إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

منهج القرآن الكريم في بيان العقيدة الإسلامية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • منهج القرآن الكريم في بيان العقيدة الإسلامية

    منهج القرآن الكريم في بيان العقيدة الإسلامية

    عثمان بن جمعة ضميرية





    المقدمة:

    يقوم الإسلام على الإيمان أو العقيدة التي تكوِّن القاعدة الأساس في بناء الدين، ومنها ينطلق المؤمن، ويضبط كلَّ حركته بضوابطها، وهي تفسِّر للإنسان طبيعةَ وجودِه ونشأتَه وغايتَه، و مصيره، وترسمُ له معالم صلتِه بالله تعالى وبالحياة والأحياء والكونِ من حوله، وعليها تقوم أحكام الشريعة والنظام والأخلاق في كل جوانب الحياة.

    وقد انصرفت عناية بعض العلماء في مرحلة من مراحل تدوين علم العقيدة إلى الجدل والرد على المخالفين بأسلوب ومنهج يتفق مع منهج أولئك المخالفين، فتأثروا بالمنهج الفلسفي الإغريقي، وفسَّروا القرآن على ضوء الفكر اليوناني، فكان لا بدَّ من إعادة الأمر إلى نصابه بالعودة إلى المصادر الصحيحة الموثوقة في دراسة العقيدة؛ وهي القرآن الكريم والسٌّنة النبوية.

    وسننظر في المنهج الذي سلكه القرآن الكريم في بيان العقيدة الإسلامية وغَرْسِها في النفوس وتثبيتها في القلوب ليكون لها أثرها في السلوك، وسنعرض وسائل هذا المنهج ومسالكه، بما يتفق مع طبيعة هذا البحث الموجز.

    المنهج الفطري أو الوجداني:
    يقرِّر القرآنُ الكريم حقيقةً كبيرةً، وهي أنَّ الإنسان قد خلقه الله على فطرة سليمة تتجه إلى بارئها وتلجأ إليه؛ فقد جُبِلَت النفوس على معرفة خالقها تعالى منذ أن أخذ الله تعالى العهد والميثاق على أبناء آدم؛ حيث قال تعالى: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [سورة الأعراف، الآية: 172].

    وكل مولود في هذا الوجود يولد على الفطرة؛ ولذلك يخاطب الله تعالى الإنسان ويذكِّره بهذه الفطرة بأسلوب وجداني حي؛ ليوقظ إحساسه بالأمور الإيمانية والعقيدة، وأهمها: توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وما يتفرع عن ذلك من قضايا الاعتقاد، وليزيل عن هذه الفطرة ما قد يغشاها أو يحرفها عن طريقها السوي من مؤثرات أُسَرية أو اجتماعية، أو من عادات وتقاليد وأوهام وخرافات، أو من غواية وشهوات ومصالح مادية تهبط بالإنسان وتنحرف به عن الجادة.

    يقول الأستاذ محمد المبارك: "القرآن يخاطب الإنسان ويثيره عن طريق منافعه ومصالحه وحاجاته وملذاته، وعن طريق قضاياه ومشكلاته؛ ليحرك تطلُّعَه وقلقه إلى معرفة الحقيقة ذات الصلة بحياته الحاضرة ومصيره البعيد، ويجعله بذلك متهيئاً للتفكير في الله، ومستعداً لقبول نتائج المنطق السليم مع منفعته" [1].

    وليس الوجدان هو الإحساس أو صفة من صفاته؛ ولكنَّه وعاء الشُّعور بما ينشأ عن إدراك المعاني.

    والقرآن الكريم يثير الوجدان بطريقته الجميلة المعجزة، ويزيل الغشاوة التي ترين على القلب وتجعل الحسَّ يتبلَّد، ويَعْرِض آيات الله في الكون في صورة حيَّة ينفعل بها الوجدان كأنها جديدة يشهدها الإنسان لأول مرة. وحين ينفعل بها الوجدان ويتأثَّر، ويتحرك الخيال لتتبع المشهد المعروض وتتحرك المشاعر بشتى الانفعالات، عندئذٍ يوجِّهه (أي القرآن الكريم) إلى أنَّ وراء هذه المشاهد كلِّها قدرة الله المعجزة، وأن صانعها وبارئها هو الله، سبحانه وتعالى؛ فينبغي إذن عبادة ذلك الإله القادر، والتوجُّه إليه وحدَه بالعبادة دون سواه؛ والتلقِّي عنه في كل أمر من الأمور.

