلاله: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا
        وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ!
        )(الأنعام: 104)
        وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ!)(الأنفال: 29)

        نعم! ذلك هو القرآن الوحي!.. فمن يفرك جمره؟ ومن يقتبس من حر آياته نورَه؟ فعسى أن يترقى في معراجه إلى مقام الروح الأعلى! وعساه يكون بذلك من المبصرين؛ فيشاهد خارطة الطريق..!

        أيها القابضون على الجمر..!
        أيها المراقبون لنيزك السماء..!
        إنه وَحْيٌ.. فَتَعَرَّضُوا لَهُ!
        (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ!)(آل عمران: 200).

        ذلك، وإنما الموفَّق من وفقه الله..!
        محبكم: فريد الأنصاري
        ـــــــــانتهى.____________

        هوامش:
        (1) رواه البخاري.
        (2) عند تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ..) (آل عمران: 44).
        (3) الصحاح: مادة "وحي".
        (4) لسان العرب: مادة "وحي".
        (5) ن. تقرير مفهوم "الدين" في كتاب الفطرية: 96.
        (6) متفق عليه.
        (7) رواه مسلم.
        (8) رواه مسلم.
        (9) لسان العرب: مادة "وحي".
        (10) لسان العرب: مادة "وحى". وتمام الآية المذكورة في النص:
        (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا
        وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ!)( الأنعام: 112).
        ــــــــــــانتهى.


        "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
        وتولني فيمن توليت"

        "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

        تعليق


        • #5
          رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟

          موضوع قيم ، جزاكِ الله خيرا و نفع بكِ
          اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون.

          الداعية مهمته الأساسية أن يربح نفسه أولا.. ويحسن إلى نفسه أولا
          بقية المقال هنا

          تعليق


          • #6
            رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟

            عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
            جزاكم الله الفردوس الأعلى
            وجعل عملكم في ميزان حسناتكم
            ونفعنا الله بما نقلكم الطيب، آمين


            تعليق


            • #7
              رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟

              عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
              جزاكم الله خيرًا ورفع قدركم

              اللهم إن أبي وأمي و عمتي في ذمتك وحبل جوارك، فَقِهِم من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر لهما وارحمهما، فإنك أنت الغفور الرحيم.

              تعليق


              • #8
                رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟


                حول مفهوم التدبر

                أولا: لا بد من بيان أن التدبر هو غير التفسير!
                هذا أمر مهم جدا! ونحن نعلم أن بعض العلماء المعاصرين قد استعملهما على سبيل الترادف. وهو غير صحيح!

                فالتفسير بيان وشرح للمعنى، بينما التدبر اتعاظ بالمعنى واعتبار به وتذكر! وبينهما فرق كبير..!
                إن التفسير من الفَسْرِ، وهو: الكشف والبيان. ولذلك سمي بيان كتاب الله تفسيراً؛ لأنه يكشف اللثام عن معانيه اللغوية والسياقية والشرعية، باستعمال قواعد التفسير المعروفة عند أهله. وهذا هو علم التفسير.



                وقد كنا – مع بعض إخواننا - نتدارس كتاب الشيخ العلامة عبد الرحمن حبنكة الميداني رحمه الله: (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل)؛ فوجدنا أنما هو كتاب في قواعد التفسير! وهو كتاب من العمق والدقة بمكان! لكنه لا تدبر فيه بالمعنى القرآني للكلمة! وإنما هو قواعد منهجية تضبط عمل المفسر لكتاب الله.




                أما التدبر - من التفعل – فهو: النظر إلى دُبُرِ الشيء، أي التأمل في دَوَابِرِ الأمور المتوقعة، بمعنى النظر إلى عاقبتها، وما يمكن أن تؤول إليه.
                كما يدخل فيه النظر في دوابر الأمور الواقعة من قبل؛ لمعرفة أسبابها ومقدماتها. وهذا لا يوجد في كتب التفسير إلا نادراً. لأنه - في الغالب -
                عمل قلبي شخصي، ونظر نفسي لا ينوب فيه أحد عن أحد. وهل يستطيع أحد أن ينوب عن غيره في الخوف والرجاء، أو في الكسل والنشاط؟
                هذا ممتنع عقلاً وطبعاً وشرعاً! اللهم إلا ما تعلق بربط الأسباب بمسبباتها – على المستوى الخارجي - وما كان في معناه.




                - ثانيا: إن التدبر هو مرحلة ما بعد التفسير..!

                أي ما بعد الفهم للآية. لكن الفهم المطلوب لتحصيل التدبر إنما هو الفهم الكلي العام، أو بعبارة أخرى: الفهم البسيط.
                ولا يشترط في ذلك تحقيق أقوال المفسرين والغوص في دقائق كتب التفسير! وإلا صار القرآن موجها إلى طائفة محصورة فقط! ومن ثم يمكن لأي شخص
                أن يتدبر القرآن بعد التحقق من المعنى المشهور للآية، يقرؤها من أي تفسير أو يسمعها.


                إن التدبر حركة نفسية باطنية! تنظر إلى صيرورة النفس في الزمان والمكان، بالنسبة إلى احتمالين: الأول احتمال متابعة القرآن والاستسلام لأحكامه وحكمه. والثاني: عكسه، وهو النكوص والتمرد والجحود والعصيان! ففي كلا الأمرين ينظر المتأمل إلى مآل الحال المحتمل! ذلك هو التدبر! ولذلك كان التدبر لغة – كما ذكرنا - نظراً إلى أدبار الحوادث ونتائجها، وربطا للأسباب بمسبباتها،
                فيما وقع وفيما يحتمل أن يقع، على المستوى النفسي والاجتماعي. في الخير والشر سواء! إنه إذن ضرب من المحاسبة للنفس في ضوء القرآن، والمراقبة لأحولها، في صيرورتها الذاتية والاجتماعية.


                إن التدبر إذن هو نظر في الآية باعتبارها مبصاراً، يكشف عن أمراض النفس وعللها، ويقوم في الوقت نفسه بتهذيبها وتشذيبها.
                أي بتزكيتها وتربيتها.

                ومن ثم فإنه يكفي المتدبر للقرآن أن يعلم المعنى العام للآية أو السورة، مما أُثِرَ عن جمهور السلف؛ ليدخل في مسلك التدبر.




                ولا شك أن علم العالم وخبرة المفسر تعطيه فرصةً أكبر بكثير؛ لتعميق التدبر في الآيات، والوصول بها إلى أرقى منازل الإيمان!
                ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن غير المختصين بالتفسير، أو حتى العوام محجوبون من التدبر!
                إن غير العالم لن يعجز عن تدبر آية "الحمد لله رب العالمين" مثلا، والنظر في مآلات فعل الحمد في نفسه وفي المجتمع – على قدر طاقته طبعاً - وكذا مآلات نقيضه من النكران والجحود كيف يكون؟


                وإن غير العالم إذا فسرتَ له أن "الفَلَقَ" هو الفجر؛ أمكنه آنئذ أن يتدبر قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾(الفلق: 1-2) وكذلك إذا علم أن "الْجُدَدَ" هي: الطرق والمسالك الجبلية، وأن "الغَرَابِيبَ" هي: الصخور السوداء؛ أمكنه أن ينطلق في آفاق تدبر قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾(فاطر: 27).
                ولقد تعمدت أن أمثل بهذه الكلمات القرآنية الغريبة إلى حد ما، وإلا فجمهور المعجم القرآني
                من الميسور المعلوم، بل إن كثيراً منه متداول في اللهجات العامية العربية!


                ولم لا يتدبر؟
                أليس يرى القارئ للآية المذكورة مثلا، مشهدَ نزول الماء من السماء؟ أليس يرى بعينيه آثار الغيث كلَّ ربيع في الروابي، والجنات، والبساتين، وأشكال الفاكهة والثمار، والجداول، والأنهار، والأطيار، بل في الحياة كلها؟ أليس ينظر إلى الجبال الشاهقة
                المنتصبة بهيئتها العظيمة بين يديه؟ أليس يرى مسالكها من بعيد تتلوى حولها خطوطاً حمراء وبيضاء على حسب لون الصخور
                والتربة الناسجة لها؟ أليس يعجب من مشهد الحجارة الصماء السوداء، الراسية على قمم هذه الجبال أو تلك؟



                فكل من أبصر عظمة الخالق في عظمة المخلوق، واتخذ آثار الصنعة مسلكا يسير به إلى معرفة الله فهو متدبر وهو متفكر!
                وهذا أمر ليس حكراً على المفسرين ولا على الجيولوجيين، وإن كان لهؤلاء وأولئك من العلم ما يجعلهم يتفوقون ويسبقون به غيرهم، إذا أخلصوا النظر لله! نعم، ولكن الله قد أتاح لكل ذي عينين، وأذنين، وقلب حي، أن يسلك إلى ربه عبر ما يسر الله له من التدبر والتفكر..
                ولربما سبق القنفذُ الفرس! وإنما ذلك على حسب صفاء القلب وإخلاص السير!




                وإنني لأنسى كثيراً، لكنني ما نسيت قط حَدَّاداً شابا في قريتي الصغيرة بجنوب المغرب، أواخرَ السبعينات وبداية الثمانينات
                من القرن الميلادي الماضي.. وكانت الشيوعية آنئذ تنتشر في المغرب انتشار النار في الهشيم! وقد كان دعاتها عندنا من بعض رجال التعليم وطلبة الجامعات، مع الأسف! وكان أحدهم يجلس إلى ذلك الحداد البسيط يعلمه "حقوق العمال" و"ديكتاتورية البروليتاريا!"

                وكأن مطرقته الثقيلة، وما كان يصنعه للفلاحين الصغار من مناجلَ ومَزَابِرَ ومِحَشَّاتٍ، كانت تذكره بشعار الشيوعية الشهير: "المطرقة والمنجل"! فطمع الأحمق أن يضمه إلى صفوف الشيوعيين! حتى إنه سار معه بعيداً فجعل يشرح له عقيدة الإلحاد، وكيف أن "الدين أفيون الشعوب" على حد تعبير كارل ماركس! وكنتُ أنا أيضا وأصحابي نجلس إلى هذا الحداد، فيحدثنا بحديث الشيوعي، ثم نتداول الكلام..
                وإنني لا أنسى يوما إذ أخرج من التنور حديدةً مُجَمَّرَةً، قد احْمَرَّ نصلها من النار حتى إنها لتكاد تذوب! ثم انهال عليها بالدق والطرق بقوة، وهو يقول دون أن يرفع رأسه: "يا أخي.. إنهم ينكرون وجود الله ووجود الآخرة!
                هكذا يقولون.. أما أنا فإنه لربما أصابتني أحيانا شرارةٌ طائشة من هذا الحديد المجمَّر بين يديَّ؛ فتثقب ثوبي ثم جلدي، فيكون لها من الألم الشديد ما الله به عليم! وإن ذلك ليكفيني ترهيباً وتحذيراً من نار جهنم! وإن صاحبنا الشيوعي كلما حدثني بحديثه قلت في نفسي: هذه مجرد ذرة من نار الدنيا، فترى كيف تكون نار الآخرة! وإنني لأرى بعينيَّ أن نار الدنيا هاته التي بين يديَّ لدليل كاف على وجود نار الآخرة!" كذا قال!


                وإنني ما زلت إلى اليوم أعجب من عمق ملاحظة ذلك الحداد الفطري البسيط! وأتساءل في نفسي: أي تفكر هذا وأي تدبر؟
                بل أي علم بالله هذا وأي إبصار!.. حَقّاً حَقّاً! ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ!﴾(الحج: 46)
                هذا ضرب عجيب من التدبر لحقائق القرآن، ونوع من التفكر العميق في الوجود، وهو ممكن لكل الناس، خاصتهم وعامتهم على السواء.


                وأنت ترى أن الله – جل جلاله - أمر الكفار بالتدبر لكتابه! كما في قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ (النساء: 82) وقال سبحانه: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(محمد: 24) فإذا كان الكافر –
                وهو المجرد قطعا من كل قواعد التفسير ومناهجه – مأموراً بالتدبر فالمسلم أولى وأحرى!
                إن المسلم - أي مسلم – إنما عليه أن يصطحب مختصراً صغيراً من كتب التفسير، كتفسير الجلالين مثلا، أو أحد مختصرات ابن كثير، أو غيرهما؛ وذلك فقط حتى يضبط بوصلة الاتجاه العام لمعنى الآيات، ثم يشرع آنئذ في التدبر للقرآن، ولا حرج.
                لأن التدبر لكتاب الله لا ينبني عليه حلال ولا حرام، ولا تصدر عنه فتوى ولا قضاء! وإنما هو مسلك روحي يقود القلب إلى التوبة والإنابة، وإلى مجاهدة النفس من أجل الترقي بمراتب العلم بالله!




                أما صناعة التفسير والاستنباط فهذا هو الذي يخص فئة محصورة من الناس وهم أهل الاجتهاد من العلماء، ممن يفتون ويقررون
                في القضايا والنوازل. وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(النساء: 83)
                وقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122). فذاك علم الخاصة.


                وأما التدبر – بما هو تذكر واعتبار - فهو لعامة المسلمين. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17).
                وعليه؛ فالمفسر عالم وفقيه، يقوم ببيان الحقائق القرآنية والأحكام الشرعية، والتصدر للفتوى. بينما المتدبر مجرد متعظ وواعظ. وقد يجمع الله للمرء بين الخيرين. والعالم الحق لا يصح له إلا ذلك! ومن ثم جاز لنا أن نقول: "كُلُّ عالِمٍ أو كلُّ مفسِّرٍ متدبرٌ، وليس كل متدبرٍ مفسِّراً!" فتأمل..!


                إن الذي يمتنع عن تدبر القرآن أو ينهى غيره عن ذلك؛ بدعوى أن التدبر أمر خاص بعلماء التفسير، إنما هو جاهل بهذا الفرق الجوهري الكبير بين التفسير والتدبر.. وأخشى أن يكون الشيطان قد لبَّس عليه تلبيساً؛ ليحرمه هو في نفسه من نور القرآن!
                أو يجعله أداة لقطع الطريق أمام السائرين إلى الله!


                إن التدبر للقرآن مطلوب من العالِم، ومن المهندس، والطبيب، والأستاذ، والفلاح، والحداد، والنجار، والتاجر... إلخ! بل إن التدبر
                مطلوب من الكافر الأعجمي، إنجليزيا كان أو فرنسيا أو صينيا، أو ما كان! نعم! نعم! لكن فقط بعد أن تترجم له المعاني العامة للآيات!

                بينما التفسير إنما هو صناعة العلماء فقط.




                ومصطلح "التدبر" في القرآن قريب من مصطلح "التفكر" وإن لم يكونا مترادفين. فكأن "التدبر" ينصرف استعماله غالبا إلى تأمل القرآن، بينما "التفكر" ينصرف استعماله إلى تأمل الكون المنظور. قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ!﴾ (آل عمران: 190-191). وإذا تأملت وجدت نتيجة كُلٍّ من التدبر والتفكر واحدة، ألاَ وهي: الاتعاظ والاعتبار! وهو ما حكاه الله عن الذاكرين المتفكرين: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ!)

                إن هذا معناه أيضا أن النظر "التفكري" في الكون ليس عملا عقليا معقدا، خاصا بعلماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والبيولوجيا والطبيعيات... إلخ! نعم هم مشمولون بأمره، بل هم أولى به! لكن "التفكر" كالتدبر، مطلوب أيضا من غير المتخصصين، بل حتى من العوام! كُلٌّ على قدر فكره!.. وما يدريك؟ لعل فلاحا بسيطاً، يصل إلى عِبَرٍ للقلب لا يتحقق بها المتخصص الخبير! لأن نتائج كُلٍّ من التدبر والتفكر محض هبة من الرحمن، ومجرد هُدًى منه تعالى!



                إن التدبر والتفكر يؤولان معاً إلى مصطلح قرآني مركزي ثالث، ألا وهو "التَّذَكُّرُ" بالذال المعجمة، أو "الاِدِّكَارُ" بالدال المهملة،
                ومشتقاتهما وهما سواء(2). قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(ص: 29) وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17).


                وإنما يختص "التدبر" بتحصيل الذكرى عن طريق النظر في الآيات القرآنية. بينما يختص "التفكر" بتحصيل الذكرى بالآيات الكونية. هذا هو الغالب، وربما وجدت هذا بمعنى ذاك. إذ بينهما علاقة جدلية؛ لأن أحدهما يؤدي إلى الآخر.
                فالتدبر للقرآن يقودك إلى التفكر في الوجود، والتفكر في الوجود يعود بك إلى القرآن. وهما معا في جميع الأحوال يثمران تَذَكُّراً للقلب وذكرى.


                ولا يقول عاقل بأن التذكر والذكرى يحتاج فيها الإنسان إلى خبرة علمية وتخصص دقيق! سواء في الشرعيات أو في الكونيات.
                كلا! كلا!.. إنما هو عمل قلبي محض، مفتوح لكل ذي قلب! وبذلك قامت حجة الله على جميع الخلق عربهم وعجمهم،
                خاصتهم وعامتهم! قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(ق: 37)

                وبذلك يتبين ما لتعقيد الضوابط والشروط للتدبر أو للتفكر، من خروج عن منهاج القرآن! قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: 2).




                إن المتدبر أو المتفكر – كليهما - في حاجة إلى التحقق بأمرين اثنين:


                - الأول: الفهم العام للآية قراءةً، أو سماعاً إن كان أميا. ويحسن أن يكون ذلك بمجلس مدارسة، تعلما وتعليما، على منهاج رسول الله
                - معلم الأميين - صلى الله عليه وسلم.

                - الثاني: إخلاص النظر لله! وكلاهما بمقدور جميع الناس، إلا من رُفِعَ عنه القلم!
                قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ!﴾
                (سبأ: 46)

                وهذا خطاب موجه في الأصل للكفار، فتأمل!

                وأحب قبل ختام هذه الكلمات أن أعززها بإيراد أمثلة عن تدبر النبي - صلى الله عليه وسلم – وتفكره. فالسنة هي البيان الرئيس للقرآن الكريم ومفاهيمه. وأمثلة أخرى عن تدبر الصحابة رضي الله عنهم، وكذا بعض التابعين.


                ففي مشهد من أَجَلِّ مَشَاهِدِ النبوة، لم يزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يبكي في صلاته من تدبره وتفكره؛ إذْ أَرَاهُ اللهُ من أسرار مَلَكُوتِهِ ما أَرَاهُ؛ حتى بكت الأرض ببكائه عليه الصلاة والسلام!.. فقد سَأَلَ عُبَيْدٌ بْنُ عُمَيْرٍ عائشةَ رضي الله عنها، قَالَ: «أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم! قالَ: فَسَكَتَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ! ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي!" قُلْتُ: وَاللهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ.. قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ!
                قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ! قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الأرْضَ! فَجَاءَ بِلاَلٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلاَةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً؟.. لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا
                وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا!
                ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ. رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ!﴾»(آل عمران: 190- 191)(2).




