إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سلسلة بعنوان : روائع البيان لـ د/ رقية العلواني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سلسلة بعنوان : روائع البيان لـ د/ رقية العلواني

    تدبر سورة الحديد ل د / رقية العلوني
    (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

    الإمام أحمد ابن حنبل رحمة الله عليه يقول: سيأتي زمان على الناس يصلّون فيه وهم لا يصلّون أقف بين يدي الله وأقرأ الفاتحة وأركع وأسجد وأفعل كل أعمال الصلاة الظاهرة التي أمرني بها الله سبحانه وتعالى ولكنها أعمال مفرّغة كالتسبيح تماماً عبادة من أعظم أنواع العبادات.
    التسبيح هنا ليس مجرد أن أقول "سبحان الله" بلساني وإن كان ذلك جزء منها ولكنه تسبيح يجتذب القلب من نواحي الغفلة التي قد علته إلى عالم جديد، يصبح ذلك القلب الغافل مُسَبِّحاً مع كل من حوله، كل شيء من حولنا يسبِّح الله عز وجل
    التسبيح من أعظم أنواع العبادات ولكن متى؟
    حين يسبِّح القلب قبل أن يسبِّح اللسان قبل أن تتحرك الشفاه بكلمات التسبيح
    التسبيح أصبح هنا عبادة قلبية وأعظم أنواع العبادات عبادات القلوب، تلك العبادات التي غفلنا عنها، تلك العبادات التي شُوِّهت صورة العبادات حين فرَّغنا العبادة من شكلها الحقيقي من شكلها في القلب لنجعلها مجرد مظاهر ومجرد طقوس وهي ليست كذلك.




    (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ)
    لا يدين قلبي باستشعار بملك أحد من الناس مهما بلغ ملكه ومهما بلغ جاهه ومهما بلغت قوته أنه يملك من الأمر شيئاً، لا يملك ولا شيء الملك الحق لله الواحد الأحد.وَالْأَرْضِ
    إن أردت شيئاً، مالاً، متاعاً من متاع الدنيا الزائل أو من عطاء الآخرة الباقي الذي لا يزول ولا يتغير ولا يتبدل ستجد كل ما تبحث عنه عند من؟ عنده سبحانه وتعالى الذي (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). هل ما تطمح إليه وتتشوق نفسك إليه هل يخرج عن ملك السماوات والأرض شيء؟
    مستحيل






    (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)
    كل ما نمتلكه، مواهب، جوارح، عين، يد، قدم، كل ما أمتلكه، كل ما وهبني إياه الله سبحانه وتعالى أنا مستخلف فيه هذه مجرد عارية. ربي سبحانه وتعالى أنعم عليَّ بهذه النعم لينظر كيف أعمل لينظر كيف يكون إستخلافي وتحقيق مفهوم الخلافة على هذه الأرض. ربي سبحانه جعل الإنسان في مرحلة الحياة في رحلة الحياة التي نعيش جعله خليفة قال (إني جاعل في الأرض خليفة) وهذا الخليفة زوّده ربي سبحانه وتعالى بكل الطاقات بكل المواهب بكل الجوارح،، لديك كل ما وهبك الله ماذا فعلت به؟ كيف حققت أوامر الله عز وجل ولذا جاءت نهاية الآية (فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) إيمان بدون إنفاق، إيمان بدون بذل، إيمان بدون تضحية، إيمان بدون عطاء هذا ليس بإيمان،


    (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ...)
    إحسانك إلى الآخرين، تلك اليد المفتوحة التي فتحت بالقلب قبل أن تُفتح بالعطاء، وتأملوا معي الربط لأنه سيأتي الربط بعد قليل "النور". ينبغي ألا أنسى أبداً ذاك النور الموجود في الدنيا والأخرة النور الذي ينتظرني كل صدقة تقدمها بيدك بيمينك ولا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك هي نور، هي ليست مجرد حفنة من الأموال أو القروش أو الدنانير، هي حفنة من نور ستنير لك الدرب والطريق في الدنيا وفي الآخرة، سينتظرك النور وعلى قدر حظك من الإيمان واليقين بالله عز وجل وإقبالك عليه وأنت تنفق وتعطي وتقدِّم يكون حظك من النور.


