مولد محمَّد صلى الله عليه وسلم حدثٌ ما زال يهز الدنيا، هو بشرى للقلوب وفرحة للأرواح، وبداية الإنقاذ لهذه البشرية من تيه الرمضاء المهلكة، وتحويل هذه الجموع العطشى وردها إلى النبع الذي أضاعته وفرطت فيه.
أساطير
لكن ذلك لا يعني أن تتشقق المحبة في القلوب عن أساطير تتنامى وتتنامى حتى تعمى الأبصار وتحطم العقول، لقد أعمى الحب بعض السذج، فصاروا يسقون حدث المولود بأمطار الأكاذيب، فنشأت حوله الأساطير والخرافات، وجاءت الروايات الملفقة تشوه سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تشويهًا كاد يطيح بأحداث السيرة. لقد حدثنا أولئك الكذابون عنه صلى الله عليه وسلم وهو طفل رضيع، وأنه كان يناغي القمر فحيثما أشار إليه اتجه، كان يلعب به في مساحات الليل والفضاء. وكذبوا علينا، فقالوا: إن النجوم دنت من الأرض عند مولده، وكذبوا وكذبوا، فقالوا: إنه كان هناك لوح من الذهب كتبت عليها أشعار عند رأس أمه يوم مولده.
لقد أسرف أولئك وتجنوا على الأجيال التي تنتظر الحقيقة، تنتظر الحدث كما حدث، لقد ركبوا موجة التهويل والعواطف التي لا لجام لها، فكان ذلك الشرخ العظيم في حياة الأمة وبَعْثَرة طاقاتها وأموالها في احتفالات لا سند لها إلا تلال الأكاذيب والأساطير المختلفة تنحدر منها البدع، ينحدر منها العفن فتشوه ذلك النبع وتلك العقيدة التي تركها صلى الله عليه وسلم صافية مثل البيضاء.
إن تلك الغيوم الأسطورية لم تستطع أن تحجب شمس الحقيقة، فلقد بقيت الأحداث الحقيقية كما هي دون تحريف، دون مساس.
طلوع نجم أحمد
هناك رآه بعض المنتظرين بشوق، هناك في يثرب حيث يرقد عبد الله تحت أطباق الثرى، وقف رجل يتأمل السماء، يتأمل النجوم، كان يهوديًا، وربما كان فلكيًا، صرخ الرجل بقومه، قائلًا:
"يا معشر اليهود، فاجتمعوا إليه.
قالوا: ويلك مالك؟
قال: طلع نجم أحمد الذي ولد به في هذه الليلة" [1].
كادت تلك الصرخة اليهودية أن تتلاشى بين النجوم، كادت أن تختفي في سراديب اليهود المظلمة، لولا وجود طفل في السابعة أو الثامنة من عمره ساقه الله إليه وساقته أقدامه إلى موقع الحدث لينقله لنا بعد أن كبر وشاخ، ذلك الغلام هو مبدع الإِسلام وشاعره العظيم حسان بن ثابت رضي الله عنه، إذًا فاليهود كان لديهم علم بمخرج نبي، وكانوا يعرفون تاريخ مولده مقرونًا بحدث فلكي يظهر في السماء.
ولم يكن هذا اليهودي هو الوحيد الذي رأى هذا النجم، ففي مكة رجل حيران، يقال له: زيد بن عمرو بن نفيل، كان يحدق في الأصنام يتأملها وهي منصوبة فوق بيت الله، فلا تزيده الأيام إلا اقتناعًا بتفاهتها وتخلف عقول أتباعها وعابديها، إنها في نظره لا تعدو كونها حجارة صماء بكماء خرساء لا تقدم ولا تؤخر.
ضاقت بها مكة وضاق زيد بها، فبحث له عن فسحة بين الفيافي والبطاح، يتنفس فيها الحرية والتوحيد، يبحث عن الحقيقة، يفتش عنها أديرة العباد وصوامع الرهبان، يسأل ويسأل ولا يكف عن السؤال، حتى قذف به الطريق بين يدي حبر من أهل الشام، فأمره بالعودة إلى مكة، وقال: "قد خرج في بلدك نبي أو هو خارج، قد خرج نجمه، فارجع وصدقه واتبعه" [2].