                وقد ورد التدبر والتفكر ههنا بمعنى واحد كما أشرنا إليه من قبل، لارتباطهما الجدلي. فقوله صلى الله عليه وسلم: (وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا!) هو بمعنى: لم "يتدبرها" لأن تدبرها مُفْضٍ بالضرورة إلى التفكر في خلق السماوات والأرض؛
                ولذلك عبر هنا بالتفكر. وأما وعيده - عليه الصلاة والسلام - للممتنع عن التفكر بالويل؛ فهو دليل قوي على وجوب التفكر والتدبر – إجمالاً - على جميع الناس! سواء منهم العالم والعامي، كُلٌّ على ما يسر الله له.. فتأمل!


                وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلث الليل، قام فقال: "يا أيها الناس!.. اذكروا الله! جاءتِ "الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ!" جاء الموت بما فيه! جاء الموت بما فيه!...)(3) ولا يخفى ما في الحديث من تضمين لآيتي النازعات: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾(النازعات: 6-7).
                وما في ذلك من تدبر عجيب لهذه الحقيقة الإيمانية في جوف الليل؛ وذلك لِشَبَهِ الليل بظلمة القبر من جهة، ولأن الليل – من جهة أخرى - هو موتٌ لحركة النهار! وفي ذلك أيضا إشارة إلى أن على المؤمن أن يجعل تفكره في الظواهر الكونية مرتبطا بتدبره للآيات القرآنية؛
                بسبب ما ينتج عن ذلك من التشمير والجد والعمل! حيث تقع الآيات بعد ذلك على النفس الكسولة الغافلة، موقع السوط اللاهب على ظهر الدابة الخاملة! فتقفز مسرعة بصاحبها في الطريق إلى الله!


                وكذلك كان تدبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فعن التابعي العابد الزاهد ابن أبي مليكة رحمه الله،
                قال: «صَحِبْتُ ابنَ عباس - رضي الله عنهما - من مكة إلى المدينة، فكان إذا نزل قام شَطْرَ الليل! فَسُئِلَ: كيف كانت قِرَاءَتُهُ؟ قال: قرأ: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ..﴾(ق: 19) فجَعلَ يُرَتِّلُ ويُكْثِرُ في ذلك النَّشِيجَ!»(4) والنَّشِيجُ: شدة البكاء،
                إذا هاج على صاحبه؛ فبكى بصوت مخنوق في صدره، فصار له أَزِيزٌ كأزيزِ القِدْرِ أو الْمِرْجَلِ!


                وفي تفسير الطبري: (أن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - قرأ هذه الآية: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ (المؤمنون: 104)، قال: ألم تر إلى الرأس الْمُشَيَّطِ بالنار، وقد قَلُصَتْ شفتَاه وبدت أسنانُه!)(5) يقصد التمثيل التدبري للمعنى برأس الكبش الْمُشَيَّطِ، أي بعد تشويطه بالنار.
                تقول: شَوَّطَ وشَيَّطَ، سواء. وهذا تدبر عجيب؛ لما فيه من ربطٍ للآيات القرآنية بالمشاهَدَات اليومية في الحياة الدنيا
                - رغم عظم الفرق - ولكن الاتعاظ بالصغير الحقير أدعى إلى الاتعاظ بالكبير الخطير!


                وفي ترجمة عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - في الإصابة لابن حجر، أنه: (كان – رضي الله عنه - إذا قرأ هذه الآية: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾.. الآية (الحديد: 16) يبكي حتى يغلبه البكاء..!)(6)
                وورد (أن أبا طلحة – رضي الله عنه - قرأ هذه الآية: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾.. الآية (التوبة: 41)، فقال: أرى ربي يستنفرنا شيوخَنا وشُبَّانَنَا! جهزوني أيْ بَنِيَّ! جهزوني! [يعني للجهاد! وكان يومها قد شاخ وكَبُرَ!] فقال بنوه: قد غزوتَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ونحن نغزو عنك! [أي بعدما عجزت] فقال: جهزوني! فركب البحر، فمات. فلم يجدوا له جزيرة [لدفنه] إلا بعد سبعة أيام! فدفنوه فيها ولم يتغير!)(7)



                وعند تفسير قوله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ
                صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾
                (الكهف: 49)، قال الإمام القرطبي: (وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول: يا ويلتاه..! ضَجُّوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر!)(8)
                وروى الإمام البيهقي في شعب الإيمان بسنده عن الواعظ الكبير مالك بن دينار أنه رحمه الله: (قرأ هذه الآية: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾.. الآية: (هود: 88). قال: «فَأُسَمَّى في القيامةِ مَالِكاً الصَّادِقَ، أو مَالِكاً الكاذبَ!»)(9)

                وهو بذلك يُنَـزِّلُ مضمون الآية على نفسه – حيث كان واعظاً – فجعل يحاسب نفسه بميزان القرآن، ويتدبر الآية بالنظر إلى نفسه،
                مشفقاً من حالها ومآلها، وما قد يكون من مصيرها! قصد تهذيبها، وكسر شوكة غرورها، وتصفية مقاصدها، وتجريد إخلاصها لربها! وهو من أجل ضروب التدبر والتفكر!
                وفي الزهد لأحمد بن حنبل - وغيره - أن مالكا بن دينار أيضا قرأ هذه الآية: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا
                مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾.
                . الآية (الحشر: 21) ) فبكى،

                وقال: «أقسم لكم! لا يؤمن عبدٌ بهذا القرآن إلا صدع قلبَه!»)(10) الله أكبر..! ألا ما أجله من تدبر! وما أدقه من تفكر!
                لقد وضع مالك بن دينار – رحمه الله - قلبَه موضع الجبل! فكيف تراه يكون؟ أيكون أشد صلابةً من الجبل؟ كيف بقلب يتلقى القرآن حق التلقي، كيف به وهذا الجبل قد خشع له وتصدع!؟



                ذلك هو التدبر.. وإن الأمثلة في مثل هذا لأكثر من أن تحصى!
                وأنت تلاحظ أن هذه النصوص جميعا ليست من قبيل التفسير بمعناه الاصطلاحي الخاص، وإنما هي مجرد تعبير عن المشاعر الخاصة، والمواجيد الجياشة، الحاصلة في النفس عند تلاوة الآيات، وما يخالط القلب من الرَّغَبِ والرَّهَبِ، والخوف والرجاء، في طريق السير إلى الله!
                كما أن فيها تنـزيلا للآيات على واقع النفس، أو واقع المجتمع، أو على أحوال الطبيعة حول الإنسان، ومشاهدةً لبروق الوعد والوعيد، من خلال تقلبات الليل والنهار
                .
                وفضحاً لغش النفس وضعفها؛ بتسليط كشافات القرآن عليها! كما أن فيها مشاهدةً للعزائم العالية التي طلبها الله عز وجل من العباد، وما ينتصب دونها من مشاق الطريق ومكارهها! ولذلك ترى المتدبرين للقرآن والمتفكرين في آياته الكونية، بين بَاكٍ مختنق بالأنين، أو مُطْرِقٍ مهموم حزين! ولا يخرج كلاهما من مجلسه أو خلوته إلا بعزيمة تهد الجبال! وإن الواحد من هذا الطراز البشري العظيم لهو بأمة!
                ذلك هو التدبر، وذلك هو التفكر، وتلك هي الذكرى.. وإنما ثمرة ذلك كله هو تهييج النفس على العمل،
                وتنشيط القلب على السير، وتوثيق إرادة النفس على عزائم الأعمال!.. فكذلك كان تدبرهم للقرآن، وكذلك كان تفكرهم في الزمان.. فما بالنا نحن؟
                إنما نحن في حاجة إلى قلوب مثل قلوبهم، وإخلاص مثل إخلاصهم!

                وإنني لعلى يقين لو أن الناس اليوم يُحْيُونَ هذا المسلك في النفوس من جديد، ويتداولون القرآن في المجتمع على هذا الوِزَانِ؛ لتدفقت أنهار النور على الظلام! ولكان للأمة في هذا العصر شأن آخر..! وإنه لَيَكُونَنَّ إن شاء الله! وما ذلك ببعيد..! فإنني أرى عباداً لله خُلَّصاً قد بدؤوا يرفعون راية القرآن فوق تلال قلوبهم!.. وإن نصب راية القرآن على تلال القلوب لهو: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ.. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ!﴾(الصف: 13).
                اللهم ألهمنا مراشدنا، واسلك بنا سبيل الهدى، واجعلنا سببا لمن اهتدى!
                المحب لكم: فريد الأنصاري، عفا الله عنه وعن المؤمنين.


                هوامش:
                (1) قال الإمام الطبري – رحمه الله - في تفسير قوله تعالى من سورة القمر: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ): (وأصل "مُدَّكِر": مفتعل من ذَكر، اجتمعت فاء الفعل، وهي ذال، وتاءٌ وهي بعد الذال، فَصُيِّرَتَا دالا مشددة. وكذلك تفعل العرب فيما كان أوله ذالا يتبعها تاءُ الافتعال، يجعلونهما جميعاً دالا مشددة، فيقولون: اِدَّكَرْتُ ادِّكَاراً، وإنما هو: اِذْتَكَرْتُ اذْتِكَاراً.)
                (2) الحديث رواه ابن حبان في صحيحه. وقال الشيخ الألباني: إسناده جيد، وحسنه في صحيح الترغيب.
                (3) الحديث، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وحسنه الألباني في الصحيحة وفي صحيح الترمذي وصحيح الجامع الصغير.
                (4) سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/342.
                (5) ن. تفسير الطبري للآية: 104 من سورة المؤمنون.
                (6) ن. ترجمته في: "من اسمه عبد الله" في "الإصابة في معرفة الصحابة" لابن حجر.
                (7) الطبقات الكبرى لابن سعد: 3/507.
                (8) ن. تفسير القرطبي للآية: 49 من سورة الكهف.
                (9) شعب الإيمان رقم الأثر: 1802.
                (10) الزهد لأحمد بن حنبل، رقم الأثر: 1878. والأثر أورده أيضا أبو نعيم في الحلية عند ترجمة مالك بن دينار، كما أورده السيوطي في الدر المنثور عند تفسير الآية: 21 من سورة الحشر.
                ــــــــــانتهى.



                التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 16-01-2015, 02:54 PM.

                "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                وتولني فيمن توليت"

                "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                تعليق


                • #9
                  رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟


                  الإخلاص بوصلة الطريق

                  بسم الله الرحمن الرحيم
                  ألاَ ما أخفى مسارب الشيطان إلى النفس، وما أشقاها! ألا ما أشدها التواءً وما أدهاها!
                  وإن شئت فقل: ألا ما أظهرها وأبينها لمن يراها! وما أضعفها عند من كان لله عبداً، وما أوهاها!

                  وإن حصون الدعوة الإسلامية في الأمة، لهي أول ما يقصده الشيطان بالإغارة والحصار..! وإن قوافل الدعاة وصفوف العاملين للإسلام، لهي أول ما يرميه
                  إبليس بفتن التشتيت والتفتيت، وعواصف التشريد والتبديد! وإن قطار الصحوة الإسلامية لهو أول ما يرومه اللعين بتضليل الاتجاه، وتحريف المسار..!


                  وإن مسلما ابتلي بشيء من هذا العمل الإسلامي، لا يجعل هذه الحقيقة الكبرى نصب عينيه؛ لهو مهدد بالخسران المبين والعياذ بالله!



                  أيها الشباب المكابد لحقائق القرآن!
                  أيها الجيل المستسقي من ربيع القرآن!
                  يا أبناء مدرسة القرآن الكريم!
                  يا حُمَّالَ كلمات الله!
                  أيها السائرون على أثر قافلة الأنبياء! تضربون في زمن الظلام، رجاء إيصال بصيص من نور إلى المستضعفين الحائرين!
                  ألاَ وإنها لنعمة كبرى – أيها الأحباب! - أن يكون المسلم منخرطا في مدرسة القرآن، يتتلمذ على عين الله، يتلقى رسالات القرآن، ويتزكى بكلمات الله!
                  لكن مدرسة القرآن – أيها الأحبة! - لها شرط إلهي عظيم، به تُنَاطُ كل طلبات الانتساب، ورغبات الانخراط.. وإنما الله - جل جلاله -
                  هو وحده الذي يقضي فيها؛ فيقبل ما يشاء ويرد ما يشاء! هو وحده رب المدرسة، وهو صاحب الأمر فيها. وإن ذلك الشرط القرآني العظيم مسطور في كتاب الله، موضح ببلاغه المبين لجميع الراغبين.. ذلك هو: التحقق بمنـزلة الإخلاص!




                  يا جيل القرآن المجيد!
                  لقد أتى علينا حين من الدهر في خضم العمل الإسلامي، نجري ونلهث، ولكن بلا جدوى!
                  لقد كنا نسلخ من الأعمار السنوات تلو السنوات، ثم ننظر إلى آثار السير تحت أقدامنا؛ فنجد أنفسنا ما نزال لم نبرح مواقعنا الأولى..
                  تلك المواقع التي انطلقنا منها قبل أن نشيب! بل لقد وجدنا الأرض تغوص تحت أقدامنا!
                  ووجدنا حصوننا الأولى تساقط أركانها الواحد تلو الآخر.. وكانت الصدمة شديدة؛ عندما تساءلنا عن أربعين عاما أمضتها الحركة الإسلامية في التبشير بشعاراتها؛
                  فوجدنا أنفسنا قد تأخرنا – بدل أن نتقدم - أربعين خريفا من الزمان!


                  وأدركنا أن شيئا ما في محرك السيارة ليس على ما يرام! والخطر الأكبر أن المحرك كان مشتغلا يملأ الفضاء بالضجيج والعجيج! وأمعنا
                  النظر إلى العجلات، فوجدنا أنها كانت فعلا تسير، ولكن إلى وراء..!
                  ووجدنا أنفسنا نتلقى الصفعات تلو الصفعات.. ولكننا لا ننتبه إلى رسالاتها ولا نفهم إشاراتها!



                  والقليل منا من عاد إلى "كطالوج" العمل الإسلامي، وبوصلته الدقيقة؛ قصد المراجعة: القرآن المجيد! لقد كان الشيطان – كلما تساءلنا:
                  أين الخلل؟ - يبادرنا بإلقاء أسباب منطقية كاذبة – ومن المنطق ما هو كاذب - تعمية عن جواب القرآن الواضح المبين!..
                  وكنا – مع الأسف الشديد – نصدق الشيطان! لأننا كنا ننسى ونغفل عن وجود شيء اسمه "الشيطان"!

                  ولا نكاد نتذكر وجوده إلا عندما نقرأ بعض آيات من القرآن! وما لنا وللشيطان؟ إنه بعيد عنا.. إنه هناك في أعالي البحار النائية! ونحن هنا نشتغل في
                  دعوة الإسلام! فلا يخطر بالبال أنه هو يدير معركة الشر من هناك، ويقود جنده في أوساطنا، بل في أعماق أنفسنا!
                  ولقد انتصبت راية التحذير من هذا الشر الْمُبِيرِ في القرآن:
                  (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ!)(فاطر: 6)

                  وننسى أن قرناء السوء من شياطين الجن يعملون لحساب إبليس في كل مكان! وأنهم يلابسون الأنفس ويخالطونها، يزينون لها الشهوات والشبهات!
                  وننسى ونسى! ولا نتذكر إلا قليلاً!.. أم أن الشيطان غير موجود؟ أم أن القرين وهم؟ هل نحن في حاجة إذن إلى إعادة
                  بناء أصول الإيمان في أنفسنا، وتعلم أبجديات الدين من جديد؟ كلا، كلا! نحن مسلمون مؤمنون، ولكن شدة الغفلة تكاد تخلط أحوالنا بأحوال غير المؤمنين
                  والعياذ بالله! وكفى بذلك علامة كبرى على انحراف السير..!

                  ثم قرأت القرآن، فوجدت أن دعوة الإسلام دين! دينٌ يُعْبَدُ به الله الواحد القهار، وليست شئا آخر! ما هي بانتماءات ولا شعارات، ولا أحزاب،
                  ولا ألقاب! إنها دعوة للناس كل الناس، دعوة للتعرف إلى الله، وإلى رعاية حقوق الله قبل حقوق الإنسان!
                  وإن الدين لا يسمى "دينا" - على الحقيقة - إلا إذا كان عبادة لله رب العالمين! وإن العبادة لا تكون كذلك إلا إذا كانت خالصة لله!




                  وهنا وجدت جواب القرآن: الإخلاص!
                  وجدت جواب القرآن سيفا صارما يفصل ما بين الحقيقة والتمثال! وأبصرت هذا الفرقان العظيم: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ.
                  أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ!)
                  (الزمر: 2-3) وكذلك: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ!)(الزمر: 11) ومثله قوله سبحانه:
                  (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ!)(البينة: 5) ومثل هذا وذاك من الفرقان كثير!

                  نعم هكذا هو الأمر إذن: (أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ!) وما ليس بخالص فليس له! وإنما هو لمن توجه إليه به صاحبه!.. ومعنى الخالص: النظيف الصافي على أكمل ما يكون الصفاء! كاللبن الصافي إذا لم يخلطه شيء ولو نقطة! كان لبنا خالصا، فإن وقع فيه شيء، ولو مقدار ذرة؛ فَقَدَ معنى كونه خالصاً!
                  ثم راجعت ما سلخت من عمري فشعرت بمقارض الحسرة والندم تمزق كبدي! فواأسفاه! واأسفاه!
                  وأبصرت أن قطار العمل الإسلامي كان يسير بنا مائلا منذ زمان.. حتى انحرفت عجلاته أخيراً عن سواء الطريق!..

                  وأبصرت أننا كنا نقدم دعوتنا وحركتنا ونضالنا، لا لله، ولكن لأنفسنا! لقد كنا نلبي نرجسية ذواتنا في التلميع والتسميع! وبهرتنا شهوة الميكروفون،
                  والصور البطولية الكبيرة! ومضينا في طريقنا نستعرض عضلاتنا تحت شعار العمل الإسلامي، والمشروع الإسلامي!
                  ودبجنا قاموسا من المصطلحات "النضالية" و"الحركية"، التي ضخمها الشيطان في قلوبنا، واستهوتها النفس المغرورة! وأنشأنا "علم كلام الحركي"، كلاماً نضيع به أعمارنا وأعمار الشباب!.. وبدل أن نجعل أنفسنا خادمة للدين؛ جعلنا الدين خادما لأنفسنا! نشاهد فيه انتصاراتنا نحن لا انتصارات الإسلام!
                  وما أعظم الفرق بين شَفَقٍ مُشْرِقٍ وشَفَقٍ غَارِبٍ! ولكنهما يتداخلان ويختلطان على من ضل عنه تحديد بوصلة الزمن!