    (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ)
    أين ستجد النور؟ طريق الحياة الذي نمشي فيه اليوم المضاء بكل الأنوار الأنوار الصناعية، الأنوار التي صنعناها بأيدينا كبشر ، هل تستطيع تلك الأضواء والمصابيح والأنوار المصطنعة أن تضيء الظلمة التي توجد في قلب الإنسان حين يبتعد عن خالقه؟! مستحيل.
    وطِّد علاقتك مع القرآن الكريم، عُد إلى الله عز وجل تعبد بتلاوة آياته العظيمة، إفتح القرآن. ولكن لا تفتح القرآن بيد فقط ولكن إفتح القرآن بقلبك لكي تدخل آيات هذا القرآن فتزيل الغشاوة والظلمة التي ربما تكون قد أحاطت به من كل جانب نتيجة لغفلته وبُعده عن الله عز وجل




    (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)
    لماذا السباق يا رب؟
    لأن العمر محدود والأجل محتوم والفرصة يسيرة والفرصة محدودة وربما تكون قصيرة، الليلة التي أنا أعيش فيها الآن الساعة الساعات التي أعيش فيها الأن ربما تكون آخر ما تبقى من حياتي فالسباق سباق حقيقي ولكننا غفلنا عنه لماذا غفلت عنه؟
    لأني قد دخلت في سباق الدنيا المحموم سباقاً وراء متاعها الزائل الفاني ولم أدرك الحقيقة التي إلى الآن لا أستطيع أن أتمثلها
    أن المال الذي أملك وكل متاع الدنيا الذي أملك إن لم أتركه بقلبي ترفّعاً عنه وعن دناياه تركني هو شئت أم أبيت وسيتركني
    ولكن هناك فارق شاسع بين أن أتركه لله وبين أن أتركه مرغماً لأنه قد تركني وهجرني بفراق الدنيا أو لسبب أو لآخر بما يحدث فيها من مصائب،



    (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ)
    لماذا الحديث المتواصل عن الإنفاق والصدقة؟
    الصدقة قبل أن تنفقها مهما كانت مال، عطاء، وقت، صحة، مهما كانت بأنواعها المتعددة قبل أن تضعها في يد من يحتاج إليها تذكر أنك أول مستفيد من تلك الصدقة
    الصدقة تحيي القلوب كما يحيي الغيث الأرض الميتة فتنبت بالزرع وتنبت من كل زوج بهيج كذلك الصدقة والإنفاق والبذل والعطاء
    ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق مبتسم يُحيي فيه الأمل من جديد، ولو أن تكون أنت بكلمة من كلماتك بدعوة من دعواتك دعوة لأخيك بظهر الغيب دعوة له بخير أو عطاء أنت المستفيد قبل أن تصل إليه الفائدة. ولذلك لا يمكن أن يخرج القلب من قسوته دون بذل أو عطاء لأن القسوة عقوبة قسوة القلب عقوبة من الله عز وجل يسلطها على القلوب الشحيحة القلوب البخيلة القلوب التي لا تعرف للعطاء دربا

    التعديل الأخير تم بواسطة م/ جيهان; الساعة 28-11-2018, 01:58 PM.

  • #2
    تدبر سورة الملك – د. رقية العلواني


    أنا حين أكرر السورة كل ليلة أداوم عل قرآءتها وتلاوتها كيف تشفع لي؟
    هل التلاوة العابرة؟

    لا، تلاوة متدبرة تلاوة توقظ في إحساسي في قلبي مشاعر الإيمان والخشية من الله عز وجل، أن أصحو في الصباح أنا نمت على خشية الله عز وجل إذن أستيقظ في الصباح وكلّي طاقة وأمل أني أمشي في الأرض أطلب الرزق ولا أطلب به وجه أحد سوى الله تعالى، ولا أنسى أن فترة بقائي على الأرض فترة محدودة ولا أنسى أن أقدم أحسن العمل بين يدي الله سواء رضي عني مسؤولي أو لم يرضى، لا يهمني، تصبح هذه المسائل لا شيء عندي، رضي، سخط، غير مهم، المهم أن يرضى الله عز وجل.