    مجالات المنهج الفطري:
    بهذه الطريقة الوجدانية الحية يتحدث القرآن الكريم عن الكون بضخامته ودقته المعجزة؛ وعن ظاهرة الموت والحياة، وعن إجراء الرز ق، والأحداث، وقدرة الله التي لا تُحَدُّ، وعن علم الله الشامل للغيب؛ كلُّ ذلك بطريقة فذَّة تجعل الإنسان يستقبل هذه الأمور كلَّها كأنَّه يراها ويلاحظها لأول مرة؛ فينفعل بها وجدانه ويستيقظ لحقيقة الألوهية:

    (1) ففي آيات الله الكونية:
    يعرض لنا القرآن الكريم جانباً منها بطريقة تصويرية أخَّاذة، ويرسم لها صورة شاملة متكاملة، ويطوف بنا في مجالات رحبة كثيرة، ثم يخلص إلى النتيجة والتوجيه والقناعة الوجدانية، كما في قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة النحل، الآيات: 10-11].

    (2) وفي ظاهرة الحياة والموت:
    يتحدَّث القرآن الكريم كثيراً عن أصل الحياة وظهورها، وعن ظاهرة الموت بعد الحياة؛ ليهزَّ الوجدان بهذه الظاهرة المعجزة التي كثيراً ما يمرُّ الإنسان بها دون أن يلتفت إليها؛ أو دون أن يعطيها حقَّها من الاهتمام؛ مع أنها جديرة أن تبعث في نفسه هذا التساؤل: من الذي خلق الحياة في هذه الخلية الحية؟ وعندما تموت هذه الخلية: من الذي سلبها هذه الحياة؟ ولماذا لا تستمر هذه الحياة؟... إلخ.

    وهنا يجيء جواب الفطرة ومنهج الفطرة في القرآن؛ ليزيل الغشاوة عن النفوس، ويتحدث عن الموت والحياة حديثاً يهزُّ الوجدان فيصحو من تبلُّده، ويتيقظ لحقيقة الألوهية والربوبية التي يرجع إليها الموت والحياة؛ كقوله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [سورة الملك، الآية: 21].

    وليس هذا في مجال الإنسان فحسب؛ بل في مجال المخلوقات الأخرى كذلك. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [سورة الزمر، الآية: 21].

    (3) وفي الرزق بأنواعه و ألوانه:
    وهو من أشد الأمور التي تربط القلب بالله سبحانه وتحرك الفطرة والوجدان؛ إذ يذكِّرنا الله تعالى في كتابه الكريم بأنَّه سبحانه هو الذي يُفيضه على الإنسان دائماً، فقد تكفَّل الله تعالى للإنسان بكل ما يحتاجه؛ من طعام وشراب وملبس ومسكن وهواء، ومن تسخير لكل الموجودات كي ينتفع بها الإنسان، وجعلها تسير على نظام يتفق مع حياة الناس وحاجاتهم.

    ويَعْرِض القرآنُ الكريم موضوعَ الرزق بطريقة توقظ الفطرة وتحرك الوجدان لمعرفة الله تعالى ولمعرفة أنه سبحانه المتفرِّد بهذا الرزق والعطاء، وأنه هو الرزَّاق ذو القوة المتين، وأنَّ الأرزاق كلَّها من عند الله، وأنَّ الإنسان مهما بذل من جهد فهو لا ينشئها في الحقيقة، وإنما يعمل فيها بسنَّة الله ومشيئته، ولكن المنشئ والخالق هو الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [سورة الواقعة، الآيات: 63-74].

    فإذا كان الأمر كله لله تعالى في إنبات الزرع، وإنزال الماء من المزن، وتيسير النار والوقود... فإن في هذا كله تذكرة وتبصرة؛ ثم ينتهي السياق حين يهزُّ الوجدان بذلك العرض كله بدعوة الإنسان -وهو في حالة تأثُّره وانفعاله الوجداني هذه- أن يسبِّح باسم ربه العظيم الذي أفاض عليه كل تلك الأرزاق والخيرات، والنعم الظاهرة والباطنة.

