إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مهارات التواصل الاجتماعي - د/ علي الشبيلي // مفهرس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مهارات التواصل الاجتماعي - د/ علي الشبيلي // مفهرس

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


    مهارات التَّواصُل الاجتماعي
    د. علي الشّبيلي
    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
    اللَّهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وارزقنا الإخلاصَ في القول والعمل.
    أمَّا بعد إخوتي الكرام، أخواتي الفاضلات في شتَّى بقاع الأرض، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكلِّ خيرٍ.
    في هذه اللَّيلة -بإذن الله تعالى- سنبدأ درسًا -إن شاء الله تعالى- من الدُّروس المُهمَّة جدًّا في حياة كلِّ مسلمٍ، كيف لا وهو أحد الأمور التي بُعِث من أجلها رسولُ الهدى -صلى الله عليه وسلم- حينما قال في الحديث الصَّحيح: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
    فمرحبًا بكم جميعًا في هذا اللِّقاء الذي سيحمل عنوانًا يتعلَّق بمهارات التَّواصل والعلاقات الاجتماعيَّة؛ لنتعلم ونستفيد كيف نستطيع أن نعيش في هذه الحياة ونتواصل مع القريبين، وكذلك البعيدين، سواء أكان المُقاربون لنا المُتواصِلون معنا أمامنا جسدًا لجسدٍ، وجهًا لوجه، أو كانوا بعيدين عنا.
    فنسأل الله -عز وجل- أن يُبارك في هذه اللِّقاءات، وأن يُسددنا فيها، وأن يُعِننا وإيَّاكم فيها على كلِّ خيرٍ.
    وأرحب كذلك بإخوتي الكرام الأفاضل في هذا الاستوديو، سائلًا المولى -جل وعلا- أن يُوفِّقني وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ.
    أيُّها الإخوة الأفاضل: من نِعَم الله -عز وجل- على الإنسان أن يُوفِّقه لطلب العلم، وإذا أُطلِق العلمُ في كتاب الله وسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فالمراد به العلم الشَّرعي: علم الكتاب والسُّنة.
    ومن المأثور عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنَّه كان يقول: "العلم عمائم يُسْقِطها اللهُ على رأس مَن يشاء".
    فهذا العلم -أي العلم الشَّرعي- هو توفيقٌ مَحْضٌ من الله تعالى، فإذا أراد الله بالعبد خيرًا وفَّقه للعلم الشَّرعي، ولذا جاء في الصَّحيح أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
    وقال الحافظُ ابنُ حجر -رحمه الله- مُعلِّقًا على هذا الحديث: "وللحديث مفهوم مُخالفة، ومفهوم المُخالفة أنَّ مَن لم يرد اللهُ به خيرًا فلا يُفقهه في الدين".
    فإذا وُفِّق العبدُ إلى هذا الأمر، وهو أن يكون عالمًا أو طالبَ علمٍ يستطيع أن يغوصَ في المسائل ويبحث في بطون الكتب ويُخرِج هذا العلم وينشره للناس؛ لا شكَّ أنَّ هذا خيرٌ عظيمٌ.
    ولهذا يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أيضًا في الحديث الآخر: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»، فالإنسان يتعلَّم ويُعلِّم، ولا يقف حدُّه عند التَّعلُّم فقط؛ بل ينشره كذلك للآخرين.
    لذا نحن في هذا الدرس لا شكَّ أننا سنمُر بمواقفَ كثيرةٍ، وسنستشهد بآياتٍ وأحاديث عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- سواء كانت قوليَّةً أو عمليَّةً، نستنبط من خلالها فقه العلاقات الاجتماعيَّة: كيف نتواصل مع الآخرين؟ كيف نستطيع أن نكسب قلوبَ الآخرين؟ كيف نستطيع أن ننقل المشاعر والمعاني والكلام الذي نُريد أن ننقله للآخرين؟ وما الأسلوب المناسب والجميل الذي يُمكن أن نُحقِّق به وصولًا إلى قلوب الناس بأقل تكلفةٍ وأيضًا بأجمل صورةٍ وأفضل حُلَّةٍ؟
    دعوني أبدأ معكم هذا اللِّقاء بقصةٍ ذُكِرت في كتب الأدب والتاريخ، وهي: أنَّ شيخًا كان يُعلِّم مجموعةً من الطلاب، ثم كان الشيخُ إذا انتهت الدُّروس يقول لهم: اذهبوا فانشروا الدَّعوة. وفعلًا ذهبت مجموعةٌ من الطلاب في يومٍ من الأيام فدخلوا أحد المساجد -مسجد جامع- وإذا بالخطيب يخطب خطبة الجمعة بأحاديث كلِّها كذبٌ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فهؤلاء الطُّلاب الذين جاؤوا ليُطَبِّقوا علمَهم الذي أخذوه من الشيخ غضبوا من هذا الوضع، وقالوا: كيف يكذب هذا الإنسان على النبي -صلى الله عليه وسلم؟ فقاموا بعد انتهاء الصلاة وقالوا: هذا الرجل الذي خطب يكذب عليكم، ويتكلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلامٍ لم يقله -عليه الصَّلاة والسَّلام.
    فقام الناسُ وغضبوا على هؤلاء الشَّباب وبدؤوا بضربهم في داخل المسجد؛ لأنَّهم لا يمكن أن يتركوا شيخَهم الذي يُعلِّمهم عشرات السنين ويسمعوا لصبيةٍ أو لشبابٍ صغارٍ لا يزالون في أول الطَّلب، فماذا حصل؟
    رجعوا إلى الشَّيخ وهم مضروبون والدِّماء تسيل منهم، فقالوا له: حصل كيت وكيت وكيت.
    فقال الشيخُ: دعوني أذهب معكم في الأسبوع القادم وأُرِيكم كيف نستطيع أن نصدَّ شرَّ هذا الإنسان ولكن بأسلوبٍ آخر.
    وفعلًا ذهب الشيخُ في الجمعة التالية، وحضر الجمعة، وسمع الخطيبَ وهو يتكلَّم بأحاديث لم يقلها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وكلّها موضوعة ومكذوبة على النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
    فلما انتهت الخطبةُ وانتهت الصلاةُ وصلى هذا الخطيبُ بالناس قام هذا الرجلُ الكبير في السّن وأمسك الميكروفون وتحدَّث إلى الناس وقال: أيُّها الناس، إنَّ إمامَكم هذا رجلٌ صالِحٌ تقِيٌّ، وإنَّ مَن أراد أن ينال الجنَّةَ فليأخذ شعرةً من لحيته.
    وفعلًا هجم الناسُ عليه، وبدؤوا بأخذ كلِّ شعر وجهه.
    فقد تغيَّر الأسلوبُ فقط، وبغض النَّظر عن الطَّريقة أو الكلام الذي قاله هذا الرجل، لكنَّه استطاع أن يُؤدِّب هذا الإنسانَ بطريقةٍ سهلةٍ.
    دعونا نتأمَّل الآن في هذا الكون:
    انظروا أيُّها الإخوة: وصل الإسلامُ إلى جنوب الهند وسِيلان وجُزر المَالدِيف، وإلى التِّبْت وسواحل الصِّين، ووصل كذلك للفلبين وجُزر أندونيسيا، وشبه جزيرة الملايو، ووصل إلى أواسط أفريقيا، والسِّنغال، ونيجيريا، والصُّومال، وتنزانيا، ومدغَشْقَر، وزِنْجِبَار، وغيرها من البلاد، وصل بماذا؟
    وصل بأخلاق الناس، بسبب تُجَّار مسلمين ودُعاة صادقين، لم يملكوا العلمَ فقط؛ بل ملكوا خُلُقًا استطاعوا به فتح عقول الناس وقلوبهم، ولكن فتحوا قلوبَهم قبل عقولهم، لأنَّك إذا أردتَ أن يستمع إليك الناسُ لابُدَّ أن تُحقِّق شيئًا مُهمًّا جدًّا، وهو أن يُحبُّوك.
    لقد أحبَّ أصحابُ محمدٍ محمدًا -عليه الصَّلاة والسَّلام- فتغلغل حبُّه في قلوبهم، ومن ثَمَّ أصبحت كلُّ عبارةٍ يقولها النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- يضعونها على رؤوسهم، وعلى أعيُنهم، ثم يقومون بتطبيقها. لماذا؟
    لأنَّه ملك قلوبَهم -عليه الصَّلاة والسَّلام.
    ولذا لاحظوا الآتي: عُتاة المشركين عندما يأتون ويُسلِمون انظر كيف يتعامل معهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حتى يسحرهم بتعامُله؟
    فلمَّا أسلم عمرو بن العاص -وعمرو بن العاص هو أحد دُهاة العرب- ولاه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاثة أشهر من إسلامه غزوة ذات السَّلاسِل. ثم ماذا حصل؟
    في يومٍ من الأيام كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جالسًا، فجاء إليه عمرو بن العاص فقال له: يا رسولَ الله، مَن أحبُّ الناس إليك؟
    وهو يتوقَّع من هذا التَّعامُل والخُلُق الحسن والكلام الذي يجده من النبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه أحبُّ إنسانٍ للنبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
    فقال النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام: «عَائِشَةُ».
    فقال: لستُ عن النِّساء أسألك، ولكن عن الرِّجال.
    قال: «أَبُوهَا».
    قال: ثم مَن؟
    قال: «عُمَر».
    قال: ثم مَن؟
    قال: «أَبُو عُبَيْدَة».
    قال: فسكتُّ مخافة ألا يُسميني.
    فهذا الرجل الدَّاهية أُسِرَ بحسن تعامُلٍ من النبي -صلى الله عليه وسلم.
    لهذا علينا نحن حملة الشَّريعة، والدُّعاة، وطلاب العلم أن نظهر أمام الناس ليس بالعلم فقط، بل بالعلم والأخلاق التي نكسب بها قلوبَهم، ثم بعد ذلك نستطيع أن نملك عقولَهم بالعلم الذي سنُوصله إليهم.
    لاحظوا معي أيضًا -أيُّها الإخوة- شيئًا آخر نحتاج إليه إضافةً لحُسن التَّعامُل، وهو أننا كطلاب علمٍ ودُعاةٍ وخطباء ننقل للناس العلم من خلال الكلام، فتجد الإنسان إمَّا أن يكون خطيبًا، أو شخصًا مثلًا في الفصول الدِّراسيَّة، أو إمامًا للمسجد يُريد أن يُلقِي كلمةً أو درسًا أو نحو ذلك؛ هذا قدرنا نحن كطلاب علمٍ.
    إذن نحن ننقل للناس كلامًا، كيف نُوصِل للناس هذا الكلام؟
    يمكن أن نُوصله بأسلوبٍ ونأتي بقلوبهم؛ لأننا نُريد أن نُحقِّق هدفًا هو: أن يعود الناسُ إلى دين الله.
    كيف نستطيع أن نُعبِّدهم بأسلوبٍ أفضل؟
    دعوني أحكي لكم تجربةً شخصيَّةً:
    بحكم أني إمام مسجدٍ كنتُ أُمارس أحيانًا جلد الناس، فإذا تأخَّروا عن صلاة الفجر أُمسِك الميكروفون في صلاة المغرب أو العشاء وأبدأ بجلدهم، وأُخبرهم أنَّ مَن ترك الصلاةَ فهو مُنافِقٌ، ولم يكن أحدٌ تفوته الصَّلاةُ في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا المنافقين -صلاة الفجر وصلاة العشاء- كما قال الصَّحابي.
    وبدأت بهذا الأسلوب وكنتُ في أول تعيني في المسجد، ثم بعد ذلك رأيتُ الناسَ يفِرُّون مني، فيبتعدون عن صلاة الفجر، وينقص العددُ.
    فاستخدمتُ أسلوبًا آخر استفدته من أحد الإخوة، وهو أنني استخدمتُ لغة التَّرغيب بدل لغة التَّرهيب، والتَّرغيب لا شكَّ أنَّه يأتي بأشدِّ الناس قساوةً، بل يأتي بالحيوانات، فالأسد تخاف منه جميعُ الحيوانات، ويهرب منه الرِّجال، حتى الرجل الذي يحمل سلاحًا لا يستطيع أن يقف أمام الأسد، وفجأةً إذا بهذا الأسد أمام الناس في السِّيرك يلعب أمامهم بالكرة، ويدخل بين دوائر مليئة بالنار واللَّهب وغير ذلك. لماذا؟ بالتَّرغيب، فهو لم يأتِ بالضَّرب، إنَّما جاء بقطعة لحمٍ كانت تُعطَى لهذا الأسد حتى أصبح مُهَذَّبًا جميلًا، ونمور تلعب أمام الناس.
    إذن -أيُّها الإخوة- نحن نستطيع أن نُحَوِّل الناسَ كما نستطيع أن نُحَوِّل الوحوش.
    إذن عندما نُريد أن نتحدث مع الناس نتحدث بأسلوبٍ نُفكِّر فيه قبل أن نُلقيه على الأشخاص، ولا تأخذنا العاطفة، ولهذا -إن شاء الله تعالى- نحن سنتحدث في إحدى اللَّيالي عن كيفية التَّفاعُل دون انفعالٍ، فنتفاعل لكن لا ننفعل؛ لأنَّ هذا الانفعال سيُفْقِد الكلمةَ صدقها، وسيُفْقِد أيضًا المشاعر التي في داخلك صدقَها، ومن ثَمَّ يهربُ الناسُ منَّا عندئذٍ.
    نحن أيضًا في هذا اللِّقاء -إن شاء الله- سنتعلم ما الوِعَاء الذي نستطيع أن ننقل به العلمَ للآخرين؟
    فعندما أُريد أن أتحدث عن التقوى لابُدَّ أن أسأل نفسي سؤالًا هو: أليس هناك إلا أسلوبًا واحدًا لنقل هذا الموضوع أم هناك أساليب أخرى؟ نجد أنَّ لدينا أساليب كثيرةً جدًّا نستطيع أن نكسب بها قلوبَ أولئك الأشخاص.
    لهذا لا شكَّ أننا فتحنا هذه الدُّنيا كلَّها بسبب أنَّه وُجِدَ أُناسٌ يُتقِنون فنَّ التَّعامُل، ومهارات التَّواصُل مع الآخرين، وكسب قلوب البشر، كما ذكرتُ لكم الآن مجموعةً كبيرةً من الناس كانوا في أول أمرهم كُفَّارًا، ثم بسبب تُجَّارٍ ودُعاةٍ صادقين ملكوا قلوبَ الناس.
    يا أيُّها الإخوة، أهل كلِّ هذه البلاد التي ذكرتها لكم قبل قليل لم يكونوا يُحسِنون العربية، فهم عَجَمٌ، ومع هذا تحوَّلوا إلى الإسلام بسبب رُؤيتهم لحُسن تعامُلٍ من قِبَل أولئك الأشخاص.
    لهذا نُريد أن نُقرر مفهومًا مُهمًّا جدًّا، وهو أنَّك تجد بعض الأشخاص يقولون: يا أخي، إنَّ الله خلقني هكذا عصبي، أنا رجلٌ غَضُوبٌ أغضب بسرعةٍ، ولذلك لا أستطيع أن أتحمَّل هذا الكلام.
    لا، لقد جاء في الأثر ويُروى حديثٌ مرفوعٌ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَالْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ»، أي أنَّ الإنسانَ لا يُولَد عالمًا، فلا يأتي في يومٍ وليلةٍ ويُصبح عالمًا، لكن في الحقيقة يتعلَّم.
    وإنَّما العلم كاجتماع النُّقَط، مثل السَّيل فإنَّه يأتي في أول الأمر مطرًا خفيفًا، ثم بعد ذلك يجتمع هذا السَّيلُ ويُغرِق مُدُنًا وبلدانًا.
    والعلم نفس الشَّيء؛ فإنَّه يأتي مسألةً ومسألةً، وصفحةً تُقْرَأ، وعشر صفحاتٍ، وكتاب، ونصف كتابٍ، وعشرة كتبٍ، ومئة كتابٍ، وإذا بهذا قد أصبح طالبَ علمٍ يستطيع أن يعيش في هذه المسائل.
    وكذلك الأخلاق، فإننا نصل إليها بالتَّدرُّج، فقد يكون الإنسانُ عصبيًّا لكن يُدَرِّب نفسَه، ويُرَوِّض نفسَه.
    ولذا فإنَّ من نِعَم الله -عز وجل- علينا قُدرتنا على التَّغيير، فالله يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11].
    دعوني أحكي لكم حكايةً ونحن في هذا الدرس، فهذا أول درسٍ فنُريد أن يكون لطيفًا، ثم بعد ذلك ندخل -إن شاء الله- في المسائل العلميَّة التي تحتاج منا إلى تأنٍّ وكتابةٍ، لكن خذوا مثلًا هذه القصَّة:
    يُحْكَى أنَّ اثنين من الشَّباب كانوا في قريةٍ من القُرى، وكانت عندهم مهنةٌ عجيبةٌ وهي سرقة الخِرَاف، فيُصبِح أهلُ القرية وإذا بكلِّ حوشٍ فيه مجموعةٌ كبيرةٌ من الغنم مسروقة، وكان الشَّابان يسرقان الخرافَ بدون صوتٍ، فبدأ أهلُ القرية بتتبُّع السَّارقين حتى وجدوهما في يومٍ من الأيام يسرقان الخِرَاف، فجاؤوا بهما في وسط القرية، واجتمع أهلُ القرية كلّهم، فقالوا لهما: تسرقون خرافنا؟ وبدؤوا بتقريرهم بالتُّهمة، وإذا بهم يعترفون، فقرر أهلُ القرية مُعاقبتهم، فجاؤوا بحديدةٍ وضعوا فيها نارًا، ثم كتبوا على جباههما (س. خ) أي سارق الخِرَاف.
    فأحد هذين الشَّابين خرج من القرية، وقال: هؤلاء لا يُقَدِّرون هذه المهارة العظيمة. وهي أنَّه يسرق بدون صوتٍ، فكون الإنسان يسرق ثلاثة أغنامٍ أو أربعة أو خمسة ويُخرِجها من حظيرة الغنم دون أن تُصدِر صوتًا فهذا إبداعٌ، لذلك خرج من القرية ولم يَعُد إليها.
    والشَّخص الآخر ماذا فعل؟
    قال: أمَّا أنا فسأُحَسِّن من نظرة الناس إليَّ، وسأتغير إلى الأفضل.
    وفعلًا عاش مع أهل القرية، وبدل أن كان سارقًا بدأ يتعامل معهم بالحُسنى ويتقرَّب للصِّغار والكبار ويُحسِن التَّعامُل معهم، ويُسلِّم على هذا، ويُهدِي لهذا، ويتصرَّف تصرُّفاتٍ كثيرةً جميلةً ورائعةً، حتى أصبح شخصًا كبيرًا.
    وفي يومٍ من الأيام دخل رجلٌ القرية، وإذا به يرى أنَّ هذا الإنسان إذا مرَّ بالصِّغار سلَّموا عليه، والكبار يحترمونه ويُقدِّرونه ويعودون إليه ويستشِيرونه، فمرَّ بهذا الرَّجل واستغرب من وضعه، ثم بعد ذلك وجدوا طاولةً فجلسوا عليها، قال: يا أخي، كلُّ شأنك عجيبٌ، وحبّ الناس لك، لكن أعجب شيءٍ هو هذا الـ(س. خ) التي في جبهتك.
    قال: لا أدري، أنا كبرتُ وهذا الـ (س. خ) في جبهتي. ما معناه يا إخوة؟ سارق الخِرَاف.
    فماذا قال الرجل؟
    طبعًا قام من عنده بعدما رأى هذا التَّصرُّف ورأى حبَّ الناس له، فخرج من عنده وقال: حقًّا أنتَ ساعٍ للخير.
    من سارق للخِرَاف إلى ساعٍ للخير.
    إذن نحن لدينا قُدرة على التَّحَسُّن، وأن تنقلب حالنا على الأقل من السَّيئ إلى الأحسن، فينبغي أن نُؤكِّد على هذه المسألة، فأن يقول شخصٌ: أنا عصبي، إذن ستبقى هذه العصبيَّة معي إلى قيام السَّاعة.
    فهذا ليس صحيحًا، فالأخلاق كما أنَّ منها شيئًا جبليًّا كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- للأحنف بن قيسٍ: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ». قال: أهما فيَّ؟ يعني أجبلني الله عليهما؟ قال: «نَعَمْ».
    لكن هناك نوعٌ من الأخلاق مُكْتَسَبَة.
    ولهذا فإنَّ الأخلاق منها ما هو جبلّيّ يضعه اللهُ في قلب الإنسان، ومنها ما هو مُكْتَسَب يكتسبه الإنسانُ من خلال التَّعامُل ونحو ذلك.
    تعالوا -أيُّها الإخوة- الآن ندخل في تعريف الأخلاق:
    عندما نريد أن نُعرِّف الخُلُق فمهارات الاتِّصال هي جزءٌ منه، فهي جزءٌ من حُسن الخُلُق، كيف نُعبِّر عن المعاني والمشاعر التي في داخلنا؟ ما القوالب التي نستخدمها؟ هذا جزءٌ كبيرٌ جدًّا من حُسن الأخلاق.
    لو سألنا الأحبَّة الكرام: ما المُراد بحُسن الخلق؟ فهل يستطيع أحد الإخوة أن يُجيب؟
    تفضَّل.
    {حُسن الخُلُق هو: التَّعامُل الجيد والحسن مع الطرف المُقابل، سواء كان أبَ زوجةٍ، أو ما شابه، ويكون فيه نوعٌ من التَّعامُل الرَّاقي -إن صحَّ التَّعبير}.
    هذا جيد، فبعض العلماء قالوا: إنَّ حُسن الخلق هو: بذل النَّدى، وكفُّ الأذى. لأنَّ الناس تحتاج منك إلى بذلٍ، وإلى كَفٍّ.
    وقبل أن ندخل فعلًا في التَّعريف الرَّئيس فإنَّني أريد أن أُركِّز أيضًا على هذا الأمر: فأغلب الناس -إن لم يكن كلّهم- يريدون أن يتعامل الآخرون معهم بالأخلاق الحسنة، بينما هم لا يُمارسونها. صحيح؟
    نأخذ أمثلةً: الأب يريد أبناءه كلَّهم مُطيعين مُؤدَّبين يستأذنون، بينما هو لا يفعل هذا الخُلُق معهم، فنحن ننتهك حُرمات أولادنا في غرفنا دون استئذانٍ! أين الدِّين؟!
    الدين -أيُّها الإخوة- لم يقل أنَّه يُفرِّق بين الأب وابنه، ولهذا ستأتينا -إن شاء الله- بعد قليلٍ صفات الأخلاق في الإسلام، وهي عشرة صفاتٍ للأخلاق في الإسلام، وهي أُسس في الأخلاق الإسلاميَّة.
    فنحن نريد أن يتعامل معنا الناسُ بالكلمة الطَّيبة، بينما نحن نتعامل معهم بالكلمة السَّيئة، ونريد أن لا يرفع إنسانٌ صوتَه علينا، بينما نحن نُمارِس رفع الصَّوت عليه.
    دعوني أحكي لكم أيضًا حكايةً في هذا اللِّقاء الذي قلنا فيه أنَّه مُقدِّمة نحتاج فيها إلى نوعٍ من إدخال السُّرور عليكم وعلى الإخوة الذين يُشاهدوننا الآن، والذين سيستمعون -إن شاء الله- بعد ذلك:
    في يومٍ من الأيام كان هناك رجلًا مُزارعًا ليس له في الدنيا إلا بقرة تُخرِج له حليبًا، ثم يستخرج من هذا الحليب سمنًا، ويبيعه في المدينة لتاجرٍ من التُّجَّار، وكلّ مرةٍ يأتي له بكراتٍ من السَّمن ويقول: هذه كرات يا سيدي من السَّمن أبيعها عليك، وكلّ كرةٍ ألف جرام. فيأخذها هذا التَّاجر ويبيعها على الناس.
    وفي يومٍ من الأيام كان التَّاجرُ جالسًا ليس عنده أيُّ أشغالٍ فقام ووزن الكُرات، فوزن الكرة الأولى وإذا بها تسعمئة جرام، والكيلو ألف جرام، ووزن الثانية فوجدها تسعمئة، ووزن الثالثة فوجدها تسعمئة، ووزن الرابعة فوجدها تسعمئة. فقال: يالله! كلّ هذه السّنين وهذا المُزارع يغُشّني، لأنتقمَنَّ من هذا الرجل.
    وفعلًا جاء الرجلُ المُزارع بعد فترةٍ وقال: سيدي هذه مجموعة من الكُرات أُريد أن أبيعها لك.
    قال: تبعها لنا، دعنا نزنها. فجاء بالكرة الأولى ووزنها وإذا بها تسعمئة جرام وليست ألفًا، ووزن الثانية فوجدها تسعمئة، والثالثة تسعمئة. وكلّ الكُرات تسعمئة جرام، فقال: تغشني هذه السّنين أيُّها السَّارق؟
    وبدأ هذا التَّاجر بسَبِّ هذا الرجل المزارع الفقير الذي ليس له في الدنيا إلا هذه الكُرات التي يبيعها في القرية، أو يبيعها في المدينة على هذا التَّاجر.
    فماذا حصل؟
    قال: سيدي، صبرًا، هل تذكر كيلو السُّكر الذي اشتريته منك قبل سنة؟
    قال: نعم.
    قال: أنا أزن كُرات السَّمن على كيلو السُّكر الذي أعطيتني.
    مَن السَّارق؟ في الحقيقة هو التَّاجر الأول. أليس كذلك؟
    لو عامل هذا الإنسان بالخُلُق الحسن والعدل لوجد عدلًا، ولكنَّه غشَّ هنا فغُشَّ هناك.
    نفس القضية، حياتنا مبنية على هذا الأمر، فالجزاء من جنس العمل، وقلوب الناس مثل مكينة الصَّراف التي يضع الناسُ فيها أموالَهم، فأنت تُودِع في هذه الماكينات مبلغًا كبيرًا تستطيع سحبه بعد ذلك، فإذا أودعنا في قلوب الناس كلمات جميلةً، وعبارات حانيةً، وهدوءًا في التَّعامل، ورِفْقًا، وعدم رفع صوتٍ أو غضب.
    تمر بالإنسان أحيانًا بعضُ الأشياء التي قد تُغضبه، لكن المؤمن رجَّاعٌ للحق.
    لهذا فإنَّ ذكر بعض الأشياء والتَّصرُّفات التي هي من التَّعامُل الرَّاقي ونحو ذلك جزءٌ من الأخلاق بلا شكٍّ.
    يقول بعضُ العلماء: بذل النَّدَى وكَفُّ الأذى.
    يمكن أن نُعَرِّف الأخلاق عمومًا فنقول: هي التَّحلِّي بالفضائل، والتَّخَلِّي عن الرَّذائل، على هدي الإسلام وشرعه القويم.
    إذن هي أن يتحلَّى الإنسانُ بالفضائل، وأن يتخلَّى عن الرَّذائل، لكن على هدي الإسلام وشرعه القويم، فهذا الضَّابط مُهمٌّ جدًّا يا إخواني، على هدي الإسلام وشرعه القويم. كيف؟ لماذا أصلًا ذكرنا هذا الضَّابط؟ لماذا قيل: على هدي الإسلام؟
    لأنَّ هناك مسألةٌ مُهمَّةٌ جدًّا وهي: ما منبع الأخلاق ومقياسها؟ فإذا أردنا أن نقيس أخلاقَ الناس نُحاكمهم إلى ماذا؟ هل نُحاكمهم إلى عقولهم؟ أم إلى ضمائرهم؟ أم إلى شرع الله -عز وجل؟
    هذه المسألة بحثها كُتَّاب الأخلاق، وتحدَّثوا عنها بعُمْقٍ. لماذا؟ لأنَّ هناك شيءٌ مطروحٌ من قديمٍ وبعد سقوط الكنيسة -كما سيأتينا بعد قليل- في العالم الغربي، فأرادوا أن يستبدلوا شيئًا يجعلوه ضابطًا لأخلاق الناس بدلًا عن الكنيسة بعد سقوطها.
    تعالوا ننظر في أقوال العلماء أو المدارس في الدنيا في منبع الأخلاق ومقياسها:
    جعلوا منبع الأخلاق أو المقياس الذي يمكن أن تُقاس عليه أخلاق الناس لنرى هل هذا الخُلُق حسنٌ أو غير حسنٍ خمسة أمورٍ:
    أولها: قالوا: لكي نعرف هل هذا الخُلُق حسنٌ أو غير حسنٍ ننظر إلى أعراف المجتمع، فإن كان مُوافِقًا لأعراف المجتمع وما اتَّفق عليه الناسُ فبها ونِعْمَت، وإن كان يُخالِف أعرافَ المجتمع فنقول هنا: إنَّه لا يكون خُلُقًا حسنًا.
    طيب، ما المُراد بأعراف المجتمع؟
    المُراد بأعراف المجتمع: هي مجموعة القواعد التي درج الناسُ عليها جيلًا بعد جيلٍ، فأنت تُلاحِظ أحيانًا في بعض البلدان -مثل إفريقيا أو غابات الأمازون ونحو ذلك- أنَّ هناك عندهم نظامٌ تعارفوا عليه في هذه القبيلة أو المنطقة، دعونا نذكر مثالًا:
    أهل بورنو –وهي منطقة من المناطق الموجودة على الكرة الأرضية- لا يمكن أن يتزوَّج الشَّخصُ عندهم –فهذا عُرفٌ عندهم- إلا أن يأتي بجُمجُمةٍ لفتاته -جُمجُمة إنسانٍ- من أين يأتي بجمجمةٍ؟!
    هناك أناسٌ أيضًا آخرون -وهم أهل سيراليون- إذا أرادوا انتخاب ملكٍ ماذا يفعلون به؟ يأتون به في ساحةٍ كبيرةٍ، ثم يضربونه كلّهم، فإن تحمَّل أصبح ملكًا، وإن لم يتحمَّل وسقط لا يجعلونه ملكًا!
    مَن يتحمَّل ضرب ألف شخصٍ أو ألفين يجتمعون على شخصٍ ثم يضربونه؟!
    هذا عُرْفٌ الآن عندهم، هل نقول للعالم كلِّه: لابُدَّ أن يكون هذا العُرْفُ سائدًا؟
    كان في الجاهلية مثلًا عُرْفُ وأد البنات، وشرب الخُمُور، والرِّبا، وكان عُرْفًا عندهم، ولهذا لا يمكن أن نقيس الناسَ على حسب الأعراف. لماذا؟
    لأنَّ الأعراف تختلف باختلاف الزمان والمكان، فأعراف الناس الآن في قبيلةٍ إفريقيَّةٍ بعيدةٍ عنا، أو في غابات الأمازون عند أولئك الناس الذين ليس لديهم حتى ملابس تسترهم في الغابات الإفريقية المُكتشفة في غابات الأمازون، فهؤلاء لهم أعرافٌ خاصَّة بهم، هل نقول: لابُدَّ أن تُعمم على الناس كلِّهم؟
    لا شكَّ أنَّ هذا ليس بصحيحٍ، والنَّاس تختلف، والبشر كذلك يختلفون، بل هذا يُؤدِّي إلى ماذا؟ يُؤدِّي إلى الجُمُود وعدم التَّقدُّم، فالناس تتطور ولا تبقى على أخلاق وأعراف أُممٍ سابقةٍ، ولذلك يقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170]، فالله -عز وجل- عاب على كفَّار قريش وعلى الجاهلية أنَّ عُرْف الشِّرك الذي تعارفوا عليه سنين عددًا أصبح هو الأصل عندهم في حياتهم، ويُريدون أن يُحاكِموا الناسَ إلى هذا ولا يرجعون إلى شرع الله.
    المنبع الثاني، أو المقياس الثاني: قالوا: لكي ننظر إلى أخلاق الناس نُحاكمهم إلى الضَّمير الإنساني.
    ما معنى الضَّمير؟
    قالوا: هو قوَّة خفيَّة تنبع من نفس الإنسان تُوضِّح له طريق الخير، وتُبين له أيضًا سبيل الشَّر وتُحذِّره منه، فهو شيءٌ داخل الإنسان.
    طيب، نسأل هؤلاء الذين يقولون الضمير سؤالًا فنقول: نحتكم إلى ضمير مَن؟
    قد يكون ضمير بعض الناس ميتًا فيُصبح عنده القتل مثل شرب الماء، بينما ضمير أشخاصٍ آخرين حيٌّ ورقيقٌ. فماذا يحصل؟
    تجد أنَّ هناك تناقضٌ كبيرٌ جدًّا في مسألة الضَّمير؛ لأنَّه لا يمكن أن يكون الضَّميرُ مُوحَّدًا عند هؤلاء الخلق.
    ثم هناك شيءٌ آخر: إنَّ الضمير شيءٌ مُبْهَمٌ في داخل النَّفس، ليس له قاعدة شرعيَّة، أو تجربة وخبرة يمكن أن يتحاكم الناسُ إليها، فهذه الأشياء المُبْهَمَة لا يمكن إعادة الناس إليها.
    ثم إننا في قضية الضَّمير نحتاج إلى أن ننتبه لها -يا إخوة- فهي فكرة غربيَّة مولِدًا ومنشأً وتربيةً وكل شيءٍ، فإنَّه لما سقطت الكنيسةُ أراد الغربيُّون أن يجعلوا بديلًا يرجع الناسُ إليه في أخلاقهم وتعامُلاتهم اليومية، فقالوا: الضَّمير الإنساني.
    ولا شكَّ أنَّ هذا لا يمكن الرُّجوع إليه؛ لأنَّ ضمير ذي الخمسين سنة غير ضمير ذي الثَّامنة عشرة، أو العشرين، وضمير صاحب المئة سنة الذي لديه حكمة وتجربة وحنكة في الحياة لا يمكن أن يكون مثل هذا الشَّخص؛ لذلك لا يمكن أن تُحاكم إليه الصَّغير ولا الكبير.
    وبالمناسبة، هذا جاء خاطرًا في ذهني الآن على قضية كبر السِّن، فدائمًا الكبير لديه من الخبرة والمعرفة ما لا يوجد عند الصِّغار، لهذا أعجبني أحد الأدباء المشهورين في مصر، فقد ذهب مرةً إلى السِّيرك وكان معه أحد طلابه في الجامعة، فكان الجميع في السِّيرك يضحكون، والأستاذ هذا الكبير في السِّن لا يضحك، ساكت، فيقول له طالبه: لماذا لا تضحك يا سيدي؟ ألا ترى كيف تفعل الفيلة؟
    تُرَى ماذا قال الرجل؟
    قال: خبرة السّنين يا بني.
    خبرة السنين، هذا صحيحٌ، فالإنسان كلَّما كبر كلَّما زاده الله -عز وجل- حنكةً وتجربةً وخبرةً ورزانةً وهدوءًا، ولذلك فإنَّ الشرع لا يجعل الأنبياء يُبْعَثُون إلا على رأس أربعين سنة. لماذا؟ لأنَّه سن النُّضج، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: 15]، قمة العقل والرَّزانة.
    ولهذا ستُلاحظون يومًا ما يا شباب -وحتى الإخوة الذين يسمعوننا الآن والأخوات- أنَّ الإنسان في سنِّ الأربعين تكون لديه من القواعد الاجتماعيَّة والرَّزانة ما لا يوجد عند الشَّخص الصَّغير، ويُعبِّر عن الأمور بأقلّ ما يمكن التَّعبير به، بخلاف الشَّخص الآخر.
    هناك مقياس ثالث، وهو: اللَّذة والمنفعة:
    إذن المقياس الأول هو أعراف المجتمع، والثاني: الضمير الإنساني، والثالث: اللَّذة والمنفعة.
    قالوا: ما يُحقق لك المنفعة الماديَّة يكون خيرًا، وما يُحقق لك ألمًا وضررًا ماديًّا يكون شرًّا.
    وهذا غير صحيحٍ، فهذا المذهب -أيُّها الإخوة- لا يعتني بالأشياء غير الماديَّة، فمثلًا الإيثار والكرم والتَّعاطُف، هذه الأخلاق لا يعترف بها هذا المذهب. لماذا؟ لأنَّك عندما تُكرِم إنسانًا وتدفع له مبلغًا كبيرًا من مالك، في الحقيقة أنت تتضرر ماديًّا؛ لأنَّ المال الذي لديك ينقُص، فعلى هذا المذهب يُقال: لا تُكرِم أحدًا.
    وابن القيم -رحمه الله- له عبارة جميلة، فيقول: أصول الأخلاق أربعة إذا اجتمعت في الإنسان تأتي بقيَّةُ الأخلاق طواعيةً. مَن يعرفها؟ ما أصول الأخلاق؟
    تفضَّل يا شيخ.
    {الصدق، والأمانة}.
    يقول ابنُ القيم: "الكرم، والصَّبر، والصِّدق، والعِفَّة"، إذا توفَّرت في الإنسان جاءت بقيَّةُ الأخلاق طواعيةً.
    إذن: اللَّذة والمنفعة لا يمكن أن تكون أبدًا مقياسًا لأخلاق الناس؛ لأنَّ هناك أُناسٌ عُظماء ضحُّوا بأنفسهم من أجل شعوبهم، ولم تتحقق لهم أيُّ فائدةٍ ماديَّةٍ في الدنيا.
    أيضًا هناك مذهبٌ رابعٌ جعلوا مقياسه العقل البشري: قالوا: ما يراه العقلُ خيرًا فهو خيرٌ، وما يراه العقلُ شرًّا فهو شرٌّ.
    ونسألهم السؤال التالي: إذا كان العقلُ هو مقياس الأخلاق، فإلى عقل مَن نحتكم؟ هل عقل الأب أو الجد أو جدّ الجد؟ أو إلى عقل الشَّاب؟ أو إلى عقل الفتاة؟ أو إلى عقل المرأة الكبيرة في السّن؟ أو إلى عقل كبير القبيلة؟ أو إلى السيد؟
    لا أحد يعرف!
    لذلك كان المذهبُ الخامس هو الصَّحيح.
    إذن كم ذكرنا من مذاهب؟
    أربعة:
    - أعراف المجتمع. - والضَّمير الإنساني.
    - واللَّذة والمنفعة. - والعقل البشري.
    - أمَّا الخامس فهو: الإسلام:
    وهذا هو المنبع الصَّحيح، ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى- عنا: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، فالله -سبحانه وتعالى- يعرف النَّفس البشريَّة، ويعرف أسرارها، ويعرف عيوبها، ويعرف ما فيها من نقاط قوَّةٍ ونقاط ضعفٍ كذلك، ولذلك عمل سياجًا من الأخلاق يتحاكم إليه الناسُ كلّهم.
    ما الذي جعل الناس يُسْلِمُون على مرِّ العصور؟
    هي هذه الأخلاق الإسلاميَّة التي لا يمكن أن يختلف فيها اثنان، فلا يمكن أن يختلف اثنان في الأخلاق الإسلاميَّة التي جاء بها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأصول بعض هذه الأخلاق موجودة في الجاهلية.
    ولهذا تقول السيدة عائشة: "إنَّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- بُعِثَ وفي العرب بضع وستون خصلة من خِصَال الخير، زادها الإسلامُ قوة". فجاء النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وزادها، ولهذا جاء في الحديث: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
    دعونا الآن نقف وقفةً يسيرةً في الحديث عن الآتي:
    في واقعنا اليوم عندما تجلس في أيِّ مجتمعٍ تجد أنَّ الناسَ يشكون من ضعف الأخلاق، كسُوء تعامل الزوج مع زوجته والعكس، وسُوء تعامل الأب مع أولاده والعكس، وسوء تعامل الرَّئيس مع مرؤوسيه والعكس أيضًا، وتعامل الأهل مع الخادم أو الخادمة، وتعامل الناس بعضهم مع بعضٍ.
    دعوني أضرب لكم مثالًا:
    تصور لو أنَّ إنسانًا الآن عند إشارة المرور، والإشارة مُضيئة بالضَّوء الأحمر، ثم أضاءت بالضَّوء الأخضر، ثم هو واقفٌ في مكانه لم يتحرك، والناس من ورائه ماذا يفعلون؟ هل يمكن لإنسانٍ أن يصبر وراءه؟ مُستحيل.
    فالناس الآن خاصَّةً مع الأرقام التي تأتي على إشارات المرور لا يصبرون، فإذا بقيت ثلاثة أرقام أو اثنان يُسابقون حتى يطير الإنسانُ ويخرج من دائرة الإضاءة الحمراء.
    أُعطيكم موقفًا حدث لي في إحدى البلدان: كنتُ عند إشارة المرور، وكنا نسأل شخصًا بجوارنا عن عنوانٍ ما، فبدأ يصف لنا وكانت الإشارة حمراء، ثم اخضرَّت الإشارة ونحن في مكاننا وهو يصف لنا، ولم نتحرك حتى انتهت وأصبحت حمراء، والناس من ورائنا لم نسمع بوقًا واحدًا من الخلف أو اعتراضًا.
    بينما في بعض البلاد الإسلاميَّة توقَّع أي شيءٍ يمكن أن يأتيك، هذا بخلاف السَّب والشَّتم، وهذه الأشياء مفروغٌ منها، لكن هل سيأتي حجر؟ أو تأتي قارُورة عصير على رأسك أو على السَّيارة، لا أحد يدري. لماذا؟ لأن عندنا أزمة أخلاقٍ عالية جدًّا.
    ولهذا نحتاج إلى أن نُسلِّط الضَّوء على الأخلاق؛ لأنَّ مهارات التَّواصُل الاجتماعي التي نتحدث عنها والعلاقات الاجتماعيَّة لماذا ضَعُفت في الناس؟ بسبب أنَّ هناك أزمةُ أخلاقٍ على مستوى العالم العربي، والعالم الإسلامي، وعلى مستوانا الشَّخصي، ونحن نُريد أن نبدأ بدوائر ضيِّقة ثم نتوسَّع يا إخوان.
    طيب، لو سألتُ الإخوة الكرام: ما الأسباب التي أدَّت إلى ضعف العلاقة الأخلاقيَّة؟ أو ضعف العلاقات الاجتماعيَّة بين الناس؟ أو ضعف التَّواصُل؟ أو ضعف حُسن الخُلُق بين الناس؟
    دعوني أسمع منكم يا شباب.
    لماذا ضعف الاعتناءُ بالجانب الأخلاقي؟
    {الابتعاد عن هدي النبي -عليه الصَّلاة والسلام}.
    الابتعاد عن هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- جميل.
    إذن النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- لا شكَّ أنَّه أرسى الكثير من الأخلاق؛ بل أرسى الأخلاقَ كلَّها، وكان -عليه الصَّلاة والسَّلام- قُرآنًا يسير في الأرض، أي أنَّه يتخلَّق بأخلاق القرآن، ولهذا لما سُئِلَت عائشةُ عن خُلُق النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان خُلُقُه القرآن".
    فكُفَّار قريشٍ في الصَّباح يقولون له: ساحر، كاهن، كذَّاب، شاعر. وفي المساء يأتون بأموالهم ويضعونها عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا قمة التَّناقُض!
    ففي الصباح يسُبُّونه، ثم يأتون بأموالهم إليه في المساء؛ لأنَّهم لا يجدون أحدًا يمكن أن يستأمنوه على هذه الأموال إلا النبي -صلى الله عليه وسلم.
    طيب، كلامكم في الصباح! سبّكم للنبي -صلى الله عليه وسلم!
    هم يعرفون في دواخلهم أنَّه نبيٌّ صادقٌ -عليه الصلاة والسلام.
    إذن: القضية الأولى: ابتعاد الناس عن الهدي النَّبوي، نضرب مثالًا في هذه القضية: كنتُ أقول دائمًا في أكثر من حلقةٍ أنَّ كلَّ إنسانٍ عنده أسنان، فهل أسنانكم عورة؟
    وأنتم -أيُّها الإخوة والأخوات في كلِّ مكانٍ تسمعونني الآن- هل أسنانكم عورة؟
    طبعًا لا، ليست بعورةٍ.
    لكن إذا دخل الإخوةُ إلى بيوتهم فإنَّهم يُغلِقون الأبواب بعد دخولهم مباشرةً، فأسناننا ليست عورةً، نحتاج إلى ابتسامةٍ.
    لماذا ذكرت هذا المثال؟
    تقول عائشةُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بسَّامًا ضحَّاكًا". أي مع أهله في داخل البيت: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ».
    إذن هذه ممارسة يوميَّة كان يفعلها النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فهل نحن نُطبِّقها؟ هل نحن نتعامل بها مع الناس؟
    النبي -عليه الصَّلاة والسلام- يقول: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»، وهناك أُناس ليس لديهم أموال كي يبذُلوا، فيمكن أن يبني بعضُ الناس مسجدًا، ويمكن أن يُعمِّروا مدرسةً، ويمكن أن يكفُلوا أيتامًا، ويمكن أن يطبعوا مصاحفَ أو غيرها، لكن أين الكلمة الطَّيبة؟!
    ولهذا دائمًا أقول للإخوة والأخوات: الكلمة الطَّيبة عطر اللِّسان، فأنت عندما تذهب لتشتري عطرًا تقول للبائع: أعطني عطرًا يدوم ورائحته نفَّاذة.
    فالكلمة الطَّيبة هي التي تجتمع فيها هاتان الخصلتان، فتدوم في قلبك، ورائحتها جميلة فوَّاحَة رائعة تبقى في نفسك فتشع عليها، فبمجرد أن يراك أحدٌ يعرف أنَّك أنت صاحب تلك الكلمة الجميلة.
    دعونا نعمل اختبارًا على أنفسنا: في الأربعة وعشرين ساعة السَّابقة كم كلمة طيبة نطقنا بها لإخواننا وأهلينا وأقاربنا؟
    بل خُذ شيئًا آخر: كم كلمة طيبة وجَّهناها لأنفسنا نحن؟ نحن نجلد أنفسَنا من الصَّباح للمساء، كم نحمل من السُّموم في دواخلنا؟ هذه السُّموم ماذا تقول؟ تقول أننا فاشلين لا نستطيع أن نُقَدِّم شيئًا، ونحن غير ناجحين، ولا يمكن أن ننجح في الحياة.
    حتى متى سنُخاطِب أنفسَنا بهذا الخطاب؟!
    أنفسنا بحاجةٍ إلى كلمةٍ طيبةٍ، وبحاجةٍ إلى حُسن تعامُلٍ.
    قبل أن نذهب للناس لابُدَّ أن تكون نفوسُنا مُستَقِرَّةً هادئةً مُرتاحةً، حسنة الظَّن بالله -سبحانه وتعالى- ثم نتعامل مع الآخرين.
    كم كلمة طيبة نستخدمها في تويتر، أو في الفيس بوك، أو في التَّعليق على بعض المقالات والأخبار؟
    فإذا قرأت بعض المقالات أو الأخبار في بعض المواقع فانظر للتَّعليقات الموجودة في الأسفل كي تعرف أنَّ الناس فقدوا جانبًا كبيرًا من الأخلاق الشَّرعية، فلا تجد إلا السَّبَّ والشَّتم واللَّعن للكاتب والجدّ السَّادس عشر له أيضًا، والسابع عشر، والثامن عشر. لماذا؟! أين الأخلاق الإسلاميَّة عند هؤلاء الأشخاص؟!
    إذن أول قضيَّةٍ ما تفضَّلتم به وهو: ضعف الارتباط بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم.
    أمَّا الأمر الثاني فدعوني أقوله، ثم الثالث آخذه منكم -إن شاء الله- فالأمر الثاني هو: سلبية المُؤسَّسات الفاعلة في المجتمع:
    الآن لدينا كم مُؤسَّسة في المجتمع تعمل على الناس؟
    ثلاث، هذه المُؤسَّسات الكبيرة جدًّا هي: المدرسة والإعلام والأسرة. هذه مُؤسَّسات تصنع أجيالًا، وتبني أخلاقًا وقِيَمًا.
    هذه المُؤسَّسات في تناقُضٍ: فأنت تبني في البيت والإعلام يهدم! وأنت تصنع خُلُقًا في المنزل، ويذهب الطفلُ إلى المدرسة فينهدم هذا الخُلُق كلّه بالكامل!
    الإعلام -أيُّها الإخوة- يُقدِّم صورةً مُشَوَّهةً للأخلاق الإسلاميَّة، فأنت تُحدِّث ولدك عن العِفَّة مثلًا، ثم تجد في الإعلام أو في مقاطع اليُوتيوب أو غيرها شيئًا يندى له الجبين، كالفيديو كليب، ماذا يفعلون في الفيديو كليب؟ يُسَلِّطون هذه الكاميرات على مفاتن الفتاة، وعلى مفاتن هذه المُغنية.
    انظر لمقاطع اليوتيوب، انظر للأفلام والمُسلسلات وغيرها التي تهدم الأخلاقَ تمامًا، فأنت تتحدث عن العِفَّة وهم يتحدَّثون عن الخيانة الزَّوجية، ويرون أنَّ المرأة التي تخون وتتفنَّن في هذه الخيانة وتستطيع أن تُعاشِر عشرات الأشخاص دون علم زوجها هي البطلة.
    فالبطل مَن هو؟ الكذَّاب، المُجْرِم، السَّارق الذي يضرب الناس، والذي يستطيع أن يتحايل على كثيرٍ من الخلق ويأخذ أموالَهم.
    هل هذه هي أخلاق الإسلام؟
    لا شكَّ أنَّ الإعلام قدَّم صورةً نمطيَّةً سيئةً عن كثيرٍ من الأخلاق، ولهذا دائمًا نحن نقول: افهم ولا تَذُوب، افهم الناسَ، واستَفِد منهم، لكن لا تذوب في أخلاقهم، لا تحمل أشياء هي ليست لك، ولا تليق بك أيضًا كمسلمٍ، وما صُنِعَ في الصين لا يصلح لشباب المسلمين، فلا تصلح بالضَّرورة هذه الأخلاق لبلادنا، نعم هناك قدرٌ مُشتَرَكٌ قد يكون في بعض الأخلاق، لكن كثيرًا من الأخلاق لا تتناسب معنا أبدًا.
    إذن: لدينا أمران:
    - البُعْد عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم.
    - والأمر الثاني: سلبية المؤسسات الفاعلة في المجتمع: المدارس، والإعلام، والمساجد أيضًا تُقدِّم طرحًا تستطيع أن تكسب به قلوبَ الخلق إضافةً إلى الأسرة.
    أعطونا أيضًا شيئًا آخر يا شباب، وهو الأمر الثالث. تفضَّل.
    {التَّعلُّق بالدنيا}.
    التَّعلُّق بالدنيا:
    فإذا تعلَّق الناسُ بالدنيا وبحثوا عن المال والمال فقط، إذن فالغاية تُبرر الوسيلة، فيمكن للإنسان أن يكذب، ويمكن للإنسان أن يفعل أيَّ شيءٍ، فيتنازل عن كثيرٍ من أخلاقيَّاته، المُهم أن يُصبح صاحبَ مالٍ.
    خذوا مثالًا: شخصٌ مُسلمٌ تَقِيٌّ صلى الفجر في يومٍ ما، ثم تعرض إلى عملية رشوةٍ، هنا ستظهر الأخلاق، هل هذه الصَّلاة تُؤثِّر فعلًا فيه وتجعله مُسلمًا حقًّا أم هو ممن يقولون: ما دامت الرِّشوةُ قد جاءت مرةً واحدةً فخذها ثم تُبْ إلى الله؟!
    لكن قد تكون هذه المرة هي القاضية التي تُفْضَح بها في الدنيا، والتي أيضًا تجد عذابك عليها في الآخرة.
    لهذا لا يمكن أن تصلح الدنيا إلا بصلاح الدين، ولهذا كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي».
    وإن شاء الله في يومٍ من الأيام سنتحدَّث عن مسألةٍ مُهمَّةٍ جدًّا، ولعلي أُشير إليها إشارةً سريعةً، وهي:
    أي مجتمعٍ مسلمٍ، وأي دولةٍ مسلمةٍ، وأي إنسانٍ مُسلمٍ، وأي أسرةٍ مُسلمةٍ لابُدَّ أن يضبطوا خمسةَ أمورٍ في حياتهم، فإذا ضُبِطَت هذه الخمسة أشياء يستطيعوا أن يعيشوا في هذه الدنيا بتوافُقٍ مع مبادئهم وقِيَمِهم وأخلاقهم -بإذن الله تعالى.
    ما هذه الخمسة؟
    أمَّا أولها -أيُّها الإخوة- فهو: مَن أنا؟
    الثاني: أُشْبِه مَن أنا؟
    الثالث: مَن أتبع؟
    الرابع: ماذا أفعل؟
    الخامس: ما قيمة ما أفعله؟
    نأخذها لكن بطريقةٍ أخرى:
    "مَن أنا؟" تحديد الهُويَّة.
    "أُشْبِه مَن أنا؟" تحديد الانتماء.
    "مَن أتبع؟" تحديد المرجعيَّة.
    "ماذا أفعل؟" تحديد الأهداف المرحليَّة.
    "ما قيمة ما أفعله؟" تحديد الهدف الاستراتيجي.
    نُعِيد الخمسة لكن سأسمعها منكم:
    أول شيءٍ: "مَن أنا؟" ما المُراد بها؟
    {تحديد الهُويَّة}.
    تحديد الهُويَّة. جميل، إذن أي أمَّةٍ لابُدَّ أن تكون لها هُويَّة، ولذلك نحن لا نذوب في الآخرين -كما ذكرنا قبل قليلٍ.
    كيف نُشَكِّل الهُويَّة؟
    بثلاثة أشياء، فإذا أردت أن تُشَكِّل هُويَّة مجتمعٍ أو أُمَّةٍ فلابُدَّ أن تُشَكِّلها بثلاثة أمورٍ:
    - عقيدة.
    - ولغة.
    - وتاريخ.
    الآن أليس ديننا عالميًّا؟
    يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً﴾ [الأنبياء: 107]، وقال أيضًا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾ [سبأ: 28]، ولكي يفهموا الدِّين لابُدَّ من إيصال اللُّغة العربية إليهم حتى يستطيعوا استيعاب هذه النُّصوص الشَّرعية الموجودة في الكتاب والسُّنة. أليس كذلك؟
    الثاني: أُشْبِه مَن أنا؟ تحديد ماذا؟
    {تحديد الانتماء}.
    تحديد الانتماء، أحسنتَ.
    فلابُدَّ أن يكون للإنسان انتماءٌ صغير، وانتماءٌ كبير، وانتماء للأُمَّة أيضًا، لذلك من الخطأ الذي يُمارَس الآن محاولة بتر الناس عن أُمَّتهم، كأن يكون في بلدٍ غير بلدك قتلٌ، فيقولون لك: ما دخلك؟ المهم أنَّك تجلس في بيتك، فعش حياتك مع أسرتك.
    وهذا غير صحيح، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وكما جاء في الحديث: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ».
    الثالث: "مَن أتبع؟" تحديد المرجعيَّة، فأُمَّة بدون مرجعيَّة تعيش في هواء، والله -عز وجل- يقول: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: 71]، إذن لابُدَّ للإنسان من مرجعيَّة، وما المرجعيَّة؟
    يقول الغربيُّون مثلًا: إنَّ المرجعيَّة في الأخلاق هي الضَّمير الإنساني، والعقل، واللَّذة، والمنفعة، وأعراف المجتمع.
    ونحن نقول: لا، إنَّ المرجعيَّة دائمًا... ما هي؟
    {الإسلام}.
    الكتاب والسُّنة، لكن في قضايا الأخلاق لابُدَّ لنا من مرجعيَّتين، وهذه مسألة مهمَّةٌ جدًّا لابُدَّ للإخوة والأخوات أن ينتبهوا لها.
    أمَّا الأولى: فهي مرجعيَّة معصُومة، فلابُدَّ من مرجعيَّة معصُومة.
    وأمَّا الثانية: فمرجعيَّة غير معصُومة.
    إذا كان عندي معصومٌ فما الحاجة إلى غير المعصوم؟
    نأخذ مثالًا: الآن أب مثلًا في المنزل، عنده مجموعةٌ من الأبناء، لكن يُدَخِّن، فيأتي الأبناءُ ويقولون: أنت تُدَخِّن يا أبي، ونحن سنُدَخِّن مثلك. فيقول لهم: حرام.
    فيقولون له: إذن لماذا تُدَخِّن إذا كان حرامًا؟ فماذا يفعل؟
    يقول لهم: يا أبنائي، أنا ابتُلِيت، وأنا مرجعيَّة غير معصومةٍ، لكن نرجع للمرجعيَّة المعصُومة التي هي لي ولكم.
    لهذا ربطنا الله -عز وجل- دائمًا بالمرجعيَّة المعصُومة، فإذا حصل خللٌ من الناس نرجع إلى الأصل الذي يمنعنا من الانحراف أو الانجراف في أيِّ شيءٍ.
    ولذلك فالمرجعيَّة غير المعصُومة فائدتها في أمرٍ مُهمٍّ جدًّا وهو القُدوة، فالمرجعيَّة غير المعصُومة تُمَثِّل الصُّورة الحقيقيَّة للإسلام على حسب قدرها وجُهدها.
    الأمر الرابع: ماذا أفعل. تحديد الهدف المرحلي.
    طيب، لو سألتكم يا شباب: ما أهداف الإنسان في الدنيا؟
    تفضَّل.
    {طاعة الله -عز وجل- بفعل الأوامر، واجتناب النَّواهي، وطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم}.
    لا، هي الحقيقة ثلاثة أهداف، فأهداف المؤمن في الدنيا ثلاثة أهداف، هي:
    - إصلاح الدين. - إصلاح الدنيا. - إصلاح الآخرة.
    قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي». هذه مسألةٌ مُهمَّةٌ جدًّا.
    لهذا فإنَّ الإسلام اليوم لا شكَّ أنَّه قويٌّ في ذاته، ولكن لم يجد حملةً له؛ لأننا أخطأنا في مسألةٍ مُهمَّةٍ جدًّا أرجو أن تنتبهوا لها كثيرًا يا شباب: فالإسلام له خطَّان مُتوازِيان: جانب عبادي، وجانب حضاري.
    نحن الآن تجد عندنا جانبًا عباديًّا، فأُناس كثيرون يُصلُّون، لكن ليس عندنا جانب حضاري، وهو عمارة الأرض، والممارسات اليوميَّة، والأخلاق، أي أن تكون لدينا ثقافة مجتمعيَّة يوميَّة تُمارَس، فهذا ليس موجودًا للأسف الشَّديد.
    في بعض البلدان التي أعطاها اللهُ -عز وجل- الدنيا تجد عندهم ثقافةً مُجتمعيَّة يوميَّة، كثقافة النَّظافة، والنِّظام، وإدارة الوقت، واحترام النِّظام، وتطبيق النِّظام، وأشياء كثيرة جدًّا في حياتهم هم فيها قمَّة، كما قال الله -عز وجل- عنهم: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: 7].
    لهذا نحن نحتاج إلى أن ننتبه إلى هذين الأمرين: الجانب العبادي، والجانب الحضاري، فيجب علينا كما نحرص على عبادتنا أن نحرص على ممارستنا اليوميَّة وأخلاقيَّاتنا في التَّعامل مع الآخرين.
    ولهذا فإننا -إن شاء الله- في هذه الدُّروس سنقف وقفات كثيرةً في مسألة العلاقات الاجتماعيَّة، فسنتحدث عن أهميَّتها، وكيف يمكن أن نزرعها، ومهارات التَّواصُل مع الزَّوجة، ومع الوالدين، ومع الخدم، ومع الأبناء، وكلّ هذه الأمور -إن شاء الله- سيكون لها لقاءات قادمة -بإذن الله تعالى.
    وقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ»، ونحن نقول في ختام هذه الحلقة: اللَّهُمَّ اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيِّئها، لا يصرف عنَّا سيِّئها إلا أنت.
    سعدتُ بكم أيُّها الإخوة في هذا اللِّقاء، وكذلك أنتم أيُّها الإخوة والأخوات خلف الشَّاشة، أسأل الله -عز وجل- أن يُوفِّقني وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، وعلى أمل اللِّقاء بكم -إن شاء الله تعالى- في لقاءاتٍ أخرى مُتجدِّدةٍ حول هذا الموضوع -مهارات التَّواصُل في العلاقات الاجتماعية- شكر الله للجميع حُسن استماعهم وإنصاتهم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمَّدٍ.