    (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
    جاءت الآية التي تليها مباشرة لتترك للإنسان مساحة لكي يحاول أن يقارن إن صحت هناك مقارنة -ولله المثل الأعلى- بين من يدعي الملك من البشر كما فعل فرعون على سبيل المثال قال (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي (51) الزخرف). قد يتوهم الإنسان بحكم قدرته الموهومة، بحكم صلاحياته، بحكم ظلمه لنفسه بأنه يمتلك الملك والقوة فجاءته الآية الثانية مباشرة من سورة الملك لتعطيه نوعاً من أنواع النظر في نفسه على وجه الحقيقة لتوقظه بمعنى آخر، لتجعل هذا الإنسان يعود إلى وعيه من جديد بقول الله (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) كل من في الأرض ممن يتوهم أو يتصور في لحظة من لحظات الزهو بالنفس أنه يمتلك قوة أو يمتلك ملكاً هل يستطيع أن يدعي القدرة على الموت وعلى الحياة؟ لا يمكن. حتى النمرود بجهله وحماقته حين إدعى أنه يحيي ويميت ما كانت القضية قضية الإحياء والإماتة كما هي في الواقع المعاش الذي نراه أن تتوقف أنفاس الحياة ونبضات القلب أو أن تدب فيه الحياة وينبض القلب، كان مجرد إدعاء وحماقة منه. لا أحد حتى فرعون إستطاع أن يدعي القدرة على الإحياء والإماتة هذا أمر يدخل في ملكه سبحانه وتعالى.




    بعض الناس يقول أنا ورائي عيال فلأجل أن وراءه عيال مستعد أن يتاجر وأن يبيع ويشتري بقيمه ومبادئه ومثله فتستحل الربا وتستحل الحرمات ويستهان بحقوق الله عز وجل، لماذا؟ لأجل أن ورائي عيال! أيّ إيمان هذاا؟ أيّ إيمان بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. سورة الملك في آية واحدة تبني فيّ هذا (وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) الرزق من الله وليس من أيّ أحد، وإذا خطر ببالك للحظة أن رزقك بيد أحد من البشر هذه كارثة!

    إياك أن يختلج في نفسك أو صدرك لثانية واحدة أن رزقك بيد أحد من البشر مهما علا، ليس بيد رئيس عمل ولا بيد وزير ولا بيد أير ولا بيد أحد، رزقك بيد الله وحده لا شريك له إن كنت تؤمن بأن الله واحد. فالله وحده هو الرزاق ذو القوة المتين، هذا الاستشعار بأن رزقك بيد الله عز وجل يحررك من كل عبودية وتذلل واستكانة وضعف وخضوع لغير الله سبحانه وتعالى




    (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15))
    حين يقول الله سبحانه وتعالى (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) المشي مجرد السير حين أطلب الرزق أطلبه بالسير بالأخذ بالأسباب ولكن دون تشوّق وحرص شديد ولكن حين يأتي الحديث عن طلب الآخرة وعمل الآخرة القرآن يأتينا بلفظة السعي ولذا ربي في آيات عديدة في القرآن يقول (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا (19) الإسراء) (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (9) الجمعة) وهكذا حين يكون الحديث عن عمل الآخرة ربي عز وجل يقول إسعوا وحين يكون الحديث عن طلب المعاش في الدنيا تأتي كلمة المشي