                  وأدركنا أننا قد ملأنا عقول أجيال من الشباب بفقاعات "الكلام"، وما أسسنا في قلوبهم ولا لبنة واحدة من حقائق القرآن!
                  فتخرج طابور كبير من المتكلمين! وبقيت ساحة الدعوة الإسلامية خالية من العاملين!
                  لقد كان الصف الإسلامي – وما يزال - ينظر إلى قامته الطويلة العريضة، فيعجب بظله العالي العريض! وينسى أن الله وحده هو الذي يمد الظل ويقبضه! ويستمتع المتكلم منا في الجماهير، بحرارة التصفيق الملتهب بين يديه! وينتشي بتفوقه وبطولته! ثم ينصت جيداً إلى أنغام المديح والشعارات، ويطرب طرباً! فتتضخم في نفسه "أناه" الشخصانية والحزبية، أو الجماعية! ثم يلتفت ليرى أثر قدمه في الساحة، وصيت جماعته الكبير، فينتشي ويتلذذ بأناه.. ألاَ ما أشقاه!


                  ويسب آخرون الظلام بقوة، ويلعنون الطاغوت والطغيان! فينصتون إلى آثار تصريحاتهم على جمهور العوام، حتى إذا سكروا من تلقي كلمات
                  الإعجاب، ومشاعر الانبهار؛ انتفخ الشيطان في نفوسهم فانتفخت عضلاتهم! ثم خرجوا يستعرضون ذواتهم على الناس! وهذا رسول الله سيد ولد آدم - عليه الصلاة والسلام - يفتح الله له مكة، عاصمة الطاغوت الأكبر يومئذ، فيدخلها مطأطئ الرأس فوق ناقته، ساجد القلب؛
                  تواضعا لله الواحد القهار! كما تذكر كتب السيرة. قال ابن إسحاق في روايته عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، في فتح مكة
                  :
                  (وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عُثْنُونَهُ [يعنى طرف لحيته] ليكاد يمس واسطةَ الرَّحْلِ!)(1) لشدة انحنائه فوق ناقته عليه الصلاة والسلام!



                  إن العمل الإسلامي الخالص لا يمجد الرموز والقيادات، التي تتحول في قلوب الأتباع إلى أوثان معنوية! وإنما يمجد الله الواحد القهار..!
                  وإن المؤمن ليرى ببصيرته النافذة أن الشأن الدعوي، إنما يدبره الله وحده من فوق سبع سماوات، وما العاملون في صف الإسلام إلا عبيد وجنود..!
                  فمن جَرَّدَ قَصْدَهُ لله تولاه الله، ومن خَلَطَ رَدَّ الله عليه عملَه، وفضحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد والعياذ بالله!

                  ويكفي المؤمنَ الكَيِّسَ الفَطِنَ – وإنما المؤمنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ – أن يقرأ حديث: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى! فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ!)(2)؛ يكفيه هذا ليمتلئ خوفا وإشفاقا أن تتلوث أعماله الدينية والدعوية بشيء غير قصد الله!
                  أما حديث حساب المقاصد يوم القيامة، فله قصة أخرى، لا تكاد تطيقها النفس رَهَباً! فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى
                  اسْتُشْهِدْتُ! قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ؛ فَقَدْ قِيلَ! ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ! وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ،
                  وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ،
                  قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ! ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ! وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ
                  هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ! ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ!)(3)
                  ومن ذا منا يمحص قلبه تمحيصا على ميزان جوابه - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله: (الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ! فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ!)(4)



                  ومن منا يصفي أعمالَه وأقوالَه بمصفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ!)(5)
                  ألا ما أشد استسهالنا لمثل هذه النصوص الشديدة! ألا ما أشد استهتارنا بمصيرنا الأخروي!

                  ولقد رأيت يقينا في كتاب الله، أن الطائفة المحرومة من ولاية الله وسنده العالي لا تصل أبداً! ورأيت يقينا أنه لا سبيل إلى التحقق بولايته تعالى
                  إلا بالإخلاص! (أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ!).. (أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ!)
                  إنه لا بد قبل أي خطوة - في طريق الدين والدعوة - من تمحيص هذا المعنى العظيم في القلب! لا بد من تحقيقٍ دقيق مع الذات، ومحاسبة للنفس
                  صارمة! لا بد من استبطان السؤال: لماذا أفعل ما أفعل؟ ولمن؟ إن المجازفة بالهروب من تمحيص الجواب وتدقيقه،
                  والفرار من تشريح النفس بمبضعه؛ لهو تعريض للعمر كله إلى الدمار والخسار..! ولهو مقامرة بالمصير الأخروي لصاحبه! وأي ندم ينفعه يوم القيامة
                  إذا نُشِرَتْ الصحف، وانكشفت الحقائق على وجهها؟

                  أما المخلصون في دينهم ودعوتهم، فإنما هم الربانيون الفقراء إلى الله، المتذللون بين يديه تعالى، الذي يتبرؤون من كل أنانية تنظيمية، ومن كل حول حزبي، ومن كل قوة طائفية، أذلة على المؤمنين كل المؤمنين! ولسان حالهم يردد في كل خطوة يخطونها: (أن لا حول ولا قوة إلا بالله!).. وإنني لا أجد أَجَلَّ من وصف الله تعالى لهم في كتابه الحكيم، إذ قال سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ!) (المؤمنون: 60).



                  إن الإخلاص هو الدين، وإن الإخلاص هو الدعوة! وما فقدَ عبدٌ الإخلاص فيهما إلا فقدَ الدين والدعوة جميعاً!
                  إن الإخلاص أحبتي لا يتحقق لمؤمن إلا إذا كان عبداً أخروياً! ولا يكون المؤمن الحق إلا عبداً أخرويا! وما أشد هذا السؤال الإنكاري الرهيب الرعيب!
                  إذ يطرق جدران القلوب بكلمات الله
                  : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ!)(التوبة: 38) وينتصب البيان الرباني بقوة، يرفع راية النذارة للعالمين: (اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا
                  ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ!)
                  (الحديد: 20).

                  أم أن هناك عقيدة أخرى غير هذه؟ فما بالنا إذن نتردد ونتلجلج؟ ما بالنا نبحث لأهوائنا عن مسالك غير سالكة؟
                  ونرضى بالسير في مَحَالِكِ الظلام! كيف؟ وهذا نور الفرقان يتدفق في الآفاق!
                  إن العاملين المخلصين لا يتحدثون عن أنفسهم، ولا عن أحزابهم وجماعاتهم، ولا يمجدون ألقابهم ولا أنصابهم! وإنما يتحدثون عن دين الله،
                  ويمجدون كتاب الله! عابدون لله في مساجدهم، عابدون لله في سلوكهم، عابدون لله في دعوتهم، عابدون لله في خطاباتهم، عابدون لله في وظائفهم، عابدون لله في معاشهم جميعاً! ما حَلُّوا بمكان إلا اتخذوه محراباً!

                  إنما المخلصون هم الذين يحضرون في المغارم ويغيبون عند المغانم!.. ولا يتزاحمون – باسم العمل الإسلامي - على المكاسب والمراتب والرواتب!
                  إنهم يعطون ولا يأخذون، وينفقون ولا يُغَرِّمُونَ!.. (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ!)(الأنعام: 90)
                  ولقد شاهدت يقينا أن لا طريق إلى الله إلا طريق الإخلاص! وأن ليس لشهادة: "أن لا إله إلا الله" – التي هي عنوان الإسلام - من معنى غير الإخلاص!
                  وشاهدت يقينا أن كل ما وقع في شَرَكِ "أنا" و"نحن"؛ فَقَدَ حقيقة الإخلاص! وإنَّ طائفةً ارتفعت عنها يد الله ورعايته
                  ما كان لها أن تصل، ولا أن تفوز أبداً!
                  ولقد رأيت كلمات القرآن الثقيلة، ترتفع فوق قلوبنا المغرورة، منذرة بعاصفة الآخرة الكبرى! العاصفة الكاشفة الناسفة!
                  (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا!)(الفرقان: 23)



                  فيا قلبي العليل!.. إخلاصَك إخلاصَك!
                  قبل فوت الأوان! إخلاصَك في كل كلمة، إخلاصَك في كل خطوة، إخلاصَك في كل حركة، إخلاصَك في كل سَكَنَةٍ، إخلاصَك في كل فكرة،
                  إخلاصَك في كل خَطْرَةٍ! فالإخلاص هو صمام أمانك، وهو بوصلة سيرك، وميزان عملك، وضمان وصولك! وإنك إن تَعِشْ لحظةً واحدة بغير إخلاص؛ تكن قد وضعت مصيرك على فوهة مدفع الشيطان! فالنجاءَ النجاءَ، والبدارَ البدارَ، والفرارَ والفرارَ إلى الاحتماء بحصن الإخلاص قبل فوات الأمان!


                  وتسألني يا صاح: كيف السبيل إلى التحقق بالإخلاص؟.. وليس لي إلا أن أجيبك بكلمتين: الإخلاص قَرَارٌ ومُكَابَدَةٌ! أو قل: عزيمةٌ ومجاهَدةٌ! وإنما هذا قَبَسٌ ساطعٌ من نور القرآن، إنه من تجليات قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(البقرة: 218).
                  فكما ترى هذه مراتب ثلاث: الإيمان، والهجرة، والجهاد. فالإيمان أساس لا يصح عمل بدونه.
                  لكن الإيمان لا يرتقي إلى مقام الإخلاص، والولاء الكامل لله إلا بالهجرة! فالهجرة هي القضية! وهي التي تحتاج إلى ذلك القرار وإلى تلك العزيمة!

                  نعم! إن الهجرة الحسية باعتبارها ضرباً في الأرض واغتراباً، لا يمكن أن تقع إلا بعد تفكير وتقدير، وطول تدبير! وذلك معنى العزم أو القرار. وكذلك هجرة الروح إلى منـزلة الإخلاص! لا بد فيها من قرار مكين متين، تتخذه النفس في خاصة أمرها، وتوثق عليه عهدها مع الله! وإلا فإن كبار القضايا لا تنال بالتمني!
                  حتى إذا انطلقت النفس في تصفية بواطنها، وتخليص رغائبها ومقاصدها، فَوَحَّدَتْ قِبْلَتَهَا قَصْداً واحداً،

                  لا تخالطه الأغيار ولا تكدره الأكدار، فكان الله – جل جلاله – وحده هو مرادها، لا ترى لها مقصودا سواه، ولا تأذن للسانها بأي كلمة أو خطوة في الدين والدعوة، إلا إذا كانت خالصة لله؛ فإنها حينئذ تصبح في حاجة شديدة إلى الجهاد..! جهاد تقاتل فيه غارات الشيطان المتغيظ
                  من اعتصامها بإخلاصها العظيم! ولا يجد الشيطان راحته حتى يكون له من عمل ابن آم حَظٌّ ونصيب!
                  لكن المجاهد منصور بإذن الله!
                  (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(الصافات: 173).



                  ولا يزال عبد الله المخلص في مجاهدة خواطر التحريف والتضليل في نفسه حتى يلقى الله! وبذلك يتلقى المؤمن الخالص فرقان السير إلى الله، في دينه ودعوته، ويُرْزَقُ بوصلة الاتجاه! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(الأنفال: 29)
                  تلك إذن هي طريق الإخلاص، وذلك هو مسلكه الفريد. قرارٌ ومجاهدة، فاتخذ يا صاح قرارك، وجهز سلاحك، والله معك!
                  فيا إلهي الرحيم..!

                  هذا قلبي الضعيف بين إصبعيك، تُقَلِّبُهُ كما أنت تشاء! ترى ظاهره وباطنه، وتعلم خافيه وجاهره، وتعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور..!
                  فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك! اللهم احفظني بكلمة الإخلاص، واعصمني بحصن الإخلاص، واهدني بنور الإخلاص!
                  اللهم إني أعوذ بك من عُجْبِ نفسي وهواها، وأعوذ بك من طغيانها وطغواها، وأسألك النجاة من شرها وزيغ رؤاها! اللهم إني أعوذ بك
                  أن ينبت فيها حظ لها، أو لأي أحد سواك! اللهم اجعل عملي خالصا لك وحدك، لا شريك لك! لا تسميع ولا تلميع! ولا تنميق ولا تزويق! اللهم إنما أنا عَبْدٌ، لا حول ولا قوة لي إلا بك؛ فأكرمني بولايتك،
                  واجعلني من أهلك وخاصتك، وأدخلني في رحمتك، مع عبادك المخلَصين!
                  وصل اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

                  سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.



                  ـــــــــــــ
                  هوامش:
                  (1) سيرة ابن هشام: 2-405، والسيرة النبوية لابن كثير: 3-555. لكن سند الحديث غير متصل. وفي رواية للحاكم عن أنس - رضي الله عنه - قال: (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكةَ يومَ الفتحِ، وذَقْنُهُ على رَحْلِهِ متخشعاً!) قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». وأخرجه البيهقي أيضا في دلائل النبوة.
                  (2) رواه البخاري.
                  (3) رواه مسلم.
                  (4) متفق عليه.
                  (5) رواه النسائي، وأبو داود. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وفي صحيح الترغيب.
                  ــــــــانتهى.

                  ـــــــــــــ

                  "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                  وتولني فيمن توليت"

                  "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                  تعليق


                  • #10
                    رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟


                    القرآن وقضية الأمة

                    إن السلام العالمي لن يكون إلا وليد النور الإلهي، النور الذي يشرق في قلوب المؤمنين بالخير والجمال؛ بما يسكبه القرآن في وجدانهم،
                    من معاني الحق والعدل والحرية! ودون ذلك معركة يخوضها القرآن بكلماته ضد كلمات الشيطان، وإلا بقيت البشرية اليوم تغص حلاقيمها بفاكهة آدم إلى يوم الدين. والقرآن وحده يكشف شجرة النار ويتلف فاكهتها الملعونة.


                    إن هذا القرآن كلام غير عاد تماما، إنه كلام خارق قطعا، ليس من إنتاج هذه الأرض ولا من إنتاج أهلها،
                    وإن كان عليهم تنـزل ومن أجلهم تلي في الأرض. إنه كلام الله رب العالمين، الذي قال: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَاْلأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
                    وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
                    (الزمر:67).
                    إنه الكلام الذي لم يملك قَبِيلُ الجن إذ سمعوه إلا أن: ﴿قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ
                    بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
                    (الأحقاف:29-30). وقالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾(الجن:1-2).



                    قوة غيبية أقوى مما يتصوره أي إنسان

                    إن كلمات هذا القرآن -لو تعلمون- قد تنـزلتْ من السماء محملة بقوة غيبية أقوى مما يتصوره أي إنسان؛ لأنها جاءت من عند رب
                    الكون، تحمل الكثير من أسرار الملك والملكوت، وهي جميعها مفاتيح لتلك الأسرار؛ بما فيها من خوارق وبوراق لقوى الروح القادمة
                    من عالم الغيب إلى عالم الشهادة. وتدبر قول الله تعالى
                    : ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(الفرقان:4-6).

                    إن الذي يظن أنه عندما يقرأ القرآن يقرأ كلاما وكفى، تمضي كلماته مع الهواء كما تمضي الأصوات مع الريح؛ فإنه لا يقرأ القرآن حقا
                    ولا هو يعرفه بتاتا.. وإنما الذي يقرؤه ويتلوه حق تلاوته إنما هو الذي يرتفع به، ويعرج عبر معارجه العليا إلى آفاق الكون، فيشاهد من جلال الملكوت
                    ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهنالك يتكون ومن هنالك يتزود.
                    فآهٍ ثم آهٍ لو كان هؤلاء المسلمون يعلمون! وصدق الله جل وعلا إذ قال
                    : ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾(يس:30). نعم؛ يا حسرة على العباد!
                    أوَليستْ كلمات الله هي التي امتدت من هذه العبارات التي نتلوها إلى أعمقَ مما يمكن أن يتصوره الخيال، وأبعد من أن يحيط به تصور بشري
                    من مجاهيل الوجود؟ ألا تقرأ في كتاب الله ذلك صريحا رهيبا؟ فاقرأ إذن:
                    ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(لقمان:27). ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾(الكهف:109).



                    من اليقين إلى التمكين

                    فأين ينتهي هذا القرآن إذن؟ إنه لا ينتهي أبدا. ويحك يا صاح! أليس تعلم أن كلام المتكلم صفة من صفاته؟ ومتى كانت صفات الله
                    لها نهاية؟ وهو جل جلاله، وعزّ سلطانه رب العالمين، المحيط بكل شيء. فكيف إذن بمن تَخَلَّقَ بهذا القرآن وتحقق به في نفسه ووجدانه، وصار جزءا حقيقيا من حركة القرآن في الفعل الوجودي، وهذا القرآن تلك صفته وحقيقته؟ أوَليس حقا قد صار جزءا من القَدَرِ الإلهي،
                    الذي لا يتخلف موعده أبدا؟ أوَليس قد صار جنديا بالفعل من جنود الله، ممدودا بسرِّ ملكوت الله في السماء وفي الأرض؟ يحمل وسام النصر المبين من اليقين إلى التمكين. وهذا عربونه بين يديه الآن:
                    ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾(الصافات: 171-173).

                    وتَدبرْ كيف أن "كلمته" تعالى هي فعله القَدَريّ النافذ حتما، الواقع أبدا. ذلك أن كلام الله فوق كل كلام،
                    إن كلامه تعالى خَلقٌ وتكوينٌ وإنشاء. إنه صُنعٌ فِعْليٌّ للموجودات والكائنات جميعا.. من المفاهيم إلى الذوات، ومن الذراتِ إلى المجرات. وتأمل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(يس:82-83).
                    إنه -جل وعلا- يأمر العدم فيكون وجودا، فيكفي أن تتعلق إرادته بوجود الشيء ليوجد بالفعل.
                    وإنما كل فعله تعالى في الخلق والصنع والتكوين مجرد "كلمة"، إنها فعل الأمر: ﴿كُنْ﴾ الآمر بالتكوُّن والتكوين، والتجلي من العدم إلى الوجود.

                    إن كلماته تعالى لا تذهب سدى في الكون، إنها بمجرد ما تصدر عنه -جل شأنه- تنشأ عنها ذوات وحركات في تدبير شؤون الْمُلك والملكوت.
                    إن كلامه تعالى إذَنْ خَلقٌ وتقدير، وأمرٌ وتدبير
                    .(1)

                    ومن هنا كان وصف الله لعيسى عليه السلام -كما سبق بيانه- بأنه "كلمة الله": ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾(النساء:171).
                    وإنما جاء ذلك في سياق الرد على الذين زعموا أنه عليه السلام ابن الله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- فقوله: ﴿كَلِمَتُهُ﴾ دال على أنه تجلي إرادة الله من الخلق والتكوين! وهو ما بيّنه تعالى في الآية الأخرى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(آل عمران:59).
                    ومن هنا كانت البشرى لمريم "كلمةً" كلمة غيرت مجرى التاريخ، وبَنَتْ صرحا شامخا في تاريخ النبوة! قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾(آلل عمران:45).
                    فكان المسيح عليه السلام هو الكلمة! القضية إذن هي في: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ إنها "كلمة الله".(2)
                    فكلام الله تعالى هو التعبير عن إرادة الخلق والتكوين، والتعبير عن قضائه الرباني وقَدَرِه الوجودي، وإن هذا القرآن العظيم لهو ترجمانه الأزلي، ودستوره الأبدي!