    (4) وتجري الأحداث حول الإنسان وفي خاصة نفسه من مولده إلى مماته:
    بعضُها أحداثٌ كونيَّة: كالليل والنهار وتعاقُبِهِما المستمر، وطلوع الشمس وغروبها، وطلوع القمر وتدرُّج أوجُهه من أوَّل الشهر حتى يكون بدراً؛ ثم يتضاءل حتى يختفي، والسحاب والمطر والرعد والبرق، وتعاقب الفصول... إلخ. وبعضُها أحداثٌ من محيط البشر: من ميلاد وموت، وصحة وضعف، وطفولة وشباب وكهولة وشيخوخة، وغنى وفقر، وعز وذل... إلخ.

    (5) أما علم الله للغيب:
    فإنه علم شامل محيط في كل جانب من جوانبه في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، وقد يحاول الإنسان شيئاً من ذلك بوسائل وأسباب ولكنه يعجز عنه؛ أما الله سبحانه وتعالى فإنه يعلم الغيب كله؛ لأنه هو العليم بكل ما في السماوات والأرض؛ وكلِّ ما حدث وما يحدث؛ لأنه منشئ الأحداث. والقرآن الكريم ينبِّه الوجدان البشري إلى هذه الحقيقة، فيقول الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ 8 عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [سورة الرعد، الآيات: 8-9].

    ففي الآية الكريمة دليل على عظمة الله وشمول علمه للغيب في كل المجالات التي ضربت الآية الكريمة أمثلة عليها: في مجال الإنسان، وفي مجال الحيوان (مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى)؛ فمن الذي يحصي هذا كله، ومن الذي يعلم خصائص كلِّ حَمْل تحمله كل أنثى؟ إنه لا أحد يستطيع ذلك إلا الله تعالى الذي جعل كلَّ شيء عنده بمقدار، ولا يغيب عنه إسرار بالقول ولا خطرات في النفس... فأين يغيب عن الله شيء واحد من أعمال الإنسان؟ فكل شيء مسجل ومحفوظ وسيجزى الإنسان عليه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سورة الأنعام، الآية: 59].

    وهنا يجدر التذكير بأن هذا المنهج الوجداني (أو الفطري) الذي يسلكه القرآن الكريم لغرس العقيدة لا يقتصر على جانب واحد من جوانبها.

    وفي ختام هذه الفِقْرة حسبنا أن نؤكِّد أنَّ القرآن الكريم يلفت النظر إلى خصائص الفطرة والمواقف العلمية التي تعيد إليها نقاءها وصفاءها باعتبار أن هذا كله يصلح منهجياً إلى اعتبار الفطرة قاعدة من قواعد أخرى، فيتكون منها جميعاً منهج خاص يتميز به الإسلام حين يصطنعه منهجاً لبناء العقيدة الصحيحة في نفوس الأفراد والجماعات.

    المنهج العقلي:
    إنَّ المنهج العقلي الذي يسلكه القرآن الكريم في بيان العقيدة وغرسها في النفوس يأتي متسقاً مع المنهج الفطري ومتكاملاً معه؛ ولذلك فإنَّ القرآن الكريم لم يكن مقصوراً على مجرد الخبر عن وجود الله تعالى ووحدانيته وسائر أركان العقيدة، وإنما أقام البراهين العقلية التي بها تُعْلَم العلوم الإلهيَّة؛ فكان منهجه ومنهج جميع الأنبياء عليهم السلام الجمع بين الأدلة العقلية والسمعية (الشرعية) [2]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالاستدلال على الخالق بخلق الإنسان في غاية الحُسْن والاستقامة، وهي طريقة عقلية صحيحة، وهي شرعية، دلَّ عليها القرآن وهدى الناس إليها؛ فإن نفس كون الإنسان حادثاً بعد أن لم يكن، ومخلوقاً من نطفة ثم من علقة... فإن هذا يعلمه الناس كلُّهم بعقولهم، فهو إذنْ عقليٌّ؛ لأنه بالعقل تُعلَم صحته، وهو شرعيٌّ أيضاً" [3].