    (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)
    ولكن حتى حين ذرأكم ألستم إليه تحشرون؟
    أنا أين سأذهب في رحلة الحياة؟ أليس مردّي إلى الله عز وجل مهما طالت الرحلة بقيت ستين، سبعين، أربعين، ثلاثين، خمسين، زادت، طالت، قصرت، مردي إلى الله، الكافر يُهيأ له أن الرحلة طويلة ولذلك (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26)) الوقت غير محدد لكن يقيني وإيماني بأنه آتٍ لا محال يدفع بي للعمل يدفع بي لتقديم أحسن العمل يدفع بي لخشية الله عز وجل مهما تغيرت الأحوال من حولي، لا يهمني ماذا يقول الناس عن عملي لا يهمني ماذا يقول الناس عن قوتي – طبعاً بالإطار الصحيح نحن نتحدث عن إطار العمل على سبيل المثال – الذي يهم أن أحسن العمل لوجه الله عز وجل. ثم تأتي الآية وتوضح لي وتهز الإنسان هزة عنيفة وتبين له وكأنه يوم القيامة قد حدث أصلاً (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (27)) هذا اليوم الذي نفرّ منه جميعاً ولكن بطبيعة الحال المؤمن يفر من الله إليه لا يفرّ إلى غيره، لا ملجأ له من الله إلا إليه، أنا أخاف ولكن هناك فرق بين أن أخاف شيئاً فأهرب منه وبين أن أخافه فأهرب إليه.

    مقتطفات من

    تفسير سورة الملك
    الدكتورة رقية العلواني
    اسلاميات


    تعليق


    • #3
      تدبر سورة الفاتحة د. رقية العلواني





      (بسم الله)
      الكلمة الأولى والآية الأولى التي وردت في هذه السورة جاءت (بسم الله) وسواء كنا مع المفسرين الذين اعتبروها آية من سورة الفاتحة أو مع من لم يعتبرها واعتبر البسملة آية في كل سورة النتيجة واحدة: أنا لا أفتتح هذا الكتاب إلا بقول: بسم الله الرحمن الرحيم. البسملة تذكّرني بأني عبد وأن كل ما أنا فيه من أعمال وكل ما أقوم به من أعمال أنا لا أدخل على العمل بذاتي ولا بقوتي ولا بإمكانياتي ولا بالأسباب لوحدها أنا أدخل عليها باسم الله. البسملة تذكرني أن لا شيء يتحرك في الكون بدون اسم الله عز وجل إقرار مني بأن الله هو الذي يحرّك، هو الذي يفعل، هو الذي يسبب هذه الأسباب، هو الذي يجعلني أستعمل هذه الأسباب. إذن سورة الفاتحة ومن أول كلمة فيها (بسم الله) تربيني، تجعلني عبداً أتخرّج فعلاً في مدرسة العبودية وأتعلّم منذ أول كلمة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أن أكون عبداً حقاً لله سبحانه
      ولذا لا ينبغي لي أن أعمل عملاً دون البدء به ببسم الله وإلا كان العمل ناقصاً أبتر مقطوعاً مبتوراً قليل البركة، قليل الفائدة


      (الرحمن الرحيم)

      الرحمن الرحيم في كلمة البسملة ثم (الرحمن الرحيم)
      التي ستأتي فيما بعد في سورة الفاتحة تذكرني بأمور عديدة:
      واحدة من أعظمها أن علاقتي مع الله عز وجل قائمة على الرحمة،فأنا عبد مرحوم لأن علاقتي بمن؟
      علاقتي بالرحمن الرحيم. وسبحان الله العظيم اختيار الإسمين معاً (رحمن رحيم) رحيم بعباده رحمة متواصلة سواء كان هؤلاء العباد في حالة خطأ في حالة بُعْد عنه أو في حالة تقرّب إليه وعبودية خاصة.
      نحن جميعاً عبيد، عبيد ربوبيته سواء عصيناه أو أطعناه وهو في هذه الحالة رحمن بنا سبحانه وتعالى وكذلك نحن عبيد عبودية الألوهية حين نختار طريق العبودية وعلاقة العبودية هنا فيها اختيار وهنا يأتي معنى الرحيم يعطيني رحمة خاصة لأهل عبوديته لأولئك العبيد الذين يعبدونه عبودية الألوهية، الاختيار