                    المتخلق بالقرآن من جنود الله

                    وعليه؛ فإنك إذ تتخلق بالقرآن وتتحقق بمعانيه؛ تنبعث أنت نفسك جنديا من جند الله؛ بل أنت آنئذ جزء من قَدَر الله! وتدبر كيف جعل الله من أتباع موسى عليه السلام أداة قدرية شق بها البحر! تأمل هذا جيدا: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾(البقرة:50).
                    فالله جل جلاله فرق البحر ببني إسرائيل لما كانوا مؤمنين، ولم تكن عصا موسى إلا أداة للفرق، أما العامل الفاعل - بإذن الله - فإنما هو عزائم الإيمان
                    التي استبطنها كثير من أتباع موسى فكانوا جزءا من الخارقة نفسها ولم يكونوا غيرها! فتأمل
                    : ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ هكذا: ﴿بِكُمْ﴾ وليس "لكم"!

                    وإن كان معنى هذه متضمَّنا في الأولى، ولكنَّ القصد بيانُ أن العبد إذا صار وليا لله كان أداة بين يدي الله -سبحانه- في تنفيذ قدَره في التاريخ! واقرأ إن شئت ما ورد في الحديث القدسي: "من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب" إلى قوله عنه: "فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به،
                    ويدَه التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"
                    (رواه البخاري).

                    ألا يا حسرة على العباد حقا! وعلى هؤلاء المسلمين بشكل خاص!
                    وإذن؛ فإن هذا القرآن لو صرَّفه أهلُه حركةً في الأرض لكان أقوى من أن تـثبت أمامه كلمات الشيطان وسحر الإعلام، بل هو الحق الذي قال فيه الحقُّ جل جلاله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾(الأنبياء:18).
                    لا طاقة لكهان السياسة ببرهانه! ولا قِبَلَ لدجاجلة الإعلام بسلطانه! ولا ثبات لطاغوت الأرض أمام رجاله! ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الحشر:21).
                    وكيف لا؟ وهو قد جاء بفهرست الوجود كله! كيف وقد تنَـزَّلَ بديوان الكون كله! وإن ذلك لَقولُ الحق جل علاه: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(الأنعام:38). قال: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ يعني: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ وإنما جاءت الآية في سياق الخَلْق والتكوين لا في سياق التشريع كما توهم بعضهم! فهو شمول أوسع من مجرد الأحكام والحدود بكثير، شمول يسع العمران البشري كله، بل يسع عالم الملك والملكوت بما امتد إليه من غيب مجهول!



                    الدلالات الرمزية لقصة موسى عليه السلام

                    إن القرآن عندما يأخذه الذين ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾(البقرة:121) يكون بين أيديهم نورا يبد
                    د ظلمات الضلال، وزلزالا يخسف بحصون الإفك والدجل أنى كانت، ومهما كانت! واقرأ قصة موسى مع سحرة فرعون فإن فيها دلالة رمزية عظيمة على
                    ما نحن فيه، في خصوص زماننا هذا!
                    ذلك أن "كلمة الباطل" كانت تمثلها آنئذ زمزمات السحرة، فتجردوا لحرب كلمة الحق التي جاء بها موسى،
                    وخاضوا المعركة على المنهج نفسه الذي يستعمله الباطل اليوم، إنه منهج التكتلات والأحلاف! تماما كما تراه اليوم في التكتلات الدولية التي تقودها دول الاستكبار العالمي ضد المسلمين في كل مكان!

                    اقرأ هذه الكلمات مما حكاه الله عن سحرة فرعون لما قالوا
                    : ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾(طه:64).. إنه إجماع على
                    الكيد، كهذا المسمى في السِّحر الإعلامي المعاصر: بـ"الإجماع الدولي" و"الشرعية الدولية" والمواجهة لا تكون إلا بعد جمع كلمة الأحلاف وصنع الائتلاف؛ لمحاصرة الحق من كل الجوانب
                    ﴿ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا﴾ ثم يكون توريط المشاركين وتورطهم في الغزو بصورة جماعية، ولو بصورة رمزية!
                    وذلك للتعبير عن "الصف" في اقتراف الجريمة، فيتفرق دم المسلمين في القبائل! قالوا: ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾
                    وتلك واللهِ غاية دول الاستكبار العولمي الجديد، التي يصرح بها تصريحا: السيطرة على العالم بالقوة! والتحكم في مصادر الخيرات والثروات!



                    ولكن أين أنت أيها الفتى القرآني؟


                    أنت هنا!.. اقرأ تتمة القصة وتأمل: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
                    مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ
                    سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾
                    (طه:65-69).
                    إن القرآن الذي بين يديك أشد قوة من عصا موسى قطعا! فلا تبتئس بما يلقون اليوم من أحابيل ثقافية وإعلامية وسياسية حَذَارِ حَذَارِ! وإنما قل لهم: ﴿بَلْ أَلْقُوا﴾.. وَتَلَقَّ عن الله كلماته بقوة، أعني قوله تعالى: ﴿قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى﴾ وبادر إلى إلقائها بقوة، كما تلقَّيتَها بقوة: ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾

                    إنَّ كلمات القرآن عندما تُـتَلَقَّى بحقها تصنع المعجزات! فإذا أُلْقِيَتْ بقوة أزالت الجبال الرواسي، من حصون الباطل وقلاع الاستكبار! و
                    لذلك قال الله لرسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾(النمل:6). وأمره بعد ذلك أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادا كبيرا! وهو قوله تعالى: ﴿فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾(الفرقان:52). والمقصود بمجاهدة الكفار بالقرآن: مواجهة الغزو الثقافي والتضليل الإعلامي بمفاهيم القرآن وحقائق القرآن.

                    إن تلك الثقافة وذلك التضليل هما اللذان يجعلان الشعوب تقبل أن تكون حقولا لتجريب أحدث أسلحة الدمار والخراب!
                    إن العبد لا يكون عبدا تحت أقدام الجلّاد؛ إلا إذا آمن هو أنه عبد! ووطن نفسَه للعبودية! مستجيبا بصورة لاشعورية لإرادة الأقوياء.
                    وذلك هو السحر المبين. والقرآن هو وحده البرهان الكاشف لذلك الهذيان، متى تلقته النفس خرجت بقوة من الظلمات إلى النور. فيا له من سلطان لو قام له رجال!

                    إن المشكلة أن الآخرين فعلا يلقون ما بأيمانهم، فقد ألقوا اليوم "عولمتهم"، لكننا نحن الذين لا نلقي ما في أيماننا، ويقف المشهد -مع الأسف-
                    عند قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ (طه:66-67)،
                    ثم لا يكتمل السياق، وتلك مصيبتنا في هذا العصر.



                    كلمات القرآن تصنع الرجال

                    نعم، إن كلمات القرآن -عندما تؤخذ بحقها- تصنع رجالا لا كأي رجال، إنها تصنع رجالا ليسوا من طينة الأرض. ذلك أنها تصنع الوجدان الفردي والجماعي والسلطاني للإنسان، على عين الله ووحيه؛ فيتخرج من ذلك كله قوم جديرون بأن يسموا بـ"أهل الله وخاصته"،
                    وبهذا يتحولون إلى قَدَر الله الذي لا يرده شيء في السماء ولا في الأرض، فَيُجْرِي الله جل جلاله بهم أمره الكوني في التاريخ.
                    أولئك الذين تحققوا بمعية رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلُّما وتزكيةً
                    : ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾(الفتح:29).

                    إن كلمات القرآن هي السلاح الأوحد لمواجهة تحديات هذا العصر، إنها تتحدى اليوم -بما تزخر به من قوى غيبية- العالَمَ كله،
                    فهل من مستجيب أو هل من مبارز؟ ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾(الإسراء:88). إنها كلمات تصنع كل ما يدور بخيالك من أسباب القوة والمَنَعة، من الإنسان إلى السلطان. ذلك أنها إذا تفجر نورُها ببصيرة العبد المتخلق بالقرآن، المتدبرِ لآيه العظيم، والمتحققِ بِحِكَمِه؛ جعل منه هو نفسه سلاحا يسحق ظلمات العصر ويكشفها كشفا، وبرهانا يدمغ باطل هذا الوابل
                    الإعلامي الذي يهطل بالمصطحات المغرضة، والمفاهيم المخربة للمخزون الوجداني والثقافي للأمة، بما يبني من الوجدان الفردي للإنسان ما لا طاقة لوسائل التدمير المادية والمعنوية معا -مهما أوتيت من قوة- على تغييره أو تفتيته. ثم هو -في الوقت نفسه- يبني النسيج الاجتماعي للأمة، ويقويه بما لا يدع فرصة لأي خطاب إعلامي مضاد أن ينال منه، ولو جاء بشر الخطاب وأشد الخراب، كلمةً وصورةً وحركة!



                    القرآن سر الكون ومعجزة القضاء والقدر

                    إنه القرآن، سر الكون ومعجزة القضاء والقدر، ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَاْلأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(الزمر:67). هذا الرب العظيم -لو أنت تعرفه- إنه يتكلم الآن، ويقول لك أنت،
                    نعم أنت بالذات؛ لو أنت تستقبل خطابه: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾(المزمل:5)
                    فافتحْ صناديق الذخيرة الربانية بفتح قلبك للبلاغ القرآني وكن منهم: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾(الأحزاب:39)، إذن تتحول أنت بنفسك إلى خَلْق آخر تماماً، وتكون من "أهل القرآن" أوَ تدري من هم؟ إنهم "أهلُ الوَعْدِ" وما أدراك ما "أهلُ الوَعْد"؟ إنهم بَارِقَةٌ قَدَريةٌ مِن: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً﴾(الإسراء:5).. أولئك "أهل الله وخاصته"(رواه أحمد والنسائي وابن ماجه).

                    وأولئك أصحاب ولايته العظمى، الذين ترجم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فيما يرويه عن الله ذي العظمة والجلال: "من عادى لي وليّا فقد آذَنتُه بالحرب!" (رواه البخاري)، ذلك؛ وكفى.
                    وليس من مصدر لهم إلا كلمات الله.. هي المعمل، وهي الزاد، وهي قوت الحياة، وهي المنهاج، وهي البرنامج، وهي الخطة، وهي الإستراتيجيا. وما نستهلك دونها من الكلام إلا ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾(الأنعام:112). وليس عبثا أن العرب لما سمعتها تتلَى فزعت، فصاحت:
                    ﴿لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾(فصلت:26).

                    إنه المنهج نفسه الذي يتعامل به المغرضون اليوم مع القرآن، وهو الأسلوب المخادع عينه الذي تستعمله كل وسائله الإعلامية، بما فيها تلك الأشد فتكا وضراوةً: الفضائيات المباشرة الكبرى! وإنه لخطأ كبير ذلك الذي يمارسه بعض المخلصين للإسلام، من بعض دعاته؛ عندما يفتون بتحريم صحون الاستقبال الفضائي، أو بطرد جهاز التلفزيون من البيت أو تكسيره!
                    وما كانت محاربة الوسائل حلا ناجعا لدفع البلايا قط في التاريخ، وإنما كان أَولى بأولئك أن يدعوا إلى إدخال القرآن إلى البيت، وأن يجاهدوا لجعل تلك الصناديق مجالس قرآنية مفتوحة في كل بيت؛ إن البيت الذي يسكنه القرآن لا يدخله الشيطان أبدا!




                    أعط الشعوب فرصة لاستماع القرآن

                    وكأنما يبدو -عندما أقرأ لبعضهم أو أستمع له، وهو يحرم جهاز التلفزيون، أو يحظر وسائل التلقي الأخرى من الفضائيات إلى الأنترنيت- أننا في حاجة إلى تجديد الثقة بالله أولا! عجبا! ومتى كان شيء أمضى من حد القرآن؟ نعم، فيا من تلعن الظلام في الظلام!
                    إنما كان يكفيك أن تشعل زر النور فقط.. أَشْعِلْه من حرارة قلبك ووجدانك، ومن تباريح إيمانك! أَدْخِل القرآنَ إلى البيت بقوة تَرَ بنفسك غطرسة الإعلام -هذا الغول الذي أفزع العالم وثبط عزائمه- تتحطم بين يديك، كما تحطمتْ من قبلُ أوهامُ سحرة فرعون تحت عصا موسى،
                    وتَرَ كيف أن نور القرآن يبتلع حبالهم وعصيهم، وتَرَ بعينك أنهم:
                    ﴿ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾(طه:69)

                    أدْخِلِ القرآنَ نصّا يُتلى، وآياتٍ تُتَدَارَس، وحركةً حيةً تملأ كيان الأسرة كلها، وتعمر وجدانَها، رجالا ونساءً وأطفالا، اِصْنَعْ ذلك تَرَ عجبا!
                    تَرَ كيف أن الأطفال الصغار -من أسرة القرآن- يرفعون رايةَ القرآن عاليةً، عاليةً في السماء.


                    وإن ذلك لعمري هو عين التحدي الذي جاء به هذا القرآن، لمن كان يؤمن حقا بالقرآن.
                    وما يزال اليقين الذي يعرض به القرآن خطابه الغلاب يرفع التحدي منذ عهد رسول الله صلى الله عليه سلم إلى اليوم، بل إلى يوم القيامة. إنه يقول لك: أعطني -فقط- فرصة لأخاطب الناس.. أو بالأحرى: أعط الشعوب فرصة للاستماع لهذا القرآن؛ قال جل وعلا
                    : ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(التوبة:6).
                    نعم، "ليسمع" فقط، ألا إن هذا لهو عين التحدي! ذلك أن كلماته كفيلة بإخراج الحياة متدفقة بقوة من ظلمات الموات.
                    ذلك أنه أقوى حقيقةٍ راسخة في هذا الكون كله، ذلك أنه القرآن كلام الله رب العالمين! وتلك حقيقة لها قصة أخرى.

                    فلا غَلَبَةَ إذن لمن واجهه القرآنُ المبين، لا غلبةَ له البتة، وإنما هو من المهزومين بكلمة الحق القاضية عليه بالخسران إلى يوم القيامة،
                    ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾(آل عمران:12). وقل لفَتَى الإيمان حاملِ رايةِ القرآن: ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾(آل عمران:196-197).
                    فكل أساطيل الظلمة، وما يمارسونه من غطرسة وتقلب في البلاد من أرض إلى أرض تشريدا وتقتيلا.. كله، كله يرتد مذموما مخذولا؛
                    لو -ويا حسرةً على "لو" هذه!- لو يرفع المسلمون راية القرآن، فيكون مصير النفقات والإعدادات الاقتصادية الضخمة
                    التي يحشدونها؛ لإبادة الشعوب المسلمة المستضعفة، والتي تعد بملايين المليارات؛ إلى خسار محتوم. واقرأ هذه الآية الصريحة القاطعة: ﴿
                    إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾(الأنفال:36).
                    لكن الأمر بقي بيني وبينك الآن، أنا وأنت! هل أخذنا الكتاب بقوة؟ تَلَقِّياً وإلْقَاءً..! وهل حملنا معاً راية التحرير، تحرير ذواتنا نحن المسلمين من هذه الوثنية الجديدة، أو هذا الدِّين الوضعي الجديد: العولمة! بأصنامها الثلاثة: الأول صنم الإعلام الممجِّد للشيطان.
                    والثاني: صنم التعليم العلماني، الذي يربي الأجيال على التمرد على الله، وينتج ثقافة الجسد، المقدِّسة للغرائز والشهوات البَهَمِيَّة. والثالث: صنم الاقتصاد الاستهلاكي المتوحش، المدمر لكل شيء.

                    الأمر بقي بيني وبينك الآن، أنا وأنت! هل أخذنا العهد معا من القرآن؟ على العمل بمفاهيم القرآن، ومقولات القرآن؟ أم أننا لا نزال مترددين؟ نرزح تحت تأثير السِّحرِ الإعلامي والدجَل السياسي، نؤله الأصنام الوهمية التي صنعتها لنا ثقافة الآخر وبرامجه التعليمية، وننبطح متذللين تحت أقدام إغراءات ثقافة الاستهلاك نلتهم كل ما يطعموننا من نجاسات.



                    مدرسة القرآن، لتحرير الإنسان

                    الأمر بقي بيني وبينك الآن، أنا وأنت! فهذا القرآن -عهد الله- يفتح أبواب مجالسه للمؤمنين، الذاكرين، المطمئنين، أهل السِّيمَاءِ النبوية، الرُّكَّعِ السُّجَّد، السالكين إلى الله عَبْرَ مسالك اليقين، متدرجين بالغدو والآصال، ما بين نداءات الصلوات ومجالس القرآن، مُرَتِّلين للآيات، متدارسين
                    ومتعلمين؛ حتى يأتيهم اليقين. تلك مدرسة القرآن؛ لتحرير الإنسان، وفكِّ إسَاره العتيد من أغلال الأوثان، ومفاهيم الشيطان.

                    فيا فتية القرآن! ألم يأنِ لكم أن توحِّدوا القبلة؟.. فإنما كلمة القرآن عهدُ أمانكم، لم يزل نورُها يخرق الظلمات إلى يوم الدين: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(الأعراف:128).

                    ثم ألقى الله -جَلَّ ثناؤه- العهدَ إلى رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾(الشورى:7) قرآنا يتدفق عمرانه الرباني على الأرض، فيملأ العالَم أمنا وسَلاما،
                    ينطلق متدرجا مثل الفجر؛ من تلاوة الذاكرين الخشَّع إلى صلاة العابدين الركع.. ينطلق حركةً قرآنية شعارها: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾(العنكبوت:45).

                    فمن ذا قدير على سماع خطاب الله ثم يخلد إلى الأرض، ويرضى أن يكون مع الْخَوَالِفِ، ويقعد مع القاعدين؟..
                    كيف وذاك عهد الله، عهد الأمان، فمن ذا يجرؤ على خرق أمانه؟

                    ويحك يا صاح!.. تلك الأيدي تمتد إلى يَدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجيبة لتوثيق العهد، وهاتيك: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾(الفتح:10).. إنها مجالس الرضوان، تحت شجرة رسول الله صلى الله عليه سلم،
                    تشرق أنوارها الخضراء على زمانك هذا عبر "مجالس القرآن"، مجالس الخير المفتوحة على وجدان كل مَنْ
                    ﴿كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
                    (ق:37).