  • #2
    رد: مهارات التواصل الاجتماعي - د/ علي الشبيلي



    مهارات التَّواصُل الاجتماعي
    د. علي الشّبيلي
    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
    أمَّا بعد، أيُّها الإخوة والأخوات:
    سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم باليُمْن والمَسَرَّات.
    نحن اليوم في اللِّقاء الثاني من هذا الموضوع المُهم في حياتنا، الذي يتحدَّث عن فنون التَّعامُل ومهارات التَّواصُل، وبناء العلاقات الاجتماعيَّة بين الناس على اختلاف مَشَارِبِهم وألوانهم وأنواعهم، إلى غير ذلك.
    كنَّا قد تحدَّثنا في الدرس السَّابق عن ماهيَّة الأخلاق، وبيَّنَّا منبعَ الأخلاق ومقياسها الذي يمكن أن يرجع إليه الناسُ في تمييز الخُلُق الحَسَن من غيره.
    وذكرنا خمسة أشياء، هي:
    - أعراف المجتمع.
    - الضَّمير الإنساني.
    - اللَّذة والمنفعة.
    - العقل البشري.
    - ثم ختمنا بالمقياس الحقيقي الذي جعله اللهُ -عز وجل- في هذه الشَّريعة الخاتمة، ألا وهو: الإسلام.
    ومن ثَمَّ فإنَّ مُنطلقنا في مثل هذه اللِّقاءات هو الإسلام الذي هو الكتاب والسُّنة.
    فالكتاب هو الذي أصَّل أصول الأخلاق، إضافةً إلى ممارسة النبي -صلى الله عليه وسلم- العمليَّة، فعندما سُئِلَت عائشةُ –رضي الله عنها- عنه قالت: "كان خُلُقُه القرآن".
    فكان -عليه الصَّلاة والسَّلام- فعلًا قُرآنًا يمشي على الأرض، أي يتمثَّل أخلاقَ القرآن في حياته اليوميَّة، سواء في داخل بيته أو في خارجه.
    اليوم -بإذن الله تعالى- سنتحدَّث عن هذا الموضوع الكبير، وهو موضوع الأخلاق:
    فلماذا الاعتناء بقضايا الأخلاق؟ وما الدَّاعي إلى الحديث عن هذا الجانب؟ وهل هناك أسباب مُقْنِعَة تجعل الإنسانَ يعتني بهذا الجانب أم لا؟
    ثَمَّة أسباب كثيرة -أيُّها الإخوة والأخوات- أمَّا أولها: فهو قِلَّة الاعتناء بالجانب الأخلاقي:
    كثيرة هي الكتب المُهتمَّة ببناء العقل، فحين تدخل أيَّ مكتبةٍ من المكتبات تجد أعدادًا كبيرةً من الكتب التي تتحدث عن العقل، وقُوَّة العقل، وكيف تبني الذَّاكرة؟ وكيف تهتم بكذا، حتى وصلوا إلى قضية: كيف تنقص وزنك؟ وكيف تهتم بصحتك؟
    ولكن لم يعتنوا بهذا الجانب وهو الجانب الأخلاقي، أي الممارسات اليوميَّة التي ينبغي أن يُمارسها الإنسانُ في حياته اليوميَّة مع جميع الأفراد الذين سيُقابلهم.
    إضافةً إلى أنَّ الكتب التي تتحدث عن هذا الموضوع لا تكاد تكون إلا بأسلوبٍ واحدٍ، وبنَمَطٍ كتابيٍّ واحدٍ، ونحن نحتاج إنسانًا يُعايش الناسَ، ويعرف همومَهم، ومشاكلَهم، ويُنَزِّل هذه الأحاديث النَّبوية على واقع الناس، ويستنبط من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- قواعدَ في حُسن التَّعامُل.
    نحن اليوم نرى مثلًا في عالم الدَّورات كثير من الدَّورات التي تتحدث عن فنِّ العلاقات الإنسانيَّة وبنائها، سواء مع الزَّوجة أو الأولاد أو غيرهم، فيذكرون جملةً من القواعد -خاصَّة الغربيين- فنظُنُّ أنَّ هذه القواعد ليست موجودةً في شرعنا.
    والسَّبب في ذلك: أنَّ مَن يتحدث في الشَّرع يتحدث بأسلوبٍ لا يُناسِب واقعَ الناس اليوم وزمانهم وعصرهم واللُّغة التي يفهمون بها.
    ونحن لا نقول: نتعلَّق بهذه العبارات، ولكن نحرص على أن نستنبط من هذه الأحاديث النَّبويَّة فنون التَّعامُل التي سنتحدث عنها -إن شاء الله تعالى.
    ولهذا نُلاحِظ أنَّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- من الأيام الأولى اعتنى بقضية الأخلاق، فكانت قضيةً رئيسةً.
    ولهذا لما ذهب جعفرُ بن أبي طالبٍ إلى الحبشة وجلس بين يدي النَّجاشي وسأله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن هذا الدين. ماذا ذكر له؟
    ذكر له الأخلاق، فقال: وأمرنا بالصِّدق، والأمانة، وكذا، وكذا. فذكر جُملةً كبيرةً من الأخلاق التي تتفق عليها جميعُ الأجناس، فلا يمكن لأي عقلٍ صحيحٍ أن يُنافي هذه الأخلاق.
    بل نجد أنَّه نزلت في أول الإسلام على النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- آياتٌ من مثل قوله تعالى: ﴿وَيمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون: 7]، ﴿وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ [المطففين: 1، 2]، فقضيَّة التَّطفيف، وقضية منع الإناء ومنع العارية عن الناس وعدم التَّعاون فيما بينهم يتحدث عنها القرآنُ وتنزل فيها آيةٌ تتلى على مرِّ العصور.
    والله -عز وجل- يقول: ﴿وَيلٌ لّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾ [الهمزة: 1]، فيتحدَّث أيضًا عن قضيَّةٍ أخلاقيَّةٍ وهي: عدم احترام أعراض الناس ولمزها وهمزها سواء بالكلام أو بالحركة.
    ونجد أيضًا في قول الله تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ [المدثر: 42- 44] قضيةً أخلاقيَّةً.
    بل إنَّ النبيَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- يذكر أنَّ من أهم أُسس بعثته إتمام مكارم الأخلاق: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
    وتصف عائشةُ -رضي الله عنها- هذه الأخلاق عند العرب فتقول: "جاء الإسلامُ وفي العرب بضعٌ وسِتُّون خصلةً، كلّها زادها الإسلامُ شدَّةً، منها: قِرَى الضَّيف، وحُسن الجِوَار، والوفاء بالعهد".
    إذن هناك أخلاقيَّات كانت موجودةً عند العرب زادها الإسلامُ شدَّةً، وزادها أيضًا ثباتًا ورُسُوخًا.
    القضية الثَّانية التي تدعونا للحديث عن الجانب الأخلاقي: وجود أزمةٍ تربويَّةٍ أخلاقيَّةٍ على مستوى الأفراد، أو على مستوى الجماعات:
    من مظاهر هذه الأزمة: ضعف التَّأديب على جميع المُستويات، فأنت قد تجد صبيًّا صغيرًا في عمر التَّاسعة أو العاشرة، وبمجرد أن تُسيء إليه إساءةً يسيرةً فإنَّه يسُبُّك ويسُبُّ أهلَك، وتسمع منه العبارات المُقْذِعَة. فما معنى هذا؟
    معناه أنَّ هناك مشكلةً في داخل المنزل من قِبَل الأب أو الأم، فقد يرى الطِّفلُ هذه المُمارسات في داخل البيت من قِبَل أبيه لأُمِّه أو العكس.
    لهذا فإنَّهم في الصين عملوا مدرسةً سمَّوها "البروتوكول" يُعلِّمون فيها أساليب التَّعامُل، وفنون التَّواصُل المُهَذَّب مع الآخرين، ونحن أولى بهذا منهم كممارسةٍ يوميَّةٍ في داخل البيوت.
    انظر لظواهر سيئة كثيرة في المجتمعات الإسلاميَّة، فاليوم نسمع عن العقوق، وعن ضربٍ للأب، وضربٍ للأم، وعن تعذيبٍ للزوجة بشكلٍ عنيفٍ جدًّا، بل نجد مثلًا من الإشكالات ظاهرة إسقاط القِيَم، فتجد مجموعةً من الشَّباب الذين لا يزالون صغارًا وفي أول السُّلم التَّعليمي ومع هذا يتكلَّمون عن الكبار، ويُحاولون الانتقاص من قدرهم، ناهيك عن قتل الفضيلة، والتَّفكُّك الأُسري، وضياع حقوق الناس.
    إذن أصبحت لدينا مشكلة، بل الأدهى من هذا والأَمَرُّ: أنَّك تجد إنسانًا يُصلي ويصوم، وقد يتأثر بالقُرآن، لكنَّه يكذب، ويرتكب الفاحشة، وقد يكون ممن يُصلُّون في الصف الأول ومع هذا لا تسمع منه إذا خرج من المسجد إلا ألفاظًا نابِيَةً.
    إذن هناك أزمة على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعات والمجتمعات والأمم في قضية الأخلاق؛ مما يدعونا للحديث عن هذا الأمر.
    أيضًا هناك قضيَّةٌ أخرى وهي: أنَّ الاهتمام بالأخلاق عنصرٌ مُهمٌّ في قيادة الأُمَّة للبشريَّة.
    يقول الشَّاعر:
    وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلَاقُ مَا بَقِيَتْ

    فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلَاقُهُمْ ذَهَبُوا

    نحن نُلاحِظ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأيام الأولى عند دخوله إلى المدينة النبوية وبعد بناء المسجد قام بعمل المُؤاخاة بين المُهاجرين والأنصار. لماذا؟
    لأنَّ هذه المُؤاخاة تُشْعِر عدُوَّهم ومَن يتربَّص بهم أنَّهم جسدٌ واحدٌ، بل وتجد أنَّ أولئك الأشخاص -أي الأعداء- يتأثَّرون بهؤلاء الناس وتَحْسُن أخلاقهم.
    خذ مثلًا على ذلك: يُذكَر في كتب التاريخ أنَّ سعد بن أبي وقَّاص خرج مرةً في جيشٍ، فلمَّا أرادوا أن يجتازوا نهرًا سقط قَعْبٌ -إناء- لأحد المسلمين داخل النَّهر. فماذا حدث؟
    نزل الناسُ عن خيولهم وجعلوا يبحثون عن هذا القَعْب -قعب صاحبهم- فقال الأعداء: أغرقوا؟
    قالوا: لا، ولكن قعب صاحبهم سقط، فأرادوا أن يستخرجوه لصاحبهم.
    قالوا: إذا كان هؤلاء يبحثون عن قَعْبِ صاحبهم، فكيف لو قتلنا واحدًا منهم؟!
    فهُزِمَ جيشُ الأعداء هزيمةً نفسيَّةً. لماذا؟ لأنَّهم يرون أُمَّةً مُتماسِكَةً مُتآلِفَةً.
    واليوم في عمارةٍ واحدةٍ تجد سبع شقق، أو عشر شقق، ومع هذا لا يتعارفون، ويظلُّ الإنسانُ جارًا لجاره لمدة عشر سنوات، أو سبع سنوات، أو خمس سنوات، أو أقل، أو أكثر، ومع هذا لا يتعارفون البتَّة، وقد يلتقون أحيانًا عند الباب، ولكن ليس بينهم أيُّ تواصُلٍ.
    فهل هذه هي المُؤاخاة التي أرادتها الشَّريعةُ؟ لا شكَّ أنَّ هذا ليس بصحيحٍ.
    إضافةً إلى شيءٍ آخر يدعونا إلى طرح قضية الأخلاق، وهو: أنَّ هذه الأزمة الأخلاقيَّة التي تعيشها الأُمَّة أفرزت شيئًا سيِّئًا جدًّا، وهو: عُزُوف الناس عن الدُّخول في الإسلام.
    لذلك نحن أصبحنا اليوم فتنةً للذين كفروا، فيقرؤون في القرآن، ويقرؤون ترجمةً لكتاب الله -عز وجل- ويقرؤون تعريفًا بالإسلام، وأنَّه إسلامٌ يعتني بالأخلاق وغيرها، ثم ينظرون لواقع المسلمين فلا يجدون إلا الكذبَ والخيانةَ والغِشَّ، ونقض العُهود، وعدم الحرص على الأوقات، وغيرها من الأمور والسُّلوكيَّات التي عاشها الناسُ، وللأسف أصبحت جزءًا من تعامُلهم الذي جعل الناسَ يكرهون الدُّخول في دين الله -عز وجل- بسبب هذه الأخلاقيَّات.
    وعندما ننظر مثلًا في بداية انتشار الإسلام في كثيرٍ من بلدان العالم -سواء في الفلبين، أو إندونيسيا، أو غيرهما- فإنَّه لم ينتشر بمُناظراتٍ كلاميَّة؛ لأنَّهم لم يكونوا يُتقِنون اللُّغة، ولم ينتشر أيضًا بالحرب والسِّلاح، ولكن انتشر -أيُّها الإخوة والأخوات- بسبب أخلاقٍ حسنةٍ يُمارسها الناسُ، ويراها أولئك الأشخاص.
    لهذا -أيُّها الأحبَّة- فإنَّ هذه الأمور تدعونا فعلًا إلى الاعتناء بقضية الأخلاق.
    وثَمَّة شيءٌ آخر وهو: أنَّ حُسن الخُلُق يُحقق الولاءَ والانتماءَ للمُجتمع. كيف؟
    عندما يمرض إنسانٌ مثلًا وهو يسكن عمارةً فيها مجموعةٌ من الشُّقق، فإذا مرض هذا الإنسان في مُنتصف الليل ولم يستطع الاتِّصال بأهله، أو اتَّصل بأهله فوجد جوَّالاتهم مُغلقةً، أو لم يجد طريقًا للوصول إليهم، فيقوم جيرانُه في نفس العمارة بأخذه والوقوف معه إلى وقتٍ مُتأخِّرٍ وإعادته إلى المنزل، والاطمئنان عليه، وزيارته بعد ذلك.
    فلا شكَّ أنَّ هذا سيُحقق ولاءً كبيرًا جدًّا فيما بين الناس.
    خُذ مثلًا آخر: عندما تجد مجموعةً من الناس في مسجدٍ من المساجد، وهذا المسجد فيه عشرات الأشخاص، فبعض المساجد فيها أعدادٌ كبيرةٌ جدًّا، فعندما يمرض واحدٌ من أهل المسجد تجد الآخرين يتحرَّكون هم وإمام المسجد لزيارة هذا الشَّخص، فكم من الولاء والانتماء الذي سيشعر به هذا الإنسان تجاه تلك الجماعة!
    فهذه قضيَّةٌ مُهمَّةٌ، ولهذا تُحكى قصة عن أحد الصُّحفيين أنَّه خرج مرةً ذاهبًا لعمله، وهو في سيارة الأجرة انطفأت السيارةُ وتعطلت، وكانوا في شدَّة الحر، ومعهم امرأة معها طفلها الصَّغير، يقول: بعد خمس دقائق إذا بسيارة الإصلاح المجانيَّة التَّابعة للدولة تجيء فتُصلح السيارة، ثم سارت بعد ذلك السيارة وأوصلت هؤلاء الأشخاص.
    ماذا يقول هذا الصُّحُفي؟
    يقول: أشعر الآن كأن في عُنقي دينًا لبلادي، أبتغي الوقتَ الذي أُوفِّيها إيَّاه، سأنتظر الفرصةَ التي تُتاح لي لأخدم المجتمع بما أستطيع.
    تُرَى لو تعذَّب هذا الرجل في سفره ماذا سيقول؟!
    خُذ مثالًا: نحن أحيانًا نُسافر، وفي أثناء الطَّريق نجد رجلًا يمد يديه للناس لعُطْلٍ مثلًا في سيارته، فكلُّنا نتصور في داخلنا أنَّ هذا الإنسان مُجرمٌ، وأنَّه قد يملك سلاحًا، وقد يقتلنا، وقد يخطف الأسرةَ الموجودة معنا، ولم نُفكِّر يومًا ما تفكيرًا فيه حُسن ظَنٍّ بهذا الإنسان.
    فلذلك هذه مشكلة فعلًا كبيرة، يحتاج الإنسانُ أن ينتبه لها.
    من الأشياء التي تجعلنا نعتني بقضية الأخلاق أيضًا: انتشار الفضيلة واختفاء الرَّذيلة.
    فكلَّما اعتنينا بالجانب الأخلاقي كلَّما انتشر الخيرُ، وانتشرت الفضيلةُ، وانمحت الرَّذيلةُ.
    طيب، هذه المُبرِّرات تجعلنا نعتني بالأخلاق، وهنا يأتي السؤال الثاني والمُهم: إذا كانت هذه أشياء تجعلنا نعتني بقضية الأخلاق، ونرى هذه الأهميَّة الكُبرى لقضية الأخلاق وأثرها في المجتمع. فلماذا ضَعُفَ الاهتمامُ بالجانب الأخلاقي في حياة الأُمَّة؟
    فشيءٌ بهذا الحجم الكبير، والشَّريعة تُولِيه عنايةً، ومن أوائل الآيات التي نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وصفه بحُسْن الخُلُق: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، ومع هذا نجد أنَّه ليس لدينا اعتناءٌ بهذه القضية! فلماذا ضَعُفَ الاعتناءُ بالجانب الأخلاقي؟
    ثَمَّة أمورٌ كثيرةٌ:
    أولها: غياب التَّربية الإسلامية أو ضعفها:
    فنحن اليوم نتعلَّم لكن لا نتربَّى، فنحن نعرف أنَّ هذا الخُلُق خُلُقٌ جَيِّدٌ، كالعفو، والصَّفْح، والسَّلام على الآخرين، ولكن هل نُمارس مثل هذه الأمور؟!
    ونحن نتعلم في مدارسنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ؛ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ». أخرجه الإمامُ أحمد.
    فمَن يُمارس هذا الحديث الآن؟!
    يقول النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام: «لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ»، أي ليس من اللَّحم الثَّمين، إنَّما هي سيقان الدَّابة، ومع هذا يقول: «لَوْ دُعِيْتُ إِلَيْهَا لَأَجَبْتُ».
    ويقول: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَكْثِرْ مَرَقَةَ لَحْمِكَ تُعْطِهِ لِجِيرَانِكَ»، أي تُعطي شيئًا منه لجيرانك.
    فأين هذه المُمارسات اليوم في بيوتنا وفي داخل مُجتمعاتنا وفي داخل الحي الذي نعيش فيه؟ فالناس تمكث شهورًا طويلةً لا يتعرف بعضُهم على بعضٍ.
    إذن هناك عبثٌ في مناهج التَّعليم التي حرصت فقط على إعطاء معلومةٍ، فهي تُوصِل معلومةً للناس فقط، لكن أن تُمارَس هذه المعلومة في واقع الناس، لا!
    يقول عبدُ الله بن عمر: "كنا نحفظ العشر آيات من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنتعلَّمها ونعمل بها". فلم يأخذوا العلمَ ليكون ثقافةً لديهم يستخدمُونها في المُسابقات الثَّقافية، لا.
    وفي صحيح مسلمٍ من حديث عبد الله بن عمرو -وأيضًا من رواية أمِّ سلمة- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ صَلَّى للهِ ثِنْتَي عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»، يقول عبدُ الله بن عمرو: "والله ما تركتُها منذ سمعتُها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
    إذن هم يتلقّون العلمَ ليُطبِّقوه، ففرقٌ كبيرٌ بين العلم والتَّربية؛ فالعلم: معرفة. والتَّربية: ممارسة لهذه المعرفة في واقع الإنسان الحياتي، سواء على مستواه الشَّخصي عندما يكون وحده أو مع الناس.
    الأمر الثاني الذي جعل قضيةَ الأخلاق ضعيفةً: غياب القُدوة:
    فأين الأدب والذَّوق في المنزل وفي تعامُل الرجل مع زوجته وفي تعامُل الأبناء بعضهم مع بعضٍ؟
    فالآن بمجرد أن تحصل إشكاليَّة بين الأبناء تجدهم يبدؤون بسَبِّ بعضهم بعضًا؛ لأنَّهم لم يروا قُدوةً داخل المنزل تحترم الأم مثلًا.
    أين القُدوة في الشَّارع؟ فنحن نرى أُناسًا يرمون النِّفايات في الطُّرقات، ويسُبُّون بعضُهم بعضًا، ويتجاوز بعضُهم بعضًا بالسيارات بطريقةٍ مُزْرِيَةٍ جدًّا.
    وأين الأدب في الاجتماعات؟ وأين الأدب في اللِّقاءات العامَّة؟
    فاليوم تجد إنسانًا كبير السِّن –كأن يكون في الأربعينيَّات أو الخمسينيَّات أو أقل أو أكثر- وهو يُدَخِّن أمام الناس، وقد يُدَخِّن أمام والديه أيضًا!
    فكلُّ هذا يعني أنَّ الشخص الذي هو قُدوة ضَعُفَ في المجتمع.
    ولهذا دائمًا أنا إذا قابلتُ رجلًا يُدَخِّن أقول له: يا أخي، إذا كنتَ مُبتلًى بالتَّدخين فدخِّن وحدك، ولا تُدَخِّن أمام الناس؛ لأنَّ هناك أطفالًا صغارًا في العاشرة والثَّانية عشرة، فيقول: إذا كان هذا إنسانٌ كبيرٌ عمره ثلاثون سنة أو أربعون سنة وهو يُدَخِّن؛ إذن التَّدخين لا إشكالَ فيه!
    من الأشياء التي جعلت الاهتمام بالجانب الأخلاقي ضعيف: سلبيَّة المُؤسَّسات الفاعلة في المجتمع، مثل: الإعلام، فالإعلام له دورٌ اليوم في خدش الحياء، والحياء يُبنى في الصَّغير منذ الصِّغر، ويكون قلبُه كالمِرْآة صافيًا نقيًّا، وإذا به يتحوَّل من خلال عشرات المناظر في القنوات الفضائيَّة الفاضحة والفيديو كليب، والمسلسلات، والمسرحيات وغيرها إلى صورةٍ مُشَوَّهةٍ.
    ونحن قد كبرنا ووصلنا إلى مرحلةٍ عُمريَّةٍ كبيرةٍ ولم ترَ أعيننا أيَّ صورةٍ من الصُّور الفاضحة، بينما الطفل اليوم في سنِّ العاشرة أو الحادية عشرة أو الثانية عشرة -قبل أن يصل للبلوغ- يُصَبُّ في رأسه عددٌ كبيرٌ جدًّا من الصُّور الخليعة.
    لو استطعنا الآن أن نصنع جهازًا ونضع إنسانًا عمره أربعون سنة على الجهاز، ثم نسحب الصُّور الموجودة في ذهنه، كم سنجد من الصُّور المُدَمِّرة لأخلاق الإنسان؟!
    إذن لدينا مشكلة في مُؤسَّسات المجتمع.
    فالإنسان الآن يخاف على ولده من الذَّهاب إلى المدرسة. لماذا؟ لأنَّه سيتعلم فيها سُلوكيَّات سيِّئة، وأخلاقيَّات سيِّئة، وسيتبادل هو وزملاؤه أشرطة واسطوانات وغيرها مما حرَّمه الله -عز وجل.
    إذن حتى في المناطق التي ينبغي أن تكون أكثر مُحافظةً وحرصًا على الأخلاق نجد أنَّ لدينا مشكلةً فيها.
    أيضًا قلَّة المَحَاضِن التَّربويَّة وضعفها:
    المَحَاضِن التَّربويَّة اليوم إمَّا أنَّها قليلةٌ، مثل: المساجد، وحِلَق القرآن، ودُور التَّحفيظ، وأماكن تعليم النِّساء، والنَّوادي التَّربويَّة، فهذه نجدها ضعيفةً وقليلةً في كثيرٍ من الأماكن، وإذا وجدناها فإنَّها تمارس جانبًا ثقافيًّا فقط، فنجد لديهم دروس تقويةٍ للطلاب، لكن أين الممارسة الأخلاقيَّة؟! فهل يتعلم الناسُ في هذه المَحَاضِن الإيثار، أو المحبَّة، أو الأُخُوَّة، أو حُسن التَّعامل، أو الكلمة الطَّيبة، أو اللَّفظ الجميل؟
    نجد أنَّ هذا لا يُمارَس للأسف!
    بل إنَّهم أحيانًا وهم يلعبون معًا كرة القدم أو غيرها من الألعاب إذا وقعت مُشاكسةٌ بينهم تجد أنَّ ألفاظ السَّبِّ هي التي تسبق.
    إذن هناك أيضًا مشكلة كبيرة جدًّا في هذا الموضوع.
    اليوم سنُناقش أيضًا بعد هاتين القضيتين -وهي أسباب الاعتناء بالأخلاق، ولماذا ضَعُفَ الاعتناء بالأخلاق؟- قضيةً مُهمَّةً جدًّا، وهي: خصائص الأخلاق في الإسلام.
    للأخلاق في الإسلام -الذي جعلناه هو المنبع، وهو المقياس للأخلاق- عشر خصائص:
    أول خَصِيصَةٍ من خصائص الأخلاق في الإسلام هي: ربَّانيَّة المصدر:
    فهذه الأخلاق التي نُمارسها كالعفو مثلًا، أو عدم الاعتداء، أو الكلمة الطَّيبة، أو القول الحسن، كلّها من عند الله -عز وجل- فنحن نقرأ في كتاب الله تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ [الإسراء: 53].
    فكم من حادثةٍ أو تَفَرُّقٍ وقع بين اثنين بسبب كلمةٍ فُهِمَت على غير وجهها، مع أنَّ صاحبها لا يقصدها.
    ولهذا يحتاج الإنسانُ أن يكون أكثر تحرُّزًا مع الناس في أثناء كلامه؛ لأنَّه ربما تخرج كلمةٌ من فمه لا يقصدها فتقع في قلب الطَّرف الآخر فتجرحه جُرْحًا لا يُنسَى على مدار الزمن، خاصَّةً إذا كان الشَّخصُ قد قُدِّم لأول مرَّةٍ في المجلس، فتجد بعضَ الأشخاص يدخلون لأول مرَّةٍ في مجلسٍ من المجالس وإذا بهم يتبَسَّطون مع الناس وهم لا يعرفونهم، وقد يتكلمون بنِكَاتٍ أحيانًا وقصصٍ -للأسف الشَّديد- لا تكون مُناسِبةً البَتَّة لذلك المجلس.
    ولذا دائمًا نقول لكلِّ إنسانٍ دخل مجلسًا لأول مرَّةٍ: كَوِّنْ انطباعًا حسنًا عنك، فالزم الصَّمت، وتكلَّم بهدوءٍ، ولا تُخرِج ألفاظًا غيرَ جيِّدةٍ، ولا تُحاول أن تتبَسَّط إلا في حدودٍ تجعل بينك وبين الناس أُنْسًا، لكن أن تتعامل وكأنَّك تتعامل مع أصدقاء عشت معهم عشرين سنة، أو ثلاثين سنة، فهذا ليس بصحيحٍ -أقصد في اللِّقاء الأول- حتى تتعرف على الناس، ويحكُمون على شخصيَّتك بطريقةٍ صحيحةٍ.
    إذن من خصائص الأخلاق الإسلامية: ربَّانيَّة المصدر، فهي ليست رأيًا بشريًّا، ولا نظامًا وضعيًّا، بل هي مُستَمَدَّة من ربِّ البشر الذي يعرفنا ويعرف أخلاقنا -سبحانه وتعالى.
    يقول الله عنا: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19- 21]، فالله يُبين أنَّ هذه الصِّفة فينا نحن البشر، ففي أثناء الشَّر نجزع، وفي أثناء الخير نَمْنَع. وهذه الصِّفة لا يمكن أن يعرفها أحدٌ إلا الله -سبحانه وتعالى.
    لهذا فإنَّ من ميزات القرآن -الذي هو كلام الله عز وجل- معرفته بدسائس النَّفس البشريَّة.
    فمثلًا تحكي السيرةُ حادثةَ أُحُدٍ كأحداثٍ مرَّت على الصَّحابة –رضي الله عنهم- فتُخبرك أنَّه قُتِلَ فيها أُناسٌ بطريقةٍ مُعينةٍ كحمزة، وكان عدد الشُّهداء كذا، وصلى عليهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم.
    لكن عندما يُناقشها القرآنُ ويُعالجها فانظر ماذا يقول: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا﴾ في بدرٍ ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا﴾ [آل عمران: 165- 167]، فهذه المعاني لا يمكن أن يدُلَّنا عليها إلا الله -جل في علاه.
    لهذا فإنَّ الله -عز وجل- يعرف نفوسَنا: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، فيعرف أنَّ هذا الْخُلُقَ سيجعل الناسَ في قمة الانضباط، والْخُلُق الآخر سيجعلهم بعيدين عن هذا الانضباط الذي نُريده.
    إذن هي ربانيَّة المصدر، فلابُدَّ من الرِّضا بها؛ لأنَّها من الله تعالى.
    الأمر الثاني: عباديَّة القصد:
    فعندما تذهب الآن إلى كثيرٍ من المحلات في الغرب وتشتري مجموعةً من الأغراض، ثم تذهب إلى المُحَاسِب لتدفع ثمنَ ما اشتريت تجد هذا الشَّخص يبتسم لك ابتسامةً جميلةً رائعةً، وأمامه لوحة أنت لا تراها، لكن عليها وجه إنسانٍ مُبتَسِم، ومكتوب تحتها: "Smile" ابتسم لهؤلاء الناس، فتنشرح نفسُك، لكن الابتسامةَ بلا روحٍ، ولا قيمة. لماذا؟ لأنَّه لم يُرَد بها وجه الله تعالى.
    نحن عندما نقول: إنَّ العبادة لها شرطان، وهما: الإخلاص والمُتابعة، فإننا نُريد أن تكون أخلاقُنا خالصةً لوجه الله تعالى.
    إذن الأمر الثاني: عباديَّة القصد، أن يُراد بها وجه الله -سبحانه وتعالى.
    أمَّا التي لا يُراد بها وجه الله فلا قيمةَ لها ولا فائدة.
    نذكر مثالًا على ذلك: عندما مات عبدُ الله بن جُدْعَان وأخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه في النار قالت عائشةُ: "عبدُ الله بن جُدْعَان يا رسول الله". أي هذا الرجل الكريم الذي كان يضع جِفَانًا كبيرةً جدًّا ليأكل الناسُ منها والغُرَبَاء، قالت: "في النار؟!" قال: «نَعَمْ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»، فلو كان مُسلمًا تقيًّا خائفًا من الله، واستشعر هذا الكرمَ وجعله من أجل الله تعالى لنفعه، لكنَّه لما كان غيرَ مُسلمٍ وغير مُتَّقٍ لله -عز وجل- لم تنفعه هذه العبادة.
    إذن الخصيصة الأولى أنَّها: ربانيَّة المصدر.
    والثانية: عباديَّة القصد: أي يُراد بها وجه الله، فتتعامل بهذه الأخلاق وأنت تريد وجه الله تعالى، فيُسيء إليك إنسانٌ ويسُبُّك ويتكلم عليك أمام الناس، ثم أنت تعفو عنه. لماذا؟ لأنَّك تُريد بهذا الخُلُق وجهَ الله تعالى.
    الخَصِيصَة الثالثة: مِثَاليَّة واقعيَّة:
    فالأخلاق الإسلاميَّة تدعو إلى السُّمُو بالنَّفس، وأن يكون المسلمُ في أعلى مرتبةٍ في هذه الأخلاق، لكنَّها تُراعي نفسيَّة البشر، وتُراعي الظُّروف التي يمُرُّون بها.
    ولهذا فإنَّ أخلاقنا الإسلاميَّة لا تعدُّ الجائعَ خائنًا للأمانة إن سرق ليأكل، لا أن يسرق ليتكثَّر بهذا المال أمام الآخرين.
    ولا تعتبر الأخلاقُ الإسلاميَّةُ الخائفَ أو المُكْرَه ناقِضًا للصدق؛ لأنَّه خائفٌ والسَّيف على رقبته: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل: 106].
    إذن هي تُراعي حقوقَهم ولا تُطالبهم بما فوق طاقتهم، فهي مثاليَّة تدعو إلى السُّمُو، لكنَّها واقعيَّة أيضًا، لا تُريد أن يأتي الإنسانُ لهذه الأخلاق ويقول: أنا سأتمسَّك بهذا الْخُلُق مهما حدث لي. فنقول: لا، إنَّ الشَّريعة تُراعي ظروف الإنسان.
    الخصيصة الرابعة: أنَّها شُمُوليَّة مُتكاملة:
    ما معنى هذا الكلام؟
    معناه -أيُّها الإخوة- أنَّ الأخلاق لا تكون أمام الناس فقط، بل أمامهم، وفي البيت، ومع الزَّوجة، ومع الأولاد، وفي السِّلْم، وفي الحرب، وفي الظَّاهر، وفي الباطن، وفي البيع، وفي الشِّراء؛ لأنَّك تجد بعض الأشخاص له 20 ألف وجه.
    واليابانيُّون يقولون في الحِكَم: "مَن عاش بوجهين يموت ولا وجهَ له". فنحن نُريد إنسانًا يعيش بوجهٍ واحدٍ.
    وقد تجد بعضَ الأشخاص قمة في الهدوء في العمل، وإذا استَفَزَّه مديرُه تجده يتعامل معه بهدوءٍ ولُطْفٍ، لكنَّه إذا استُفِزَّ بكلمةٍ بسيطةٍ في البيت أقام الدنيا ولم يُقْعِدها، ويُوجِّه للمرأة مجموعةً من اللَّكمات الكلاميَّة، وهي مسكينة قد تكون أخرجت هذه الكلمة بحُسْن قصدٍ، أو تكون نفسيَّتُه هو غيرَ مُستَعِدَّةٍ لقبول هذا الكلام فأصبح عصبيًّا غَضُوبًا، أو لأنَّه جاء من ظرفٍ خارجيٍّ جعل هذه الكلمة لا مكانَ لها في هذا الوقت، كلُّ هذه الأمور لا تجعل الإنسانَ -أيُّها الإخوة- يفقد أخلاقَه بمجرد رجوعه إلى المنزل.
    نحن نقول: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان دائمًا عندما يُحدِّث يقول: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ».
    تجد بعضَ الأشخاص في قمة الابتسامة إذا ذهبوا إلى العمل، وتستطيع أن تعُدَّ أسنانَهم كلَّها، فإذا وصل أحدُهم إلى المنزل أُغْلِقَ فمُه بقدرة قادرٍ، وكأنَّ أسنانه في المنزل عورة لا يجوز لأحدٍ أن يُشاهدها. فهذا ليس بصحيحٍ، أنا أُفتيكم على الهواء مباشرةً فأقول: والله أسنانكم ليست عورةً، أخرجوها لزوجاتكم، وللناس.
    ولهذا يقول الصِّينيُّون: "الذي لا يُحسِن أن يبتسم لا يفتح دُكَّانًا"، فكيف يفتح دُكَّانًا وهو مُغْلَق الفم من الصَّباح إلى المساء؟!
    وأنا أقول زيادة عن الصِّينيين: الذي لا يعرف أن يبتسم لا يتزوَّج، والذي لا يعرف أن يبتسم لا يُنْجِب أولادًا؛ لأنَّهم يرون أمامهم عسكريًّا في الدَّاخل، والذي لا يعرف أن يبتسم لا يكون إمامَ مسجدٍ، والذي لا يعرف أن يبتسم لا يكون في واجهة الناس.
    نحن نحتاج إلى ابتسامةٍ صادقةٍ، لماذا؟ لأنَّ قُدوتنا المُصطفى -صلى الله عليه وسلم- كانت تقول عنه عائشة: "مَا رَأَيْتُ أحدًا أكثر تَبَسُّمًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم". وعندما تصف دخولَه إلى المنزل تقول: "كان بسَّامًا ضَحَّاكًا -عليه الصَّلاة والسَّلام". فهو يضحك مع أهله ويُؤانِسهم، ويحكي لهم قصصًا، ويجمع كلَّ نسائه بعد صلاة العشاء ليُحدِّثهم، هذا هو دين الله.
    أمَّا أن نصنع لأنفسنا دينًا وأخلاقًا، ونُريد من الناس أن تُمارِس هذه الأخلاق بناءً على ما نعتقده نحن، فهذا ليس بصحيحٍ.
    إذن القُدوة الحقيقيَّة لنا في ممارسة الأخلاق هو النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ».
    بعد صلاة العيد مثلًا يجد الإنسانُ صديقَه في المسجد، فماذا يفعل؟ يُسَلِّم عليه، ويسأل عن أخباره، ويُهنِّئه بالعيد فيقول: كلَّ عامٍ أنت بخير، وتقبَّل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
    ثم يدخل على زوجته فينقلب وحشًا، فيقول: أين الطَّعام؟
    كيف تحول هذا الإنسان؟! كيف انقلب وحشًا؟! أنا لا أدري!
    فقبل قليلٍ خرجت من فمه عبارةٌ طيبةٌ لصديقه، إذن هو قادرٌ على أن يفعل هذه الأشياء.
    ولهذا دائمًا أنا أنصح الإخوة بأن يقول الواحدُ منهم لزوجته: أُحبُّكِ، أتمنى لقاءكِ، قُربكِ. فيقول البعض: لا أستطيع! فأقول له: اذهب إلى غرفةٍ وحدك، وأغلق البابَ على نفسك، وانظر لمخدةٍ واعتبرها زوجتك هذه اللَّيلة، أو انظر للجدار، أو انظر إلى الدُّولاب، أو انظر لأيِّ شيءٍ، وقل له: أُحبكِ، أحبكِ، أحبكِ،...، مئة مرة، أو ثلاثمئة مرة، أو مليون مرة، المهم أن يتعوَّد على إخراج هذه الكلمة.
    أرجو أن تنجح هذه العمليَّة، ويتحسَّن الإنسانُ في تعامله مع أهله.
    أنا أقول: إذا أردتَ أن تعرف إنسانًا فاسأل عنه زوجته فهي المقياس الحقيقي له، ولا تسأل عنه زملاءه؛ فلن نستطيع أن نُمثِّل على الناس كلِّهم.
    ولهذا يقول الصِّينيُّون -وهذه كلمة جميلة: "تستطيع أن تضحك على كلِّ الناس بعض الوقت، وتستطيع أن تضحك على بعض الناس كلَّ الوقت، لكن لا تستطيع أن تضحك على كلِّ الناس كلَّ الوقت"، فهذا مُستحيلٌ.
    لهذا نحن في بيوتنا مكشُوفون، فمثلًا حين تعمل إشاعةً مقطعيَّةً وتدخل على الجهاز الخاصّ بتلك الأشعة يُظْهِر الجهازُ ما بداخلك، فهذا الجهاز هو الزوجة في المنزل، فهي تعرف خبايا زوجها، فهي تعرف مثلًا دخوله وخروجه مدة خمس عشرة سنة، وماذا في جيبه؟ وماذا في كذا؟ وماذا في كذا؟
    ولهذا تجد كثيرًا من الأزواج ينامون وهناك رقم سري على جوَّالاتهم، لماذا؟ لأنَّه ليست هناك ثقة مُتبادلة دخل المنزل؟
    وأنا دائمًا أقول للإخوة: الذي عنده ثقة بنفسه يضع الجوَّال في أيِّ مكانٍ في البيت، لكن تصوَّروا إنسانًا في جوَّاله مصائب، ثم ينزل للمسجد للصلاة وحين يضع يده على جيبه لا يجد الجوَّال؛ فقد نسيه في الأعلى، وهو الآن ذاهِبٌ إلى الله، والله يقطع الصَّلاة، ولا يُصلي، وإذا ذهب ليُصلي لا يعرف ماذا قرأ الإمامُ؟ وهل قال التَّشهد الأول أو الثاني؟! لا يعرف! لماذا؟ لأنَّه ليس واضحًا مع الآخرين.
    إذن من خصائص الأخلاق الإسلاميَّة أنَّها: شُمُوليَّة مُتكاملة.
    يا أيُّها الإخوة، هذه الأخلاق ليست فقط في أماكن دون أماكن، ولهذا فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ».
    بعض النِّساء إذا كانت في بلدهنَّ الملابسُ جميلةً ومُحْتَشمةً والعباءات وغير ذلك، تجد الواحدة منهنَّ إذا طارت في الهواء وأخذت تأشيرة السفر على جوازها تبدلت أخلاقُها، فانظر بعد ذلك إلى أخلاق النِّساء والفتيات، وكذلك الشباب.
    هل أخلاق الناس تتغير بمجرد السَّفر؟!
    لقد مكث جعفرُ بن أبي طالب سبع سنين في الحبشة ومعه بقية الصَّحابة ولم يتغيَّروا أبدًا. لماذا؟ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمُدُّهم بالقرآن بين فترةٍ وأخرى.
    الخصيصة الخامسة من خصائص الأخلاق الإسلامية أنَّها: ثابتة:
    فيتكرر نفسُ الخُلُق كلَّما تكرر الموقفُ نفسه.
    نأخذ أمثلةً: عندما يرفع مديرُك في العمل صوته عليك. ما ردة فعلك؟ تقول: إن شاء الله، لعلي مُخطئ، أنا آسف.
    ويكون هذا هو سُلوكك أيضًا عندما يرفع ولدُك صوتَه عليك، ويرفع الخادمُ أو السَّائق صوته عليك، ويرفع عاملُ النَّظافة صوته عليك. فتجد أنَّ هناك فرقًا في التَّعامل.
    وأيضًا عندما يضع إنسانٌ البُشْت –أي العباءة التي تُلْبَس فوق الثِّياب- على يده تجد الناسَ تُسلم عليه: السَّلام عليكم. وحين تجد إنسانًا يلبس بدلةً صفراء -وفي بعض البلدان قد يلبس عامل النظافة بدلةً أخرى- لا يُسَلِّم عليه أحد! لماذا؟ الإسلام لا يعرف هذه المُفارقات.
    فالنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- كان يتعامل مع أبي بكر وعمر ومع الخادمة في الشَّارع ويقول: خذيني لأيِّ سكك المدينة شئت، كيف أقضي حاجتك؟ أتُريدين أن أشتري لك أغراضًا؟ أتُريدين أن أفعل كذا أو أفعل كذا؟ هذا هو النبي -صلى الله عليه وسلم.
    فأخلاقنا ثابتة لا تتغير بحسب الشَّخص، ولا تتغير بحسب حال الإنسان، فتجد بعضَ الأشخاص قمة في التَّواضُع، فإذا دخلوا في حساباتهم الماليَّة أصبحوا قمة في الكبر. لماذا؟ هل هم مُتواضعون أصلًا؟ لا، هم مُتكبِّرون، ولكن المال أظهر هذا الخُلُق فيهم.
    هذه قضية مُهمَّة جدًّا، لهذا فإننا عندما نُطالب الناسَ مثلًا بالعِفَّة، أو نُطالبهم بالصِّدق، أو نُطالبهم بالهدوء، أو نُطالبهم بالرِّفْق، فكما نُطالبهم بذلك في الظَّاهر فإننا نُطالبهم أيضًا في الباطن، ونُطالبهم في الإقامة وفي السَّفر؛ لأنَّ أخلاقنا ثابتةٌ في الإقامة وفي السَّفر، ثابتة في الخَلْوة والجَلْوَة، في الرِّضا والغضب، في النِّعمة والبلاء.
    ولهذا كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يدعو الله -عز وجل- فيقول: «وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا»، القصد: العدل. وألا ينفلت لسانُه أو تصرُّفه بأيِّ شيءٍ لا يُرضِي الله -سبحانه وتعالى.
    الخصيصة السادسة أنَّها: مُتوازِنَة:
    فهي لا تُغَلِّبُ جانبًا على جانبٍ، هذه ميزتها.
    فلذلك تجد أنَّها تأمر بالشَّجاعة وتنهى عن التَّهور والجُبْن أيضًا. ففيها توازن، لا تُغَلِّبُ جانبًا -كما ذكرنا- على جانبٍ.
    فالأخلاق الإسلاميَّة تدعو إلى العِزَّة وتدعو إلى التَّواضُع، تدعو إلى الانتصار وتدعو إلى العفو، تدعو إلى الصَّراحة ولكن مع احترامٍ، تدعو إلى كرمٍ ولكن مع اقتصادٍ. هذا هو التَّوازن.
    فلا تقول الأخلاقُ الإسلامية: أكرم حتى تُصبح مُسْرِفًا، أو كن دائمًا مُنتصرًا واستمر في هذا الانتصار دون أن تتواضع، وقدِّم القوة والشَّجاعة والتَّضحية والعِزَّة. فعندئذٍ سيجأر الناسُ بعضهم من بعضٍ إذا فُقِدَت الجوانب الأخرى وهي التَّواضُع، واللِّين، والعفو، والاقتصاد، والاحترام، وغير ذلك. فنحن نحتاج إلى صراحةٍ.
    ودائمًا يذكر الإخوةُ مثالًا جميلًا على الصَّراحة: يأتي إنسانٌ ويزور شخصًا في المستشفى، فماذا يقول له؟ الآن هناك صراحة، ويُريد أن يُوصل له خبر أنَّه مريض وكذا، لكنَّه أحيانًا بغير ذوقٍ، فيقول له: الله أكبر، قبل شهرٍ زرنا واحدًا على هذا السَّرير، رحمه الله لقد عزَّينا فيه الأسبوع الماضي.
    فهل هذا الرجل جاء يُواسِي أو جاء بمُصيبةٍ على رأس هذا الإنسان؟!
    ولهذا فإنَّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- أمر بالكلمة الطيبة عند المريض فقال: «يَنْكَأْ لَكَ عَدُوًّا وَيَمْشِي إِلَى صَلَاةٍ» لأنَّه إنسانٌ دائمًا فعَّال.
    الخصيصة السابعة من خصائص الأخلاق أنَّها: تُنَال بالمُجاهدة:
    فليس هناك إنسانٌ وُلِدَ وفيه هذه الأخلاقيَّات كلها بالكامل إلا الأنبياء ممن عصمهم الله -عز وجل- وكرَّمهم بهذه الأخلاق الحسنة.
    وليس هناك أيضًا دُكَّانٌ أو سوقٌ كبيرٌ تستطيع أن تشتري منه هذه الأخلاق فتقول له: بريالين كرم، وبعشرة ريالات عزة لو سمحت، أو بخمسين ريال لو سمحت صراحة. ليس هناك شيءٌ كهذا.
    فأنت تحتاج إلى أن تبنيها في نفسك، وهناك بعض الأخلاق التي تحتاج إلى عشرين سنة حتى ترسُخَ في داخلك، وبعض الأخلاق تحتاج فيها فقط إلى بضع تطبيقات حتى تُصبح عادةً فيك.
    ولهذا يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ».
    إذن نحتاج إلى تكرار مثل هذه الأخلاق وممارستها، فتجلس مع نفسك وتنظر: ما الخُلُق غير الموجود فيك؟ ستجد مثلًا أنَّ خُلُق عدم المُبادرة للخير ضعيفٌ لديك، إذن تبدأ بتعليم نفسك الخير، فتتبرع اليوم بخمسة ريالات، وغدًا بعشرة، وبعدها بعشرين، وبعدها ثلاثين، وأربعين، وخمسين. فتجد هذا الخُلُق قد ترسَّخ فيك؛ لأنَّ الناس للأسف إذا تعاملوا مع الله -عز وجل- تجد الواحد منهم شحيحًا.
    فإذا قلنا الآن: أيُّها الإخوة، تصدَّقوا. فيفتح كلُّ واحدٍ كيس المال فيجد خمسمئة، أو مئتين، أو مئة، أو خمسين، أو عشرة، أو خمسة ريالات. فإذا فكَّر في التَّصدق بخمسمئة احتاج إلى أن يستخير سنةً كاملةً حتى يكون الفقراءُ قد ماتوا، والقضية قد انتهت كلها بالكامل، لكن الرِّيال أمره سهل. لماذا؟
    لأنَّ لدينا مشكلةً في داخلنا وفي تعامُلنا مع الناس، ونظرتنا للناس في الأساس نظرة دائمًا سلبيَّة فيها سُوء ظَنٍّ، فأيُّ إنسانٍ يخرج من المسجد مثلًا وهو مُحتاجٌ ومسكينٌ عليه فاتورة كهرباء، أو عنده أطفال مساكين في البيت، نقول: أكيد هذا حرامي.
    لو كنت أنت مكانه هل ترضى أن ينظر إليك الناسُ هذه النَّظرة؟ أبدًا.
    الخصيصة الثامنة: تُؤخَذ بالتَّأسِّي:
    فمن خصائص الأخلاق أنَّها تُؤخَذ بالتَّأسِّي، فمن واقعيَّة الإسلام أنَّه لم يُقدِّم قائمةً من الأخلاق النَّظريَّة للعمل بها، بل قدَّم نموذجًا بشريًّا حيًّا يراه الناسُ وهو المصطفى -صلى الله عليه وسلم.
    فهذا الإنسان يُقِيم عليهم الحُجَّة أنَّه بقدرة البشر الارتقاء في قضية الأخلاق، فلم تأت الشريعةُ وتقول: هذه مئة خُلُق أيُّها الناس طبِّقوها، والذي لا يُطبِّقها سيدخل النارَ. لا، بل قالت: هذه مجموعة من الأخلاق، وهذا مثلٌ حيٌّ أمامكم، وهو المصطفى -صلى الله عليه وسلم.
    لماذا يُقال هذا الكلام؟
    لأنَّ بعض الناس يعتقد مثاليَّة الأخلاق، واستبعاد واقعيَّتها، وصعوبة تطبيقها أيضًا، ولكن إذا نظرنا في التاريخ نجد أنَّ هناك دليلًا عمليًّا كافيًا سواء من النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الأنبياء، أو الصَّحابة، أو الصَّالحين، أو غيرهم، فقد جعلهم اللهُ -عز وجل- رموزًا للناس في قضية الأخلاق.
    بل يقول الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: 90].
    ويقول لنا نحن أمَّة محمد: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [الأحزاب: 21]، وهذا دورنا نحن.
    يا أيُّها الآباء، يا أيَّتها الأُمَّهات، يا أيُّها المُرَبُّون، يا أيُّها الإخوة، يا أيُّها القُدوات، كلُّ تصرُّفاتنا محسوبة عند الناس، لنتَّقِ الله -عز وجل- في أفعالنا، وفي أقوالنا، وخاصَّة القُدوات، والمشايخ، والدُّعاة، والعلماء، والوالدين، والمُرَبُّون، والمُدرِّسون، وأئمَّة المساجد، والمُؤذِّنون، وكلُّ أحدٍ ينبغي أن يكون على قدر المسؤولية والمكان الذي هو فيه.
    ولهذا يقولون: "إذا كنت إمامهم -يعني إمام مسجدهم- فكن أمامهم"، أي الأول فيهم.
    أمَّا إذا مارس الإنسانُ أخلاقيَّات سيِّئة في داخل المنزل فسيجد أنَّ هذه الأخلاقيَّات تنتقل لأبنائه مُباشرةً.
    وأكثر الأخلاق الموجودة الآن في البيوت هو العصبيَّة، فالأم عصبيَّة، والأب عصبي، والأبناء عصبيُّون، بسبب ماذا؟ يرون أمامهم أبًا ينفجر لأدنى كلمةٍ، ويرون أمامهم أُمًّا تنفجر أيضًا لأدنى عبارةٍ. هل هذا هو خلق الإسلام؟!
    يقول النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام: «إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ أَهْلَ بَيْتٍ أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ»، الله أكبر.
    ويقول في الحديث الآخر في صحيح مسلمٍ من حديث عائشةَ –رضي الله عنها: «إِنَّ الرِّفْقَ مَا كَانَ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ».
    وفي تطبيقٍ عمليٍّ من النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- لما حكى قصة قاتل المئة نفس ماذا قال؟ قال له العالم: "ومَن يحول بينك وبين التَّوبة؟ انطلق إلى قرية كذا وكذا فإنَّ فيها أُناسًا يعبدون الله"، إذن دلَّه على قريةٍ؛ ليحصل التَّأسِّي.
    قال الشاعر:
    مَشَى الطَّاوُوسُ يومًا بِاخْتِيَالٍ

    فَقَلَّد شَكْلَ مِشْيَتِهِ بَنُوهُ

    فقال: عَلامَ تختالون قالوا

    سبقتَ بِهِ وَنَحْـنُ مُقَلِّدُوهُ

    ويَنْشَأ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا

    عَلَى مَا كَانَ عَـوَّدَهُ أَبُوهُ

    وَمَا دَانَ الْفَتَى بِحِجًا

    وَلَكِن يُعَلِّمُهُ التَّدَيُّنَ أَقْرَبُوهُ

    "وَمَا دَانَ الْفَتَى بِحِجًا" أي لم يتدين الفتى بعقله، وإنَّما يتدين عندما يرى أبًا يُمارس الصلاة ويحترم وقته، أمَّا أن يقول الأبُ: انتبهوا لأوقاتكم، اعتنوا بدراستكم. وهو لا يعتني بوقته ويسهر مع أصحابه إلى نصف الليل! فهذا تناقُضٌ عجيبٌ نُعَيِّشُ فيه أولادنا.
    أيضًا من الأشياء المُهمَّة، وهي الخصيصة التَّاسعة: أنَّها تُراعي التَّدرُّج:
    فالإسلام من واقعيَّته أنَّ الأخلاق لا تُطلَب من الناس بكمِّها الكبير منذ الإقلاع عن الجاهليَّة، إنَّما تكون بالتَّدرُّج في إلقاء الأوامر والواجبات.
    فالشَّريعة تُقدِّم الأهم على المُهم، وتُقدِّم اجتناب الأفحش والأكبر، ولهذا عندما يأتي موضوع الصَّدقة فإنَّ الله -عز وجل- لا يطلب من الناس أن يُؤدُّوا كلَّ أموالهم، فلو جاءك الآن شخصٌ وقال: كم الأموال الموجودة في حسابك؟ والله مئة ألف، إذن تبرع بالمئة ألف كلّها كاملة، لا، الشَّريعة لا تُريد هذا أبدًا، بل تجد أنَّها ترضى بالشَّيء اليسير، وتقول: «رُبَّ دِرْهَمٍ سَبَقَ أَلْفَ دِرْهَمٍ».
    الخصيصة العاشرة من خصائص الأخلاق: أنَّها ذات أثرٍ اجتماعي:
    فالإسلام دين أخلاقٍ، ودين للحياة، وليس دينَ رهبنةٍ، أو انْزِوَاء، أو جلوسٍ في داخل البيوت أو المساجد وهَزِّ الرؤُوس، لا، الإسلام دين حياة.
    فنحن وُجِدْنَا على هذه الكرة الأرضيَّة لننشر دين الله -عز وجل- ولذلك وقف أحدُ الصَّحابة بعد انتصاره في معركةٍ على البحر وقال: "والله لو أعلم أقوامًا خلف هذا البحر لخُضْتُه"، فهذه رسالتنا، فإسلامنا نورٌ ينبغي أن ينتشر على هذه الأرض كلِّها، وليس أن نتقوقع في الصَّوامع وننعزل.
    فهذه الأخلاق التي ندعو إليها من خصائصها: أنَّك تُمارسها مع الناس، فهناك أخلاقٌ مع الوالدين، وأخلاقٌ مع الزَّوجة، وأخلاقٌ مع الأبناء، وأخلاقٌ مع الجيران، وأخلاقٌ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخلاقٌ مع الله -عز وجل- وأخلاقٌ حتى مع الجمادات، فعندما ترى إنسانًا يكتب ذكرياته على بوابة سوق، أو على جبلٍ، أو على السَّيارات، أو غيرها، فهذه ليست بأخلاقٍ.
    فالمسلم -أيُّها الإخوة- في أخلاقه يتعامل مع الْخَلْقِ ويُؤثِّر ويتأثَّر بهم.
    ولذا لاحظوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»، لهذا تجد أنَّ عباداتنا فيها أخلاقيَّة: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ [العنكبوت: 45]، أي تمنع الإنسان من أن يقع في فحشاء أو مُنكر فيمس الآخرين بشيءٍ ما.
    إذن هي ذات أثرٍ اجتماعيٍّ في علاقتنا مع الآخرين.
    وسنتحدث -إن شاء الله- في دروسنا اللاحقة عن هذا الموضوع كثيرًا، ألا وهو: موضوع الأثر الاجتماعي للأخلاق: كيف نتعامل مع الوالدين بكلِّ ذوقٍ ورقَّةٍ وأدبٍ عالٍ، وكيف نتعامل مع الزَّوجة؟ وكيف نتعامل مع الأولاد؟ والعكس أيضًا: كيف يتعامل الأولادُ مع الوالدين؟ وكيف نتعامل مع الخدم؟ ونرى كيف اعتنت الشَّريعةُ بهذا الموضوع أيّما اعتناءٍ.
    أيُّها الإخوة والأخوات، ديننا دينٌ عظيمٌ، يحتاج فقط إلى أتباعٍ ينقلونه، ولهذا قال أحدُهم: "الإسلام بضاعةٌ جيدةٌ، لم يُرزَق بمُسَوِّقين جيدين. والغرب بضاعةٌ رديئةٌ، لكن رُزِقَ بمُسَوِّقين جيدين".
    فنحن عندنا إسلامٌ ودينٌ وأخلاقٌ ومبادئ وقِيَم، لكن أين حملتها؟ أين مَن ينشرها بين الناس؟ أين مَن يُطبِّقها؟ أين مَن يجعلها فعلًا تصرُّفًا يوميًّا في الناس؟
    لذلك يُنادي الغربُ الآن بمسألةٍ مُهمَّةٍ نحتاج إلى أن ننتبه لها، وهي: ثقافة مجتمعيَّة، كيف تُرسخ ثقافة مجتمعيَّة؟ كيف تجعل النِّظام ثقافة مجتمعيَّة؟ أي تُمارَس من الناس دون الحاجة إلى التَّذكير بها.
    الآن في الغرب بمجرد أن يركب الإنسانُ يضع حزامَ الأمان، ونحن خسرنا ملايين الرِّيالات من أجل حزام الأمان ومع ذلك لم يحصل -للأسف الشَّديد.
    لهذا نحتاج -أيُّها الأحبَّة- أن نتمثَّل هذه الأخلاق في حياتنا، وأن تكون علاقاتنا وتعامُلاتنا مع الآخرين في قمة الذَّوق والأدب.
    نختم لقاءنا في هذا اليوم بعلامات حُسْن الخُلُق:
    هناك مجموعة من العلامات ذكرها أهلُ العلم تدلُّ على حُسْنِ خُلُقِ الإنسان:
    أولها: قِلَّة الخلاف:
    بعض الناس إذا جلس في مجلسٍ يكون هو المُعارِض رقم واحد، بل المُعارِض رقم اثنين وثلاثة وأربعة. لماذا هذا الأمر؟ لماذا لا نكون مُوَطَّؤون أكنافًا؟!
    فالنبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- عندما بعث معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن ماذا قال؟ قال: «تَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» الله أكبر. فأنا أتنازل وأخي يتنازل لنصل إلى حلٍّ وسطٍ، أمَّا هذه العصبيَّة التي نراها، والثَّبات على أشياء أحيانًا قد تكون خطأً، ومع ذلك نُمارسها ممارسةً غير جيدةٍ؛ فهذا غير صحيحٍ.
    ومن علامات حُسن الخُلُق: حُسن الإنصاف:
    أن تُنْصِف الناسَ في حال الغضب والرِّضا، وفي حال القُوَّة والضَّعف، وفي كلِّ الأحوال.
    ومنها أيضًا: ترك طلب العَثَرَات:
    فلا يطلب الإنسانُ عثرات الناس، فإن سمع شيئًا قال: أحمي سمعي وبصري من أن أتحدث في الخَلْق: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 16].
    فيمتنع عن تَتَبُّع العَثَرات؛ لأنَّ مَن تتبع عورةَ امرئٍ تتبع اللهُ عورته وفضحه ولو في قَعْرِ بيته.
    التماس المعذرة:
    نلتمس المعذرة للناس، فإذا خرج إنسانٌ من بوابته أثناء إقامة الصَّلاة نقول: هذا رجلٌ لا يُصلي. فقد يكون مريضًا، وقد يكون ذاهبًا إلى شخصٍ مُصَابٍ. لماذا لا نلتمس الأعذار للآخرين؟!
    أيضًا من علامات حُسْنِ الْخُلُقِ: احتمال الأذى:
    أن نحتمل الأذى من الناس، سواء كان أذى قوليًّا أو أذى فعليًّا، فنحن في هذه الدنيا مُعَرَّضُونَ منذ استيقاظنا إلى منامنا، ومنذ حياتنا إلى مماتنا إلى كلام الناس وإيذائهم أيًّا كان.
    وهذا الكلام يشتدُّ ويزداد عندما نكون قُدوات وكبارًا في المجتمع، وبعض الإخوة يتعجَّب حينما يُسيء إليه الناس مثلًا، أو يتكلمون عنه، فيظن أنَّ هؤلاء الأشخاص يتكلَّمون عليه لكذا، هذا ليس بصحيحٍ.
    فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أُوذِي، وكان يمسح الدمَ ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»، ويقول: «رَحِمَ اللهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ -عليه السَّلام».
    أيضًا من الأشياء: طلاقة الوجه للصَّغير والكبير:
    يقول عبدُ الله بن عمر: "البِرُّ شيءٌ هَيِّنٌ: وجهٌ طَلِيقٌ وكلامٌ لَيِّنٌ". وجه طليق: ابتسامة، فالوجه المُشرِق هو المُبتَسِم، فهو شمسٌ ثانيةٌ تُطِلُّ على الناس، فهل نحن نتعامل مع الخلق بذلك؟
    ولُطْف الكلام لمَن دونه ومَن فوقه، فنتعامل مع الكبار وأيضًا مع الصِّغار بلطفٍ.
    وقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يتعامل مع عمرو بن العاص الذي كان داهيةً من دواهي العرب تعامُلًا راقِيًا، ويتعامل مع أبي عمير تعامُلًا راقِيًا، يقول: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ الْنُّغَيْرُ؟»، تعامل كلُّه رقَّة ورحمة.
    ختامًا -أيُّها الأحبة- تقول الحكمة: "تَعَامَل كمَلِكٍ تُعَامَل كمَلِكٍ. تَعَامَل كعَبْدٍ تُعَامَل كعَبْدٍ"، فأخلاقك ترسم شخصيَّتك عند الناس، فاختر الْخُلُق الذي يجعل لك أجمل شخصيَّة وأفضلها وأحسنها، والتي إن حضرت أحبَّها الناسُ، وإن غابت افتقدها الناسُ، ولا تكن العكس، إن حضرت كَرِهَ الناسُ حضورها، وإن غابت فرح الناسُ بغيابها، كما يحصل لبعض الأزواج ولبعض الأشخاص في هذه الحياة.
    وقُلْ دائمًا في سُجودك وفي كلِّ وقتٍ دعوة نبيك -صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ».
    شكر الله للإخوة خلف الشَّاشات حُسن استماعهم وإنصاتهم، وكذلك الإخوة الكرام هنا في الاستوديو.
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

    تحميل ملف صوت rm
    تحميل ملف التفريغ word


    تعليق


    • #3
      رد: مهارات التواصل الاجتماعي - د/ علي الشبيلي




      مهارات التَّواصُل الاجتماعي
      د. علي الشّبيلي
      الدرس (3)