    والإسلام ينوِّه تنويهاً كبيراً بالعقل ويُعلي من مكانته وقيمته؛ ونجد شاهداً على ذلك في الآيات القرآنية التي تنزَّلت بشأنه؛ فالعقل هو هبة الله للإنسان، ولذلك جعله الله تعالى سبباً للتكليف ومناطاً للمسؤولية؛ وحثَّ على استعماله فيما خُلق له (أي العقل) وفي المجال الذي يستطيعه، ورسم له المنهج الصحيح للعمل والتفكُّر، وأحال عليه في القضايا الكبرى الرئيسية: كمعرفة الله تعالى ووحدانيته، وصحة النبوة، والبعث بعد الموت؛ فإنَّ إدراك هذه القضايا إدراكاً كلياً عاماً إنما يكون بالعقل. وإن كان هذا لا يعني أن نجعل العقل حاكماً على مقررات الدين؛ فإن العقل من شأنه أن يتلقى عن الوحي، وأن يفهم ويدرك؛ فإن للعقول حدّاً تنتهي إليه لا سبيل لها إلى مجاوزتها.

    مجالات المنهج العقلي:
    والقرآن الكريم يخاطب العقل ويُقنِع الإنسان بالمنطق السهل المؤثر في النفس بأسلوب حي جذاب؛ حيث يوجِّه نظره إلى آيات الله في الكون والرزق والحياة والموت والأحداث الجارية كما سبق الحديث عنها في المنهج الفطري الوجداني، ولكنه مرة أخرى يعرض لها؛ وبأسلوب ومنهج عقلي يؤدي في النهاية إلى الغاية ذاتها، وهي إدراك حقيقة الألوهية وما يتفرع عنها من حقائق وقضايا الإيمان والعقيدة:

    (1) ففي مجال الإلوهية:
    يعرض القرآن الكريم آيات القدر والخلق، ومظاهر الموت والحياة، فيقول الله سبحانه وتعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [سورة الواقعة، الآيات: 57-74].

    وقد تقدَّمت هذه الآيات الكريمة في المنهج الفطري؛ وهي كذلك مثالٌ على المنهج العقليِّ؛ لما فيها من أسلوب منطقيٍّ يتصف بالحيوية؛ لما فيها من الأسئلة الموجَّهة إلى المخاطَب والإجابة عنها إلى أن يصل إلى النتيجة المطلوبة التي بُدئ بها لإيراد الدليل عليها، مع تعدُّد الأمثلة المأخوذة من حياة الإنسان وما يحيط به.

    ولو تأمَّل الإنسان بعقله وفكره آياتِ الله المبثوثةَ في الأرض وفي النفس والآفاق، لأيقن بأن وراء هذه الآيات قدرةَ الله تعالى وأنها دليل على وحدانيته، فتجب طاعته، والالتزام بأمره ونهيه، وخلع ما يُعبَد من دونه من الأنداد والشركاء. قال الله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [سورة الذاريات، الآيات: 20-21].

    وبالأسلوب العقلي المنطقي تأتي أدلة الوحدانية، كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة المؤمنون، الآية: 91]، وكما قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الأنبياء، الآيات: 21-22]. والبراهين العقلية في القرآن ذات طريقة حيَّة وبأسلوب يمكن أن تفهمه الخاصة والعامة؛ كلٌّ بقدر طاقته.

    (2) وفي مجال النبوات أيضاً:
    يخاطب القرآنُ الكريم العقلَ، ويوجِّهه إلى معرفة صدق النبيِّ ومصدر القرآن، وأنه هو الوحي المنزَّه عن الخطأ والاختلاف، فيقول الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [سورة النساء، الآية: 82].

    فإن سلامة القرآن من الاختلاف والتناقض، مع سلامته في الأسلوب الذي يجري على منهج واحد، دليلٌ عقليٌّ على أنه من عند الله، تعالى؛ فلو كان من عند غير الله لظهر فيه ذلك التفاوت [4].

