المجتمع الإسلامي ودوره الحضاري عبر التاريخ
أ.د. عبد الحليم عويس
النسبة بين الأمة والدولة في حضارتنا:
لم يصنع الحكَّام حضارتَنا، ولم يكونوا إلا جزءًا من أجزاء تاريخنا، لقد كانوا يركبون الموجات التاريخية المتلاحقة،
لكن هذا (الزَّبَد) كان منفصلاً في أكثر الأحايين عن القيعان.
فهنالك في الأعماق كانت تتفاعل القُوى الصانعة للحضارة، وكان نور حضارتنا يمشي في إطار قِيَمه وعقيدته، لا يأبه كثيرًا بمن ركب الموجة،
وإن اضطر - في أحايين - إلى أن يهدِّئ من تفاعُله، ويبطِّئ من سرعته؛ حتى يهوِيَ بعضُ الراكبين الثقلاء!
إن الذين ظلموا حضارتَنا هم الذين وقفوا على الشاطئ يرصدون من يركبون الأمواج، ويتحدثون عن
(نظم الحكم)، و(أساليب انتقال السلطة)،
و(أنواع الظلم للرعية)، و(الخلافات بين الأسر الحاكمة).
لكن الحضارات ليست هنالك في هذا المستوى، وإلا لانتهت بعد قرن أو قرنين، ولباعها هؤلاء الراكبون بثمن بخسٍ
في بعض مساوماتهم السياسية.
وإن الحضارة في الأعماق، حيث يوجد (ما ينفع الناس)، وحيث تتعاون خمائر الحضارة في معركة الإبداع وصياغة الحياة
كما يليق بإنسانية الإنسان.
في الحضارة المتفاعلة كان القضاة، والمحتسبون، والدعاة، والعلماء، والمفكرون، والمهنيون، والتجار، والزرَّاع، والأدباء، والشعراء، والفنانون،
والمعلِّمون، وبعض الحكام، وبعض الوزراء، وبعض الشُّرَط، وبعض الحُجَّاب والرسميين؛ كان كل هؤلاء يصنعون الحضارة.
وكانت الحضارة تَمضي بالدفعة الروحية والشرعية مواصلةً تقدُّمها في مجاليها الثابتين:
• مجال حفظ الحياة: من خلال حماية النوع، والذات، والعِرْض، والمال، والعقل، والدين.
• ومجال تحقيق تقدم الحياة وتطورها: من خلال نشر التعليم، ومساعدة الفكر والإبداع في المجالات المادية والمعنوية.
وكانت شريعة الإسلام القائمةُ على عقيدته وأخلاقه تنساب في كل الخلايا الفاعلة في الحياة، مثلما ينساب الضمير والعقل،
ومثلما ينساب الماء والدم، فإذا ضعُف تأثير الضمير قامت الحدودُ لتمنع الصدامَ بين الأجزاء الفاعلة في تيار الحياة؛
﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229].
لم يكن مبدأ الاستيراد الاستهلاكي قد عُرِف بعدُ، وحتى وسائل المواصلات لم تكن تسمح بالاعتماد على الاستيراد في الحياة،
وكانت هذه الجريمة لم تصل - بعد - إلى أن تكون ظاهرة يعرفها الجميع، ويتحدَّثون عنها، بل ويسكتون عليها،
ويستثمرونها لصالح بعض النُّظم الحاكمة.
بل هي - في الحق - أكبر جريمة؛ أن يعيش شعب مستهلكًا مستوردًا عالة على شعوب أخرى، إن مثل هذا الشعب لا يجوز أن يسمِّي نفسه
مستقلاًّ، ولا أن يطالب بحقوق، ولا أن يعتبر نفسه واحدًا من ركاب قطار الحضارة ولا صنَّاعها، حتى لو تغنَّى بماضيه الزاهر وأسلافه الأمجاد،
فعلى امتداد ما يربو على اثني عشر قرنًا كانت شرائح الأمة الإسلامية تصنع الحضارة لتحقِّق حفظ الحياة، وتطور الحياة!