      http://www.youtube.com/watch?v=QueLrKn2KRk



      بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
      اللَّهُمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وارزقنا الإخلاصَ في القول والعمل، اللَّهُمَّ اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيِّئها، لا يصرف عنَّا سيِّئها إلا أنت.
      مرحبًا بكم أيُّها الإخوة والأخوات في كلِّ مكانٍ، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته تَصِلُكم في أيِّ بقعةٍ من بقاع الأرض في هذا البرنامج الذي نتواصل فيه في الحديث عن الأخلاق، عن مهارات التَّواصُل، عن العلاقات الاجتماعيَّة.
      فمرحبًا بكم في هذا اللِّقاء، ومرحبًا أيضًا بالإخوة الكرام معنا في هذا الاستوديو، وحياكم الله جميعًا، نتحدث حول هذه القضية المهمَّة جدًّا وهي: العلاقات الاجتماعيَّة.
      وكنا في اللِّقاءات الماضية -وهذا هو اللِّقاء الثالث- قد تحدَّثنا عن أهميَّة الأخلاق، وكيف أنَّ الإسلام انتشر بشكلٍ كبيرٍ في شتَّى بقاع الأرض -سواء في الصين أو جزر المالديف، أو التِّبت، أو إندونيسيا، أو الملايو، أو غيرها من بقاع الدنيا- بالأخلاق وليس بالمُناظرات العلميَّة؛ لأنَّ أولئك الأفذاذ الذين دخلوا تلك البلاد لم يكونوا يُتقِنون أيَّ لغةٍ من اللُّغات؛ إنَّما كان هو الخُلُق الذي انتشر به دينُ الله -عز وجل.
      وقد اطَّلعنا على جملةٍ من شهادات أولئك الأشخاص الذين تحدَّثوا عن الإسلام والمسلمين، وأثرهم العميق في نشر دين الله -عز وجل- في شتى بقاع الأرض.
      أيضًا تحدَّثنا في اللِّقاءات الماضية عن: لماذا الاعتناء بقضايا الأخلاق، بالعلاقات الاجتماعية، بالتَّواصل مع الناس؟ وذكرنا جملةً كبيرةً من الأمور التي تجعلنا نحرص على الاهتمام بقضايا الأخلاق، منها:
      - قلَّة الاعتناء بالجانب الأخلاقي في الأمَّة اليوم: فنحن لدينا اعتناء بالجانب العقلي، لكن الجانب الأخلاقي فيه ضعفٌ.
      - أيضًا وجود أزمة تربويَّة أخلاقيَّة، سواء على مستوى المدارس، أو على مستوى الأُسَر، أو على مستوى الشَّارع في تعامل الناس بعضهم مع بعضٍ.
      - وكذلك محاولة تضيق الفجوة بين كثيرٍ من المسلمين الذين سبَّب عدمَ حُسن التَّعامل بينهم الهجر، وقضايا أخرى لا تخفى على أمثالكم.
      تحدَّثنا عن هذا الموضوع بإسهابٍ في وقته.
      ثم انتقلنا بعد ذلك إلى نقطةٍ أخرى، وهي: لماذا ضَعُفَ الاعتناءُ بالجانب الأخلاقي في حياة الأمَّة؟
      وقلنا: إنَّ من الأسباب: غياب التربية الإسلامية أو ضعفها: فالمناهج المدرسيَّة اليوم لا تكاد تبني في الناس هذه القضية.
      وتحدَّثنا عن المدرسة التي في الصين وفي اليابان والتي تعتني ببرتوكول النِّظام، مع أنَّ السَّلف -رحمهم الله تعالى- كانوا يعتنون بقضايا الأخلاق أيّما عنايةٍ؛ بل إنَّ الشخص في الكوفة لا يمكن أن يبدأ طلب حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن يتعلم أمرين: الأدب، والعبادة.
      ولذلك نجد أنَّ الكوفيين لا يبدؤون في تعلم الحديث إلا عندما يصلون إلى عشرين سنة، والعشرون سنة الأولى من حياتهم يقضُونها في ماذا؟ في تعلم الأخلاق، سواء مع أنفسهم، أو مع أهاليهم، أو مع الناس أجمعين، أو في تعامُلهم مع ربِّهم -جل وعلا- ثم يتعلَّمون الجانب العبادي.
      وهذا نجده اليوم مفقودًا في حياة الأمَّة؛ بل حتى على مستوى النُّخبة، فقد تجد شخصًا يملك من العلم الشَّيء الكثير لكن بلا خُلُقٍ.
      وقد نبهنا هنا إلى لطيفةٍ مُهمَّةٍ جدًّا وهي: أنَّ الرجل الذي يُريد أن يتزوَّج تشترط فيه الشَّريعةُ أمرين: الدِّين، والخُلُق: «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَونَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ»، بينما المرأة لم يُذكَر خُلُقُها أبدًا، ولهذا جاء في الحديث: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا»، لكن لم يذكر الأخلاق أبدًا. لماذا؟
      قالوا: لأنَّ كلَّ نساء الدنيا خُلِقْنَ من ضلع أعوج، ولا يُقيم هذا الضّلع الأعوج فيهنَّ إلا الدين، فهو الذي يُهَذِّب المرأة، فقد تجد رجلًا مُتديِّنًا لكن أخلاقه سيِّئة.
      تحدَّثنا كذلك عن غياب القُدوة في المنزل، في الشارع، في المدرسة، فهناك قُدوات -للأسف الشديد- يأمرون بأشياء ثم يقعون فيها، كأن ترى أستاذًا مثلًا يمارس التدخين أمام طلابه، أو يرونه في الخارج يمارس التدخين، أو الأب كذلك؛ فلا شكَّ أنَّ هذه تأتي بردة فعلٍ على الأبناء.
      وتحدَّثنا أيضًا عن سلبية المؤسسات الفاعلة في المجتمع، فاليوم كلُّ مؤسسةٍ تعمل وحدها، فهي أُمَّة وحدها مستقلَّة، والأصل أن تتكامل هذه الأشياء، فالمدرسة والمسجد والأسرة هم بيئة واحدة ينبغي أن تكون الأخلاقُ فيها بانسجامٍ دون أن يكون فيها أيُّ تمايزٍ.
      أيضًا التَّعلُّق بالدنيا وحطامها جعل الناسَ يُقدِّمون الوسائلَ على الغايات، فالغاية سيِّئة -للأسف الشَّديد- لذلك تجد الإنسانَ يفعل كلَّ خُلُقٍ سيِّئٍ من أجل الحصول على المال مثلًا.
      أيضًا قلَّة المَحَاضِن التَّربويَّة، فاليوم لدينا محاضِن تربويَّة –للأسف- إمَّا قليلة وإمَّا ضعيفة، فعندما تدور في هذا العالم تتساءل: أين دور المسجد؟ أين دور حِلَق القرآن؟ أين المدارس القرآنية؟ إلى غير ذلك؛ فتجد أنَّها ضعيفة.
      وتحدَّثنا عن مجالات حُسن الخُلُق، وفضائل حُسن الخُلُق، وأنَّ ما نتحدث نحن عنه هنا دين يسألنا الله -عز وجل- عنه يوم القيامة، فالله -عز وجل- أمرنا أن نتخلَّق بالأخلاق، فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
      ويقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»، بل إنَّ النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- يُخبر أنَّ إحدى أسس بعثته -صلى الله عليه وسلم- هي قضية إتمام مكارم الأخلاق: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
      فهذا الأمر إذا أتقنه الإنسانُ كان -بإذن الله- مُستَحِقًّا للجنة.
      سُئِل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يُدخِل الناسَ الجنَّة فقال: «تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ».
      ولهذا إذا اجتمع في الإنسان تقوى وحُسن تعامل فقد كملت حياتُه كلُّها، ولذا تلاحظون النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ماذا يقول؟ قال: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ»، ثم قال في آخر الحديث: «وَخَاَلِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»، فذكر التَّقوى، ثم ذكر بعد ذلك الخُلُق الحسن؛ لأنَّ قضية الدين وكون الإنسان يتعبَّد الله بمثل هذا الخُلُق لا شكَّ أنَّه يُؤجَر عليه، ولذا ذكرنا في المرة الماضية ما قالته عائشة -رضي الله عنها- حين سمعت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنَّ ابْنَ جُدْعَان فِي النَّارِ»، فقالت: يا رسول الله، ابن جدعان رجل كريم! فقال: «نَعَمْ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مَا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيْئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»، بمعنى أنَّه لم يكن صاحبَ دينٍ.
      ولهذا فإنَّ الأخلاق بلا دينٍ لا قيمةَ لها.
      نحن نجد الآن الناسَ تُثني وتمدح الغربَ في حُسن تعامله ونحو ذلك، وهؤلاء كما قال الله عنهم: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: 7].
      أيضًا من فضائل حُسن الخلق التي تحدَّثنا عنها: نيل الدَّرجات العالية بسبب حُسن الخُلُق، فالذي يتعبَّد الله بهذه الأخلاق ينال درجةً عاليةً في الجنة.
      يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ»، سبحان الله! إنسانٌ يصوم النَّهار كلَّه، ويقوم اللَّيل كلَّه، بينما رجلٌ آخر يبتسم في وجوه الناس، ويُحدِّثهم بالكلمة الطَّيبة، ويُكرمهم، ويُحسِن إليهم، ويُفرِّج هموم الناس، انظر ما الأجر الذي يأتيه؟
      أيضًا من الأشياء: أنَّ حُسن الخُلُق من صفات كاملي الإيمان، يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا».
      ولهذا تُلاحظون أنَّ الشريعة ربطت قضايا كثيرةً من الأخلاق بالإيمان، فلاحظوا معي قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»، ويقول بعدها: «فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُت»، هذا أيضًا نوعٌ من حُسن الخُلُق، وهو انتقاء العبارة الطيبة.
      أيضًا من الأشياء: القُرب من مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومَن منَّا لا يُريد القرب من محمد -صلى الله عليه وسلم؟ لكن هذا يحتاج إلى دفع ضريبةٍ في الدنيا، وهي التَّخلُّق بأخلاق النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
      إننا عندما نتكلم عن تواضُع النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- ثم نُمارس نوعًا من الكبر على الناس أو الغَطْرَسَة أو ردّ الحق أو احتقار الآخرين؛ فلا شكَّ أنَّ هذا مُنافٍ لخُلُق النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
      عندما تتكلم الأُمَّةُ عن أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- عن خُلُق الرحمة مثلًا فيه -عليه الصَّلاة والسَّلام- بينما تُمارس اليوم في كثيرٍ من بلاد الدنيا تصرُّفات مُناقضة تمامًا للرحمة.
      عندما نتحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الصَّادق الأمين الذي لم تُكتب ولم تُؤثَر عليه كذبة، بل كان الأعرابيُّ الكافر يستحي أن يكذب، وسُمِّيَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصَّادق؛ لأنَّه لم يكذب -عليه الصَّلاة والسَّلام- مطلقًا، فهذا ينبغي أن يُمارس اليوم.
      بينما أصبح عندنا اليوم كذبات مُنَوَّعة، فعندنا كذب أبيض وأسود وأحمر -قوس قُزَح- بسبب ماذا؟ بسبب أنَّ الناس -للأسف الشديد- لم يتقوا الله -عز وجل- في ألفاظهم وعباراتهم، وأصبح الإنسانُ يبحث عن الكذبة المناسبة لإقناع مديره؛ لأنَّه تأخَّر عن الدَّوام، وهكذا نحن نُريد أن نُرضي الناس، ومَن أرضى الناس بسخط الله؛ سَخِطَ اللهُ عليه، وأسخط عليه الناس.
      يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا»، ونحن -أيُّها الأحبَّة- دائمًا وأبدًا نحرص على أن يُحبنا الله -جل وعلا- يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللهِ إِلَى اللهِ أَحْسَنَهُمْ أَخْلَاقًا».
      وعندما نقول حُسن الخُلُق فنحن نتكلم عن شيءٍ راقٍ، تعامل عظيم جدًّا، فكما أنَّ الإنسانَ يحرص على الممارسات الكبيرة أو الأمور العظيمة فليحرص كذلك حتى على الممارسات البسيطة، ولهذا تجد الذَّوق عندما يتكلم عنه العلماءُ في الإسلام يذكرون من القصص الشَّيء الكثير، وهذا سنتحدَّث عنه -إن شاء الله- في وقته.
      بل إنَّ حُسن الخُلُق -أيُّها الإخوة- له أثرٌ دُنيويٌّ، يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «حُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيْدَانِ فِي الْأَعْمَارِ»، فتجد هناك بركةً في البيوت التي فيها حُسن الخُلُق، والتي فيها تواصُل بين الناس، أمَّا التي فيها هَجْرٌ فتجد أخًا لا يزور أخاه، والأخت لا يزورها أخوها، والأب والأم في هَجْرٍ وخِصَامٍ، والأبناء بينهم أشياء عظيمة، بل إننا نسمع اليوم عن اثنين من الإخوة أشقاء خرجوا من رحمٍ واحدٍ مُتهاجِريْن، فهذا لا شكَّ أنَّه ليس من دين الله -عز وجل- أبدًا.
      أيضًا في حُسن الخُلُق كسبٌ للقلوب، وهو مَدْعَاةٌ للذكر الحسن، وقوة للمجتمع، ومحبَّة للخَلْقِ، فالْخَلْق يُحبُّون الشَّخص حسن الخُلُق، صاحب الكلمة الطَّيبة، صاحب الابتسامة.
      تذكرون أنني في المرة الماضية أفتيتكم فتوى لابُدَّ أن تنتبهوا إليها؛ لأنَّها من الفتاوى الخطيرة حتى على مستوى الأُمَّة، فما هي؟ هي أنَّ أسنانك ليست عورةً.
      فالمشكلة أنَّ الناس اليوم مُنْقَبِضة منذ خروجها من المنزل إلى أن تعود إلى بيوتها، وتزداد انقباضًا إذا دخلت إلى البيت.
      كم من ابتسامةٍ تخرج للزوجة؟ وكم للأبناء؟ وكم من طُرفةٍ جميلةٍ يُعطيها الرجلُ لهؤلاء؟
      فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجلس بعد العشاء ويُحدِّث نساءه، وفي ليلةٍ من اللَّيالي حدَّثهنَّ بحديث أُمِّ زرعٍ، وكم فيه من الألفاظ الرَّائعة الجميلة، والقصص اللَّطيفة في العلاقة الزَّوجية.
      لهذا أنا أدعوكم اليوم إلى أن تُدخِلوا السُّرور على أنفسكم أولًا؛ لأنَّ مَن يُدخِله على الآخرين يُشِعُّ عليه، ويعود عليه مباشرةً بردَّة فعلٍ جميلةٍ جدًّا.
      كنتُ أُحدِّث طلابي الأسبوع الماضي في الجامع عن هذا الأمر، وهو أنَّ إدخال السُّرور عبادةٌ ينبغي للإنسان أن يحرص عليها، كالطَّرائف، والنِّكَات، والقصص الجميلة، والأبيات الشعرية الرَّائعة، فكلُّها تُحيي في النَّفس شيئًا جديدًا، وتبعث فيها الأمل بعد اليأس.
      فالناس اليوم -يا إخواني- مُتعبة في أعمالها، وفي الشَّارع بسبب الضَّغط، وفي أرزاقهم، وفي عدم حصولها على أشياء كثيرةٍ من الأمور الدُّنيوية التي تُحقق رفاهيةً اقتصاديَّةً، ثم نأتي نحن فنزيد الطِّينَ بِلَّة.
      فينبغي لكلِّ عاقلٍ أن يُدخِل السُّرور على نفسه وأهله، فالمرأة إذا عاد زوجُها إلى المنزل تجعل بيتها جنَّة، أليس النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: «وَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ»؟ فكيف يُمكن أن تسُرّ امرأةٌ زوجها وهي مُغلقة الفم، مُنقبضة الوجه؟!
      فالمرأة العاقلة قلبها ينزف لكن وجهها مُشْرِقٌ كإشراقة الشمس، والزوج العاقل كذلك، فالنبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- كانت عائشةُ تقول عنه: إنَّه ما كان يدخل حتى يَتَسَوَّك. لماذا؟ هذا نوعٌ من التَّهيؤ، ناهيكم عن التَّعامل الدَّاخلي -وهذا سنتحدث عنه إن شاء الله في لقاءٍ كاملٍ- تقول عائشةُ: "كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كثير التَّبَسُّم".
      وقلت لكم المرة الماضية: الذين لا يبتسمون لا يتزوَّجون ولا يُنجِبون أولادًا؛ لأنَّهم يعيشون في ضيقٍ، وضَنْكٍ، وهَمٍّ، وغَمٍّ، فينقلونه إلى الآخرين.
      يقولون: هناك اثنان توأمان، واحدٌ منهما خرج من المنزل، والثاني جلس في البيت، فلما رجع الذي خرج قال له أخوه: الله يرضى عليك، لا تخرج من المنزل؛ فأمي غسلتني مرتين. فهي ظنَّته أخاه في المرة الأولى فوبَّخته، وفي المرة الثانية كلَّمته على أنَّه هو فوَبَّخته أيضًا.
      أدخلوا السُّرور على أنفسكم وعلى الآخرين، والله هذا من الدين، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أسر الناسَ بحُسن تعامله وابتسامته، وسيأتينا بعد قليلٍ حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- وكيف أسره النبيُّ -صلى الله عليه وسلم؟
      هذه الأمور عندما تُذكَر لا تُذكَر -أيُّها الإخوة- من باب التَّرف العلمي، إنَّما تُذكَر من أجل أن تُطبَّق وتُعاش في حياة الناس، وهذه الأشياء تُؤخَذ بالتَّدرُّج -كما ذكرنا لكم في المرة الماضية.
      وقد تحدَّثنا في الأسبوع الماضي أيضًا -أيُّها الإخوة والأخوات- عن منبع الأخلاق ومقياسها، من أين تنبُع الأخلاق؟ ما مرجعنا ومصدرنا في الأخلاق؟
      قلنا خمسة أشياء. أليس كذلك؟
      قلنا:
      - أعراف المجتمع.
      - والضَّمير الإنساني.
      - واللَّذة والمنفعة.
      - والعقل البشري.
      - ثم تحدَّثنا عن الأمر الخامس وهو الإسلام، وأنَّ الإسلام هو منبع الأخلاق، وهو الذي تُحاكَم إليه أخلاقُ الناس.
      وتحدَّثنا أيضًا عن خصائص الأخلاق الإسلاميَّة، وقلنا: إنَّ الأخلاق الإسلاميَّة لها عشر خصائص:
      أولًا: أنَّها ربانيَّة المصدر، فهي من الله.
      ثانيًا: أنَّها عباديَّة القصد، فيُراد بها وجه الله تعالى.
      ثالثًا: أنَّها ثابتة، تتكرر كلما تكرر الفعلُ نفسه، أو الحدث نفسه.
      رابعًا: أيضًا تحدَّثنا أنَّها مثالية واقعية، فهي تدعو إلى السُّمو، فتقول للناس: كونوا أحسن الناس في الأخلاق. ولكنَّها تُراعي ظروف الناس، فالرجل الذي يسرق في شدَّة أزمةٍ وجوعٍ لا تُعاقبه الشريعة، مع أنَّها تدعو إلى العَفَاف والبعد عن هذه الأمور.
      خامسًا: هي أيضًا مُتوازِنة، فلا تُغَلِّب جانبًا على جانبٍ، بل تطلب منك هذا وهذا، فهي تدعو للعزَّة والتَّواضع، والانتصار والعفو، والصَّراحة والاحترام، والكرم والاقتصاد في نفس الوقت.
      سادسًا: أنَّها شُمُوليَّة مُتكاملة، فهي تشمل جميع جوانب الإنسان، فهذه الأخلاق عندما نتحدث عنها لا نتحدث عن تعاون الرجل مع زوجته، ومع والديه، ومع أولاده، ومع جيرانه، لا، بل نحن نتحدث أولًا عن علاقته مع ربِّه -جل وعلا- كيف يتعامل مع الله -عز وجل؟
      فالله أدَّبنا في سورة الكهف فقال: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [الكهف: 23، 24]، فهذا نوعٌ من الأدب.
      وعندما يُذكَر اسم الله -عز وجل- ثم يُثنَى عليه -جل وعلا- بما هو أهله، فهذا نوعٌ من الأدب مع الله -سبحانه وتعالى.
      ومن الأدب مع الله: ترك كثرة الحلف واليمين، فبعض الناس كلَّ صباحٍ مساء تَعُدّ له عشرات الأيمان: والله، والله، والله. وهذا ليس من حُسن الأدب مع الله -عز وجل- لأنَّ الله يُعَظَّم، ومن تعظيمه أن يُعَظَّم اسمُه، فلا يُحْلَف به إلا عند الحاجة.
      فهي تشمل الإنسانَ في تعامله مع ربِّه، ومع الناس، وفي عمله، وفي بيته، وفي السِّلْم، وفي الحرب، وفي الوجدان، وفي الظَّاهر، وفي الباطن، وفي البيع، وفي الشِّراء، وفي كلِّ شُؤون حياته.
      سابعًا: أيضًا قلنا: إنَّها تُنال بالمُجاهَدة، ولذلك فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ» والعلماء قالوا: إنَّ الزِّيادة في المبنى زيادة في المعنى، فعندما نقول: "يَتَصَبَّرْ" معناه: أنَّه يتألَّم، فأنت عندما يأتيك إنسانٌ ويسُبُّك ويشتُمك، ومع ذلك تكظم غيظك، فهذا نوعٌ من الصَّبر الذي يحتاجه الإنسانُ فعلًا لمحاولة دفع أذى أكبر، أو ألفاظ أخرى أشدّ وأشنع، ويصبر عليها الإنسانُ ولا يفعل شيئًا تجاه هذا الأمر.
      ثامنًا: تُؤخَذ بالتَّأسِّي، فمن واقعية الإسلام أنَّه لم يُقدِّم قائمةً بالأخلاق ويقول: طبِّقوا أيُّها الناس هذه الأخلاق. لا، ولكن قدَّم للناس نموذجًا بشريًّا هو محمد -صلى الله عليه وسلم- يُقِيم لهم هذه الأخلاق، ويرونها ماثلةً فيه -عليه الصَّلاة والسَّلام.
      تاسعًا: قلنا: إنَّها تُراعي التَّدرُّج، فالأخلاق لا تُطلَب من الناس بكمِّها الكبير، ولكنَّها تُؤخَذ واحدةً تلو الأخرى.
      عاشرًا: قلنا أيضًا: إنَّها ذات أثرٍ اجتماعيٍّ، فهذه الأخلاق التي أمرنا الله -عز وجل- بها هي في الحقيقة إذا طُبِّقت أصبح المجتمعُ في ودٍّ وسلامٍ ووئامٍ ومحبَّةٍ.
      لاحظ معي قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهذا أرجو أن نتوقف عنده؛ لأنَّ كثيرًا من الناس عندما يتحدَّثون عن قضايا العلاقات الاجتماعية نجدهم يغوصُون ويغرقون في الكتب الأجنبيَّة المُترجمة، وكأنَّهم هم أصحاب أصول الأخلاق، فيأتيك إنسانٌ ويقول لك: "كيف تُؤثِّر في الناس وتكسب الأصدقاء" لـ"ديل كارنجي"، و"العادات السبع" لـ"ستيفن كوفي"، و"علم نفس النَّجاح" لـ"براين تريسي"، طيب وماذا عن كلام الله؟ وماذا عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم؟
      فيأتيك إنسانٌ ويذكر لك قاعدةً غربيَّةً وكأنَّه لم يسبق إليها أحدٌ، بينما لدينا في أخلاقنا، وفي ديننا، وفي شريعتنا أخلاقٌ كثيرةٌ لو طبَّقها الناسُ لحلَّ السلامُ والوِئامُ والمودَّة، أليس النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «وَاللهِ لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا».
      تصور لو أنَّ الأصل بين الناس الكُره، والبغض، والهجر، كيف يمكن أن تحصل هذه المحبَّة؟ كيف يمكن أن يتلذذ الإنسانُ بصلاته عندما يدخل إلى مسجدٍ كلّ مَن فيه مُتفرِّقون؟ فلا يمكن أن يجلس بجوار شخصٍ بينه وبينه قطيعة، أليس هذا واقع؟
      وعندما تدخل بيتك وتكون بينك وبين زوجتك مشكلة، كيف يمكن أن تتلذذ بالحياة؟ فيظل هذا الإنسان مُنْزَوِيًا في زاويةٍ، وانعزل عن الناس، ولا يتلذذ بالحياة، ولا يستمتع بها، ولذلك فإنَّ العُمر قصير، يُقَصِّرُهُ سُوء الأخلاق.
      فالإنسان لا يمكنه أن يُعطي وأن يكون له أثرٌ في الدنيا مالم يكن مُرتاحًا نفسيًّا.
      فالسَّكينة الدَّاخلية، والاطمئنان الدَّاخلي، والرَّاحة النَّفسيَّة جزءٌ من العطاء، ولهذا تجد الإنسانَ يقل عطاؤه في داخل المنزل مثلًا في تواصُله أو في كلامه أو في تعليمه لأولاده أو لزوجته بسبب سُوء التَّعامل بين هذين الطَّرفين.
      لاحظوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ».
      فإذا دخل الإنسان بيته فلابُدَّ أن يقول: السلام عليكم، وتجد بعض الناس حين يتَّصل عليه ولدُه أول ما يقول هو: ما تبغي؟ طيب، وأين السلام عليكم؟!
      وحين تتصل الزوجة يقول لها مُباشرةً: ما الأمر؟
      لماذا لا نُعوِّد أنفسنا ألا نرد على الشَّخص حتى يُسلِّم، فهذا نوعٌ من الأدب.
      والنبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- كما في سُنن أبي داود أخبر أنَّ "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" بثلاثين حسنة، فإذا نُقِصَ منها "وبركاته" أصبحت عشرين، وإذا قيل: "السلام عليكم" أصبحت عشرًا.
      فهذه ممارسات في الدنيا نحتاج أن نتعلَّمها ونُطبِّقها في حياتنا اليومية.
      وقد أخبر النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه: «مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَقُولُوا: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا».
      وجاء في جامع الترمذي بإسنادٍ حسنٍ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللهَ»، لماذا؟ ما علاقة هذا بهذا؟
      العلاقة -أيُّها الإخوة- أنَّ الإنسان إذا اعتاد على أخلاقٍ مُعينةٍ يُمارسها بعد ذلك مع كلِّ أحدٍ.
      لهذا أحيانًا يهدي شخصٌ لشخصٍ ولا يسمع منه كلمة شكرٍ واحدة، وأحيانًا تُهدِي الزوجةُ لزوجها هديةً وتضعها عند رأسه في غرفة نومه، وتمر هذه الهدية بسلامٍ. فهل هذا بشر عنده قلب، ولديه مشاعر يستشعر بها مثل هذا الموقف أم لا؟
      والابن أحيانًا قد يتعب ويجمع من مصروفه ويُهدي لوالده ساعةً مثلًا أو أي شيءٍ، وبعد ذلك تجد الوالد يستقبلها بكلِّ برودٍ.
      أين هذا من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم: «فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَقُولُوا: جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا».
      ثم هناك بعض الناس يقول: إن شاء الله سأُكافئه وأشتري له هديةً، لكن ليس الآن.
      تقول العربُ: "إحسانٌ قليلٌ مُعَجَّلٌ خيرٌ من إحسانٍ كثيرٍ مُؤَجَّلٍ"، فأنت قد تُعطي ولدك بعد شهر ألف ريال، فأعطِه مئةَ ريال الآن خيرٌ من ألفٍ، لأنَّ لها حلاوةً الآن في موطنها وموقفها.
      وذكرنا علامات حُسن الخُلُق، وتحدَّثنا عنها كثيرًا.
      واليوم نتحدَّث عن هذا الموضوع، وهو: العلاقات الاجتماعية، نُعَرِّفُهَا -إن شاء الله- وَنُعَرِّف أيضًا مهارات الاتِّصال، ثم نذكر جملةً من الأشياء العامَّة التي تُعيننا على ذلك.
      وابتداءً من اللِّقاء القادم -إن شاء الله- سنبدأ بالتَّفصيل، بمعنى أننا سنتحدث عن مهارات العلاقة الاجتماعية بين الرجل ووالده، وبين الزوج وزوجته، وبين الأب والوالدين وأولاده، وبين الناس بعضهم مع بعضٍ، وفي قضية التَّعامل مع الخدم، ومع الجيران، ومع كلِّ شيءٍ نحتاج أن نتواصل معه، سواء كان التَّواصل هذا مُباشرًا -أي يكون الشخص أمامك- أو غيرَ مباشرٍ –كأن يكون الشَّخصُ بعيدًا عنك- لأنَّ بعض الأشخاص قد تتواصل معهم عن طريق الماسِنجر مثلًا أو غُرف الشَّات، أو غيرها من البرامج الموجودة الآن في كثيرٍ من الأجهزة، فيحتاج هذا أيضًا إلى حُسن أدبٍ وتعاونٍ؛ لأنَّ الإنسان أحيانًا عندما يكون بعيدًا عمَّن يُحدِّثه يتجرَّأ عليه، ويكون فهمه سيِّئًا، وهذه قضية نحن سنتحدث عنها -إن شاء الله- في وقتها، فكثيرٌ من الناس يتواصلون عن طريق هذه الأجهزة الموجودة بين أيديهم، ومن ثَمَّ تُفهَم الرِّسالة على غير وجهها الحقيقي، إنَّما هي بنفسيَّة المُرْسِل. فكيف نستطيع أن نتجاوز مثل هذا الأمر؟
      نريد أن نُدرِّب أنفسنا من خلال هذه اللِّقاءات على حُسن الظَّن بالناس، بحيث لا تُؤوَّل العبارات ولا الأفعال على شيءٍ لا يليق.
      نريد أن نتعلم أيضًا اجتناب كثير من التَّصرُّفات التي لا تليق بالإنسان، ونريد أن نتعلم أيضًا حُسن الخُلُق مع الغائب.
      أُعطيكم مثالًا جميلًا: واحدٌ من الإخوة دخل إلى مجلسٍ، ولما قام منه ووصل إلى الباب ليلبس حذاءه -أكرمكم الله- ويخرج، التفت فجأةً، وفي أثناء التفاته وجد واحدًا من الحاضرين قد مدَّ لسانه كأنَّه يستهزئ به، فوقعت هذه النَّظرة على مد اللِّسان. تصور! فأيّ أثرٍ سيقع في قلب الإنسان على هذا الشخص؟
      وهذه من التَّصرُّفات والأفعال التي سنتحدَّث عنها -بإذن الله تعالى- في وقتها.
      دعونا اليوم نتعرف على العلاقات الاجتماعية.
      أولًا: ما تعريفها؟
      والكلام أيضًا للإخوة والأخوات خلف الشاشة.
      المراد بها: الرَّوابط المتبادلة بين الأفراد والمجتمع، والتي تنشأ من طبيعة اجتماعهم وتبادل مشاعرهم، واحتكاك بعضهم ببعضٍ.
      فالإنسان إنَّما سُمِّيَ إنسانًا لأنَّه يأنس بإخوانه، ولهذا إذا أصبح الإنسانُ مُنعزِلًا فهو مريضٌ، فمَن يَقْبَعُ في زاويةٍ من زوايا بيته ويُغلِق على نفسه مُلحَقَه، أو بابَ غرفته، ولا يخرج للتَّعامل مع الناس؛ فيه مرضٌ يحتاج إلى أن يُعالَج منه.
      إذن: نحن سنتحدَّث عن الرَّوابط المتبادلة بين الأفراد والمجتمع، والتي تبدأ من طبيعة اجتماعهم، وتبادل مشاعرهم، واحتكاك بعضهم ببعضٍ.
      ما الرَّوابط المتبادلة؟
      الرَّوابط الأُسريَّة نوعٌ من هذه الرَّوابط، وهي مُتبادلة بين زوجٍ وزوجةٍ، وبين وَالِدِيْنَ وأولادٍ.
      وكذلك الرَّوابط المُتبادلة بين الإمام والمأمومين، فهي أيضًا نوعٌ من الرَّوابط التي نتحدَّث عنها هنا.
      وروابط الصَّداقة والأُخوة مع بعضنا البعض، فنجد اليوم أشخاصًا يعيشون مع بعضهم البعض سنين طويلة، ثم فجأة يبتعدون ويتنافرون، بسبب ماذا؟ سُوء تصرُّف، فأحدهم صبر، وصبر، وصبر، حتى جاءت القَشَّةُ التي قَصَمَت ظهر البَعِير بتصرُّفٍ مثلًا غير محسوبٍ، ومن ثَمَّ ترك صاحبَه وهجره بالكُليَّة، بينما الأصل أن يكون هناك نوعٌ من المحبَّة والامتزاج.
      لاحظوا معي: في صلاة الفجر والدنيا مُظلمة وليس ثَمَّة ضوءٌ إلا شيء يسير من وقودٍ يُوقَد بالزيت في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فلمَّا انتهت الصلاةُ تخطَّى عمر الصفوف من شوقه لمعاذ بن جبل، واحتضن معاذًا بين الصُّفوف.
      فهذه المشاعر اليوم فُقِدَت، فالإنسان يقول عندما يُصاحِب أخاه في الشهر الأول: أُحبُّك في الله. وانتهى الموضوع، وهذه الكلمة لها ضريبة.
      ولهذا تُعجبني الأبيات التي قالها الشِّيرازي صاحب الرُّباعية المشهور، يقول:


      قَالَ لِي المَحْبُوبُ لمَّا زُرْتُهُ:



      مَنْ بِبَابِي؟ قُلْتُ: بِالْبَابِ أَنَا


      قالَ لِي: أَخْطَأْتَ تَعْرِيفَ الْهَوَى



      حِينَمَا فَرَّقْتَ فِيهِ بَيْنَنَا


      وَمَضَى عَامٌ فَلَمَّا جِئْتُهُ



      أَطْرُقُ الْبَابَ عَلَيْهِ مُوهِنَا


      قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: انْظُرْ فَمَا



      ثَمَّ إِلَّا أَنْتَ بِالْبَابِ هُنَا


      قَالَ لِي: أَحْسَنْتَ تَعْرِيفَ الهَوَى



      وَعَرَفْتَ الحُبَّ فَادْخُلْ يَا أَنَا





      لاحظوا إلى أيِّ درجةٍ حصل بينهما الانصهار، فلمَّا كلَّمه في المرة الأولى قال: مَن بالباب؟ قال: أنا. فكأنَّه فصل بينه وبين هذا الشَّخص.
      فلمَّا جاءه في السنة التي بعدها، قال:


      قَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: انْظُرْ فَمَا



      ثَمَّ إِلَّا أَنْتَ بِالْبَابِ هُنَا


      قَالَ لِي: أَحْسَنْتَ تَعْرِيفَ الهَوَى



      وَعَرَفْتَ الحُبَّ فَادْخُلْ يَا أَنَا




      ومن الأشياء الجميلة والأبيات التي تحضرني في هذا المجال: أنَّ شخصًا كان جالسًا مع زوجته في ليلةٍ مُقمرةٍ، فقالت الزوجة:


      قَالَتْ: أَتُعْجِبُكَ النُّجُومُ



      وَقَدْ تَوَسَّطَهَا الْقَمَرْ


      قَدْ رَاحَ يَنْشُرُ ضَوْءَهُ



      الْفِضِّيَّ فِي أَبْهَى الصُّوَرْ؟


      فَأَجَبْتُهَا: إِنِّي أَرَى



      قَمَرَينِ أَيُّهُمَا الْقَمَرْ؟


      وَأَرَى الَّذِي بِجَانِبِي



      غَطَّى عَلَى كُلِّ الْبَشَرْ


      مِسْكِينُ يَا قَمَرَ السَّمَاءِ



      أَرَادَ تَقْلِيدَ الْقَمَرْ




      انظروا لهذه الأبيات الرَّقيقة الجميلة الرَّائعة التي إن فعلتها اللَّيلة فسيحصل لك من الخير الشَّيء العظيم، ستعمل لك زوجتك أكلات رائعة مثل: كيك فيها عشرون كيس دريم ويب، وأكلات عجيبة، بسبب ماذا؟ أبيات شعرية.
      فالكلمة الطَّيبة صدقة، والكلمة الطَّيبة عطر اللِّسان، فإذا خرجت كلمةٌ جميلةٌ نَثَرَتْ روحها وعبيرها وجمالها على المُحِيطين، وعلى هذا الشَّخص، وتظلّ في داخل أعماق قلبه يستنزفها كلَّما أراد أن يُجدد حُبَّه لك.
      إذن: العلاقات الاجتماعيَّة هي: الرَّوابط المتبادلة -كما ذكرنا.
      هناك روابط متبادلة في العمل، فكيف تكون علاقة الموظفين مع بعضهم البعض؟ وكيف تكون العلاقة مع رئيس العمل؟
      وكذلك الرَّوابط بين الحاكم والمحكوم، فهذا نوعٌ من العلاقة، فأنت تجد في بعض البلدان أنَّ الحاكم كأنَّه جزءٌ من العائلة، فيُحبه الناس، ويطلقوا عليه أحيانًا لفظًا مُعيَّنًا حتى يجعلوه جزءًا منهم. بينما في بعض البلدان لا تجد ذلك.
      فهذا واقع موجود، ولهذا فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ»، فهؤلاء خير أُمرائنا كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «وَشَرُّهُمْ الَّذِينَ تَكْرَهُونَهُمْ وَيَكْرَهُونَكُمْ، وَتَدْعُونَ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُونَ عَلَيْكُمْ».
      إذن حتى بين الحاكم والمحكوم ينبغي أن تكون هناك روابط متينة؛ ولأنَّ هذه الرَّوابط -للأسف الشديد- فُقِدت أصبحت قضية المُواطنة قضية باهتة، لا قيمةَ لها، ولا فائدةَ منها أبدًا؛ لأنَّ هذا الشخص في أبراجٍ عاجيَّةٍ، وهؤلاء يعيشون في حالةٍ مُزْرِيَةٍ من الفقر والعوز وغير ذلك، ومن ثَمَّ لا يشعرون أنَّهم جزءٌ من هذا المكان. فهذا نوعٌ من العلاقات التي يمكن أن نتحدَّث عنها.
      أيضًا سنتحدَّث -إن شاء الله في وقته- عن مهارات الاتِّصال، لكن قبل أن ندخل في هذا المجال دعونا نأخذ أهمية العلاقات الاجتماعية، ما فائدتها؟
      - أول فائدةٍ هي أنَّ العلاقات الاجتماعيَّة تُشْبِع حاجةً نفسيَّةً للإنسان:
      فأيُّ إنسانٍ -أيُّها الإخوة- يبحث عمَّن يُحبُّه، ومَن يودُّه، ومَن يُؤنِسه في الحياة، ومَن يُعطيه كلمةً طيبةً، ولهذا عندما يكون لك تعامل راقٍ في المنزل، وتعامل راقٍ في الشارع، وتعامل راقٍ في المسجد؛ تجدك مُندَفِعًا لهذا المكان، فأنت تحبُّه وتألفه. أليس كذلك؟
      كثير من الأخوات يقلن: أزواجنا لا يمكثون في المنزل! معهم حق، وهذا ليس تبريرًا، ولكن هي نتيجة طبيعيَّة لتصرُّفات تُلقى في المنزل، فالإنسان لا يجد عبارات طيبة، ولا يجد ثناءً عليه، ولا يجد شُكرًا له على ما يقوم به في داخل المنزل، حتى لو كان ما يقوم به واجب، ومع ذلك الكلمة الطيبة ستجعله يزيد في هذا الواجب، لكن لا نجد هذه الكلمات والعبارات الحانية، فمتى جاءت الزوجة لزوجها وقالت له: اليوم عندي لك طُرفة جميلة؟ متى يقولون هذا الكلام؟
      أصبحنا مُرهَقِين في الحياة، فكلُّ حياتنا ركض منذ الصَّباح إلى أن ننام، حتى متى؟!
      ويخسر بعضُنا البعض، ونخسر أنفسنا، ونخسر أزواجنا، ونخسر الدنيا، ونخسر أخواتنا، ونخسر إخواننا بسبب هذا الأمر.
      ولذلك يحتاج الإنسانُ أن يتوقَّف قليلًا، ويُراجع نفسه؛ لأنَّه أحيانًا يسير في طريقٍ خاطئٍ دون أن ينتبه، لكنَّه قاتل على المدى البعيد، قاتل بشكلٍ غير طبيعيٍّ.
      فعندما تكتشف بعد مرور خمس عشرة سنة من حياتك وأنت تركض أن الناس كلهم قد نفروا من عندك. بسبب ماذا؟ إمَّا انشغال، أو سُوء تعامل، أو عدم مُشاركتهم في مناسبات، سواء كانت فرحًا أو ترحًا. فكلُّ هذا يجعل الناسَ تبتعد عنك شئتَ أم أبيت.
      ولهذا فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُشارك الجارية، والطِّفل الصَّغير، ويأخذ جُلَيْبِيب على ساعده ويقول: «اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْهُ، فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُ عَنْهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِجُلَيْبِيبَ»، وهو رجلٌ من عامَّة الناس، حتى قال عبدُ الله بن مسعود: "لقد تمنيتُ أن أكون أنا الميت في تلك اللَّيلة". لماذا؟ لحُسن تعامله الذي أثَّر في الصَّغير والكبير، والذكر والأنثى، والجارية والسيد، ورئيس قومه، وكان كلُّ هذا بسبب حُسن تعامل راقٍ جدًّا من هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم.
      ويكفيه فخرًا وشرفًا أنَّ الله قال عنه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
      فالواو واو القسم، و(إن) توكيديَّة، واللام توكيديَّة، و"عظيم" و"خلق" مُنَكَّرة، أي أنَّ هذا زيادة في بيان عِظَم خُلُق النبي -صلى الله عليه وسلم.
      إذن أول قضية -إخواني الكرام- هي: إشباع حاجةٍ نفسيَّةٍ عند الإنسان.
      - أيضًا من الفوائد أنَّها: تُؤدِّي إلى حياةٍ علميَّةٍ وعمليَّةٍ ناجحةٍ:
      تصور –أخي الكريم- أنَّ حياة الإنسان كلَّها نكدٌ، فإذا دخل المنزل لا يجد إلا نكدًا، وإذا ذهب إلى عمله كذلك، وتصور أنَّ علاقتك برئيس العمل غير جيدةٍ، وعلاقتك مع زوجتك سيئة، وعلاقتك مع أولادك أسوأ، وهكذا.
      وقد أرسلت لي اليوم في تويتر واحدةٌ من الأخوات تقول: أنا أكره أبي كرهًا.
      والله تقول هكذا، وتقول: أنا عندي أخ عمره ست سنوات يكره أبي، وعندي إخواني كلّهم يكرهون أيضًا والدي، وعمرها هي تسع عشرة سنة. فهل هذا الفعل يرضاه دينٌ، أو عقلٌ بسبب مشاعر، بسبب موقفٍ بسيطٍ؟!
      هو نتيجة أيضًا لمرحلةٍ عمريَّةٍ تمر بها الفتاة، فتتفاقم عندها هذه الأمور وتكبر، ويُصبح هذا الإنسان هو عدوها اللَّدود.
      نقول: إنَّ الحياة العلميَّة العمليَّة النَّاجحة لا يُمكن أن تأتي إلا وَفْقَ جوٍّ وظروفٍ نفسيَّةٍ مريحةٍ وسعيدةٍ، أمَّا مَن كانت علاقته الاجتماعيَّة فاشلةً أو غير سليمةٍ فهذا سيُؤدِّي إلى فشله في التَّعليم، وفي التَّعامل أيضًا مع الناس. كيف؟
      الماوردي -رحمه الله- في "أدب الدنيا والدين" قال: "ولا علاقةَ للعمر بطلب العلم، فإنَّ الإنسان قد يطلبه وهو كبيرٌ ويفتح الله عليه، وإنَّما كان الكبيرُ لا يستوعب العلمَ بسبب كثرة مشاغله وهمومه" وهذا صحيح، والهمُّ لا يأتي -أيُّها الإخوة- إلا من بيئةٍ جاذبةٍ للهمِّ، وليست جاذبةً للسَّعادة والرَّاحة والسَّكينة والطُّمأنينة.
      إنسان ليس لديه حُسن تعامل، ولا يشعر بأنَّه جزءٌ من هذا البيت، وليس مُنتميًا إليه، ولا يجد كلمةً طيبةً فيه؛ سيضطر إلى الخروج للبحث عن نجاحاتٍ أخرى في الخارج.
      لذلك تجد بعض الناس في عملهم مُميزين جدًّا، لماذا؟ لأنَّ الرجل من طبيعته أنَّه لا يمكن أن يعيش عيشةً سعيدةً في الدنيا إلا إذا كان ناجحًا، فالنَّجاح يُمثِّل هَمًّا كبيرًا عنده، وقضية أساسيَّة في حياته، فإذا لم يجدها في داخل البيت ولم ينجح مع زوجته بحث عنها في الخارج قطعًا، لهذا لابُدَّ أن تنتبه المرأة.
      وأنا يُعجِبني كتابًا لزوجة ديل كارنيجي، اسمها دورثي كارنيجي، فقد ألفت كتابًا سمَّته "ادفعي زوجك إلى النَّجاح".
      فانظر لخديجة –رضي الله عنها- كيف دفعت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حتى بَقِيَ وفيًّا لها -صلى الله عليه وسلم- إلى أن مات؟ وهو يذبح الذَّبيحة يُوزِّعها في صُويحبات خديجة، ولما قدمت هالة بنت خويلد وسمع صوتها تذكر صوت خديجة -رضي الله تعالى عنها وصلى الله على نبينا محمد.
      هذا الوفاء جاء بماذا؟ بأن هذه المرأة دفعته للنجاح: "كلا والله لا يُخْزِيك الله أبدًا".
      تصور إنسانًا يأتي مُتعبًا من العمل، فتقول له زوجته: أنت دائمًا هكذا عصبي، ومن المؤكد أنَّك اليوم أسأت للمدير. فهذه الكلمة ليس هنا مكانها، فبعد الحوار يمكن أن يظهر لكِ هذا الشَّيء، لكن في البداية يجب أن تقولي له: الله يعطيك العافية، فكلُّ شيءٍ يذهب -إن شاء الله- ويزول. بدون الدُّخول في تفاصيل خاصَّة في البداية.
      فخديجة –رضي الله عنها- ما قالت له: ماذا فعلت؟ ما جاء بك؟
      أبدًا، فالسُّنة النبويَّة لم تذكر هذا، فحديث عائشة في صحيح البخاري ومسلم أنَّها قالت: «كَلَّا وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ»، ثم دثَّرت النبي -صلى الله عليه وسلم- باللِّحَاف؛ لأنَّه كان خائفًا حتى ترتجف بوادره -صلى الله عليه وسلم والبوادر هي هذه اللَّحمة التي هنا- من شدَّة الخوف، فزمَّلته ودثَّرته، ثم ارتاح.
      ثم ماذا فعلت؟ ذهبت به إلى ابن عمِّها لتستشير مَن هو أعلم منها، فقال: "إنَّ هذا النَّامُوس الذي أُنزِل على موسى". ثم أخبره بعد ذلك بالطَّريق الذي سيشُقُّه، قال: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟» قال: "نعم، ما أُوتِي أحدٌ بمثل ما أُوتِيت إلا أُوذي، وإن يُدركني..."، انظر لقد سجَّل فعلًا في تلك اللَّيلة موقفًا يُذكَر له. ماذا قال ورقة بن نوفل؟
      قال: "وإن يُدرِكَني يومُك أنصرك نصرًا مُؤزَّرًا". سبحان الله.
      قال عنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك: «لَقَدْ رَأَيْتُ الْقِسَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ»، فالرجل الآن كبيرٌ في السن، ومع هذا سجَّل موقفًا في ذلك اللِّقاء: إن يُدركني يا محمد موقفك وذلك الأمر الذي يحصل لك في خروجك من مكة، أنصرك نصرًا مُؤزَّرًا.
      ما هذا الدَّعم النفسي؟! ما هذا الحب لهؤلاء؟! ما هذه المُؤازرة والنَّصر لأولئك الأشخاص؟! هذه قمة الأخلاق التي نتحدَّث عنها.
      وهذه رسالة للزَّوجات، ورسالة للأزواج، فالمرأة تمر بها مراحل في حياتها الشَّهرية تحتاج فيها إلى دعمٍ وكلمةٍ طيبةٍ.
      والمرأة التي تتغير هكذا فجأة، لابُدَّ أنَّها تغيرت بسبب ألمٍ بدنيٍّ، أو ألمٍ قلبيٍّ أصابها غيَّر من حالها، فهي تحتاج عندئذٍ إلى شخصٍ ذكيٍّ.
      ولهذا فإنَّ بعض الأزواج لَمَّاحِيْنَ أذكياء، وبعضهم لا يكاد يفهم شيئًا، فيذهب إلى غرفته وينام بينما هي تتألم، فعندما تأتي إليها وهي في ألمٍ فمعنى ذلك أنَّها بحاجةٍ فقط إلى كلمةٍ واحدةٍ تمسح عنها جراح الدنيا من زوجها؛ لأنَّه هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يقف معها، والتي لكلمته قيمة لا توجد عند شخصٍ آخر.
      لهذا سأتحدَّث عن هذا -إن شاء الله- بالتَّفصيل -بإذن الله- في مهارات مُهمَّة ومُعتمدة على الكتاب والسُّنة، وأيضًا من علاقات الناس الاجتماعيَّة في حُسن التَّواصُل بين هذين الزَّوجين.
      - أيضًا من الأشياء -أيُّها الإخوة- تخفيف المشاقِّ والأزمات التي يُواجهها الفرد في حياته مثلما ذكرنا قبل قليلٍ كيف أنَّ خديجة استطاعت أن تُخفف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذه مُهمتنا في الحياة: التَّخفيف عن الناس. ولهذا تجد بعض الإخوة حين يُلقي كلمةً مثلًا أو درسًا ماذا يفعل؟ يجلد الذين أمامه: وأنتم، وأنتم، وأنتم. فيُوجه أصابع الاتِّهام للآخرين، وهذا ليس صحيحًا، فالناس مُرهَقة، ومُتعبة في بيتها، وفي عملها، وفي شارعها، وفي كلِّ مكانٍ، فينبغي أن تكون أماكن العبادة هي مكان الراحة والسَّعادة، والأُنْس، والسَّكينة.
      كذلك نفس الشيء في بيوتنا، فينبغي أن نُخفف عن الناس المشاقّ والأزمات التي يُواجهونها في حياتهم.
      ولهذا لاحظوا: في هذا الموضوع بالذات -وهو تخفيف المشاق- جعل الله -عز وجل- الجزاء من جنس العمل، فمَن فرَّج عن مؤمنٍ كُربةً أو نفَّس عن مؤمنٍ، أو مَن فعل كذا، فكلُّ الجزاء من جنس العمل، كأنَّه يقول لك: بقدر ما تفعل بقدر ما تحصل على هذه الأشياء، وهي تخفيف المشاق وغيرها.
      - أيضًا من الأمور -أيُّها الإخوة- وهي القضية الرَّابعة: أنَّها تُؤدِّي إلى إشباع حاجة الحب والانتماء:
      فكلُّ إنسانٍ -أيُّها الأحبة- له مجموعةٌ من الحاجات التي يطلبها ويحرص على أن تكون مُتوافرةً في المجتمع والبيئة المُحيطة به، ونحن قد تحدَّثنا في لقاءٍ سابقٍ عن أنَّ هناك خمس قضايا تُبْنَى عليها المجتمعات، هل تذكرونها؟
      تفضل أخي اذكرها.
      {- مَن أنا؟ (تحديد الهُويَّة).
      - أُشبِه مَن؟ (تحديد الانتماء).
      - مَن أتبع؟ (تحديد المرجعيَّة).
      - ماذا أفعل؟ (تحديد الأهداف المرحليَّة).
      - ماذا أُريد؟ (تحديد الأهداف الاستراتيجيَّة)}.
      أحسنت ألف مرة.
      إذن:
      - مَن أنا؟ (تحديد الهُويَّة).
      - أُشبِه مَن أنا؟ (تحديد الانتماء).
      - مَن أتبع؟ (تحديد المرجعيَّة).
      - ماذا أفعل؟ (تحديد الأهداف المرحليَّة).
      - ما قيمة ما أفعله؟ (تحديد الأهداف الاستراتيجيَّة).
      وذكرنا النقطة الثانية: الانتماء.
      الآن تجد كثيرًا من الآباء يقول الواحدُ منهم: والله ابني لا يريد أن يجلس في المنزل، وهو مُرَاهِق. هذا طبيعي. لماذا؟ لأنَّه ليس مُنتميًا إلى البيت.
      فكيف نجعل البيت جنَّة الابن المُرَاهِق؟ وهذا هو الإبداع الأبوي، كيف تجعل البيت مكان الرَّاحة والسَّعادة له؟
      البنات بطبيعتهنَّ حِلْسُ بيوتهن، ولكن أنت تتكلم عن شابٍّ لديه سيارة، ولديه أصدقاء، وعلاقات اجتماعيَّة في الخارج، مَن هو الصَّديق رقم واحد في حياة الأبناء؟ هل هم نحن؟ لا، للأسف الشَّديد.
      لماذا لا نعترف أننا فشلنا في إرساء علاقة متينة بيننا وبين أولادنا؟
      لأنَّ هذا الاعتراف هو البداية الحقيقيَّة لإصلاح أوضاعنا، فأولادنا اليوم يكرهون المكوث في المنزل. لماذا؟ لأنَّهم لا يجدون إلا جلدًا صباحَ مساء، فالإنسان كتلة من المشاعر والأخلاق، وإذا لم يُحترم ويُقدَّر فإنَّه سيضيع.
      إذن: هذه أربعة أشياء أيُّها الإخوة:
      - إشباع حاجة نفسيَّة للإنسان.
      - تُؤدِّي إلى حياةٍ علميَّةٍ وعمليَّةٍ ناجحةٍ، فلا يمكن لأحدٍ أن يعبد الله وهو في حالةٍ مُزْرِيَةٍ من الألم والحزن، وهو يعبد الله لكن لا يجد الراحة والخشوع الذي يطلبه.
      - تخفيف المشاقّ والأزمات التي يُواجهها الفرد في حياته.
      - تُؤدِّي إلى إشباع حاجة الحب، فالإنسان الذي يشعر أنَّه مكروهٌ من البيئة التي هو فيها صغُرت أو كبُرت لا قيمةَ للحياة عنده؛ بينما الشخص الذي يشعر أنَّه محبوبٌ، وأنَّ الناس تألفه، وأنَّ الناس تودُّه، وأنَّ الناس تُثنِي عليه، فبمجرد ما يُقبِل تُقبل الناسُ بقلوبها على هذا الإنسان؛ فلا شكَّ أنَّ هذا يجعل له قيمةً في داخله هو؛ لأنَّ أعظم ما يُصَاب به الناس: الفقر المعنوي. كيف يحصل الفقر المعنوي؟
      الفقر المعنوي هو شعور الإنسان بأنَّه لا قيمةَ له، وأنَّه غير محبوبٍ، وأنَّه غير مرغوبٍ فيه، عندئذٍ يبدأ في عالم الشَّقاء، ويعيش في صحراء قاحلة جافَّة وحده دون أن يُشاركه أحدٌ في هذه الدنيا.
      طيب، نحن سنتكلم فيما تبقى من الوقت عن قضايا أساسيَّة لتحقيق التَّعامل، قضايا عامَّة، تفضَّل.
      {شيخ، أحسن الله إليك، نرى أنَّ حُسن الخُلُق له صور كثيرةٌ. فما ضابط حُسن الخلق؟}.
      ضابطها سيأتينا -إن شاء الله- عند تعريف الحسن البصري، وتعريف عبد الله ابن المبارك، وتعريف ابن عمر، ثم سنتحدَّث -إن شاء الله- عن التَّعريف النِّهائي له، وسيأتينا هذا -بإذن الله تعالى.
      طيب، نحتاج الآن أن نذكر مجموعةً من القضايا الأساسيَّة ليتحقق التَّعامل الحسن بين الناس، فنذكر مجموعةً من الأمور كتذكيرٍ عامٍّ بها يحتاجها كلُّ إنسانٍ في جميع العلاقات: في علاقتك مع نفسك، وفي علاقتك مع والديك، وفي علاقتك مع زوجتك، ومع أولادك، ومع جيرانك، ومع أصدقائك، ومع أصحابك في العمل، وفي كلِّ مكانٍ أنت بحاجةٍ إلى هذه الأمور.
      الأمر الأول: جَمِّل باطنك: فالكِبر والغُرور أمراض تُعَكِّر صفو الحياة، بل تُناقِض العبودية لله تعالى، ولهذا عندما يكون الإنسانُ مُتكبِّرًا مغرورًا فلا شكَّ أنَّ هناك حالة من تَمَرُّدِ الناس عليه، فالناس تكره الشَّخص الذي يتكبَّر عليها، ولكنَّها تُحبُّ الشخص المُتواضِع الذي ينزل إليها.
      ولهذا كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في قمة التَّواضُع، ولما جاءه رجلٌ -كما في صحيح مسلم- وقال: يا رسول الله، إنَّ الرجل يُحبُّ أن يكون ثوبُه حسنًا، ونعله حسنًا. فهل هذا من الكِبر؟ قال: «لَا، الْكِبْرُ بَطرُ الْحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاسِ»، وفي روايةٍ: «وَغَمْط»، وكلاهما في صحيح مسلمٍ: بالصاد وبالطاء.
      فالإنسان الذي يحتقر الآخرين ويتكبر عليهم ويشعر أنَّه أفضل منهم وأحسن لا يُحبُّه الناس ولا يقربونه أبدًا.
      لهذا ينبغي لِمَن أراد أن يتعامل تعامُلًا حسنًا أن يكون مُتواضعًا مع الآخرين.
      ولهذا يقولون في الحِكَم: "الكِبر والذُّل توأمان مُتلاصِقان"، فالمُتكبِّر ذليل والناس لا ترغبه، والدِّيك إذا نفش ريشَه سهُل نتفُه، ومشية الطاووس فيها نوعٌ من الكبر، وهو مثال على الحيوانات المُتكبرة، فهو يمشي بنوعٍ من الخُيلاء والتَّبختر على الآخرين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن بعض طرق المشي؛ لأنَّ فيها نوعًا من الكبر، فقال: «إِنَّ هَذِهِ لَمِشْيَة يَبْغَضُهَا اللهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْطِن».
      أيضًا من الأشياء -أيُّها الإخوة- قَوِّي حركة الأفكار والمشاعر. كيف؟
      الإنسان يحتاج دائمًا أن تكون مشاعرُه تجاه الآخرين جيَّاشةً، وعندئذٍ لا يمكن أن يجرح الآخرين، فعندما تكون مشاعرك صادقةً ستبذل هذه المشاعر للآخرين ولن تجرحهم بأيِّ كلمةٍ؛ لأنَّ قضية المشاعر مُقدَّمة لديك.
      والناس عبارة عن كُتلةٍ من المشاعر، سواء كانوا صغارًا أو كبارًا، فتجب مُراعاة هذه المسألة، وهي أنَّ الشخص الذي أمامك تجرحه كلمة، وقد تُلقِي بكلمةٍ تبقى في نفسه دهرًا.
      وكم من أناسٍ تربَّصوا بأشخاصٍ مواطن أخرى من أجل أن يردُّوا لهم الصَّاع صاعين، بسبب ماذا؟ كلمة تجرح، خاصَّةً إذا كانت في مكانٍ عامٍّ، أو رسالة جارحة بجوَّالٍ أو غيره.
      أيضًا من الأشياء المُهمَّة التي نحرص عليها في هذا الموضوع: اسأل نفسك: فهذه قضية مُهمَّة جدًّا، فنحن نحتاج أن نقف مع أنفسنا، وجميل أن يسأل الإنسانُ نفسَه بين فترةٍ وأخرى: هل أنا لطيف؟ هل أُراعي مشاعر الآخرين وحقوقهم؟ هل أنا أناني أُفكِّر في رغباتي الخاصَّة؟ هل أنا صريحٌ أكثر مما ينبغي إلى درجة إيقاع الآخرين في الحرج؟ هل أنا مُلتزمٌ بالحد الأدنى من حقوق المسلمين؟ هل أنا محبوبٌ عند الآخرين؟ هل أنا أُؤدِّي الواجبات الشَّرعية تجاه الناس؟ هل أنا ممن يُراعي مناسبات الناس سواء كانت فرحًا أو حزنًا أو غيرها؟ هل أُؤدِّي حقوق المسلمين التي عليَّ من السلام، وعيادة المرضى، وتشميت العاطس، وكذا، وكذا؟
      فهذه أسئلة مهمَّة جدًّا.
      وعندما نسأل أنفسنا في البداية قد تكون لدينا إجابات مُشوشة، لكنَّها ستنفعنا في المرة الثانية والثالثة والرابعة، وسنجد أننا نملك -بإذن الله تعالى- نوعًا من الصَّراحة مع أنفسنا.
      - أيضًا الاستقامة عنوان السَّعادة: وهذه المسألة مُهمَّة جدًّا، وهي أنَّ الإنسان إذا عصى انقبض قلبه، وانقبض صدره، ولا تجد هناك حُسن تعامُل مع الآخرين.
      انظر ماذا يقول الله -عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97]، فلا شكَّ أنَّ من الحياة الطيبة انبساط النَّفس وراحتها وسُرورها.
      الآن تجد بعض الأشخاص يذهب إلى العمل وهو في حالةٍ مُزريةٍ، سواء وجهه، أو تعامله مع الناس. ما السبب؟ تجد السَّبب أنَّه مرَّ عليه موقفٌ، أو تعطَّلت السيارةُ، أو نحو ذلك.
      وأحد الأسباب الرَّئيسة قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا لَمْ يُصَلِّ الْفَجْرَ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَان». هذا خبيث النفس، وخبيث النفس هل ترجو منه كلمةً طيبةً؟! فهو مُنقَبِضٌ أصلًا بسبب هذه المعصية.
      ولهذا قال أبو الدَّرداء: "إنَّ العبد ليخلو بمعاصي الله، فيُلقِي اللهُ بغضَه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر". نعوذ بالله من الزَّلل.
      وكما قال ابنُ القيم -رحمه الله: "من آثار الذُّنوب: الوَحْشَة التي يجدها الإنسانُ بينه وبين الناس، ولا سيَّما أهل الخير". فإنَّه يجد وحشةً وانقباضًا، فكيف يجلس إنسان مثلًا على الشَّات أو يشاهد مقاطع يوتيوب مُحرَّمة، أو أفلام، أو نحو ذلك، ثم يريد علاقةً سعيدةً مع زوجته؟!
      أنا وصلت إلى قناعة أنَّ 80% من مشاكل الزَّوجين شرارتها الأولى بسبب ذنبٍ ارتكبه أحدهما، يقول الله -عز وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30].
      ولهذا جاء في كتاب "الزهد" في جامع الترمذي عن الحسن مُرسلًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «مَا مِنْ نَكْبَةِ حَجَرٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ يُذْنِبُهُ الْعَبْدُ، وَمَا يَعْفُو اللهُ عَنْهُ أَكْثَر، اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُم قَوْلَهُ تَعَالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾».
      إذن الذُّنوب مشكلة ومُصيبة على الناس، والاستقامة راحة وسعادة وهدوء، وتجعل الإنسانَ يتعامل مع الآخرين بنفسٍ مُنشَرِحةٍ عظيمةٍ.
      - أيضًا من الأشياء التي نُنبه عليها: الابتسامة في وجوه الناس: فهي شمس أخرى.
      - أيضًا من الأمور: قل للمُحْسِن: أحسنت. فالثَّناء كلمة حلوة تُعجِب الناس جميعًا.
      - وأيضًا: أحبّ لأخيك ما تُحبُّه لنفسك.
      فكلُّ هذه قضايا تحتاج من الإنسان أن ينتبه لها.
      وأختم لكم بمسألةٍ هي: لا تُنَقِّب: إنَّ من أسوأ ما يمكن أن يُمارسه الإنسانُ مع الآخرين: التَّنقِيب، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنِّي لَمْ أُؤْمَرْ أَنْ أُنَقِّبَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ عَنْ بُطُونِهِمْ»، وهذا في صحيح البخاري.
      فالعبرة بظاهر الرجل، أمَّا التَّنقيب فهذا ليس بصحيحٍ، وأيُّ تصرُّفٍ يراه الإنسان لا يُؤوله بعد ذلك، وليأخذه على ظاهره دون أن يدخل في نيَّات الآخرين وغيرها، فإنَّ هذه مفسدة لعلاقات الناس بعضهم مع بعضٍ، ولذلك قال الله -عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6]، لكي يبتعد عن هذا التَّنقيب.
      التَّبَيُّن متى يحتاجه الإنسان؟ يحتاجه إذا ظهرت لهذا الأمر دلالات قويَّة على أنَّ هذا الأمر مُرادٌ به كذا، أمَّا الشيء الظَّاهر والعَرَضِي فإنَّ الإنسان لا يُنَقِّبُ فيه أبدًا.
      ولذلك قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيْحَتَنَا؛ فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ». أخرجه البخاري.
      هذه مجموعة من الأمور العامَّة التي نَحرص عليها في تعامُلنا مع الآخرين.
      والأسبوع القادم -إن شاء الله تبارك وتعالى- سنبدأ بالحديث عن مهارات التواصل، وندخل -إن شاء الله- في مهارات التواصل الخاصَّة، أي التَّعامُل مع الوالدين، والزَّوجين، والأولاد، إلى غير ذلك من الأمور -إن شاء الله.
      الآن نأخذ بعض الأسئلة:
      يقول السَّائل: {ما الطُّرق العلميَّة التي يجب على طلاب العلم والمُوجِّهين التَّربويين اتِّخاذها للإصلاح؟}

      هذا هو محور حديثنا -إن شاء الله- في هذه اللِّقاءات، فسنتعلم الطُّرق المناسبة سواء على المستوى الجماهيري، أو على المستوى الفردي -إن شاء الله.
      يقول سائلٌ آخر: {هل نشر الأخلاق فرضُ عينٍ أم فرضُ كفايةٍ؟}
      الأخلاق دين، والصدق دين، والأمانة خُلُق وهي دينٌ أيضًا، وهي من الأشياء التي حثَّنا عليها شرعنا.
      يقول السَّائلُ: {بأيِّ وسيلةٍ تستطيع الأمر بتلك الأخلاق والناس لا تتقبَّل أن تدخل بينها وبين مَن تُخاصِم؟}
      هنا تأتي مهارات التواصل وأهمية هذا الدرس أننا نبحث عن الطُّرق المناسبة للإصلاح بين الناس، فالإصلاح بين الناس دينٌ، والله -عز وجل- قال: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: 128]، والنبي -صلى الله عليه وسلم- جعل من أعظم العمال الصَّالحة: الصُّلْح، والتي أجاز فيها الكذب، ومعناه أنَّه يمكن للإنسان أن يجد طرقًا كثيرةً قبل الوصول إلى مسألة الكذب.
      وأحيانًا يُقال لك: ليس من شأنك أن تتكلم بالأمر.
      لا، أحيانًا سبب ردّة الفعل من الناس هو أنَّ الأسلوب الذي نستخدمه يكون أسلوبًا غير مناسبٍ، أو أنَّهم تعوَّدوا على أسلوبٍ أحيانًا جارح، أو التَّدخُّل في الخُصُوصيَّات، فنحتاج نحن أن نبحث عن أساليبَ جيدةٍ قبل الدُّخول في صُلحٍ أو نحو ذلك.
      وسنتكلم -إن شاء الله- على بقية الأسئلة في اللِّقاءات القادمة.
      نتوقف عند هذا الحدّ، وأشكر لجميع الإخوة والأخوات خلف الشَّاشة حُسن استماعهم وإنصاتهم.
      وأسأل الله -عز وجل- أن يُوفِّقنا وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، وأسأله أن يهدينا وإيَّاكم لأحسن الأخلاق، وأن يصرف عنا سيِّئها، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

      تحميل ملف صوت rm
      تحميل ملف التفريغ word



      تعليق


      • #4
        رد: مهارات التواصل الاجتماعي - د/ علي الشبيلي




        مهارات التَّواصُل الاجتماعي
        د. علي الشّبيلي
        بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
        أمَّا بعد، إخوتي وأخواتي سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكلِّ خيرٍ.
        مرحبًا بكم في كلِّ بقاع الأرض، مرحبًا بكلِّ مَن تصله هذه الصُّورة المُشاهَدة في هذه السَّاعة، والتي نتحدث فيها عن شيءٍ من أخلاق أو من مهارات التواصل التي ينبغي للإنسان أن يحرص عليها في علاقته مع الآخرين أيًّا كانوا.
        فمرحبًا بكم، ومرحبًا أيضًا بالإخوة الكرام الذين يجلسون معنا في هذا الاستوديو، فحيَّاكم الله جميعًا.
        نحن تحدَّثنا في الأسابيع الماضية في مُقدِّمةٍ أخلاقيَّةٍ تتحدث عن أهمية الأخلاق، وأثر الأخلاق، ومصادر الأخلاق، وأصول الأخلاق أيضًا، ثم ختمنا في المرة الماضية بالحديث عن جملةٍ من الأمور التي ينبغي أن يُراعيها الإنسانُ في حديثه مع الناس وفي تعامله معهم.
        ثم كان الحديثُ أيضًا في المرة الماضية عن أهمية العلاقات الاجتماعية بين الناس، وتحدَّثنا عن أربعة أمورٍ، كان أولها ما هو مُشَاهد أمامكم: إشباع حاجةٍ نفسيَّةٍ للإنسان.
        فالإنسان بطبعه مدنيٌّ كما يقول كثيرٌ من أهل العلم، فهو بحاجة إلى شخصٍ يُؤنسه، ولهذا مَن حسُن خلقُه وتعامله مع الآخرين أحبه الناسُ؛ فأشبع هذه الحاجة في داخله.
        إضافةً إلى أنَّها تُؤدِّي إلى حياةٍ عمليَّةٍ وعلميَّةٍ ناجحةٍ، فكلُّ إنسانٍ يسعى لتحسين خُلقه مع الآخرين شعر بسعادةٍ، ومن ثَمَّ أعطى، ولهذا كلَّما كثر النَّكدُ بالإنسان والهم والغَم لم يستطع الحركة، وإن تحرك فهي حركة بطيئة الأولى به أن يفعل شيئًا أكبر منها.
        أيضًا من أهمية العلاقات الاجتماعية: تخفيف المشاقّ والأزمات التي يُواجهها الفردُ في حياته.
        فكلُّ إنسانٍ عندما يكون محبوبًا من الآخرين يشعر بأنَّ هناك دعمًا وحمايةً له، وهذه الأخلاق إنَّما جاءت لدعم الناس فعلًا، فإذا ما وقع إنسانٌ يومًا من الأيام وكان صاحب خلقٍ حسنٍ وتعاملٍ رائعٍ رأيت الناسَ كلَّهم يرفدونه، ولهذا كانت العرب تقول: "صاحب المعروف لا يقع، وإن وقع وجد مُتَّكأً".
        فصاحب المعروف لا يقع، ليس فقط في الدنيا، بل حتى في الآخرة.
        ولهذا أخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، ويدعوهم الله -عز وجل- على رؤوس الخلائق يوم القيامة من أجل أن يشفعوا في الخلق.
        كلّ هذا لماذا؟
        تكرمةً لهم بحُسن صنيعهم وفعلهم في هذه الدنيا.
        إذن مَن كان حسن الخُلُق مع الآخرين إذا مرض سعى الناسُ زرافاتٍ ووحدانًا إلى بيته، وإذا احتاج مالًا وافتقر وجد الناسَ أيضًا قريبين منه، يسعون بكلِّ ما يستطيعون من جاههم ومالهم من أجل إسعاد هذا الشَّخص، وإذا مات له قريبٌ رأيت الناسَ أيضًا يُبادرون إلى إسعاده، وإلى الوقوف بجواره، وإلى تَضْمِيد جراحه.
        كلّ هذا بسبب أنَّه حسن التَّعامل.
        بينما العكس بالعكس؛ فإذا كان إنسانٌ لا يكاد يتحرك أبدًا، وهو مُنْزَوٍ على نفسه في داخل بيته، وإذا دخل المسجدَ صلى وخرج دون أن يتعامل مع الناس، فتجد أنَّ الناس لا يعرفونه، ولا يعرفون اسمه، بل إذا سُئِل عنه الناس من أجل زواجه هو، أو من أجل زواج أحد أبنائه؛ لا يعرف أحدٌ عنه شيئًا، لا اسمه ولا رسمه؛ بسبب أنَّه لا يتعامل مع الناس بتعامُلٍ حسنٍ.
        ثم إنَّ العلاقات الاجتماعية تُؤدِّي إلى إشباع حاجة الحب والانتماء:
        وقد ذكرنا في درسٍ سابقٍ أنَّ أناسًا ذهبوا في سيارةٍ، وتعطلت السيارةُ في الطريق، وكانت معهم امرأة معها طفلها الصَّغير، ومعهم صحفي في نفس هذه السيارة، وبعد خمس دقائق إذا بسيارةٍ تأتي وتُصلح لهم هذه السيارة المُتعطِّلة، ثم يسيرون، فيقول الرجلُ الصحفي: "إنَّ في عنقي دَيْنًا لابُدَّ أن أوفيه للبلد الذي أنتمي إليه". بسبب ماذا؟ لأنَّ بلدهم لم تجعلهم يتعذَّبون في الحر، وهذه السيارة سيارة مجانية تمر على الناس من أجل الأعطال التي تحصل للناس في الطريق.
        لا شكَّ أنَّ هذا يجعل للإنسان انتماءً للمكان الذي هو فيه.
        ونفس القضية بالنسبة للشَّخص الذي يعمل في مؤسسةٍ، أو ينتمي لأسرةٍ، أو إلى جماعة مسجد، إن وجد حبًّا وأخلاقًا وحُسن تعامل انتمى لهذه المجموعة ورأى أنَّها جزءٌ منه، وهو جزءٌ منها أيضًا.
        إذن هذه هي أهمية العلاقات الاجتماعية من خلال العناصر الأربع السَّابقة.
        نحن اليوم -أيُّها الإخوة- سنتحدَّث عن رؤية الإسلام لقضية الأخلاق، ثم سنتحدَّث عن الانطباع الأول، ثم كيف نستطيع أن نتعرف على أخلاقنا؟ نتعرف عليها عن طريق ماذا؟ ثم سنتحدَّث عن صور العلاقات الاجتماعية المتنوعة في المجتمع، وإذا سمح الوقت تكلَّمنا عن مبادئ ومفاهيم في العلاقات الاجتماعية.
        الإسلام ككلٍّ -عقيدةً، وشريعةً، وأخلاقًا، ومُعاملاتٍ- يعتني اعتناءً كبيرًا بالبعد الخُلُقي والجانب الأخلاقي، والبعد الاجتماعي.
        تأمل مثلًا الصلاة، تجد أنَّ الصلاة التي أمر الله -عز وجل- بإحيائها جماعة، هذه الجماعة لا شكَّ أنَّها تكاتُف وتآلُف، ولهذا فإنَّ الشريعة منعت الإنسانَ من أن يُصليها في بيته، بل يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم: «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ كَمَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى التَّأْمِينِ وَالسَّلَامِ»، فالتَّأمين الذي تُرَجُّ به المساجد تجد أنَّ هذا الشُّعور يُعطي الإنسان نوعًا من القوة والشُّعور بأنَّ معه أناسًا يرفدونه.
        ولهذا تجد الإنسان قد يتكاسل عن العبادة والطَّاعة، بينما في رمضان مع هذا العدد الكبير والضَّخم تجد أنَّ العبادة تكون سهلةً عليه. لماذا؟ لأنَّ فيها نوعًا من التعاون.
        والحج فيه جانبٌ عظيمٌ، ولذلك لما سُئِل ابنُ عمر عن الحج، قال: "شيءٌ هينٌ"، وفي رواية : "البر"، لكن ذكر في الحج أنَّه: "شيءٌ هَيِّنٌ، وجهٌ طَلِيقٌ وكلامٌ لَيِّنٌ" يحتاجه الإنسان في تعامله مع الآخرين.
        والزكاة إنَّما شُرعت من أجل التَّطهير الداخلي: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بهَا [التوبة: 103]، لكن هناك بُعدٌ آخر، وهو أنَّ هذا الفقير يشعر أنَّ أخاه الغني لم يحتوِ هذا المال ويضعه في خزائن، أو يضعه في بنوكٍ دون أن يُشاركه جزءًا منه، ولا شكَّ أنَّ هذا يجعل لهذه العبادة طعمًا عند الآخرين.
        وكذلك في المعاملات: تجد أنَّ المعاملات يحرص فيها الإسلامُ على الجانب الأخلاقي، فينهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن النَّجَش، وينهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، كلّ هذا معناه ماذا؟ المحافظة على ألا يُمس المجتمع من خلال بعض التَّصرُّفات في البيع والشِّراء.
        بل ينهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن كتمان العيب في السلع، ويذكر أنَّ البركة تكون بأن يُظهِر الإنسانُ كلَّ عيبٍ موجودٍ في سلعته: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا»، ويقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا بَيَّنَا -أي العيوب التي في السلعة- بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِذَا كَتَمَا مُحِقَ بَيْعُهُمَا».
        معنى هذا ماذا؟ جانب أخلاقي أيضًا في قضية البيع.
        إذن الإسلام يحرص في كلِّ شيءٍ -في العقائد، والعبادات، وأيضًا المُعاملات- على الجانب الأخلاقي.
        أمَّا الأخلاق فتجد أنَّ نصوص الشَّريعة التي تحُثُّ الناسَ على الأخلاق كثيرة جدًّا، إمَّا مُباشرة، وإمَّا تجدها من طرفٍ خفيٍّ تُرسل للناس رسائل تقول لهم: إنَّ الجمال الحقيقي في التَّعامل الإسلامي، وسنرى جملةً من هذه الأشياء.
        انظروا إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَلَا يَهْجُرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ».
        انظر لهذه النَّواهي الواضحة، ممنوع التَّدابُر، ممنوع التَّقاطع، ممنوع التَّهاجُر، وإذا كان ثَمَّة شيء في نفسك أيُّها المسلم فنُعطيك مهلة ثلاثة أيام -اثنين وسبعين ساعة- بعدها ينبغي أن تعود المياه إلى مجاريها، فإذا لم تعد أصبح عليك إثمٌ عظيمٌ.
        يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ سَنَةٍ كَانَ كَسَفْكِ دَمِهِ»، أي كأنَّ عليه إثمَ قتل نفسٍ.
        ويقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «أَحْسَبُ أَنَّهُمَا إِذَا مَاتَا عَلَى صَرَامَيْهِمَا دَخَلَا النَّارَ».
        ويقول -عليه الصَّلاة والسَّلام: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرْفَعُ صَلَاتُهُمْ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ شِبْرًا: ... وَرَجُلٌ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ». كلَّ هذا ما معناه؟
        معناه أنَّ الجانب الأخلاقي جانبٌ مرعيٌّ في الإسلام، وأنَّ الناس ينبغي أن تكون مُتآلفةً ومُتحابَّةً ومُتوادَّةً؛ لأنَّ هذا أصلٌ من أصول الإسلام التي تسعى إليها الشَّريعة.
        ولهذا إذا رُزِق الإنسانُ مثل هذا الأمر لا شكَّ أنَّه يكون مُوفَّقًا مُسدَّدًا مُعانًا في هذه الدنيا.
        نأخذ جملةً من الجمل الرائعة التي نطق بها ابنُ القيم -رحمه الله- يقول: "أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلَّة أدبه عنوان شقاوته وبَوَاره، فما استُجْلِب خيرُ الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استُجْلِب حرمانهما بمثل قلَّة الأدب، فانظر إلى الأدب مع الوالدين كيف نَجَّا صاحبَه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصَّخرة، والإخلال به مع الأم تأويلًا وإقبالًا على الصَّلاة -جُرَيج- كيف امْتُحِنَ صاحبُه بهدم صَومَعَتِه وَضَرْبِ الناس له ورميه بالفاحشة".
        سبحان الله، بسبب حُسن الأدب نَجَّا الله أصحاب الغار، فقد قال أحدُهم: "اللَّهم إنِّي قد جئتُ ووالديَّ قد ناما وإني لا أغبق غَبُوقًا قبلهما، فوقف على رأس أمه حتى أصبح الصباح، وأطفاله يَتَضَاغَونَ جوعًا عنده"، فغفر الله له وأخرجهم من تلك الصَّخرة التي أطبقت عليهم.
        بينما جُرَيج نادته أمُّه ثلاث مرات: "يا جريج، يا جريج، يا جريج". قال: "اللَّهم أمي وصلاتي-كما في صحيح مسلم- اللَّهم أمي وصلاتي، اللَّهم أمي وصلاتي". فلم يستجب لأمه فقالت: "اللَّهم لا تُمته حتى تُريه وجوه المُومِسات"، أي الزَّانيات -والعياذ بالله- فحصل له ما حصل.
        ثم يقول ابنُ القيم مُعلِّقًا: "وانظر إلى أدب الصِّديق مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصَّلاة أن يتقدَّم بين يديه". فلما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد أحسَّ به أبو بكر فرجع وقدَّم النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فكان يقتدي بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويرفع صوته للناس، فهذا الأدب من أبي بكر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال بعدها أبو بكر: "ما كان ينبغي لابن أبي قُحافة أن يتقدَّم بين يدي رسول الله".
        يقول: "فهذا الأدب أورثه مقامه والإمامة بعده"، أي أصبح إمامًا في مكان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصبح أيضًا خليفةً للمسلمين بعد النبي -عليه الصَّلاة والسلام.
        ثم إننا حين نتأمَّل أيضًا في نصوص الوحيين الكتاب والسُّنة نجد قضية الأدب في اللَّفظ في التعامل مع الله، أو التعامل كذلك مع البشر.
        تأمَّل معي قول الله تعالى حكايةً عن المسيح -عليه السَّلام- يقول: ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة:: 116]، ثم يقول بعدها: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة: 117]، سبحان الله، انظر لهذا الأدب مع الله -سبحانه وتعالى: ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: 116، 117]، حُسْنُ أدبٍ مع الله -عز وجل- في الخطاب واللَّفظ.
        إبراهيم حكى الله -عز وجل- عنه وهو يصف علاقته مع ربِّه، فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 78- 80]، ولم يقل: "أمرضني" حفظًا للأدب مع الله تعالى.
        والخضر -عليه السلام- قال: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا[الكهف: 79]، ولم يقل: "فأراد ربُّك أن أعيبها" مع أنَّه كله قدر من الله -عز وجل- لكن حُسن الأدب.
        فلمَّا جاءت قضية حصول الأولاد على الكنز قال: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف: 82]؛ لأنَّ هذا فضل من الله -عز وجل- على الولدين بحصولهما على الكنز.
        وانظر ماذا قالت الجن: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ [الجن: 10]، ما قالوا: "أراد الله بهم شرًا". ﴿أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن: 10].
        انظر إلى تعامل يوسف مع إخوانه: ﴿وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف: 100]، ولم يقل: الجُبّ، مع أنَّ الأصل أن يذكر إخوانه بأصل مُصيبته كلّها وهي رميهم له في داخل الجُبّ، ولكن ذكر السجن.
        انظر أيضًا لأدب محمد -صلى الله عليه وسلم- عندما ذكر الله عنه -عز وجل- في حادثة الإسراء والمِعْرَاج، قال: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم: 17]، أي لم يلتفت لا يمنةً ولا يسرةً، ولا يلتفت إلى أيِّ جهةٍ، فهذا حُسن أدبٍ مع الله تعالى، كأنني أتصوره -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهو في قمة الأدب والخشوع بين يدي ربه -سبحانه وتعالى- وهذا حُسن تأدُّبٍ وتعظيم لهذا الخالق.
        ولهذا لما كان الحسن والحسين يُقْدِمَان على الصلاة يُقْدِمَان وهما في قمة الخشوع، فقيل لهما: لِمَ؟ قالا: "أتدرون مَن نقابل؟".
        هذا الشُّعور الداخلي ينبغي أن يُحييه الإنسانُ عندما يقف بين يدي ربه، فيشعر أنَّه يقف بين يدي جبار السَّماوات والأرض فيتأدَّب معه.
        قيل للعباس مرةً: أنت أكبر أم النبي –صلى الله عليه وسلم؟
        قال: "هو أكبر، وأنا وُلدتُ قبله".
        بل قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حاثًّا صحابته -رضي الله تعالى عنهم، وهذا ما سنأتي إليه الآن في قضية الانطباع، وتكوين الانطباع الأول: «إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ فَأَحْسِنُوا لِبَاسَكُمْ، وَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ؛ حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ». أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم.
        ولهذا يقول ابنُ القيم -رحمه الله- في كثيرٍ من كتبه: "الأدب هو الدين كلّه"، وهذا صحيحٌ، فنحن نتعامل إمَّا مع الله أو مع رسوله –صلى الله عليه وسلم- أو مع الناس، أو مع الجمادات والحيوانات، وكلّ هذه مبثوثٌ في الشريعة الحديث عنها.
        ولهذا ينص العلماءُ دائمًا في كتب الأدب -خاصَّة كتب المصطلح حين يذكرون آداب المُحَدِّث وآداب طالب العلم أيضًا- على أهمية الأدب في الصِّغر، وأهمية الحرص على الأدب بالنسبة لطلاب العلم.
        ولهذا يقول الثَّوري -رحمه الله: "حُسْنُ الأدب يُطفئ غضبَ الرب".
        وكان الإمامُ مالك يقول: "كانت أمي تُعَمِّمُنِي -تلبسه العمامة- وتقول: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه".
        وكان هناك منهج عند السَّلف، وهو أنَّهم ينظرون إلى خُلُقِ الرجل وأدبه قبل أخذ العلم عنه، وأهل الكوفة لا يسمحون لأولادهم بدخول مجلس الحديث إلا بعد عشرين سنة؛ حتى يتعلَّموا أمرين: العبادة، وحُسن الخُلُق والتَّعامل مع الآخرين.
        ولا شكَّ أنَّ هذا خيرٌ كبيرٌ يفعله الإنسان.
        قال إبراهيمُ بن الحبيب بن الشَّهيد: "قال لي أبي: ائتِ الفقهاء والعلماء وتعلم منهم، وخُذْ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإنَّ ذاك أحبّ إليَّ من كثيرٍ من الحديث".
        وقال أحدُ السلف لابنه: "يا بُني، لأن تتعلم بابًا من الأدب أحبُّ إليَّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم".
        وهذا صحيح، فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب لنا مثلًا امرأةً عابدةً ولكنَّها تُؤذِي جيرانها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «هِيَ فِي النَّارِ»، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- تأديب الأولاد وحثّهم على هذا الأمر -وهذا سيأتينا في العلاقة مع الأولاد بإذن الله- سببًا من أسباب دخول الجنة.
        ولهذا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ -بنت- فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَزَوَّجَهَا؛ فَلَهُ أَجْرَانِ»، طبعًا وليدة تعني: خادمة، كما عند البخاري ومسلم.
        وجاء أيضًا أنَّه قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ ابْنَتَانِ فَأَحْسَنَ أَدَبِهِمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ».
        فلا شكَّ أنَّ هذا كلَّه يدلُّ على فضل التَّأديب.
        وإنَّ مَنْ أَدَّبْتَهُ فِي زَمَنِ الصِّبَا