    (3) وفي السمعيات:
    يقيم القرآنُ الكريم الدليلَ العقليَّ على البعث والحساب؛ فإن العقل يمنع أن تكون الحياة عبثاً؛ وأن يُترك الإنسان سدىً دون تكليف ولا محاسبة ولا جزاء يفرَّق فيه بين المؤمن والكافر، وبين التقي والعاصي الفاجر، فيقول الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [سورة القيامة، الآيات: 36-40].

    وكذلك يحكم العقل بأنَّ من قَدَر على الخلق في المرة الأُولَى فهو على الإعادة أقدر: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الروم، الآية: 37].

    والذي ينبغي أن نُلمِح إليه في آخر كلامنا عن المنهج العقلي: أن الإسلام بيَّن للعقل الطريقَ الذي ينبغي أن يسير فيه حين يريد النظر في مسألة بعينها؛ والطرائق مختلفة والأساليب متعددة؛ ولكل مسألة من المسائل ما يناسبها من طرائق النظر وأساليب الفكر.

    فإذا كان موضوع النظر هو مسائل الإلوهية، فإن العقل أمامه طريقان:
    أحدهما: أن ينظر في الكون ويتأمَّله ليستنتج من ذلك أن له موجداً، ثم ينظر في تناسق هذا الكون وانسجامِه ليعلم أن موجده واحد عالم حكيم خبير.
    والطريق الثاني: أن ينصت إلى هذا الإله الذي آمن به حينما يتحدث عما يجب وعما يجوز وما يستحيل على هذا الإله من أسماء وصفات.

    أما حين يكون الحديث في مجال النبوة -مثلاً- فإن الإسلام يوجِّه العقلَ وِجْهةً أخرى، فيطالبه بالنظر في إثبات دعوى النبوة من جهات ثلاث:
    الأولى: النظر في تاريخ مدعي النبوة.
    والثانية: فيما جاء به هذا النبي من العقائد والشرائع.
    والثالثة: أن ينظر فيما ادَّعاه من الخوارق والمعجزات [5].

    وأخيراً: فإن هناك توازناً واتساقاً بين هذا المنهج العقلي والمنهج الفطري السابق؛ وهذا أيضاً يمكن أن يكون منهجاً آخر؛ فنقول: إن القرآن يسلك منهجاً عقلياً ووجدانياً في الوقت نفسه لبيان حقائق العقيدة والإيمان.

    منهج الجدل والردِّ على الانحرافات:
    لقد ألمحنا فيما سبق بيانه إلى أن الفطرة قد تنحرف، وأن الكتب السابقة قد دخلها التحريف والتبديل. وكان لهذا أثره في شيوع الانحرافات والضلالات عند الأمم السابقة؛ فكان لهم معتقدات وتصورات باطلة؛ وكان لهم شبهات طارئة؛ لذلك وقفوا وقفة جائرة ظالمة من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد؛ لذلك أبرز القرآن الكريم تلك الانحرافات، وجادل أصحابها، وأزال شبهتهم، وأقام عليهم الحجة بكل طريقة.

    ومن خلال الجدل والحِجَاج والرد والمناقشة لمعتقدات الجاهليين -أيّاً كانوا- تبرز العقيدة الصحيحة التي تتفق مع الفطرة السليمة ويقبلها العقل الصريح.

    مجالات منهج الجدل والرد على الانحرافات:
    ومن أعظم الانحرافات والضلالات التي رد القرآن الكريم على أصحابها: إنكار الألوهيَّة والربوبيَّة والشرك فيهما، وإنكار البعث والنبوة، وانحراف اليهود في تصوُّرهم للإله؛ وانحراف النصارى وشركهم؛ حيث ادَّعوا أنَّ لله ولداً وأنه ثالث ثلاثة. وهناك انحرافات أخرى تتمثل فيما كان عليه الصابئة والمجوس وغيرهم:
    (1) فقد ردَّ الله تعالى على منكري الربوبية الذين نسبوا الإحياء والإماتة إلى الدهر؛ وهم الصورة الأُولَى للإلحاد الذي عرفته بعض المجتمعات المعاصرة، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ} [سورة الجاثية، الآية: 24]. وبذلك يبيِّن القرآن الكريم أنَّ الإلحاد لا يقوم على شيء من العلم، وإنما هي الظنون والأوهام والأهواء. وقد سبق في المنهج الفطري والعقلي ما يوضح أن وجود الله تعالى حقيقة لا يشك فيها عاقل؛ وأن الأدلة كلها قامت على ذلك عقلاً وشرعاً وواقعاً.