وهذا زيد بن ثابت رضي الله عنه يحدثنا، فيقول: "كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي، وأنه لا نبي بعده، واسمه أحمد، مهاجره يثرب، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنكروا وحسدوا وكفروا" [3].
إن اليهود يحملون علمًا غزيرًا وعظيمًا، لكنهم لا يمررون منه إلا ما يخدمهم ويحكم قبضتهم، وما سوى ذلك يخفونه خلف ألف قفل وباب، وقد حاولوا طمس نجم أحمد وإخماده لكنهم لم يفلحوا.
التسمية
قبل عبد الله، وقبل عبد المطلب، وقبل مئات السنين كان هذا المولد حروفًا، وعدًا يتلفظ به الأنبياء يوصون به أممهم، ويبشرون به، عيسى بن مريم جاء إلى خراف بني إسرائيل الضالة ليهديهم، ويقول لهم: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. كشف الله هذا الغيب وبشر به، وذكر اسمه في الإنجيل، وفي التوراة من قبل الإنجيل، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم:"سميت أحمد" [4].
ولا أدري من هو الذي حقق هذا الغيب ووفقه الله لهذا الأمر، أهو جده عبد المطلب أم أمه آمنة بنت وهب، ربما كان هاتفًا من السماء هتف باسمه لأمه ربما .. ولكنه في النهاية سمي محمدًا.
محمد بن حمد الصوياني
المصدر:قصه الإسلام
[1] حديثٌ حسنٌ، رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير: 1/ 213) سماعًا من صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال: حدثني من شئت من رجال قومي ممّن لا أهتم عن حسان بن ثابت قال: "إني لغلام يفعه ابن سبع سنين أو ثمان أعقل ما رأيت وسمعت إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غدات، .."، وهذا الإسناد قابل للتحسين، فصالح ويحيى ثقتان، وابن إسحاق لم يدلس، والتابعون لم يتهموا وربما كانوا صحابة وللحديث شواهد تقويه منها ما رواه ابن إسحاق عن هشام عن أبيه عن عائشة لكن ابن إسحاق عنعن ومنها ما بعده وغيره أيضًا.
[2] إسناده حسن، رواه محمَّد بن حبان وأبو نعيم (سيرة ابن كثير: 1/ 212)، قالا: حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد عن محمَّد عن عمرو عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد، عن زيد بن عمرو قال: "قال لي حبر من أحبار الشام: ..". وهذا الإسناد صحيح، وهب بن بقية ثقة. انظر التهذيب (11/ 159) وخالد هو ابن عبد الله الطحان وهو ثقة. انظر التهذيب أيضًا (3/ 100) ومحمَّد بن عمرو حسن الحديث، ويحيى تابعي ثقة وللحديث شاهد عن البيهقي في الدلائل (1/ 91) بسند جيد.
[3] حسن بشواهده وسنده ضعيف فقد رواه أبو نعيم (سيرة ابن كثير: 1/ 214) من طريق النضر بن سلمة وهو ضعيف، عن إسماعيل بن قيس بن سليمان بن زيد بن ثابت وهو ضعيف أيضًا. انظر اللسان (1/ 429)، لكن الحديث يشهد له ما سبق، ويشهد له ما سبق ذكره عند البيهقي في الدلائل (1/ 91) وما عند البيهقي أيضًا (1/ 89) وهو قوي بها لا سيما وأن الأول جيد الإسناد، والثاني علته عنعنة ابن إسحاق ورجاله ثقات.
[4] رواه ابن سعد (1/ 104) بإسناد حسن من طريق أبى عامر العقدي وهو ثقة واسمه: عبد الله بن عامر القيسي. انظر التهذيب، وقد حدثه هذا الحديث شيخه زهير بن محمَّد التميمي وهو حسن الحديث إذا روى عنه غير شامى. وهذه رواية بصرى وهي مستقيمة كما قال ذلك الأمام أحمد. انظر التهذيب (2/ 348) وشيخه عبد الله بن محمَّد بن عقيل وهو ثقة وشيخ هذا هو محمَّد بن علي بن أبي طالب، عن والده.
تعليق