        كَالْعُودِ يُسْقَى الْمَاءُ فِي غَرْسِهِ

        حَتَّى تَرَاهُ مُورِقًا نَاضِرًا

        بَعْدَ الَّذِي أَبْصَرْتَ مِنْ يُبْسِهِ

        وَالشَّيْخُ لَا يَتْرُكُ أَخْلَاقَهُ

        حَتَّى يُوَارَى فِي الثَّرَى رَمْسُهُ

        إِذَا ارْعَوَى عَادَ إِلَى جَهْلِهِ

        كَذِي الضَّنَى عَادَ إِلَى نَكْسِهِ

        والشاعر يقول:
        مَا وَهَبَ اللهُ لِامْرِئٍ هِبَةً

        أَفْضَل مِنْ عَقْلِهِ وَمِنْ أَدَبِه

        هُمَا حَيَاةُ الْفَتَى فَإِنْ فُقِدَا

        فَإِنَّ فَقْدَ الْحَيَاةِ أَحْسَنُ بِه

        ولذا نحن نُنادي من خلال هذا المنبر بالاهتمام بقضية الأدب والخُلُق والممارسات وحُسن التعامل، فيُعَلَّمُ الولدُ كيف يتعامل مع الوالدين، ومع المدرس، ومع المسجد، ومع الجمادات، ومع كلِّ شيءٍ؟ ولا شكَّ أن هذا سيُعينه، بدل أن يكون كبيرًا ثم نجد منه تصرُّفات حَمْقَاء كتلك التي نراها من كثيرٍ من الشَّباب بسبب أنَّ والديهم قد فرَّطوا في تأديبهم منذ الصغر.
        يقول أحمد شوقي في قصيدته المشهورة الجميلة:
        بَيْنَ الْحَدِيقَةِ وَالنَّهَرْ

        وَجَمَالِ أَلْوَانِ الزَّهَرْ

        سَارَتْ مَهَا مَسْرُورَةً

        مَعَ وَالِدٍ حَانٍ أَبَر

        فَرَأَتْ هُنَالِكَ نَخْلَةً

        مُعْوَجَّةً بَيْنَ الشَّجَرْ

        فَتَنَاوَلَتْ حَبْلًا وَقَالَتْ

        يَا أَبِي هَيَّا انْتَظِرْ

        حَتَّى نُقَوِّمَ عُودَهَا

        لِتَكُونَ أَجْمَلَ فِي النَّظَرْ

        فَأَجَابَ وَالِدُهَا: لَقَدْ

        كَبُرَتْ وَطَالَ بِهَا الْعُمُرْ

        وَمِنَ الْعَسِيرِ صَلَاحُهَا

        فَاتَ الْأَوَانُ وَلَا مَفَر

        قَدْ يَنْفَعُ الْإِصْلَاحُ وَالتَّهْذِيبُ

        فِي عَهْدِ الصِّغَرْ

        وَالنَّشْءُ إِنْ أَهْمَلْتَهُ

        طِفْلًا تَعَثَّرَ فِي الْكِبَرْ

        تعالوا ننظر إلى قضيةٍ مهمَّةٍ جدًّا وهي: تكوين الانطباع الأول، وهي قضية من القضايا المُهمة والأساسيَّة.
        نحن اليوم نعيش في زمنٍ مُعقَّدٍ، والناس من تعقيد هذا الزمان تُعَقِّد نفسها، بمعنى أنَّ كلَّ واحدٍ من الناس يُطالبك بأن تعامله معاملةً خاصَّةً، ولهذا نحن بحاجةٍ إلى معرفة الأساليب العامَّة الكبرى التي يمكن من خلالها جذب أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس.
        من الأشياء الأساسية التي يحرص عليها الإنسانُ في تعامله مع الآخرين: أن يرسم انطباعًا جيدًا، الانطباع الأول؛ لأنَّ الناس لا تكاد تنسى الصورة الأولى، فالصورة الأولى عندهم لا تكاد تُفارِق أذهانهم، إن كانت حسنةً أو سيئةً.
        كيف نُكوِّن الانطباع الأول؟
        أولًا بلبس الثِّياب المناسبة للمكان أو الموقف: فالأعراس لها لباسها، والسفر له لباسه، والنزهة لها لباسها، ومقابلة الناس أيضًا له لباسه، فعندما يأتي رجلٌ وجيه ويُقابله إنسانٌ بملابس رياضيَّة مثلًا عند باب بيته، أو يُقابله بملابس نوم؛ لا شكَّ أنَّ هذا الإنسان سينطبع في ذهنه أنَّ هذا الشخص لا يُقَدِّر الرجال، ولا يعرف قيمتهم، ولا يُحسِن أيضًا استقبالهم، ومن ثَمَّ يحتاج الإنسانُ في كلِّ مكانٍ أن يلبس اللِّباس المناسب للمكان الذي هو فيه.
        تجد أُناسًا يتقدَّمون ويُقابلون الله بملابس لا تليق، فيلبس ثوبَ نومٍ ويُقابل الله في الصلاة، بينما عندما يُقابل رجلًا مسؤولًا في الدنيا يحرص على أن يلبس أحسن لباسٍ وزِيٍّ، فنحن بحاجةٍ إلى أن ننتبه لهذا.
        ولهذا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قوله الذي ذكرناه منذ قليلٍ وهو: «فَأَحْسِنُوا لِبَاسَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا شَامَةً بَيْنَ النَّاسِ»، وهذا مع طلاب العلم أوجب، ومع الشَّخص الذي يُقابل الناس؛ لأنَّه يرسم صورةً ويُعطي انطباعًا، ويُعطي صورةً نمطيَّةً عمَّن يتحدَّثون أمام الأخيار وأمام الناس، سواء كانوا من الدُّعاة أو غيرهم.
        أيضًا من الأشياء: ابدأ لقاءك بالابتسامة أو المُصافحة: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأسر الناسَ بابتسامته، فأول ما يُقابل الناس يبتسم.
        يقول جرير بن عبد لله البَجلِي: "والله ما لقيني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وتبسَّم في وجهي".
        وعمرو بن العاص أسلم، وبعد بضعة أشهر ظنَّ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يُحبه أكثر من الناس، فقال: "يا رسول الله، مَن أحبُّ الناس إليك؟"
        قال: «عَائِشَةُ».
        قال: "لستُ عن النِّساء أسألك، بل عن الرِّجال".
        قال: «أَبُوهَا».
        قال: "ثُمَّ مَن؟".
        قال: «عُمَرُ».
        قال: "ثُمَّ مَن؟".
        قال: «عُثْمَانُ».
        قال: "ثم سكتُّ -يقول عمرو بن العاص- مخافة ألا يُسميني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم".
        وفي روايةٍ قال: "أنا أحبُّ إليك أم أبو بكر؟"
        إلى هذه الدَّرجة وهو رجلٌ من دُهاة العرب، ولكنَّه رأى حُسن تعاملٍ من النبي -صلى الله عليه وسلم.
        تقول عائشةُ: "كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كثير التَّبسُّم -عليه الصلاة والسلام- في داخل بيته".
        إذن قضية الابتسامة مهمَّة جدًّا.
        كذلك المُصافحة، ولا نقصد المُصافحة التي تكسر الأصابع؛ لأنَّ بعض الناس إذا مدَّ يديه تحسّ أنَّك بحاجةٍ إلى أن تعمل إشاعةً بعد هذا السلام؛ لأنَّ يده كسرت أكثر من إصبع لك، وهذا ليس خُلُقًا، وليس من الأدب مُطلقًا.
        ولا نقصد أيضًا السلام البارد الذي يُنبئ عن أنَّ هذا الإنسان غير مُعْتَنٍ بهذا الشَّخص، بل يُصافحه مصافحة الرِّجال، ويُقابل هذا بالسلام الذي يليق به.
        إذن قضية الابتسامة والمُصافحة من الأشياء المهمَّة.
        وكذلك: حاول التَّجديد في ألفاظ التَّحية:
        بعض الناس أصبح مُبَرْمَجًا، فيُسلم بطريقةٍ معينةٍ وانتهى، فينبغي أن تتعلم عبارات السلام والتَّرحيب بالآخرين، وخاصَّة إذا أتاك إنسانٌ من بلدٍ ما وقابلته بعباراته التي يعرفها هو، فأهل المغرب مثلًا يقولون: "مزيان بالزَّاف" في بعض العبارات، وأهل تونس يقولون: "برشا برشا"، والمصريون أيضًا لهم عبارات مُعينة مثلًا في السلام، والجزائريون لهم كذا، وغيرها من البلدان، فعندما يتعلم الإنسانُ بعض العبارات يكسر حاجزًا كبيرًا بينه وبين ذلك الشخص.
        إذن التجديد في ألفاظ التَّحية ومعرفة الأسلوب الذي يُسلَّم به في تلك البلاد لا شكَّ أنَّه سيكسر حاجزًا كبيرًا، وسيجعل هذا الإنسان مُقَرَّبًا إلى هذا الشخص.
        أيضًا من الأشياء: جمع بعض المعلومات عمَّن تُريد مقابلته:
        مَن هو هذا الشخص الذي سأقابله؟
        فَالْبَسْ لِكُلِّ حَالَةٍ لَبُوسَهَا

        إِمَّا نَعِيمَهَا وَإِمَّا بُوسَهَا

        ففي بعض الأحيان يأتي الرجل الوَجِيه فلا شكَّ أنَّه يُقابل بشيءٍ يُناسبه، وليس معنى هذا أننا نجعل الناس طبقات، لا، ولكن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ».
        فعندما يأتي رجلٌ كبيرٌ في مجلسٍ ما، ينبغي أن يُحترم من المجلس وأن يُقدَّر.
        وعندما يأتي للمجلس عالِمٌ أو طالبُ علمٍ، لا شكَّ أنَّه أيضًا يُقدَّر.
        وعندما يكون في المجلس أبٌ يجب أن يحترم، ولهذا فإنَّه إلى اليوم في بعض البلدان -وخاصَّة عند الأتراك- إذا كان في المجلس أبٌ أو رجلٌ كبيرٌ، وجاء شخصٌ ومدَّ رِجْلَيه في المجلس فإنَّهم يقومون ويتركونه؛ لأنَّ مدَّ الرِّجلين أمام رجلٍ كبيرٍ لا شكَّ أنَّه ليس من الذَّوق.
        ولهذا ليس من الأدب أن يكون الوالدان في مجلسٍ ثم يأتي إنسانٌ ويضع رِجْلًا على رِجْلٍ، فهذا ليس حسن أدبٍ.
        ولهذا نصَّ العلماء على أنَّ من آداب البر -وستأتينا إن شاء الله في العلاقة مع الوالدين- وأساسيَّاته: ألا يُرتكب المنكر بحضرة الوالدين، فهذا من تعظيمهما.
        ولهذا جاء رجلٌ للإمام أحمد وقال: يا إمام، أبي على مُنكرٍ، أفأنصحه؟ قال: إن كان يُغضِبه فلا.
        وذلك مُراعاةً لمشاعر الأب، ثم يبحث بعد ذلك، فليس معنى هذا أن يترك والدَه في المنكر، ولكن معناه أن يبحث عن أسلوبٍ لا يُغضِبه حتى يصل لهذا الحقِّ معه.
        إذن عندما نجمع معلومات مناسبة عن هذا الشَّخص لا شكَّ أنَّه سيكون لها أثرٌ كبيرٌ.
        تقدير ما يطلبه الموقف من حُسن الاستماع:
        من الأشياء المهمَّة التي يحرص عليها الإنسانُ أن يكون مُستَمِعًا أكثر، لهذا تجد بعض الأشخاص تنعقد صداقتهم في طائرةٍ؛ وذلك لأنَّ أحد الرجلين كان مُستَمِعًا جيدًا.
        يقول أبو ذَرٍّ: "خلق الله لك أُذنين وفمًا واحدًا ليكون سماعُك أكثر من حديثك".
        فنستمع للناس أكثر، كزوجاتنا، وأولادنا، ومَن نريد أن نستمع إلى همومه ومشاكله، فنكون آذانًا مُصغِيَةً لهم.
        وهنا أريد أن أُنبه إلى شيءٍ مهمٍّ: عندما نجمع معلومات عن شخصٍ قد يكون هو أستاذًا مثلًا، أو شيخًا، أو نحو ذلك، فنستخدم اللَّقب المناسب له، مثل عبارة دكتور، فيمكن أن يكون لهذه العبارة عند البعض أثرٌ كبيرٌ جدًّا في حياة الشخص.
        أيضًا من الأشياء المهمَّة التي أُنبه إليها هنا: التَّحضير للموضوع المُراد النِّقاش فيه:
        فإذا كان هذا الرجل قَدِمَ من أجل موضوعٍ ما، فمن المُناسب أن يجهز الإنسانُ نفسه بالمعلومات المناسبة التي تُوفِّر جوًّا من المعلوماتيَّة التي تستطيع أن تصل بها أنت وهذا الرجل إلى حلٍّ في القضية التي تتناقشا فيها، لكن عندما يأتي وأنت خالي الذهن تمامًا فسيشعر أنَّك لم تحترمه، ولم تُقدِّر مجيئه بالتَّحضير الجيد لهذا الموضوع.
        وإذا كان الاستقبالُ في داخل المنزل فلا شكَّ أنَّ الإنسان بحاجة إلى أن يُضَيِّفه الضِّيافة التي تليق به؛ لأنَّ بعض الأشخاص –للأسف- يُخبَر أنَّ شخصًا ما سيدخل بيته بعد يومٍ أو يومين فتجده لا يستعد له، ويُقدِّم له أدنى شيءٍ موجود في داخل المنزل.
        ولا شكَّ أننا نُهينا عن كثيرٍ من التَّكلُّف، لكن إكرام الإنسان بشيءٍ معقولٍ دون إسرافٍ لا شكَّ أنَّ هذا من دين الله -عز وجل.
        هذه الأشياء والممارسات التي دعونا إليها لتكوين انطباع أولي عن الشَّخص، هل هي موجودة فينا أو ليست موجودةً فينا؟
        يحتاج الإنسانُ بين فترةٍ وأخرى أن يقف مع نفسه وقفة صدقٍ، خاصَّة إذا رأى أنَّه في حياته يخسر أُناسًا بين فترةٍ وأخرى، فهو في شقاقٍ مع زوجته، وعدم أُلفةٍ مع أولاده، وفي مشاكل مع جيرانه، وفي سُوء تعامُلٍ مع جماعة مسجده، وأقاربه لا يكادون يزورونه لا في مُناسباتٍ ولا في غيرها.
        فمعنى هذا أنَّ هناك خللًا، فيحتاج الإنسانُ أن يقف عندئذٍ ويرى ما الذي يجعل الناس يتجنَّبون الجلوس معه؟
        اليوم جاءتني رسالةٌ من فتاةٍ تقول: إنَّها مَبْغُوضَة من الناس مع أن تعاملها حسنٌ، وإنَّها كذا وكذا، وتقول: إنَّ زميلاتها لا يتكلَّمنَ معها. ما السبب؟
        الناس لا تُجْمِع على بُغْضِ شخصٍ إلا إذا كان هناك سببٌ، كما أنَّها لا تُجْمِع على حبِّ شخصٍ إلا إن كان هناك سببٌ أيضًا.
        فعندما نجد إنسانًا يبتعد الخلقُ كلُّهم عنه، فثَمَّة أسباب.
        وفي نظري أنَّ أكبر سببٍ يجعل الإنسان غير محبوبٍ عند الآخرين هو معصيته لله تعالى في السّر، فهذا هو الأساس، فإذا رأيت قلوب الناس قد أدبرت عن إنسانٍ فاعلم أنَّ ثَمَّة سِرًّا بينه وبين الله، ستره الله -عز وجل- عنه ينبغي أن يتوب منه في أسرع وقتٍ.
        وفي هذا يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كما في جامع الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ: «مَا فُرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِذَنْبٍ يُحْدِثُهُ أَحَدُهُمَا».
        فأحيانًا تجد صديقيْن خمس عشرة سنة، وفجأة إذا بكلِّ واحدٍ في مكانٍ آخر. لماذا؟ هناك مشكلة تحتاج إلى علاجٍ.
        ومن ثَمَّ نحن بحاجةٍ إلى أن نقف قليلًا ونرى: ما الذي جعل الناس تبتعد عنا؟
        كيف نتعرف على أنفسنا؟ كيف نستطيع أن نعرف أنفسنا ونعرف تصرُّفاتنا؟ وهل هي تصرُّفات صحيحة أم لا؟
        أولًا من خلال الناس القريبين منا: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ»، معناه: أنَّ الناس عندما ينظرون إليهم يُقيِّمونهم في الحقيقة، ولديهم مُرشحات لهذه الأخلاق، ولديهم مِجْهَر أيضًا يتعرَّفون من خلاله على هذا الإنسان.
        ومن ثَمَّ نحن نحتاج أن نسأل الآخرين: هل نحن نسير بطريقةٍ صحيحةٍ؟
        أنا أذكر في السكن الجامعي عندما كنَّا طلَّابًا في الجامعة -ولا زلنا طلَّابًا في جامعة الحياة إن خرجنا من البكالوريوس فأمامنا بكالوريوس حتى نلقى الله- أنَّ أحد الإخوة عمل استبانةً ووزعها على مَن معه في المبنى، وفيها: كيف تعامُلي معكم؟ كيف كذا؟ كيف كذا؟
        لا شكَّ أنَّ هذا سيجعل الإنسانَ يعرف نقاط قوته ونقاط ضعفه الموجودة في داخله، مع التَّنبيه أنَّ كلام الناس أشبه بالمرايا المُحَدَّبة والمُقَعَّرة.
        فالمرايا المُقَعَّرة والمُحَدَّبة عندما ينظر فيها الإنسانُ إلى وجهه يُصبح الوجهُ ضخمًا وكبيرًا، ويُصبح أنفُ الإنسان مثل الجبل، فكلام الناس أشبه بهذه الرُّؤيا، بمعنى أنَّك لا تدمر نفسك من خلال كلام الآخرين، فاستفِد منه لكن لا تجعله جديًّا قطعيًّا في الحكم على شخصيتك؛ لأنَّ بعض الأشخاص إذا قال له شخصٌ: أنت فيك كذا، أو أنت كذا. صدق هو ورأى أنَّ هذه الخصلة مئة بالمئة فيه، لا، قد تكون موجودة بنسبةٍ، وقد يكون هذا الشَّخص رجلًا حسَّاسًا، وقد تكون طبيعته طبيعة نقدٍ، وقد لا يلتفت هذا الشَّخص إلى المحاسن الموجودة فيك حتى تشعر بتوازنٍ في داخلك.
        لهذا فإننا نستفيد من كلام الناس لكن لا نجعله كلامًا قطعيًّا في رسم شخصيَّتنا الحقيقيَّة مع الآخرين.
        ردود أفعال الآخرين:
        هذه أيضًا من الأمور التي يمكن أن نستفيد منها في معرفة ذواتنا. كيف؟
        فمثلًا حين أكون جالسًا في قاعةٍ علميَّةٍ مع زملائي، وأرى أنَّ الشباب بدؤوا في الابتعاد عني، فمعنى ذلك أنَّ هناك مشكلةً، وأني مثلًا صريح أكثر من اللازم.
        تجد بعض الأشخاص يأتي مثلًا زملاؤهم بعد إجازةٍ صيفيَّةٍ وقد تغيَّر بعضُهم، أو بعض الأشخاص مثلًا تجده كثير التَّعليق، فبمجرد أن يأتي شخصٌ مثلًا سمين يُعلِّق عليه أمام زملائه، أو لديه عاهة مُعينة يُعلِّق عليه أيضًا أمام زملائه بصوتٍ مرفوعٍ، والناس لا تُحب هذا أبدًا.
        من الأشياء الجميلة أنَّ ابن حزمٍ -رحمه الله- كان كثير التَّعليق، وهذه القضية قضية خطيرة جدًّا، فكثيرٌ من الناس الآن تجد أنَّ زملاءهم وأحبابهم وإخوانهم تركوهم بسبب ماذا؟ أن ألسنتهم مفلُوتة، فبمجرد أن يجلس يُعلِّق على هذا، ويُعلِّق على هذا، ولا يحترم كبيرًا، ولا يحترم صغيرًا، ويقول نكتة لا يضبط قولها فقد تجرح أناسًا؛ لأنَّها مُتعلِّقة ببلدٍ مُعينٍ، أو بمنطقةٍ مُعينةٍ أو بكذا.
        ولهذا أقول لك: البس لكلِّ حالةٍ لبوسها، فلكلِّ مقامٍ مقالٍ، فيحتاج الإنسانُ أن يعرف مَن الموجودون؟ وما النُّكتة أو الطُّرفة المناسبة؟ وما القول الذي ينبغي أن يقوله؟ وما قيمة هذا الشَّخص؟
        فعندما يأتي إنسانٌ صديقٌ لإنسانٍ، وهذا الشَّخص الآخر صديقه يجلس مع طلابه، إذن ينبغي أن يُحْتَرَمَ ويُقدَّر؛ لأنَّه بين الطلاب، فإذا أُهِين هذا الإنسان فلن تكون له قيمة بعد ذلك عند الطلاب.
        فابن حزمٍ كان كثير التَّعليق، فقام وعمل لنفسه برنامجًا حكاه في كتابه "مُداوة النفوس"، وهو كتابٌ مطبوعٌ ومن أحسن طباعاته طبعة دار القلم، وذكر كيف استطاع أن يتخلص من هذه الخصلة، وهي خصلة ليست سهلةً، فيحتاج الإنسانُ إلى مُعاندة نفسه، وإلى حفظ كلامه، وإلى وضع قفلٍ على فمه في كثيرٍ من المواطن؛ حتى يتعوَّد على ألا يقول إلا ما ينبغي أن يُقال في ذلك المجلس.
        إذن ردود أفعال الآخرين عليَّ ستكشف لي جانبًا من شخصيتي، سواء كنت شخصيةً صريحةً أكثر من اللازم، أو فيها نوعٌ من الحُمْق والتَّصرُّف غير المناسب، والعبارات غير المناسبة، إلى غير ذلك.
        وأحيانًا قد يتحاشى الناسُ شخصًا؛ لأنَّ طريقة أكله غير طبيعيَّة، وأنا رأيتُ مرةً مجموعةً في مطعمٍ ومعهم شخصٌ يأكل، يا الله! أنا لم أستطع أن أجلس على طاولةٍ بجواره؛ لأنَّ طريقة أكله غير طبيعيَّة، فعندما يأكل يفتح فمه كلّه، وتُصبح هذه اللُّقمة أمام الناس، فهذا سُوء أدبٍ مع الآخرين، ومع هذا يفعله، فالناس تصبر، وتصبر، وتصبر، ولكنَّها في النهاية تنفلت منه واحدًا تلو الآخر.
        أيضًا من الأشياء: تسجيل الصَّوت على شريطٍ، أو تسجيل الأفعال:
        أذكر أنَّ إحدى الأخوات حدَّثني ولدها أنَّ زوجها كان يشرب الخمر، فماذا فعلت؟ عملت كاميرا في البيت، وهو راجعٌ منتصف الليل وقد وصل إلى الدور العاشر أو الخامس عشر بسبب السُّكْر.
        وفعلًا وضعت الكاميرا عليه، وجلست تحاول أن تُهدئه، وهو يتكلم ويسُبّ ويشتم ويلعن، ويعمل تصرُّفات غير مناسبة، وبعد أن ارتاح واستيقظ في الصباح ووضعت له الإفطار كانت قد جهزت على الشاشة هذا الفيلم القصير، ووضعته وقالت: تفضل، مباشر Live، هذا هو أنت عندما تفقد عقلك.
        أعرفُ هذا الرجل، وقد مات -رحمه الله- لكنَّه لم يشرب بعدها. لماذا؟ لأنَّه رأى نفسه على حقيقتها.
        نحن نحتاج إلى كاميرات تُتابعنا وتُراقبنا، ونحتاج إلى مُسجِّلات تُسجِّل أصواتنا وكلامنا؛ لأننا في كثيرٍ من الأحيان نتكلم في المجالس بكلامٍ نتمنى أن لم نكن قد قلناه أبدًا، فيحتاج الإنسانُ فعلًا إلى رقيبٍ عليه، هذا الرقيب من الممكن أن تكون أنت، ونحتاج أيضًا في هذه القضية بشكلٍ كبيرٍ جدًّا إلى التعرف على أخلاقنا من خلال الآخرين.
        من الأشياء المهمَّة أيضًا -وهناك طبعًا وسائل أخرى يمكن أن يستخدمها الشخص- حضور الدَّورات:
        مثل هذا الكلام الذي نقوله ويقوله كثيرٌ من الإخوة الأفاضل ممن يتحدَّثون عن مهارات التَّواصل، يحتاج الإنسانُ أن يقيس نفسه على هذا الكلام، على كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- في قضية الأخلاق.
        نحضر دورات، ونتعلم مهارات التعامل مع الزوج، ومع الزوجة، ومع الإخوة، والأصدقاء، والوالدين، وكلّ هذه الأشياء تجعل الإنسان يتعلم أشياء جديدة: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ [النحل: 78]، إذن الله أعطانا الوسائل والملَكات من أجل ماذا؟ أن نتحسن للأفضل، فنحن كبرنا وكبرت معنا سلبيات كثيرة، والأصل أنَّ الإنسان يكبر ويعقل ويتأدب أكثر ويحرص على كلِّ تصرُّفٍ وكلِّ فعلٍ يمكن أن يقوم به تجاه الآخرين، لكن تجد بعض الأشخاص –للأسف- يكبر وعقله يصغر، يكبر ولسانه يطول، وهذا لا شكَّ أنَّه من الأخلاق السَّيئة التي ينبغي للإنسان أن يبتعد عنها ما استطاع.
        إذن حضور الدَّورات هذا شيءٌ مُهمٌّ.
        وكذلك القراءة في الكتب: وإذا لم يكن لدى الإنسان وقتٌ يمكنه حضور الدَّورات والدُّخول على مواقع الإنترنت وغيرها ليأخذ كتابًا في فنِّ التعامل مع الآخرين، ويعرف كيفية الاختلاف مع الآخرين، وكيفية الصَّراحة، وكيفية المحبَّة، وكيف يكون حُسن التعامل؟ وكيف يكسب القلوب؟ فتكسب قلب زوجتك أو غيرها من الأشخاص.
        هناك صورٌ كثيرةٌ جدًّا للعلاقات الاجتماعية التي نحن بحاجةٍ إلى ضبط كلامنا معها، من أهمها: الأسرة.
        الأسرة تحتها أناس كُثُر طبعًا، ففي الأسرة:
        - الأبوان: وهما الدَّرجة الأولى في حُسن التعامل. فكيف ينبغي أن أتعامل مع والديّ؟ نحن نرى اليوم أنَّ هناك ابنًا مُثقَّفًا بينما الأب رجل عامي، فعندما يتناقشان في موضوعٍ تجد أنَّ الأب يتكلم بخبرته هو، وهو لم يقرأ كتب استيفن كوفي ولا براين ترايسي، فتجد هذا الابن يتعالى على والده ويرفع صوته عليه، والأصل أنَّك لا تفعل هذا كله؛ لأنَّ هذا يتكلم بحسب العلم الموجود لديه.
        ولهذا قال العلماءُ: إنَّ رفع الصَّوت على الأب من عقوقه.
        فرفع الصوت على الوالدين من العقوق، لكن تُبين له بطريقٍ خفيٍّ، أو بكلمةٍ عابرةٍ ونحو ذلك.
        - ولدينا في الأسرة أيضًا: الزَّوجين: فينبغي أن تعرف الزوجةُ كيف تتعامل مع زوجها في أوقات السرور وأوقات الحزن، وفي أوقات الغضب وفي أوقات الهدوء؟
        فنحن بحاجةٍ فعلًا إلى قواعد أساسيَّة جدًّا في حُسن التفاعل أو التعامل مع الزوج والزوجة، فكثير من الإشكالات الموجودة الآن في المجتمع والطلاق بسبب سُوء تعاملٍ.
        وقد وجدوا في دولةٍ خليجيَّةٍ أنَّ نسبة الطلاق تحدث في أول خمس دقائق منذ دخول الزوج إلى المنزل. لماذا؟ لأنَّ الزوج مُرْهَقٌ، فعنده ضغط في الخارج، فالسيارة ضغط، والمُخالفات ضغط، والعمل ضغط، والزِّحام ضغط، فيدخل المنزل يريد أن يجد راحته.
        ولهذا علمونا في الأفلام سابقًا -ونحن لا نرى أفلامًا الآن، لكن كان هذا في السابق- أنَّه إذا دخل الرجلُ يضعون له ماء فاترًا، وتغسل المرأة رِجْلَيه، وتُقدِّم له عصير ليمون.
        الآن -ما شاء الله- عندنا أنواعٌ كثيرةٌ من العصائر ومع ذلك لا نجد ذلك، فأول ما يدخل البيت وهو في قمة الغضب والضِّيق والضَّغط لا يجد خبزًا، واسطوانة الغاز مُنتهية، وحليب الابن غير موجودٍ، وهكذا.
        والأصل أنَّه إذا أرادت المرأةُ شيئًا من زوجها فينبغي أن تتركه يجلس ويرتاح، وتقول له: الله يعطيك العافية، هذا عصير، والغداء -إن شاء الله- بضع دقائق ويكون بين يديك، أبشر، تغدى وارتاح ومتى ما وجدت وقتًا ترى عندنا أشياء نحتاجها، تراني أنا علَّقتها لك على الباب.
        فهذا قمة الذوق والأدب، فالمرأة إذا أرادت أن تكسب زوجها وتجعله خاتمًا في يديها فعليها بحسن التَّعامل والكلمة الطيبة.
        ونحتاج امرأةً عَمْيَاء، ورجلًا أصمَّ:
        نحتاج امرأةً عَمْيَاء لا تنفتح عينها على كلِّ شيء وتريد أن يُحققه لها الزوجُ، فالعلاقة بين الزوجين علاقة مُهمَّة جدًّا في حياتنا نحتاج أن ننتبه لها.
        فالنبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- تعامله راقٍ جدًّا مع زوجاته، وليس عنده زوجة واحدة، والآن زوجة واحدة والرجل أوشك على دخول مستشفى المجانين، وهي واحدة فقط، وهذا ليس عندنا فقط بل سل أيَّ إنسانٍ في العالم.
        فنحن نحتاج أن يُصبح كلُّ واحدٍ منا إسفِنْجَة تمتص، لكن من الخطأ أن نُصبح صخورًا، تأتي الواحدة فتنفجر، فهذا غير صحيحٍ.
        فالتعامل مع الزوجة يحتاج إلى رقيٍّ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لزوجته: «يَا حُمَيْرَاء»، «يَا مُوَفَّقَة».
        الآن اسأل الناس: مَن يقول عندما يسجد: اللَّهم اغفر لزوجتي فلانة، اللَّهم وفِّقها، اللَّهم أسعدها معي وأسعدني معها، اللَّهم سددها، اللَّهم افتح عليها، اللَّهم أعنها على تربية أولادها؟
        أصلًا آخر دعوة دعوها ليلة الزفاف، وصلى بها في ليلة الزفاف، وتابوا بعد ذلك توبةً نَصُوحًا فلم يُصلوا مع بعضٍ.
        ومن اللَّطائف: أنَّ رجلًا صلى بزوجته -وطبعًا كان خاشِعًا جدًّا- فلما صلى وقام هو للركعة الثانية نشب رأسُها في ثوبه، فأرادت أن تتخلص منه ما استطاعت؛ لأنَّ رأس العروس في ليلة الزفاف تكون مثل غابات الأمازون، فيها ثلاثة آلاف "شبَّاصة"، وأربعين ألف "مسَّاكة"، والكوافيرة تعمل من الظهر إلى صلاة العشاء لأجل صاحبنا هذا، وبعد ذلك هو يرقد.
        فماذا فعل؟
        نشب رأس المرأة في ثوبه، فحاول أن يخلصه ففتح رِجْلَيه، وتحرك يمينًا ويسارًا، ولا فائدة! فانفجرت المرأةُ في الضحك، وهو انفجر ضاحكًا، ولم يُكملا الركعة الثانية، ولم يُصليا بعدها إلى اليوم، وعندهم الآن تقريبًا خمسة أولاد أو ستة.
        قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللهُ امْرَأً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَأَيْقَظَ زَوْجَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ»، الآن تنضح الزوجةُ في وجه زوجها الماء فيقول لها: أنت طالق بعدد رمال الأرض!
        من الممكن أن تُقيمه بهدوءٍ ورِقَّةٍ، فهناك كلمة سِرّ تحتاج الزَّوجات أن تنتبه لها، وهي أنَّ الزوج طفلٌ كبيرٌ، فهُنَّ ما يعرفن مفتاح السر لدينا، وما يعرفن الطُّعْم الذي يمكن أن يأتي بنا، فلكلِّ رجلٍ لُغة، ولكلِّ إنسانٍ مفتاح سِر، فما مفتاح السّر لي؟ وما مفتاح السر للزوج؟ وما مفتاح السر لكذا؟ فينبغي لكلِّ امرأةٍ أن تتعلم.
        تجد أزواجًا تزوَّجوا منذ خمس عشرة سنة ولا يعرفون زوجاتهم، وما يعرف الواحدُ منهم كلمة السر الموجودة لديها، فأحيانًا كلمة السر عند بعض النساء "وردة" تفتك بقلبها فتكًا، وأحيانًا أكلة مُعينة، فتأتي لها بمنسف، أو تأتي لها بمعصوب، أو تأتي لها بكسكسي، أو عند السُّودانيين بكمونية، فكلّ دولة لها أكلة مُعينة، وفي مصر: كشري.
        فكلمة السر هي لغة يحتاج أن يفقهها الرجلُ لكسب قلب زوجته، فنحن نحتاج أن ننتبه لهذا.
        أيضًا العلاقة مع الأبناء، كيف نحب أبناءنا؟
        أنا أجزم أنَّ كثيرًا من المُراهقين يكرهون الجلوسَ في بيوتهم. لماذا؟ لأنَّ البيت كله أوامر: اذهب، تعال، افعل كذا.
        هل جلسنا في يومٍ من الأيام وقلنا: ما شاء الله يا محمد، إبراهيم، عبد الله، صالح، أعطينا نكتةً اليوم، أعطينا قصةً، ماذا مر عليك اليوم في حياتك؟
        أصلًا أولادنا ما يسمعون أسماءهم في المنزل، لذلك هو لا يحب المنزل؛ لأنَّه لا ينتمي إليه.
        لكن تصور: النبي -صلى الله عليه وسلم- يجلس مع فاطمة ويُعطيها سِرَّين: أنَّها أول أهله لُحُوقًا به، وأنَّها سيدة نساء الجنة.
        ويعطي أنسًا سِرًّا، وأنس يذهب إلى أمه فتقول له: ماذا أخبرك رسول الله؟ قال: "ما كنتُ لأُفشيَ سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
        فإعطاء الأسرار للأبناء حسن تعاملٍ مع الأبناء.
        اليوم أبناؤنا هل يُحبوننا؟
        والله أرسلت لي فتاةٌ على تويتر رسالةً قالت فيها: والله أكره أبي، وإخواني كلهم يكرهون والدي، وأخي الصَّغير عمره ست سنوات يكره أبي.
        لماذا؟ لأنَّ هناك سُوء تعامل.
        في مرة من المرات مرَّت بي حالةٌ، فقد كانت إحدى الأخوات علاقتها مع والدها سيئة، واتَّصلت بي وأنا ذاهبٌ للدوام، وقالت: الآن يا شيخ في يدي سُمٌّ يقتل الإنسانَ في أقل من عشر دقائق. فجلست معها ساعة كاملة وأنا أحاول مع هذه الفتاة أن تترك السم، حتى ألقته في حوض الحمام، ثم قلت لها: لن أثق بك الآن حتى تصوريه لي. وصورته لي. قلت لها: من أين جئتِ بهذا؟ قالت: زميلاتي سألتهن فأعطينني هذا.
        سم بسبب ماذا؟ سُوء علاقتها مع والدها.
        نحن نحتاج أن نقترب من أولادنا، أن يكونوا أصدقاء لنا، أن نعرف ماذا يشغلهم في حياتهم، فالبنت تموت من العذاب والقهر في داخل المنزل؛ لأنَّها تعرَّضت لمشكلةٍ عاطفيةٍ ولا أحد يدري عنها شيئًا، لا أم ولا أب.
        فحصول تغيُّر في علاقة الأبناء مع الأب أو مع الأم، أو مثلًا في ملامحهم، أو تركهم للطعام، أو نحو ذلك؛ معناه أن هناك مشكلة.
        فبعض الآباء لا يكتشفون الإدمان الموجود عند الابن إلا بعد مرور سنين طويلة، مع أنَّه كان بالإمكان تفاديه.
        الآن الآباء لا يعرفون أن ولدهم مدخن حتى يصعد الأبُ ليُنظِّف الخَزَّان فيجد أنواعًا مُنوَّعةً من السَّجائر، أين أنتم من قبل؟
        لا يصل الابنُ إلى هذه المرحلة إلا لوجود ضغطٍ عنده في حياته.
        إذن عندنا العلاقة أيضًا مع الأقارب من ذوي الأرحام لا شكَّ أنَّهم بحاجةٍ إلى هذا الأمر.
        أيضًا عند الإخوة والأخوات، اليوم المحاكم تعجُّ بقضايا بين إخوة أشقاء خرجوا من رحمٍ واحدةٍ، من بطنٍ واحدٍ، على ماذا؟ مبلغ زَهِيد جدًّا من المال، مثل عشرين ألفًا في السنة يأتي إيجار عمارة.
        أيُّ سفهٍ هذا الذي وصل إليه الناس؟ حُطام دنيا يقطع علاقة وأواصل ووشائج بيني وبين أخواتي!
        لتذهب كلُّ هذه الأشياء إلى الجحيم، علاقتي مع إخوتي مُقدَّمة على كلِّ شيءٍ. نحتاج أيضًا أن ننتبه لهذا الأمر.
        أيضًا الجار المسلم ذي الرَّحم، فالزُّبير بن العوَّام مات وخلَّف دينًا كثيرًا، فلقيَ رجلٌ من أصدقاء الزُّبير بن العوام عبدَ الله بن الزُّبير فقال: رحم الله أباك، أترك دينًا؟
        قال: نعم.
        قال: كم.
        قال: ألف ألف.
        أي مليون.
        قال: عليَّ نصفها.
        ولهذا ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخوان" أنَّ الرجل في السَّابق كان إذا أتى إلى بيت أخيه فلم يجده يقول للجارية: أين خزنته؟ أي مكان حفظ المال، فتقول: هناك. فيأخذ منه ثم يخرج.
        فلمَّا يأتي أخوه تقول له الجارية: قد جاء أخوك وأخذ كذا وكذا، وسألني عن كذا فأخبرته. قال: إن صدقتِ فأنت حُرَّة لوجه الله.
        فهل يمكن أن يُعطينا إخواننا المُتواجدون خلف الشاشة بطاقاتهم وأرقامهم السّرية؟
        لا يمكن، رغم أنَّ هذا شيئًا بسيطًا جدًّا، صحيح أنَّها خصوصية ومال خاص بالإنسان، لكن أحيانًا قد يتصل علينا بعض الإخوة ويحتاج إلى مالٍ، فتجد أنَّ الإنسان يتأخَّر، ولا يعتذر أحيانًا، وهذا غير صحيحٍ؛ لأنَّه لا يمكن أن يُرسل لك إلا بحاجةٍ.
        ولا زلتُ أذكر أحد الإخوة وقد أرسل لي مرةً أنَّه يحتاج مالًا، وكنتُ أعرف أنَّه في ضيقٍ؛ فحاولتُ بكلِّ ما أستطيع حتى وفَّرتُ له هذا المبلغ؛ لأني أعرف أنَّ هذا سيُفَرِّج عنه همًّا كبيرًا جدًّا حتى لو أُحْرِجتُ مع الآخرين، لكن هذا سيأجُرني الله -بإذن الله تعالى- عليه.
        فتفريج هموم الناس وكُروبهم من أعظم ما يُقدِّمه الإنسانُ لربِّه.
        هذا مع الجار المسلم ذي الرحم، والجار المسلم العادي، ونحن أيضًا بحاجة إلى الجار غير المسلم، فبعض الناس يُسيئون إليه ثم يدعونه إلى الإسلام.
        وقد ذهب النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى يهوديٍّ -كما في صحيح مسلم- فلمَّا جاء والصَّبي تَقَعْقَعُ روحُه قال: «قُلْ: أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، فالتفت إلى أبيه يقول أو لا؟ قال: أطع أبا القاسم. قال: "أشهد ألا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله". فمات، فقال: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ»، ما أرحمك يا رسول الله! صلى الله على نبينا محمد، يتعامل مع الرجل غير المسلم بكلِّ رُقيٍّ، ولا يُقابله بالعداوة إلا مَن عاداه -صلى الله عليه وسلم- فيُؤدبه بِمَ يستحق.
        ولهذا فإنَّ من أسماء النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- كما في الصَّحيح: أنَّه نبي الرَّحمة، ونبي المَلْحَمَة.
        فهو سوط عذابٍ على الكُفَّار المُعاندين المُحاربين للإسلام، وهو رحمة أيضًا على المؤمنين.
        وَأَحْسَنُ مِنْكَ لَمْ تَرَ قَطُّ عَيْنِي

        وَأَجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ

        خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ

        كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ

        ما أجمل -أيُّها الإخوة والأخوات- أن تقتديَ بهذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأن يكون هو قدوتنا في هذه الحياة في تعاملنا مع كلِّ أصناف المجتمع، فعندها سوف نكسب قلوب الخلق، وسيكون لنا ذكرٌ، بل عمر ثانٍ بعد موتنا.
        والشاعر يقول: "والذِّكْرُ للإنسان عُمرٌ ثانٍ".
        فكن صاحب عمرٍ ثانٍ، فالإمام أحمد مات والناس لا زالت تُثني عليه من سنة 241هـ، والبخاري مات في القرن الثاني والناس لا زالت تُثني عليه، وصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماتوا والناس لا زالت تُثني عليهم في كلِّ مكانٍ.
        إذن نحن بحاجةٍ إلى أن نحرص على التعامل الرَّاقي مع الناس.
        وأختم لكم بقصةٍ ولكنَّها ليست صحيحةً، لكنَّها مرت عليَّ في بعض كتب الأدب، وهي: أنَّ امرأةً كانت تحمل غَرَضًا في يومٍ من الأيام فمرَّ بها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وكان الغرضُ ثقيلًا فحمله النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- حتى أوصله إلى باب دارها -وأكرر: القصة ليست صحيحةً، لكن فيها لطيفة- فلمَّا وصلت إلى المنزل ووضع المتاع -وهي لا تعرفه- قالت: شكر الله لك يا بُني، وليس لديَّ شيءٌ أُعطيك إيَّاه، إلا أنني أُوصيك بوصيَّةٍ.
        قال: ما هي؟
        قالت: سمعتُ أنَّ رجلًا جاء بالنبوة، فهو رجلٌ صَابِئٌ كاذب لا تتبعه.
        فقال: أنا هو.
        فقالت: أشهد ألا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله.
        فهذه هي أخلاق الأنبياء، فينبغي أن يكون أتباع الأنبياء على أخلاق الأنبياء، فكن أنت من أتباعهم.
        اللَّهم اجمعنا بنبيك في جنات عدن، اللَّهم ارزقنا حُسن الخُلُق يا ربّ العالمين، اللَّهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيّئها، لا يصرف عنا سيّئها إلا أنت، اللَّهم وفِّقنا لكلِّ خيرٍ يا ربّ العالمين.
        شكر الله لكم -أيُّها الإخوة والأخوات خلف الشَّاشة وهنا- حُسن استماعكم وإنصاتكم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