    (2) ردَّ القرآن الكريم على المشركين ألوان الشرك الذي وقعوا فيه؛ حيث عبدوا الأصنام، وبعضهم كانوا يعبدون الجنَّ أو الملائكة ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله... إلخ. وبيَّن القرآن الكريم حقيقة الأمر في ذلك بطريقتين:
    الأولى: بيان أن الله وحدَه هو الخالق المدبِّر لهذا الكون؛ فلا أحد يشاركه في الخلق ولا في التدبير. قال الله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [سورة النمل، الآيات: 59-64].

    الثانية: بيان عجز أولئك الشركاء المزعومين عن أن يملكوا لأنفسهم ضراً أو نفعاً؛ فكيف ينفعون غيرهم أو يضرونهم؟ يقول تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإن تَدْعُوهُمْ إلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ * إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإن تَدْعُوهُمْ إلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [سورة الأعراف، الآيات: 191-198].

    (3) وعندما ادعى المشركون العرب أنَّ لله أولاداً وبناتٍ متابعةً لليهود الذين قالوا: إن عُزيراً ابن الله، ومضاهاةً لقول النصارى الذين قالوا: عيسى ابن الله، عندما قالوا ذلك ردَّ الله تعالى عليهم، ونزَّه نفسه عن ذلك، فقال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [سورة الأنعام، الآيات: 100-102].

    (4) وعندما تنكَّر العرب للبعث والجزاء، وعجبوا من ذلك أشدَّ العجب واستبعدوا أن يكون هناك حياة أخرى بعد الموت... عندئذٍ حكى الله تعالى ذلك عنهم، ثم أقام الأدلة على البعث بتوجيه أنظارهم وعقولهم إلى آيات الله في هذا الكون وقدرته سبحانه التي تتجلى في عظمة هذه المخلوقات لأول مرة؛ فكيف لا يقدر على الخلق مرة أخرى؟ وتأمَّل هذه الآيات الكريمة بأسلوبها المعجز الأخَّاذ. قال الله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سورة ق، الآيات: 1-15].

    (5) ولما انحرف اليهود والنصارى في تصوُّرهم عن الله وقدرته، ردَّ عليهم أفكاراً كثيرة، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [سورة ق، الآية: 38]؛ ردّاً على اليهود الذين زعموا أن الله سبحانه وتعالى استراح في اليوم السابع.

    وعندما زعموا أنهم أبناء الله وأحبَّاؤه، أو أنهم شعب الله المختار، ردَّ عليهم بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإلَيْهِ الْمَصِيرُ} [سورة المائدة، الآية: 18].

    المنهج الإرادي العملي:
    الإرادة البشرية مخاطَبة في الإسلام منذ اللحظة الأُولَى التي يتعرض فيها الإنسان للإنذار ثم لعوامل تصديق الرسول. واستجابة الإرادة لهذا الخطاب هي (التسليم) أو الاستسلام: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [سورة آل عمران، الآية: 83].

    وفي هذا يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: "ولا يثبتُ قدَمُ الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام؛ فمن رام عِلْم ما حُظِر عنه عِلمُه، ولم يقنع بالتسليم فَهْمُه، حَجَبَه مرامُه عن خالصِ التوحيد وصافي المعرفة وصحيحِ الإيمان، فيتذبذبُ بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار؛ موسوساً تائهاً شاكّاً زائفاً؛ لا مؤمناً مصدِّقاً ولا جاحداً مكذِّباً" [6].