وكانت النظرتان العجلى والمتأنية - على السواء - تؤكِّدان أن هذه المجتمعات الإسلامية (رسميًّا) هي مجتمعات إسلامية - أيضًا - (عمليًّا وواقعيًّا).
إنها لا تتنفس الإسلام في رمضان، أو في ذي الحجة وحسْب، بل تتنفَّسُه، وتحتكم إليه، وتنصاع لأحكامه وأخلاقه على امتداد العام كلِّه،
إن الزمان كلَّه يصاغ صياغة إسلامية.
وحول مكة والمدينة والقدس تلتفُّ كلُّ عواصم المسلمين ومدنهم وقُرَاهم؛ محاولة أن تقترب من هذه الأماكن المقدسة في سلوك أهلها،
وفي تزكية الضمير والوجدان الإسلاميين.
فالمساجد تقوم بدور الجذب حول (مكة) المحور الأساسي، والعلماء والمسلمون يغرسون في العقل والوجدان أن الأرضَ كلها مسجد،
وأن الإسلام واحد، والرقابة الإلهية العليا، وأن المسلمين أمة واحدة، وأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يُسْلِمُه،
إن المكان في عالم الإسلام يُصاغُ صياغةً إسلاميةً.
• عشرات الألوف من المساجد تنداح حتى في البلاد التي لا يسكنها إلا مئات من المسلمين.
• ومئات الألوف من العلماء والمربِّين ينتشرون في العالم، ينسجون العقول والضمائر بمبادئ الإسلام، وكلهم يتكلَّمُ لغة إسلامية واحدة،
نابعةً من كتاب الله وسنَّة رسوله القولية والفعلية.
وحلقات القضاة التي في المساجد أو خارجها، تحكم حركة الحياة، وتعطي كلَّ ذي حق حقَّه، وتؤصِّل التعاون، وتمنع الصراع،
وتقف - في سبيل تحقيق الغاية - حتى في وجه الحكَّام.
ومحتسبون ودعاة هنا وهناك رسميُّون وغير رسميين، يلبَسون أثواب المحتسبين وشاراتهم، أو أثواب التجار والحِرفيين والزراع،
وكلهم يتعامل مع الإسلام وكأنه المسؤول عنه، وعن تحقيقه في حياة المسلمين، ونشرِه بين غير المسلمين.
وبهؤلاء وأولئك، وغير هؤلاء وأولئك تمور الحياة، وتتفاعل عناصر الحضارة، ويظهر العلماء والحكماء، والرياضيون، والفَلَكيون،
والفقهاء، والأطباء وغيرهم.
موسوعات ضخمة لم تتوفر لأية أمة، تُسمَّى بكتب التراجم والطبقات والرجال والأنساب، تضم بعض ما وصل إلينا عن أولئك العلماء
الأعلام والدعاة إلى الإسلام.
إن هؤلاء هم أبرز صنَّاع الحضارة، بل إن هؤلاء هم الذين حموا ثغور الحضارة الإسلامية، وتحملوا الثمن الباهظ الذي دفعتْه الحضارة
الإسلامية من جراء الانحراف الذي وقع فيه بعضُ الحكام.
كان هؤلاء العلماء والصناع والدعاة يتفاعلون في مستواهم - صابرين محتسبين - وكان الآخرون يمضون في طريقهم.
وكان بين المستويين خطوطُ تفاعُلٍ، وخطوط تصادم، ومناطق حياد.
ففي العهود التي يدرك فيها جهاز الحكم والدولة أهميةَ الاحتكام للإسلام،
وقيمة ثقافة الإسلام وحضارته، كانت الحضارة تتوهَّج متفاعلة أشد ما يكون التوهج، وكانت الأمواج الحضارية تصفو وتهدأ،
وتنطلق إلى غايتها مترجمةً قوةَ الإسلام وأصالته.
وحين يجنح الحكام إلى الانحراف والظلم والاستبداد، كان الصدام يقع؛ في دائرة النفوس والضمائر في أكثر الأحايين،
وفي دائرة السلاح في أقل الأحايين، لكن التيار كان يمضي ملتزمًا بالعقل، واعيًا بالمأزق، معتصمًا بمواقعه،
مؤثِرًا الفعل الحضاري على الصدام السياسي.