        تحميل ملف صوت rm
        تحميل ملف التفريغ word



        تعليق


        • #5
          رد: مهارات التواصل الاجتماعي - د/ علي الشبيلي



          مهارات التَّواصُل الاجتماعي
          د. علي الشّبيلي
          بسم الله الرحمن الرحيم،
          الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
          أمَّا بعد:
          أيُّها الإخوة والأخوات في كلِّ مكانٍ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكلِّ خيرٍ.
          بعد انقطاعٍ لبضعة أسابيع في رحلة حجٍّ مُوفَّقةٍ -بإذن الله تعالى- عدنا إليكم -أيُّها الأحبة الكرام- للحديث عن الأخلاق، عن مهارات التواصل الاجتماعي بين الناس بعضهم مع بعضٍ.
          فمرحبًا بكم جميعًا، ومرحبًا أيضًا بالإخوة الكرام هنا: أحمد وسلطان وعبد الرحمن وعبد الحكيم، حيَّاكم الله جميعًا.
          اليوم سنتحدَّث -أيُّها الأحبة- عن مواضيع كنا قد بدأناها سابقًا في مهارات التواصل.
          فقد تحدَّثنا عن أهمية الأخلاق في الإسلام، وأنها قضية جوهرية أساسية، كانت من أسس بعثة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولهذا قال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
          تقول عائشة -رضي الله عنها: "بُعِث النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي العرب بضعٌ وستون خصلة من خِصال الخير، زادها الإسلامُ قوةً".
          فالنبي -عليه الصلاة والسلام- مثالٌ حيٌّ لهذه الأخلاق قولًا وعملًا -عليه الصلاة والسلام.
          ونحن من خلال هذا الدرس نتلمَّس في الحقيقة هذه الجوانب الرائعة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- على مستواه الشخصي في علاقته مع الله -عز وجل- لأننا عندما نتكلم عن مهارات التواصل فنحن لا نتكلم عن مهارات التواصل بين البشر بعضهم مع بعضٍ، كشخصٍ مع والديه، أو والدٍ مع أولاده، أو زوجٍ مع زوجته، والعكس، أو الناس بعضهم مع بعضٍ؛ بل أول قضيةٍ لابُدَّ أن نتقنها ونُحسنها هي كيف نتواصل مع الله -عز وجل؟ كيف نُحسِّن علاقتنا مع الله -سبحانه وتعالى؟ لأنَّه بمقدار ما أنت مُوفَّق في هذا الجانب بمقدار ما يُصلِح الله بينك وبين الخلق؛ لأنَّ إحدى آثار المعاصي على قلب العاصي: وجود ضيقٍ في الصدر، بحيث أنَّ الإنسان لا يستمتع بحياته، وتبقى أخلاقه ضيقةً، ولهذا قال أحدُ السلف: "إني لأجد أثر معصيتي في خُلُقِ زوجتي، وأولادي، ودابتي".
          ما السبب؟
          لأنَّ المعصية في الحقيقة تُورِث ضيقًا في الداخل، فتجعل الإنسان لا يتقبل أيَّ موقفٍ، أو أيَّ كلمةٍ، أو أيَّ تصرُّفٍ من الجهة المُقابلة.
          ولهذا إذا أردنا حُسن أخلاقٍ مع الخلق فلنُحسن أخلاقنا مع الخالق -سبحانه وتعالى- بطاعته، وإقامة شرعه، والحرص على أن تكون أخلاقنا جيدةً؛ بل ممتازة؛ بل رائعة مع الله في حال الخلوة؛ لأنَّ أسوأ ما يضيق الصدر هي المعاصي التي تكون في الخلوة، كما أنَّ المعاصي التي تكون في الجَلْوة لها أثرٌ كبير بلا شكٍّ.
          تحدَّثنا -أيُّها الأحبة- أيضًا عن مفهوم مهارات التواصل التي سنتحدث عنها، وتحدَّثنا عنها كثيرًا، وقلنا: إنَّها نقل المعاني -أي الكلام بينك وبين شخصٍ- والمشاعر والأحاسيس بطريقةٍ لغويةٍ، أو غير لغويةٍ.
          فليس بالضرورة أن تكون مهارات التواصل بالكلام فقط؛ فأحيانًا قد تقوم بتصرُّفٍ يؤثر في الطرف المقابل أكثر من ألف كلمةٍ.
          وضربنا مثالًا في حلقةٍ سابقةٍ فقلنا: لو أنَّ شخصًا كان في مجلسٍ من المجالس، وبعدما جلس فيه ساعة أو نصف ساعة قام ليخرج، وفي أثناء خروجه ووقوفه على الباب التفت فجأةً فإذا بشخصٍ يمد لسانه؛ احتقارًا لهذا الإنسان. فكيف يكون أثر هذه الحركة على قلبه؟ لا شكَّ أنَّ الأثر سيكون قويًّا جدًّا.
          إذن ليس بالضرورة أن تكون مهارات التواصل بالكلام، بل قد تكون بالأفعال، ولذلك حين ترى إنسانًا وتقول له هكذا، يعني أنه إنسان ماذا؟ جيد، أنه إنسان ممتاز، أنه إنسان رائع، فحتى هذه الحركات لها أثر كبير جدًّا في تعامل الناس بعضهم مع بعضٍ من شخصٍ لآخر.
          طيب، إذن نقول معًا: هو نقل المشاعر والأحاسيس بطريقةٍ لغويةٍ أو غير لغويةٍ من شخصٍ لآخر، بهدف ماذا؟
          نحن عندما نتواصل مع الناس، ماذا نريد؟
          - إمَّا الإخبار، فنُخبرهم بشيءٍ.
          - أو نُقنعهم بشيءٍ.
          - أو نُمتعهم بشيءٍ.
          إمَّا الإخبار، من أجل الإخبار، أو الإقناع، أو الإمتاع.
          وهذه عندما تتأملها هي واقع الناس، فالناس إمَّا حديث يبتدئه الإنسان ابتداءً من نفسه لأشخاصٍ، مثل الخطيب عندما يخطب، فهو يُخبر بأمورٍ شرعيةٍ.
          أو إقناع أحيانًا، عندما يجلس الأب مع ولده يريد أن يُقنعه، فالإقناع مهارة لا يمكن أن تتحقق لكلِّ أحدٍ، بل لابُدَّ للإنسان أن يملك زمامها، كيف تستطيع أن تُوصل قناعات موجودة لديك مُترسِّخة منذ سنين إلى شخصٍ، فإن كان الشخص يعيش معك فهذا أمر سهل بالنسبة إليك أنت. لماذا؟
          لأنَّ الشخص الذي معك إذا لم تستطع إقناعه اليوم تستطيع أن تقنعه غدًا أو بعد غدٍ أو بعد شهر أو بعد سنة، لكن إذا أردت أن تُقنع إنسانًا فتح معك حوارًا في طائرةٍ وستنتهي الرحلةُ بعد نصف ساعةٍ، هنا تأتي الخبرة، وتأتي طريقة الإنسان التي اعتاد عليها وتعلمها واستفاد منها لإقناع هذا الإنسان، على الأقل إذا لم تستطع إقناعه، ماذا تفعل؟ تخلخل قناعاته السَّابقة، فتجعله قابلًا لإحلال أيِّ شيءٍ جديدٍ سواء منك أو من شخصٍ آخر في رحلةٍ أخرى.
          أو الإمتاع: فأحيانًا نحن نحتاج أن نتواصل مع الناس لإمتاعهم، ولإسعادهم، ولإفراحهم، ولإدخال السرور على أنفسهم. كيف يمكن أن يكون هذا؟
          يكون أيضًا بالكلام، وهذه مهارة أيضًا من مهارات التواصل. متى تقول الطُّرفة؟ أين تقول الطُّرفة؟
          بالأمس كنت في مجلس عزاء أُعزي شخصًا عزيزًا عليَّ، فلمَّا كنت أُعزيه جاء واحدٌ بجواري وجلس يُحدثني عن موضوع زواجٍ، وهذا لا يصلح في هذا الموضع، فنحن الآن في مكانٍ لا يليق أبدًا أن تفتح فيه موضوعًا فيه سرور!
          وقد كان سفيان الثوري -رحمه الله- إذا حضر جنازةً لا يُنتفع به أيَّامًا. من ماذا؟ التَّأثر.
          اليوم الناس تُدخن في المقبرة!
          فحين ترى إنسانًا في مجلس عزاءٍ يضحك، ويبتسم، ويأتي بقصص مضحكة، ويأتي بطرائف ونكات؛ فهذا ليس من الأدب والذوق مُطلقًا.
          فلهذا نحتاج فعلًا حتى في الإمتاع أن نكون أصحاب خبرةٍ، وقد تكون أحيانًا الطرفة جميلة في مجلس، وغير جميلة في مجلسٍ آخر.
          ولاحظوا معي، قلت: جميلة في مجلسٍ، وماذا؟ وغير جميلةٍ في مجلسٍ آخر.
          مع أنَّ بالإمكان أن أقول: جميلة في مجلسٍ، وقبيحة في مجلسٍ آخر.
          لكنني استبدلت "قبيحة" بـ"غير جميلة"، وهذا ما نريده، أن الإنسان يُدرب نفسه على أن يستخدم ألفاظًا خفيفةً على الأذن، لطيفةً على القلب.
          انظر، لما أقول: جميلة وقبيحة، يحصل لديك استبشاع داخلي.
          لكن: جميلة وغير جميلة، لا شكَّ أنَّ هذا الشيء يختلف تمامًا.
          ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي. وَلَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي».
          (لَقِسَ) في كتب اللغة بمعنى خبث، ولكن أيّهم أخف على النفس: أن تقول لي: نفسك لقست. أو تقول: نفسك خبيثة؟
          انتبهوا لأصبعي، حين أقول بهذا هكذا فهي مُوجهة للمشاهدين، وهذا خطأ، ولهذا تعلَّمنا في فن الإلقاء ألا تُشر بيديك إلى الناس عند الكلمات القبيحة، وهذا نوع من مهارات التواصل أيضًا، فعندما تريد أن تنطق بلفظةٍ غير جيدة، لا تقل هكذا؛ لأنَّك تُشِر إلى الناس، ولكن عندما تقول: ما شاء الله، أنتم أناس رائعون، وهناك أناس سيِّئون. تُنزل يدك، هذه أيضًا مهارة نحتاج أن نتعلَّمها.
          فهناك مهارات لغوية، ومهارات غير لغوية، حتى الأفعال والتَّصرفات.
          لهذا؛ أحد الأشخاص الأذكياء مثلكم -ومثلكم أنتم أيضًا- لما كان في مجلس الخليفة. ماذا قال الخليفة؟ الخليفة معه مِسْوَاك، فقال: ما جمع مسواك؟
          ما جمعها يا شباب؟
          مساويك، أنتم أذكياء، لكن هناك واحد أذكى، فكلمة "مساويك" تُشابهها كلمة غير جيدة وهي "مساوئك"، فماذا قال الرجل؟
          قال: ضد محاسنك يا أمير المؤمنين.
          انظروا كيف الاستخدام واللَّفظة الجيدة.
          قال: يا بُني، أيهم أجمل -فيه خاتم في أصبع الخليفة- الخاتم أم شيء آخر؟
          قال: اليد التي فيها الخاتم.
          هذا نوعٌ أيضًا من التواصل في انتقاء العبارات.
          كم مرة مرت بنا -ومرت بكم أنتم- كنا في مجلسٍ وطرح علينا سؤال، وجاءت الإجابة الجميلة بعد مضي ساعتين، وأنت تركب السيارة بعد خروجك من المجلس؟ هل حصل هذا أو ما حصل؟
          لهذا الإنسان يحتاج أن يتدرب، والتَّدرب على الكلمات الطيبة ليس شيئًا سهلًا -أيُّها الإخوة- لكن يمكن أن يتحقق، فنحتاج أن يكون الإنسان سريع البديهة، عندما يأتي سؤال حاول أن تأتي بلفظةٍ جميلةٍ رائعةٍ تملك بها قلب هذا الإنسان بالثناء والمدح الصحيح.
          تحدَّثنا أيضًا عن أنواع العلاقات الاجتماعية في المرة الماضية، وقلنا: إنَّ هناك -من حيث مدتها الزمنية- علاقات طويلة المدى.
          - وهناك علاقات قصيرة المدى.
          - وهناك علاقات متوسطة المدى.
          فهناك علاقات طويلة كعلاقة الإنسان مع زوجته، ومع أولاده أيضًا.
          وهناك علاقات متوسطة المدى: كإنسانٍ يعيش مع الزملاء مثلًا، ويأخذ دبلوم سنة دراسية، أو سنة متوسطة، فقد ينبثق من هذه العلاقة علاقة طويلة المدى، ولذلك أنت تجلس في فصلٍ دراسي -جامعة أو ثانوية أو غيرها- فتجد أنَّك تخرج فقط من ستين طالبٍ بخمسة طلاب، أليس كذلك؟
          ولهذا ابن الجوزي ماذا يقول؟
          يقول: "الناس ثلاثة أصنافٍ: معارف، وأصدقاء، وإخوة".
          ولا يمكن للإنسان أن ينتقل إلى الأخوة مباشرةً ما لم يمر بهذه المراحل.
          أول شيء: معارف: تتعرف عليه، ثم تأتي الصَّداقة، ثم تأتي بعد ذلك الأخوة.
          حتى في الحياة الزوجية، أنتم إذا تزوَّجتم يومًا ما -لا سمح الله...
          انظروا كيف جعلتكم عبارة "لا سمح الله" تضحكون، لكنَّها مُؤلمة أيضًا.
          إذا تزوجتم يومًا ما، فبعض الإخوة يريد العلاقة الزوجية قويَّة منذ أول يومٍ، وهذا ليس صحيحًا، فأنت تشعر بمشاعر قويَّة، لكن ترى أنَّ هناك مشاعر عقل، ومشاعر قلب؛ لأنَّ الحياة الزوجية أشبه بالشَّلال، هل رأيتم الشلال؟ يكون هادرًا، فيأتي قويًّا من فوق الجبل، ثم ينزل ماذا؟ نهر. هذه الحياة الزوجية في الأسفل، وليست التي بالأعلى.
          لهذا دائمًا نقول: هي تمر بماذا؟ تمر بتعارف، ثم تآلُف، ثم تكاتُف.
          كأول شيءٍ يتعارف الناس، ثم يتآلفون، ثم يصلون لمرحلة أنَّ روحه روحي، وروحي روحه، إن يشأ شئتُ، وإن شئتُ يشأ، فيُصبحون جسدًا واحدًا، مع أني أنا ضد الانصهار في شخصية أي شخصٍ آخر؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ كيان مُستقل، كما أنَّ له حسابًا مُستقِلًّا يوم القيامة.
          تحدَّثنا أيضًا عن أنواع العلاقات من حيث البشر، وقلنا: هناك علاقة مع الوالدين، ومع الزوجة، ومع الأبناء، ومع الجيران، ومع جماعة المسجد، ومع الأرحام، وكل هذه الأنواع من العلاقات يحتاج الإنسان أن يتعرف على كلِّ طريقةٍ، فلا شكَّ أنَّ التعامل مع الوالدين يختلف تمامًا عن التعامل مع الزوجة، أو التعامل مع الأولاد، أو التعامل مع الجيران، أو التعامل مع جماعة المسجد، أو التعامل مع الأصدقاء في العمل، وهكذا.
          هناك مجموعة كبيرة من مستويات العلاقات الاجتماعية، يحتاج الإنسان أن يتعرف على كلِّ طريقةٍ من هذه الطرق، وكيف يتعامل مع هؤلاء الأشخاص؟
          اليوم سنتحدث -أيُّها الإخوة- وكذلك أنتم -أيُّها الإخوة والأخوات خلف الشاشة- عن بعض المبادئ والمفاهيم في العلاقات الاجتماعية، وسنتحدث في وسط هذه الحلقة -إن شاء الله- عن أسباب وجود الخلاف الاجتماعي.
          والخلاف الاجتماعي الحقيقة هو أحد المحكات الخطيرة جدًّا لأخلاق الإنسان.
          أنا قبل أن آتي كتبت تغريدة سريعة قلت فيها: "هناك حاءان خطيران: الحمق والحكمة".
          ولا تستطيع أن تعرف حكمة الإنسان من حُمقه إلا بالمواقف، فالمواقف هي التي تُظهر الإنسان.
          لما يأتي شخص للأحنف بن قيس ويقول: إنَّ والدك قد قُتِل، وإنَّ ابن عمك قد قتلوه. ماذا قال؟
          قال: ائتوني بدية وأعطوها لأمِّه، وادفنوا الولد. بكلِّ هدوءٍ.
          ولهذا سُئِل الأحنف بن قيس: من أين تعلمت الحلم؟
          ماذا قال؟
          قال: من أخلاق السُّفهاء.
          عرفت أخلاق السُّفهاء فتجنَّبتها.
          ولذا لاحظوا -يا شباب- لماذا كانت العرب تحرص على أن يذهب أبناؤها إلى البادية، ليس فقط لصحة ألسنتهم وأجسادهم؛ بل حتى أخلاقهم؛ لأنَّ ثمَّة أخلاق في البادية لا توجد في المدينة، فالرجولة والشهامة والكرم ونحو ذلك، هذه معانٍ لا تتحقق في المدينة.
          ولهذا ماذا يقول ابن القيم -رحمه الله؟
          يقول: "أصول الأخلاق أربعة"، يعني هذه قواعد، فإذا وجدت هذه القواعد بُني عليها بعد ذلك بناء الأخلاق بكلِّ قوةٍ.
          "الصبر، والشَّجاعة، العفَّة، والكرم".
          الصبر: هل هناك بيئة ستعلمك الصبر أكثر من البادية؟
          والشجاعة: هل هناك بيئة ستعلمك الشجاعة والصبر على الهوام والدَّواب والوحوش مثل البادية؟
          انظر لصاحب البادية، يرى أسدًا فيتعامل معه بكلِّ أريحية.
          وانظر إلى ابن المدينة، يرى عقربًا فيظل أسبوعًا لا ينام! لماذا؟ لأنَّه أَلِفَ شيئًا مُعينًا.
          والعفَّة: في البادية ترى عفَّةً، فترى النساء والرِّجال يمشون في مكانٍ واحدٍ، لكن لا يلتفت أحدٌ إلى الآخر.
          ولهذا تجد أنَّهم حين يتحدثون عن الحبِّ الذي في البوادي، تجده حبًّا عُذْرِيًّا، يُحبها ويألفها، لكن لا يمكن أن يقع في الحرام، بينما أبناء المدن يتقابلون على الشواطئ، وفي الحدائق، وفي كلِّ مكانٍ. لماذا؟
          المدينة تعلم أخلاقًا ليست أخلاق رجال.
          إذن: عفَّة، وصبر، وشجاعة، وكرم.
          كم مرة في المدينة تجد إنسانًا يقول: تفضلوا معنا؟ وهو أصلًا في داخله والله لا يُريدك أن تتفضل معه.
          يقول ابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت": "وكان الناس يرون في أزماننا أن الرجل إذا قال لأخيه: ادخل بيتنا. وهو لا ينوي ذلك؛ كُتبت عليه كذبة".
          اليوم نحن نقولها حتى نخرج من مأزقٍ، بينما هناك لا، عندما تتكلم على حاتم الطائي، يذبح خيله، ولهذا لما جاؤوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: يا رسول الله، إنَّ فلانًا سيد قومه، غير أنَّه بخيلٌ. فماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم؟
          قالها خالدةً تالدةً على مرِّ العصور: «لَا يَنْبَغِي لِبَخِيلٍ أَنْ يَكُونَ سَيِّدَ قَوْمِهِ».
          هناك في البادية يبذل ماله ووقته وجهده وراحته، وقد تتصل على شخصٍ في وقتٍ مُتأخرٍ من الليل من أجل غرضٍ معينٍ، فأحدهم يقول: إذا أصبحنا -إن شاء الله- يصير خيرًا.
          وواحد يقول: أبشر، دقائق وأنا عندك. ودقائق فعلًا ويكون عندك.
          فإذا أردت أن تعرف الناس فاعرفهم في أفعالهم لا في أقوالهم، فالأقوال يحسنها كلُّ أحدٍ، والأفعال لا يُحسنها إلا المُوفَّق.
          إذن أول مبدأ من مبادئ ومفاهيم العلاقات الاجتماعية: التَّوازن بين التَّعقُّل والانفعال، بين العقل والعاطفة، وهذه قضية مهمَّة جدًّا جدًّا.
          بمعنى: العلاقة التي تكون بلا عاطفةٍ هي علاقة جامدة سطحية مؤقتة لا قيمةَ لها، فعندما يتعامل الناس بعضهم مع بعضٍ بالعقل وليس هناك عاطفة، وليس هناك محبة، فقط ينظرون لتصرفات الناس ويُحاكمونهم بهذه التَّصرفات دون رحمةٍ، ودون محبَّةٍ، ودون عفوٍ، ودون كذا؛ فلا شكَّ أنَّ هذه العلاقة لن تستمر أبدًا.
          ولهذا -إخوتي الكرام- لاحظوا هذا الموقف: يمر رجلٌ عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول أحدُ الصحابة: والله يا رسول الله إني لأُحب فلانًا.
          إلى هنا معلومة عقلية، ذهنية، فكرية، لا تتجاوز هذا الأمر، صحيح أن هناك مشاعر في الداخل، لكن ماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم؟ قال: «قُمْ فَأَخْبِرْهُ أَنَّكَ تُحِبُّهُ».
          دعوني أُعطيكم صورةً أخرى مختلفةً تمامًا عن هذا.
          هناك أشخاص كثر يُحبون أولادهم، وهناك أزواجٌ يحبون زوجاتهم، لكنَّهم لا يُعبرون عن هذه المشاعر، فهي تصل عند ماذا؟ حدِّ العقل، ولذلك لما تسأله تقول له: عَبِّر. يقول: ما اعتدنا، ما تعودنا، عيب!
          فهذه عبارات نسمعها كثيرًا، مع أنَّ هذا في الحقيقة هو هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا وهو التعامل بماذا؟ بحبٍّ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُبادل الناسَ هذا الحب.
          فعمر بن الخطاب يُصلي الفجر ويقوم من مكانه مباشرةً ويخترق الصُّفوف، إلى أين يذهب هذا الرجل؟
          إلى معاذ بن جبل، ويقول: والله لقد اشتقت إليك. ويحتضن معاذ بن جبل.
          والنبي -عليه الصلاة والسلام- عندما تتأمَّل مثلًا في حياته اليومية، بعض الناس يقول: انظر للعقل.
          رجلٌ سمع أنَّ رجلًا مريضٌ فقال: إن شاء الله يومين أو ثلاثة ويأتي للمسجد ونُسلم عليه. وشخص آخر لا، ذهب بنفسه.
          قال جابر: أُصبتُ برمدٍ فإذا ببابي يُطرَق. فقلت: مَن؟ فإذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَعُودني.
          وهناك قصة عتبان بن مالك التي رُوِيت في الصَّحيحين وزاره النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أنَّه كان يُقال عنه: إنَّه مُنافقٌ -رضي الله عنه- وهو ليس كذلك، وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته.
          وكذلك زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر، قال: جاءني النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يجدني، فلمَّا جئتُ إلى البيت حُدِّثتُ أنَّه جاء، فجئتُ إليه، فلمَّا وصلتُ إليه اعتنقني.
          هذا ماذا؟ هذا هو القلب.
          هناك فرق بين إنسانٍ يُقابلك بكلِّ برودٍ، ويرى أنَّه عادي، أي سلام، ما يُفرِّق.
          بينما شخص آخر، لا.
          أحد الإخوة يقول لي أنَّه إذا رجع من السفر تستقبله زوجته فتُقبل رأسه ويده، ويفعل معها نفس الشيء؛ لأنَّ الحب أفعال.
          في إحدى الرسائل العلمية في الكويت كانت هناك رسالة علمية فيها سؤال وُجِّه لطلاب المرحلة الابتدائية: ما تعريف الحب لديك؟
          فقال أحد الطلاب: الحب عندي عندما تصنع الشاي لأبي، ثم تتذوقه وترى السكر زائدًا أو ناقصًا.
          لأنَّه إذا كان السكر مضبوطًا على ضبط هذا الرجل فسيُعجبه، وسيُعجبها ما يُعجِب هذا الإنسان. هذا فن.
          الآخر قال: عندما أرى جدي يعمل مساجًا لساق جدتي، هذا هو الحب لدي.
          وشخص ثالث قال: عندما أرى مقلام الأظافر، وهي تُقلم أظافر جدي، هذا هو الحب.
          إذن هؤلاء الأطفال قبل أن تُشوه فطرهم يفهمون أنَّ الحب أفعال، وأنَّه لكي يكون أفعالًا لابُدَّ من ماذا؟ ما الذي يُحرك الأفعال؟ عاطفة في الدَّاخل، نحتاج إلى عاطفةٍ، فأنت تُحب والديك؛ فأرسل رسالةً بحبك لوالديك، وتحب زوجتك؛ فأرسل لها رسالةً، والعكس أيضًا، وتحب أولادك؛ نفس القضية.
          مرة ولدي أرسل لي رسالةً وأنا آتي من الحج، الرسالة الحقيقة كنت في الباص، فطفنا طواف الوداع، وركبنا الباص، وكان معي مجموعة من الإخوة، وإذا بالرِّسالة تأتي، ففتحت الرسالة فإذا هي من ولدي أسامة، مكتوب: قسمًا بالله لم أستطع النوم شوقًا إليك.
          لا شكَّ أنَّ هذه عبارة -حتى ولو كنت أبًا أتعامل مع ولدي أحيانًا بنوعٍ من الحزم ونحو ذلك- تُؤثِّر فيَّ.
          تصور الآن أنَّك تفتح جوالك، وإذا برسالةٍ من والدك: كم أفخر بك يا ولدي. وكم أحمل في قلبي من المشاعر والحب لك. كيف سيكون أثرها عليك؟
          مع أني أعلم أنَّه ليس هناك في الدنيا إلا قلة من الناس ممن قست قلوبهم لا يُحبون أولادهم، لكن الأغلب الأعم يُحبون أولادهم.
          إذن نحتاج نحن أن نُحب عقولنا وقلوبنا، ولتكن في العاطفة، فالقلوب أيضًا أكثر في محبَّة الآخرين.
          الأمر الثاني: المُصارَحة والشَّفافية:
          من الأشياء المهمَّة والجميلة -أيُّها الإخوة- في علاقتنا مع الناس المُصارحة؛ لأنَّ الناس ليسوا كاملين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»، فكلَّما تعمَّقت في علاقتك مع شخصٍ؛ كلَّما ظهر لك من أخلاقه ما لا تعرفه من قبل، سواء حسنة أو سيئة.
          عندئذٍ تحتاج أنت إلى ماذا؟ إلى أخٍ في الله، فالأخ في الله مهمَّته الأساسية هي ماذا؟ تسديد هذا الأخ، وإخراجه تحفة فنية رائعة جميلة خالية من السيئات أو مُهذبة؛ لأنَّ بعضنا يرى على بعض الأشخاص أشياء سيئة، ومع هذا يقول: الزمن كفيل. وهذا ليس صحيحًا.
          بل من واجبي الشرعي أن أُصحح مسيرة هذا الإنسان إلى الله -عز وجل.
          فعندما ترى مثل هذه الأشياء تحتاج إلى نوعٍ من المُصارحة. أليس كذلك؟
          والشَّفافية تحتاج إلى وضوحٍ، والوضوح يحتاج إلى ذوقٍ. كيف؟
          أحيانًا بعض الأشخاص أذكياء، فعندما ترى عليه عيبًا مُعينًا تقول له قصة مُشابهة وهو يتعدل مباشرةً، وهناك أناس لا يحتاجون إلى صراحةٍ، ولكن هذه الصَّراحة ينبغي أن تُغلَّف بغلافٍ جميلٍ.
          بعض الأشخاص يأتي له واحدٌ فيقول له: والله يا أخي اكتشفت أنَّك كذَّاب.
          هذه لا تصلح، لكن يمكن أن يأتي بعباراتٍ أخرى مقبولة عند النفس؛ لتصحيح خطأ موجود عند هذا الإنسان، يقول له: والله أنا أحس أنَّك تُبالغ في بعض الأشياء، وهذه المبالغة قد تجرك إلى الكذب.
          ألطف من التي في الوجه، فالتي في الوجه قوية، لا يستطيع الإنسان أن يتحملها.
          ولذلك احذر كلَّ الحذر من أن تُخطئ في الناس في قلوبهم؛ لأنَّ في بعضها الجروح داخلية، وليست جروحًا خارجيةً، فالخارجية تَنْدَمِل، أنا عندي جرح هنا ترونه؟ هل يراه أحدٌ منكم؟ لكن البعيد لا ترونه، بيني وبينك هذا، لكن الذي في القلب لا يُرى مُطلقًا، ولكنَّه مُؤلمٌ على المدى البعيد.
          المُصارحة أيضًا تحتاج إلى تواضعٍ. تواضُع ممن؟
          من الطرف المُقابل الذي يستقبل هذه الرِّسالة، وتحتاج منك أيضًا إلى تلطفٍ في إيصال هذا الأمر إلى الشخص الآخر.
          أيضًا عندما نتكلم عن أنَّ المُصارحة والشَّفافية مهمة في علاقات الناس، أو مبدأ مهم جدًّا في حياة الناس بعضهم مع بعضٍ؛ فالمُصارحة والشفافية مُستلزمة لماذا؟ للحوار؛ لأنَّه لا يمكن أن تُصارح إنسانًا وتكون معه شفَّافًا ما لم يكن بينكما حوارٌ؛ حتى تُقنعه بقضية معينةٍ، فعندما تحاور شخصًا تذكر أنَّه بشرٌ يُخطئ ويُصيب، والناس مثل القمر، فالقمر له وجهان: وجه مُضيء، ووجه مُظلمٌ؛ لأنَّه يعكس فقط.
          لذلك نحن نحتاج إلى أن نتعامل مع الناس على هذا الأساس، لهم وجه مُضيء، ولهم وجه مُظلِم، لكن بعد ذلك يتحول هذا المُضيء إلى مُظلمٍ، والعكس، فالمُظلم يتحوَّل إلى مُضيء.
          مَن الذي يجعله هكذا؟ أنت، حوِّل أخلاق الناس إلى الأحسن والأفضل، بماذا؟ بأن تعرف أنَّ لهم أوجهًا مختلفة، وأنَّهم يمكن أن يتحسَّنوا، وأنَّ لهم عذرًا.
          أحيانًا ترى شخصًا مُخطئًا في شيءٍ ما، وتتوقع أنَّ هذا الخطأ مُتعمَّدٌ، وهو في الحقيقة ليس بمُتعمَّدٍ.
          أيضًا عندما تُحاور شخصًا وتريد أن تُصارحه لا للإحراج، لاحظوا الأدب النبوي، يقول الله -عز وجل- عن نبيه -صلى الله عليه وسلم: ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ﴾ [التحريم: 3]، ما في داعي عندما نأتي نُصارح إنسانًا نفتح الملفات كلها السَّابقة واللاحقة وكلّ شيء، فهذا ليس صحيحًا، أنت تريد أن تُعالج خطأً مُعينًا فركِّز عليه، ثم بعد ذلك صحح هذا الخطأ. لا للإحراج، لا لفتح كل الملفات في وقتٍ واحدٍ، فهناك ملفات قديمة عُولجت وانتهت، لكن ما في داعي أن تُفتَح، تقول: والله أنت أصلًا كذا، وفعلت كذا، وفعلت كذا؛ هذا ليس صحيحًا، إذا كان التَّلميح مُفيدًا فهذا بلا شكٍّ حسنٌ.
          أيضًا في الحوار لا تخسر أحدًا بأن تكون قويًّا عليه في العبارات أو غيرها من الأشياء.
          من الأشياء المهمَّة جدًّا من مبادئ العلاقات الاجتماعية: امنح الثِّقة للآخرين.
          دعوني أسألكم يا شباب: هل نحن نُعاني من أزمة ثقة في حياتنا أو لا؟
          نُعاني، أعطوني أمثلةً عليها.
          هل نُعاني من أزمة في الثقة في حياتنا اليومية؟ أعطوني مثالًا، هل هناك صور من انعدام الثقة؟
          أريد شيئًا تُشعِر الناسَ أنَّك لا تثق بهم.
          {إنسان دخل أمامك وأنت مُحرَج أن تقول له: لا تُدخن، وهو أصلًا مُدخن}.
          أعطِ الآخر كي نسمع منه، تفضَّل.
          {أنت تقصد في المسألة أن انعدام الثقة للشخص الآخر؟}.
          نعم، يعني مثلًا عندما أذهب أنا وأتخون إنسانًا وأُتابعه، فهذا من عدم الثقة بيني وبينه، وعندما آخذ جوال شخصٍ دون أن يشعر لأبحث في ملفاته، وعندما أذهب لـ D و C في اللاب توب حتى أرى الملفات التي دخل عليها، وعندما أعمل برنامجًا للتَّجسُّس على شخصٍ في جهازه حتى أعرف أيَّ برامج الدَّردشة دخل، ويحفظ كلّ الدَّردشات التي صارت، هذا تخون، وعدم ثقة.
          فهذا ما نريده، نحن لدينا أزمة ثقة، فعندما أُعطيك ثقة تُعطيك ماذا؟ أمان، تشعر بأنك تعيش في جوٍّ آمن، وليس جوًّا مليئًا بالإشكالات، ومليئًا بالخوف، ومليئًا بالرُّعب.
          أيضًا -أيُّها الإخوة- لا ثقةَ بلا تفويضٍ.
          هناك بعض الأشخاص في الأعمال المُؤسسية تجد كلَّ الأعمال يقوم بها هو، ولكن لا يمكن أن يُعطيها للآخرين، وهذا خطير جدًّا، فهو يقوم بالنسخ والطباعة والكتابة والبحث والتوزيع وكلّ شيءٍ، وهذا غير صحيحٍ، فلا ثقة بلا تفويض.
          لا ثقة بلا حرية، عندما تستعبد أشخاصًا فأنت تنزع منهم هذا الأمر.
          من الأشياء الخطيرة مثلًا في حياتنا: المركزية تقتل الثِّقة، ولكن ما علاقة الثقة بحياتنا الاجتماعية؟
          فعندما لا أثق بولدي لا يمكن أن يتعامل معي بطريقةٍ حسنةٍ أبدًا، وعندما يشعر ولدي أنَّه تحت المُراقبة فعندئذٍ ماذا سيحصل؟ سيتخلق بأخلاقٍ ليست أخلاقه في الحقيقة، وسيُظْهِر لي أنَّه أمين، وأنَّه تقي، وأنَّه صالح، وأنَّه يخاف الله، وأنه...، وأنه...، لكن عندما تأتي الأمور وتتكشف يظهر لك أنَّ هذا له أكثر من وجهٍ.
          الزوجة عندما تكون مُتهمةً دائمًا، تجد أنَّها أحيانًا -من باب العناد- تُطاوع هذا الاتهام الذي يُلقى عليها.
          أيضًا ننبه هنا على مسألةٍ مهمَّةٍ جدًّا: نحن عندما ندعو إلى الثقة ندعو إلى ثقة متبادلة بين الناس، تثق بي وأثق بك، فتُفوضني وأفوضك، وعندما تضعني في مكانٍ تثق بأني سأحقق هذا الإنجاز -بإذن الله- لكن الشَّريعة تنهى عن الثِّقة المحرمة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ».
          يعني هذه ثقة لا تجوز في شرع الله -عز وجل- مع أنَّ بعض الناس يقول: بالعكس، الناس طيبة، وقلوبها طيبة. صحيح، ولكن الشيطان ليس طيبًا، فأنا قد أثق بك، ولكني لا أثق بشيطانكَ الذي يوجد في داخلك، والذي يحاول أن يُضلك عن هذا الطَّريق المُستقيم.
          طيب، الآن سننتقل إلى محورٍ آخر، نحن ذكرنا بعض المبادئ: التَّوازن بين التعقل والانفعال، والمُصارحة والشَّفافية، ومنح الثِّقة بين الناس يُورِثهم أخلاقًا صحيحةً وليست أخلاقًا مزيفةً.
          هناك -يا شباب- نوعان من الأخلاق نحتاج أن ننتبه لهما:
          - أخلاق صناعية.
          - وأخلاق حقيقية.
          الآن الابتسامة نحن في شرعنا هي أخلاق حقيقية. لماذا؟
          لأننا عندما نبتسم فنحن نتَّكِئ على قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «وَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ»، لكن الشخص الآخر الذي يكتبون له "Smile" يعني ابتسم في وجوه الناس –وهذا عند أصحاب "الكاشيرات" في الأسواق الكبيرة- هو في الحقيقة يبتسم لماذا؟ لينتزع فلوسك، لينتزع المال، وفعلًا ينتزعه؛ لأنَّ الابتسامة تنتزع.
          ولهذا يقول الصِّينيون: "الذي لا يعرف أن يبتسم لا يفتح دُكَّانًا"، والذي لا يعرف أن يبتسم لا يتزوج، والذي لا يعرف أن يبتسم لا يُنجِب أولادًا، والذي لا يعرف الابتسامة لا يكون إمامًا، والذي لا يعرف أن يبتسم لن يستطيع العيش في هذه الحياة، أمَّا الشخص المُضَيِّق على عمره، والذي لا يعرف إلا الحزن والاكتئاب والجلوس في زوايا البيت، هذا الإنسان يقتل نفسه بنفسه.
          الوحدة -أيُّها الإخوة- قاتلة.
          ولهذا الله -عز وجل- عندما يُعبر في بعض الآيات عن النار يقول: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾، بينما الجنة تأتي في كلِّ القرآن الكريم: ﴿خَالِدِينَ﴾؛ لأنَّ الاجتماع نوعٌ من المتعة والأنس والراحة والفرح والسُّرور والنعيم، والوحدة نوعٌ من العذاب، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «الْوِحْدَةُ عَذَابٌ»، وقال: «لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي الْوِحْدَةِ مَا جَلَسَ إِنْسَانٌ وَحْدَهُ».
          تعالوا اليوم نتكلم عن قضية مهمَّةٍ جدًّا وهي: مهارات التواصل في أثناء الخلاف والمشكلات:
          وهذه إحدى المواقف التي تظهر فيها أخلاق الناس.
          سفيان الثوري ماذا يقول؟
          يقول لابنه -وينقل عن جعفر الصَّادق- "يا بُني، إذا أردت أن تُصادِق أحدًا فأغضبه، ثم أغضبه، ثم أغضبه".
          كم مرة؟ ثلاث.
          قال سفيان: "والله وفي زماننا إن فعلناها ما بقي لنا صديق"، هذا سفيان في القرن الثاني، الآن في القرن الخامس عشر، تُرى لو فعلناها مع شخصٍ ماذا سيحدث؟
          أغضب زوجتك بعد خمس عشرة سنة من الزواج، ماذا تفعل بك؟ تحرقك حرقًا -بعضهم وليس كلهم.
          أحد الإخوة يقول: إنَّ شخصًا كان صديقًا له، ثم اكتشف في أحد المجالس أنَّه يغتابه ويسبُّه، هذا لا يصلح أن يكون صديقًا أبدًا أبدًا.
          لهذا، أغضِب الناس، اختبرهم في أموالهم، استَدِنْ مثلًا، فاطلب الاستِدانة، ترى مَن سيقف معك في هذه الأزمة، فإذا أدنت إنسانًا أو سلَّفت إنسانًا فحدِّث نفسك أنَّك لا ترى هذا المبلغ إلا في الآخرة، فإعادة الأموال في الدنيا من أشراط الساعة.
          وهذا شخص مرة جاءه إنسانٌ قال له: أريد فقط مبلغًا بسيطًا.
          قال: أبشر، ولكن بشرط.
          قال: ما هو؟
          قال: تُقبل يدي.
          قال: لماذا أُقبل يدك؟
          قال: لأنَّك لن تُعيد المبلغ حتى أُقبل رجليك.
          وهذا واقعٌ عند الناس، فالناس حين تطلب الشيء تتفنن في الحصول عليه حتى تصل إليه، أيًّا كان، مبلغًا من المال، أو سيارة، أو قلمًا، أو أيَّ شيءٍ، ممكن يقول لك: من فضلك، لو سمحت، وكذا. لكن إذا أخذ المبلغ فالوجه من الوجه أبيض، ما عدت تراه أبدًا.
          وقبل أن يأخذه يُرسل لك رسالةً: أخي الكريم، إني أحبك في الله، أحتاج المبلغ الفلاني.
          فتقول له: أبشر.
          ويصل إليه هذا المبلغ مُحوَّلًا إلى حسابه، أو منقودًا في يده.
          وبتجربةٍ ونصيحةٍ: إذا استدان منك شخصٌ فاجعل المال صدقةً لوجه الله؛ لأنَّ إعادته ضربٌ من المُحال في هذه الأزمة إلا مَن رحم الله، نحن لا نُعمم، ولكن كثيرًا من الناس يحصل منهم هذا الأمر.
          قبل أن نتكلم عن كيفية التعامل مع الخلاف، فهذا مهمٌّ جدًّا، فعندما يكون لك صديق ثم تختلف أنت وهو، وتكون معك زوجة.
          يبدو أنكم عُزَّاب، فهذا واضحٌ على وجوهكم، ابتسامة وفرح وسرور، فإذا تزوَّجتم تعلوكم كآبة وحُزن لا يعلمه إلا الله، وإن شئت فانظر للمُصورين والمُسجلين هناك، شاهد وجوههم كيف هي؟ كلها سوداء، ليس لأنَّهم من السُّودان، ولكن بسبب ما يُلاقونه من الأذى والألم والعذاب وغيره.
          هذه طُرفة، وأنتم -إن شاء الله- إذا تزوَّجتم يحدث لكم العكس، تسعدوا -بإذن الله تعالى- لكن يُصاب الواحد منكم طبعًا بأمراضٍ لم يكن يُصاب بها من قبل، أكيد مائة بالمائة، مثل القُرحة، وقد تُصاب بارتفاع ضغطٍ بين فترةٍ وأخرى، وسكر، والسكر مرحلة ثالثة بعدما تمر عليك ثلاث سنوات أو أربع من الطلبات، واسألوا المُتزوجين، وتروهم يضحكون كلهم حتى مَن خلف الشاشة.
          طيب، دعونا نرى الخلاف، لماذا يحصل خلاف أصلًا؟
          حياة بدون خلافٍ لا توجد في الدنيا، لابُدَّ أن نعترف بهذا، والخلاف كما يقول شيخ الإسلام ابنُ تيمية: "يحصل على الناس كما يحصل عليهم الحرّ والبرد"، وهذه كلمة من أنفس كلمات شيخ الإسلام -رحمه الله- وكلامه نفيسٌ.
          قال: "والخلاف يقع على الناس كما يقع عليهم الحر والبرد"، فالحر والبرد الآن سنة كونية في هذا الكون، مرة حر ومرة برد، نفس الشيء.
          ولهذا أفلاطون قبل ثلاث آلاف سنة لما ألَّف كتابه "المدينة الفاضلة" تخيَّل مدينةً في ذهنه، مدينة ساحرة ليس فيها خلاف، وهذه ليست في الدنيا، فهي في الآخرة فقط، وكان شيخ الإسلام كما يقول عنه ابنُ مُفْلِح: كثيرًا ما يتمثل بقوله: "جُبِلت على كدرٍ وأنت تريدها صفوًا وخالية من الأكدار"، لا يمكن، فقد خلقنا الله -عز وجل- فيها في كبدٍ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]، ففيها الحلو، وفيها المر، وفيها التَّعب، وفيها الراحة، وفيها الحزن.
          الآن كم الساعة؟
          العاشرة وثلاث وعشرون دقيقة، تجد في هذه الدَّقيقة الآن شخصًا يُولَد، وشخصًا يموت، ما معناه؟ بيت يبكي، وبيت يفرح.
          هكذا هي الدنيا، فالذي يُريدها كلها سعادة وسرور، ليس هذا صحيحًا، ولو كان سيحصل هذا الأمر لأحدٍ لكان قد حصل للحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولكنَّه كان يجوع ويشبع ويحزن، والله -عز وجل- يقول: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾ [الأنعام: 33]، حزن يُصيب النبي -صلى الله عليه وسلم.
          قبل أن نذكر كيف نتعامل؟ وما مهارات التواصل في هذه الحوادث؟ دعونا ننظر: ما أسباب وجود الخلاف الاجتماعي بين الأب وولده، وبين الزوج والزوجة، وبين الأصدقاء بعضهم مع بعضٍ، وبين جماعة المسجد والإمام، وهكذا؟
          منها: اختلاف الناس بعضهم عن بعضٍ: هذه قضية مهمَّة، فأنت ترى شخصًا مستواه التعليمي ابتدائي، والثاني متوسط، والثالث ثانوي، والرابع جامعي، والآخر ماجستير، ودكتوراه، وهكذا.
          وكلَّما ازداد الإنسان في العلم -هذا المفترض طبعًا- كلما تهذَّبت أخلاقُه ورقَّ، وكلَّما كان في بيئةٍ مليئة بالأخلاق وحُسن التعامل كلَّما رقَّ أيضًا هذا الإنسان، بخلاف الشخص الذي يعيش في بيئةٍ قاسيةٍ، فتصور إنسانًا يعيش في جوٍّ كله خلاف، وكله ضرب، وكله حرب بين الزوج والزوجة، وبين الأب والأم، كيف ستكون أخلاقه؟
          ولذلك في أمريكا رجل اسمه جيفرد همر، أبوه وأمه في حالة شقاقٍ مُستمرة، فماذا فعل؟
          هذا الرجل خرج وحشًا، لما كبر أصبح أكبر مجرمٍ في أمريكا. ماذا يفعل؟
          يأخذ الضَّحية فيُنزلها تحت الأرض في بيته -البادروم عنده- ثم يتلذذ بها، فيربطها ثم يقطعها عضوًا عضوًا قبل أن تموت، تصوروا أي ألم هذا!
          يعني إنسان مُسْجَى ويقطع ركبته، ثم يقطع فخذه، ويقطع يده وهو حي. ثم ماذا يفعل في النهاية؟
          يجمع هذه الأعضاء ويضعها في قدرٍ ويطبخها ويأكلها، حتى قتل تسع ضحايا له، ثم اكتُشِفَ بعد ذلك وتم القبض عليه.
          هذا الرجل نتيجة لماذا؟
          نتيجة لبيتٍ يُمارس مهارات التواصل بطريقةٍ سيئةٍ، خاصَّة في الخلاف.
          اليوم قبل أن آتيكم جاءني اتصالٌ من إحدى الأخوات تقول لي: يا شيخ، زوجي دائمًا عصبي، ويرفع صوته عليَّ، ويُهددني بالطلاق.
          فقلت لها: أحد الأشخاص لما ذهب يخطب امرأةً -من الجاهلية، أو كأنَّه في الإسلام لا أعرف الحقيقة، لكنَّها قصة مشهورة- قال لها: إنَّ خصالي خير، إلا أن فيَّ خصلة وهي أنني أغضب.
          فقالت له المرأة: أسوأ منك مَن يُحوجك إلى أن تغضب.
          تقول له: أصلًا أنا لن أجعلك تغضب أصلًا.
          ولهذا فإنَّ الحياة الزوجية أخذٌ وعطاءٌ، مَن يرفع الضَّغط: الرجل أم المرأة؟
          الحياة الزوجية -يا إخواني- فيها اسطوانة، وفيها موقِد، فالموقد لا يمكن أن يتحرك ويعمل ويُخْرِج نارًا ما لم تكن الاسطوانة مفتوحة، والاسطوانة هي المرأة -مع احترامي لجميع الأخوات- والموقد هو الرجل.
          لذلك فإذا كانت اسطوانة الغاز غير مفتوحة فسيظل هذا الموقد جمادًا لا يتحرك. أليس كذلك؟
          ثم يأتي الخلاف والشَّرارة هذه التي تُوضَع، سواء كانت كبريتًا أو غيره.
          لهذا دائمًا أقول للزوجة: اهدئي، امتصِّ غضبَ هذا الإنسان، فقولي له: أنا آسفة، أعتذر إليك.
          لذا -أيُّها الإخوة- أول قضية ينبغي أن ننتبه لها: أنَّ الناس مختلفة تمامًا عن بعضها: في تربيتهم، وفي ثقافتهم، وفي بيئتهم، وفي أخلاقهم، وفي أفكارهم.
          فإنسان يأخذ زوجةً من بيئةٍ مختلفةٍ، وهو أيضًا من بيئةٍ مختلفةٍ، أليس كذلك؟ ويجتمعان تحت سقفٍ واحدٍ.
          وهناك مَلْحَظٌ مُهمٌّ جدًّا جدًّا، فقبل قليلٍ كنتم تأخذون درسًا في التفسير، فالله -عز وجل- يقول: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [الروم: 21].
          يا أيُّها الإخوة، الله -عز وجل- يجعل الزواج آيةً من آيات الله بين السَّماوات والأرض، آية عظيمة في الكون، لماذا؟
          لأنَّ انسجام شخصين من بيئتين مختلفتين ويحملان طباعًا مختلفة ويُصبحان شيئًا واحدًا هذا شيءٌ غير طبيعي، لولا أنَّ الله -عز وجل- قد جعل هذه المودة والرحمة سنة في هذه الحياة: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [الروم: 21].
          ولهذا الآن حين يدرسون قضية العلاقة بين الرجل والمرأة يقولون: هناك ذكاء اجتماعي، فحين تأتي في ليلة الرؤية الشرعية أول ما تقع عينك على عينها يحصل نوعٌ من الانسجام غير طبيعي، فتشعر براحةٍ داخليةٍ.
          وانتبهوا يا شباب: بالتَّجربة -ليس مني، وإنَّما من أشخاصٍ آخرين وكنتُ أنا أنصحهم بهذا- بعد الرؤية الشرعية يحصل ضيقٌ كبيرٌ جدًّا في نفس الإنسان من الشيطان، فهو يريد أن يُكره هذه المرأة له، خاصَّةً إذا كانوا أناسًا صالحين، لكن بعدها ترتاح، خاصَّة بعض الإخوة الطَّاهرين الأنقياء مثلكم، ومثل مَن يسمعنا خلف هذه الشاشة، وخارج هذه القاعة.
          فالواحد منكم ما تعوَّد على نساء، فيصطدم بفتاةٍ تأتي وهي مُتزينة وصاحبنا ما تعوَّد عليها، فبعضهم نظيف حتى إنَّه لا يُشاهد اليوتيوب وهذه الأشياء، فإذا رأى شيئًا غضَّ بصره، فهذا وأمثاله أناس نظيفون أنقياء قلوبهم طاهرة، ولذلك أعينهم طهرت أكثر، ولذلك ينصدموا في البداية، لذلك نقول للواحد منهم: سيأتي -إن شاء الله- الحب والمودة.
          وكما ذكرتم لكم في أول حلقة: تعارف، تآلف، تكاتف.
          لا تنسوها، ليس من أول يوم -ما شاء الله- زوجي رقم واحد، هذا ليس صحيحًا، فالحياة الزوجية تتراكم، وأنا دائمًا أُشبه الثقة بالبلوك، فلا يمكن أن تبني مبنى إلا وفيه هذا، فالحب هو الإسمنت، فتبني البيت الآن جميل ورائع وقوي -بإذن الله تعالى.
          فالثقة لا تأتي في يومٍ وليلةٍ، فأنت حين تُعاشر إنسانًا تتعرف أخلاقه؛ فتُعطيه حياتك، وتُعطيه أسرارك، ولذلك فليس كل أحدٍ يستحق هذا الأمر.
          الأمر الثاني: طبيعة النفس البشرية: فالله -عز وجل- عندما ذكرنا نحن في كتابه وصفنا بأوصافٍ كثيرةٍ، قال: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28]، وقال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19- 21].
          وقال الله -عز وجل- أيضًا في سورة الإسراء: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ [الإسراء: 83]، هذا الإنسان أنا وأنت، والألف هنا للعموم: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾، ماذا قال في الآية التي بعدها؟ ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء: 84]، الشاكلة هنا هي طبيعة النفس البشرية، فهناك أناس طبيعتهم غضبية، وهناك أناس على عكس ذلك، فهم أهدى من هؤلاء بكثيرٍ.
          فالنفس خُلِقت هلوعة، إذا مسها الشر جزوعة، وإذا مسها الخير منوعة، ففيها محبة في الحصول على الدنيا.
          عندما يأتي إنسان ينافسك على هذه الدنيا، تصور، وأنا أُعطيكم مثالًا: لو أنَّك قدمت رسالة ماجستير بعنوان معين، ثم تفاجأت أنَّ شخصًا قدَّم نفس العنوان في نفس اليوم وأخذه عليك، مع أنَّك استشرته من قبل!
          ما الذي سيحصل في داخلك؟
          ولهذا يقول ابنُ كثير -رحمه الله: "وكان الناس يتقاتلون -يعني الصَّحابة لما حصلت بينهم الفتنة رضي الله تعالى عنهم- فإذا أظلمت الليلةُ -غربت الشمس- دخلوا في هذا المعسكر يتسامَرون إلى منتصف الليل".
          ففي الصباح سيوف، وهي فتنة كان يدخل فيها بعضُ الأطراف الخارجية بعيدة عن هذه النفوس.
          فهناك نفوس كبيرة -يا شباب- تتعالى على كلِّ خُزعبلات الدنيا، فهي أشبه بالنار التي يمكنها أن تُذيب أيَّ شيءٍ، فأيُّ خلافٍ يمكن أن يذوب، فهناك أناس كبار.
          وقد جاء ابنُ القيم -رحمه الله- لشيخ الإسلام ابن تيمية ذات يومٍ فرحًا؛ لأنَّ ابن الزَّمْلَكَانِي قد مات، وأظن أنَّ اسمه هكذا، وهو أحد علماء المالكيَّة، وقد كان عدوًّا لشيخ الإسلام ابن تيمية، فجاء ابنُ القيم فرحًا إلى شيخ الإسلام يقول: "يا شيخ الإسلام، صاحبك مات".
          ومن المفترض أن أي عدو يموت لك تفرح، قال ابن القيم: "فنهرني، وقام لتوِّه إلى أهله فعزَّاهم وقال لهم: أنا لكم مكانه، أي شيء تحتاجونه أُؤديه".
          هذه نفوس كبيرة يا شباب، لكن هذه النفوس الكبيرة ماذا فعلت؟
          الآخرة عندها فوق الدنيا.
          هل عندك سؤال؟
          تفضل.
          {يا شيخ، أحسن الله إليك، إذا كان إحساني إلى شخصٍ معينٍ أو بعض الفئات سيزيد من أذيتهم لي، فما شأن إحساني لهم؟ هل أتوقف عنه أم ماذا أفعل؟}.
          أنت الآن تتعامل معه من أجله هو أو من أجل الله تعالى؟
          نحتاج أن نُقدم هذه الأخلاق لله، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ». ثم قال: «يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا». ثم قال: «وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»، فقد يكون سلامك هذا وابتداؤك به يزيده في طغيانه، ويمكن أن تمد يديك ولا يمد يديه، فهذا طبيعي، لكنَّك ماذا فعلت؟ كسبت هذا النص النبوي: «وَخَيْرُهُمَا»، أنت خير الآن.
          والناس ينبغي أن تتعامل بهذا الأمر، فأتعامل بأخلاقي من أجل الله تعالى، كما أنَّ الرجل يُقاتِل حميَّةً ويُقاتل كذا، فينبغي أن تكون أخلاقنا لله، وليست حميَّةً ولا لشيءٍ آخر.
          نختم بقضيةٍ أخرى -أيُّها الإخوة- وهي: الشُّعور بالظلم وعدم العدل:
          من الأشياء التي تجعل بين الناس فجوةً وتُحْدِث خلافًا اجتماعيًّا: الشعور بالظلم.
          فحين تأتي مجموعة من الإخوة إلى بيت واحدٍ منهم مُحبَّب مُقرَّب، يُعْطَى أموالًا أكثر، تجد أنَّ البقية يفعلون شيئًا كبيرًا جدًّا، ولذلك ماذا حصل بين إخوة يوسف ويوسف؟
          أيضًا منها: سوء الفهم: أن يفهم الإنسان من الطرف الآخر كلمةً على غير وجهها، وهذا يحصل كثيرًا، ولهذا دائمًا أحذر من التَّعامل في حلِّ الخلافات عن طريق الجوال. لماذا؟
          لأنَّك عندما تُرسِل فإنَّ الشيطان هو الذي يُوصِلها، وليست الشركة المُرسِلة، فالله -عز وجل- يقول: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ [الإسراء: 53]. ما معنى "ينزغ"؟
          قال المُفسرون: إنَّ الشيطان يأتي بين الكلمة ثم يُصورها بصورةٍ غير التي خرجت بها، ولو كان هناك أحد فعلًا يُمثل هذا بصورةٍ حقيقيةٍ سيجد شيئًا عجبًا، فالإنسان يتكلم بكلمةٍ يريد بها الخير، بل أحيانًا تُرسِل رسالةً وأنت تضحك، وأنت تُريد بها المِزاح، بينما الطرف الآخر يتقبَّلها بقبولٍ غير حسنٍ، وتقع في قلبه، ويزيدها الشيطانُ سوءًا -والعياذ بالله.
          ولهذا نحتاج دائمًا -وخاصَّةً مع الناس الحسَّاسين الشَّكَّاكين- إلى أن نتعامل بوضوحٍ؛ لأنَّ كلَّ كلمةٍ عندهم لها مائة ألف تأويل، فإذا وجدت أو صاحبت نوعًا من هذه الأنواع، أو تزوَّجت امرأةً من هذه النساء، أو زوجة تزوَّجت شخصًا ينبغي أن تكون واضحةً كل الوضوح؛ حتى لا يُساء فهم أي كلمةٍ أو أي تصرُّفٍ من خلال هذا الشَّخص.
          إنسان خرج مرةً من عمله مغضبًا إلى المنزل، وفتح الباب وأغلقه بقوةٍ؛ لأنَّ الهاتف كان مشغولًا، وكانت الزوجة نائمةً، وقد رمى أحدُ الأطفال الهاتف، لكن هو ماذا فعل؟ ساء فهمه.
          أختم لكم بهذه القصة، ولعلَّ الوقت -إن شاء الله- يسعني، ويُعطيني المخرج -على الأقل- دقيقةً.
          شخص اتَّصل على أخيه وقال له: رجاءً أنا في المستشفي وولدي على وشك الموت، وأحتاج إلى مبلغ كذا، وليس لدي هذا المبلغ، والطبيب يحتاج منا الآن هذا المبلغ، وأيضًا مبلغ العلاج.
          قال له أخوه: أنا في الطريق.
          نصف ساعة وهو يُواصل الاتصال ويقول: إن شاء الله سآتيك، وبعد النصف ساعة انقطع الإرسالُ تمامًا بين هذا الشخص والآخر.
          وجلس ساعةً في المستشفي ينتظره، فمرت الساعة الأولى، والساعة الثانية، وبعد الساعة الثانية جاء هذا الشخص وهو يَلْهَث ويقول: آسف يا أخي، اتَّصلت عليَّ وليس لدي والله مال، فاضطررتُ أن أخرج من المنزل وأذهب إلى سوق الجوَّالات وأبيع جوالي.
          كيف تتصل على شخصٍ والجوال مُغلَق؟ يأتيك ألف سوء ظن!
          انظر هذا الشخص الآن أغلق جوَّاله؛ ليبيعه من أجل هذا الإنسان.
          ليتنا نتعامل مع الناس بهذا الأمر، فنُحسِن الظنَّ بهم؛ فتحسن علاقتنا، بل تحسُن قلوبنا ونفسيَّاتنا في الداخل، أمَّا إذا تعاملنا بسوء الظنِّ فإنَّ أول مَن يشقى بسوء الظن هو نحن؛ لأننا لا ننظر إلى الناس إلا بأعين الذُّبابة، كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.
          إن شاء الله في الأسبوع القادم -بإذن الله- سنتكلم عن نوعٍ من أنواع الخلاف، وكيف نتعامل معه؟ سواءً بين الإخوة، أو بين الزوج وزوجته.
          أيُّها الإخوة، قصة أرجو أن تكون محلَّ عنايةٍ منكم قد ختمنا بها لقاءنا في هذه الليلة، دائمًا وأبدًا أدعو بدعاء نبينا -صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ».
          دمتم بخيرٍ، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ.


          تحميل ملف صوت rm
          تحميل ملف التفريغ word


          تعليق


          • #6
            رد: مهارات التواصل الاجتماعي - د/ علي الشبيلي




            مهارات التواصل الاجتماعي
            د. علي الشّبيلي
            الدرس (6)

            http://www.youtube.com/watch?v=FI8xeB70l38



            بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
            أمَّا بعد -أيُّها الإخوة والأخوات- سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
            أسعد الله أوقاتكم باليُمْن والمَسَرَّات، مرحبًا بكم في حلقةٍ جديدةٍ من هذا البرنامج الذي نتواصل فيه معكم حول الحديث عن هذا الموضوع المهم، ألا وهو مهارات التواصل الاجتماعي.
            فحيَّاكم الله، ومرحبًا أيضًا بالإخوة الأفاضل في هذه الحلقة الذين شرَّفونا بحضورهم، ونسأل الله -عز وجل- لنا ولكم التَّوفيق.
            إخوتي الكرام، تحدَّثنا في المرة الماضية عن الخلاف بين الناس، ونتحدث في هذه الحلقات أصلًا على مهارات التواصل الاجتماعي، فالأصل أنَّ الإنسان يرعى هذه العلاقة بينه وبين إخوانه، أو الرجل مع زوجته، أو الأب مع أولاده، أو الأولاد مع والدهم، وكثيرة هي العلاقات التي ينبغي أن تُراعى.
            وقد تحدَّثنا وركزنا على هذا المعنى كثيرًا، ألا وهو: رعاية العلاقات الاجتماعية على جميع المُستويات.
            هناك علاقات بسيطة تمر بالإنسان، كركوب شخصٍ بجوارك مثلًا في الطائرة، فهذه علاقة عارضة تمر، ثم بعد ذلك تزول، وهناك شخص قد تُقابله في سفرٍ لمدة أسبوعٍ وتنقطع هذه العلاقة بعدها وقد تدوم.
            وهناك علاقات مُتوسطة، كطلابٍ مثلًا يدرسون مع بعضهم البعض في الجامعة لمدة أربع سنوات ثم يتخرَّجون.
            لكن هناك علاقات دائمة، وكلَّما كانت العلاقةُ دائمةً وطويلةً كلَّما احتاج الإنسانُ إلى رعاية أكثر؛ لأنَّ هذه العلاقة الدَّائمة تقتضي استقرار الشخص الذي تتواصل معه في حياتك.
            فالأب مثلًا والأم بالنسبة للشخص هذه علاقة دائمة وطويلة المدى، تستمر لعشرات السنين بعد عمرٍ طويلٍ لكلِّ الأطراف، وعلاقة الرجل مع زوجته أيضًا هي علاقة دائمة.
            إذن نُقعِّد قاعدةً قبل أن ندخل في درسنا هذا اليوم، وهي: أنَّه كلَّما طالت العلاقةُ كلَّما احتاجت إلى رعايةٍ أطول، وكلَّما احتاجت إلى تفنُّنٍ وتجديدٍ في هذه الرِّعاية. لماذا؟
            لأنَّ طول العهد دائمًا يجعل المللَ يتسرب إلى القلوب، ومن ثمَّ يحتاج الإنسانُ إلى أن يُجدد بين فترةٍ وأخرى هذه العلاقة حتى تحيا وتدوم، كما أنَّ الشجرة بحاجةٍ -خاصةً في أولها- إلى سقيٍ كثيرٍ جدًّا حتى تنبت ويقوى عودها؛ فكذلك هذه العلاقات الاجتماعية بحاجةٍ إلى هذه الرِّعاية.
            لهذا تُلاحظون -أيُّها الإخوة- أنَّ ابن الجوزي -رحمه الله- قسَّم علاقات الناس إلى ثلاثة أقسام، فقال: "الناس في البداية يكونون معارف، ثم يتحوَّلون إلى أصدقاء، ثم يتحوَّلون إلى إخوةٍ".
            فالإنسان لا يمكن في يومٍ وليلةٍ أن يتحوَّل إلى أخٍ لهذا الإنسان ما لم يكن هناك نوعٌ من المعرفة المُسبقة، ثم بعد ذلك التَّآلُف، ثم بعد ذلك الصَّداقة، ثم بعد ذلك تأتي الأخوة فيما بينهم.
            ونحن اليوم سوف نتحدَّث عن إحدى العلاقات الطَّويلة التي يحتاج الإنسان فيها فعلًا إلى عنايةٍ تامَّة وفائقةٍ، وأكثر ما نحتاج للاعتناء به في العلاقات هو وقت الغضب، فالناس في فترة السِّلْم من السهل أن يتعايشوا مع بعضهم البعض، وقد تقع أحيانًا بعضُ الأمور الشَّاذة البسيطة، فتقع بعض المواقف اليسيرة في أثناء اليوم، ثم تُمحَى بالحياة اليومية والخروج في السيارة أو حصول موقفٍ بين الرجل وزوجته، أو موقف جميل يمسح هذا الأمر، ولكن تأتي أحيانًا عواصفُ في العلاقات الاجتماعية، إحدى هذه العواصف التي تفتك بالناس هي عاصفة الحياة الزَّوجية، فتجد زوجين في قمة الوِئَام، ثم بعد ذلك يتدخل الشيطانُ في حياتهما دون أن يشعرا؛ لأنَّ الشيطان إحدى مهامه الكبرى اليومية الرئيسة التي يتولاها هي إفساد العلاقة بين الزوجين.
            في هذه العواصف يظهر ثباتُ الناس، وتظهر قوة حبِّهم لبعضهم البعض، فكلَّما تعمَّق الحبُ، وكلَّما زادت العلاقةُ بين الزوجين فإنَّهما لا يتأثَّران بالعاصفة مهما بلغت قوتها؛ فلا تكاد تفتك بهم -بحمد الله تعالى.
            ولهذا يقولون: الذي يبني بيته على الصُّخور لا يعبأ بالعواصف.
            وهناك علاقات تكون أحيانًا بين الزوجين لكنَّها علاقات -للأسف الشديد- أشبه ما تكون بالعلاقات الرَّسمية، إن رُزِق بأولادٍ فإنَّه يُعطي مصروفًا وتنتهي العلاقة، لكن المودة والرحمة التي ينشدها الله -عز وجل- والتي نحن بحاجةٍ إليها في أثناء التَّعامل لا توجد.
            ولذلك لاحظوا قول الله -عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا[الروم: 21].
            إنَّ أول مرحلة: السَّكن.
            ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، مودة تعيشون بها في حياتكم، فإذا ما حصلت مشكلةٌ ما تحتاج إلى رحمةٍ.
            ولذلك ذكر المودة والرحمة، فالمودة وقود يومي، والرحمة نحن نحتاجها خاصةً عند الخلاف، فإننا نحتاج إلى أن يرحم بعضُنا بعضًا، بل أن نرحم أنفسنا نحن. لماذا؟
            لأنَّك تجد زوجًا لموقفٍ بسيطٍ بينه وبين زوجته تنقلب حياته رأسًا على عقب، وبدل أن يهجرها يومًا أو يومين أو ثلاثة؛ تصبح حياته كلها هجر، فيهجر بالشهر والشهرين والثلاثة والأربعة، ويستمر بعضُهم إلى سنوات طويلة.
            أنا أذكر إحدى الزوجات تقول: إنَّ زوجها هجرها منذ أكثر من سنة فلا يكاد يقربها ولا يتكلم معها ولا شيء، هذه ليست حياة زوجية، لا شكَّ أن الشيطان هنا عشعش معهم، ولذلك فعلاقتهم ليست علاقةً قويةً وطيدة.
            إذن؛ نحن اليوم سنحاول أن ننظر في هذه العلاقة؛ كيف نستطيع أن نتجاوز هذه العاصفة؟
            إذا دخلنا في معمعة العاصفة؛ ما الأساليب التي يستخدمها الإنسانُ سواء كان ذكرًا أو أنثى في تعامله مع هذه العاصفة حتى ينجو منها ويفر من هذه العاصفة التي قد تقصف بحياته وتبعده؟
            قبل أن ندخل في هذه الوسائل والأساليب نريد أن نذكر مجموعةً من الأمور:
            أمَّا أولها فهو أنَّ الناس في طباعهم ينقسمون إلى أقسامٍ، من ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «مِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ سَرِيعُ الْغَضَبِ، سَرِيعُ الْفَيْئَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ بَطِيءُ الْغَضَبِ، بَطِيءُ الْفَيْئَةِ»، فهو يغضب ببطءٍ ولكن يرجع بصعوبةٍ، «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ هُوَ بَطِيءُ الْغَضَبِ، سَرِيعُ الْفَيْئَةِ، وَهَذَا هُوَ أَخْيَرُ النَّاسِ».
            هذه الأصناف الثلاثة في الحقيقة نحن نحتاج عندما نتكلم عن مهارات التواصل الاجتماعي -خاصَّةً بين الزوجين- إلى أن يعرف الإنسانُ أيَّ نوعٍ هو، فبعض الناس بمجرد أن تستفزه زوجته يُصبح نارَ الله المُوقَدة في المنزل، ويحرق كلَّ شيءٍ أمامه، ويمكن أن يتلفظ بأيِّ عبارةٍ من العبارات، سواء السَّب، أو الشَّتم، أو الطلاق، أو غيره، هذا الشخص سريع الغضب ثم يرجع، فتجده بمجرد أن يخرج من المنزل ساعةً أو ساعتين يعود بعد ذلك وكأنَّه لم يحصل شيءٌ، لكن في الحقيقة قد حصل شيءٌ؛ لأنَّ العبارات التي قيلت قبل قليلٍ هي سهام وصلت إلى قلب هذه المرأة، وهذا مهمَّة جدًّا.
            ولهذا أحيانًا ليس المهم العبارة، ولكن المهم القالب الذي ذُكرت فيه، أن تُذكر في قالبٍ فيه نوعٌ من الغضب والإساءة للطرف الآخر، ولهذا لا يكاد يحتملها، فالمرأة بهذه الأنوثة التي أعطاها الله -عز وجل- إيَّاها لا تحتمل مثل هذه العبارات القاسية، ولذلك تُؤثر فيها تأثيرًا كبيرًا كما يُؤثر فيها الجانب الآخر -الكلمة الطيبة.
            هناك نوعٌ من الناس سريع الغضب، ولكنَّه بطيء الفيئة، فهذا أسوأ الأنواع الثلاثة، فإنَّه يغضب بسرعةٍ، ولكن حتى تسترضيه تحتاج إلى استقدام مئات الناس لكي يُخبروا هذا الرجل بأحاديث كثيرةٍ، وليُحاولوا الإصلاحَ بينه وبين هذه الزوجة، وتجد نوعًا من الممانعة، مع أنَّ الأمر أحيانًا قد يكون تافهًا، ولكن تجد أنَّ عنده درجة الكرامة عالية جدًّا، وهو يظنها هكذا، لكن في الحقيقة لا.
            ولهذا نحن نحتاج أن نُقعِّد قاعدةً ثانيةً وهي: أنَّ التَّنازل في الحياة الزوجية رفعةٌ؛ لأنَّ بعض الأشخاص يركب رأسَه، والمرأة كذلك نفس القضية، وتجد كلَّ طرفٍ يظل في بيت أهله، وتقول المرأة للرجل: خذ أولادك. وهو يأخذ أولاده فعلًا، ثم يزداد العنادُ عندئذٍ وتُصبح الحبال التي كانت موصولةً بينهم لا تكاد ترجع.
            ويزيد الأمر سوءًا عندما تتدخل أطرافٌ خارجية لملئ قلب كلِّ واحدٍ على الطرف الآخر، فهنا أم الزوجة تملأ قلب ابنتها، وإخوانها وأخواتها، والزوج نفس القضية، إخوانه وأهله وأقاربه يملؤون قلبه، مع أن الأصل أن الناس إما أن تقول خيرًا وتُسهم في إعادة المياه إلى مجاريها وربط القلوب مع بعضها البعض، وإلا تسكت.
            فعندما يأتي أبٌ كبيرٌ وأمٌّ كبيرة وأخٌ كبير ويقول: هذه المواقف تمر على كلِّ الأسر، وأنت لست أول إنسانٍ مرَّت عليه هذه المشكلة، وأنت أعقل من أن تفعل هذا التَّصرف، ونحن -إن شاء الله- نُصلحكم، والله -عز وجل- يقول: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114]، فيتولى هذا الإنسان الكبير الإصلاحَ بين الناس، وإعادة المياه إلى ما كانت عليه من قبل، وليس إلى إفساد العلاقة بين الطرفين.
            ولهذا لاحظوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللهُ مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا».
            فهذه الصورة -وهي صورة التَّخْبِيب- تحصل -للأسف الشديد- من بعض الآباء وبعض الأُمَّهات وبعض الأخوات، فيُفسدون علاقة رجلٍ مع امرأته بسبب الإساءة للطرف الآخر وتشويه سمعته، إلى غير ذلك من الأمور.
            إذن، نحن بحاجةٍ للصنف الثالث -أيُّها الإخوة الكرام، وأيتها الأخوات الفاضلات- وهو أن يكون الإنسانُ بطيء الغضب سريع الفيئة، فهو يغضب لكن ببطءٍ.
            انظروا إلى إخواننا في السودان متى يغضبون؟ بعدما تقوم مصائب ومعارك، غير بعض البلدان الأخرى التي فيهم نوعٌ من الحرارة، فأصلًا السُّوداني لا يسخن إلا بعد 45 دقيقة، أو 50 دقيقة، ولذلك مشاكلهم قليلة جدًّا، لكن إذا صارت انتهى الأمر، ووقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة.
            لماذا أقول هذا الكلام؟
            لأنَّ أغلب الإخوة كلهم في الاستوديو والمصورون أيضًا من السُّودان، وهي من المُداعبة أيضًا، بل -إن شاء الله- مُداعبة حسنة، وهم يضحكون الآن كلهم، فهم مُوقنون في داخلهم أنَّ هذا الكلام غيرُ صحيحٍ، بل السُّوداني يغضب في أسرع وقتٍ ممكنٍ، ويُفجِّر كلَّ الذي أمامه.
            إذن نحن بحاجةٍ إلى الإنسان الذي مدحه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بأنَّه بطيء الغضب، سريع الفَيْئَة، فبمجرد ما يحصل شيءٌ بينه وبين زوجته فإنَّه هو الذي يُراضيها.
            وأنا أقول هنا شيءٌ مهمٌّ جدًّا في الحياة الزوجية: أجمل شيءٍ في الحياة الزوجية المُبادرة -المبادرة من الرجل والمرأة- لأنَّ الرجل ينام في مجلس الرجل أو مجلس النساء ويُغلِق على نفسه، وهي في غرفةٍ ثانيةٍ، مَن سيُصلح بينهما؟ إبليس!
            لا يمكن، نحن بحاجةٍ إلى أن يكون الرجل عاقلًا، والمرأة تكون عاقلةً.
            ولهذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ نِسَائِكُمْ؟».
            قالوا: بلى يا رسول الله.
            قال: «الْوَدُودُ، الْوَلُودُ، الَّتِي إِذَا غَضِبَ مِنْهَا زَوْجُهَا قَالَتْ: هَذِهِ يَدِي فِي يَدِكَ، وَاللهِ لَا يَغْمَضُ لِي جَفْنٌ حَتَّى تَرْضَى عَنِّي».
            وهذا صورة جميلة، تقول له: والله -وهي التي أغضبته، فغضب منها بسبب تصرُّفٍ منها هي- هذه يدي في يدك.
            ولاحظ: يدي في يدك، فهناك دائمًا قاعدة في الحياة كلها وهي أنَّه كلَّما اقتربت الأجسادُ كلَّما اقتربت القلوب، وكلَّما تباعدت الأجسادُ كلَّما تباعدت القلوب.
            والشَّريعة عندما تقول للإنسان: اهجر ثلاثة أيام فقط، 72 ساعة، وبعد 72 ساعة ارجع إلى ما أنت عليه، وإلا فأنت مُرتَكِب كبيرةً من كبائر الذُّنوب: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ».
            فلماذا هذه الاثنين وسبعين ساعة؟
            لتصفية القلب من الغلِّ والحقد والحسد؛ وليتذكر الإنسانُ موعود الله -عز وجل- له، إلى غير ذلك من الأشياء.
            نفس القضية في الحياة الزوجية، لا داعي للهجر الطويل؛ لأنَّه كلَّما هجرنا ماذا يحصل؟
            هذه قاعدة مهمَّة جدًّا في الحياة الزوجية تقول: كثرة الهجر تُوجِب الاستغناء.
            فإذا هجرتني استغنيتُ أنا عنك؛ لأنَّ حياتي ستمر بدونك، وسأعيش بدونك، وسأعمل احتياجاتي اليومية بدون هذا الإنسان.
            كيف -أيُّها الإخوة- ونحن في زمانٍ كثر استقلال المرأة عن الرجل؟ فلديها راتب، ولديها سائق، وهناك خادمة، ونحو ذلك، ومن ثَمَّ تجد هذه المرأة أصلًا مُستغنية عن زوجها، وتقول: أنا ما أحتاج إليه. وهذا خطيرٌ جدًّا.
            ولذلك في إحدى الجامعات البريطانية عُمِلت دراسةٌ على المرأة العاملة، فوجدوا أنَّه كلَّما كانت المرأةُ عاملةً كلَّما كثرت المشاكل، مما يدلُّ على أنَّها تستغني عن هذا الزوج، بخلاف الأرياف والقُرى، فالرجل شيءٌ كبيرٌ في حياة المرأة، ولهذا لا يمكن أن تستغني عنه، ولا أن تتخلى عنه.
            إذن؛ كثرة الهجر تُوجب الاستغناء، ولاحظوا معي قضية القرب البدني مثلما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ولهذا لما نأتي ونتحاور فيكون واحدٌ في طرف المجلس والثاني في الطرف الآخر، هذا غير صحيحٍ، فالقرب الجسدي منهج نبوي في كثيرٍ من الإصلاحات التي كان يُعالجها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في الشباب وغيرهم، فالشَّاب حين جاء وقال: ائذن لي في الزِّنا. ماذا قال؟
            قال: «ادْنُ مِنِّي»، فلمَّا دنا من النبي -صلى الله عليه وسلم- ماذا فعل؟ بدأ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُكلِّمه بالمنطق الاجتماعي، ثم بعد ذلك وضع يده على صدره وقال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»؛ لأنَّ هذا نوعٌ من الممارسة العمليَّة من النبي -صلى الله عليه وسلم- التي يحرص فيها على القرب البدني والجسدي.
            إذن عندما نريد أن نُعالج مشكلةً وفيها حوار، فلا يكن الحوار حوار إملاءٍ، وأوامر، ولا يكن عن بعدٍ، لكن القرب مهمٌّ، ففيه تفاهُم، وفيه روح، وفيه نفس، وفيه شيء نستطيع أن نفهمه من الطرف الآخر.
            اليوم -أيُّها الإخوة- دعونا نتصور خلافًا عائليًّا موجودًا بين رجلٍ وامرأةٍ، وسنرى الأشياء التي ينبغي لكلِّ زوجٍ وزوجةٍ أن يُراعياها في أثناء حديثهما مع بعضهما البعض.
            من الأشياء المهمَّة التي ينبغي أن ينتبه لها الزوجُ والزوجةُ أنَّهما بشرٌ، وهذه الخصلة تقتضي ماذا؟
            تقتضي أنَّهما يخطئان ويُصيبان، وأنَّه ليس أحدٌ معصومًا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الخطأ، فهو الذي كُتبَت له العصمة وبقية الأنبياء، وأمَّا بقية الناس فيحصل منهم الخطأ، وتحصل منهم الإصابة.
            ثم بناءً على هذا المفهوم أن تغفر للناس؛ لأنَّك تخطئ كما يُخطئون، فتجد الإنسان يُكابر، ويرى أنَّه لا يُخطئ، وإذا أخطأ أخطأ مرةً أو مرتين، بينما المرأة هي دائمًا المُخطئة.
            لا، إلقاء التهم على الطرف الآخر خطيرٌ جدًّا؛ لأنَّك ستبُرِّئ نفسك، ومن ثَمَّ ستُحمِّله القدر الكبير جدًّا في هذه العلاقة، وفي تحمل مسؤولية هذا الخطأ، هذه قضية مهمَّة جدًّا.
            الأمر الثاني: بناءً على أننا بشرٌ نحتاج إلى ماذا؟
            إلى مفهومٍ مهمٍّ جدًّا في حياتنا، ألا وهو التَّسامح، والتَّسامح كما قال الله -عز وجل- لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لما قطع نفقته عن مِسْطَحٍ: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور: 22]، فالحياة جزاء من جنس العمل، فتجد أحيانًا الرجل يقع في خطأ كبيرٍ مثل خيانة زوجية، فيتمنى من زوجته أن تعفو عنه، وتغفر له، نفس القضية، هي تكاد تقع في خطأ من هذه الأخطاء أو غيرها، فتحتاج أيضًا أن تتسامح معها.
            هنا الحقيقة قاعدة جميلة ذكرها جون جراي في كتابه "النساء من المريخ والنساء من الزهرة"، يقول: "المرأة لا تنسى لكنَّها تُسامح، والرجل ينسى لكنَّه لا يُسامح".
            وهذه الحقيقة معادلة خطيرة جدًّا إذا لم ينتبه الرجلُ والمرأة لهذا المفهوم، وإلا ستضيع أشياء كثيرةٌ جدًّا في حياتهم، فهناك شخصٌ لا ينسى لكنَّه يُسامح، وشخصٌ ينسى لكنَّه لا يُسامح، إذن سيبقى هذا الذي لا يُسامح محتفظٌ بملفاتٍ كثيرةٍ في داخله.
            ومن ثَمَّ نقرر أمرًا مهمًّا جدًّا: أنَّ قضية التَّسامح والعفو عن الطرف الآخر منهج شرعي نبوي ينبغي أن يلتزم به الزَّوجان.
            ومن مُقتضيات هذا الالتزام بهذا المفهوم: أنَّهم إذا تسامحوا فلا ينبغي إعادة الملفات مرةً أخرى.
            ولهذا هناك قاعدة مهمَّة جدًّا في الحياة الزوجية، تقول: ذكر الجفا بعد الصَّفا جفا.
            فعندما يتصافى اثنان، ثم يأتي شخصٌ في حادثةٍ مُشابهةٍ أو مختلفةٍ ومُغايرةٍ عن الحادثة الأولى التي سببت سُوء التَّفاهم بينهم؛ يأتي ويُعيد الماضي!
            لا، ليس من العقل أبدًا أن تفتح الملفات الماضية.
            ولهذا يقول العرب: الاعتراف يهدم الاقتراف.
            فإذا اعترف الإنسان هدم كلَّ ذنبٍ اقترفه من قبل، أمَّا أن نذكره به؛ لا. نحتاج أن ننتبه إلى هذه المسألة ونحن نتكلم عن مهارات التواصل بين الزَّوجين، ليس في أوقات الصَّفا فحسب، ولكن في أوقات الخلاف والجفا، فنقول: ذكر الجفا في وقت الصَّفا جفا.
            فلا نحتاج في يومٍ من الأيام ونحن في حالةٍ جميلةٍ أن نتذكر قضايا سابقة، وإلا أحيانًا في موقفٍ بسيطٍ نقول: والله حصل كذا، تذكرين كذا. فهذا ليس من العقل مطلقًا، ما مضى فات والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها.
            ولهذا بعض الإخوة -للأسف- حين يأتي ويريد أن يحل مشكلةً يقول: ولا تتكرر في المُستقبل.
            المستقبل أمره إلى الله، فالإنسان تمر به ظروفٌ قادمةٌ لا يدري عنها شيئًا، فهناك أناس طباعهم حسنة، ولكن يتعرضون لاستفزازٍ من قِبَل شخصٍ ما، ومن ثَمَّ هذا يفور وينطلق.
            الآن نفترض زوجين جالسين مع بعض، أمامهما عصير، وقد أكلا قبل العصير أكلةً جميلةً رائعةً، كمونية أو معصوب، واحدة من هذه الأكلات، حتى يصير الحوار هادئًا، كمونية إذا كانا من بلدٍ معينٍ ما في داعي لذكره، وكشري إذا كانا من بلدٍ آخر، وكسكسي إذا كانا من بلدٍ آخر، ومنسف إن كانا من بلدٍ آخر، ومعصوب من أيِّ بلدٍ، فكل واحدٍ صار يعرف الأكلة التي له، وأم رقيقة هذه أكله يعرفها -إن شاء الله- الإخوة الذين يُتابعون هذه الحلقات.
            إذن بعد أن هدأت نفوسهم، وبجوارهم عصير، أو شاي أخضر، أو أي شيء، المهم الجو مناسب، وأنا دائمًا أقول لكي تكون مهارات التواصل رائعةً بين الزوجين في حال الخلاف؛ لا ينبغي مناقشة الخلاف في المكان الذي وقع فيه الخلاف، اخرجوا من الجو؛ لأنَّه بمجرد وجودهم في نفس الجو سيتذكرون الأحداث، فعند الباب سبَّته، وعند الباب الآخر ضربها، اخرجوا من الجو، فاذهبوا إلى مطعم مثلًا، أو شاطئ، المهم الشرط الوحيد في هذا المكان الذي تذهبون إليه هو ماذا؟
            {أن يكون هادئًا}.
            لا أتكلم عن الهدوء، وإنَّما هو مكان لا يستطيع أحدٌ أن يصرخ فيه ويرفع صوته على الآخر، هذا المهم.
            ليست قضية هدوء، فالهدوء كثير، وتجد أماكن كثيرة هادئة، لكن ابحث عن مكانٍ لا تستطيع أن ترفع صوتك فيه، انظر كم إنسانٍ يرتفع ضغطه ويصل إلى 300 في السوق حين يذهب مع زوجته لشراء غرضٍ، وكلنا يرتفع ضغطه، وأنا أتمنى أنَّ يأتوا في الأسواق بمُمرضين ويقيسون ضغط الرجال فقط، فالنساء ما عندهم مشكلة، لكن الرجال يا الله! يصل إلى حدٍّ مُنقطع النَّظير. لماذا؟
            لأنَّ الرجل هذا طبعه، لا يستطيع أن يصمت في هذه الأماكن.
            نفس القضية، عندما تجدنا يرتفع ضغطنا في السوق، لكن ما نقدر نرفع أصواتنا على نسائنا. صح؟ لأنَّه بجانبا رجال ونساء والسوق ممتلئ، نفس القضية، نحتاج أن نبحث عن مكانٍ لا نستطيع أن نصرخ فيه، ولا أن نرفع أصواتنا على الجهة الأخرى.
            الأمر الذي بعده: اختيار الوقت المناسب، وخاصَّة للزوج، فالزوجة تجد عندها أوقات كثيرة مناسبة، لكن هناك الحقيقة فائدة مهمَّة وجميلة ورائعة، لكن لن أذكرها، فقط سأُشير إليها إشارةً مهمَّة.
            هناك أربعة عصور تمر بها المرأةُ في الشهر، فكلُّ أسبوعٍ يُمثل عصرًا، والرجل العاقل الفاهم الذي لديه خبرة بهذه العصور يختار الأسبوع المناسب للحوار، هذا ما سأذكره في هذه الليلة، لكن سيأتي له -إن شاء الله- تفصيل؛ لأنَّ هذا يحتاج منا وقتًا الحقيقة، فالرجل عنده أربعة عصورٍ يعيشها في الشهر، والمرأة عندها أربعة عصور، فينبغي لكلِّ زوجٍ وزوجةٍ أن يتقن هذا الأمر، وأن يعرف الوقت المناسب للحوار، فليس كلُّ وقتٍ مناسبًا للزوج أن يفتح حوارًا مع زوجته.
            أيضاً من الأشياء المهمَّة: الهدوء قبل وأثناء المناقشة، وعدم إحراج الطرف الثاني، أو رفع الصوت عليه.
            فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ أَهْلَ بَيْتٍ أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ».
            من الرفق: عدم رفع الصَّوت.
            ومن الرفق: عدم الإساءة لشخصٍ مقابلٍ لك، لا بدعاء، ولا بسبٍّ، ولا بشتمٍ، ولا بشيءٍ.
            مرة أرسلت لي إحدى الأخوات تقول: أنا أقول لزوجي دائمًا: حسبي الله عليك.
            الشيطان يستغل مثل هذه العبارات، ويقول: هي تقول مثل هذا لأنَّها لا تحبك. ويبدأ بعد ذلك الشيطان يُؤوِّل لك تأويلات كثيرة وعجيبة وغريبة، لكن هذا كله ليس بصحيحٍ.
            فنحتاج إلى هدوءٍ، ونفسٍ عميقٍ قبل الدُّخول في هذه المناقشة.
            أيضًا من الأشياء المهمَّة لكي يكون التواصلُ في أثناء المشكلة تواصلًا صحيحًا: توفر المعلومة الصَّحيحة، فهناك مشاكل كثيرة مبنية على وساوس، ومبنية على معلومات مغلوطة.
            جاءت أختُ الزوج وقالت لأخيها -زوج هذه المرأة- والله فلانة فعلت كذا، ولما ذهبنا إلى الاستراحة ما سوَّت كذا، وما أخذت معها الأغراض، وجالسة فقط. فهذه المرأة تبقى في دائرة: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6].
            أمَّا أن تملأ قلبك حقدًا على زوجتك بمجرد إخبارك بمعلومةٍ لم تتوثَّق منها؛ هذا ليس بصحيحٍ.
            الاستراحة فيها عددٌ كبيرٌ من النساء، يسأل ويتثبَّت، ويعرف الخطأ، ويُعالج بطريقةٍ صحيحةٍ، وليس العلاج برفع الصوت، أو أنت تُهينين أهلي، أو أنت كذلك! هذا ليس بصحيحٍ.
            إذن؛ نحن بحاجةٍ إلى دقَّة المعلومة التي نستند إليها في أثناء حوارنا مع الطرف الآخر.
            من الأشياء أيضًا: اتَّبِع سياسة الإنصات وليس الاستماع:
            هناك فرقٌ كبيرٌ بين الاستماع والإنصات. أيهما أعلى مرتبةً؟
            الإنصات، فالله -عز وجل- يقول: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف: 204]، فذكر الاستماع كأنَّها مرحلة أولى لتوصلك إلى مرحلة الإنصات.
            ما معنى هذا الكلام؟
            الإنصات يستدعي ويقتضي من الإنسان أن يكون مُتوجهًا إلى الشخص بكلِّ جوارحه، فهناك إنسان يمكن أن يسمع لك ويعرف ما تقول وهو منشغل بجريدةٍ، أو منشغل بشيءٍ بين يديه، ويقول: أنا أعرف ما تقول. ويمكن أن يُعِيد لك الكلام، لكن دون فهمٍ أو وعيٍ، أو معرفة خلفية، أو معرفة تعابير وقسَمَات وجه هذا الشَّخص؛ لأنَّها جزء أيضًا من الكلام، فهناك تعبير لغوي -حروف تخرج- وهناك تعبير غير لغوي، وهناك تعبير يظهر على الجسم، ويظهر على الوجه، فحين تتكلم معك المرأة ودموعها تنزل فمعناه أنَّ هذا الكلام يحرقها في داخل قلبها.
            إذن؛ نحتاج أن نتَّبع سياسة الإنصات.
            انظر لعائشة تقول: "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حدثه الرجلُ أقبل عليه بكلِّه»، بكلِّه، فلا يُعطيه نصف أذن، بل يُعطيه كلّه.
            لكن الرجال خاصَّة متَّهمون في هذه القضية، فهم إذا جاؤوا يتحدَّثون مع زوجاتهم يتشاغلون بأيِّ شيءٍ آخر، وهذا ليس بصحيحٍ، فنحتاج أن نعرف أن الرجل هو السيد، وهو الذي جعل الله له القِوَامَة ليكن على قدر المسؤولية التي أعطاه الله -عز وجل- إيَّاها.
            أيضًا من الأشياء المهمَّة: تكلم عن المشكلة بشجاعةٍ ولا تتهرَّب:
            فالهروب لا يمكن أن يُحقق حلًّا، بل يزيد المشكلة سوءًا على سوءٍ؛ فإذا كنت مخطئًا قل: أنا مخطئ. وإذا كنت تحتاج إلى اعتذارٍ قل: أنا آسف وأعتذر والخطأ مني.
            هنا أنت ماذا تفعل؟
            تُحجِّم المشكلة وتضعها في الحجم البسيط لها، ثم بعد ذلك ترمي بها عرض الحائط، لكن الشخص الذي يُكابر يجعل المشكلة تكبر، فلا تهرب من المشكلة مُطلقًا.
            في أثناء الحوار المرأة -وهذا ننتبه له- لديها قدرة لغويَّة عالية جدًّا، وتستطيع إحراج الرجل ووضعه في زاويةٍ.
            ولهذا نصيحة للنساء: لا تحرجي زوجك، وكوني دائمًا في أيِّ حوارٍ محافظةً على كرامة زوجك؛ لكي يتحقق تواصل بينكما.
            فمن المهم أن يحفظ كلُّ طرفٍ كرامةَ الطَّرف الآخر، فلا سبَّ، ولا إهانةَ، ولا محاصرة له في زاويةٍ ضيقةٍ؛ لاستخراج اعترافٍ منه.
            فالناس تعرف عندما تدخل في حوارٍ أنَّها مُخطئة، ولديها قدرٌ من هذا الخطأ، نسبة وتناسُب، 30: 70، 40: 60، 50: 55، الله أعلم بينهما.
            أيضًا من الأشياء المهمَّة: التَّفاعل مع الحديث بابتسامةٍ، وهزِّ رأسٍ، هذا نوعٌ من التفاعل المهم جدًّا، فالإنسان إذا حدَّثته زوجتُه يتفاعل معها، فيبتسم، أو يقول لها: أحسنتِ، صحيح، إي والله إنَّك صادقة. فيبتسم أحيانًا، وقد يحتاج لابتسامةٍ لتلطيف الجو، فكلُّ هذا شيء مهمٌّ.
            أيضًا من الأشياء المهمَّة جدًّا جدًّا في أثناء الحوار لحل مشكلةٍ ما، ولكي يتحقق تواصل اجتماعي رائع: لا تُقاطع، لا تُقاطع، لا تُقاطع: اترك لها المجال تتحدث، واتركي له المجال يتحدث.
            اسمع منها، ففي أثناء الحديث ستجد أشياءً كثيرةً تستطيع أن تلغيها بكلمةٍ واحدةٍ بعد ذلك، أو بتسامحٍ، أو باعتذارٍ، فالمُقاطعة شيء سيئ جدًّا؛ لأنَّ الفكرة لا تكتمل، وسيظل الملف مفتوحًا عند الطرف الآخر الذي لم يستطع إكمال فكرته، ولذلك تعالج بعض الإشكالات ويُتسامح فيما بين الرجل والمرأة؛ لكن في الحقيقة لا يزال هذا الملف مفتوحًا ولا يُغلَق.
            الاستماع الكامل للمشكلة يجعل كلَّ تفاصيلها تجتمع بين يديك، وبعد ذلك أنت تصدر فيها ما تراه مناسبًا من الاعتراف، أو غير ذلك من الأشياء.
            من الأشياء المهمَّة أيضًا: دع إصدار الأحكام وقت إنصاتك للطرف الآخر: فلا تقل لها: أصلًا أنت مخطئة. فأحيانًا في أثناء الحديث تقول المرأة: أنت مفرط في أولادك، أنت ضيَّعتنا، أنت كذا. فهذا يهدم الحوار كله، ويجعل الرجل أكثر مُعاندةً، وسيجعله يبدأ بالبحث عن أيِّ خطأ في هذه المرأة، ويسترجع الماضي، ويفتح ملفات قديمة من أجل ماذا؟ إحراجها، وهذا غير صحيحٍ.
            دائمًا نحتاج في أثناء حديثنا مع الطرف الآخر ألا نصدر حكمًا، فلا تقل لها: أنت...، وأنت...، وأنت.... فهذه قاتلة، وتجعل الحوار يُغلَق مباشرةً؛ لأنَّ كلَّ "أنت" وكلَّ اتهامٍ سدَّ بينك وبين مَن تُحاوره.
            أيضًا من الأشياء المهمَّة: لا تنشغل بشيءٍ أثناء الحديث، أيًّا كان هذا الشيء، لا للجوالات في أثناء الحوار الزوجي، لا للآي باد في أثناء الحوار الزوجي، لا للجرائد، لا للريموت، لا لأيِّ شيءٍ، ابحثوا عن مكانٍ هادئٍ ليس فيه شيءٌ يشغلك أو يشغلها.
            من الأشياء المهمَّة أيضًا التي نحتاج أن ننتبه لها وتُحقق تواصلًا اجتماعيًّا مهمًّا جدًّا في أثناء المشاكل: الشُّكر:
            يشكر الرجل زوجته، فيقول: أنا أشكرك فعلًا على إدارتكِ للبيت، الله يجزيك خيرًا أنت تحمَّلتِ شيئًا كثيرًا في المنزل، سواء غسل ملابس أو صنع طعام، كم سنة تصنع طعامًا؟ عشرين سنة وهم متزوجان، أنت تعتنين بأولادي، تهتمين بدراستهم، تُرتبين لهم كذا.
            فكلُّ هذه الأشياء عندما تُذكَر تجعل الطرف الآخر أكثر هدوءًا، ومتقَبِّلًا لأيِّ حلٍّ، ولأيِّ علاجٍ يمكن أن يأتي به الشخص الآخر.
            إذن نحتاج الشكر.
            نفس الشيء بالنسبة للمرأة، فإنها تقول لزوجها: الله يعطيك العافية، أنت تتعب من أجلنا، ودوامك هذا من الصباح قرب المغرب، وكله من أجل أن تحيا الأسرة، كم مرة سافرت بنا إلى أماكن جميلةٍ؟ هل تذكر العمرة الفلانية؟ هل تذكر المكان الفلاني؟
            فكل هذه الأشياء تُشعِر الزوج أنَّ له قيمة، وتجعل له احترامًا وتقديرًا عند نفسه أولًا.
            من الأشياء أيضًا التي نحتاج إليها: تقبل الآراء المُخالفة بصدرٍ رحبٍ، ما لم تكن مخالفةً للشرع.
            تسمع في أثناء الحديث آراء كثيرةً مخالفةً لما أنت عليه، فتقبلها ثم بعد ذلك ابحث لها عن مخارج إن كانت قابلةً لهذا الأمر، أو إن كانت غير قابلةٍ ومخالفة لشرع الله يمكن أن ترد بهدوءٍ ولطفٍ.
            من الأشياء المهمَّة: لا للكلمات النَّابية والجارحة: فهذه تُدمر كلَّ الحوار بين الزوجين، فالسَّب، والشَّتم، والكلام على أهلها، والكلام على أهله، والكلام على شكلها، والكلام على هيئتها، والكلام على قوامها، وإهانتها في جسدها؛ كلّ هذه الأشياء والتَّصرُّفات لا شكَّ أنَّها تزيد الطينَ بِلَّةً، وتجعلها غير محترمةٍ ومُقدَّرة، والعكس أيضًا.
            حتى لو كانت على جهة المزاح، فقد يقول الإنسانُ لزوجته مثلًا كلمةً وهو يمزح: تعالي نتحاور يا كذا. لكن الجو الآن لا يحتمل، وقد يحتمل هذه الكلمة موقفًا آخرَ في حالة سعادةٍ وسرورٍ بينهما، فالجو جميل، لكن في مثل هذا الجو لا ينبغي أن تُقال حتى لو اعتاد على قولها.
            إذن لا للكلمات النَّابية والجارحة.
            من الأشياء أيضًا: لا للجدل: فالجدل العميق العقيم الذي لا نفع فيه، وفتح ملفات لا يمكن أن تحل، فتجد الزوجان يتصارعان على قضايا ليست فيها فائدة، فهي مجرد نبش للماضي والجدال فيه، فنحن نبحث عن حلولٍ، أمَّا الجدال العقيم الذي تُناقَش فيه قضايا لا نفعَ فيها ولا فائدة، بل تزيد الطينَ بِلَّةً؛ تُؤجل هذه الأشياء إلى أن يأتي وقتٌ مناسبٌ لمثل هذه الأمور.
            أيضًا من الأشياء: أعطِ المشكلة حجمها الطَّبيعي.
            فهناك قاعدة مهمَّة جدًّا في الحياة الزوجية وهي: كبِّرها تكبر، وصغِّرها تصغر.
            فهناك أناس -للأسف الشديد- عندهم نوعٌ من عدم التَّعقُّل أو العقل، ونحن في الخلاف بحاجةٍ إلى كثيرٍ من العقل، فالعقل يمنع كثيرًا من المُخالفات التي يمكن أن تصدر من الزوج، فالعاقل يُعطي المشكلةَ حجمها الطَّبيعي.
            أولًا: العاقل يعرف أنَّ المشاكل تقع كثيرًا، يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية: "والمشاكل تقع على الناس كما يقع عليهم الحرُّ والبردُ"، أي لا يسلم أحدٌ من هذه الإشكالات التي تمر عليه في حياته، ولكن العاقل هو الذي يجعل المشكلة في حجمها الطَّبيعي.
            هناك شخص حدثت بينه وبين زوجته مشكلةٌ في أكلةٍ معينةٍ، فقال لها: إن وجدتُها يومًا ما في المنزل أنت طالق.
            فاشتهتها أختها في زيارةٍ من الزيارات، فجاءت بهذه الأكلة؛ فطلُقت المرأة.
            والأكلة هذه قيمتها ريال واحد يا جماعة!
            الله -عز وجل- سمَّى الزواج ميثاقًا غليظًا، فلا ينبغي لهذا الميثاق الغليظ أن يُنتَهك حِمَاه من أجل تصرُّفاتٍ حمقاء، فهذا الميثاق الغليظ ينبغي أن يُحافظ عليه، وأن يُحرَص عليه، وأن تهتم المرأةُ بالمحافظة عليه، وأن يهتم الزوجُ كذلك.
            أمَّا بمجرد حصول أيِّ مشكلةٍ على الرجل أو المرأة يبدؤون بعد ذلك بنقض كلّ ما اتَّفقوا عليه من قبل! فلا شكَّ أن هذه حياة ليست صحيحةً.
            كان رجلٌ جالسًا مع زوجته في ليلة الزفاف، فلمَّا أصبحا جاء عصفورٌ ووقف على النافذة، فقال: ما شاء الله، ما أجمل هذا العُصفور!
            فقالت الزوجة: بل عصفورة.
            قال لها: عصفور.
            قالت له: عصفورة.
            أقول لك: عصفور.
            وشبَّت النارُ بينهما: عصفور وعُصفورة، يا أخي يصير ديناصورًا! لا يهم.
            فهل إذا كان ذكرًا أو كانت أنثى ستكتبان اسمه وتعملان له بطاقةً وجواز سفرٍ؟!
            وبعد سنةٍ كانا جالسين في أحد الفنادق في شُرفةٍ من الشُّرفات، وتقول له: تذكر العصفورةَ التي رأينها المرة الماضية؟
            فقال لها: أقول عصفور.
            يا جماعة اعقلوا، عصفور وعصفورة! هذا من الحُمْق.
            وأنا أقول أنَّ الحياة الزوجية بحاجةٍ إلى كثيرٍ من العقل، فالعقل يحصن الإنسان -بإذن الله تعالى- من الوقوع في مطباتٍ كثيرةٍ في حياته.
            من الأشياء التي أُنبه عليها هاهنا: اقبل اعتذار مَن جاءك مُعتذرًا.
            لقي أحد الإخوة أخاه فقال: غدًا نتعاتَب.
            قال: غدًا نتغافر.
            فاعذره.
            "أنا آسف" كلمة مهمَّة جدًّا بين الزوجين.
            ونحن دائمًا نقول: هناك ثلاث كلمات بين الزوجين ينبغي ألا يتركاها أبدًا في حياتهما. ما هي؟
            نكتبها حتى لا تُنسَى:
            - أنا آسف.
            - شكرًا.
            فالشكر بين الزوجين مهمٌّ، فمثلًا ظلَّ الزوج خمسين دقيقةً أو ساعة كاملة في السوق يشتري أغراضًا: خضروات، وفواكه، ومواد غذائية، ويأتي بها وكأنَّ لم يكن شيءٌ، هو فقط ما يهمه الفلوس، ولا أحد يهمه الفلوس في بيته، لكن يبغي كلمةً مثل: الله يعطيك العافية، شكرًا، الله يجزيك خيرًا، الله يُعوِّض عليك خيرًا. أو رسالة على الجوَّال، فهذه تفعل فيه ماذا؟ غدًا يأتي بأشياء أكثر منها، فاشترى اليوم مثلًا القليل من الطماطم، فغدًا يأتي بأكثر؛ لأجل هذه الكلمة.
            - أحبكِ، أحبكَ. هذا أيضًا شيءٌ مهمٌّ.
            الاعتذار، الشكر، الحب.
            آخر مرة سمعت هذه الكلمة ليلة الزفاف، ولهم 15 سنة، أو إذا جاء من سفرٍ يقول لها عبارة وهو في طريق المطار وينتهي الأمر، هذا ليس صحيحًا.
            النبي -عليه الصلاة والسلام- يُصرِّح بحبه لعائشةَ في أكثر من موطنٍ، ويقول عن خديجة: «إِنِّي رُزِقْتُ حُبَّهَا»، امتلأ قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- بحب خديجة حتى بعد موتها -رضي الله تعالى عنها- نحتاج هذا، أن يُعَبِّر الرجل والمرأة عن حبهما بالأقوال والأفعال وغيرها.
            أيضًا الشكر بين الزوجين شيءٌ مهمٌّ جدًّا في الحياة الزوجية، فشكرًا على كلِّ ما تبذله لنا في هذا المنزل.
            أيضًا قضية التَّأسُّف، فإذا اعتذر إنسانٌ في أثناء الحوار اقبل الاعتذار، ولا تقل له: لا، قبل الاعتذار تعال، دعنا نقررك، فعلت كذا وكذا وكذا!
            لاحظوا هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عندما ذكر الله -عز وجل- مشكلةً زوجيةً بينه وبين نسائه، فقال: ﴿عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ [التحريم: 3]، قال لها بعض الأشياء، وبعض الأشياء سكت عنها، ما في داعي.
            فلا يأتي يقول كلّ شيءٍ ينبغي أن يُذكَر. هذا ليس من العقل في شيءٍ.