    ويقول الإمام العلاَّمة ابنُ السَّمْعَانِي رحمه الله: "الأصلُ في الدِّين الاتِّباعُ؛ والعقولُ تبعٌ؛ ولو كان الدين بُني على المعقول وجب ألَّا يجوز للمؤمنين أن يقبلوا أشياء حتى يعقلوا. ونحن تدبَّرنا عامة ما جاء في أمر الدِّين: من ذكر صفات الله عزَّ وجلَّ وما تعبَّد الناس من اعتقاده؛ وكذلك ما ظهر من بين المسلمين وتداولوه بينهم وتناقلوه عن سلفهم إلى أن أسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ذكر عذاب القبر وسؤال الملَكين... أمور لا تُدرَك حقائقُها بعقولنا، وإنما ورد الأمر بقَبولها والإيمان بها؛ فإذا سمعنا شيئاً من أمور الدِّين و عَقَلناه وفهمناه، فللَّه الحمد في ذلك والشكر ومنه التوفيق، وما لم يمكننا إدراكه وفهمه ولم تبلُغْه عقولُنا آمنَّا به وصدَّقنا واعتقدنا أنَّ هذا من ربوبيَّته، تعالى" [7].

    مجالات المنهج الإرادي العملي:
    وهنا نذكر بعض الآيات التي تتوجه إلى إرادة الإنسان مباشرة تقتضي منها التسليم، وهي على وجه خاص، الآيات الكريمة التي جاءت في صيغة التقرير:
    (1) ففي مجال الإلهيَّات يقول الله تعالى: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [سورة آل عمران، الآية: 20].

    (2) وفي مجال النبوات يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلاَّ إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا * وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [سورة الفرقان، الآيات: 20-23].

    (3) وفي مجال السمعيات يقول الله سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [سورة الإسراء، الآية: 14]. وهذه الآية الكريمة وما سبقها قد جاءت في صياغة تقريرية موجَّهة للإرادةِ للتسليم [8].

    منهج تثبيت العقيدة والتذكير بالله:
    وإذا كانت المناهج السابقة مسالك لبيان العقيدة، فإنها بعد وجودها وبيانها تحتاج إلى أن نتعاهدها، وأن نعمل دائماً على تثبيتها في النفس، فيكون لها الأثر الفاعل في نفس صاحبها؛ فلذلك نجد في القرآن الكريم و في السُّنة النبوية وسائلَ لتثبيت الإيمان في النفس البشرية، منها:
    التذكير الدائم بعظمة الله تعالى وآيات قدرته في الآفاق وفي النفس؛ حتى يخشع القلب ويستسلم: والتذكير بأن الله مع الإنسان يراه ويراقبه ويحصي عليه أعماله؛ ثم يحاسبه عليها يوم القيامة حتى تصبح تقوى الله جزءاً لا يتجزأ من مشاعر القلب، وركيزة ثابتة في حالة السرَّاء والضرَّاء؛ ففي السراء يذكر الله شاكراً لأنعمه، وفي الضراء يذكر الله صابراً ومتطلعاً إليه سبحانه ليكشف عنه السوء.

    ويورد القرآن القصص التي تثبِّت الإيمان ومنها: قصص الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين الذين صبروا على الأذى حتى جاء نصر الله، وقصص الكفار الذين كذبوا وعاندوا حتى دمر الله تعالى عليهم بكفرهم.

    وأخيراً يرسم القرآن صوراً محبَّبَة للمؤمنين وصفاتهم، وما ينتظرهم من الجزاء في الآخرة مخلَّدين في الجنات، وصوراً كريهة منفِّرة للكافرين وصفاتهم وما ينتظرهم من الجزاء في الآخرة مخلَّدين في النار وما ينالهم فيها من العذاب يوم القيامة. ويظل القرآن يكرر هذه التوجيهات حتى ترسخ في النفس، وحتى يصبح الله حاضراً في القلب لا يغفل الإنسان عن ذكره؛ فتستقيم مشاعره، ويستقيم سلوكه، ويصبح عبداً ربانياً مقرَّباً إلى الله في الدنيا والآخرة؛ فيرزقه الله الطمأنينة والسعادة في الدنيا، ويمنحه في الآخرة جنته ورضوانه.

    الخاتمة:
    بعد هذه اللمحات السريعة، يَحسُن أن نختم هذه المقالة بكلمات عن مميزات المنهج القرآني في عرض العقيدة الإسلامية، ثم نعقب بأهم النتائج:
    (1) إن هذا المنهج يتميز:
    أولاً: بكونه يعرض (الحقيقة) كما هي في عالم الواقع، بالأسلوب الذي يكشف كل زواياها وكل جوانبها وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها، وهو مع هذا الشمول لا يعقِّد هذه الحقيقة ولا يلفُّها بالضباب، بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها.