• وثمة مناطق حياد كانت تمضي، وهي الأكثر والأغلب، لا تكاد تقترب من تأثير الحكام إلا في بعض المعابر القليلة؛
فقد كان القضاة والدعاة والزهَّاد والمفكرون والمخترعون يبتعدون - قدر الاستطاعة - عن مناطق الصدام، وكان الحكام - في بعض الأحايين -
هم الذين يحتاجون إليهم، ويسعَوْن إلى أن يقترب هؤلاء منهم، ويُجْرون عليهم النفقات، ويجزلون لهم الأعطيات.
كانت هناك بالتالي أمة إسلامية، وكانت هناك مؤسسة حاكمة، اسمها: الدولة، أو بتعبير آخر كانت هناك (أمة دعوة)
تعي رسالتها ودورها الحضاري، وتصوغ حياتها - في هدوء - وَفْق شريعة الإسلام.
وكانت هناك مؤسسة حُكْم تقوم على حراسة الإسلام، وقد تبتعد أحيانًا عن تطبيق أحكامه
والنسبة بين الأمة والدولة كالنسبة بين الأعماق والسطوح، وبين الجماعة والفرد.
فالأمة الجماعة (جماعة المسلمين) أو (جماعة الدعوة) أو (أمة الدعوة) هي مجموع الأمة التي تزيد نسبتها عن تسعة أعشار
الفاعلين في الحضارة، والدولة هي (أفراد) و(هيئات) أجيرة تمثِّل عُشْر الفاعلية الحضارية.
"وعلى طول تاريخ الجماعات الإسلامية، وعلى اختلاف أوطانها وأزمانها، ظلت الجماعة قائمةً، لها قوتها واختصاصاتها ومسؤولياتها إلى جانب الدولة؛
فمعظم المشكلات والمنازعات كان الناس يحلونها فيما بينهم بالتراضي والتفاهم أو التنازل المتبادل، ومن هنا نفهم كيف أن مدنًا كبيرة -
كالفسطاط أو البصرة أو الكوفة - كان لها قاضٍ واحد، ولم يكن هذا القاضي - مع ذلك - مرهقًا بالقضايا؛
لأن الناس كانوا لا يلجؤون إليه إلا في حالات الضرورة القصوى.
وكذلك كانت المساجد ورعايتها دائمًا من اختصاص الجماعة، يَبنيها الأثرياء أو الناس العاديون، وتُوقَف عليها الأموال؛
لأن المساجد التي كانت تبنى بأموال الخلفاء والسلاطين كانت قليلة العدد، إلى جانب أنها كانت في بعض الأحيان مساجدَ سلطانية،
لم تخلُ من قصد إلى الزهو، وإظهار الغنى والقوة، والرغبة الشخصية في بقاء الذِّكْر".
"ومثل ذلك يقال عن التعليم؛ فقد كان من شأن الجماعة، وقلما أنفقت الدولة شيئًا عليه في شرق الدولة الإسلامية قبل العصر
السلجوقي في القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، باستثناء عطايا كان الخلفاء والسلاطين يقدِّمونها للظاهرين من أهل العلم
على سبيل المكافأة، وكذلك كان الحال مع مواصلات البر والبحر"[1].
إن هناك قضية خطيرة لم يفهمها بعض الناس، وبسبب عدم الفهم - هذا - أخطؤوا في فهم الموازين الصحيحة لتقويم حضارتنا الإسلامية
إنهم لم يفهموا (العلاقة) ولا (النسبة) بين الدولة والأمَّة، أو الدعوة والدولة، في الحضارة الإسلامية، بل سقطوا في تشريح حضارتنا
بالمِبْضع نفسه الذي شرَّحوا به الحضارات الأخرى، ولا سيما الحضارة الأوربية.
• ومن هنا جاء تقويمهم جائرًا وفاسدًا.