                    فاستمع يا صاح!.. ذلك نداء الله يتنـزل عليك! وتلك يد رسول الله تمتد إليك! ولكنَّ الزمن يَتَفَلَّت من بين يديك..! فإلى متى أنت لا تمدّ يدك؟!.
                    المحب لكم: فريد الأنصاري رحمه الله.
                    ـــــــــــــ


                    الهوامش
                    (1) فانظر كم كان خطأ المعتزلة شنيعا لما زعموا أن القرآن -وهو كلام الله- مخلوق!
                    (2) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 4/103.




                    "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                    وتولني فيمن توليت"

                    "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                    تعليق


                    • #11
                      رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟


                      القرآن الكريم روح الكون ومعراج التعرف إلى الله

                      إن هذا الكتاب الموسوم بالقرآن كتابٌ غير عادي تماماً. إنه كلام من طبيعة أخرى، وخطابٌ من عالم آخر. ولكن العادة تضعف الحس البشري؛
                      فليس لنا معشر البشر إلا الوقوف على ضفافه الفسيحة، وتَلَقِّي أمواجه بصدورنا، نتذوق من خلالها مواجيد الإيمان، ونشاهد سُبُحات الجلال والجمال.
                      إن هذا القرآن الكريم ينبئ عن نفسه ويعرف بطبيعته وماهيته. إنه يتكلم إلى الإنسان من خلال بعده الكوني، ومصدره الرباني.
                      ومن هنا فإنه أعمق من أن يحيط به الإدراك المادي المجرد
                      : ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ
                      مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(الش
                      ورى:51) ولذلك فإن أسرار آياته ترتبط جميعا بحقائق الكون.
                      فهو فهرست الوجود، والكشاف الجامع لكل موجود، إذ هو ينتمي إلى عالم "الأمر" ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾(الشورى:52).
                      إنه يمثل في حقيقته وفي وجدان المتبصر لبصائره روحَ الحقائق كلها، فلا حياة لها إلا به.

                      إن عظمة القرآن تتمثل أساسا في أنه "كلام الله رب العالمين".
                      إن ما يبهر الإنسان من ذلك ويفيض مشاعره أن القضية هي من العظمة والرهبة بحيث يستحيل على القلب البشري تحمل مواجيدها،
                      بدءاً بالتفكر في هذا الكون الشاسع الممتد من فضاءات لا يحدها بصر
                      ولا تصور ولا خيال، وما يسبح فيه من نجوم وكواكب ومجرات وسدم غائرة بعيدة بملايين السنوات الضوئية، وما يحيطها من سماوات بعضها فوق بعض،
                      وما يعمرها من خلائق نورانية مما لا يُدرك له شكل ولا صورة، إلى ما بين هذا وذاك من طبقات الزمان المختلفة عدّاً وتقديراً،
                      من الأيام والسنوات، قد يختزل اليومُ الواحد منها
                      ﴿أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾(السجدة:5)، إلى ﴿خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾(المعارج:4).


                      وربُّ هذه العوالم جميعاً، الخالق لها، والمحيط بأزمنتها وأمكنتها كلها، المدبر شؤون حياتها ومماتها وأرزاقها، بقيوميته الممتدة من الأزل إلى الأبد،
                      المالك زمام أحوالها بأنوار أسمائه الحسنى وصفاته العلى سبحانه وتعالى، هذا الرب الرحمن الرحيم والملك العظيم المتنـزه في مطلق علوه وسموه وجلاله وكبريائه؛ يقدر برحمانيته ورحمته أن يكرم الإنسان هذا المخلوق الضعيف القابع في الأرض،
                      هذا الكوكب الضئيل السابح في بحر عظيم زاخر بأمواج السدم والمجرات، فيكون من أعظم مقامات
                      هذا التكريم أن يخاطبه بهذا الكلام الإلهي العظيم: القرآن الكريم!


                      فكيف للنسبي الفاني إذن أن تتحمل مواجيدُه كلام المطلق الباقي؟! كيف للقلب المحكوم بالزمان والمكان أن تستوعب خفقاتُه المعدودة
                      وأنفاسُه المحدودة وقْعَ الكلام الخارق للزمان والمكان؟!
                      وإن الله إذا تكلم سبحانه تكلم من علُ، أي من فوق؛ لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى، فهو فوق كل شيء، محيط بكل شيء علما وقدرة،
                      إنه رب الكون: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾(فصلت:54).
                      ومن هنا جاء القرآن محيطاً بالكون كله، متحدثاً عن كثير من عجائبه،
                      قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *
                      لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
                      (الواقعة:75-80).


                      وهذا المقال يرمي إلى إبراز قضيتين:

                      الأولى: كون القرآن خطاباً كونياً بما هو روح من أمر الله.
                      والثانية: بيان أنه بذلك معراج للتعرف إلى الله جل علاه.

                      الأولى: كونية القرآن الكريم
                      إن معنى "كونية القرآن" لازم من لوازم كونه "كلام الله رب العالمين". فالربوبية قاضية بكل معاني الشمول والامتلاك والسلطنة؛
                      ذلك أن "القرآن" من حيث هو كلام رب العالمين، متضمن لمعنى الربوبية الجامعة لكل عناصر الكون امتلاكا وقهراً. كما أن الكائنات من خلاله تدور جميعها حول هذا المعنى، سالكة إلى الله خالقها، منجذبة إلى نوره تعالى. ولذلك كان القرآن -وهو خطاب الله إلى الإنسان- خطاباً كونياً أيضاً.
                      ويمكن بيان "كونية القرآن" من خلال الخصائص الثلاث الآتية:

                      أ-القرآن قراءة لكتاب الكون، وكشف لأسراره: ومعنى ذلك أنه كتاب كاشف للغز الحياة بصورة بسيطة. فهو يقدم الصعب المعقد تقديماً
                      سهلاً ميسراً، فسهل على العامة والخاصة قراءة مقاصده من خلال أبعاده الكونية؛ إذ يلفت انتباه الإنسان إلى مظاهر الكون وحقائقه ليتفكر في خلق السموات والأرض، كل على حسب طاقته وسعة إدراكه.
                      فيكون القرآن الكريم بكونيته هذه خطاباً لجميع الناس بجميع مستوياتهم الثقافية
                      واختلافاتهم اللغوية والعرقية. وهو ضرب من ضروب الإعجاز. ومن هنا كان القرآن بحقٍ مفسرَ كتاب العالم.


                      بـ-القرآن روح الكون: ومعنى ذلك أنه ما دام المتكلم به هو اللهَ رب العالمين -بالاعتبار الذي ذكرنا- أي "خالق كل شيء"
                      سبحانه، فإنه لا شيء إلا وهو راجع في حقيقة وجوده إلى حقائق القرآن الكونية.
                      وما علمنا ذلك كله إلا من خلال القرآن الكريم الذي هو كلام رب العالمين الخالق لكل شيء. فالقرآن يمثل -من حيث حقائقه- حقائق الكون كله،
                      بدءا بقصة الخلق إلى غاية الإعادة من يوم القيامة
                      ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾(الأنبياء:104)، ثم البعث والنشور، فالمصير.
                      فلو تُصُوِّر عدم حقائق القرآن -وهو فرض محال- لاستحال تصور وجود العالم الكوني كله.

                      ثم إن حقائق القرآن التي هي التفسير السليم لنظام الكون، هي وحدها القادرة على الحفاظ على ذلك النظام الكوني في العقل.
                      ولو افترضنا تفسيراً غيرها، لعمت الفوضى تصورات العقول، ولاختل التوازن في الفكر، بتصورات لا يمكن إلا أن تؤدي في النهاية
                      إلى افتراضات تقضي في المنطق العقلي إلى اختلال الكون كله في التصور. وبهذا المعنى كان القرآن هو روح الكون.


                      جـ-القرآن محيط بمفهوم الزمان الكوني: إذا كان القرآن كلام الله رب العالمين، فإنه صفة له سبحانه؛ لأن الكلام صفة للمتكلم.
                      وقد عُلم أن الله سبحانه وتعالى محيط بالزمان والمكان. فهو فوق كل شيء ومحيط بكل شيء، لأنه تعالى خالق كل شيء. من هنا إذن كان القرآن محيطاً بالزمان الكوني: الماضي والحاضر والمستقبل جميعاً، ثم بالزمان الأرضي، وهو الزمان بالتقدير البشري الدنيوي مما نعد به التاريخ والأعمار،
                      وكذلك بالزمان المعراجي بنوعيه: الأمري والملائكي.

                      فالزمان الأمري هو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾(السجدة:5)،
                      والزمان الملائكي هو المشار إليه في قوله سبحانه: ﴿تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾(المعارج:4).
                      وكذلك الزمان العندي وهو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾(الحج:47).

                      ثم الزمان الأخروي وهو الزمان الخالد السرمدي الذي لا ينتهي أبداً مما يكون بعد إعادة الخلق، حيث قيام يوم الدين، من بعث وحشر وحساب
                      وجنة ونار. فحديث القرآن عن ذلك كله حديث جامع مانع. ومن هنا كان محيطاً بكل الزمان، مما ينتسب إلى عالم الغيب أو إلى عالم الشهادة.


                      ذلك هو القرآن... كلام من أحاط بمواقع النجوم خلقا وأمرا وعلما وقدرة وإبداعاً. فجاء كتابه بثقل ذلك كله، أنزله على سيدنا محمد ،
                      من بعدما هيأه لذلك وصنعه على عينه سبحانه جل وعلا، فقال له: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلًا﴾(المزمل:5).
                      ومن هنا لما كذب المنكرون بالقرآن للقرآن، نعى الله عليهم ضآلة تفكيرهم وضحالته وقصور إدراكهم وضعف بصرهم عن أن يستوعبوا بعده
                      الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ
                      وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾
                      (الفرقان:5-6) وإنه لرد عميق جداً.

                      ومن هنا جاء متحدثاً عن كثير من السر في السماوات والأرض؛ قال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ
                      أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾
                      (الكهف:54)، وقال جل وعلا: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ
                      أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾
                      (فصلت:53-54).



                      الثانية: القرآن معراج التعرف إلى الله

                      إن أول مقاصد القرآن الكريم إنما هو تعريف الناس بالله، المتكلم بالقرآن. ولذلك جاء تعريف الله لذاته سبحانه بأسمائه الحسنى مباشرة بعد التنبيه
                      على عظمة هذا القرآن -كما جاء في سورة الحشر- كأنه قال: اعرف القرآن أولاً تعرف الله.
                      أَوَليس هو تعالى المتكلمَ بالقرآن؟ قال جل وعلا: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(الحشر:21)، فقال بعدها مباشرة: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ
                      الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
                      (الحشر:22-23).
                      إن الذي ينصت إلى خطاب الفطرة في نفسه يسمع نداء عميقا يترجم الرغبة في معرفة من أسدى إليه نعمة الوجود، ذلك الإنسان مفطور
                      على شكر من وصله بمعروف. ومن هنا نخلص إلى نتيجة وهي "حق الخالقية" هو مفتاح التعرف إلى الله.

                      وهذه حقيقة قرآنية كبرى تترتب عليها أمور كبيرة في حياة الإنسان. ذلك أنه كلما نادى الله الناس في القرآن بالاستجابة لأمره التعبدي ناداهم من حيث هو خالقهم، هكذا، بهذه الصفة دائماً، وهو أمر مهم فيما نحن فيه من طريق المعرفة بالله، أي إنه تعالى يسألهم أداء "حق الخالقية"،
                      هذه الصفة العظيمة لذاته تعالى، التي بها كنا نحن الناس هنا في الأرض نتنفس الحياة.

                      قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ
                      السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
                      (البقرة:21-22)، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾(النساء:1).

                      هاتان آيتان كليتان من القرآن العظيم، تعلق الأمر فيهما بالعبادة والتقوى، وما في معناهما من الانتظام في سلك العابدين، وفلك السائرين إلى الله رب العالمين، إثباتاً لحق الله من حيث هو خالق للبشر. ولا يفتأ القرآن يذكّر بهذه الحقيقة باعتبارها مبدءاً كليا من مبادئ الدين والتدين، وأنها العلة الأولى منه، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:51) إنها آية كونية عظمى.. إنها مفتاح من مفاتيح فهم القرآن العظيم، وباب من أبواب
                      معرفة الربوبية العليا.. قال تعالى في سياق الحِجاج: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾(نوح:13-14).
                      إنه تعالى ربط حقه سبحانه على عباده بمبدإ خلقهم أطوارا.. فكلما ازداد المنكرون تعنتا ازداد القرآن إفحاما في بيان تفاصيل
                      الخلق. فتلك حجة الله البالغة إجمالا وتفصيلاً.


                      وكما كانت تلك هي حجة القرآن في الدعوة إلى العبادة، وإثبات "حق الخالقية" لله الواحد القهار؛ كانت هي عينُها حجته في الدعوة إلى التوحيد
                      ونفي الحق الوهمي للشركاء، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(الروم:40). وبهذا المنطق أيضا رد الله على المشركين، كما في قوله تعالى: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾(الأعراف:191).
                      وقوله سبحانه: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾(النحل:17).
                      فما كان هذا البيان والتفصيل لقضية الخلق ليكون؛ لولا أنها قضية كونية كبرى، ينبني عليها ما ينبني من مصير وجودي في حياة الإنسان،
                      هذا المخاطب بها ابتداء.

                      إن "قضية الخلق" تمثل مفتاح فهم الربوبية، إنها المبدأ الكلي الذي على أساسه خاطب الله الإنسان بكل أمر ونهي، بل إنها تمثل البنية الأساس
                      لخطابه، الذي عليه يتفرع كل شيء، مما قرره في العقيدة والشريعة على السواء. نعم، "حق الخالقية" إذن هو مفتاح التعرف إلى الله جل وعلا.

                      إن إحساس الإنسان بوجوب هذا الحق عليه يخرجه من التيه الوجودي، أو بعبارة قرآنية يخرجه ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾(البقرة:257). وأيّ ظلام أشد من التصور العبثي للحياة! فبأي نفسية يعيش الإنسان هذه الحياة وهو يرى أنما غايتها إلى العدم المطلق
                      والفناء الرهيب، الذي ما بعده حياة؟!



                      إن السالك حينما يذوق من معرفة الله لمعات وأنوارا يتعلق قلبه بحب الله تعالى، لأنه هو الذي أوجده وخلقه، وإنما يجد الجمال الحق في تلك المعرفة.. وإنما نرى جمال الله سبحانه وتعالى في شعورنا القوي بجمال خالقيته تعالى وكمال قيوميته وحسن إجابته وكرم رعايته، وقرب رحمته وأنسه.

                      فلم يكن عبثاً إذن أن يتوارد ذكر الأسماء الحسنى والصفات الإلهية العلا عبر كل فصول القرآن.
                      فهي كالنجوم الدرية تتلألأ بالنور الرباني العظيم في تلك المسافات جميعاً، ما بين السوابق واللواحق والقرائن، بما يجلي للعبد الذاكر جمال الله وجمال المعرفة به، فيعبّد له طريقها سالكة جلية. ولكن كل ذلك إنما يكون على قدر شهود القلب وصفاء البصيرة وصدق الإقبال
                      على الله عند الدخول في مشاهد الذكر والتلاوة للكتاب.

                      إن العبد الذي أيقن بمعرفة الله يفيض قلبه بالمحبة، محبة كل شيء، إذ يجد أخوة إيمانية في وجدانه مع كل شيء من الكائنات، عدا من تولّى. فالكل مستغرق في عبادة الله سائر إليه عبر مسالك المحبة ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾(الإسراء:44).
                      ولقد جعل الله لنبيه داود معجزةَ كشفٍ لبعض ذلك، فكانت الجبال والطير تسبح بتسبيحه وتدعو بدعائه، في مجالس تفيض بالنور والجمال،
                      تلتقي على موعد بالغدو والآصال، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾(ص:18-19).

                      إن الكون كله في وجدان المسلم مثل طيور داود عليه السلام، مجالس أنس وذكر تشعره بالأخوة الكبرى في السير إلى الله عبر أفلاك العبودية: ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾(الأنبياء:21)، فالمعرفة طريق لا تنفد تجلياتها، ولا تنتهي إشراقاتها إلا بلقاء الله، حيث ينكشف
                      سر السير إلى الله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾(الحجر:99)، ويرى العبد هناك بعين اليقين حقيقة الوجود الدنيوي من
                      خلال وجوده الأخروي: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾(ق:22).


                      إن المعرفة بالله تملأ القلب أنسا بالله، ثم أنسا بالحياة، وأنسا بالكون والكائنات، وأنسا حتى بالموت الذي لن يرى فيه العبد المحب -إذ يقف عليه- إلا موعدا جميلا، للقاء جميل، مع رب جميل. فذلك ذوق الإحسان في قمة المشاهدات الإيمانية.
                      وإنما "الإحسان أن تعبد اللهَ كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (متفق عليه).

                      وعليه فإن هذا الإنسان بما هو مخاطب بهذا القرآن أساسا بأبعاده "الأمرية" المذكورة هو إنسان "كوني" بامتياز. فهو لا يسكن الأرض إلا بقدر ما يسكن الكون كلَّه حقيقة. وبما أن البشر شتى خلقا وتقديرا وسعيا وتدبيرا، فقد كان هذا القرآن على نفس تلك السعة والشمول من
                      الإمكانات المتصورة للنشاط الإنساني في الأرض على الإطلاق. ولذلك جاء جامعا لكل معارج الكتب السماوية السابقة بدون استثناء؛ ففيه معارج إبراهيم ومعارج موسى ومعارج داود ومعارج عيسى ثم فيه معارج أخرى فُضْل تفرد بها القرآن الكريم لم تفتح قبله قط في التاريخ.
                      وكل ذلك جميعه كان معارج لنبي هذه الأمة الرسول الجامع المانع سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.

                      إن هذا القرآن بعمقه الكوني هذا، المطلق عن الزمان والمكان يحقق أخوة إنسانية كبرى، لا يمكن أن تتحقق على هذا الوزان بسواه؛ لأنه شبكة اتصال وجودية ذات أنسجة أفقية وعمودية، فيها مداخلُ لا حصر لها للإمكانات البشرية.
                      ولذلك فهو يتيح لكل إنسان مهما كانت ميوله وإمكاناته الطبيعية والفطرية والاجتماعية والثقافية أن يتصل بحقائق الوجود الحق:
                      ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾(الشورى:52-53).
                      وبما أن شبكته موئلها -في نهاية المطاف- واحد، فهي تصل في الختم إلى الحق الواحد ﴿أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾(الشورى:53)،
                      وهنالك يجد المؤمن لذة التعرف إلى الله جل وعلا.