            قُلْتُ قَدْ جَاءَنَا فَأَحْدَثَ عُذْرًا



            دِيَةُ الذَّنْبِ عِنْدَنَا الِاعْتِذَارُ





            أكرر ما بدأت به في البداية: الاهتمام بلغة الجسد، كوضع اليد على اليد، ووضع اليد على الفخذ، وتشبيك الأصابع، وهذا التَّشبيك من أخطر الأشياء، تصوروا اثنين جلسا يتحاوران وهما مُشبكين أصابعهما. لماذا؟ حتى تمنع يديه من الكفِّ، فمن الممكن أن يأتي كفٌّ طائر على الهوى، فتصير يديه ممسوكةً، على الأقل اليمين؛ لأنَّها الأصعب.
            طيب، إذن هذه من الأشياء المهمَّة.
            أيضًا مما يُنبه عليه في هذا الحوار: الإغلاق للموضوع وعدم فتحه في المستقبل.
            أيضًا من الأشياء -أيُّها الإخوة- نحتاج في أثناء الحديث إلى الصدق؛ لأنَّ الزوج عندما يكذب على زوجته لا تحل المشاكل، نعم نحن نحتاج أحيانًا إلى التورية، لكن أن يكون الكذب هو الأساس في الحياة الزوجية؛ لا شكَّ أنَّ هذا ليس بصحيحٍ، فحين يأتي إنسانٌ في مشكلةٍ معينةٍ ويبدأ بالكذب على الطرف الآخر؛ عندئذٍ لا تُحل هذه المشاكل البتة في حياة الزوجين.
            من الأمور التي أُنبه عليها أيضًا هنا، وقبل أن نذكر بعضها لو عندكم أي استفسار أو سؤال أو استشكال معين أو غيره تفضلوا به.
            لقد وصلت إلى قناعةٍ من خلال جلوسي مع كثيرٍ من الأسر واستماعي لمشاكل كثيرٍ، سواء من قِبَل الأزواج أو الزَّوجات؛ أشعر أنَّ ثَمَّة خطر كبير يُداهم بيوتنا، وهو المعصية، فالذَّنب فتَّاك، فالذي يملك الحبَّ ويضعه في القلوب هو الله، والذي يستطيع نزع هذا الحب من القلوب هو الله -جل جلاله- فنحن إذا أردنا أن تُزرع المحبة لنا في قلوب الخلق؛ فلابُدَّ أن يكون لنا شيءٌ من التَّواصل مع الخالق -سبحانه وتعالى- فكلَّما حسنت علاقتنا مع الله؛ كلَّما حسَّن الله علاقتنا مع البشر.
            عندما تجد زوجين حياتهما غيبة ونميمة، ومشاهدة لأفلام سيئة، وتفريط في الصلاة، ولباس خليع من قِبَل المرأة، إلى غير ذلك من الأشياء، وجلوس على الإنترنت لفترات طويلةٍ، وعلى أمورٍ محرمةٍ، ومُشاهدة مقاطع لا تُرضي الله -عز وجل- كلّ هذه الأشياء لها أثرٌ كبيرٌ جدًّا في إفساد العلاقة دون أن يشعر الإنسان.
            ولذلك أنا أجزم بأنَّ بعضهم عندما يأتي ويجلس مع نفسه ويحاول أن يتذكر فقط سببًا واحدًا مُقْنِعًا لحصول المشكلة؛ لا يجد!
            والسبب ما هو؟
            المعصية، فالله -عز وجل- يقول: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: 41]، ويقول الله -عز وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30].
            فتجد رجلًا مثلًا له علاقة مع امرأةٍ، وقد تكون بريئةً في البداية، مع أنَّه ليس هناك علاقة بريئة بين رجلٍ وامرأةٍ لو يحلفون من هنا إلى يوم الدين، فعلاقة بريئة لا تحصل، فالله -عز وجل- عندما قنَّن قوانين في علاقة الرجل بالمرأة فهذه قضية مهمَّة جدًّا، وعندما يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْحَمْوَ»، والحمو أخو الزوج -أي يثق فيه- ومع ذلك قال: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ».
            قالوا: أرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ»، مع أنَّ هؤلاء الأشخاص يُمنحون ثقةً في الدخول والخروج، والذهاب والإياب، والإركاب في السيارة وكذا؛ لكن مع هذا لا.
            لهذا يقول عطاء بن أبي رباح: "والله لو وضعتم عندي امرأة سوداء شمطاء قبيحة ما أمنت نفسي عليها، ولو وضعتم أموال الدنيا كلها عندي ما خُنتكم في درهم". لماذا؟
            لأنَّ الله -عز وجل- جعل في أيِّ رجلٍ ميلًا للمرأة، والله -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28]، ففي بعض التفاسير: أنَّه ضعيف أمام فتنة النِّساء.
            والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَب لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ»، سبحان الله!
            لاحظوا هذا الحديث، يقول: لبَّ، عقل، رجل، حازم، عاقل، وكل المواصفات فيه، ولكن ماذا؟ تذهب به، يمكن فقط أن ينظر لعيونها، ويمكن أحيانًا أن يسمع صوتها فقط.
            ولذلك الرجل دائمًا يغره الصوت، والمرأة تغرها الصورة، ولما قيل لفاطمة -رضي الله عنها: بمَ تنصحين النِّساء؟
            قالت: "ألا يراها الرجلُ، ولا ترى الرجلَ".
            وهذا صحيح، سبحان الله!
            فكلَّما قصرت المرأة عينها على زوجها كلَّما كانت أكثر شوقًا له، وكلَّما قصر الرجل عينه على امرأته كلَّما كان أكثر شوقًا لها وحبًّا لها.
            لكن اليوم صارت المنافذ كثيرةً، فيمكن أن تدخل على اليوتيوب وترى الناس في غرف نومهم، ومن الممكن أن تضع كاميرا على جهازك وترى امرأةً في آخر الدنيا وهي على فراشها وأنت هنا. لكن أين الله؟!
            ولهذا لما جاء أعرابيٌّ -وبعض الأعراب في الحقيقة ما شاء الله عليهم- وراود امرأةً عن نفسها، واقترب منها كما يقترب الرجلُ من زوجته، ثم ماذا؟ صحا ورجع عقله إليه. ماذا قال للمرأة؟ قال: والله إنَّ رجلًا يبيع جنةً عرضها السَّماوات والأرض بمثل هذا لقليل الخبرة في المساحة. ثم قام وتركها.
            أي: أيبيع إنسانٌ جنةً بشهوة ساعةٍ؟!
            ويقول أحدُ السلف: "إنَّ أحدكم يُحدِّث المرأة الأجنبية كأنَّه أشهد على زواجها أبا هريرة!".
            والناس الآن في الإنترنت يقولون: قولي: زوجتُكَ نفسي. فتقول: زوجتك نفسي. فيقول لها: أنا قبلت.
            فقط لأجل ألا يجعل بينهما الحرج الشرعي، هل هذا صحيح؟! ﴿وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة: 189]، فهذا ليس بصحيحٍ.
            قبل أربعين سنة أو خمسين كان الناسُ يحبون بعضًا عن طريق النَّوافذ، الآن ما في نوافذ، الحين إنترنت، الذي دعانا لهذا الكلام أنَّ النظر لهذه المعاصي والذنوب يفتك بالحياة الزوجية أحيانًا، فحين يسهر إنسانٌ إلى قرب الفجر، ثم ينام عن صلاة الفجر، كيف يُوفَّق؟ كيف يسعد مع زوجته؟ كيف يسعد مع أولاده؟ كيف يُوفِّق الله أولاده؟ كيف يحفظهم؟ ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف: 82].
            يقول ابنُ كثيرٍ: "أبوهما هنا ليس الأب القريب، الجد السابع لهم". فحفظ الله ذريةَ الجد السابع لصلاحه؛ فكيف بالأب القريب؟!
            ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [الكهف: 82].
            إذن؛ نحن نُركز على هذا المعنى كثيرًا، فلكي تحسُن علاقتنا مع الناس ينبغي أن نُحسِن علاقتنا مع الله، وخاصَّة في السر، وقد قلتُ كثيرًا في أكثر من مناسبةٍ: إنَّ مَن أراد أن يعرف نفسه على حقيقتها، ويعرف أين هي من قربها من الله -عز وجل- وحبها له، وحفظ الله -عز وجل- إيَّاها؛ فلينظر إلى معنى مهمٍّ جدًّا في الحياة، وهو سلوكه الشخصي بعيدًا عن أعين الناس.
            نحن نُصلي مع الناس ونخشع، لكن لو صلينا في غرفنا فإننا نصلي بأسرع صورة، ومن الممكن أن يدخل واحدٌ في موسوعة جينيس لأنَّه ما يدري هو قال الفاتحة، أو قال سبحان ربي العظيم، ما يدري! فالسر السر.
            فلكي تكون العلاقة جميلة في داخل المنزل لنُحيي الجانب العبادي في البيوت، فمتى صلى الرجل بزوجته آخر مرة؟
            بعض الإخوة من كثرة حبهم لزوجاتهم يجعلهن في مقام الإمامة، فما يُكمِلوا الصلاة!
            ذات مرةٍ صلى أحدُ الإخوة بزوجته في ليلة الزفاف، فجاء الرجل وهو مُتحمس فصلى بها، فكبر وهي وراءه، فلمَّا سجد ورفع من السُّجود الثاني نشب رأسُها في ثوبه، وصارت حرب داحس والغَبْرَاء، فهي تحاول أن تخرج رأسها، وفي هذه اللَّيلة -ما شاء الله- رأسها غابة الأمازون، ففيه ثلاثة آلاف شبَّاصة، وأربع آلاف مسَّاكة، كيف يمكن أن يخرج؟!
            المهم ضحكا، وإلى اليوم ما صلى بها ركعةً!
            نحتاج أن يصلي الرجل بزوجته في ليلةٍ من الليالي، أو في الشهر مرة، أو يُوتِر بها فقط، وهي وراءه تسمع دعاءه لها، وتسمع دعاءه لأهل بيته، وتسمع دعاءه لأبنائه، فتؤمِّن على دعائه، فأي فضلٍ ونورٍ وهدايةٍ تحصل في هذا البيت؟!
            يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ»، فكلَّما كثرت الفتن كان الناس بحاجةٍ إلى أن يتقربوا إلى الله بالعبادة، وأيّ فتنٍ أعظم من الفتن التي نعيشها في هذه الأزمنة؟!
            فتن شبهات وشهوات لا عاصمَ فيها إلا الله -عز وجل.
            أين الزوجان من الجانب العبادي؟
            للأسف الشديد قليل.
            دخل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على إحدى زوجاته -أمهات المؤمنين- وهي جالسة في مُصلَّاها إلى الإشراق، وقال له: «أَمَا زِلْتِ عَلَى مَا تَرَكْتُكِ عَلَيْهِ؟».
            قالت: بلى يا رسول الله.
            قال: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ لَوَزَنَتْهُمْ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ».
            فجانب الذِّكْر في المنزل مغفولٌ عنه، فالرجل لا يُوقِظ زوجته لصلاة الفجر أحيانًا؛ لأنَّها نائمة ومُتعبة ومُرهقة مع الأولاد، وتنام بتقطُّعٍ في الليل.
            إذن؛ نحن بحاجةٍ لكي تحسُن علاقتنا مع زوجاتنا إلى إحسان علاقتنا مع الله.
            تذكروا دائمًا أنَّ الذي يجعل الحبَّ في القلوب هو الله، وأنَّ حبَّ الناس لا يُنال إلا بطاعة الله -سبحانه وتعالى- وأنَّه بمقدار معصيتنا يكون مقدار قسوة قلوبنا؛ فيكون مقدار سُوء علاقتنا مع الآخرين.
            لا تنسوا أيضًا دائمًا أن تقولوا ما دعا به حبيبنا -صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ».
            هذه الحلقة تذاع ليلًا، فأتمنى أن يكون وتركم اللَّيلة وترًا جماعيًّا مع بعضٍ -أي مع زوجاتكم- مشروع يمكن أن يُنفذ -بإذن الله تعالى- في البيت.
            شكر الله لكم -أيُّها الإخوة والأخوات- في كلِّ مكانٍ، وشكر الله أيضًا للإخوان الفُضلاء في هذا المكان حُسن استماعهم وإنصاتهم.
            والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ.

            تحميل ملف صوت rm
            تحميل ملف التفريغ word


            تعليق


            • #7
              رد: مهارات التواصل الاجتماعي - د/ علي الشبيلي




              مهارات التَّواصُل الاجتماعي
              د. علي الشّبيلي
              الدرس (7)

              http://www.youtube.com/watch?v=gxgx9NJPHbg



              بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
              اللَّهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وارزقنا الإخلاصَ في القول والعمل، اللَّهمَّ اجعل هذه المجالس مجالس خيرٍ وبركةٍ يا رب العالمين، تذكرنا بها في الملأ الأعلى يا ذا الجلال والإكرام.
              أيُّها الإخوة والأخوات في كلِّ مكانٍ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
              أسعد الله أوقاتَكم باليُمن والمَسَرَّات، مرحبًا بكم خلف الشَّاشات، ومرحبًا بكم أيُّها الأحبة الكرام والإخوة الأفاضل الذين تُشاركوننا هذه الحلقة داخل الاستوديو، فحياكم الله جميعًا.
              أيُّها الإخوة، تحدَّثنا في الأسبوع الماضي عن مهارات التواصل في أثناء المشاكل، فإنَّ الإنسان في حالة سويَّةٍ طبيعيَّةٍ وليس تحت ضغط حدثٍ مُعينٍ يُحاول أن يكون على طبيعته، على سَجِيَّته، ولكن لا تظهر أخلاقَ الناس إلا المواقفُ، فقد تجد إنسانًا في قمة هدوئه ورُقِيه وعطائه، ولكن عندما يأتي موقفٌ يكشفه لك على حقيقته، ولهذا يتناقل الناسُ عبارةً، فيقولون: "من مميزات المال أنَّه يكشف أخلاقَ الناس".
              فأنت قد تجد إنسانًا يتشدَّق بأنَّه سيبذل، وأنَّه إذا جاءه مالٌ سيفعل كذا وكذا، فإذا جاء المالُ بدأ بعد ذلك يرجع إلى طبيعته التي هو عليها، لكن هذا المال كشف لنا حقيقته.
              نفس القضية في مواقف الغضب، فإنَّها تكشف أيضًا حقيقة الإنسان، فالضَّغط الذي يمر به يكشف حقيقته.
              وقد ذكرنا سابقًا أنَّ سفيان الثَّوري -ونقل عن جعفر الصَّادق- أنَّه وصَّى ولده وقال: "إذا أردت أن تُصاحب أحدًا فغاضبه ثلاثًا". غاضبه ثلاثًا، وينبغي أن تكون هذه المُغاضبة في أول الأمر، لا في وسطه ولا في نهايته، أقصد في أول العلاقة، بعد أن تُعطيه بعضَ الأشياء التي تُعطيها لأي إنسانٍ، ولا تُعطه الأشياء العميقة جدًّا في حياتك؛ حتى لا تتضرر بعد ذلك بهذه المعلومات.
              فاختبره في الأولى وغاضبه، وفي الثانية، وفي الثالثة، ثم سيظهر لك خلقُ هذا الإنسان على الحقيقة، هل هو ممن يحفظ الودَّ ويحرص على العهد؟ أم أنَّه بمجرد حصول أي موقفٍ يظهر هذا الأمر جليًّا في شخصه؟
              ولهذا يقول سفيانُ الثَّوري بعد أن ذكر هذه النَّصيحة: "ونحن في زماننا إذا غاضبنا أحدًا لم يبقَ لنا أحدٌ". فكيف بهذه الأزمنة؟! وبيننا وبين سفيان قرابة أربعة عشر قرنًا أو ثلاثة عشر قرنًا. كيف بنا في هذه الأزمنة؟!
              قد نُغاضِب شخصًا فلا نفقده هو، بل نفقد معلومات ثريَّة أعطيناها لهذا الإنسان ثقةً به، ولكنَّه في الأخير أخرج هذه الأشياء كلّها للناس.
              لهذا ينبغي للإنسان أن يكون -واسمحوا لي بهذه العبارة- حذرًا في انتقاء الناس، وأن يجعل ثلاث دوائر في حياته:
              - دائرة المعارف.
              - ودائرة الأصدقاء.
              - ودائرة الإخوان.
              أمَّا اليوم فسنتحدَّث عن دائرةٍ هي فوق هذه الدَّوائر الثلاث تمامًا، فهي فوق دائرة المعارف، وفوق دائرة الصَّداقة، وفوق دائرة الإخوة أيضًا، بل هي أول علاقةٍ في الدنيا، فأول علاقةٍ وُجِدت في هذه الحياة بعد الزَّوجية هي العلاقة الوالديَّة.
              نحن اليوم سنتكلم على علاقتنا نحن مع والدينا أو مع الأب والأم.
              ما مهارات التواصل التي ينبغي للإنسان أن يسلكها في تعامله مع والديه أحدهما أو كليهما؟
              وسنُقدِّم الحقيقة في مجموعةٍ من المُقدِّمات المهمَّة التي نثري بها لقاءنا -إن شاء الله تعالى- في هذا اليوم.
              {جزاكم الله خيرًا، وأعطاكم الله العافية، وحفظكم الله، من ناحية ما تفضَّلت بذكره في قضية الانفتاح على الناس، المشكلة أن بعضَ الناس عندها ناحية عكسيَّة بشكلٍ سلبيٍّ؛ بحيث أنَّ الواحد من هؤلاء يُعمم على كلِّ الناس السَّلبية، فما يكاد يكون له أحد يثق فيه أو شيء من ذلك}.
              لو كنت حضرت معنا اللقاء الأول لعرفت الإجابة عن هذا، وهي كالتالي:
              النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «النَّاسُ مَعَادِنُ»، فقد تكون التجربة الأولى في التعامل مع معدن الحديد، وليس مع الذهب والفضة والألماس، ولهذا قياس الناس قياسًا واحدًا ليس بصحيحٍ.
              انظر لرجلٍ أو امرأةٍ، قد تكون لهما تجربة في الحياة الزوجية الأولى وتستمر سنة أو سنتين، وأحيانًا قد تستمر عشر سنين، ثم بعد ذلك تنقطع وتنقطع بخاتمةٍ سيئةٍ، وبتعاملٍ أسوأ، وقد تكون في المحاكم، ومُعلَّقة لبضع سنوات، ثم بعد ذلك يرزق الله المرأة شخصًا ذهبًا، فيعوضها هذا الزوج عن كلِّ السَّنوات السَّابقة، وهذا كله توفيق من الله -سبحانه وتعالى.
              الحياة -أيُّها الإخوة- لا يمكن أن ننظر إليها بعينٍ واحدةٍ، فدائمًا التَّوازن فيها هو المطلب الحقيقي، ولهذا لدينا مرضٌ في العلاقات الاجتماعية نُنبه عليه، وهو: أنَّ لدينا تضخم ولدينا ضُمور، فتجد أننا إذا نظرنا لشخصٍ نظرنا إليه بنظرةٍ عاليةٍ جدًّا، ثم لا نكاد ننظر بعد ذلك لأيِّ سيئةٍ فيه، والعكس.
              والناس ليسوا ملائكةً، كما أنَّهم ليسوا شياطين، فهم بشر.
              ولهذا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»، فكلُّ ابن آدم خطَّاء، فبمجرد أن تعقد علاقةً مع أيِّ إنسانٍ لابُدَّ أن تتوقع مائة في المائة أن هناك ردَّة فعلٍ في يومٍ من الأيام ستكون سيئةً، فالناس تتحفظ وتتحفظ وتتحفظ حتى تأتي قاصمةُ الظَّهر، إمَّا سفر، وإمَّا موقف، وإمَّا استِدانة، وإمَّا أي شيءٍ يُظهر خلق هذا الإنسان.
              لهذا فإنَّ ما تفضلت به أخي الكريم صحيح، لكن لا ينبغي تعميم التَّجارب في الحياة، فتجربة واحدة قد تكون سيئةً لا يمكن أن نُعممها على البشر كلّهم، وهذا مهمٌّ جدًّا.
              ولهذا نُقِل عن عليِّ بن أبي طالبٍ -ويُروى مرفوعًا في جامع الترمذي والصَّحيح أنَّه موقوف عن عليٍّ- أنَّه قال: "أحبب حبيبك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغضيك يومًا ما، وابغض بغيضَك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما".
              هذا صحيح، فالإفراط في المحبَّة مثله مثل الإفراط في العداوة، وهنا ستخسر أشياء كثيرة، بأنَّك ستُضيف كلَّ أسرارك للطرف الآخر، والجهة الأخرى أيضًا عندما تُعادي شخصًا قد تحتاج إليه في يومٍ من الأيام.
              ولهذا ذكر ابنُ الجوزي في "صيد الخاطر" فائدةً جميلةً، قال: "ولا تُظهِر العداوةَ لأحدٍ؛ فإنَّك قد تحتاجه يومًا من الأيام".
              وهذا صحيحٌ، فأنت أحيانًا تعِنُّ لك حاجةٌ لا يقضي هذه الحاجة بعد الله -عز وجل- من البشر إلا شخصٌ قد غاضبته يومًا من الأيام، ولذا فالعاقل هو الذي يُمسِك العصا من الوسط، لا إفراطَ ولا تفريط.
              والشاعر يقول: "كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ".
              فهذا ذميم، وهذا أيضًا ذميم.
              أنواع الاتِّصال:
              أنواع الاتصال ثلاثة، لكن قبل هذا أريد أن أُعطيكم معلومةً سريعةً ثم ندخل -إن شاء الله- في أنواع الاتصال.
              أهدافنا نحن كمسلمين كم هدف في الدنيا؟
              أعطوني إجابات.
              {الهدف الأسمى}.
              ما أريد الهدف الأسمى، قولوا لي كم هدف، اثنين، ثلاثة، أربعة؟
              {هدفين}.
              هدفين، ما الأول؟
              {حب الله}.
              يا سلام، فيه واحد في الوسط.
              أهدافنا في الحياة نحن كمسلمين ثلاثة لا رابعَ لها:
              - إصلاح الدين، اللَّهمَّ أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري.
              - وأصلح لي دُنياي، إصلاح الدنيا.
              - وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي.
              وهذا مهمٌّ جدًّا، ففقه هذه القضايا الثلاث يحل لك إشكالًا كبيرًا جدًّا من الفوضى الموجودة الآن في حياتنا كمسلمين، فنحن لدينا اليوم تميز لا بأسَ به في الجانب الديني، كالعُمرة، وقراءة القرآن، والصلاة، وكذا، لكن الجانب الحضاري سيئ.
              لهذا لو تُلاحظ أنت من بداية الإسلام لما خرج الصحابةُ من مكَّة والمدينة وانتشروا في شتى بقاع الأرض. ماذا فعلوا؟ بنوا المساجد والمعاهد والمدارس والجامعات. أليس كذلك؟ وأصبحنا نحن المرجع للأمَّة كلها.
              في أحداث القرن الرابع يقول الحافظ ابن كثير -لاحظوا هذه العبارة الخطيرة: "وأرسل بابا النَّصارى إلى جميع القساوسة رسالةً يقول فيها: أدركوا أبناءنا، فقد لبسوا العمامةَ وتكلَّموا العربية".
              انظروا كيف أصبحت الأمور الآن؟ ولماذا؟
              لأنَّ أولئك فهموا الدين كالتالي: أنَّه خطَّان مُتوازيان: عبادي وحضاري، إصلاح دين، وإصلاح دنيا.
              دعوني أعطيكم تحفةً من التُّحَف العجيبة في تاريخ الإسلام؛ حتى تعرفوا إلى أي مرحلةٍ نحن وصلنا، فنحن وصلنا في الحضارة إلى مرحلة التَّرف، دعك من هذه المباني الطويلة، فهذه من أشراط الساعة، وهذه تقنيات فقط، لكن ليست هي الحضارة الحقيقيَّة، فالحضارة دائمًا تُبنى على ثلاثة أشياء: عقيدة، وأخلاق، وعلم.
              نحن وصلنا في هذه الأشياء الثلاثة إلى القمة.
              فالمهم هو المعاني، وهو أن تبني هذا الإنسان الذي يستطيع أن يبني لك مبنًى يستمر عشرة قرون أو خمسة عشر قرنًا، الآن مساجد وبيوت تُبنى، وبعد ثمان سنوات قيمتها تقل، غير الأشياء التي تحصل فيها من الشُّروخ وغيرها، لكن الآن لنا مساجد في القَيروان، كعقبة بن نافع، وغيرها، فكم لها من قرنٍ؟
              خذوا من التُّحف العجيبة الآتي: كان هناك وقف في الأمَّة الإسلامية اسمه "وقف الزّبادي"، ونحن دائمًا نسمع عن الزّبادي ونظنه الزّبادي المأكول، لا، الزّبادي جمع زبديَّة، والزّبديَّة هي صينية الفخَّار، وهي من تحف الأمَّة الإسلامية، فقد عملوا وقفًا للزّبادي. كيـف؟
              إذا ذهب الصبي لشراء غرضٍ ومعه زبديَّة قد أخرجها من المنزل ثم انكسرت في الطريق فإنَّه يذهب إلى هذا الوقف حتى لا يُؤنَّب ولا يُضرَب من أهله. إلى هذه الدَّرجة!
              وكان هناك وقف للقطط السَّائبة، ووقف للخيول التي شاركت في الحروب والجهاد في سبيل الله ثم كبرت، فأصبح لها وقف.
              أمَّة -أيُّها الإخوة- ترعى الجمادات، فكيف لا ترعى البشر؟!
              ولهذا إذا أردت دائمًا جيلًا مميزًا وفِّر له عناصر الهدوء، وعناصر الإبداع، فلن يُبدع أيُّ إنسانٍ في الدنيا -إلا ما شاء الله- إلا إذا توفَّرت له ثلاثة أشياء، مَن يعرفها؟
              {الأمن}.
              الأمن، أحسنت، ما الثاني؟
              {الصحة}.
              أحسنت، وما الثالث؟
              {التعليم}.
              أعطيكم حديثًا على هذا، فدائمًا أنا أُريدكم أن تقتنعوا اقتناعًا تامًّا أنَّ كلَّ ما يُقال في هذه الدنيا اليوم أصوله في الشريعة، علمه مَن علمه، وجهله مَن جهله، ولهذا نحتاج نحن دائمًا في حياتنا إلى قراءة مختلفةٍ، ليست القراءة المعتادة التي تُؤكد المؤكدات في أذهاننا، لا، نحتاج أن نبحث مَن وراء هذا الحديث؟ مَن وراء هذا النص؟ وكيف بنى ذلك الجيل؟ وكيف حين نُطبق هذا النظام في حياتنا يصنع منا أناسًا مختلفين تمامًا؟
              «مَنْ بَاتَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا»، الأمن، والصحة، والمادة.
              هذه الثلاثة أشياء إذا توفَّرت للإنسان فسيكون مميزًا.
              اليوم المواطن العربي والمسلم يلهث ثلثي حياته بحثًا عن المادة، فمتى يبدع؟ ومتى يخشع في صلاته؟ ومتى يرتاح؟
              لهذا فإنَّ الإسلام جاء بإصلاح الدين، وإصلاح الدنيا، وإصلاح الآخرة.
              الذي سأركز عليه سأنطلق منه هنا -إن شاء الله.
              فإصلاح الدنيا يكون بماذا؟
              بستة أشياء:
              - أولًا إصلاح الدين: لأنَّ دنيا بدون دينٍ لا فائدةَ منها: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا[طه: 124]، فلمَّا فسد الدين فسدت الدنيا تمامًا، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا، إذن لكي نسعد في دنيانا لابُدَّ من إصلاح الدين أولًا.
              وأنا أتمنى -يا إخوان- والشَّيء بالشَّيء يُذكَر، أن تقرؤوا تجربة الدكتور البترجي، هذا مدير مستشفيات السعودي الألماني، هذا الرجل خرجت تجربته الآن من أجمل ما تقرأ في تجارب الشَّخصية، كيف استطاع أن يبني هذه الطاقة الضَّخمة المالية والمستشفيات وغيرها؟
              انظر لتجربته، وانظر للجانب الديني فيها، وأعجبتني كلمة يقولها في أثناء الترجمة، يقول: "إنَّ النجاح هو أبواب تُفتح في السَّماء، ثم يدخلها الإنسان". هذا صحيح، لكن متى تُفتح هذه الأبواب؟ تعرفون متى؟
              {بحسن النية}.
              غير حُسن النية، يقول ابنُ عباس -واسمحوا لي بهذه العبارة: "لا ينام بعد الفجر إلا النَّوكَى"، يعني الحَمْقَى. لماذا؟
              لأنَّ بعد الفجر وقت توزيع الأرزاق، والإنسان نائم، فكيف بإنسانٍ لا يستيقظ أصلًا لصلاة الفجر؟! هذه مُصيبة أخرى.
              ولذلك يقول: إنَّ الجلوس للإشراق يُوفِّر للإنسان جوًّا هادئًا، وسكينةَ نفسٍ، وراحةً وطُمأنينةً.
              ولهذا أنا الآن بدأتُ أفهم كلمة شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذه جنتي وغدوتي، لو لم أتغدَّاها لضاعت قُواي"، وهو الجلوس من بعد الفجر للإشراق، خمسة وأربعين دقيقةً تُعطيك قوة اليوم كاملًا، لكن مَن يحرص على هذا؟!
              {وكذلك بعد صلاة العصر}.
              لا، الجلوس بعد صلاة الفجر حتى تُشرق الشمس ويُصلي الإنسان ركعتين هذا هدوء وسكينة، وما فيه انشغال بالدنيا.
              ولذلك لاحظوا، كلكم مُجْمِعون أنَّ الإمام حتى لو كان صوته غير جيدٍ، لكن في صلاة الفجر جيد، فكلُّ الأئمة في صلاة الفجر أصواتهم مختلفة تمامًا عن المغرب والعشاء. لماذا؟
              لأنَّها لم تتلوث أرواحهم بشيءٍ، فهم استيقظوا من الليل، وقد سلَّموها إلى السماء ورجعت هي من السَّماء.
              أليس الله -جل جلاله- يقول: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر: 42]، فهي ترتفع، لذلك لما تنزل تنزل وهي صافية نقية هادئة مُستقرة، لما يقرأ بالآيات يحلِّق بك، وجرب أنت أن تصلي صلاة الفجر عند إمامٍ قد اعتادت أذنك عليه في المغرب والعشاء فسترى أنَّه مختلفٌ تمامًا.
              إذن -دعوني أكمل:
              أولًا: إصلاح الدين.
              ثانيًا: إصلاح الجسد.
              ثالثًا: إصلاح المال.
              رابعًا: إصلاح الأسرة.
              خامسًا: إصلاح المجتمع.
              سادسًا: إصلاح الأمَّة.
              الدنيا لا تُصلَح إلا بهذه الستة أشياء.
              - إصلاح الدين.
              - إصلاح المال: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ».
              - إصلاح الجسد: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ» قوة إيمانية، وقوة جسديَّة.
              - إصلاح الأسرة، والأسرة بجميع أطيافها، وأول شيءٍ في الأسرة هما الوالدان، وها هو حديثنا اليوم.
              أنواع الاتصال ثلاثة:
              أولًا: الاتصال مُتَّجهًا للأسفل:
              وهذه لها أمثلة كثيرة جدًّا، مثل تعاملك مع والدك، وكذلك يكون الاتصال مُتَّجهًا لأسفل في الأعمال في المؤسسات والشَّركات وغيرها، فهناك مدير ومرؤُوسون تحته، فهذا مُتَّجه لأسفل، وقد جاء من الأعلى إلى هؤلاء، فتأتي عبارة -في الغالب- من الأعلى إلى الأسفل وتأتي تعليمات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[التحريم: 6]، يا أيُّها الذين آمنوا افعلوا كذا، فكلّ هذه الأشياء هي عبارة عن تعليمات.
              حتى على المستوى البشري تأتي تعليمات، فأنت عندما تقول لك والدتك أو والدك: افعل كذا، فهذه تعليمات، أو توجيهات، أو أوامر.
              والعكس، فعندنا نوعٌ آخر مُتَّجه إلى الأعلى، فنحن كبشرٍ نتعامل مع الله، حتى لو كانت العبارة فيها أمر فهي ماذا؟ طلب واستجداء: "اللَّهمَّ اغفر لي، اللَّهمَّ ارحمني". فليس هذا أمرًا؛ لأنَّك أنت عبد، وكلّ ما دون السماء عبد، ولهذا لما ترفع أنت ترفع للملك -جل جلاله.
              النوع الثالث هذا في البشر، اتِّصال هابط وصاعد، وهو التَّعامل بين الناس بعضهم مع بعض، كالذين في مستواك، مثل الأصدقاء مع بعضهم البعض، فهذه أوامر ذاهبة وأوامر قادمة.
              نحن اليوم سنشتغل هنا بالاتصال من الأعلى إلى الأسفل، ومن الأسفل إلى الأعلى، وسنُمثِّل لها بالمثال الذي سنعيشه في هذه اللَّيلة وهو التَّعامل مع الوالدين؛ لأنَّ في هذه العلاقة تأتي أوامر من الأب والأم لك، ويأتي منك أنت أيضًا طلب لهؤلاء الوالدين.
              فكيف تتعامل أنت مع هاتين القامتين السَّامقتين اللتين رزقك الله -عز وجل- إياهما؟
              اليوم سنرى -أيُّها الإخوة- فقهها عند السلف، أنا مؤمن إيمانًا كاملًا أنَّ دين الإسلام دين ذوق، ودين رُقي، فقد علَّمنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كلَّ شيءٍ حتى قضاء الحاجة، فكيف بقضية التعامل مع مَن جعلهم الله -عز وجل- تحت الأنبياء.
              ولهذا لما جاءوا للكلام على فضل المعلم قالوا: يُقاس المعلم على الأب، من حيث تقبيل اليد. فالسَّفاريني -رحمه الله- ذكر هذه المسائل لما شرح منظومة الآداب في كتابه الجميل "غذاء الألباب" في مجلدين.
              هذا الكتاب ذكر فيه التعامل مع المعلم، وقاسه على الوالدين؛ لأنَّ العلماء اختلفوا هل تُقبَّل يد أحدٍ في الدنيا غير الوالدين أو لا؟ قالوا: المعلم يمكن. لماذا؟
              لأنَّ له فضلًا عليك، فقد أخرجك من الظُّلمات إلى النور.
              طيب دعنا نتكلم اليوم -إن شاء الله تعالى- عن هذا الموضوع، وسأبدأ فيه بمُقدِّمات سريعة ومعروفة لإخواننا الكرام، لكن حتى يكتمل الموضوع للجميع.
              أولًا: البر: عندما نتحدث عن التعامل مع الوالدين فقد سمَّاه الله -عز وجل- برًّا، فنحن مأمورون في تعاملنا مع والدينا بالبرِّ.
              البر ما أصله في اللغة؟
              أصل البر في اللغة: السعة.
              لهذا يُقال: البَر ضدّ البحر، ثم اشتق بعد ذلك في التَّوسع في أفعال الخير، فإذا قيل هذا رجلٌ بارٌّ: فمعناه أنَّه مذكور بأفعال الخير في تعامله مع الناس.
              قال الله -عز وجل: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: 177]، فذكر ماذا؟
              تعامُلًا عامًّا مع المساكين والفقراء والأيتام وغيرهم من الأشياء.
              ولذلك فإنَّ البر هنا يأتي بمعنى الإحسان إلى الوالدين والأقارب، وسنبين -كما سيأتينا بعد قليلٍ- كيف يُحسِن الإنسانُ إلى هذين الشَّخصين -الأب والأم- من خلال الإحسان القولي والإحسان الفعلي.
              لكن الناس -أيُّها الإخوة قبل أن ندخل في الإحسان- صنفان:
              - صنف يُتقِن الإحسان.
              - وصنف لا يُتقِن الإحسان.
              ومن ثَمَّ تُلاحظون في الواقع المجتمعي الآن أنَّ هناك أناس بارِّين، وأناس عاقِّين. أليس كذلك؟
              لهذا يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «النَّاسُ صِنْفَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ». رواه الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ.
              إذن لابُدَّ أن نفهم هذه المقدمة: أنَّ الناس يختلف تعامُلها مع أهلها، ومع الناس عمومًا؛ لاختلاف الطينة التي خرجوا منها، والطِّباع التي تأصَّلت فيهم.
              ولهذا قال ابنُ القيم -ونُقِل أيضًا عن غيره: "أنَّ الإنسان الذي يُدمِن أكل حيوانات معينة يتأثَّر بها"، صحيح، ولهذا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْإِبِلَ خُلِقَتْ مِنَ الشَّيْطَانِ»، أي أخلاقها قريبة من أخلاق الشَّيطان، فيتأثر أصحابها.
              ولهذا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «الْكِبْرُ فِي أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْفَدَّادِينَ»، يعني أصحاب الأراضي، وأصحاب الإبل، بينما التَّواضع في أصحاب الغنم.
              إذن إذا رأيت أناسًا بارِّين بآبائهم فاعلم أنَّ هناك نفس تقيَّة وفيَّة بارَّة، كريمة على الله -عز وجل- وإذا رأيت العكس فاعلم أنَّه فاجر شقيٌّ هينٌ على الله -سبحانه وتعالى.
              ولهذا لاحظوا! السلف كانوا دقيقين في هذا الموضوع. ماذا يقولون؟
              يقولون: "إن رأيت شخصًا عاقًّا لوالديه فلا تُصاحبه؛ فإنَّه إذا كان لا خير فيه لوالديه لم يكن فيه خير للناس مطلقًا".
              ولهذا بعض العلماء نصُّوا على مسألة جميلةٍ وظريفةٍ فقالوا: إذا تقدَّم إنسانٌ لخطبة إنسانةٍ عندك مثلًا ويريد أن يتزوَّج، فاسأل الناسَ عن بره لوالديه. لماذا؟ لأنَّ توفيق الله -عز وجل- يُلاحِق الإنسانَ البارَّ صباح مساء، بل في حياته وبعد موته: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف: 82]، هذا الصلاح، وأتصور أنَّ الأبناء أيضًا كانوا صالحين.
              تعالوا -أيُّها الإخوة- ننظر في كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- في الحثِّ على هذا الموضوع، وهو كثيرٌ جدًّا. أحد يذكر لنا آية في الحث على بر الوالدين.
              ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أي أمر، ﴿وَقَضَى رَبُّكَأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23]، ولهذا الله -سبحانه وتعالى- لما ذكر القواعد العشرة التي هي مجمع عليها بين الأمم كلها في سورة ماذا؟
              {الأنعام}.
              ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ[الأنعام: 151].
              بالمناسبة -أنا على مذهب الشَّناقطة- أي فائدة تأتي نقولها حتى لو كانت بلاغية، أو لغوية، أو أي شيء، وهذا من أسوأ أنواع التَّدريس، وقد انتقده الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه "سبيل الدَّعوة والإصلاح"، قال: "وطريقة الشَّناقطة في التعليم لا تنفع الطالب".
              لماذا؟
              لأنَّ من البلاغة أن تذهب للفقه في درسٍ واحدٍ، ومن الفقه أن تذهب للنحو، ومن النحو أن تذهب لكذا، لكن حتى لا نمل هنا نأتي بالفوائد المتنوعة، قالوا: مكرر، قلت: أحلى.
              ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ وقف ﴿عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، فعند بعض القراء يقف هنا.
              ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾، ﴿عَلَيْكُمْ أَلَّا، هذه عند بعض القراء يفعلونها.
              هذه الآية التي ذكرتها قبل قليلٍ، ومنه: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[النساء: 36]، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت: 8]، وفي الآية الأخرى قال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا [الأحقاف: 15]، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان: 14]، وفي الآية الأخرى في الأحقاف قال: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف: 15].
              أريد أن أسألكم ولا أُريد الإجابة الآن، فاجعلوها واجبًا:
              في الآية الأولى قال: ﴿حُسْنًا [العنكبوت:8]، وفي آية الأحقاف قال: ﴿إِحْسَانًا [الأحقاف: 15]، فهل هناك فرق بينهما؟ هل عند أحدكم إجابة؟ وخاصة وهو خارج من درس تفسير.
              ولاحظوا أنا قلتُ: "هل عند أحدكم إجابة؟"، فأنا أعطيت درسًا قبلها، ونحن ندرس مهارات التواصل، ولهذا تربويًّا يقولون: إذا وجَّهت سؤالًا فلا تُحدده بشخصٍ، واجعله عائمًا. لماذا؟
              لأنَّ من أساسيَّات التعليم: حفظ ماء الوجه.
              ولذلك فإنَّ كثيرًا من الطلاب طلبوا العلم فلمَّا ذهبت كرامتُهم رجعوا، وسفيان الثوري كان يختبر الناسَ هكذا، فيُعطيهم اختبارًا في الكرامة، فلو وجده شخصًا مُتحفِّظًا طرده.
              لذا، الجواب عندكم الأسبوع القادم -إن شاء الله- "حُسْنًا" و"إِحْسَانًا" آية العنكبوت وآية الأحقاف، والسؤال مُوجه للإخوة والأخوات في الخارج.
              قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لما سأله ابنُ مسعود: أي العمل أفضل؟
              لاحظوا: الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- دائمًا يسألون عن الأفضل، والأحب، والأقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- لماذا؟
              لأنَّ العمر قصير، ويحتاج الإنسان دائمًا أن يبحث عن الأعمال التي ترفع درجتَه عند الله -عز وجل- بأقل مجهودٍ، وهذا ذكاء، ولهذا يقولون اليوم في علم الإدارة ماذا؟
              هناك نظام في الإدارة اسمه نظام "باريتو" من 20 إلى 80، يعني تُعطي عشرين في المائة من المجهود فيُعطيك ثمانين في المائة من النتيجة.
              هذا منهجٌ نبوي، ففي صحيح البخاري في كتاب الجهاد: باب عمل قليلًا وأُجِرَ كثيرًا.
              فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رجع إلى أمِّ المؤمنين جُويرية بنت الحارث -رضي الله تعالى عنها- وهي جالسة في مُصلَّاها إلى ما بعد الإشراق، قال: «أَمَا زِلْتِ عَلَى مَا تَرَكْتُكِ عَلَيْهِ؟» قالت: بلى يا رسول الله. قال: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ كَلِمَاتٌ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ لَوَزَنَتهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ»، نفس المبدأ.
              لهذا يبحث الإنسانُ دائمًا عن الأعمال التي ترفع درجتَه عند الله -عز وجل- بأقل مجهودٍ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مِائةَ مَرَّةً غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَلُو كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ». ومَن قال: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ»، وفي بعض الألفاظ: «مِائة وَمِائة»، «وَكَانَ لَهُ كَعِتْقِ أَرْبَعَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ إِلَّا رَجُلٌ قَالَ مِثْلَهُ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ».سبحان الله!
              فنحن نتعامل مع كريمٍ -يا إخواني- ولذلك قالوا: إذن نزيد. قال: «اللهُ أَكْرَمُ»، فأنت تتعامل مع الخالق -جل جلاله.
              قال: أي العمل أفضل؟ قال: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»، وفي رواية ابن حبان قال: «الصَّلَاةُ عَلَى أَوَّلِ وَقْتِهَا». قيل: ثم أي؟ قال: «بِرّ الْوَالِدَينِ». قيل: ثم أي؟ قال: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ».
              والحديث المشهور عندنا: مَن أحقُّ الناس بحُسن صحابتي؟ لاحظ: "حُسن صحابتي"، فدائمًا الصُّحبة والصَّداقة فيها تواصل، صحيح؟ فمن أحقّ الناس بهذا الحسن؟ يعني أنَّك تتعامل مع الوالدين بأحسن ما يمكن التَّعامل به.
              لما كانوا يرون الحسن البصري يجلس جلسةً فيها تواضُع وخُشوع إذا كانت والدته بجواره، قيل: لِمَ هكذا؟
              قال: هكذا أبي جلس مع أمه.
              وعون بن عبد الله لما نادته أمُّه فعلى صوتُه على صوتها أعتق أربعَ رِقابٍ؛ لعلَّ الله أن يغفر له هذا الصَّوت، واليوم الناس تفعل أشد من هذا.
              قال: مَن أحق الناس بحُسن صحابتي؟
              قال: «أُمُّكَ».
              قال: ثم مَن؟
              قال: «أُمُّكَ».
              قال: ثم مَن؟
              قال: «أُمُّكَ».
              قال: ثم مَن؟
              قال: «أَبُوكَ».
              قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أيضًا في حديث المقدام بن معدِ يكرب: «إِنَّ اللهُ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ»، قالها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا.
              وقال -صلى الله عليه وسلم: «رِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ اللهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ».
              فالذي يتعامل بتعاملٍ راقٍ مع والديه لا شكَّ أنَّه يجني ثمرات كثيرةً في الحياة.
              من أولها: رضا الله -تبارك وتعالى: ومعناه أنَّ كلَّ تصرُّفٍ ستفعله مع والديك ستنال عليه هذه الجائزة، وهي رضا الله -سبحانه وتعالى: «رِضَا الله فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ اللهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ».
              الأمر الثاني: استجابة الدُّعاء وتفريج الكُربات: فالإنسان أحيانًا يذهب إلى شخصٍ فيقول له: بالله ادعُ لي. أو كذا، مع أنَّ عندك منبع خصب، فترفع إلى السماء ولا تُرد، ودعوة الوالد لولده لا تُرد، وما فُرِّجت كربة مَن كان في الغار إلا بسبب برِّه لوالديه، فهذا نوعٌ من التواصل؛ فقد جلس على رأس والديه الليل كلَّه حتى أصبحوا ثم أعطاهم الغَبُوق.
              أنا أذكر الشيخ كشك -الله يرحمه- يقول: يا أخي، هناك ناس قليلي الذَّوق، يتعشى مشويَّات ويأتي بفلافل لأمِّه وأبيه!
              وهذا صحيح، فترى الناس تفعل هذه الطَّريقة، فيأتي هنا الإيثار، بحيث إذا أردت دائمًا أن تُقدم شيئًا جميلًا لآخر تذكر فضلَه عليك، لكن متى؟ وهذا الأسلوب ينفع مع مَن؟ مع النفوس النَّظيفة النَّقية، فهناك نفوس أصلًا ما يُؤثر فيها المعروف، وهناك ناس أدنى معروفٍ يأسره إلى قيام الساعة، ولهذا يقول العرب: "أوفى من كلبٍ"؛ لأنَّ الكلب من أكثر المخلوقات وفاءً مع سيده.
              أيضًا من الأشياء -أيُّها الإخوة- منسأة للأعمار، مجلبة للأرزاق:
              يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»، وأعلى درجةٍ من درجات الأرحام هي الأم والأب.
              أيضًا توفيق الله -عز وجل- للبارِّ في أمور حياته، فلمَّا وافق إسماعيل أباه في تطليق زوجته عوَّضه الله زوجةً أخرى خيرًا من الأولى بسبب هذا الأمر.
              أيضًا تكفير الذُّنوب، عن ابن عمر أنَّ رجلًا أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ ذنبًا عظيمًا فهل لي من توبةٍ؟
              قال: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟».
              قال: لا.
              قال: «هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟».
              قال: نعم.
              قال: «فَبِرّهَا».
              أخرجه الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ.
              أيضًا سببٌ من أسباب دخول الجنة يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ قِرَاءَةً فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قِيلَ: حَارِثُ بْنُ النُّعْمَانِ».
              فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «كَذَلِكُمُ الْبِرُّ، كَذَلِكُمُ الْبِرُّ، كَذَلِكُمُ الْبِرُّ»، وكان الحارث بن النُّعمان بارًّا بأمه، مع أنَّه لم تأتنا التَّفاصيل لكن يكفي هذا.
              يا إخواني، يُسمع قرع نعله في الجنة بسبب ماذا؟ حُسن تعامل وتواصل الابن مع والديه. فكيف نحن مع والدينا؟ هل ندعو لهم بأسمائهم؟ هل نتذكرهم في كلِّ وقتٍ وحينٍ أم تأسرنا الحياة ونذهب في طيَّاتها -للأسف الشَّديد؟
              خذوا أمثلةً لأناسٍ عاشوا حياةً جميلةً رائعةً من البر، فأبو هريرة طبعًا مشهور في بره بأمِّه، يقول: السلام عليكِ يا أُمَّاه، جزاكِ الله عني خيرًا كما ربيتيني صغيرًا. فتقول: وعليك السلام يا بُني، جزاك الله خيرًا كما بررتني.
              نحتاج دائمًا إلى ماذا؟
              إلى نفس مُنشرحة، فمُشكلتنا أنَّ عندنا نفوسًا بمجرد حصول موقفٍ بين الابن والأب تُغلِق هذه النفوس، ولا يستفيدون من بعضٍ.
              ابن عون -كما ذكنا- نادته أمُّه فعلا صوتُه على صوتها فأعتق رقبتين.
              بل -يا أيُّها الإخوة- مِسْعَر بن كُدام وهو عالم مشهور جاء إلى أمِّه بعد أن طلبت منه ماءً فوجدها نائمةً، فوقف عندها بشربة الماء حتى أصبحت وأذن المُؤذن.
              تصوروا في الغالب الإنسان ينام مُبكرًا، يعني معناه أنَّ هذه الوقفة كانت لبضع ساعات، وهو واقف عند رأسها.
              زين العابدين كان لا يأكل مع أمِّه في صحنٍ؛ مخافة أن تسبق عينُها إلى لُقمةٍ ثم يسبقها هو إليها فيكن عاقًّا لها.
              هذا نوعٌ من التواصل الرَّاقي جدًّا: أنَّ الإنسان يخاف أن تكون هذه الأم قد انتبهت لهذه القطعة من اللحم أو السَّمك أو كذا أو كذا، ومع هذا يحاول ألا يُعَكِّر عليها هذه الرَّغبة. إلى هذه الدَّرجة -إخوتي الكرام!
              ظبيان بن علي الثَّوري نامت ليلة أمُّه وفي صدرها عليه شيءٌ، فقام عند رجليها قائمًا مُعتذرًا حتى استيقظت في الصَّباح؛ مخافة أن تنام وهي غضبى عليه.
              والفضل بن يحيى البَرْمَكِي لما سُجن هو وأبوه يحيى البرمكي، ماذا حصل؟
              كانت الليالي شاتية، فكان يأخذ الماءَ الذي يُعطيه السَّجَّان ويضعه بجوار الموقد حتى يسخن، فإذا استيقظ الأب عند صلاة الفجر يُعطيه الماء.
              ففطن لهما السَّجَّان، فأطفأ عليهما الموقد، فأخذ الإناء ووضع عليه بطنه حتى الفجر يُسخنه له، مَن يفعل اليوم أقل من هذا؟!
              قال ابن المُنْكَدِر: بات أخي عمر يُصلي، وبت أغمز رجل أمي، وما أحب أن ليلتي بليلته.
              تعرفون الشاعر السُّوداني، ونحن عندنا ناس سودانيون كثر في المكان، نحن دائمًا في كلِّ حلقةٍ لابُدَّ أن نذكر السُّودانيين، وأكلاتهم والكمونية، والأشياء هذه.
              هناك شاعر سوداني -وأنا بالمناسبة عندي قناعة أنَّ السودانيين رقيقون جدًّا، ولا يضرك هذا ولا المناظر التي تعرفها والأشخاص الذين تعرفهم- مرة ذكر أبياتًا جميلةً جدًّا وهي مشهورة، حتى ندخل في طريقة التعامل بعد قليلٍ، وهي:

              أَغْرَى امْرُؤٌ يَوْمًا غُلَامًا جَاهِلًا


              بِنُقُودِهِ كَيْ مَا يَنَالُ بِهِ الضَّرَر


              أغراه بنقود حتى ينال منه الضرر.

              قَالَ: ائْتِنِي بِفُؤَادِ أُمِّكَ يَا فَتَى





              أعطيني قلب أمك




              وَلَكَ الْجَوَاهِرُ وَالدَّرَاهِمُ وَالدُّرَر


              فَمَضَى فَأَغْرَزَ خِنْجَرًا فِي صَدْرِهَا


              وَالْقَلْبُ أَخْرَجَهُ وَعَادَ عَلَى الْأَثَر


              لَكِنَّهُ مِنْ فَرْطِ سُرْعَتِهِ هَوَى


              فَتَدَحْرَجَ الْقَلْبُ الْمُعَفَّرُ إِذْ عَثَر


              انظروا كيف كانت الصورة؟ والقلب يدور على الأرض وعلى التُّراب ويتسخ.





              نَادَاهُ قَلْبُ الْأُمِّ وَهْوَ مُعَفَّرٌ


              وَلَدِي حَبِيبِي هَلْ أَصَابَكَ مِنْ ضَرَر؟


              أُعيد عليكم، وتلذذوا أنتم الآن بالصُّورة، فكلُّ واحدٍ الآن يتخيل الصُّورة، والإخوة السُّودانيين -مخرجين ومصورين- ركِّزوا، هذا شاعر من عندكم.