• إن (الدولة) في التجرِبة الأوربية - منذ ظهرت وحتى العصر الحديث - تشير إلى سلطات مطلقة، ولكنها متمركزة ضمن حدود،
بَيْدَ أنه لا يمكن التمييزُ بين مهمتها وطاقتها؛ فالخدمات التي تؤديها تختلط مع الامتيازات التي تمارسها، وجميع أشكال العمل التي تحت تصرُّف الدولة هي أجهزة السلطة ووسائل الحكومة، والشرطة تحمي الأفراد، ولكن امتيازات وزير الداخلية كبيرة، والتعليم العالي ينمي المعرفة، ولكنه يوجِّه الأفكار،
والمساعدة الاقتصادية والاجتماعية التي توفرها الدولة الحديثة تنطوي على مركزية مالية متزايدة[2].
فهنا في جسم الحضارة الأوربية، وبالتالي تاريخها وحضارتها، كان دور الدولة هو دور الرأس والعقل والدم، إنها تنساب في الكيان كلِّه،
وقد حاولت الكنيسة منافستَها، والاشتراك معها في صياغة المجتمع وتوجيهه، وقد نجحت في ذلك حتى نهاية العصور الوسطى الأوربية،
وإن كانت قد مُنِيَت بفشل ذريع بعد فشل الحروب الصليبية التي جرَّت الكنيسةُ المجتمعاتِ الأوربية إليها، ومع بداية العصر الحديث
أَفَلَ دور الكنيسة، وانفردت الدولةُ خلال القرون الأربعة الأخيرة بالقيادة والتوجيه.
وبعد صراع مرير تمكَّنت الدولةُ والشعب في أوربا من الوصول إلى صياغة خاصة بالحياة، لا سيطرة فيها على الإنسان إلا للدولة.
لقد نُحِّيَ كل دور آخر، وقد أصبح القانون هو كلَّ شيء، وأصبحت الدولة حارسةَ القانون، وابتعد الدين، وبالتالي الكنيسة عن الحياة.
لكن الأمر في الحضارة الإسلامية مختلفٌ كل الاختلاف؛ فالإسلام لا تحميه طبقة معينة، بل هو مسؤولية الأمة كلِّها،
وليست المساجد إلا دُورًا للأمة كلها، وهي ذات وظيفة شمولية، والعلماء مجرد موجِّهين ومعلِّمين، لا يملكون أدنى سلطة،
ولم يوجد في الحضارة الإسلامية صراعٌ بين مؤسسات خاصة بالدين، ومؤسسات خاصة بالدولة،
بل كانت الأمة كلُّها تستنكر انحراف الحكام، وعندما تيْئَس من تقويم انحرافهم، كانت تبتعد عنهم،
وتتولى هي بنفسها صناعة حضارتها وحفظ عقيدتها، منددة قدر الاستطاعة بظلمهم، عاملة في حدود عدم الاشتباك معهم؛
حتى لا ينهدمَ البناء على إصلاحهم أو التخلص السِّلمي منهم.
إن النسبة هنا لنفوذ الدولة وآثارها كانت محددة ومرصودة ومعزولة، وحتى العلم لم يكن يؤخذ باطمئنان إلا من رجال الدعوة، لا من علماء السلطة،
وكانت منزلة الحسن البصري وعبدالله بن المبارك، والليث بن سعد، والعز بن عبدالسلام وعشرات غيرهم ممن عرفتْهم حضارتنا، أعلى منزلةً
من حكَّام عصرهم، مع عظمة بعضهم.
وهذه النسبة منذ قامت الأمة بأمرِها، ووقع الانفصال بين السياسة والحضارة - لم تَزِدْ - كما ذكرنا - عن عُشْر الفاعلية الحضارية،
وتحمَّلت الأمةُ المسلمة - مبتعدةً قدر الاستطاعة عن حكَّامها؛ إما ورعًا أو خوفًا - عبءَ الفاعلية الحضارية الباقية.
[1] د. حسين مؤنس: عالم الإسلام، ص: 25، 26، طبع دار المعارف بمصر، طبعة أولى.
[2] جاك ونديو دوفاير: الدولة، ترجمة/ سموحي فوق العادة، منشورات عويدات بباريس بيروت، ص 6 - 7 (بتصرف).
موقع الألوكة
تعليق