                      بناء على ما تقرر من أن غاية الخلق الإلهي للإنسان إنما هي التعرف إلى الله جل علاه، فقد جعل له صلى الله عليه وسلم وسيلة من أعظم الوسائل التعبدية، ألا وهي التعارف. فالإنسان بما هو مفطور خلقة على سنة الاجتماع البشري -إذ خلق من ذكر وأنثى وجعل شعوبا وقبائل- فقد خلقت أرواح الناس لتلك الغاية على ائتلاف واختلاف بقصد إنتاج التكامل المعرفي في طريق السير إلى الله تعالى.
                      وهذا من أعجب السنن الإلهية في الخلق البشري وألطفها، وهو مفهوم من آية قرآنية وحديث نبوي شريف.
                      فأما الآية فقوله تعال
                      ى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات:13). وأما الحديث فهو قوله عليه الصلاة والسلام: "الأرواح جنود مُجنَّدة، فما تعارف منها ائْتلف، وما تناكر منها اختلف" (متفق عليه).

                      إن التعارف العمراني ضروري للإنسان، ليس فقط لأنه لا يمكن أن يعيش بصورة انفرادية اعتزالية، فهذا أمر بديهي، ولكن ليكون
                      ذلك مقدمة لإنتاج حوار في المجال الروحي، والتداول المعرفي بحقيقة المعرفة بالله في طريق السير إلى الله.

                      إن العلاقات الأفقية على المستوى البشري العمراني في شبكة الاتصال المعرفية إذا أتيحت لها ظروف الحوار الهادئ الصادق،
                      والتعارف البناء الواثق، تفضي في النهاية إلى علاقات عمودية متوازنة ترتفع بالإنسان إلى السماء في طريق معرفة الله، بل في طريق التكامل في تلك المعرفة.
                      إن هذا القرآن محفوظ بحفظ الله محروس بقدرته جل علاه، كما نص عليه القرآن بآيه المحكم وكما رسخته حقائق التاريخ الطويل.
                      ومن هنا فإن كل من تعلق بمحفوظ فهو محفوظ بالضرورة.

                      محبكم فريد الأنصاري



                      "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                      وتولني فيمن توليت"

                      "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                      تعليق


                      • #12
                        رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟


                        جمالية التعريف القرآني بالله

                        الله ربًّا هو بدء تدفق الجمال على عقيدة الإسلام، إذ إن جمال الرب عز وجل يفيض من بهاء ذاته تعالى وصفاته. وإنما صفاته تعالى هي صفات الجمال والجلال، إنه النور الخارق الذي لا يطاق. فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال:
                        "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القِسْطَ ويرفعه. يُرْفَعُ إليه عملُ الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عَمَلِ الليل، حِجَابُهُ النور،
                        لو كشفه لأحرقتْ سُبُحَاتُ وجْهِهِ ما انتهى إليه بصرُه من خلقه."(
                        رواه ابن ماجه)
                        والسُّبُحَات جمع سُبْحَة: وهي ما يفيض عن الذات الجميلة من لآلئ النور، ونوابض الحسن، وأشعّة الجمال. ومن هنا وصف سبحانه أسماءه -
                        وهي أسماء صفات- بكونها "حسنى". إنها أنوار متدفقة من مشكاة الله ذات البهاء الدرّي، قال تعالى
                        : ﴿وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾(الأعراف:180). وقال سبحانه: ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾(الإسراء:110). ومن هنا كانت البداية في قصة المحبة.



                        النعمة الأولى.. الخلق

                        الله.. هو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء. سبحانه وتعالى علوا كبيرا. إنما عرفه الإنسان أول ما عرفه "ربا"، فلما عرف منه تعالى ما عرف،
                        ألِهَه قلبه فعبَده. إن أول نعمة إلهية ظاهرة فاضت أنوارها على الإنسان من مشكاة أسماء الله الحسنى "الخالق" و"البارئ" و"المصور"، وما إليها من الأسماء والصفات كانت هي خلق آدم عليه السلام. ثم توالت عليه بعد ذلك النعم تترى مما لا يحصى ثناء وشكرا، رزقا ورعاية وهداية...إلخ. ولذلك وجب
                        أن يكون أول ما ينطق به الإنسان -أي إنسان- في حق ربه سبحانه وتعالى هو الحمد والشكر أولا وقبل أي شيء.

                        ومن عجيب أمر الله الكوني سبحانه، أن أول كلمة نطق بها آدم عليه السلام بُعَيْدَ ما انبعث فيه الروح هي ﴿اَلْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الفاتحة:2) (انظر: ابن حبان والحاكم). ولذلك فإن القرآن الكريم -وهو كتاب الله- افتتح بالحمد لرب العالمين، وتمجيد أسمائه الحسنى، ثم بعد ذلك ثنى بالعبادة التي هي نتيجة للربوبية. فكانت سورة الفاتحة وهي فاتحة القرآن.


                        الربوبية والعبودية
                        إن توحيد الربوبية هو اعتراف بسيادة الله على الكون والخلق أجمعين، اعترافا يتضمن الرضى به ربا وسيدا، والإيمان بما له تعالى من صفات
                        الجمال والجلال. فربوبيته سبحانه إنما تعرف من خلال صفاته تعالى؛ ولذلك فقد سمى عز وجل نفسه بأسمائه الحسنى، وطلب منا إحصاءها والدعاء بها؛ أي أن نوحده في إلهيته تعالى بها، وذلك باب العبادة. ومن هنا كان توحيد الإلهية موصولا بتوحيد الربوبية، وهو منطوق القرآن ومفهومه.
                        قال تعالى: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾(الرعد:30).

                        فأثبت الربوبية أولا من خلال اسمه الرحمن، ثم ثنى بكلمة الإخلاص باب التعبد. والجميل حقا أن ربوبيته تعالى تتجلى في أسمائه الحسنى، ومن هنا كان البدء بها في القرآن، وفي كل أمر ذي بال. إن جمال الربوبية المتجلي في جمال الصنعة، وكمال الخلق، وتدفق الإنعام، والفيض على العالمين بالحياة...إلخ. هو الذي بهر القلوب المحبة للجمال، فخضعت له عابدة متبتلة في محاريب الإيمان، مقرة أنه "لا إله إلا الله".
                        إن المحب الذي فني في المحبوب إنما حصل له ما حصل لما رآه في محبوبه من خصال الجمال والجلال.

                        "الله".. هذا الاسم العظيم، الدال على الذات الإلهية، يثقل وقعه في القلب العارف به تعالى حتى التصدع، قال صلى الله عليه وسلم:
                        "ولا يَثْقُلُ مع اسم الله تعالى شيء"(رواه الإمام أحمد). إنه ثقل الربوبية الذي ينـزل بجلاله وجماله الذي لا يطاق على الصخر فيجعله دكا،
                        ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾(الأعراف:143)، ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾(الحشر:21).


                        المحبة ثمرة المعرفة

                        من هنا إذن كانت معرفة الربوبية مورثة لمحبة الله، أي لعبادته. ولذلك فقد وردت التوجيهات التربوية النبوية للأمة العابدة المحبة
                        لربها أن تذكره تعبدا بجلال ربوبيته سبحانه. قال صلى الله عليه وسلم: "من قال رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة" (رواه أبو داود). وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا السياق قصة طريفة مفادها أن عبدا من عباد الله قال:
                        "يا ربي، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك" فَعَضَلَتْ بالملَكَين فلم يدريا كيف يكتبانها.
                        (...)
                        فقال الله عز وجل: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها"(رواه الإمام أحمد).

                        إن الإعضال الذي حصل للملائكة الكتبة، إنما هو بسبب أن هذا العبد قد حمد الله حمدا موصوفا بصفة الله المطلقة
                        "كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانكوهو ما لا يمكن أن يحيط به عبد من عباد الله علما، لأنه متعلق بما هو عليه الله "ربا" في ذاته تعالى وصفاته، من جمال وجلال، وبما يفيض عن سلطانه العظيم من تقدير وتدبير على الإطلاق. وعلم ذلك هو عين المستحيل، فكان أن فزع المَلَكان إلى الله
                        من هذا التعبير الذي أربكهما إرباكا.

                        إنها عظمة الربوبية التي توجب الخضوع لله الواحد القهار.

                        إن هيبة الجمال والجلال في ذات الرب العظيم، تورث العبودية في القلب المؤمن بالله.
                        ومن هنا كان ذلك الفضل الكبير الذي بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم لمن أحصى أسماء الله الحسنى أو حفظها لما لهذه الأسماء من أنوار لا تفتأ تفيض
                        عن ذات الرب سبحانه وتعالى بمعاني الكمال والجلال. قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:

                        "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة،"(متفق عليه).

                        والحفظ المذكور في الحديث لا يدل على المعنى الشكلي للفعل، من عدّ أو استظهار فحسب، وإنما يدل على الحفظ بمعنى الاستيعاب
                        القلبي والاستحضار الشعوري كما في قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾(يوسف:55)، مشيرا بالحفظ إلى الأمانة وهي معنى قلبي محض.

                        إن تَمَثُّلَ مقتضيات أسماء الله الحسنى تمثل المحب المتعلق ببابه الكريم يرجو وصاله والنهل من أنواره، هو الذي يفتح الطريق للعبد السائر إلى الله للحصول على الإذن الملكي العالي إكراما لمحبته والتعلق بأسمائه.



                        جمال وجلال.. بجانب الطور الأيمن

                        ومن أطرف المواقف الإلهية، وأكثرها جمالا وجلالا، خطابه تعالى لنبيه موسى عليه السلام، بجانب الطور الأيمن.. إنه حدث وجداني عظيم يهز القلب هزا... موسى تائه في غسق الليل بين الجبال، يسير بأهله، يبحث عن دفء، حتى إذا تفرّد بين الشعاب باحثا سمع الله يتكلم..
                        أتدرون ما تقرؤون؟ إنه سمع الله يتكلم... وتلك حقيقة كونية رهيبة لا تسعها العقول تصورا، ولا القلوب استشعارا. ولكن الأجلَّ في الموقف أنه يتكلم معه "هو" بالذات... الله الملك العظيم رب الأرضين والسماوات، رب الفضاءات والمدارات...
                        يكلم هذا العبد الضئيل، بل هذه الذرّة الدقيقة التائهة في الفلَوات... هل تستطيع أن تتصور نفسك هناك؟ إذن أنصت لكلام الله:

                        ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾(طه:14).


                        موسى التائه الباحث يسمع متكلما، فيجده أنه يخاطبه ويعرّفه بنفسه، فكانت هذه الكلمات الجليلة العظيمة: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا﴾... عبارات شارحة لمعنى الإسلام وعقيدة الإسلام، عقيدة المحبة العليا.. فقد سمّى الله نفسه سبحانه باسمه العَلَم معرفا بذاته "الله". وهو الاسم الجامع لكل الأسماء الحسنى والصفات العُلَى.. ثم قرّر ما ينبغي أن يعرفه العبد عن ربه: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا﴾، فلا ينبغي أن يسكن قلبَك يا موسى حُبُّ سواي،
                        ولا أن تجرد وجدانك لغيري، فمقام الإلهية يقتضي من الخلق الانتظام في سلك الخدمة والطاعة لسيد الكون، الربّ الأعلى.
                        وذلك تفريغ القلب من كل المقاصد سوى قصد الله،

                        وتجريده غصنا فقيرا بين يديه تعالى، إلا من أنداء الشوق وخضرة الرضى، تنساب مستجيبة لأنسام المحبة الإلهية أنىَّ هبّتْ،
                        انسيابا لا يجد معه العبد كلفة ولا شقّا، بل هو انسياب الواجد راحته ولذّته في عبوديته لرب العالمين، واهب الألطاف الخفية، والأسرار البهية،
                        الملك الحليم ذي الجمال والجلال.



                        الله.. الاسم الجامع لكل الأسماء


                        ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ﴾.. هذا الاسم العظيم الجامع لكل معاني الربوبية والإلهية، يقتضي تمثله على مستوى القلب شعورا بالرغبة والرهبة،
                        وهما صفتان تفيضان عن القلب الذي وجد لمسة الحب، وهو مخ العبودية. وإنما العباد سالكون بين ضفّتي الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء. فأنْعِمْ به مِنْ جمال في السير، وأكْرِمْ به مِنْ بهاءٍ في السُّرَى
                        . ولذلك قال له بَعْدُ ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا﴾؛ لأن المتمثل لحقيقة "الله"، ﴿إِنَّنِي أَنَا اللهُ﴾ ربوبيةً وألوهيةً،
                        لا يملك إلا أن يخضع لله شاكرا وعابدا. فليكن إذن خضوعا لا يشرك معه فيه أحدًا.


                        ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا﴾.. تقرير اعتقاد، نعم، لكنه من العبد شعور.. يحتاج إلى مصداق من الأعمال والفعال. وهل يملك من يجد في قلبه شيئا أن يكتمه؟ خاصة إذا كان هذا الذوق الموجود من الجمال والجلال ما لا يستطيع قلب بشري أن يحتمله سرًّا إلى الأبد.
                        فلا بد إذن من التعبير، وذلك هو أركان الإسلام الخمسة: النطق بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا. أعمال وأفعال كلُّها تسلك بالعبد مسلك الخدمة والطاعة لله رب العالمين، وتشعر صاحبها بمقدار ما يجده في قلبه من الحب،
                        وما يعترف به من إقرار على نفسه، إذ شهد أنه "لا إله إلا الله".


                        فإلى أي حد هو صادق فيما عبر به عن نفسه؟ إنها شهادة على القلب. أفَتراه كان صادقا كل الصدق أم بعضه؟ ولذلك قال عز وجل لموسى: ﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾. العبادة إذن هي "التعبير".. التعبير الظاهر عما وجده المسلم في الباطن، إذ شهد ألا إله إلا الله.
                        إنها تعبير المحب عما وجد من حب، وأيّ محبٍّ يستطيع الكتمان؟



                        الصلاة.. أمّ العبادات

                        وبقيت الصلاة في الإسلام كما كانت في الأديان السابقة أم العبادات. ولذلك خصها الله بالذكر هنا رمزا لكل خضوع
                        وخشوع ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾.. وما كل أركان الإسلام في الجوهر -مهما تعددت أشكالها- وهيآتها إلا "صلاة"! ولذلك قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة"(رواه أحمد). فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول الإسلام هو الصلاة،
                        لما في معنى الصلاة من جمع لكل مواجيد التعبد والخضوع لله رب العالمين، وذلك هو المقتضى العملي لكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله".
                        والترجمة الفعلية للأمر الملكي: ﴿فَاعْبُدْنِي﴾ الذي جاء تفسيره وبيانه بعدُ مباشرة ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾.

                        فيا لجمال "الذِّكْرِ" في سياق الصلاة! ذلك التعبير المليء بالإيحاءات الوجدانية، التي تحدو الأحبة بالتراتيل الملتهبة شوقا لديار المحبوب.

                        وذكر الله هو مقام الأدب مع الله.. فالعبد الحقيقي هو الذي لا يفتأ يذكر سيده فلا ينساه.. وهل ينساه حقا؟ إذن ليس بعبد،
                        وإنما العبد من كان دائم الحضور بباب الخدمة، لا يفتأ واقفا بأدب العبودية إلى جانب الأعتاب العليا..
                        فأنى ينسى مولاه؟ أن تصلي يعني أن تكون دائم الذكر لله.. ولذلك كانت الصلاة أرقى تعبير عن حضور القلب مع الله
                        : ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾.
                        تلك معان كلها تفيض عن شهادة أن "لا إله إلا الله". كلمة الإخلاص وعنوان الإسلام لله رب العالمين. وهي الكلمة التي يفزع إليها المؤمن
                        من الغم والكرب، تماما كما يفزع الصبي إلى أمه عندما يلم به مكروه. أتدرون لماذا؟ لأنها ببساطة أقرب الناس إلى وجدانه،
                        ولو لم تكن كذلك لما نادى صبي في الدنيا إذا استغاث "أماه!". إلا أن العبد الذي سكن قصد الرب الأعلى قلبه، وامتلك عليه وجدانه
                        لا يفزع إلا إليه، بمقتضى "لا إله إلا الله".

                        هل سمعت يونس عليه السلام إذ التقمه الحوت فغاص في ظلمات بطنه، وظلمات البحر والليل، ثم ظلمة الغم الشديد الضاربة على تلك الظلمات
                        جميعا، ألم تسمع ماذا قال؟ يقول رب العزة حاكيا عنه: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(الأنبياء:87). لقد كان أول التعبير استغاثة وجدانية ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ﴾.. لا يملك مواجيدَ القلب إلا أنت! لا محبوب، ولا مرغوب، ولا مرهوب إلا أنت! ثم كان التسبيح والتنـزيه
                        فالاستغفار... يا سلام... أي جمال هذا وأي كمال؟!
                        وأي أفق كريم فيما يتيحه هذا الدين السماوي للقلب من سياحة وسباحة في عرض الملكوت لاستدرار واردات الأنس والرحَموت؟
                        يونس هذا العبد العظيم الذي أدرك -وهو في بطن حوت ضخم جدا، يخوض به المجهول، في قاع المحيطات الرهيبة- أن القلب إذا امتلأ بنور الله كان الله معه؛ ومن كان الله معه أمن أمنا كليا، فلا يعدو هول البحرِ والحوتِ حينئذ مقدار حشرة في مستنقع.. الله أكبر!



                        حقيقة الشرك وجذوره القلبية

                        إن شهادة ألا إله إلا الله لهي توقيع عقد، وإمضاء التزام، بضمان الهوى لله وحده كما في الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"(فتح الباري، 13/289)، وكل ما جاء به صلى الله عليه وسلم هو "الإسلام". وقد علمتَ ما في هذا العبارة من معاني الخضوع للرب الأعلى. خضوع يفرغ القلب مما سوى الله. وهو أمر في غاية العمق الوجداني، والتحقيق الشعوري، ولذلك صعبت كلمة "لا إله إلا الله" على كفار قريش أن يقولوها،
                        وهو أمر طبيعي، فقد أدركوا بفطرتهم اللغوية السليمة أن هذه الكلمة تعبيد لمشاعرهم، قبل أن تكون تعبيدا لأفعالهم.

                        وهو الأمر الذي لم يقبلوه، إذ كان "الشرك" قد ران على قلوبهم فلم يستطيعوا منه فكاكا. وما حقيقة "الشرك" إلا أهواء ومواجيد،
                        سكنت قلوبهم فلم تصْفُ بذلك لربها الملك الأعلى. إن الشرك بهذا الإدراك معنى قلبي كالتوحيد تماما. أعني من حيث إنهما معا شعور يحدث
                        في القلب، وإن كانا متناقضين، كتناقض الحب والبغض، أو السخط والرضى.