      (الحمد لله رب العالمين)
      الحمد. أنا أول ما أفتتح العلاقة بيني وبين الله عز وجل أول كلمة أريد أن أخاطب بها ربي أول كلمة أريد أن أقولها لربي: يا رب الحمد لله. ومن هنا كان يستحب للمؤمن أن لا يبدأ دعاءً إلا بقوله: الحمد لله، تقديم الثناء، تقديم الشكر. والحمد لله كلمة جامعة تجمع كل معاني الثناء، كل معاني المدح، كل معاني التذلل والانكسار بين يدي الله عز وجل (الحمد لله).
      سورة الفاتحة التي تكرر في كل ركعة تعودني أن أستحضر النعم، تعودني وتعلّمني وتدرّبني على أن أرى النعم بعيني والفارق شاسع بين عبد يقول الحمد لله مجرد كلمة وبين عبد حين يقول الحمد لله من أعماق قلبه تبدأ كل النعم التي وهبها الله عز وجل لهذا الإنسان تظهر أمام عينيه واضحة للعيان. الحمد الذي تبنيه سورة الفاتحة لكي يكون عبادة حقيقية حمدٌ يحوّل الحمد من شعور في القلب وكلام باللسان إلى فعل وسلوك

      (مالك يوم الدين)
      ثم تنتقل الآية إلى آية عظيمة جداً تنقل الإنسان إلى الواقع الذي لا ينبغي أن ينفك عنه الإنسان أبداً في حياته (مالك يوم الدين). رحلة الحياة القصيرة التي قد تستغرق من الإنسان كل الهموم كل الأحزان كل الاهتمامات وتذهب بعيداً به عن خالقه وتشرد به أحياناً حتى في صلاته، هذا الاستغراق الكامل للحياة القصيرة تحررها كلمة (مالك يوم الدين) تذكر تماماً أن الرب الذي أقمت وافتتحت العلاقة معه في الدنيا هو الرب الذي يملك يوم الدين يوم الجزاء. يذكِّرك ويربط دائماً وهذه طبيعة القرآن وسورة الفاتحة تؤسس هذا المعنى أن الحياة ليست هي نهاية المطاف في الحقيقة الحياة هي بداية المطاف. في الحقيقة بداية العلاقة التي تبنيها سورة الفاتحة في الحياة ستمتد إلى ذلك اليوم العظيم (مالك يوم الدين). فإذا كان الرب الذي أعطاك ومنحك وأغدق عليك نعمه ظاهرة وباطنة وتولى تربيتك في الدنيا هو الذي سيتولى الجزاء في الآخرة، هو الذي يمتلك يوم الدين، فكيف يا ترى سيكون ظنّك به؟ كيف سيكون اقبالك عليه؟ كيف سيكون حرصك على تقوية العلاقة به عز وجل (مالك يوم الدين)؟. وهل سيبقى في قلبك ملوك آخرين إن صح التعبير؟ وهل سيبقى في قلبك شعور بالعبودية لأحد سواه سبحانه وتعالى؟ وجاء بكلمة (مالك) وجاء بكلمة (يوم الدين) وقد يقول قائل ويتبادر إلى الذهن أن في الدنيا ملوك وهذه حقيقة ولكن الحقيقة أن هذا الملك الذي ينسب إلى ملوك الدنيا مهما كثروا ومهما كان ملكهم إنما هو ملك ظاهري يقال على سبيل التجوّز فقد يمتلك الإنسان قطعة أرض، قطعة بلد، شيء من متاع الدنيا ملك ظاهري يملك التصرف فيه إلى حد ما، الملك هنا ليس ملكاً مطلقاً إلى حد ما فترة من الزمن ولكن لمن سيعود ذلك؟ الملك الحقيقي لمن؟ لله الواحد القهار،