    وثانياً: بكونه مبرأً من الانقطاع والتمزق الملحوظَين في الدراسات (العلمية) والتأملات (الفلسفية)؛ فهو لا يُفرِد كل جانب من جوانب الكل الجميل المتناسق بحديث مستقل كما تصنع أساليب الأداء البشرية؛ وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول، يستحيل مجاراته أو تقليده.

    وثالثاً: بكونه -مع تماسك جوانب الحقيقة وتناسقها- يحافظ تماماً على إعطاء كلِّ جانب من جوانبها مساحتَه، التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله؛ وهو الميزان، كما أنَّ هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي.

    ورابعاً: بتلك الحيوية الدافقة الموحية، مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم؛ وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعاً وروعة وجمالاً لا يتسامى إليها المنهج البشري في العرض ولا الأسلوب البشري في التعبير. ثم هي في الوقت ذاته تُعرَض في دقة عجيبة، وتحديد حاسم؛ ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروعة [9].

    (2) إن القرآن الكريم ومعه السُّنة النبوية هو مصدر هذه العقيدة الذي يتفق مع الفطرة والعقل: وفيه الغَنَاء والكفاية، وهو الهداية والنور، وهو في الوقت ذاته سبب الهداية إلى أقوم طريق في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع، ولا يجوز أن نحمله على الآراء والمقررات البشرية القابلة للصواب والخطأ، بل ينبغي أن يكون هو المهيمن عليها المصحح لأخطائها والمقوِّم لمنهجها، ويكون فهمه وتفسيره قائماً على مناهج فهم النصوص في اللغة التي نزل بها مع البيان المعصوم من النبي صلى الله عليه وسلم.

    (3) ويَحسُن في هذا المقام التأكيد على: وجوب دراسة مباحث العقيدة والإيمان وما يتصل بها دراسة موضوعية من القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بطريقة تتناسب مع المخاطَبِين في هذا العصر من حيث طريقتُهم في التفكير وأسلوبهم في التعبير، مع المحافظة على المفاهيم الإسلامية، دون انتقاص أو تحريف.

    ولذلك ينبغي أن نشير أيضاً إلى القضايا الفكرية والعقدية التي تطفو على الساحة اليوم، ومن ثَمَّ دراستها بأسلوب يتفق مع روح العصر، ويستفيد من مقررات العلوم القطعية ونتائجها، دون مجافاة لروح النصوص الشرعية الصريحة الصحيحة؛ إذ إن صحيح المنقول يتفق مع صريح المعقول.
    ولعل هذا المقام يتسع لتوصية أخرى تتصل بالاهتمام بالتراث الإسلامي الذي خلَّفه لنا علماء السلف رحمهم الله تعالى في باب العقيدة والإيمان، مما كتبوه تحت عنوان: (الفقه الأكبر) أو (الشريعة) أو (العقيدة) أو (التوحيد) قبل أن يتأثر هذا العلم بالمؤثرات الأجنبية التي أثَّرت في (علم الكلام).

    والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.


    [1] انظر العقيدة في القرآن الكريم، محمد المبارك: (ص81).
    [2] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 9 /226، 227.
    [3] انظر: النبوات، لابن تيمية: (ص48).
    [4] انظر: تفسير الفخر الرازي : 10/202.
    [5] انظر: عقيدتنا وصِلَتُها بالكون، د. طه الدسوقي: (ص110 - 113).
    [6] انظر: العقيدة الطحاوية بيان السُّنة، للطحاوي: (ص82).
    [7] انظر: صون المنطق والكلام، للسيوطي: (ص182).
    [8] هذه الفقرة مقتبسة من (مداخل إلى العقيدة الإسلامية)، د. يحيى هاشم فرغل: (ص118) وما بعدها.
    [9] انظر: تفصيل ذلك في كتاب: مقومات التصور الإسلامي: (ص65 / 68).

    وعجلت إليك ربِّ لترضى


  • #2
    جزاكم الله خيرًا، بارك فيكم

    تعليق

    يعمل...
    X