                        فلم يكن من منطق الأشياء أن تدور معركة، بل معارك مريرة، بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين العرب من أجل أحجار هي الأصنام، التي كانت تعبد من دون الله. بل إن حقيقة المعركة كانت حول ما ترمز إليه تلك الأحجار، من أهواء ساكنة في قلوب العباد.
                        فما كان صمود العرب في وجه الدعوة الإسلامية كل تلك المدة، حتى عام الفتح، حبا في الأوثان لذاتها، وإنما حبا فيما كانت ترمز إليه، وما كان يقع باسمها في قلوبهم من حب لمجموعة من الأهواء، هي الآلهة الحقيقية التي كانت تعبد من دون الله؛ من حب للجاه، وحب للسيادة،
                        وحب للمال، وحب للتسلط على الفقراء والعبيد باسم الآلهة، أو قل باسم الصخور الجامدة. تلك الأهواء إذن هي الآلهة الحقيقية، التي كانت تعبد من دون الله، وما كانت الأحجار إلا تجسيدا لها في عالم المادة، ورمزا لما في عالم الإحساس
                        ، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾(الجاثية:23).

                        ومن هنا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الإطاحة بأوثان الشعور، قبل الإطاحة بأوثان الصخور! وقد ظل بمكة يعبد الله قبل الهجرة ويطوف بالبيت العتيق وقد أحاطته الأصنام من كل الجهات، لأن عمله حينئذ كان هو إزالة أصولها القلبية، وجذورها النفسية؛ حتى إذا أتم مهمته تلك،
                        كانت إزالة الفروع نتيجة تلقائية، لما سلف من إزالة للجذور ليس إلاّ. ولذلك قلتُ: إن الشرك معنى قلبي وجداني، قبل أن يكون تصورا عقليا نظريّا.

                        إن "لا إله إلا الله" -وقد سُمّيت كلمة الإخلاص- ليست إلا تجريدا قلبيا للهوى حتى يكون خالصا لله وحده. وكل حبّ تفرقت به الأهواء
                        لم يكن إلا كذبا. والشهادة في الإسلام إقرار من صاحبها على نفسه، وما يجد في قلبه بالتصديق. فانظر أي قرار يتخذه الإنسان، حينما "يُسلم" لله رب العالمين، ويشهد "أن لا إله إلا الله"!


                        عن مجلة حراء

                        "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                        وتولني فيمن توليت"

                        "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                        تعليق


                        • #13
                          رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟


                          مجالس القرآن

                          الحمد لله الذي أنزل القرآن العظيم (رُوحاً مِن أمِْرهِ) جل عُلاه! وجعله نورا يحيي به موات القلوب! ويفرج به ظلمات الكروب! ويمسح به الخطايا، ويشفي به البلايا!
                          وصلى الله وسلم وبارك على البشير النذير، والسراج المنير، سيدنا محمد النبي الأمي، الذي أرسله الله رحمةً للعالمين؛ فلم يزل صلى الله عليه وسلم - مذ أكرمه الله تعالى بالنبوة الخاتمة - كوكباً دُرِّيّاً، متوقدا في سماء البشرية إلى يوم الدين!

                          (يَا أَيُّهَا النَّبِـيءُ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (الأحزاب:45-46).
                          وإنما أشرق نورُه عليه الصلاة والسلام بما أنعم الله عليه من جلال الوحي وجماله: هذا القرآن العظيم! فكان صلى الله عليه وسلم بذلك هداية للعالمين. (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(المائدة:15-16).
                          ذلك هو النور..! ولكنْ أين من يرفع بصره إلى السماء..؟ (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِيَ اتَّخَذُواهَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)!!(الفرقان:30)

                          أما بعد؛
                          فإلى العلماء العاملين .. إلى السادة المربِّين .. إلى أهل الفضل والصلاح .. إلى دعاة الخير والفلاح .. إلى الشباب الباحثين عن وَارِدٍ من نور، يخرجهم من ظلمات هذا الزمان!.. إلى جموع التائبين، الآئبين إلى منهج الله وصراطه المستقيم.. إلى المثقلين بجراح الخطايا والذنوب مثلي! الراغبين في التطهر والتزكية..
                          والعودة إلى صَفِّ الله، تحت رحمة الله .. إلى الذين تفرقت بهم السبُلُ حيرةً واضطرابا، مترددين بين هذا الاجتهاد وذاك، من مقولات الإصلاح!



                          إليكم أيها الأحباب أبعث رسالة القرآن!
                          إليكم سادتي أبعث قضية القرآن، والسِّرُّ كلُّ السِّرِّ في القرآن!

                          ولكن كيف السبيل إليه؟
                          أليس بالقرآن وبحِكْمَةِ القرآن جعل اللهُ - تَقَدَّسَتْ أسماؤُهُ - عَبْدَهُ محمداً بنَ عبدِ الله النبي الأمي - عليه صلوات الله وسلامه - مُعَلِّمَ البشرية وسيد
                          ولد آدم؟ وما كان يقرأ كتابا من قبل ولا كان يخطه بيمينه!
                          ثم أليس بالقرآن – وبالقرآن فقط! - بَعَثَ اللهُ الحياةَ في عرب الجاهلية فنقلهم من أُمَّةٍ أُمِّية ضالة؛ إلى أُمَّةٍ تمارس الشهادة على الناس كل الناس؟

                          ألم يكن القرآنُ في جيل القرآن مفتاحا لعالم المُلْكِ والملكوت؟ ألم يكن هو الشفاء وهو الدواء؟ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا!)(الإسراء:82) ألم يكن هو الماء وهو الهواء؛ لكل (من كان حيا) - على الحقيقة - من الأحياء؟
                          (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ!)(يس:69-70)

                          ألم تكن تلاوته - مجرد تلاوته - من رجل قرآني بسيط تُحْدِثُ انقلابا ربانيا عجيبا، وخرقا نورانيا غريبا في أمر المُلْكِ والملكوت؟ ألم تتنـزل الملائكة ليلاً مثل مصابيح الثريا لسماع القرآن من رجل منهم، بات يَتَبَتَّلُ في سكون الدُّجَى، يناجي ربه بآيات من بعض سوره؟([1]) ألم يقرأ رجل آخَرُ سورةَ الفاتحة
                          على لَدِيغٍ من بعض قبائل العرب، اعتقله سم أفعى إلى الأرض، فلبث ينتظر حتفه في بضع دقائق، حتى إذا قُرِئَتْ عليه (الحمد لله رب العالمين) –
                          التي يحفظها اليوم كل الأطفال! - قام كأنْ لم يكن به شيء قط؟([2])


                          أليس هذا القرآن هو الذي صنع التاريخ والجغرافيا للمسلمين؛ فكان هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف؟ وكان له هذا الرصيد الحضاري
                          العظيم، الموغل في الوجدان الإسلامي؛ بما أعجز كل أشكال الاستعمار القديمة والجديدة عن احتوائه وهضمه! فلم تنل منه معاول الهدم
                          وآلات التدمير بشتى أنواعها وأصنافها المادية والمعنوية، وبقي - رغم الجراح العميقة جدا - متماسك الوعي بذاته وهويته!

                          وما كانت الأمة الإسلامية قبل نزول الآيات الأولى من (سورة العلق) شيئا مذكورا! وإنما كان هذا القرآن فكانت هذه الأمة! وكانت
                          (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ!) (آل عمران:110)

                          أليس القرآن الذي نتلوه اليوم هو عينه القرآن الذي تلاه أولئك من قبل؟
                          فما الذي حدث لنا نحن أهلَ هذا الزمان إذن؟

                          ذلك هو السؤال! وتلك هي القضية!
                          لا شك أن السر كامِنٌ في منهج التعامل مع القرآن! وذلك هو سؤال العصر! وقد كتب غير واحد من أهل العلم والفضل حول إشكال: (كيف نتعامل مع القرآن؟)([3])

                          ولقد أجمع السابقون واللاحقون على أن المنهج إنما هو ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلموأصحابه من أمر القرآن.
                          فمن ذا اليوم يستطيع الصبر عليه؟ وإنما هو تَلَقٍّ للقرآن آيةً آيةً، وتَلَقٍّ عن القرآن حِكْمَةً حِكْمَةً! على سبيل التخلق الوجداني، والتَّمَثُّلِ التربوي لحقائقه الإيمانية العُمُرَ كلَّه! حتى يصير القرآن في قلب المؤمن نَفَساً طبيعيا، لا يتصرف إلا من خلاله، ولا ينطق إلا بحكمته!
                          فإذا بتلاوته على نفسه وعلى من حوله غَيْرُ تلاوة الناس، وإذا بحركته في التاريخ غير حركة الناس!


                          وهكذا صنع الرسول صلى الله عليه وسلم - بما أُنْزِلَ عليه من القرآن آيةً آيةً - نمَاذِجَ حوَّلَتْ مَجْرَى التاريخ! (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْـزِيلًا)(الإسراء:106) فلم تكن له وسائل ضخمة ولا أجهزة معقدة! وإنما هي شِعَابٌ بين الجبال، أو بيوتٌ بسيطة، ثم مساجدُ آمنة مطمئنة! عُمْرانُهَا: صلاةٌ ومجالسُ للقرآن! وبرامجها: تلاوةٌ وتعلمٌ وتزكية بالقرآن! بدءا بشعاب مكة،
                          ودار الأرقم بن أبي الأرقم، وانتهاءً بمسجد المدينة المنورة، عاصمة الإسلام الأولى، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام! كانت البساطة هي
                          طابع كل شيء، وإنما العظمة كانت في القرآن، ولمن تَشَرَّبَ – بعد ذلك - روحَ القرآن!

                          هكذا كانت مجالسُه صلى الله عليه وسلمثم مجالسُ أصحابه في عهده، ومن بعده، عليه السلام مجالسَ قرآنيةً، انعقدت هنا وهناك، وتناسلت
                          بصورة طبيعية؛ لإقامة الدين في النفس وفي المجتمع معا على السواء، وبناء النسيج الاجتماعي الإسلامي من كل الجوانب، بصورة كلية شمولية؛ بما كان من شمولية هذا القرآن، وإحاطته بكل شيء من عالم الإنسان! وذلك أمر لا يحتاج إلى برهان! واقرأ إن شئت الآية المعجزة!
                          ولكن بشرط! اقرأ وتَدَبَّرْ! تَدَبَّرْهَا طويلا! وقِفْ عليها مَلِيّاً! حتى بعد طَيِّ صفحات هذه الورقات! فيا أيها المؤمن السائر إلى مولاه! الباحث بكل شوق عن نوره وهداه! أبْصِرْ بقلبك – إنْ كنتَ من المبصرين - قولَه تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ
                          وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ!)
                          (آل عمران:164)

                          ولك أن تشاهد هذه الْمِنَّةَ العظمى من خلال عديلتها، وهي قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
                          وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
                          )(الجمعة:2).


                          نعم! هذه هي الآية، وإنها لعَلاَمَةٌ وأيُّ علامة! فلا تَنْسَ الشرط!
                          تلك إذن كانت رسالة القرآن، وتلك كانت رسالة محمد عليه الصلاة والسلام!

                          فيا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم! يا شباب الإسلام! ويا كهوله وشيوخه! يا رجاله ونساءه! ألم يئن الأوان بعد لتجديد رسالة القرآن؟
                          ألم يئن الأوان بعد لتجديد عهد القرآن؟ وإنما قضية الأمة كل قضيتها ههنا: تجديد رسالة القرآن! (أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
                          وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ؟ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)؟
                          !(الحديد:16)

                          فيا أيها الأحباب! لنعد إلى مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم! لنعد إلى مدرسة القرآن! ومجالس القرآن! على منهج القرآن! صافية نقية! كما شهد عليها اللهُ جلَّ جلالُه في جيل القرآن، لا كما تلقيناها مشوهة من عصور الْمَوَاتِ في التاريخ!

                          من كتاب مجالس القرآن للشيخ فريد الأنصاري رحمه الله

                          ----
                          [1] عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رضي الله عنه أَنّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ رضي الله عنه؛ بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبَدِهِ؛ إِذْ جَالَتْ فَرَسُهُ. فَقَرَأَ؛ ثُمّ جَالَتْ أُخْرَىَ!
                          فَقَرَأَ؛ ثُمّ جَالَتْ أَيْضاً! قَالَ أُسَيْدٌ: فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَىَ؛ [يعني: ابنه الصغير] فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا مِثْلُ الظّلّةِ فَوْقَ رَأْسِي، فِيهَا أَمْثَالُ السّرُجِ! [جمع سِراج: وهي المصابيح]
                          عَرَجَتْ فِي الْجَوّ حَتّى مَا أَرَاهَا! قَالَ فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ بَيْنَمَا أَنَا الْبَارِحَةَ مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ أَقْرَأُ فِي مِرْبَدِي، إِذْ جَالَتْ فَرَسِي!
                          فَقَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرٍ!» قَالَ: فَقَرَأْتُ؛ ثُمّ جَالَتْ أَيْضاً! فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرٍ!» قَالَ: فَقَرَأْتُ؛
                          ثُمّ جَالَتْ أَيْضاً! فَقَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأ ابْنَ حُضَيْرٍ!» قَالَ: فَانْصَرَفْتُ. وَكَانَ يَحْيَىَ قَرِيباً مِنْهَا، خَشِيتُ أَنْ تَطَأَهُ. فَرَأَيْتُ مِثْلَ الظّلّةِ. فِيهَا أَمْثَالُ السّرُجِ.
                          عَرَجَتْ فِي الْجَوّ حَتّى مَا أَرَاهَا! فَقَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ! وَلَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَرَاهَا النّاسُ، مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ!» رواه مسلم. وقد روى البخاري نحوه مختصرا.

                          [2] عن أبي سعيد الخدري قال: (نزلنا منزلا فأتتنا امرأة فقالت: إن سيد الحي سليم لُدِغَ فهل من رَاقٍ؟ فقام معها رجلٌ منا، ما كنا نظنه يحسن رُقْيَةً! فَرَقَاهُ بفاتحة الكتاب؛
                          فبرأ! فأعطوه غنما وسقونا لبنا. فقلنا: أكنت تحسن رقية؟ فقال: ما رقيته إلا بفاتحة الكتاب! قال: فقلت: لا تحركوها (يعني الغنم) حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم
                          فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له، فقال: ما كان يدريه أنها رقية؟ اقسموا، واضربوا لي بسهم معكم!) وفي صيغة البخاري:
                          (فسألوه، فضحك، وقال: وما أدراك أنها رقية؟ خذوها واضربوا لي بسهم!) متفق عليه.

                          [3] منهم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، والدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله.


                          "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                          وتولني فيمن توليت"

                          "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                          تعليق


                          • #14
                            رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟


                            حاجتنا للقرآن

                            من أنت؟
                            أنا، وأنت!.. ذلك هو السؤال الذي قلما ننتبه إليه! والعادة أن الإنسان يحب أن يعرف كل شيء مما يدور حوله في هذه الحياة، فيسأل عن هذه وتلك، إلا سؤالا واحدا لا يخطر بباله إلا نادرا! هو: من أنا؟ نعم، فهل سألت يوما نفسك عن نفسك: من أنت؟


                            ولعل أهم الأسباب في إبعاد ذلك وإهماله يرجع في الغالب إلى معطى وهمي، إذ نظن أننا نعرف أنفسنا فلا حاجة إلى السؤال! تغرنا إجابات الانتماء إلى الأنساب والألقاب، وتنحرف بنا عن طلب معرفة النفس الكامنة بين أضلعنا، التي هي حقيقة (من أنا؟) و(من أنت؟) ويتم إجهاض السؤال في عالم الخواطر؛ وبذلك يبقى الإنسان أجهل الخلق بنفسه، فليس دون الأرواح إلا الأشباح!

                            ولو أنك سألت نفسك بعقلك المجرد: من أنتِ؟ سؤالا عن حقيقتها الوجودية الكاملة؛ لما ظفرت بجواب يشفي الغليل! وإذن؛
                            تدخل في بحر من الحيرة الوجودية!
                            أنا وأنتَ، تلك قصة الإنسان منذ بدء الخلق إلى يوم الناس هذا.. إلى آخر مشهد من فصول الحياة في رحلة هذه الأرض! وهي قصة مثيرة ومريرة!



                            ولذلك أساسا كانت رسالةُ القرآن هي رسالة الله إلى الإنسان؛ لتعريفه بنفسه عسى أن يبدأ السير في طريق المعرفة بالله؛ إذْ معرفة النفس هي أول مدارج التعرف إلى الله. وليس صدفة أن يكون أول ما نزل من القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:1-2). ثم تواتر التعريف بالإنسان – بَعْدُ - في القرآن، في غير ما آية وسورة، من مثل قوله سبحانه: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(الإنسان:1-3)
                            وكذلك آيات السيماء الوجودية للإنسان، الضاربة في عمق الغيب، من قوله تعالى: (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ
                            خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ
                            وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ)(
                            السجدة:6-9).

                            ومن هنا أساسا كانت قضية الشيطان - بما هو عدو للإنسان - هي إضلاله عن معالم الطريق، في سيره إلى ربه! بدءا بإتلاف العلامات والخصائص المعرفة بنفسه، والكاشفة له عن حقيقة هويته، وطبيعة وجوده! حتى إذا انقطعت السبل بينه وبين ربه؛ ألَّهَ نفسَه، وتمرد على خالقه!
                            ولم يزل الإنسان في قصة الحياة يضطرب بين تمرد وخضوع، في صراع أبدي بين الحق والباطل إلى الآن! فكانت لقصته تلك عبر التاريخ مشاهدُ
                            وفصول! وكانت له مع الشيطان ومعسكره معاركُ ضارية، فيها كَرٌّ وفَرٌّ، وإقبالٌ وإدبار!


                            قال عز وجل حكايةً عن إبليس: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً. قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا. وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ
                            وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا)
                            (الإسراء:62-65).
                            من أجل ذلك كان للإنسان في كل زمان قصةٌ مع القرآن، وقصةٌ مع الشيطان!


                            فيا حسرة عليك أيها الإنسان! هذا عمرك الفاني يتناثر كل يوم، لحظةً فلحظة، كأوراق الخريف المتهاوية على الثرى تَتْرَى! اُرْقُبْ غروبَ الشمس كل يوم؛ لتدرك كيف أن الأرض تجري بك بسرعة هائلة؛ لتلقيك عن كاهلها بقوة عند محطتك الأخيرة! فإذا بك بعد حياة صاخبة جزءٌ
                            حقير من ترابها وقمامتها! وتمضي الأرض في ركضها لا تبالي.. تمضي جادةً غير لاهية – كما أُمِرَتْ - إلى موعدها الأخير! فكيف تحل لغز الحياة
                            والموت؟ وكيف تفسر طلسم الوجود الذي أنت جزء منه ولكنك تجهله؟ كيف وها قد ضاعت الكتب كلها؟ ولم يبق بين يديك سوى هذا (الكتاب)!

                            فأين تجد الهداية إذن يا ابن آدم، وأنى تجدها؛ إن لم تجدها في القرآن؟ وأين تدرك السكينة إن لم تدركها في آياته المنصوبة - لكل نفس في نفسها –
                            علامات ومبشرات في الطريق إلى الله؟ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا.
                            وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)
                            (الإسراء:9 - 10).