              أَغْرَى امْرُؤٌ يَوْمًا غُلَامًا جَاهِلًا


              بِنُقُودِهِ كَيْ مَا يَنَالُ بِهِ الضَّرَر


              قَالَ ائْتِنِي بِفُؤَادِ أُمِّكَ يَا فَتَى


              وَلَكَ الْجَوَاهِرُ وَالدَّرَاهِمُ وَالدُّرَر


              فَمَضَى فَأَغْرَزَ خِنْجَرًا فِي صَدْرِهَا


              وَالْقَلْبُ أَخْرَجَهُ وَعَادَ عَلَى الْأَثَر


              لَكِنَّهُ مِنْ فَرْطِ سُرْعَتِهِ هَوَى


              فَتَدَحْرَجَ الْقَلْبُ الْمُعَفَّرُ إِذْ عَثَر


              نَادَاهُ قَلْبُ الْأُمِّ وَهْوَ مُعَفَّرٌ


              وَلَدِي حَبِيبِي هَلْ أَصَابَكَ مِنْ ضَرَر؟



              يعني هي رحيمة به بعد سقوطه هذا السُّقوط الشَّنيع.
              تعالوا الآن ندخل في درسنا الذي نتكلم فيه، وهو كيف نتعامل مع والدينا تعاملًا قوليًّا وفعليًّا حتى نكسب قلوبهم؟ فإن استطعنا أن نكسب هذه القلوب لا شكَّ أننا نلنا رضا الله -عز وجل- عنا.
              أولًا: الإحسان:
              فالله -عز وجل- أمرنا بالإحسان القولي والفعلي، فقال في آية الإسراء: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ[الإسراء: 23]، ودائمًا ركزوا، في سنوات غروب الإنسان، ولكلِّ إنسان شروق وزوال وغروب.
              الزوال منتصف العمر، ثم يغرب.
              فسنوات الغروب من أصعب السنوات التي ينبغي أن نعتني بها، ولعلي -إن شاء الله- أذكر لكم فائدةً هنا في 1 مايو، ما الذي يحصل على مستوى العالم؟ وكيف بدأت به آنا سارجس؟
              هذا الموضوع سأتحدث عنه -إن شاء الله- بعد قليلٍ، ففيه فائدة مهمَّة جدًّا في هذا الموضوع حتى نتكلم على الأم في الشرق والأم في الغرب، والأم في الإسلام والأم عند هؤلاء الناس الذين ليس لهم دينٌ يضبط هذه العلاقة ضبطًا صحيحًا.
              إذن: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23]، الـ"أف" هذه مثال على الإحسان القولي، يعني عدم قولها هي إحسان قولي.
              ﴿ولَا تَنْهَرْهُمَا، والنَّهر فيه ضربٌ وفيه كذا، فهو إحسان فعلي.
              ﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، رقيقًا، لفظًا جميلًا رائعًا.
              ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ هذا إحسان فعلي، ﴿وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 24].
              الآن سنأتي ونُفصِّلها قليلًا، وأود أن أسمع منكم إذا كان هناك نوعٌ من الإحسانات القوليَّة التي يمكن للإنسان أن يفعلها مع والديه، والإحسان الفعلي أيضًا، سأذكر لكم مجموعةً من هذه الأشياء، وأسعد بسماع أي شيءٍ من الإخوة الكرام.
              أمَّا الإحسان القولي فمنه:
              - استخدام الألفاظ الرَّقيقة التي يظهر فيها اللِّين والرِّفق والشَّفقة، وجبر الخاطر، وبسط النفس، فهذا هو الكلام اللَّين، فأول قضيةٍ نستخدم الألفاظ الرَّقيقة.
              كيف أنت يا أبي؟ لعلك مُرتاح. خاصَّةً إذا كان كبير السن، فكلَّما كان الإنسانُ كبيرًا في السن أراد من غيره أن يملأ عليه وقته وقلبه وحياته وفراغه وكل شيء.
              - الأمر الثاني: عدم رفع الصَّوت عليهما: ﴿ولَا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء: 23]، فرفع الصوت ليس من الأدب مطلقًا، ولهذا قال العلماءُ: إذا كانت هناك مناقشة في مسألة وكان الأب مُخطئًا والابن يعرف الحقَّ، فإنَّه لا ينتصر عليه في المجلس.
              هذا مَلْحَظٌ عَجِيبٌ! إذا كان الإمامُ أحمد سُئل فقيل له: يا إمام، أبي على مُنكر، أفأُنكِر عليه؟
              قال: "إن كان يُغضبه فلا تفعل".
              غضب، وهو مُقِيم على مُنكر، ولهذا الإنسان ماذا يفعل؟
              يتفنن في البحث عن التَّصرفات القوليَّة والفعليَّة التي تدله على الحقِّ وتمنع عنه الباطل.
              - الأمر الثالث: عدم التَّأفُّف منهما كلاهما أو أحدهما: فمثلا إذا فرغت اسطوانة الغاز في الساعة الثانية ظهرًا في قمة الحرارة، فقالت لك أمك: اخرج افعل كذا. فافعل.
              - الحاجة للمرض، يعني أن تكون مريضةً وتحتاج إلى أن تذهب لمستشفى ونحو ذلك، وتجد أنَّ هذا الإنسان –للأسف- لا يقوم بهذا الواجب مُطلقًا.
              أحد الأبناء كان يتأخَّر في الليل، وأمه تنشغل عليه وهو يتأخَّر عليها، فهي تنام ولا تستطيع أن تصمد من كثرة التَّعب في أثناء النهار، فيجد ورقة عند دخوله للمنزل: ترى العشاء في المكان الفلاني. غرفتك مرتبة. أغراضك موجودة في المكان الفلاني. يقول: أنا كل يوم أفعل هذا، وفي يومٍ من الأيام جئتُ فما وجدتُ أي ورقةٍ، فقلت: لعلها نامت ولم تكتب لي شيئًا. وكانت تنام وهي حزينة؛ لأنَّ ولدها يتأخَّر عن الدُّخول إلى المنزل.
              وفعلًا في تلك اللَّيلة دخل هو وأكل شيئًا يسيرًا ونام على سريره، وتفاجأ في الصباح بأنَّ أهل البيت كلهم يصيحون، وإذا بأمه قد ماتت تلك اللَّيلة، ولم تستطع كتابة الورقة، وهذه قصة واقعية وحقيقيَّة لأحد الأشخاص.
              إذن -يا إخواني- امرأة تحترق عليك ليلًا، والأب صحيح لا يظهر مشاعره، لكنَّه في الداخل يتعذب عذابًا مُنقطع النَّظير.
              نحن آباء -أيُّها الإخوة- وبعضكم عُزَّاب لا يشعرون بهذا، لكن الأب يتألم عندما يجد ولده يتألم، فهو يتقطع في داخله، ويتمنى أن هذا الألم فيه، لكنَّه رجل، والرجل تختلف ردود أفعاله تجاه حدثٍ معينٍ على الولد عن الأم.
              الأمر الرابع: حثّهما على الخير، أو نهيهما عن ضده بأدبٍ ودون غلظةٍ -كما ذكرنا لكم كلام الإمام أحمد، وقد نقله عنه ابنُ مُفلحٍ في "الآداب الشرعية".
              الأمر الخامس: الدّعاء لهما: يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ. فَيَقُولُ: أَنَّى لِي هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ»، اللَّهمَّ اغفر لوالدينا أحياءً وأمواتًا يا ربّ العالمين.
              فالإنسان الذي لا ينسى والديه مطلقًا، ويعيش هذا الهم اليومي معهما في سجوده، وفي كلِّ لحظةٍ من لحظاته، هذا رجل بارّ.
              - حسن مُناداتهما، فتجد بعض الأشخاص يُنادي أباه باسمه، وهذا من العقوق، وبعض الناس حين يتكلم مع زملائه عن أبيه يقول: العجوز، الشَّيبة، وكذا. وهذا لا شكَّ أنَّه ليس من الأدب معهما.
              فمن الآداب التي نصَّ عليها العلماء: التَّحدُّث مع الغير عنهما بأدبٍ واحترامٍ.
              - أيضًا من الأشياء كما ذكرنا لكم في أول الحديث: عدم الانتصار عليهما في الكلام، فهذا من التَّواصل الرائع، فلا يأتي إنسانٌ ويقول: لا والله أنت مُخطئ، والصح كذا، أبدًا.
              - من الأشياء أيضًا: مخاطبتهما بأدبٍ، والتَّلطُّف معهما في العبارة.
              فهذا هو الإحسان القولي.
              من الإحسان الفعلي:
              أولًا: طاعتهما، واجتناب نهيهما: فإذا قالا شيئًا من الأعمال التي ليست فيها معصية لله تعالى، فإنَّ الإنسان يُطاوعهما فيها، فكيف إذا كان أمرًا من أمور الدنيا؟!
              وقد نصَّ العلماءُ -رحمة الله عليهم- على هذا، فحين سُئل الإمام أحمد، فقيل: يصوم تطوعًا، فسأله أبواه أو أحدهما أن يفطر؟
              صائم تطوع، ونحن نُسجل هذه الحلقة في يوم عاشوراء، تصوروا أنَّ الأب قال له: يا ولدي أنا أبغيك تفطر معنا، ولدينا عمل طويل نحتاج جهدك معنا.
              فقال الإمامُ أحمد: له أجر الصوم والبر إذا أفطر.
              وقد علَّق الشيخُ ابن عثيمين على هذه العبارة وقال: بحسب نفسية الوالدين، وهل لديهما مرونة وقبول لك حال صلاتك أو صيامك أو لا؟ لهذا ينظر الشخص، لكن لو أمره والدُه فإنَّه يفعل وله أجر الصوم.
              يا جماعة، هذه أمور عبادية، ومع هذا يُطاوع فيها، فكيف بأمرٍ دنيوي يومي؟! فيرفع الابنُ صوته عليهما، ولا يجيب لهم نداءهما، ونحو ذلك.
              ولهذا أنا أذكر أحد أقاربي صار بينه وبين أبيه خُصومة، فدعا عليه بالعمى، وهو أعمى من أكثر من ستين سنة، بسبب ماذا؟ دعوة.
              الدَّعوة -أيُّها الإخوة- خطيرة جدًّا لك أو عليك، فلتكن لك.
              - التواضع لهما: ولهذا قيل: من التَّواضع ألا تمشي أمامهما، وألا تجلس قبلهما في المجلس.
              قال العلماء -وهذا شيء عجيب حقيقة حتى ترون كيف يكون حُسن الخلق في التعامل مع الوالدين؟- إذا كان الأبُ في المجلس، فلا يليق بالإنسان أن يمد رجله، ولا أن يضع رجلًا على رجلٍ.
              - عدم مُزاولة المنكر: ذكر العلماء من حُسن التواصل مع الآباء: عدم إحداد النظر إليهما، فلا يأتِ الواحد فيفتِّح عينيه في والديه.
              - النفقة عليهما عند الحاجة.
              - الصَّدقة عنهما.
              - لا تسبقهما بحديثٍ، ولا تُقاطعهما.
              - قضاء الدَّين عنهما.
              -لا تجلس أمامهما.
              - حُسن استقبالهما بحفاوةٍ وتكريمٍ مع الابتسامة لهما، والولائم وغيرها تذهب يمنةً ويسرةً، والأب والأم لا يجدان حتى شيئًا يسيرًا من هذا الابن.
              - خدمتهما: ولا تقم لخدمتهما بكسلٍ، بل تتعبد الله بأنَّ كلَّ خطوةٍ سترفعك درجةً عند الله إذا كانت لوالديك.
              - مشاورتهما في أمورك: بعض الإخوة يستقلّ حين يصل مثلًا إلى الماجستير، أو الدكتوراه، أو يصير مدرسًا، أو استقلَّ بحياته وترك مشاورة الأب والأم.
              فمن الأشياء المهمَّة أن يُشاور الإنسانُ والديه.
              قبل أن آتيكم رفعت السَّماعة على والدتي، فقلت لها: يا أمي، الموضوع الفلاني يتعلَّق بشراء بيت وكذا، ما رأيك فيه؟ وأرجو أن تكلمي فلانًا وفلانًا من إخواني حتى ننضم لشراء هذا المنزل.
              ومن الممكن أن تكون الوالدة الآن تسمعني -بارك الله في عمرها وأعمار أمهاتكم وآبائكم.
              هذا الموضوع نحتاج أن ننتبه له، فالأم والأب يظلان أصحاب خبرةٍ، وكونهما يشاركان في هذا الأمر -وخاصَّة إذا كان عملًا صالحًا- فإنَّه يكون لهما نصيبٌ من الأجر لهذا العمل الصَّالح.
              - لا تُؤثِر نفسَك عليهما بطعامٍ أو شرابٍ: مثل نكتة الشيخ كشك -رحمة الله عليه- ترى نحن نتعشى بالخارج أحسن عشاء، وندفع ثلاثمائة ريال أو أربعمائة، وفي الآخر نشتري بريالين فلافل وريال خبز ونعطيهم للوالدين!
              لا، بل تصور أنَّ إنسانًا آثر والديه بطعامه اللَّذيذ في تلك اللَّيلة، تصوروا أنَّ إنسانًا يذهب إلى الجزَّارين في الصباح ليأخذ الكبدةَ الطازجة ويذهب بها إلى البوفيه ثم يأتي بها لأهله -لأمه وأبيه- كم له من الأجر عند الله؟ هذه الخطوات الساعة والسَّاعتين خير من ثلاث ساعات أو أربع ساعات تُقضَى مع أصدقاء لا نفعَ فيهم ولا خير.
              الوالدان بابٌ من أبواب الجنة في الدنيا، وأظن أنَّ آباءكم وأمهاتكم موجودون بحمد الله، فلن تشعروا بهذا الكلام إلا إذا ماتوا، فأبوك إذا مات فارق هذه الدنيا.
              أحد زملائي تُوفي والده قبل العيد، والعيد كان يوم الجمعة، فتُوفي والده يوم الإثنين، فوالده جهَّز الأضاحي وأضاحي أولاده والسَّكاكين وكل شيء، وفي ليلة الإثنين نام على فراشه الساعة الثالثة، فذهبوا يتفقَّدون هذا الأب فما وجدوا له حركةً، وكان قد اعتاد أن يُصلي في آخر الليل، فحرَّكوه فإذا به قد مات.
              ولذلك الألم كل الألم أن يفقد الإنسانُ والده فجأةً، عكس من يفقد والده بمرض أو نحو ذلك، هذا على الأقل تسمع منه دعوةً، وترى برَّك فيه، وإعادة شيء من الدَّين الواجب عليك.
              - أيضًا من الأشياء: الهدايـا: ماذا نُهدي لأمَّهاتنا في الأعياد والمناسبات وغيرها؟
              - الحج عنهما، وكذلك الصَّدقة، إنَّ رجلًا قال للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت ولم تُوصِ، أفيغني أن أتصدق عنها؟ قال: «نَعَمْ».
              - إجابة ندائهما بسرعة: فلو كان والدي يُشاهد الحلقة هذه لعرفتم أنَّه كان يُناديني من مسافة يمكن أن تبلغ أربعمائة متر في ملعبٍ كنتُ ألعب فيه مع مجموعةٍ من الزملاء، هذا الكلام في المتوسط والثانوي، لكن بمجرد أن يقول: يا علي. ممكن أمي تبتسم الآن وتعرف هذه الحادثة، أقفز الدنيا كلها حتى أصل إليه؛ لأني أعرف أني سأتلقى ضربًا هناك.
              - عدم مُجادلتهما وتخطئتهما.
              - عدم رفع الصَّوت عليهما.
              - خدمة ضيوفهما.
              - لا تجلس في مكانٍ أعلى منهما.
              - شكرهما على تربيتهما لك.
              - القيام بالأعمال الصَّالحة عن الوالدين.
              - عدم الغضب منهما.
              - الصَّدقة -كما ذكرتُ لكم.
              - طلب الدُّعاء منهما.
              - تقبيل رأسهما وأيديهما.
              - عدم رفع اليدين عليهما في أثناء الحديث.
              تصوروا: حتى رفع اليدين نصُّوا عليه. لماذا؟ لِعِظَم الوالدين، فالوالدان -يا إخواني الكرام- شخصان عظيمان عند الله -عز وجل- فكيف بنا نحن؟!
              نحن بعد قدر الله -عز وجل- وتوفيقه سبب وجودنا في هذه الدنيا هما الأب والأم، وترى لو سألتهم عن المعاناة التي عانوها في الوصول إليك وفي تربيتك، وفي العناية بك، وخاصَّة الأم، كم سهرت عليك وتعبت؟ ونحو ذلك، كلّ هذا لا شكَّ شيء ينبغي أن يُشكَرا عليه، وأن يُقدَّم لهما شيء عملي.
              أختم -أيُّها الإخوة- بمجموعةٍ من الأشياء التي تُعيننا على البر:
              أولًا: الاستعانة بالله -عز وجل- ويسأل الإنسان ربَّه أن يُوفقه لبر والديه.
              الأمر الثاني: استحضار فضائل البر التي ذكرناها قبل قليلٍ: الجنة، وكفَّارة الذُّنوب، وكذا وكذا، حتى ينشط الإنسانُ لهذه الأعمال الصَّالحة.
              ثالثًا: استحضار فضل الوالدين: كم تعبوا من أجلي؟! يا الله! كم شقيَ والدي من أجلي، أنا والله والدي تعب يا جماعة عليّ، ولذلك أذهب لإلقاء محاضرات ودورات وأقول: يا ربّ أشرك والدي في هذا العمل الصَّالح.
              رابعًا: التَّوفيق بين مشاغل الحياة وبينهما.
              خامسًا: استشعار فرح الوالدين بالبر، وهكذا.
              مجموعة من الأمور التي تجعل الإنسانَ يحرص على برِّه بوالديه.
              أقول كلمةً أختم بها مجلسنا هذا -أيُّها الأحبة:
              إنَّ مَن أراد الجنة فعليه بحُسن التَّعامل مع والديه قولًا وعملًا، ومَن كان له والدٌ حيٌّ ووالدة حيَّة فليحرص على برهما حتى يلقى الله -عز وجل- بهذا العمل الصَّالح، فإنَّه إذا مات أحدُهما أو كلاهما وقعت في قلبك حسرة على تفريطك في كلِّ لحظةٍ وكلِّ دقيقةٍ في التعامل مع الوالدين.
              اللَّهمَّ وفِّقنا لبر والدينا يا رب العالمين، اللَّهمَّ ارزقنا برهم يا ذا الجلال والإكرام، واجمعنا بهم في جنات عدن يا رب العالمين.
              شكر الله لكم -أيُّها الإخوة- حُسن استماعكم وإنصاتكم، وشكر الله لكم أنتم أيضًا خلف الشَّاشات حُسن استماعكم وإنصاتكم، على أمل اللِّقاء بكم -إن شاء الله- في حلقةٍ قادمةٍ في مهارات التَّواصل.
              وقد بقيت لنا -إن شاء الله- ثلاث حلقات سنختم فيها بقواعد في مهارات التواصل تكون نافعةً ومفيدةً لنا في حياتنا.
              والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ.
              تحميل ملف صوت rm
              تحميل ملف التفريغ word

              تعليق


              • #8
                رد: مهارات التواصل الاجتماعي - د/ علي الشبيلي




                مهارات التَّواصُل الاجتماعي
                د. علي الشّبيلي
                الدرس (8)

                http://www.youtube.com/watch?v=mbA8LRWxwRM


                بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
                اللَّهُمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وارزقنا الإخلاصَ في القول والعمل.
                أمَّا بعد، أيُّها الإخوة والأخوات خلف الشَّاشات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
                أسعد الله أوقاتكم باليُمن والمَسَرَّات، ومرحبًا أيضًا بإخوتي الكرام معنا في هذا الاستوديو لمناقشة هذه القضايا المتعلقة بمهارات التواصل الاجتماعي، فحياكم الله ومرحبًا بكم.
                أمَّا بعد، حديثنا اليوم سنتحدث عن نفس عملية الاتِّصال التي نحن نتحدث عنها -مهارات التواصل- ونحن نتكلم عن تواصل لا اتِّصال؛ لأنَّ التواصل أعظم من الاتِّصال.
                تحدَّثنا في الأسبوع الماضي عن أنواع الاتِّصال، وقلنا أنَّه يأتي من الأسفل إلى الأعلى، أو من الأعلى للأسفل، أو العكس يذهب ويجيء، إذا كان من رئيسٍ إلى مرؤوسه، وإذا كان من الأب إلى الأولاد، وإذا كان من مرؤوسٍ أيضًا إلى الرئيس، وقد يكون أحيانًا تبادلًا فيما بينهم.
                ومثَّلنا بمثالٍ حيٍّ في الأسبوع الماضي على تواصل الأبناء مع الآباء، والآباءكذلك مع الأبناء؛ لأننا بحاجةٍ عندما نتحدث عن مهارات التواصل بين الآباء والأبناء أن تكون بالجهتين، أي كيف يتعامل الآباء مع الأبناء؟ والشريعة لا شكَّ أنَّها ركَّزت على الجانب الثاني؛ وهو مهارات تواصل الأبناء مع الآباء، وركَّزت على الأشياء الدَّقيقة جدًّا حتى "أف".
                ولذلك قال عليُّ بن أبي طالب: "لو كانت هناك كلمة أقل من أفٍّ لذُكرت في القرآن".
                وهذا يدلُّ على عِظَم التواصل بين هذين النوعين -أي الأبناء والآباء- ولذلك الله -عز وجل- جعلهم بعد توحيده وعبادته: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23]، ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151]، فهم بعد توحيد الله -عز وجل- فإذا جيء في المأمُورات أُمِرَ بالبر، وإذا جيء في المنهيَّات جيء بالنَّهي عن عقوق الوالدين بعد الشِّرك بالله -عز وجل.
                اليوم سنتحدث عن عناصر اتِّصال، هذه العملية التي نتصل مع الآخرين بها، وهي الكلام والكتابة أو غيرها، ما هي عناصرها التي ينبغي لكلِّ إنسانٍ أن ينتبه لكلِّ عنصرٍ ويُقويه في نفسه؟
                نحن خرجنا من بطون أمَّهاتنا لا نتقن أيَّ كلمةٍ أبدًا؛ بل بدأنا نتعلم حرفًا حرفًا، وكلمةً كلمةً، وكان أول ما نطقنا به هو اسم "بابا" أو "ماما"، ثم بعد ذلك بدأت هذه الكلمات تزيد، وأصبح لدى الإنسان ثروة لغوية كبيرة جدًّا، اليوم لو قارنت نفسَك كيف كنت في السنة الأولى؟ وكيف أنت في الثامنة عشرة أو العشرين أو الاثنين وعشرين؟ لا شكَّ أنَّك مختلف تمامًا، لكن المشكلة ليست في الثَّروة اللغوية، المشكلة كيف تصل هذه الثروة اللُّغوية إلى الآخرين بحيث يفهموها ويستوعبوها ولا تجرح نفوسَهم وقلوبهم؟
                لاحظوا معي -إخوتي الكرام- فسأبدأ معكم بمثالين سريعين، ثم نلج -إن شاء الله تعالى- إلى عناصر الاتصال.
                أمَّا أولهما: كلنا يدخل إلى مواقع الإنترنت، فتجد أحيانًا خبرًا في الإنترنت، وهذا الخبر بعد أن ينتهي تأتي مساحة لتعليق الناس على هذا الخبر، وأظن أنَّ ذلك قد مرَّ عليكم، وكذلك أنتم -أيُّها الإخوة والأخوات- مرَّ عليكم مثل هذا الموقف.
                عندما تنظر للتَّعليقات تجدها مختلفةً تمامًا، فأحدهم يمدح ويُثني، والآخر يسُبُّ ويشتم، والثالث ينتقد هذا الشَّخص، والآخر يقول كلمات لا تليق بمثله. لماذا؟
                لأنَّ عقول الناس مختلفة، وتربيتهم مختلفة، والبيئات التي عاشوا فيها مختلفة أيضًا اختلافًا كبيرًا جدًّا، ولهذا فإنَّ كلَّ إنسانٍ يُمَثِّل نفسَه وأخلاقه، ويتكلم ببيئته.
                وكما قال ابنُ القيم -رحمه الله: "اللِّسان ملعقة القلب"، ولذلك كلَّما كان القلب نظيفًا طاهرًا زكيًّا خرجت العبارات منه طاهرةً زكيَّةً، ولذلك من أندر الأشياء في هذه الأزمنة النُّفوس الطَّاهرة النَّقية؛ لأنَّ النفوس الطَّاهرة النَّقية الزَّكية فيها ميزة لا تكاد تجدها في الآخرين وهي نقاء لسانها، وصفاء قلبها، وحُسن تعاملها أيضًا، وهذه النُّفوس نادرة بين الناس، ولكنَّها بالإيمان وبتقوى الله -عز وجل- وبالحرص على الأخلاق العالية وبالاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- تزيد مثل هذه الأنفس.
                أمَّا المثال الثاني: فالنبي -عليه الصلاة والسلام- رأى في ليلةٍ من الليالي -وهو مع جبريل- ثورًا يخرج من جُحْرٍ ثم يحاول العودة إليه فلا يستطيع، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: «مَنْ هَذَا؟». قال: هذه الكلمة تخرج من فم الإنسان يتمنى أن تعود فلا يستطيع.
                دعوني الآن أعيشكم موقفًا يُشبِه مثل هذا الأمر: تصوروا الآن رجلًا وزوجته بعد عِشْرَة عمرٍ طويلة، فجأةً يقول لها: أنتِ طالق طالق طالق ... بالثلاث، بالألف، بالمليون.
                هذه العبارة التي لم تتجاوز ربع دقيقة، هي في الحقيقة ماذا؟ قطعت هذا الميثاق الغليظ والتَّواصل العظيم الذي كان بين هذا الرجل وهذه المرأة.
                إذن لو أراد هذا الرجل أن يستعيدها مرةً أخرى لم تعُد، ولذا أكاد أجزم بأنَّه مرَّت علينا في حياتنا عبارات خرجت من أفواهنا آلمت أناسًا كُثُرًا، وعندما أردنا أن نخلد للنوم في الليل تذكرنا هذه العبارات وأنَّها جرحت فلانًا، وتمنينا أنَّها رجعت إلى أفواهنا مرةً أخرى، لكن كلّ شيءٍ قد ذهب وزال.
                لهذا نحتاج أن يكون الإنسانُ دقيقًا في هذا الكلام مع زوجته، وأبنائه، وجيرانه، ومرؤوسيه، إلى غير ذلك من الأشخاص.
                دعونا اليوم نبدأ في عناصر الاتِّصال، وأول واحدٍ منها هو: المصدر:
                الآن أنا بين أيديكم مصدر، وهو طرفٌ أساسي يبدأ بعمليَّة الاتِّصال، بنقل الرسالة إلى المُسْتَقْبِل، فأنتم الآن في هذه العملية التي نجلس نحن فيها مُسْتَقْبِلُون، وأنا أُرسِل لكم، هذا هو المصدر وأنت المُسْتَقْبِل، ثم ستأتي بعد ذلك الرِّسالة وأشياء سنتحدث عنها بعد قليلٍ.
                هذا المُرْسِل أو المصدر للكلام لابُدَّ أن يتصف بمواصفاتٍ كثيرةً حتى يكون الكلامُ الذي يخرج من فمه مُقنِعًا، نحضر عند أكثر من خطيبٍ، فتجد خطيبان قد يخطبان في نفس الموضوع، أحدهم يُؤثِّر، والآخر لا يُؤثِّر، هذا يُقنِع، والآخر لا يُقْنِع، مع أنَّه أحيانًا قد تكون معلوماتهما واحدةً، وقد تكون أيضًا دراستهما وخلفيتهما الشَّرعية واحدةً، لكن ثمَّت أشياء نحتاجها عندما نتحدَّث مع الناس خاصَّة في الدروس العلمية، وفي المحاضرات، وفي الخطب، وفي اللِّقاءات التي تكون بين الرجل والمرأة، أو بين الزوج وزوجته، أو بين الأبناء بعضهم مع بعضٍ، وهكذا.
                أول قضيةٍ -إخوتي الكرام- هي: ثقة الناس:
                الثِّقة بالكلام الذي تقوله أنت، ولا يمكن للناس أن يثقوا بك، فقد يثقون في أول مرةٍ، ولكن هذه الثِّقة تقل مع كثرة الإمساس.
                ما الذي يزيد ثقة الناس بالمصدر أو المُتحدث؟
                أمور كثيرة:
                أولًا: الاهتمام بمصالح الناس:
                فعندما يعيش الناس همومًا لا يعيشها المتحدث عندئذٍ تقل ثقتهم بهذا الشَّخص.
                لهذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يعيش همومَ الناس، فيدخل المسجد فيجد الرجلَ مُنْزَوِيًا في غير وقت صلاةٍ، فيقترب منه، فإذا هو أبو أُمامة صُدَي بن عجلان، فيقول: «مَا لَكَ؟ إِنِّي أَرَاكَ جَالِسًا فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةٍ!».
                قال: يا رسول الله، ديون ركبتني.
                فقال: «يَا أَبَا أُمَامَةَ، قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ...»، وذكر له الدعاء الذي يقضي به دينَه -بإذن الله تعالى.
                قال: فلزمتُ الدُّعاء؛ فقضى الله -عز وجل- عني ديني.
                ما الدُّعاء؟
                «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ».
                انظر للنبي -صلى الله عليه وسلم- ماذا فعل؟
                اهتمَّ به، فقد رآه في غير وقت صلاةٍ فذهب إليه.
                ولما كان عائدًا من غزوة، وكان بجواره جابر، ماذا قال له؟
                قال: «يَا جَابِر، أَتَزَوَّجْتَ؟».
                قال: نعم يا رسول الله.
                قال: «بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟».
                قال: ثيبًا يا رسول الله.
                قال: «هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ!».
                انظر إلى هذه المحاورة، الآن هو اهتمام من النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الشَّاب الذي مات أبوه في غزوة أُحُدٍ، وهذه الغزوة كانت بعد أُحُدٍ.
                إذن ثقة الناس تُبنى مع الزمن، فهي مثل الشَّجرة تبدأ ببذرةٍ تنبت في الأرض فتُسقَى بأشياء كثيرةٍ، منها الاهتمام بمصالح الناس، فكلَّما تحدَّثت عن هموم الناس واجتماعهم وجراحهم وآلامهم وأفراحهم؛ كلَّما وثقوا بك.
                الأمر الثاني من الأشياء التي تزيد ثقة الناس فيك: القصد في الوعود:
                فعندما يأتي إنسانٌ ويقول: إن شاء الله سأفعل لكم كذا، وسأفعل لكم كذا، وسأفعل لكم كذا. ثم لا يفي بهذه الوعود؛ لا شكَّ أنَّ هذه الثِّقة تنقص في قلب هؤلاء الأشخاص الذين يستمعون له.
                ولهذا نحتاج أن نقصد في وعودنا، أي أن نُقلل منها، وإذا وعدنا نفي؛ لأنَّه بمقدار ما تخلّ بهذه الوعود بمقدار ما يقل الوفاء.
                الأمر الثالث: المصداقية:
                فالناس لا تثق بشخصٍ يكذب مُطلقًا، فلهذا كلَّما تحدثت بشيءٍ صادقٍ كلَّما وثقوا بك.
                وهناك قضية مهمَّة وهي أنَّ المبالغة أخت الكذب، فتجد شخصًا يُبالغ في حديثه ويأتي بأرقامٍ خياليةٍ، وأنَّه حصل كذا وكذا، والناس لا شكَّ أنَّها عندئذٍ لا تثق بمثل هذا الإنسان.
                ولهذا فإنَّه ينبغي في الخطب العامَّة في الجماهير أن يكون الإنسانُ دقيقًا في عباراته، فمثلًا يقول: عدد العوانس كذا، وعدد البطالة كذا. وهذا الرقم هو غير متأكِّدٍ منه؛ فعندئذٍ يفقد مصداقيته بمجرد مُداخلة أي إنسانٍ عليه ويقول له: والله يا أخي هذا الكلام غير صحيحٍ. فيبدأ هو يهتز.
                فيحتاج الإنسان أن يكون واثقًا من المعلومة وصادقًا فيها، غير مبالغٍ، ولا كاذبٍ فيها أيضًا.
                من الأشياء المهمَّة: القدرة على استخدام أساليب الاتِّصال المختلفة:
                نحن لدينا وسائل كثيرة للتواصل مع الناس، وكلَّما كان المتحدث لديه القدرة في استخدام هذه الوسائل دفعة واحدة ولكن بتقنين؛ كلَّما كان مميزًا.
                نضرب مثالًا: من أساليب الاتصال: الكلام، والإشارة، والتَّلميحات، ورفع الصوت، وخفض الصوت، فعندما يأتي إلى بيت شعرٍ يُعطيه حجمَه -حجم بيت الشعر- وعندما تكون الخطبة حماسيةً يُعطيها حماسًا، وعندما تأتي آية يقرأها بقراءة على حسب نوع الآية، إن كان فيها حثٌّ على أمورٍ صالحةٍ وجهادٍ ونحو ذلك، وهذا غير الحديث مثلًا في جانب الرَّقائق والأمور القلبيَّة التي تحتاج من الإنسان الهدوء.
                هذا كله يتعلَّمه الإنسان، فمن العلوم الموجودة اليوم: فن الإلقاء.
                ولهذا مثلًا في التدريب هناك نموذج يُسمونه نموذج هيرمان، هذا النموذج ما الذي يعتني به؟ يعتني بعقل وجسد وروح المتحدث أمامك، أو عقله وروحه، بمعنى أنَّك تُخاطِب فيه عقله وفكرَه، وتخاطب أيضًا روحه.
                لهذا تجد بعض الخُطباء إذا خطب في المسجد يخرج كلُّ الناس مُرتاحين، لماذا؟ لأنَّه اعتنى بهذه الأشياء.
                أنا أدعوكم إلى القراءة في نموذج هيرمان، وهو موجود في الإنترنت بشكل كبيرٍ، وهو يأتيك على شكل مخ ومُقسَّم أربعة أقسام، فإذا حضرت موضوعًا أو درسًا أو خطبةً أو أيَّ شيءٍ؛ تنتبه لهذه الأشياء.
                واضح يا إخوة؟
                إذن عندما نتحدث مع الناس ينبغي أن نُجيد الحديثَ معهم، لهذا تجد بعض الإخوة عندما يخطب كأنَّه يُلقي درسًا علميًّا، هذا ليس بصحيحٍ؛ فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان إذا حدَّث الناسَ وهو جالسٌ معهم حدَّثهم بكلامٍ يُفهَم عنه، وقد يُعِيد كلامَه ثلاثًا -صلى الله عليه وسلم- لكن إذا صعِد المنبر ماذا يقول الصَّحابة؟
                يقولون: "كأنَّه مُنذِر جيشًا صبَّحهم أو مسَّاهم".
                بل إنَّه -عليه الصلاة والسلام- كانت تحمر وجنتاه من كثرة خطبته -صلى الله عليه وسلم.
                إذن هذا نوعٌ من الاتصال مع الناس، وبثّ الروح في الكلمة التي يُريد أن يتحدَّث بها.
                عندما تحكي قصة، فحكاية القصة ينبغي أن تكون بإبداعٍ، فلا تحكي القصة هكذا عبثًا؛ بل يقف الإنسانُ عندها، فيرفع صوته في بعض الأحيان، ويُعيشهم الجو، لذلك تجد بعضَ الناس لديهم قدرة عالية على تصوير القصة، فكأنَّك في الجو، وكأنَّك في داخل القصة.
                رأيت بعضَ الإخوة -ما شاء الله- مُتميزين جدًّا في السيرة النبوية، فعندما يتحدث عن العهد المكي كأنَّك في أزقة مكة، فتدخل في دار الأرقم بن أبي الأرقم غصبًا عنك، وإذا بك تعيش جوَّ الإيمان والطَّاعة والتَّقوى والقراءة، وكأنَّك ترى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأي عينٍ.
                إذن نحن فعلًا بحاجةٍ -أيُّها الأحبة- إلى أن نتفنن في هذا الفن، وهذا لا يأتي هكذا جُزافًا.
                مشكلتنا -يا إخوتي- أنَّ الإنسان تخرج من الجامعة فظنَّ أنَّه ملك كلَّ شيءٍ، بينما هذه مهارات وآليات لا يُحسنها أيُّ أحدٍ، فمهارات الحياة مختلفة عن العلم، والمهارة تختلف عن العلم، فالعلم عبارة عن معرفةٍ وأرقامٍ وحروفٍ تتحرك في داخل الكتاب وتُحفَظ وتنتهي، لكن كيف تجعل هذه الأشياء شيئًا يعمل معك في أثناء حياتك؟
                لاحظوا مثلًا في التَّدريب يتكلمون حتى عن الحركة، متى تتحرك؟ فلو أنَّ عندك مثلًا قضيةً مُعينةً فيها ثلاث قضايا، تذكر النقطة الأولى في أول مكانٍ، ثم تتحرك في الثانية، ثم تتحرك للثالثة.
                فكلّ هذا نوعٌ من مهارات التواصل مع الحاضرين، وهم أيضًا يستحضرون مثل هذا الأمر.
                تجد بعض الناس عنده مشكلتان: لازمة قوليَّة، ولازمة فعليَّة.
                فإذا تكلم مثلًا يكرر "و...، و...،..."، و" يعني...، يعني...، يعني..." وهذا مُمل للشَّخص المُتحدَّث أمامه.
                وبعض الأشخاص عندهم لازمة فعليَّة، فتجد بعضهم يحرك النَّظارة بكثرة، وبعضهم يلعب في الشِّماغ، وبعضهم يتحرك بهذه الطريقة.
                فكل هذه الأشياء ينبغي للإنسان أن يُراقبها في نفسه، وأن يجعل له إخوة يُراقبون مثل هذه الأفعال، ويُحدِّثونه عن لزماته القولية الفعلية، أو يصور نفسه وينظر إليها.
                أنا أذكر أنَّه بعد ما يقرب من ظهوري في القنوات خمس سنين أخذت CD وأعطيتها لبعض الإخوة المُتخصصين في إحدى الدول العربية، ثم عملوا لي ملفًّا كاملًا عن الأشياء الموجودة إيجابيًّا وسلبيًّا.
                المشكلة التي ينبغي أن نتجاوزها هي أننا ما دمنا تخرجنا وحصلنا على شهادات عالية فنحن نستطيع أن نفعل كلَّ شيءٍ؛ هذا غير صحيحٍ، فهذه مهارات تُكتسب بالدُّربة ويتعلمها أيضًا الإنسان.
                الأمر الرابع الذي يُكسِب الإنسان ثقة: المعرفة:
                فالمعرفة قوة، فعندما يتحدث الإنسان عن خلفية موجودة لديه في الموضوع الذي يتحدث فيه؛ لا شكَّ أنَّه يكسب قلوب الناس.
                هناك مشكلة نحن نلاحظها في هذه الفترة: أن بعض الخطباء يخطبون يوم الجمعة في خطبةٍ عن السياسة، ثم في الخطبة الثانية يتحدثون عن الاقتصاد، والخطبة الثالثة كذا، صحيح هم قد يأخذون من موقع معين، لكن ينبغي للإنسان دائمًا أن يتخصص، فكلَّما تخصصنا كلَّما أبدعنا وتميزنا.
                لهذا -إخوتي الكرام- نحتاج إلى المعرفة.
                المعرفة كيف تتكون؟
                لا تتكون بشهادةٍ علميَّةٍ مطلقًا، فالشَّهادات مفاتيح، لكن المعرفة تتكون بالقراءة الحُرَّة، كم ساعة نقرأ في اليوم؟
                الشيخ علي الطنطاوي يتحدث عن نفسه بعد السبعين فيقول: "وكنت أقرأ في اليوم من ثمان ساعات إلى عشر ساعات"، وهو رجل كبير في السن، أين الشباب من القراءة؟!
                القراءة حياة، فهي حياة للجسم، وحياة للعقل، وحياة للإنسان عمومًا، وتُكسبه معارف لا يمكن أن يكتسبها في أيِّ مكانٍ آخر، ولهذا قلت ولا زلتُ أقول: إنَّ القراءة حياة أو موت الإنسان.
                {ذكرتم أنَّ القراءة هي حياة الإنسان في المعرفة، ولكن الكثير يشكون من التَّململ من كثرة القراءة. فما دواء هذه الآفة؟}
                دواؤها هو طُعْم، فليس كلُّ فنٍّ يصلح لك.
                ولهذا كان الذهبي حين يُترجم للشَّخص في "سير أعلام النُّبلاء" يقول: "كان إمامًا في العربية، مُشاركًا في بقية العلوم"، بمعنى أنَّ لكلِّ إنسانٍ طُعْمًا وفنًّا يصلح له، فتجد بعض الإخوة يتكلَّف علمًا مُعينًا يريد أن يدخل فيه، بينما هو لا يستطيعه.
                كيف نعرف ما هو الفن المناسب لنا؟
                هناك قاعدة دقيقة جدًّا في هذا الموضوع وهي:كلُّ فنٍّ تهتم بتفاصيله فهو الفن المناسب لك. كيف؟
                عندما تقرأ أحيانًا في بعض الفنون تجد أنَّك تغوص فيها، فتجد مقالًا في الجريدة تجد نفسك مباشرةً تذهب إليه، وترى كتابًا في المكتبة ونفسك تذهب إليه.
                نفس القضية، نحن نحتاج أن نقرأ في البداية أكثر من فنٍّ، والفن الذي ندخل في تفاصيله ونهتم به ونرى أنَّه يُشبِع رغبةً عندنا؛ هو الفن المناسب، لكن ليس معنى هذا أن نُهْمِل بقية الفنون، وأنا أتكلم عن المُثَقَّف، أمَّا بالنسبة لطالب العلم فهناك طبقة ينبغي أن يأخذها، وهي المتون في الدرجة الأولى، وأقصد المتون المختصرة في علوم الآلة والغاية، ثم بعد ذلك يتخصص في فنٍّ من الفنون.
                والملل يأتي لأنَّ طريقة القراءة غير صحيحةٍ، وطريقة الاختيار أيضًا غير صحيحةٍ، فتجد بعض الشباب يأخذ كتابًا أكبر من حجمه، فيريد أن يتعلم أصول الفقه فيذهب لأحكام الآمدي مثلًا، أو يذهب إلى شروح بعض المتون العالية جدًّا، لكن لو أخذ "الورقات" وأخذ نظم العَمْرِيطِي عليها، وأخذ بعض الشروح المعاصرة الآن؛ لسَهُل عليه هذا الأمر كثيرًا.
                إذن المعرفة قوَّة، ولذلك يقول ابن الجوزي -رحمه الله: "ومن نكد الدُّنيا على العبد أن يجلس في مجلسٍ يتحدث الناسُ فيه بعلمٍ لا يُتقنه، ولا يعرف فيه شيئًا"، وهذا صحيح، ولذلك أحيانًا يتحدث الناس وأنت ساكت.
                ولهذا ذهب شخصٌ إلى مناسبةٍ ثم خرج من المناسبة مُغضبًا جدًّا، فتقول له زوجته: ما لك؟
                قال: لن أحضر مناسبةً بعض اليوم، فكلُّ الناس هجروني.
                تقول له: عن ماذا كنت تتحدث في المناسبة.
                قال: كنت أحدثهم عن تخصصي وهو سم الفئران.
                هذا الرجل لا يعرف إلا فنًّا واحدًا، ومن ثَمَّ الناس ملُّوا منه.
                بل تجد بعض الأشخاص عنده قصة واحدة كلَّما جلس أو سافر أو ذهب أو جاء أو رقد أو قام ما عنده إلا هذه القصة فيحكيها للناس، بينما التنوع مطلبٌ مُهمٌّ.
                ولذلك يقولون: كان مُشاركًا.
                إذن المعرفة قضية أساسيَّة -أيُّها الإخوة.
                نصيحة لوجه الله تعالى: ليكن لنا كلّ يومٍ على الأقل ساعة واحدة في قراءة حُرَّة، فنقرأ كتبًا، فنسرد كتب عالم مثلًا، ومع القراءة كتابة، ولهذا لا يصلح أبدًا أن يقرأ الإنسانُ بلا قلمٍ، والله -عز وجل- عندما أنزل سورةً على النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر فيها القرءة وذكر أداتها: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق: 1-4]، فالقلم ينبغي أن يكون معك، ولهذا هناك كتاب اسمه "قلم" يتحدث عن ماذا؟ ترجعون إليه وهو من الكتب الجميلة جدًّا التي تتحدث عن مجموعةٍ من الفوائد المنوعة.
                الأمر الثاني: الهدف:
                هذا العنصر مهمٌّ جدًّا، عندما تجلس أنت مع شخصٍ في هذه الليالي الشَّاتية الجميلة، والناس يشعلون النار ويجلسون مع بعضهم البعض يتكلمون، ولهذا تجد أنَّ الهدف من هذا اللقاء هو ماذا؟ إدخال السرور على بعضنا البعض.
                وهناك فرق بين هذا وبين جلسة عند القاضي، فالزوج والزوجة يتناقشون الآن في قضيةٍ معينةٍ بحضرة القاضي، أو في حوارٍ بين الزوج وزوجته في قضية عائلية، أو شخص يريد أن يتحدث مع أبيه في مشورةٍ معينةٍ.
                إذن لكلِّ لقاء هدفٌ، فيحتاج الإنسان أن يعد عُدَّته لهذا الهدف، فيعرف الشخص الذي سيُقابله، هل لديه معلومات وافية؟ مثل الجلسات والاستراحات والسفر والبحر وغيره.
                على مذهب بعض الإخوة: افتح فمك يرزقك الله.
                يعني ما في داعي لأن تُحضِّر أو كذا ولكن تكلم، ولهذا ما في هدف سامي في اللِّقاء إلا إدخال السُّرور على بعضنا البعض، لكن عندما يريد أن يجلس الإنسان ليناقش قضيةً ماليةً بينه وبين زوجته سيضطر أن يتكلم، فيسمع، وفيه آلية معينة، إلى غير ذلك.
                حين نريد أن نتحدث مع أولادنا مثلًا، نفرض أنَّ اليوم أحد الإخوة يُحدِّثني عن ولده وأنَّه ابتلي بأصدقاء سُوء، ينبغي أن نسأل أنفسنا: ما الآلية التي يمكن أن أصرف أولادي بها عن أولاد السُّوء؟
                هذا مهم، ولهذا بعض الإخوة لا يحضروا أنفسهم، ما يعرف عمر هذا الشاب طريقة التعامل معه، كيف تؤثر عليه؟ بل حتى الجلسة التي يجلسها الولد، بل حتى يدك، تعرفون بعض الأماكن في جسم الإنسان إذا وضعت يدك عليها يعترف الشخص مباشرةً، ما تحتاج أن تلف وتدور وتقول له: بالله اعترف وكذا. وأنا جربتها مع كثيرين، فأضع يدي في مكانٍ ما ومباشرةً يتحدث بكلِّ الذي عنده، مع كونه يتململ في البداية ثم بعد ذلك يعترف.
                لا تقولوا: ما هو هذا المكان؟ هذا واجبٌ عليكم أيضًا.
                الهدف: إذن حدد هدفك من اللِّقاء، فإذا ذهبت لدرسٍ علمي فمعناه أنَّ كلَّ جوارحك وحواسِّك ستكون مع هذا الشيخ الذي سيشرح هذا المتن، وينبغي أن تفهم وتستوعب منه ونحو ذلك.
                أيضًا في الهدف -يا إخوتي الكرام- أحيانًا يكون اللِّقاء طويلًا، وأحيانًا يكون قصيرًا، فاللِّقاء الطويل يحتاج إلى جلوسٍ ومناقشةٍ وحوارٍ؛ فيحتاج الإنسان أن يُحَضِّر نفسه، بينما اللِّقاء العارض القصير هذا لا بأسَ به.
                الأمر الثالث: الرسالة:
                الرسالة هي هذا الكلام الذي يُسمَع الآن.
                قلنا: مصدر. الشخص هكذا بشحمه ولحمه.
                ثم بعد ذلك تأتينا قضية الهدف من هذا اللِّقاء، فنحن الآن نجلس هنا لماذا؟ بهدف سماع مهارات التواصل بالنسبة للدرس قبل الأخير. جيد؟
                ما هي الرسالة؟
                الرسالة الكلام الذي يُقال الآن، الفحوى، القضية، ولهذا نحتاج في الكلام الذي نقوله للناس لجُملة من الأمورٍ:
                الأمر الأول: الوضوح وعدم الغموض:
                علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كما روى عنه البخاري في كتاب العلم قال: "حدِّثوا الناسَ بما يعقلون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟"
                فلمَّا تتحدث أنت بأمرٍ لا تبلغه عقول الناس فهذا خطأ.
                ذات مرةٍ جاء واحدٌ عندي في المسجد ليُلقي كلمةً للعوام، فبدأ يتحدث عن آراء العلماء في مسألة الاستواء -استواء الله عزوجل- وهذا ليس مكانه هنا، فأنت لما تُعلِّق على "الواسطية" أو تُعلِّق على "التَّدمُرية" أو تُعلِّق على "الحَمَويَّة" أو غيرها من المتون يمكن أن تتحدث عن هذا الموضوع، لكن العوام لا.
                لهذا ليس من الفقه أمام العوام كثرة الخلاف، أن تذكر خلاف كذا وخلاف كذا؛ لأنَّ هذا يضرهم أكثر من أن ينفعهم؛ بل تجد قولًا واحدًا هو الذي يسير عليه الناس، وهذا فيه خير كثير للإنسان دون أن يُشتته، ونعني الوضوح والبعد عن الغموض والإلغاز في الكلام الذي يضيع الوقت.
                وبالمناسبة: النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الأُغْلُوطات، كما روى ذلك أبو داود في سننه.
                ما الأُغْلُوطات؟
                قالوا في الأُغْلُوطات: هي صِعَاب المسائل.
                فتأتي أحيانًا بلغزٍ يُمكن أن يُحلّ، لكن يحتاج إلى ساعةٍ أو ساعتين أو ثلاث ساعات، وبعيد عن الذهن، فنهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- تدرون لماذا ينهى عن هذا؟
                العلماء لما شرحوا هذا الحديث قالوا: لأنَّ وقت المؤمن ثمين، فلا ينبغي صرفه فيما لا نفعَ فيه، حتى لو كانت النَّتيجة في النهاية مفيدة، لكنَّها ليست بفائدة أن يذكر الله -عز وجل- أو يجلس لطلب العلم أو يفعل عملًا صالحًا من الأعمال التي اعتاد عليها.
                إذن قضية الوضوح والبُعد عن الغموض قضية مهمَّة جدًّا.
                الأمر الثالث من الأشياء: الشرح:
                الرسالة أحيانًا قد تحتاج إلى شرحٍ؛ لأنَّ الناس أذهانهم مُتفاوتة تمامًا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان إذا أراد أن يقول للناس شيئًا أعاده عليهم ثلاثًا. لماذا؟ حتى يُفهَم عنه الكلام -صلى الله عليه وسلم.
                هذا الشرح نحن بحاجةٍ إليه، فعندما نشرح لأولادنا قضيةً معينةً في الحياة لا نُعطيهم كلامًا عامًّا، فلا تقل: لابُدَّ يا ولدي أن تفعل كذا، وفلان لا تُصادقه. وقل له: يا ولدي، الأصدقاء كذا وكذا، وبعض الناس فيهم كذا، وإذا أردتَ أن تُصادق شخصًا فاحرص فيه على ثلاثة أمور: عقله، وتقواه، وخُلُقه.
                بهذا الشاب يصير عنده قواعد وضوابط، خاصَّة الشباب في المرحلة المتوسطة والثانوية، فعدوهم اللَّدود كثرة الكلام، فلا يريد المحاضرات، ويريد كلمةً واحدةً لكن مفهومة وواضحة ومشروحة أيضًا لهذا الابن.
                لاحظوا معي: الشافعي -رحمه الله- له كتاب اسمه "المسند" مَن الذي رواه؟ الربيع بن سليمان المُرادي، والربيع كان لا يستوعب الشرحَ من أول مرةٍ، فيُعيد له الشافعي أربعين مرةً، وبعد أربعين مرة الآن هو راوي المُسنَد، والسُّنن أيضًا كلها من رواية الربيع بن سليمان المُرادي، لكن الشافعي صبر عليه -رحمه الله تعالى- حتى نال هذا الشَّرف.
                أيضًا أن تحتوي الرسالة على الجانب الإيجابي والمُؤيد:
                عندما تريد أن تُقنِع الناس بشيءٍ لا تذكر الأشياء السَّلبية، ولكن احرص على الجانب الإيجابي في أثناء الحديث، فعندما يكون الناس مثلًا في زمن فتنةٍ، أو يكونون في مكان حزن، أو مكان فرح، فإن الإنسان يحتاج أن يلبس لكلِّ حالةٍ لبوسها، إمَّا نعيمها، وإمَّا بوسها.
                ولهذا لاحظوا النبي -عليه الصلاة والسلام- وهذه ملاحظة عامَّة في السنة النبوية: إذا كان الشخص في مُقتَبل العمر حدَّثه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالفأل والشَّيء الذي يمد في العمر؛ لأنَّه في أول الحياة، لكن إذا كان إنسانًا كبيرًا يعظه، ويُذَكِّره بقُرب الآخرة: «أَعْذَرَ اللهُ لِمَنْ بَلَّغَهُ...»، كذا، «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».
                لكن لما جاء لابن عباس وهو لا يزال صبيًّا قال: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ ... وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ...»، لاحظوا الآن النبي -صلى الله عليه وسلم- يفتح له أبوابًا من الأمل: «تَجِدْهُ تُجَاهَكَ»، فكلّ هذه من حكمته -صلى الله عليه وسلم.
                عندما جاء في الحديث -وإن كان فيه ضعف- قال: «إِذَا زَارَ أَحَدُكُمْ مَرِيضًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ فُلَان». لماذا يا رب؟ «يَنْكَأُ لَكَ عَدُوًّا وَيَمْشِي إِلَى صَلَاةٍ»، فهو جالس يُفرحه الآن: أنَّك -إن شاء الله- تقوم -بإذن الله- وتُؤدي شريعة الله -عز وجل- فيك. فهذا مُهمٌّ جدًّا، ولهذا ينبغي أن تكون دائمًا رسائلنا إيجابية.
                لاحظوا الآن تجربةً بسيطةً لكنَّها مفيدةٌ:
                كان الناس في المسجد الذي أصلي فيه يكثرون في صلاة المغرب، ويقلون في صلاة الفجر، فكنت حين تأتي صلاة المغرب أسلخهم في المسجد وأقول لهم: مَن ترك صلاة الفجر فهو منافقٌ معلوم النِّفاق، وما كان يتركها في زمان الرسول إلا كذا، وإن كان ليُؤتى بالرجل يُهادَى. وأحشد لهم كل الأحاديث، فأجدهم في اليوم الثاني أقلّ، وهذه تجربة عندي في المسجد.
                فلمَّا سلكت المسلك الآخر -طبعًا أنا الآن في مسجدٍ جديدٍ، وكنتُ أستخدم ذلك في مسجدٍ قبل هذا- وقلت لهم: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يُمْسِي»، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَعْظَمَ صَلَاةٍ صَلَاةُ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي جَمَاعَةٍ»؛ لأنَّ صلاة الفجر يوم الجمعة لها فضل، «مَنْ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ...»، وهذه لها علاقة بصلاة الفجر والجلوس في المسجد. أليس كذلك؟
                فتذكير الناس دائمًا بالأشياء التي تُفرحهم وتزيد درجاتهم عند الله -عز وجل- تجعلهم يبدؤون في التفكير، فعليك أن تلقي الكلمة الإيجابية فستجدها ولو بعد حينٍ.
                البرزالي قال للذهبي كلمةً واحدةً: "خطك يُشبِه خط المُحدِّثين". فتحوَّل مُحدِّثًا بعبارةٍ واحدةٍ، نحن نحتاج إلى هذه الكلمة، نحتاج إلى الكلمة الطيبة التي تشرح النفس، وتُعيد للنفس بهاءها وجمالها.
                ولهذا دعوني أذكر لكم قصةً على وجه السرعة -وإن كان هذا سيحرق مداخلة غدًا في الإذاعة، ولكن لكم منزلة أيضًا- كان هناك طالب هندي في جامعة ماليزية، جاء أستاذ من الأساتذة -أستاذ علم الاجتماع- وعنده ثلاثون طالبًا فقال: يا أيُّها الطلاب، ليس هناك اختبار أعمال فصليَّة، نُريد منكم فقط مشروع في هذا الفصل الدراسي؛ وهو أن تُسعِدوا إنسانًا، بشرط أن يكون من خارج العائلة.
                أحد الشَّباب الماليزيين اختار واحدًا من الطلاب، وكان هذا هو الطالب الهندي الذي يدرس في كلية الطب، ولكنَّه كان حزينًا دائمًا لا يكاد يبتسم، وليس له أصدقاء، ولا يتحدث مع أحدٍ، ولا يتحدث معه أحدٌ.
                في ليلةٍ من الليالي بعد أن قرر هذا الرجل إسعاده -واسمه محمد شريف وهو ماليزي- كتب عبارةً على شقة الشاب دون أن يعرف طبعًا هذا الشاب: "كنت أتمنى أن أدخل كلية الطب مثلك لولا أنَّ معدلي ضعيف"، وتركها.
                وفي اليوم الثاني جاء بقبَّعةٍ ماليزيةٍ ووضعها على الباب: "أتمنى أن تنال قبولك".
                وأصبح حديثَ الناس، وفي اليوم الذي بعده هذا الطالب الهندي ماذا فعل؟ صور نفسَه ونزلها في الفيس بوك، ووضع العبارة التي أرسلها له هذا الأخ، وعلَّق أبوه من الهند وقال: الناس يعلمون أنَّك مُتميز في الطب؛ لهذا لا تخذلهم واستمر.
                في الجامعة انتشر خبر هذا الشَّاب، وقالوا: يا أخي -ما شاء الله- فيه شخص يُسعِدك، وكلّ يومٍ يأتي لك بهدايا! وكانوا يُعلِّقون دائمًا في فيس بوك: ما هي هدية الغد؟ ما هو الشيء الذي سيأتي به؟
                واستضافوا هذا الطالب الهندي ليتحدث عن تجربته، والعجيب أنَّه قال في أثناء التَّجربة: لقد كنتُ قبل وصول هذه الرِّسالة ليلًا وقبل خروجي من شقتي قد نويت الذَّهاب للجامعة للفصل من كلية الطب.
                فكانت هذه العبارة سببًا لإرجاعه لكلية الطب، وبعد أن انتهى الفصل الدراسي فاز كلّ الثلاثين، واختاروا عشر مُبادرات ممن فاز أصحابها، من ضمنها هذا الرجل محمد شريف.
                أجمل شيءٍ أنَّك تُسعِد إنسانًا دون أن يعلم مَن الذي أسعده. لماذا؟ لأنَّه هنا أخلص وأصدق وأقرب إلى الله.
                ذكر الذَّهبي في ترجمة علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المُسمَّى بزين العابدين، قال: كان أهل المدينة يُصبِحون وعلى أبوابهم أرزاق -طعام- فلا يدرون ممن، حتى مات عليُّ بن الحسين زين العابدين، فوجدوا عاتقه أسود من كثرة الحمل -حمل المواد.
                ولهذا فإنَّ عبادة السر عبادة عظيمة للإنسان، فكلَّما حرص عليها كلَّما كان أجره عند الله -عز وجل- عظيمًا.
                إذن أن تكون الرِّسالة دائمًا جانبًا إيجابيًّا، فعندما نتحدث مع أولادنا نفتح لهم بابًا.
                نحن عندنا مشكلة يا إخوة، أنَّه في أثناء مجالسنا لا نذكر إلا السَّرقة والبطالة والعُنوسَة، وكلّ أشياء سلبية، ما في أحد يفتح لنا أفق؟
                تصوروا مجلسًا -وأنا دائمًا أنهى الإخوة عن هذا- من المجالس يجلس فيه عددٌ من المُتزوجين يتحدَّثون عن الخيانة الزوجية، كيف ستكون نظراتهم؟ كلّهم يظنّون أن بيوتهم فيها نفس هذه القصة، يقول لك كذا، وقفز من على الجدار، وكذا، هذا غير صحيحٍ.
                تُلاحظون في القرآن أنَّه إذا جاءت قصة سُوءٍ يذكرها بالجملة، والأشخاص الذين يعملون السُّوء أو يقولون السوء لا تجد القرآن ولا السنة تذكرهم إلا في النادر.
                وقد كان هناك أناسٌ يهجون النِّساء في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصَّحابة. أليس كذلك؟
                أعطوني بيتًا واحدًا فقط محفوظ من شعر هؤلاء. أين هذه الأبيات؟
                لا وجود لها؛ لأنَّ منهج المجتمع المسلم هو: الحفاظ على أعراض الناس، وعدم تدميرها بهذا الكلام، بالغيبة، والنَّميمة، وغيرها.
                فالمحافظة على كيان المجتمع السلم لا يمكن أن تأتي من خلال هذه الطريقة التي نراها اليوم، غيبة وسبّ وشتم ونميمة، ثم بعد ذلك يريدون أن يبنوا مجتمعًا! لا يمكن.
                إن لم تشعر بأنَّ ظهرك محمي، وإلا ستَلِغ في مثل ما يلغون هم في عرضك.
                الأمر الرابع: احتواؤها على الأدلة والبراهين والحُجج القويَّة:
                فالناس ليسوا أغبياء، ولهذا نحتاج عندما نُريد أن نُثبت شيئًا أن نتجهَّز بالحُجج، وأن نتجهز بردود الأفعال، فمن الممكن أن يأتينا شخصٌ بسؤالٍ يُضيعنا، ولهذا كانوا يقولون في ترجمة أبي حنيفة: "والله لو أقسم أبو حنيفة أنَّ اسطوانة المسجد ذهبًا لصدَّقه الناس"؛ لأنَّ لديه من الحجج ما تجعله يُقنِع الموجودين أنَّ هذه الاسطوانة ذهب وليست حجارةً.
                وهذا يدعونا إلى ماذا؟
                إلى تعلم فنٍّ ضَعُفَ في هذه الأزمنة تعلّمه، وهو أدب البحث والمُناظرة، ما في أحد يعرف كيف يُناظِر؟ فنحن ما عندنا مُناظرة، عندنا صفق، فأحيانًا في بعض القنوات الفضائية يخرجون بالأحذية على بعضهم، صح أم لا؟ هل هذا حوار؟! أنتم ترسمون صورةً سيئةً جدًّا.
                دائمًا إذا أردت أن تُحاور فالزم صفة الهدوء، فصاحب الحق دائمًا هادئ، وكثرة الصِّياح تدلُّ على الفشل، ونحن لدينا -للأسف الشديد- رفع أصواتٍ في التليفزيونات، وفي كذا، وهذا ليس بصحيحٍ، كن واثقًا من نفسك: واثق الخطوة يمشي ملكًا.
                من الأشياء أيضًا: الابتعاد عن الجدال:
                فكثرة الجدال شيء سيِّئ، وأحيانًا يكون الجدال جدالًا بيزنطيًّا، هل تعرفون معنى الجدل البيزنطي؟
                وكانوا إذا أرادوا أن يذموا نوعًا من الجدل قالوا: هذا جدل بيزنطي. كيف؟
                البيزنطيُّون كان العدو على حصونهم وهم يتناقشون في جنس الملائكة من أيِّ شيءٍ خُلِقوا، وهذا ما نتناقش فيه الآن، ولهذا تجد بعض الأشخاص يتناقشون في وجهات نظر: أي أفضل؟
                أسألك الآن: أيّهما أفضل: اللون الأحمر أو الأخضر؟ واحد يُحب الأحمر، وواحد يُحب الأخضر، وواحد يُحب الأبيض، وواحد يُحب الأكلة الفلانيَّة، وأنا ما أحب هذه الأكلة، لكن هي محبوبة لديه بحكم البلد الذي يعيش فيه.
                ولهذا يقولون في مصر: "كلّ واحدٍ ينام على الجنب الذي يُريحه"، ونحن نقول: "نم على الجنب الذي ...".
                لكن أحيانًا بعض الأشخاص -وهو مثال عابر وليس بالضَّروري أن نتكلم عن مخالفة في السنة أو غيرها- لديهم اهتمام مُعيَّن، وحُبٌّ معين لشيءٍ واحد، فلا نستطيع أن نحمل الناس كلَّهم على حب لونٍ واحدٍ، ولولا اختلاف الأذواق لبارت السِّلَع، فأحيانًا تجد إنسانًا يشتري سلعةً يمر عليها قبله مئة شخصٍ فلا يشترونها، لماذا؟
                لأنَّ عينه لا تحب إلا هذا اللون، ولا تشرب إلا هذا الشَّراب، ولا تأكل إلا هذا الأكل، فلا نُجبر الناسَ على شيءٍ معينٍ.
                إذن الجدل البيزنطي هذا لا فائدةَ منه.
                وقد قلنا سابقًا في لقاءٍ سابقٍ: إذا أبغض اللهُ قومًا رزقهم الجدلَ، ومنعهم العملَ -والعياذ بالله.
                أيضًا نحتاج إلى استخدام العبارات المناسبة، فإذا أردت أن تُرهِب أحدًا فأنت تحتاج إلى ترهيبٍ، والترغيب أيضًا كيف تُرَغِّبه؟ وتتدرج أحيانًا في الكلام، وتحتاج أحيانًا إلى عاطفةٍ، فلابُدَّ أن تُبكيه، وحين تأتي لإنسانٍ ارتكب ذنبًا كبيرًا فتحتاج أحيانًا إلى الشدة عليه حتى تبين له حجم الخطأ الذي هو فيه، وطبعًا يختلف شخصٌ عن شخصٍ، فهناك خطأ مقصود ومُرتَّب له، وخطأ غير مقصودٍ.
                ولهذا لاحظوا في غزوة بدرٍ بعد النصر كان الخطابُ في القرآن قاسيًا عليهم في آخر "التوبة"، لكن في غزوة أُحُدٍ في "آل عمران" كان القرآن الكريم يُواسيهم، وأنا أرجو أن ترجعوا للموطنين، حتى إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبكي هو وأبو بكر ودخل عليهما عمر وهما يبكيان بسبب قضية الأسرى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا [الأنفال: 67- 69]، لاحظوا هذه كانت عبارات قوية بعد نصرٍ وموت سبعين من صناديد قريش.
                لكن في أُحُدٍ كانت المُواساة لهم؛ لأنَّهم مجروحين، وحمزة بُقِر بطنه ومُثِّل به، ومُصعَب مات وجملة من الصحابة، وأنس بن النَّضر لم يُعرَف من شدَّة الضرب الذي عليه.
                فيجب أن نُفَرِّق بين الخطأ غير المقصود والعمد، وحتى القرآن يُفرِّق في القتل بين المُتعمَّد والخطأ، نفس القضية، فشخصٌ عمل خطأً لمرةٍ واحدةٍ وشخص عمله لمرات كثيرة لا يستويان، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ»، ففي بعض الأشخاص الذين لهم وزن يُستَر عليهم مثلًا، ويُنبَّه على هذا الأمر.
                الأمر الرابع -أيُّها الإخوة- حتى ننتهي: الوسيلة:
                وهي التي تنقل المضمون، فما الوسائل التي يستخدمها الناسُ لنقل كلامهم للآخرين الآن؟
                أمرين:
                الأول: اللِّسان.
                والثاني: الكتابة.
                ويقولون: القلم أحد اللِّسانين، وهذا صحيحٌ؛ لأنَّه يُعبِّر عمَّا في الداخل، لكن أكثر محادثة الناس وتواصُلهم لا شكَّ أنَّها تكون باللسان، ولهذا يقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كما روى ذلك ابنُ السُّني عن أبي سعيد الخدري: «إِنَّ الْأَعْضَاءَ تُكَفِّرُ اللِّسَانَ»، أي تعظه وتُنبهه وتُوبخه في كلِّ يومٍ: «تَقُولُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، إِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا، وَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا»، فهذا اللِّسان فعلًا له أثرٌ كبيرٌ جدًّا على النفس، فأنت تُخطئ بكلمةٍ تشعر أنَّ نفسك ماتت وذبلت. أليس كذلك؟
                وتأتيك كلمة تُسعدك: أنت رائع، أنت إنسان مميز، أنت فعلًا في هذه الحياة من أجمل مَن قابلت.
                الليلة بعدما تنتهوا من هذا اللِّقاء أرسلوا رسائل لبعض أصدقائكم في الثناء عليهم في خصلةٍ هي فيهم، كم لها من الوقع؟!
                يا إخواني الكرام، الآن تذهبون للمكتبة الإسلامية تجدون ثلاثة مجلدات في مناقب أبي بكر، ومناقب عمر، ومناقب علي، ومناقب عثمان، ومناقب الأنصار، ومناقب المهاجرين. ما معنى هذا الكلام؟
                لقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُتفنِّنًا في قضية الثَّناء والتَّشجيع، وهذا ما نحتاجه في قضية الرِّسالة.
                الاتِّصال الشَّفهي جيد الحقيقة وله مميزات كثيرة، وهو يُوفِّر الوقت طبعًا بدلًا من الكتابة والرِّسالة، وترجع ولا تُفهَم.
                الأمر الثاني: ترسل رسالةً:
                أنت تُرسل رسالةً أحيانًا تُفهَم على غير وجهها عند المُسْتَقْبِل. صح؟ ويظنُّ أنَّك تتهمه أو تسُبه أو كذا، فهو يقرأها بنفسيته هو.
                اللِّقاء مع بعضنا البعض يخلق روحًا من الصَّداقة والتَّعاون، أيضًا التواصل الشَّفهي يُشجِّع على إلقاء الأسئلة، وكذلك فهم الإجابات، بينما مئة وأربعين في تويتر، أو سبعين في داخل رسالة ما يمكن أن تشرح ما في داخلك مهما فعلت!
                وأيضًا هذا يدعونا إلى أن نتفنن في ماذا؟ نتفنن في الكلام، فيصبح الإنسان من ذوَّاقي الكلام، فلا يخرج من فمه إلا شيءٌ يجد -بإذن الله تعالى- ذخره في الدنيا وفي الآخرة.
                لاحظوا قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلْيَقُلْ: لَقُصَتْ نَفْسِي»، والخبث واللَّقص في اللغة بمعنًى واحدٍ، ولكن "خبث" بشع على النفس، و"لقُص" خفيف على النفس، لهذا نحتاج دائمًا أن نتفنن في انتقاء العبارات.
                قال: ما جمع مِسْوَاك -كما ذكرنا لكم في اللِّقاء الماضي.
                قال: ضد محاسنك يا أمير المؤمنين.
                ما قال له "مساويك"، كأنَّه يقول له: ترى مساوئك، فحاد عن "مساويك" التي تُشبه أو قد تكون قريبة من "مساوئك" وهي جمع سيئة إلى "ضد محاسنك يا أمير المؤمنين".
                فهذا نوعٌ من الإبداع والتَّميز فعلًا في الإنسان في انتقائه للعبارات، ولهذا كان عمرُ بن الخطاب كما ذُكِر في كتاب "الصَّمت": أنَّ الرجل إذا تحدَّث في المجلس بكلامٍ لا ينبغي قال: أمسك عليك هذا. أي ما في داعي أن يخرج منك.
                ولذا إخواننا في مصر يقولون عبارةً جميلةً وهي: "اللفظ سعد"، فهناك ألفاظ تُسعِد، وألفاظ تُتعِس، فتُصيبك في مقتلٍ، والله ما تعرف تبيت بسبب الحزن الذي يُصيبك بسبب عبارةٍ.
                والزوجان مأموران بانتقاء العبارات فيما بينهما.
                لما ذهب إبراهيم لزوجة إسماعيل وسأل عن إسماعيل، قال: كيف أنتم؟
                قالت: بشرِّ حال، عندنا كذا وكذا وكذا.
                قال: إذا جاء إسماعيل فأقرئيه السلامَ، وقولي له: ليُغير عتبةَ بابه.
                بينما امرأة أخرى ميتة من الجوع وعندها فقر، ورجع إبراهيمُ بعد سنة قال: كيف أنتم؟
                قالت: بخير حالٍ.
                الحال لم يتغير في الحقيقة، ولكن تغيَّر المُحَدِّث الذي هو المُرْسِل؛ فتغيرت الرِّسالةُ أيضًا.
                ونحتاج أيضًا في قضية الاتِّصال الكتابة، وهي أدقّ بلا شكٍّ وأوثق من السماع.
                آخر شيء: المُسْتَقْبِل:
                وهو الطرف المتلقي، وأنتم الآن مُستقبلون لهذا الأمر.
                المُستَقْبِل مشكلته أنَّه قد يكون مُستَفِيدًا وقد يكون ضحيَّةً، ففي بعض الأحيان عندما يأتي كلامٌ من شخصٍ في قضية مثلًا أو مشكلة أو نحو ذلك، قد يكون ضحيةً فعلًا لهذا الشَّخص.
                عندما نريد أن نتحدث مع المُستَقْبِلين ينبغي أن ننتبه للأمور التالية:
                - الفروق الفرديَّة أو المادية بينهم:
                فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لطفلٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟»، وعائشة يتركها ويُسَرِّب إليها النساء، ويقول: «اقْدُرُوا لِلْجَارِيَةِ قَدْرَهَا».
                فالأطفال والبنات والصِّغار يختلفون عن الشاب؛ فحين جاء شابٌّ وقال: ائذن لي بالزنى يا رسول الله.
                قال: «ادْنُهْ»، فلمَّا دنا منه بدأ يُناقشه بالمنطق الاجتماعي، والمروءة، وكذا وكذا: «أَتَرْضَاهُ لِعَمَّتِكَ ... لِخَالَتِكَ؟»
                قال: لا يا رسول الله.
                قال: «كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يَرْضُونَهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ»، فيكون من أتقى عباد الله.
                الشَّاب غير الكبير أيضًا، فثُمامة بن أثال تعامل معه بتعاملٍ، وعكرمة بن أبي جهل تعامل معه بتعاملٍ، وهكذا.
                إذن نُراعي الناسَ الموجودين أمامنا: شباب، نساء، صغار وكبار، إلى آخره.
                - الأمر الثاني: تنتبه لثقافة وتعلم الناس:
                بعض الإخوة عنده خطبة يدور بها في كلِّ مكانٍ، ما تصلح! خطبة المدينة غير خطبة القرية، والخطبة التي في بلدك غير الخطبة التي هناك، والمسلمون الجُدد غير المسلمين الذين لهم في الإسلام عشرات السنين، بل مئات السنين، فيختلف تمامًا، لهذا نحتاج أن نعرف المجتمع.
                ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذٍ لما بعثه إلى اليمن: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ»، أهل كتاب يعني عندهم علم، «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ إِلَى فُقَرَائِهِمْ»، وهكذا.
                - أيضًا انتبه للوضع النَّفسي للناس:
                فهناك شخصيَّات شكَّاكة، وشخصيَّات حسَّاسة، وشخصيَّات سريعة الغضب، فلابُدَّ أن تنتبه لها، فالمرأة الشَّكَّاكة مثلًا أو الزوج الشَّكَّاك أو الحسَّاس الذي يفهم العبارةَ على غير وجهها؛ هذا خطيرٌ جدًّا، فالكلام يُفهَم على غير وجهه فتنتبه له.
                أيضًا المجتمع المُنفَتِح غير المجتمع المُغلَق، والعقل المُنفَتِح غير العقل المُغْلَق، والبيئة التي يعيش فيها الناسُ والمجتمع الذي يعيشون فيه يختلف تمامًا، فواحد يريد أن يذهب في قريةٍ من القرى أو في باديةٍ يريد أن يخطب بهم، وهي بيئة مختلفة تمامًا عن البيئة التي تكون في المدينة.
                أختم لكم -أيُّها الإخوة-بقصةٍ جميلةٍ رمزيَّةٍ لكنَّ فيها فائدة، وهي: أنَّ رجلًا جاء بولده وأخذ معه مِطرقةً ومجموعةً من المسامير، وقال له: دُقَّها في الجدار. فبدأ يضرب كلَّ مسمارٍ في الجدال، فهذا يدخل بطرقةٍ، والثاني بطرقتين، والثالث بثلاث أو أربع أو خمس، حتى دخلت بعضُ المسامير في داخل الجدار.
                فقال له: انزعها. فنزعها.
                وحين تدق أنت مسمارًا في جدار وتنزعه يبقى أثره، وأحيانًا يخرج الجدار.
                قال: يا بُني، كلامك في قلوب الناس مثل المسامير، فإن جاء شيءٌ رقيقٌ وناعمٌ كان أثره بسيطًا، وإن لم تدق أصلًا كان لا أثر البتة، أمَّا إذا طرقت بقوةٍ فستبقى هذه العبارة جرحًا في قلوبهم.
                ولهذا فإنَّ بعض الناس يتصالحون، لكن لا يزال الجرحُ غائرًا في الداخل ويحتاج إلى فترةٍ طويلةٍ جدًّا لإصلاحه.
                ولذا ينبغي أن نُحافظ على عباراتنا، وألا نُؤذي بها الآخرين، وأن تكون العبارة حسنة.
                ويكفينا في هذا كلِّه -في ختام هذا الدرس- قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»، فلنحرص على أن نُدرب أنفسنا على الكلمة الطَّيبة في الصباح والمساء.
                مَن الشخص القادم الذي سنُسعده أيُّها الإخوة؟
                ما الكلمة التي سنُخرجها من أفواهنا لأهل بيتنا، أو لجيراننا، أو لإخواننا؟
                أجمل ما تكون الكلمة الطيبة عند شخصٍ لا ينتظرها، فتأتيه في جواله أو على إيميله، لكنَّها تصنع منه شخصًا آخر.
                أسأل الله -عز وجل- لي ولكم التَّوفيق والسَّداد والصَّلاح، وأن ينفعنا بما سمعنا.
                على أمل اللِّقاء بكم -إن شاء الله- في اللِّقاء الأخير في الأسبوع القادم -بإذن الله تعالى- لنختم هذه المادة: مهارات التواصل الاجتماعي.
                حتى ذلك اللِّقاء أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                تحميل ملف صوت rm
                تحميل ملف التفريغ word