                            نَعَم، بقي القرآن العظيم إعجازا أبديا، يحي الموتى، ويبرئ المرضى، ويقصم قلوب الجبابرة، ويرفع هامات المستضعفين في العالمين، ويحول مجرى التاريخ! وكل ذلك كان - عندما كان - بالقرآن، وبالقرآن فقط! وهو به يكون الآن، وبه يكون كلما حَلَّ الإبَّانُ من موعد التاريخ، ودورة الزمان!
                            على يد أي كان من الناس! بشرط أن يأخذه برسالته، ويتلوه حق تلاوته! وتلك هي القضية!


                            ماذا حدث لهؤلاء المسلمين؟ أين عقولهم؟ أين قلوبهم؟ أليس ذلك هو القرآن؟ أليس ذلك هو كلام الله؟ أليس الله رب العالمين؟ أليس الخلق - كل الخلق -
                            عبيده طوعا أو كرها؟ ففيم التردد والاضطراب إذن؟ لماذا لا ينطلق المسلم المعاصر يشق الظلمات بنور الوحي الساطع، الخارق للأنفس والآفاق؟

                            ألم يقل الله في القرآن عن القرآن، بالنص الواضح القاطع: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ!
                            وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
                            ؟ (الحشر:21). فهل هذه خاصية ماتت بموت محمد رسول الله؟ أم أن معجزة القرآن باقية بكل خصائصها إلى يوم القيامة؟ ورغم أن الجواب هو من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة لكل مسلم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي البشرى إلى هذه الأمة،
                            نورا من الأمل الساطع الممتد إلى الأبد! فقد دخل عليه الصلاة والسلام المسجدَ يوما على أصحابه
                            ثم قال:* (أبشروا.. أبشروا..! أليس تشهدون ألا إله إلا الله وأني رسول الله؟* قالوا *:* بلى، قال *:* فإن هذا القرآن سَبَبٌ، طرفُه بيد الله،
                            وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به! فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً!)
                            ([1]) ومثله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم بصيغة أخرى: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض)([2]). تلك حقيقة القرآن الخالدة، ولكن أين من يمد يده؟

                            ألم يأن للمسلمين – وأهل الشأن الدعوي منهم خاصة – أن يلتفتوا إلى هذا القرآن؟ عجبا! ما الذي أصم هذا الإنسان عن سماع كلمات
                            الرحمن؟ وما الذي أعماه عن مشاهدة جماله المتجلي عبر هذه الآيات العلامات؟ أليس الله – جل ثناؤه – هو خالق هذا الكون الممتد من عالم الغيب إلى عالم الشهادة؟ أليس هو – جل وعلا – رب كل شيء ومليكه؟ الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؟

                            أوَليس الله هو مالك الملك والملكوت؟ ذو العزة والجبروت؟ لا شيء يكون إلا بأمره! ولا شيء يكون إلا بعلمه وإذنه! أوَليس الخلق كلهم أجمعون مقهورين تحت إرادته وسلطانه؟ فمن ذا قدير على إيقاف دوران الأرض؟ ومن ذا قدير على تغيير نُظُم الأفلاك في السماء؟ من بعد ما سوَّاها الله على قدر موزون، (فَقَالَ لَهَا وَلِلاَرْضِ إيتِيَا طَوْعاً أوْ كَرْهاً قَالَتَا أتَيْنَا طَائِعِينَ)؟(فصلت:10)
                            ومن ذا مِنَ الشيوخ المعمَّرين قديرٌ على دفع الهرم إذا دب إلى جسده؟ أو منع الوَهَنِ أن ينخر عظمه، ويجعد جلده؟ ويحاول الإنسان
                            أن يصارع الهرم والموت! ولكن هيهات! هيهات!

                            كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيُوهِنَهَا *** فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ!
                            الموت والفناء هو اليقينية الكونية المشتركة بين جمع الخلق، كافرهم ومؤمنهم!


                            يولد الإنسان يوما ما.. وبمجرد التقاط نفَسِه الأول من هواء الدنيا يبدأ عمره في عَدٍّ عَكْسِي نحو موعد الرحيل..!
                            فكان البدءُ هو آية الختام! هكذا يولد الإنسان وبعد ومضة من زمن الأرض تكون وفاته! (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِكْرَامِ)
                            (الرحمن:24-25).

                            ذلك هو الله رب العالمين، يرسل رسالته إلى هذا الإنسان العبد، فيكلمه وحيا بهذا القرآن! ويأبى أكثرُ الناس إلا تمردا وكفورا!
                            فواأسفاه على هذا الإنسان! ويا عجبا من أمر هؤلاء المسلمين! كأن الكتاب لا يعنيهم، وكأن الرسول لم يكن فيهم! (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ! مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون!)(يس:30)

                            إن هذا القرآن هو الروح الذي نفخه الله في عرب الجاهلية؛ فأخرج منهم خير أمة أخرجت للناس! وانبعثوا بروح القرآن من رماد الموت الحضاري؛ طيوراً حية تحلق في الآفاق، وخرجوا من ظلمات الجهل ومتاهات العمى أدِلاَّءَ على الله، يُبْصِرون بنور الله ويُبَصِّرون
                            العالم الضال حقائق الحياة! ذلك هو سر القرآن، الروح الرباني العظيم، لا يزال هو هو! روحا ينفخ الحياة في الموتى من النفوس والمجتمعات؛ فتحيا من جديد! وتلك حقيقة من أضخم حقائق القرآن المجيد!
                            قال جل ثناؤه:
                            (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ. وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ)(الشورى:52-53).

                            من أنت؟ تلك قصة النبأ العظيم! نبأ الوجود الضخم الرهيب، من البدء إلى المصير! النبأ الذي جاءت به النُّذُرُ من الآيات: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا: يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ!)(الأنبياء:97).
                            وقريبا جدا – واحسرتاه! – تنفجر به الأرض والسماوات! (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ! كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)(الأنبياء:104).


                            ذلكم هو النذير القرآني الرهيب! ولقد أعذر من أنذر! وما بقي لمن بلغه النبأ العظيم من محيص؛ إلا أن يتحمل مسؤوليته الوجودية، ويتخذ القرار، قراراً واحدا من بين احتمالين اثنين، لا ثالث لهما: النور أو العَمَى! وما أنزل الله القرآن إذْ أنزله إلا لهذا! ولقد صَرَّفَه على مدى ثلاث وعشرين سنة؛ آيةً آيةً، كل آية في ذاتها هي بصيرة للمستبصرين، الذين شَاقَهُم نورُ الحق فبحثوا عنه رَغَباً ورَهَباً؛ عسى أن يكونوا من المهتدين.

                            وبقي القرآن بهذا التحدي الاستبصاري يخاطب العُمْيَ من كل جيل بشري! قال الحقُّ جل وعلا: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ
                            وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)
                            (الأنعام:104).

                            من أجل ذلك؛ نرجع آئبين إلى رسالة الله، نقرؤها من جديد، نستغفره تعالى على ما فرطنا وقصرنا! قدوتنا في هذه السبيل رسول الله صلى
                            الله عليه وسلم بسنته الزكية، التي لم تكن في كل تجلياتها النبوية – قولا وفعلا وتقريرا - إلا تفسيرا للقرآن العظيم! وكفى بكلمة عائشة أم المؤمنين، في وصفه – عليه الصلاة والسلام – لما سئلت عن خُلُقِهصلى الله عليه وسلم؛ فقالت بعبارتها الجامعة المانعة: (كان خُلُقُه القرآن!)([3])
                            ولقد ضل وخاب من عزل السنة عن الكتاب!


                            نرجع إذن إلى القرآن، نحمل رسالته إن شاء الله – كماأمر الله – نخوض بها تحديات العصر، يحدونا اليقين التام بأن لا إصلاح
                            إلا بالصلاح!وأن لا ربانية إلا بالجمع بينهما! وأن لا إمكان لكل ذلك – صلاحاً وإصلاحاً وربانيةً - إلا بالقرآن المجيد! وهو قول الحق - جل ثناؤها – في آية عجيبة،آية ذات علامات – لمن يقرأ العلامات – ولكل علامة هدايات. قال تعالى ذِكْرُه
                            (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(الأعراف:170)

                            التَّمْسِيكُ بالكتاب، وإقامُ الصلاة: أمران كفيلان برفع المسلم إلى منـزلة المصلحين! هكذا: (إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ). وإن تلك لآية! ومثلها قوله تعالى: (وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)(آلعمران:79).
                            وقد قُرِئَتْ: (تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) و(تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ)؛ للجمع بين وظيفتي التَّعَلُّم والتعليم، والصلاح والإصلاح، إذْ بذلك يكون التدارس لآيات القرآن العظيم، بماهي علامات دالةعلى الله، وراسمة لطريقالتعرف إليه جل وعلا، في الأنفس والآفاق. وتلك هي السبيل الأساس للربانية، كما هو واضح من دلالة الحصر المستفادة من الاستدراك في الآية: (ولكن كونوا ربانيين).

                            محبكـم فريـد الأنصاري
                            من كتاب مجالس القرآن


                            [1] رواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في شعبه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والطبراني في الكبير، وعبد بن حميد فى المنتخب من المسند*. وصححه الألباني في
                            السلسلة الصحيحة: 713. نشر مكتبة المعارف بالرياض، لصاحبها سعد بن عبد الرحمن الراشد. طبعة جديدة بتاريخ: 1415هـ/1995.
                            [2] رواه الطبري في تفسيره:4/31، نشر دار الفكر بيروت لبنان: 1405هـ. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير:4473.
                            [3] رواه مسلم.




                            "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                            وتولني فيمن توليت"

                            "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                            تعليق


                            • #15
                              رد: هذه رسالات القرآن.. فمن يتلقاها؟


                              مفهوم القرآن

                              ولنسأل الآن: ما القرآن؟
                              ما هذا الكتاب الذي هز العالم كله؛ بل الكون كله؟
                              أجمع العلماء في تعريفهم للقرآن على أنه (كلام الله)، واختلفوا بعد ذلك في خصائص التعريف ولوازمه، ولا نقول في ذلك إلا بما قال به أهل الحق من
                              السلف الصالح. وإنما المهم عندنا الآن ههنا بيان هذا الأصل المجمع عليه بين المسلمين: (القرآن كلام الله).
                              هذه حقيقة عظمى، ولكن لو تدبرت قليلا..

                              الله جل جلاله خالق الكون كله.. هل تستطيع أن تستوعب بخيالك امتداد هذا الكون في الآفاق؟.. طبعا لا أحد له القدرة على ذلك
                              إلا خالق الكون سبحانه وتعالى. فالامتداد الذي ينتشر عبر الكون مجهول الحدود، مستحيل الحصر على العقل البشري المحدود. هذه الأرض وأسرارها،
                              وتلك الفضاءات وطبقاتها، وتلك النجوم والكواكب وأفلاكها، وتلك السماء وأبراجها، ثم تلك السماوات السبع وأطباقها...

                              إنه لضرب في غيب رهيب لا تحصره ولا ملايين السنوات الضوئية. أين أنت الآن؟ اسأل نفسك.. أنت هنا في ذرة صغيرة جدا، تائهة في فضاء
                              السماء الدنيا: الأرض. وربك الذي خلقك، وخلق كل شيء؛ هو محيط بكل شيء قدرة وعلما.. هذا الرب الجليل العظيم، قدَّر برحمته أن يكلمك أنت، أيها الإنسان؛ فكلمك بالقرآن.. كلام الله رب العالمين. أوَ تدري ما تسمع؟ الله ذو الجلال رب الكون يكلمك (فَاستَمِعْ لِمَا يُوحَى).
                              أي وجدان، وأي قلب؛ يتدبر هذه الحقيقة العظمى فلا يخر ساجدا لله الواحد القهار رغبا ورهبا؟

                              اللهم إلا إذا كان صخرا أو حجرا. كيف؛ وها الصخر والحجر من أخشع الخلق لله؟ (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِاللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الحشر:21) وهي أمثال حقيقة لا مجاز، ألم تقرأ قول الله تعالى في حق داود عليه السلام: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ)(سورة ص:18-19)،
                              وقوله تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(الأعراف:143).



                              كلام الله هو كلام رب الكون، وإذا تكلم سبحانه تكلم من عَلُ: أي من فوق؛ لأنه العلي العظيم سبحانه وتعالى، فوق كل شيء، محيط بكل شيء؛
                              علما وقدرة. إنه رب الكون.. فتدبر
                              : (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)(فصلت:54). ومن هنا جاء القرآن محيطا بالكون كله،
                              متحدثا عن كثير من عجائبه. قال تعالى في سياق الكلام عن عظمة القرآن: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْـزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(الواقعة:75-82).
                              سبحانك ربنا ولا بأي من آياتك نكذب.

                              ذلك هو القرآن.. كلام من أحاط بمواقع النجوم؛ خلقا، وأمرا، وعلما، وقدرة، وإبداعا. فجاء كتابه بثقل ذلك كله، أنزله على محمد صلى الله عيله وسلم، من بعدما هيأه لذلك، وصنعه على عينه سبحانه جل وعلا، فقال له: (إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(المزمل:5). ومن هنا لما كذب الكفار بالقرآن، نعى الله عليهم ضآلة تفكيرهم، وقصور إدراكهم، وضعف بصرهم، عن أن يستوعبوا بعده الكوني الضارب في بحار الغيب، فقال تعالى: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى
                              عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا* قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)
                              (الفرقان:5-6).
                              وإنه لرد عميق جدا. ومن هنا جاء متحدثا عن كثير من السر في السماوات والأرض. قال عز وجل: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ* وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)(الكهف:54). وقال: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)(فصلت:53-54).

                              فليس عجبا أن يكون تالي القرآن متصلا ببحر الغيب، ومأجورا بميزان الغيب، بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها، والحرف
                              إنما هو وحدة صوتية لا معنى لها في اللغة، نعم في اللغة، أما في القرآن فالحرف له معنى، ليس بالمعنى الباطني المنحرف، ولكن بالمعنى الرباني المستقيم. أوَ ليس هذا الحرف القرآني قد تكلم به الله؟ إذن؛ يكفيه ذلك دلالة وأي دلالة. ويكفيه ذلك عظمة وأي عظمة.
                              فعن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عيله وسلم:
                              (من قرأ حرفاً من كتاب اللَّه فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)([1]).




                              ولذلك كان لقارئ القرآن ما وعده الله إياه، من رفيع المنازل في الجنان العالية، وما أسبغ عليه من حلل الجمال. قال رسول الله صلى الله عيله وسلم: (يقال لصاحب القرآن *:* اقرأ وَارْقَ! ورَتِّلْ كما كنت ترتل في دار الدنيا! فإن منـزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها!)([2]) *
                              وقال أيضا: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول*:* يا رب، حَلِّهِ! فيُلْبَسُ تاجَ الكرامة، ثم يقول:* يا رب زِدْهُ! فيُلْبَسُ حُلَّةَ الكرامة، ثم يقول*:* يا رب اِرْضَ عنه! فيرضى عنه، فيقول*:* اِقرأ، وَارْقَ! ويُزَادُ بكل آية حسنة!)([3]) (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(الجمعة:4).

                              إنه تعالى تكلم، وهو سبحانه وتعالى متكلم، سميع، بصير، عليم، خبير، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، نثبتها كما أثبتها السلف،
                              بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه. لقد تكلم عز وجل، وكان القرآن من كلامه الذي خص به هذه الأمة المشرفة، أمة محمد عليه الصلاة والسلام.
                              فكان صلة بين العباد وربهم، صلة متينة، مثل الحبل الممدود من السماء إلى الأرض، طرفه الأعلى بيد الله، وطرفه الأدنى بيد من أخذ به من الصالحين.

                              قال عليه الصلاة والسلام في خصوص هذا المعنى، من حديث سبق: (كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض)([4]) وقال في مثل ذلك أيضا: (أبشروا.. فإن هذا القرآن طرفه بيد الله و طرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا، و لن تضلوا بعده أبدا)([5]).
                              وروي بصيغة أخرى صحيحة أيضا فيها زيادة ألطف، قال صلى الله عيله وسلم:* (أبشروا.. أبشروا.. أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟* قالوا *:* بلى، قال *:* فإن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا!)([6])




                              هي الرسالة وصلت من رب العالمين إليك أيها الإنسان، فاحذر أن تظنك غير معني بها في خاصة نفسك، أو أنك واحد من ملايير البشر، لا يُدْرَى لك
                              موقع من بينهم، كلا! كلا! إنه خطاب رب الكون، فيه كل خصائص الكلام الرباني، من كمال وجلال، أعني أن الله يخاطب به الكل والجزء
                              في وقت واحد، ويحصي شعور الفرد والجماعة في وقت واحد
                              ، (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِيصُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ. وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ. وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(آل عمران:29) سبحانه جل جلاله، لا يشغله هذا عن ذاك، وإلا فما معنى الربوبية وكمالها؟
                              تماما كما أنه قدير على إجابة كل داع، وكل مستغيث، من جميع أصناف الخلق، فوق الأرض وتحت الأرض، وفي لجج البحر،
                              وتحت طبقاته، وفي مدارات السماء... إلخ.

                              كل ذلك في وقت واحد - وهو تعالى فوق الزمان والمكان - لا يشغله شيء عن شيء، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير،
                              فبذلك المنطق نفسه أنت إذ تقرأ القرآن تجد أنه يخاطبك أنت بالذات، وكأنه لا يخاطب أحدا سواك. احذر أن تخطئ هذا المعنى..
                              تذكر أنه كلام الله، وتدبر.. ثم أبصر!

                              قال جل جلاله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(محمد:24)،
                              (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)(النساء:82).. فتدبر!

                              ذلك هو القرآن: الكتاب الكوني العظيم، اقرأه وتدبر، فوراء كل كلمة منه حكمة بالغة، وسر من أسرار السماوات والأرض، وحقيقة من حقائق الحياة والمصير، ومفتاح من مفاتيح نفسك السائرة كرها نحو نهايتها. فتدبر.. إن فيه كل ما تريد. ألست تريد أن تكون من أهل الله؟ إذن؛ عليك بالقرآن،
                              اجعله صاحبك ورفيقك طول حياتك؛ تكن من (أهل الله) كما في التعبير النبوي الصحيح.
                              قال عليه الصلاة والسلام: (إن لله تعالى أهلين من الناس أهل القرآن هم أهل الله، وخاصته*)([7]).

                              ---------------------
                              الهوامش :

                              [1] رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح. انظر سنن الترمذي، (كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر). كما رواه الحاكم أيضا في المستدرك.
                              [2] رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير:8122.
                              [3] رواه الترمذي والحاكم وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير:8030
                              [4] سبق تخريجه.
                              [5] رواه الطبراني بإسناد صحيح*. *وهو في صحيح الجامع الصغير: 34
                              [6] سبق تخريجه.
                              [7] رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2165


                              "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                              وتولني فيمن توليت"

                              "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                              تعليق

                              يعمل...
                              X