                تعليق


                • #9
                  رد: مهارات التواصل الاجتماعي - د/ علي الشبيلي




                  مهارات التَّواصُل الاجتماعي
                  د. علي الشّبيلي
                  الدرس (9)

                  http://www.youtube.com/watch?v=TzHxZVLPhzQ


                  بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
                  أمَّا بعد، أيُّها الإخوة والأخوات في كلِّ مكانٍ سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله أوقاتَكم باليُمن والمسَرَّات، والتحية موصولة أيضًا لإخوتي الكرام في هذا المجلس المبارك، أحمد وعبد العزيز وحكيم، فمرحبًا بكم أجمعين.
                  أيُّها الإخوة والأخوات، نحن اليوم نختم مجلسنا في هذا البرنامج الذي وُسِمَ بهذا الاسم: مهارات التواصل.
                  وهو وإن غُيِّر عنوانه إلا أنَّ الاسم الشَّرعي له هو: حُسن الخُلُق، فهو الذي جاءت به النُّصوص الشَّرعية، سواء في كتاب الله أو في سُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفي الأيام الأولى للدَّعوة يُوصَف النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بحُسن خُلُقه الذي لا يختلف فيه اثنان، بل في شدَّة الدَّعوة وفي شدَّة العَدَاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- يظل هو الصَّادق الأمين؛ لأنَّ الذي وصفه قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]، بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم.
                  نحن في هذه الحلقات نترسَّم خُطَى محمدٍ -عليه الصلاة والسلام- فهو الذي علَّمنا حُسن الخُلُق، وهو الذي عرفنا بهذا الطريق الجميل الرائع، وكلُّ إنسانٍ يريد أن يكون داعيةً مُؤثرًا، له صولته وجولته في المجتمع؛ بل في داخل بيته: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف: 108]، ليست البصيرة فقط في العلم، فإنَّه قد يكون هناك إنسان عالم ولكنَّه مُنَفِّر للناس، لكن عندما يجتمع في الإنسان هاتان الحُسنيان وهما: حُسن الخُلُق، والعلم؛ فإنَّه قد نال خيرًا كثيرًا في هذه الدنيا.
                  ولو كان حُسن الخُلُق رجلًا لكان جميلًا، حتى لا تكاد العيون تستطيع وصف جماله، ولو كان حُسن الخلق أيضًا ليس مطلوبًا إلا في الدنيا وأنَّه ليس هناك آخرة؛ لكان واجبًا على الناس أن يحرصوا عليه؛ لأنَّه سببًا من أسباب سعادتهم، فكيف وحُسن الخلق مرتبةٌ عظيمة في الآخرة ستجعل الشخصَ المتَّصف به والمتَّسم به قرينًا لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَنْزِلًا أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا»! هكذا بشَّرنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بهذا الوصف العظيم.
                  وحُسن الخُلُق لا شكَّ أنَّه ليس بالشيء الصَّعب، لكنَّه يحتاج من الإنسان أيضًا مجاهدة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69]، ليست المجاهدة فقط في العبادات التي تحتاج إلى جوارح بمعنى الصلاة والصيام وغيرها، بل حتى هذه العبادة، ولذلك الخلق -كما تحدَّثنا سابقًا- قسمان:
                  - منها ما هو جبلي: جبل الله -عز وجل- عليه العبد، فتجد بعضَ الناس أصبحت فيه سِمة وصفة ملازمة له، قضية الكرم والصبر، حُسن الخُلُق، حُسن التعامل، الكلمة الطيبة.
                  - وهناك أناس لا، لم توجد فيهم كثيرٌ من هذه الصِّفات، ومن ثَمَّ يتربوا عليها، قال: هما فيَّ يا رسول الله؟ قال: «نَعَمْ».
                  ومع هذا فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ».
                  إنَّ العلماء يقولون: الزيادة في المبنى زيادة في المعنى.
                  معناه أنَّ الإنسان إذا أراد أن يتحقق فيه هذا الخلق لابُدَّ أن يتعب، ولابد أن يُجاهد، ولابد أن يصبر حتى يصل إليه هذا الأمر.
                  ولهذا فإننا قد ذكرنا في أول حلقةٍ من حلقات هذا البرنامج عشر مواصفات لحسن الخلق، ينبغي لكلِّ شخصٍ أن يعود إليها في أول لقاءٍ، فتكلمنا عن عشرة أشياء، ومنها:
                  أنَّها تُراعي التَّدرج: فهي لا تطالب الإنسان بمجرد معرفته لخُلُقٍ معينٍ أن يصبح رقم واحد فيه، لكن نريد اليوم أن يُحقق عشرين في المائة، وبعد أسبوع يُحقق ثلاثين في المائة، وبعد شهر يُحقق ستين في المائة، ثم نجده بعد ذلك قد أصبح هذا الخلق فيه سجيَّةً وطبعًا، وهذه هي الطبيعة البشرية، فالطبيعة البشرية تختلف عن بقية الطِّباع، فالله -عز وجل- خلق الملائكة وكلّ حياتهم موقوفة لله -عز وجل- يعبدون الله -سبحانه وتعالى- لكن نحن البشر فينا النَّوازع، فمنَّا مَن ينزع إلى البخل، ومنَّا مَن ينزع إلى الكرم، وهكذا.
                  لذلك يحتاج الإنسانُ أن يُربي نفسه وأن يعتني بها، وبهذا قد تحدَّثنا سابقًا، وأعيد اليوم أنَّه إذا أراد الإنسانُ أن يتخلق بخلُقٍ معينٍ فليُركِّز على خلقٍ واحدٍ، ثم يبدأ بتربية نفسه عليه من خلال القراءة، والنظر في سير العلماء الذين تخلَّقوا بمثل هذه الأخلاق، وهكذا:


                  تَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ



                  إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحُ




                  فالإنسان إذا تشبَّه بهؤلاء الأشخاص أصبحت هذه الأخلاق فيه -بإذن الله تعالى.
                  وثابت البناني يقول : "كابدتُ قيامَ الليل عشرين سنةً، فتلذذتُ به عشرين سنةً"، هذا ما جاء هكذا، لكن عشرين سنة من التَّعب والمُعاناة والمُجاهدة والصبر، حتى وفق الله -عز وجل.
                  اليوم سأسيح معكم سياحةً سريعةً في الأشياء التي أخذناها سابقًا، ولعلها إن شاء الله- لا تأخذ منا وقتًا طويلًا، ثم ندخل في آخر هذا البرنامج -بإذن الله تعالى- في إشارات سريعةٍ لبعض القضايا المهمَّة التي ينبغي لكلِّ إنسانٍ أن يستصحبها في أثناء تعامله مع الناس.
                  تكلَّمنا سابقًا -أيها الإخوة- عن العلاقات الاجتماعية ما هي؟ وبيَّنَّا أهمية العلاقات الاجتماعية، ثم تحدَّثنا كيف تتعرف على نفسك في مهارات التواصل؟ وتُعرَف من طريق الناس، فالناس هم مِرآة لك، فاسأل إخوانك، وأقاربك، وزملاءك، كيف أنا في تعاملي معكم؟ فتجد منهم تغذيةً راجعةً من خلال بعض الكلمات، خاصَّة النَّصيحة منهم.
                  تحدَّثنا أيضًا عن أهمية الانطباع الأول، وأنَّ الشخص إذا دخل مجلسًا ما، أو أراد أن يتكلم في مكانٍ ما، أو سيخطب لأول مرةٍ في مسجدٍ سيكون فيه خطيبًا دائمًا أو إمامًا دائمًا؛ ينبغي أن ينتبه للانطباع الأول، ولذلك تجد بعضَ الإخوة لما يُعيَّن إمامًا أول ليلةٍ له يحوس حوسًا شديدًا، فآية الكرسي لا يستطيع إتمامها، وإذا دخل في آيات في سورة عم لا يستطيعها. لماذا؟ رهبة المكان وهيبته، ولهذا ينبغي للإنسان أن يستعد.
                  كذلك إذا دخلنا في مجلسٍ معينٍ مثلًا من المجالس التي سيصفونا بوصفٍ بعد خروجنا منها، ينبغي للإنسان أن يكون دقيقًا، وليس مُرائيًا، فهناك فرقٌ بين أن تُعطي الناسَ صورةً ليست هي صورتك الحقيقية، فهذا ليس بصحيحٍ؛ لأنَّه تتكشَّف في آخر الأمر، وكثرة العشرة تُظهِر الإنسان.
                  ولهذا لما جاء رجلٌ فأثنى على رجلٍ عند عمر قال: سافرتَ معه؟ قال: لا.
                  والعلماء قالوا: لماذا سمي السَّفر سفرًا؟ لأنَّه يُسْفِر على أخلاق الرجال، فالرجل عندما تُعاشِره ولو لأيامٍ بسيطةٍ يظهر لك هذا الإنسان، ولهذا الزواج مُغامرة، هو مغامرة بكلِّ ما تعنيه الكلمة. لماذا؟ لأنَّه مهما وُصِفَت لك المرأة أو وُصِفَ لك الرجل فالعِشْرة تختلف تمامًا عن وصف الناس؛ فالناس يُعطوك مفاتيح لهذا الشخص، مواصفات عامَّة بالجملة، لكن التَّفاصيل لا تظهرها إلا الحياة اليومية منذ الفجر إلى أن ينام الناس.
                  ولهذا الله -سبحانه وتعالى- ما ذكر: "وعسى أن تكرهوا وعسى أن تحبوا" إلا في موطنين: الجهاد والزَّواج؛ لأنَّ هذا مشروع ليس بالسَّهل، كما أنَّ الجهاد أنت تُقدِّم نفسك فيه لأرض المعركة، وهنا يحتاج الإنسان أيضًا أن ينتبه لهذا الأمر.
                  إذن انبته للانطباع الأول في مقابلةٍ شخصيةٍ من أجل وظيفةٍ مثلًا، كيف يكون الإنسان فعلًا رزينًا؟ كيف يستمع العبارات؟ وكيف يُجيب عليها؟ وينتبه لكلام الناس، إلى غير ذلك.
                  أذكر أحد الإخوة مرةً كان في مقابلةٍ شخصيةٍ، فقالوا له: نحن نقبلك لكن بشرطٍ، ترى الكوب هذا؟ تسبح فيه الآن، وإذا سبحت فيه اعتبر نفسَك مقبولًا، وقد كان في مقابلةٍ عسكريةٍ، ما رأيكم؟ صعبة. صح؟
                  ومع هذا قبلوه، وسبح في الكوب أمامهم، في كوبٍ مثل هذا الكوب بالضبط سبح، كتب اسمه في ورقة ووضع الورقة في الداخل، فهذا يحتاج إلى ماذا؟ إلى سرعة بديهة، هذا هو الانطباع الأول، أنَّه أحيانًا تأتيك أشياء سريعة.
                  أنا أعطيكم الآن إحدى الطُّرَف التي يقولونها، يقولون: هناك شخص ساكن في الدور الخامس والعشرين، والمصعد يصل إلى الخامس والعشرين، وهو يضغط إلى تسعة عشر ويُكمِل ستة أدوار على الدَّرج، لماذا؟
                  {تحريك دمه}.
                  تحريك دمه، تمام.
                  {المصعد توقف}.
                  لا، يصل إلى الخامس والعشرين.
                  {نشاط}.
                  أحسنتم، إجابات رائعة وجميلة، لكن الصحيح ماذا؟
                  أنَّ الرجل قصير وما يستطيع أن يصل للتسعة عشر، بينما الستة أرقام يصل إليها، بكلِّ بساطةٍ.
                  يعني في بعض الأحيان ليس بالضرورة أن نبتعد، قد يكون الشيء أقرب إليك من شراك نعلك، لكن تحتاج أن تكون أكثر هُدوءً، هذا فقط الشيء يأتي بالشيء، وقد ذكرتها عمدًا؛ لأنَّه سيأتينا بعد قليلٍ شيءٌ مهمٌّ جدًّا في أثناء التواصل.
                  تكلَّمنا عن صور العلاقات الاجتماعية: أعطهم صورةً للعلاقات الاجتماعية مع الوالدين، ثم بعد ذلك تنزل إلى الدَّوائر الأخرى الواجبة مثل: الزوجة، الأولاد، الجيران، بقية المسلمين، كلّ هذا نوع من التعاون، مع الكفَّار أيضًا يتعامل الإنسان معهم بالحُسنى، لكن فرق بين التعامل بالحُسنى -وهو الذي تحدَّثنا عنه- والولاء، فالولاء دائمًا لا يكون إلا بين المؤمن والمؤمن، أمَّا بين المؤمن والكافر فلا يكون إلا حُسن تعاملٍ فقط: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة: 8]، فالولاء ماذا يستلزم؟ يستلزم الحب والنُّصرة، وهذه لا تكون إلا للمؤمنين، أمَّا الكافرين فلا.
                  تحدَّثنا أيضًا عن مبادئ مفاهيم في العلاقات الاجتماعية، كالتَّوازن بين التَّعقُّل والانفعال: فالإنسان لا يكون جامدًا، بل يتعامل مع الناس فقط بعقلٍ، ولا يكون أيضًا مندفعًا في مشاعره، فيتوازن بين هذه وهذه.
                  أيضًا رعاية العلاقات بجميع مُستوياتها: بمعنى أنَّك تجد بعض الإخوة ناجحين بامتياز في علاقتهم مع أصدقائهم، فاشلين بامتيازٍ في علاقتهم مع أرحامهم، وهنا يأتي التَّوازن؛ بحيث ما يكون عندك لا تضخم في قضيةٍ ولا ضمور في قضيةٍ أخرى، فنحتاج إلى التَّوازن، فتُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، قال: "إنَّ لأهلك، إنَّ لزورك، إنَّ لضيفك، إنَّ لجسدك ..."، يقولها سلمان لأبي ذر، ثم أقرَّها عليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ».
                  المُصارحة والشَّفافية: بمعنى أنَّ الإنسان في علاقته يحتاج إلى مُصارحةٍ بأدبٍ، أحيانًا لتوجيه خطأ مثلًا مُعين أو نحو ذلك، وشفافية أيضًا في العلاقة، ما يكون الإنسان غامضًا، بعض الناس غامضين بدرجةٍ عجيبةٍ!
                  منح الثِّقة: فالشَّخص المُقابل لك إن كنتَ دائمًا كثير الشَّك فيه ومُتحفِّظ من كلِّ علاقةٍ وتعاملٍ معه؛ سيبعد عنك.
                  تكلَّمنا على أسباب وجود الخلاف بين الناس، منها: سُوء الفهم، مرة ذكرت طرفةً هنا في هذا البرنامج عن الزواج وكذا، وكانت طرفة جاءت عابرةً أصلًا وليست مقصودةً، فجاءني بعد ذلك تقريرٌ راجع من الناس يقولون فيه: أبو أسامة -للأسف الشديد- يُزَهِّد الشبابَ في هذا الموضوع؟ انظر كيف تفهم الناس، ولهذا يحتاج الإنسان إذا تحدَّث مع أناسٍ أن يُراعيهم: "حدِّثوا الناسَ بما يعقلون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!"
                  خطبة الجمعة غير درسٍ على عشرة أشخاص، غير لما تصير في أكاديمية وأمامك عشرات الآلاف من الأشخاص، لا شكَّ أنَّ الأمر يختلف تمامًا؛ ولهذا يحتاج الإنسان أن يضبط كلَّ عبارةٍ يقولها.
                  صحيح الناس لا تُحاكمك على نيتك، والشَّرع لا دخلَ له بنيتك، فالشرع يُحاكمك على الكلام الذي تقوله، على الكلام الذي تفوَّهت أنت به، أكيد الأعمال بالنِّيات، لكن الآن واحد أنت ضربته وتقول: والله أنا نيتي ليس الضَّرب لك، لكن فقط هو من محبتي لك أنا أضربك! فهذا ليس بصحيحٍ.
                  تسب إنسانًا وتقول: أنا نيتي حسنة!
                  فالناس يُحاكموك على هذا الظَّاهر، ولهذا يحتاج الإنسان لا أقول إلى حذرٍ، لكن ينتبه لعباراته؛ لأنَّ الحذر شيءٌ زائدٌ يجعل الإنسانَ يتكلَّف أحيانًا أثناء حديثه مع الناس.
                  تكلَّمنا عن الحسد، والحسد يقلب الأشياء الحسنة إلى سيئة.


                  وَعَيْنُ الرِّضَى عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ



                  وَلَكِنَّ عَيْنَ السّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِئ




                  فالإنسان إذا كره إنسانًا لو كان يقول الحقَّ كله من أول الكلام إلى آخره لرأى أنَّ هذا الإنسان لا يقول إلا الشَّر، وهذا وضع طبيعي.
                  ولهذا يقول الحسن البصري -ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يخلو قلبٌ من حسدٍ -ولذلك الله -عز وجل- قال عن نعيم أهل الجنة: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ [الأعراف: 43]- ولكن الكريم يُخفِيه، واللَّئيم يُبدِيه".
                  فتجد بعض الناس تضيق صدورهم حسدًا على الآخرين، ولو كان عاقلًا لعرف أنَّ هذه الأرزاق والفضائل والنِّعَم كلها من الله -عز وجل- يهبها لمَن يشاء، ويمنعها عمَّن يشاء: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء: 54].
                  فالإنسان ينبغي أن يشعر أنَّ هذا الكون مُقدَّر، وما نزلتَ هذه الأرض من بطن أمك إلا وقد كُتبتَ كلّ هذه الأشياء، فلا داعي لحسد الناس: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فلَا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر: 2]، لن يمسكها أحدٌ من البشر، صحيح قد تسيء إليه، ولكن يزيده هذا السُّوء رفعةً عند الناس، وهذه سنة من سُنن الله -عز وجل.
                  أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية الذين حكموا بتكفير شيخ الإسلام ابن تيمية أين هم اليوم؟ وقد ألَّفوا مؤلفات في زمانه بالأسماء، يعني يكتب الإنسان كتابًا ويشيع، أين الكتب؟ لكن شيخ الإسلام يُسَخِّر اللهُ له رجلًا في القرن الرابع عشر يجمع مُؤلفاته، ويصبح هذا الإنسان يترحم عليه منذ ذلك الزمان إلى هذه الأزمنة. لماذا؟ صفاء نفس، وطيبة قلب، وهذا هو طبع الكبار دائمًا.
                  أيضًا تكلَّمنا عن وسائل إدارة الخلاف، وأنَّ الإنسان إذا صار خلاف بينه وبين شخصٍ يحتاج إلى مجموعةٍ من العناصر المهمَّة جدًّا في إدارة هذا الخلاف، وتكلَّمنا عليها في حلقةٍ كاملةٍ، وضربنا مثلًا بالخلاف الزوجي، وأنَّ الإنسان إذا صار بينه وبين زوجته خلاف يحتاج عندئذٍ إلى كثيرٍ من الأدب والذَّوق والرَّحمة والتَّحاور بالحُسنى، إلى غير ذلك.
                  تكلَّمنا عن النَّقد ودوره في عملية التواصل الاجتماعي، فينبغي -يا شباب وأنتم أيُّها الإخوة والأخوات خلف هذه الشاشة- أن يُوقِن كلُّ واحدٍ منَّا أنَّه لن يسلم من ألسنة الناس، قال الله -عز وجل- لموسى: «يا موسى سلني».
                  قال: «يا رب، أسألك أن تمنع ألسنة الناس عني».
                  قال: «يا موسى، شيء لم أجعله لنفسي، فكيف أجعله لك؟!»
                  الله -عز وجل- ماذا تقول عنه اليهود؟
                  ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64]. ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة: 73]، ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18]، فكل هذا وصف لله -عز وجل! ﴿وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ [الأنعام: 101]، ومع هذا يقول لموسى: «يا موسى، شيء لم أجعله لنفسي، فكيف أجعله لك؟!»
                  لأنَّ بعض الإخوة عنده صفحة في تويتر، فيأتي واحدٌ سفيه يتكلم عليه، فيسب ويشتم، ثم ماذا؟ هذا إنسان كتبت عليه هذه الخصلة.
                  لهذا الإنسان العاقل لا يُستَفَز، ففي مثل هذه الأماكن العامَّة ينبغي ألا يُستَفَز الإنسان، فعندما تكون أستاذًا ويقطع عليك تلميذك، هنا يظهر الصبر، وهنا تظهر الحكمة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى»؛ لأنَّه موقفٌ يأتي فيحرق قلب الإنسان، لهذا نحتاج دائمًا أن نُوطِّن أنفسنا؛ لأنَّ كلام الناس حاصل حاصل.
                  شيخ الإسلام ابن تيمية له عبارة مشهورة، قال: "والمصائب تقع على الناس كما يقع عليهم الحرُّ والبرد"، يعني سنة كونية، ما يمكن تدفع الحر والبرد، هي آتية آتية.
                  كذلك نفس الشيء، كلام الناس أحيانًا من أقرب الناس إليك، إمَّا بالباطل، بالتهم، بالظلم، بكلِّ شيءٍ توقعه، ومع هذا يحتاج الإنسانُ إلى الصبر.
                  إذن تجهَّزوا للنقد، تجهزوا لكلام الناس الجارح، تجهَّزوا للسَّب، تجهَّزوا للشَّتم من قِبَل كل الناس، لكن الذي يصبر ويصمد في مثل هذه الأماكن ويكون شعاره: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63]، قالوا سلامًا بالقول وبالفعل أيضًا.
                  وفي سورة الأعراف: ﴿خُذِ الْعَفْوَ، انظر للعفو، الألف واللام للجنس، كل العفو، أي صورة من صور العفو خذها: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199].
                  وتكلَّمنا على أهداف التَّواصل.
                  {شيخنا -الله يحفظك- هل كلام الناس عن الشَّخص سواءً بالسُّوء أو بالنقد يكون دليلًا على أنَّه مُخطئ؟}
                  ممكن: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53]، يعني ليس بالضَّرورة أن يكون كلُّ كلامٍ يصدر من الناس أن يكون حقًّا؛ فقد كان الناس يتكلمون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقولون: ساحر، وكاذب، ومجنون، وشاعر، لكن هذا ليس صحيحًا، لكن هؤلاء الأشخاص مُعادون للنبي -صلى الله عليه وسلم.
                  لكن قد يخرج أحيانًا كلامٌ فيه نوعٌ من الصدق وكذا، ولذلك استفد من أعدائك أكثر من أصحابك، فأصحابك لا يعطوك الحقيقة عن نفسك، فيمشون أمورهم معك، ويُجاملون، وهم يعرفون أنَّ عند هذا الإنسان خطأ معينًا، لكَّنهم يصبروا ويروا أنَّهم تعودوا عليه أصلًا، فيأتي في الاستراحة وهم قد وضعوا في ذهنهم أنَّ هذا الإنسان سيفعل كذا وكذا وكذا، ولذلك هم تعودوا عليه، لكن الكلام قد يأتي بالظلم والبغي وغيره، فيأتي سبٌّ وشتمٌ ونحو ذلك، وقد يكون العكس.
                  تكلَّمنا على أهداف التواصل مع الناس، وقلنا لتدعيم العلاقة تتواصل أنت مع الناس؛ لتقوي العلاقة بينك وبين الآخرين.
                  إعطاء معلومة أحيانًا لما تتواصل مع الناس من خلال خطبة، أو درس، إلى غير ذلك، فأنت تُعطيهم معلومةً.
                  وهنا ننتبه يا شباب، انتبه كثيرًا في قضية إعطاء المعلومة، فينبغي للإنسان أن يعرف مَن الذين أمامه؟ فقد تكون بعض المعلومات تفتن بعض الأشخاص، فيحتاج الإنسان إلى أن يضبط كلامَه قبل أن يذهب، وأن يُرتبه ترتيبًا صحيحًا -وسيأتينا إن شاء الله بعد قليلٍ بإذن الله.
                  أيضًا تعديل السلوك، تريد أن تعدل سلوك شخصٍ مثلًا، قال للشاب: «ادْنُهْ»، فلمَّا دنا منه وضع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يده على صدره وقال: «أترضاه ...، أترضاه ...، أترضاه ...»، فخاطبه بالمنطق الاجتماعي، وبالمروءة، ولم يُخاطبه بالشرع؛ لأنَّه يعرفه، ثم قال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ».
                  قال: فخرج من عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان من أخير أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام. لماذا؟
                  لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- تواصل بدرجةٍ عاليةٍ جدًّا معه. كيف؟
                  هذا الآن شاب، ليس ابن خمسين سنةً، فهناك فرق بين هذا وهذا، وفرق بين: «يَا أَبَا عُمَير، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» فينزل معه، ويقول للجارية: «خُذُي بِيَدِي أَي سِكَكِ الْمَدِينَةِ»، أين حاجتك؟ عند فلان؟ «خُذُي بِيَدِي أَي سِكَكِ الْمَدِينَةِ أَقْضِي لَكِ حَاجَتَكِ»، فهو يتعامل -صلى الله عليه وسلم- مع هؤلاء كلهم بهذا التَّعامل الرَّاقي.
                  ولهذا يقولون: "العظيم هو الذي يكون الناس كلهم في مجلسه عظماء"؛ لأنَّ بعض الأشخاص تجده في أثناء المجلس يلتفت لواحدٍ، ويلتفت للثاني، ويذهب لمصطفى، ويذهب لفلان، ويصبح حديثه معهم، لا، لكن العظيم يُقبِل على الناس كلهم، فيُعطي كلَّ واحدٍ وزنه وقيمته، فيسأل هذا عن حاله، وهذا عن شخصه، وهذا عن بلده، ولا شكَّ أنَّ هذه خصلة لا يُوفَّق إليها إلا قلَّة من الناس.
                  أيضًا التَّأثير في المتحدث: فتجد بعض الناس يُعطيهم الله -عز وجل- أسلوبًا يجعل المُستمعين يبكون، وهذا واقع صحيح، فتجد بعض الناس الله -عز وجل- يُعطيهم رقَّةً في قلوبهم، وصفاءً في نفوسهم، فتجد هذه الرِّقة تنعكس على لسانه؛ لأنَّ اللِّسان مغرفة القلب، فكلَّما كان القلب نظيفًا ونقيًّا وأبيض؛ يخرج كلام يؤثر في الناس، وكلَّما كان في الداخل مصيبة وضياع؛ تجد أنَّ هذا يؤثر أيضًا على الناس.
                  ولهذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند النَّسائي في "عمل اليوم والليلة"، ومن السنة كذلك في عمل اليوم والليلة قال: «إِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ كُلَّ صَبَاحٍ»، تُكفِّر يعني تعظ، «تَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، إِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا».
                  أنواع الاتصال تكلَّمنا عنها في محاضرةٍ سابقةٍ، فهي من أعلى إلى أسفل، والدين إلى أولاد، ومن أسفل إلى أعلى، هابط صاعد يعني بين مدير ومرءوس، تحدَّثنا عنه سابقًا.
                  وتكلَّمنا في اللقاء الماضي عن عناصر الاتصال وقلنا:
                  أول شيء: المصدر -المتحدث.
                  - والهدف من هذا الكلام.
                  - ثم الرسالة التي تلقى.
                  - ثم الوسيلة بعد ذلك التي يُقدَّم بها، إمَّا كتابة، وإمَّا كلامًا، وإمَّا بريدًا إلكترونيًّا، وغيرها من الوسائل الكثيرة التي يستخدمها الإنسانُ لتوصيل معلومة لديه.
                  - ثم تحدَّثنا عن المُسْتَقْبِل، فأنتم الآن في عملية التواصل مُسْتَقْبِلون فتسمعون هذا الكلام، والإخوة كذلك في الخارج.
                  شيء مهمٌّ جدًّا ننتبه له في عملية التواصل: الناس فهمت أم لا.
                  لأنَّه أحيانًا يمكن أن يشتغل معك واحد ساعة خطبة، ثم تسأل واحدًا عند الباب ماذا قال؟ والله ما أدري!
                  وأنا أذكر أنني أول ما بدأت قبل تسع سنين في الظُّهور في الإعلام كنت مُتحمِّسًا جدًّا، ولذلك أجمع كلامًا كثيرًا، وأُحَضِّر من أماكن كثيرةٍ، وآتي بمعلومات كثيرة، يمكن خمسة بالمائة ألقيه والباقي يذهب.
                  لهذا دائمًا أشخاص أصلًا أنت خطيب معهم وتستمر معهم سنين، ما هم هاربين، سيظلون عندك في المسجد، فلماذا نأتي دفعةً واحدةً في الكلام؟ بل تدرج.
                  لكن شخص أول مرة ستلقاه، أو موضوع سيُلقَى لأول مرةٍ مثلًا في مكانٍ ما، أنا أعجبني الحقيقة بعض الخليجيين وخاصَّة الكويت، فعندما يُريدون أن يُحضروا محاضرةً أو يُلقوا درسًا يُركزوا على ثلاث أو أربع أو خمس قضايا فقط، ويدورون في فلك هذه الخمسة، وهذا جيد حتى للمُتلقي بدل ما تُشتته؛ لأنَّ الكلام إذا جاء جملةً يذهب، والزُّهري يقول: "إنَّ المجلس إذا طال كان للشيطان فيه نصيب".
                  من مُستلزمات الطول أنَّ الإنسان يتكلم وما تكون هناك عناصر واضحة، ونحن اليوم لأنَّه آخر يوم فلذلك نحاول أن نمر على أكثر المعلومات، وإلا في العادة نجلس بهدوء.
                  معوقات عملية الاتصال:
                  اليوم سنتحدث عن هذه -إن شاء الله تعالى- على وجه السُّرعة؛ لأنَّ لدينا أكثر من شريحةٍ.
                  أول شيء: التَّسرع في التَّقييم أو التَّعليق: تتواصل مع إنسانٍ فتقطع عليه في نصف حديثه.
                  من النِّكات الظريفة واللَّطيفة أنَّك تجلس في مجلسٍ فيبدأ إنسانٌ بالحديث، فيأتي الشَّخص الذي وراءه ويقول: من غير ما أقطع حديثك!
                  ثم يأتي الثالث يقول للثاني: من غير ما أقطع حديثك. قبل أن يُكمِل.
                  فبعد نصف ساعة لا تجد أي قصة قد اكتملت. لماذا؟ لأنَّه ليس هناك نوع من الأدب في قطع كلام الناس أو التَّعليق عليه.
                  ولهذا ابن حزم يقول عن نفسه أنَّه كان كثير التَّعليق، وتجد من بعض الأشخاص عندهم تعليقات أحيانًا جارحة حتى في أثناء الكلام، فينبغي للإنسان أن ينتبه لهذا.
                  قد يكون التَّعليق من أجل إضحاك الناس، ومن أجل إضفاء جوٍّ، لكن:


                  وَالْبَسْ لِكُلِّ حَالَةٍ لَبُوسَهَا



                  إِمَّا نَعِيمهَا وَإِمَّا بُوسهَا




                  في بعض الأماكن يمكن للإنسان أن يُعلِّق تعليقًا لربع دقيقةٍ أو لثوانٍ فقط؛ ليكسر حاجز الصَّمت، لكن في بعض الأحيان من الحكمة السُّكوت وعدم التَّعليق.
                  ابن حزم كان مُبتلًى بهذا، فاشتغل على نفسه، وحكى تجربته في هذا الموضوع في كتابه "مُداواة النفوس"، ويمكن الرجوع إليه في حينه.
                  - استخدام العبارات التَّقريرية: لما نأتي نتواصل مع إنسانٍ ونتكلم معه ماذا نفعل؟ نحصره في زاويةٍ، لا، ألا تُوافقني أنَّ هذه غلطتك، أليس كذلك؟ هي غلطتك أو لا؟ هو طبعًا سيُجاوبك بلا أو نعم، ما في يمين أو يسار.
                  دائمًا في التواصل مع الناس استخدم أسئلةً مفتوحةً، فالأسئلة المفتوحة تُعطيك من الناس إثراء كبيرًا، بغض النظر عن هل المعلومة صحيحة أو غير صحيحة؟ فعندما تتواصل مع شخصٍ لا تحصره في زاويةٍ، فالمناظرات لها وجهها الآخر، لكن أنا أتكلم عن إنسانٍ تريد أن تتفاهم معه حول قضيةٍ معينةٍ ولا تُشعره أنَّه مُخطئ، فعندما يكون الإنسان مُخطئًا لا يتواصل معك بشكلٍ صحيحٍ.
                  أيضًا من الأشياء التي ننتبه لها -أيُّها الإخوة- مقاطعة الآخرين: فكلَّما تكلم واحد قاطعه الثاني والثالث والرابع والخامس، فهذا ليس بصحيحٍ.
                  يقول عطاء بن أبي رباح: "إنَّ الرجل ليُحدِّثني بالعبارة أعرفها قبل أن تلده أمُّه"، ومع ذلك هو ساكت، فهذا فعل الكبار، أنَّهم يستمعون، ثم بعد ذلك يمكن أن يُعلِّق على هذا الشَّيء.
                  أمَّا نحن الشباب فلأنَّ فينا حماسًا تجد الواحد أول ما يحكي قصةً يقول له آخر: يا أخي، ترى أمس قلتها لنا في السيارة.
                  نحن نحتاج أن نكون أكثر هدوءًا وصبرًا، وصحيح أنَّ كلام البشر مُمل، ولهذا قالوا: هذا من عظمة كتاب الله أنَّ الفاتحة تقرأ على الإنسان ستين سنة في الصلاة، ومع هذا كلّ صلاةٍ يتلذذ بها. لماذا؟ لأنَّه كلام الله -جل في عُلاه.
                  الغضب عند الاستفهام: يأتي إنسانٌ يتواصل مع شخصٍ ويقول له: ما تقصد بهذا الموضوع؟ فنبدأ نحن نغضب، لا، تقبَّل كلَّ الكلام من الناس بهدوء.
                  دائمًا الهدوء علامة للعاقل، ورفع الصوت دليلٌ على الفشل، لكن الشخص الهادئ المُستقر الواثق من الكلام الذي سيقوله ما عنده مشكلة، قاطعه أحد: ماذا تقصد بهذا؟ قد يكون فعلًا غير واضحٍ.
                  أنا أذكر في إحدى الدَّورات كان هناك تدريب مُدربين للحوار، الحقيقة ابتليتُ بشخصٍ كان ابتلاء بكلِّ ما تعنيه الكلمة، فهو شخص يقطع الكلام، وينتقد الكلام، وأظن التي بعدها كانت أيضًا هي واحدة منها، فيحاول أن يستأثر بالحديث إذا علَّق مثلًا تعليقًا، وهذه مشكلة كبيرة، وفعلًا أنا كنتُ أتصبر في الداخل وأتصبر حتى -بحمد الله- مرَّت بسلامٍ، بعد ذلك كان يُرسِل لي فيقول: أشكرك.
                  لهذا نحتاج مع هذه النَّوعيات أن نكون أكثر صبرًا، وأكثر حزمًا، وفي بعض الأحيان أكثر إحراجًا أيضًا، فمن الممكن أن تسأله سؤالًا لتعلمه بقدره أيضًا.
                  فالاستئثار بالحديث خطأ، ولولا أنَّ هذه المادة مادة كبيرة لتركتُ لكم المجالَ للحديث أكثر مني، فالأصل دائمًا في التعليم أن تجعل ثلاثين في المائة للمدرس وسبعين في المائة للطلاب يُناقشون، وحلقة نقاش فيما بينهم، وعصف ذهني في قضية معينةٍ وهكذا، ولو كان أحد من طلابي الآن يسمع لعرفوا أني في داخل القاعة أعمل حلقات نقاش، فكلّ خمسة أشخاص أُعطيهم قضيةً يتناقشوا فيها، ثم يُسَمُّوا لهم قائدًا وشخصًا يكتب أيضًا، ثم بعد ذلك شخص متحدث، هذه تجعل حيوية في التعليم، أمَّا عبيد فلا.
                  وقد قلنا لكم سابقًا أنَّ العبيد لا يصنعون حضارةً، وهذا نوعٌ من الاستعباد: أن يكون الإنسان فقط مُتَلَقِّيًا، وهذه خطورة التلفاز، فعندما تكلموا عن التلفاز قالوا أنَّ مشكلته أنَّ الإنسان يتلقَّى فيه فقط.
                  - من الأشياء -أيُّها الإخوة الكرام- أسئلة الاستدراج -كما ذكرنا لكم- أن يستدرجه في أسئلة حتى يحاول إيقاعَه، هذه تصلح في المناظرات، فلا بأس بها، لكن في التواصل اليومي حتى تُثبت خطأه، لا.
                  - أيضًا من الأشياء: التَّهَكُّم والسُّخرية بالكلام: ما هذا الكلام الفارغ! لا شكَّ أنَّ هذا مُعوِّق من مُعوِّقات الاتصال مع الناس.
                  - التركيز على الأخطاء: من الأخطاء التركيز على الأخطاء، إذا أخطأ إنسان خطأً مُعيَّنًا، فأول شيءٍ لا تنبش الماضي، يعني لا تأتي به، وذكرنا في لقاءٍ سابقٍ عبارةً مشهورةً، يقولون: ذكر الجَفَا في وقت الصَّفا جفا.
                  فلا يأتي إنسانٌ في أثناء نقاشٍ ويقول: هذا ليس بأول خطأ، تذكر اليوم الفلاني والفلاني. ويُخرِج كل الملفات، فلا شكَّ أنَّ هذا ليس بحُسن خُلُقٍ، ولا تركز على خطأ الإنسان، أعطِ الناسَ دائمًا فرصةً لأن يصلحوا ولأن يُسعِدوا أيضًا غيرهم وأنفسهم.
                  - أيضًا من الأشياء: كثرة المجادلة:
                  دائمًا لا تُركِّز مَن الصواب؟ مَن المُحقّ؟ ولكن ركِّز على الصواب، ما الصواب في هذا الكلام الذي بيني وبينك حتى نخرج به؟ لكن بعض الإخوة لا، يريد أن يخرج بأنَّه هو المُحق والبقية هم المخطئون.
                  يقول الشافعيُّ: "إني لأسأل الله -عز وجل- أن يجري الحقَّ على لسان خصمي"، عقول كبيرة؛ لأنَّه في النهاية مُبتغاه ماذا؟ الحق، كلامي صواب يحتمل الخطأ، وكلام صديقي أو صاحبي خطأ يحتمل الصواب.
                  إذن قضية المجادلة وكثرة الجدال، فلا شكَّ أنَّ هذا خاصة جدال عقيم.
                  {مع الأشخاص المجادلين إذا قام وطرح موضوعًا من المواضيع، أنا أعرف أنَّ هذا الشخص مخطئ، وأن الكلام الذي يتكلم به خاطئ، أود أني أوصل له معلومة، لكنَّه ما يتقبل هذه المعلومة، ولا يزال يُجادل، فهل أتوقف عن النقاش أو لا؟}
                  حاوره ولا تُجادله، فالجدال باطل، والجدال فيه كثرة صياح، وكثرة صراخ، والجدال في معلومات متداخلة، والجدال فيه إثبات جهة مخطئة وجهة صحيحة، لا، حاوره، أول شيء الهدوء.
                  الأمر الثاني: الجدال تغيب فيه نقاط الاتفاق والاختلاف، فتضيع كلُّ هذه الأمور، لكن في الحوار بهدوء، ما الذي أتفق أنا وإياك فيه؟ واحد، اثنين، ثلاثة. ما النقطة محل الخلاف فيما بيننا؟ النقطة الفلانية. لكن حين تُجادل جدلًا بيزنطيًّا تجد الناس في عالم وهؤلاء في عالم.
                  - ممارسة بعض العادات المُعَوِّقة في أثناء التواصل: فبعض الإخوة إذا تحدَّث معه شخصٌ يقول: انظر ماذا يُساوي؟
                  اليوم كنت أتابع مقطعًا في اليوتيوب، فرأيت شخصًا جالسًا يتكلم، وكانوا أربعة، واحد كان جالسًا يتكلم، والذي بجواره تعرفون ماذا كان يفعل؟ غير مُهتم، وكان يبتسم، لا شكَّ أنَّ هذا ليس من الأدب مُطلقًا.
                  الانشغال بترتيب أوراقٍ، أو كتابة رسالة في أثناء محادثة شخصٍ لك، أو النظر في الساعة، أو النظر في الجدار، أو النظر في السَّقف، أو أحيانًا الرسم على الورقة، أو أحيانًا البلاهة في تعبيرات الوجه، كلّ هذه الأمور -يا إخواني- ليست من الأدب والذَّوق.
                  تقول عائشة -رضي الله عنها- في وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كان إذا حدَّثه المتحدثُ أقبل عليه بكلِّه"، يعني كل جوارحي معك، لهذا لتكن كل جوارحنا مع المتحدث، مع المُستقبل لنا، أمَّا أن يأتي الإنسان وينشغل أنت تتضايق، صح؟
                  تصور الآن أنت تكلمني وأنا أنظر في السَّاعة، ما معناها؟ ما الرسالة التي تصلك؟ أنَّك مُتضايق، والأمر الثاني: أنَّه ما في فائدة في هذا الكلام، خلاص ترى ملينا انتهى الوقت، ولذلك تجد طلاب الجامعة إذا بقيت ثلاث دقائق كلهم يحركون أرجلهم، يعني توكل على الله، أو ينظرون إلى الساعة، افهمها، فقد تكون إشارة لبعض الثُّقلاء، صحيح؛ لأنَّ هناك بعض الناس كما كان شيخ الإسلام يأتيه بعض الأشخاص فيقول: "ربنا اكشف عنا العذاب".
                  فهذه تصرفات أحيانًا تخرج من الإنسان تُشعِر الطرف المقابل أنَّه ...، وهذه يُسمونها لغة الجسد، لما يأتي واحد ويحك هكذا، معناه أنَّه ما فهم شيئًا.
                  فالشخص حين يتحدث إنسان فيقول هكذا معناها مقفل، ولن يستمع منك أي شيء، هذه خطيرة جدًّا، وإذا وضع يده هكذا فمعناه أنَّه لا يريد أن يسمع منك أي عبارة، ولهذا في أثناء الحوارات لازم يصير مفتوحًا.
                  ولذلك لاحظوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأسند رُكبتيه، ووضع كفيه، كلها أشياء فيها سعة، كأنَّها احتضان، فيها كذا، لكن المُغلَق مُغلَق، لا يمكن أن يسمع، وجرب هذا، أنت من غير شعورٍ عندما تحدث إنسانًا بكلامٍ غير مفهوم أو ممل لك، هكذا تقول.
                  ولذلك انظروا للناس في طوابير الانتظار ما يجلسون هكذا، لازم يقف؛ لأنَّها قفلت معه.
                  إذن بعض العادات المُعَوِّقة ننتبه لها؛ لأنَّها ليست من الذَّوق أبدًا.
                  طيب، نتكلم الآن على مهارات أظنها -إن شاء الله- مهارات وآداب التواصل.
                  لا شكَّ -أيُّها الإخوة- أنَّ العلماء -رحمة الله عليهم- قد وضعوا أهدافًا، بل هناك مُصنفات مثل: كتاب "الأدب" للبيهقي، و"الأدب المفرد" للبخاري، فكلها كتب تُحث الناسَ على فنِّ التعامل.
                  وعجيب السلف في ذوقهم! شيء غير طبيعي؛ لأنَّ بعض الإخوة يقول اليوم "اتكيت"، وأنَّ الأشياء المعاصرة الآن علمت الناس ذوقيات، أبدًا، يا أخي عندهم من الذَّوق سواءً في الطعام أو غيره، قال: جاء رجلٌ كان مسافرًا ثم رجع إلى أهله، في أثناء الطريق أخبروه أنَّ زوجته قد أُصيبت بجدري ففسد وجهها كله.
                  فماذا فعل الرجل؟
                  لما وصل البيت أظهر أنَّه أعمى، وصبر على العمى تسع سنين حتى لا يجرح قلب زوجته. أي صبرٍ هذا يا إخوان؟! وهذه مذكورة في تراجم، يعني يصبر إنسان على امرأة ويُعمِي بصرَه من أجل ألا تتحسس أبدًا.
                  قال: خرجت ثلاث نسوة، فسقطت إحداهن؛ فبان شيءٌ من عورتها، فرأوا رجلًا كأنَّه رآهم، فلمَّا رأى أنَّهن أحسوا به أظهر نفسه أنَّه أعمى. لماذا؟ ليحفظ ماء وجه الطرف المقابل، ذوق يا جماعة.
                  وحين تتأمل الاتكيت النبوي -وسامحوني على هذه العبارة- لكن فن التعامل النبوي مع نسائه يكفيك يا أخي إذا دخل بيته استاك -صلى الله عليه وسلم- لماذا؟ حتى لا يدخل البيت إلا ورائحة فمه جميلة، نعم، لأنَّ بعضهم فمه تشمه من مسيرة سبعين عامًا، ولا تستطيع أن تجلس بجواره مُطلقًا، ويأكل بصلًا وثومًا ويُدخن، ثم بعد ذلك رائحة فمه ... لا إله إلا الله!
                  ولذلك في بعض الدول العربية قرأت مرةً خبرًا أنَّهم ذهبوا للمحاكم يطلبون الطلاق؛ لأنَّه شيء لا يُصبَر عليه، ولذلك ننصح كلَّ أحدٍ ابتُلي بهذا الأمر أن يُعالج نفسه، أقسام الأنف والأذن والفم والحنجرة هذه الأشياء كلها تُعالج مثل هذه الأمور، بالإضافة إلى أشياء موجودة في السوق.
                  طيب، هذه المهارات والآداب والأشياء التي ينبغي أن نتعلمها، وأن نتعامل بها مع الناس، ما الذي ينبغي أن يدفعنا إليها؟ لأنَّ الشَّريعة عندها شيء عجيب جدًّا وهو أنَّه إذا أرادت أن تحث الناسَ على شيء ماذا تفعل؟ تفعل شيئًا مهمًّا جدًّا، اليوم في علم التربية: التَّهيئة الحافزة، تحفز الناس من خلال ماذا؟ الوعود: «مَن قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ»، «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا»، كل هذه حوافز.
                  ولذلك أحيانًا أنت قد تتكاسل عن أمرٍ ما، وحين تُذكِّر الناسَ تبدأ نفسك تقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة، طيب: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، تقول مرة غرست له نخلة في الجنة، فالشَّريعة تُعطيك دائمًا تهيئة وحافزًا.
                  ما الدَّوافع التي تجعلنا نتعامل مع الناس بكلِّ أدبٍ وذوقٍ؟
                  أشياء كثيرة:
                  أمَّا أولها: أن يكون الإنسان من خير الناس، أو من أخيرهم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا».
                  أيضًا من الأشياء التي تجعله يحرص على حُسن التعامل: أنَّ الأخلاق الحسنة مأمور بها، فالله -عز وجل- قال: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]، وقال: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63].
                  إذن هناك أشياء كثيرة أمرنا الله -عز وجل- أن نتخلق بها، وقول الله -عز وجل: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل: 125]، هذه الحكمة ليست أمرًا سهلًا يا إخوان، وليس معنى أنَّ الإنسان وصل إلى عمرٍ معينٍ أو كذا، أو صار بسمتٍ معينٍ أنَّه حكيم، لا، النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «لَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ»، عاركته الحياة، أمَّا الشَّاب الذي في مُقتبل العمر لا شكَّ أنَّه ليس مثل الشخص الذي كبر في السِّن وعاش في هذه الدنيا وتلقى مصائبها وسرَّاءها وضرَّاءها.
                  ولهذا كان في الدولة العثمانية هناك شخص من عامَّة الناس، وكان ابنه شاب، فيقول له: يا بني، أنت لا تفلح، أنت لا تفلح يا بني.
                  الولد ما كان يعرف معنى العبارة، لما كبر عرف أنَّها استهزاء به، فخرج من عنده وذهب إلى اسطنبول، واستقر في اسطنبول حتى أصبح رئيس الشُّرطة، وترقَّى حتى أصبح وزيرًا، فلمَّا أصبح وزيرًا أرسل رسالةً لرئيس الشرطة قال فيها: في النقطة الفلانية هناك شخص اسمه كذا ائتِ به، هو مَن؟ أبـوه.
                  لما نزل لرئيس الشرطة أوصله لقسم الشرطة، وقسم الشرطة أوصله للقسم الآخر، فلمَّا وصل للقسم الأخير: ائتونا بهذا الشَّخص المجرم مُكبَّلًا، فجاءوا به في مجلسه وهو جالس فقال: هل تعرفني؟ يقولها وكان كثَّ اللِّحية، وكذا وكذا.
                  قال: هل تعرفني؟
                  قال: نعم أعرفك. أنت بني الذي لا تصلح.
                  يا بني اللِّحية لا تصنع فيلسوفًا، لا تعتمد على المظهر، الحكمة تحتاج إلى جهدٍ، تحتاج إلى كلِّ حادثةٍ تجعلها في رزمةٍ من الحوادث المشابهة حتى تخرج فيها برأي.
                  ولذلك أنتم يا شباب الآن أعماركم في العشرينات، فإذا وصلتم للأربعين تختلف حياتكم تمامًا، حتى تعبيركم عن بعض الأمور يختلف عن تعبيركم وأنتم صغار، بل تضحكون على بعض الأشياء السَّابقة، وكثير من الإخوة ممن كانوا مُتحمسين جدًّا لإيذاء الناس والكلام في أعراضهم لما وصلوا للأربعين هدأ كثيرًا. لهذا نحتاج أن ننبه لهذه الأمور.
                  شروط التواصل الفعَّال:
                  عندنا مجموعة من الشروط التي نمر عليها سريعًا:
                  - إتقان مهارات التَّواصل والتعزيز، وتتضمن ما يلي:
                  • حُسن الإرسال والاستقبال: أنَّك تُرسل للناس كلامًا حسنًا لطيفًا، وتستقبل منهم أيضًا نفس الشيء.
                  • إرهاف الإحساس بمشاعر الآخرين وحاجاتهم: دائمًا إذا أردت أن تكسب الناس فتحدَّث بأعينهم، واسمع بآذانهم هم، وانظر بأعينهم هم، وفكِّر بقلوبهم هم. بمعنى: شخص مهموم لا تأتي أنت وتقلب، لا، واسه، قال: «يَا أَبَا أُمَامَةَ، إِنِّي أَرَاكَ تَجْلِسُ فِي وَقْتٍ لَيْسَ وَقْتَ صَلَاةٍ»، لما رآه مهمومًا في المسجد. قال: ديون ركبتني يا رسول الله. قال: «قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ».
                  قال: فلزمتها؛ فقضى الله عني ديني.
                  لاحظوا: إرهاف الإحساس بمعنى أنَّ الإنسان ينبغي أن يعيش مشاعر الآخرين، حزنهم وفرحهم، همومهم، كلّ شيء، حتى لو انقطع نعلُ إنسانٍ واسه، حتى لو حصل الإنسان على شيءٍ بسيطٍ جدًّا من الدَّرجات أو المال أو غيره كن أنت أيضًا أحد المُواسين؛ لأنَّ بعض الأشخاص تزيد عنده نسبة العقل، يقول: ما معنى واحد حذاءه انقطع؟! ففي النفس البشرية حاجة إلى المُواساة.
                  ولذلك قال الله -عز وجل: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيكْشِفُ السُّوءَ وَيجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [النمل: 62]، هو الله -جل جلاله.
                  انظر لو قلت: نحن الذين نُواسيك، نحن الذين نضمد جراحك، نحن كذا، لهذا ننتبه لهذه القضية.
                  النبي -صلى الله عليه وسلم- راجع من غزوة وقال: «يَا جَابِرُ، تَزَوَّجْتَ؟» قال: نعم. قال: «بِكْرًا؟». قال: بل ثيبًا يا رسول الله. إلى آخر القصة.
                  - تزويد الآخرين بالتَّغذية الراجعة التي تأتيك من الناس؛ حتى تعرف هذا التواصل: كان صحيحًا أم لا؟
                  بمعنى أنَّه أحيانًا تأتيك تغذية راجعة في موضوعٍ معينٍ، فينبغي لبقية الناس أن يعرفوا هذه التَّغذية؛ حتى تصحح بعض المفاهيم، إلى غير ذلك من الأشياء.
                  - الوضوح المعرفي.
                  - تحديد أهداف الموقف التواصلي:
                  أنت ماذا تريد في هذه الجلسة؟ هل تريد إقناع؟ هل تريد إعطاء معلومة؟ هل تريد التأثير على الناس؟ هل ...، هل ...، هناك أشياء كثيرة.
                  - أيضًا استخدام القنوات والوسائل التَّواصُلية المعروفة: بمعنى أنَّك في أثناء حديثك مع الناس لا تستخدم طريقةً واحدةً.
                  انظروا الآن أتحدث أنا والناس في الشَّاشة، وهذا غير لما ننتقل للشاشة، حتى النفسيات تختلف. نفس القضية، مع الآخرين استخدم مثل هذه العبارات.
                  -من مهارات التواصل -أيُّها الإخوة: حُسن الانتباه والإصغاء:
                  انتبه للناس، واستقبل من الناس حينما يتحدَّثون معك، ولا تُهملهم، لا تُهمِّش الناس، وهذه مسألة مهمَّة، وتكلمنا في قضية عطاء بن رباح التي ذكرناها قبل قليل.
                  - مهارات البث والإرسال: هذا فنٌّ لا يُوفَّق إليه إلا الموفق، مهارات البث والإرسال، كيف ترسل هذه المعلومات للآخرين؟
                  وهذه -يا إخوة- تأتي بالتدرج، وتأتي أيضًا بالتربية عليها، لا أحد يأتي يقول: من أول يومٍ أنا سأكون كذا، أنت تجد الآن بعض الأشخاص يقول لك: الخطيب المُفوَّه، ما في أول يوم، لكن اسأله عن أول خطبةٍ يقول: كانت دمارًا، وما عرفت أخطب أصلًا، ولما نظرت رأيت تحتي مُستنقعًا من الماء بسبب الخوف.
                  - من الأشياء أيضًا: مهارات الانتباه والاستقبال، وحُسن الاستماع والإصغاء، واتِّخاذ مواقف مُنفتحة وموضوعيَّة، واحترام وتقدير آراء الغير وسلوكهم، نحن نمر عليها مرورًا سريعًا -أيُّها الإخوة- لضيق الوقت.
                  مهارات البث والإرسال:
                  • استخدام الوثائق المتوافرة بين يديك من معلومات إلى غير ذلك.
                  • حُسن الاستجابة لكلِّ ما تسمع وترى وتشعر، يعني إذا رأيت من الإنسان بعضَ العبارات التي جاءت علِّق عليها: ما شاء الله، والله رائع، أحسنت، فعلًا كانت غائبة عني، طيب، لماذا لم تقل كذا؟
                  قبل يومين تكلَّمت عن الوتر وقلت أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يُصلي السُّنن الرواتب، فقال لي واحد: لكن ركعتي الفجر كان ما يتركها لا في حضر ولا في سفر، خاصَّة لما رجع من غزوته ونام -عليه الصلاة والسلام- هو وبعض الصَّحابة.
                  هذه معلومة ينبغي أن تقول للإنسان: أحسنت، أحسنت، ما أحسنت واحدة، أحسنت أحسنت آلاف الملايين.
                  • حُسن استخدام تعبيرات الوجه: افرح، احزن، ابكِ، أي شيء، المهم وجهك هو مرآة قلبك، فكلَّما كان القلب منشرحًا تظهر هذه عليك. قال: «وَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ».
                  لكن ترى هذا السُّرور الذي في الوجه إذا انتقل إليه، وسبحان الله لاحظوا في نعيم الجنة أنَّه ينظر إلى وجهها فيرى وجهه فيها، نقاء كلها، نقاء في نقاء.
                  ولذلك كيف التواصل هناك؟
                  لما كانت النفوس طيبة، وكل شيء -ما شاء الله- رائع، قال: «يَتَّكِئ أَحَدُهُمْ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَتَقُولُ لَهُ زَوْجَتُهُ الْأُخْرَى: أَلَيْسَ لَنَا فِيكَ نَصِيبٌ؟». يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّ اتِّكَاءَهُ عَلَى أَرِيكَتِهِ أَرْبَعُونَ عَامًا»، نعيم، وأشياء يجدها هناك لا يجدها في مكانٍ آخر.
                  • استخدام اللغة بأشكالها المختلفة:
                  هذه ذكرت في أماكن كثيرةٍ أننا نبدأ بالاستقبال من الناس، من الانتباه لحديثهم، وتفسير بعض المعلومات حتى لا نقع في خطأ فيها، وهي موجودة في داخل المُذكرة.
                  ثم الاستجابة بعد ذلك للمعلومة التي تصلك من قِبَل الآخرين.
                  هذه مهمَّة الحقيقة نقف عندها سريعًا:
                  كيف تجعل خطابك مُؤثرًا؟
                  هذا مُهمٌّ جدًّا لنا كطلاب علم نتعامل مع الناس:
                  - اختيار عنوان جذَّاب للمحاضرة: وهذا مهم، يعني بعض الإخوة يأتي بعناوين لا تجذب الناس إليه، فحُسن الاختيار مهمٌّ جدًّا في هذا الموضوع.
                  - الاستشهاد بالآيات والأحاديث والأقوال المأثورة: متى تأتي بالآية؟ هذا شيء جميل، بعض الإخوة أقرأ لهم مقالات مُتفننين في قضية الاستشهاد، يأتي بجزءٍ من آية كأنَّها لم تنزل إلا السَّاعة، متى تأتي بأقوال السَّلف؟ متى تأتي بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم؟ أي حديث تُقدِّمه على الحديث الآخر؟ كل هذا يأتي بالزمن، وبالدُّربة، ومع كثرة الحفظ.
                  - تدعيم الحديث بالأرقام والإحصاءات: وهذا مهمٌّ جدًّا. لماذا؟
                  ذكرنا لكم المرة الماضية نموذج هيرمان؛ لأنَّ هناك أناسًا أصلًا ما يحبون المشاعر، بل يحبون الأرقام، تقول له: ونسبة الحوادث كذا وكذا، ونسبة الزواج كذا، ونسبة العنوسة كذا، فهذه يُحبها كثيرًا.
                  - الربط بين الموضوع والأحداث الجارية: شيخ الإسلام في المجلد الثامن عشر، وهذا قسم الحديث، لما تكلم على التتار قام وقارن بينها وبين غزوة الأحزاب التي عاشها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم.
                  - استخدام الأسئلة أثناء المحاضرة: هذا جيد في تفعيل الناس، فالشيخ ابن عثيمين كان من أميز الناس فيها، ففي أثناء درسه يسأل الطلاب: ما حضرتم؟ يمكن دروس الشيخ في الحرم كان الشيخ يُقيم الطلابَ في السطح في الأعلى، وفي الدور الثاني بعد صلاة الفجر تنظيم النقاط والفقرات وتسلسلها، لا تشتت الناس.
                  قل: أيُّها الإخوة، نحن إن شاء الله ... وخاصَّة إذا كانت المعلومة مكتوبة لديك؛ لأنَّه أحيانًا تضيع، لما تقول للناس: وهناك خمسة أشياء سوف نتحدث عنها، وتغيب عنك ثلاثة منها!
                  ولهذا قال رجلٌ: حدَّثني شعبة باثنتين، واحدة نسيها هو، وواحدة نسيتُها أنا.
                  - مُراعاة السُّرعة المناسبة أثناء الكلام: فالأصل في الكلام الهدوء، وقد تنفرط في بعض الأحيان، لكن ليس معنى هذا أنَّك تكون دائمًا مُنطلقًا، لا، نحتاج أن تنتبه، وتراعي نوعية الناس الموجودة أمامك.
                  - ختم الحديث بملخصٍ لأهم النقاط التي ينبغي للإنسان أن يتحدَّث عنها.
                  هناك في المُذكرة الحقيقة آداب للتَّواصل، وآداب للمُحادثة بين الرجال والنساء، والتواصل عبر الإنترنت، والتواصل كذلك عبر البريد.
                  إخوتي الكرام، هذه مُقدمة في حُسن التعامل والخُلُق، أرجو في هذه اللِّقاءات السَّابقة أن نكون قد استفدنا وانتفعنا بما قيل فيها، وحسبي أنني اجتهدتُ -بإذن الله تعالى- أن أُقدِّم شيئًا ينتفع به إخواني في هذه الأكاديمية والذين يروننا خلف هذه الشاشة.
                  أحبتي الكرام، لا يتوقف الأمر في قضية الأخلاق عند هذا اللِّقاء، بل نحتاج أن نقرأ، وأن نطلع، وأن نتعرف على كتبٍ كثيرةٍ تتحدث في هذا الموضوع، وقد جئتُ لكم اليوم بمجموعةٍ من هذه الكتب؛ لأنَّ الوقت ضيق، لكن مثلًا: "مهارات التواصل"، و"الاتصال والتأثير"، وهذا "كيف تبني علاقات متميزة" لمحمد عبد الجواد، ثم هذا كتاب "فن الألفة" لياسر أبو بكر، ثم "سحر الاتصال" بقلم محمد أحمد العطار، ثم كتاب "مداخل رحبة للتواصل".
                  فينبغي أن نقرأ ونتعلم، وأن نُحسِّن من أنفسنا حتى نلقى الله -عز وجل- ونحن مجاورون لنبينا -صلى الله عليه وسلم.
                  يقول الإمام أحمد: "العلم عمائم يُسقطها الله على رأس مَن يشاء"، والحديث الذي لا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم: «اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَو فِي الصِّينِ»، بمعنى أن يجتهد الإنسانُ في طلب العلم حتى يُلاقي الله -عز وجل- كما قال عبد الله بن المبارك: "لعلَّ الكلمةَ التي فيها نجاتي لم أسمعها حتى الآن".
                  سعدتُّ بكم أيضًا أنتم أيُّها الإخوة الكرام في هذا اللِّقاء، وأسأل الله -عز وجل- لي لكم التوفيقَ والسَّداد والصَّلاح، وأن يُبارك الله -عز وجل- في أعمارنا وأعمالنا، والشُّكر أيضًا موصول للإخوة المصورون الذين أتحفوني الحقيقة ونسيتُ أسماءهم، لكن أشكرهم جميعًا خلف الكنترول، وكذلك الإخوة المصورون هنا، أسأل الله -عز وجل- أن يأجركم، وأن يجزيكم خيرًا على ما بذلتموه من تصويرٍ ونشرٍ لهذه الحلقات.
                  اللَّهُمَّ وفِّقنا لكلِّ خيرٍ يا رب العالمين، واجعل ما نقوله حجَّةً لنا لا حجَّةً علينا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                  تحميل ملف صوت rm
                  تحميل ملف التفريغ word

                  تعليق


                  • #10
                    رد: مهارات التواصل الاجتماعي - د/ علي الشبيلي

                    تمت الحلقات بفضل الله

                    نفعنا الله وإياكم بها

                    تعليق


                    • #11
                      وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
                      نفعنا الله وإياكم بها
                      آمين واياكم تقبل الله منكم
                      ونسأل الله أن يستعملنا ولا يستبدلنا

                      تعليق

                      يعمل...
                      X