      (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
      أن من أكثر الأشياء التي تقوي مناعة المريض المريض أمراض بدنية ضد الأمراض أن تقوي جانب الإرادة والتفاؤل لديه، الطاقة الإيجابية الحقيقية فيه. سورة الفاتحة تعطيني هذا المعنى حين أقول وأردد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) حين أكون مستحضراً لهذه المعاني مقرراً لها بقلبي وفعلي ولساني أن الرب الذي يصرّفني في أموري الرب الذي يكتب لي المرض التعب الشقاء أحياناً الأشياء التي لا تروق لي رب رحمن رب رحيم وهذه معاني عظيمة تحققها سورة الفاتحة لتفتح لي طبيعة العلاقة الجديدة بيني وبين الله عز وجل.
      آية في سورة الفاتحة وضعت علاجاً للضلال وللغضب في آياتها واحدة تلو الأخرى خلّصت الإنسان من الضلال، الضلال البعد عن الله عز وجل بكل أشكاله وأنواعه ولا يمكن أن يأتي الضلال لأنه إنتكاسة إلا باتباع منهج غير منهج الله سبحانه. ولما جاءت (إياك نعبد) جعلتني فعلاً أبتعد في حصانة، في درع، في وقاية من الضلال. لا يمكن أن يأتي الضلال وأنا أعبد الله حق العبادة، الضلال لا يأتي إلا حين أتخذ معبوداً من دون الله وغالب من يُعبد من دون الله هو الهوى، النفس. الضلال وكل الأمراض المتشعبة المتنوعة من حسد من حقد من تنافس على الدنيا من أشياء متنوعة من أشكال الضلال لا يمكن أن تأتي إلا من قبيل النفس فقط واتباع الهوى خلّصتني سورة الفاتحة منها


      في سورة الفاتحة تفتح على الإنسان في هذه الآية شيئاً عجيباً تخلصه من الشعور بالغربة وخاصة غربة آخر الزمان حين يستشعر الإنسان أنه غريب في وسط جموع من الناس قد تختلف معه في الآراء في الأفعال في التصرفات قد يخيل إليه في بعض الأحيان فعلاً أنه غريب غريب بكل معاني الغربة، غريب في ما يفعله، غريب في تصوراته ومعتقداته، غريب حين ينأى عن الدنيا بمعنى الترفع عن دناياها، فالكل متكالب على الدنيا على سبيل المثال ولكن هذه الغربة تبددها سورة الفاتحة حين تضع في حسبان المؤمن أنك مع الذين أنعمت عليهم وأن هذا يا مؤمن هو مطلوبك في الأصل وأنك تدعو ليل نهار بهذا الدعاء
      (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).
      إذاً حين تتفرق سبل الدنيا لا تأسف عليها فقد تكون تلك السبل طريق الضالين أو ربما طريق من غضب الله عليهم والضلال والغضب بينهما تناسبت


      ختمت لي بموضوع
      (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)
      لتسدل الستار على جميع الأنواع والأفعال التي يمكن أن تقود وتأخذ الإنسان بعيداً عن منهج الله عز وجل وكأن ذاك الإنسان واقفاً على ما يغضب الله عز وجل إن كان بعيداً عن ذاك المنهج. الأعمال والأفعال التي يقع فيها الإنسان وتستجلب غضب الله عز وجل لا يمكن أن تكون إلا حين يبتعد عن المنهج ولذا ربي عز وجل حذّر في آيات متعددة من أفعال اليهود ووصف بالوصف الدقيق في بعض الأحيان (غضِب الله عليهم) لماذا؟ لو أردنا أن نلخص الأفعال كاملة لوجدناها في البعد عن منهج الله عز وجل. العبد أيّاً كان حين لا يحقق معنى إياك نعبد في واقع حياته ويعبد أشياء متعددة ويعبد هوى النفس ويبتعد عن الطريق قطعاً قد وقع في ضلال مستجلباً غضب الله عز وجل. الترابط بين الضلال والغضب واضح، من ضلّ عن منهج الله غضب الله عليه ومن عبد الله حق عبادته كما أوضحت سورة الفاتحة لا يمكن أن يكون ضالاً أو مغضوباً عليه

      بهذه المعاني العظيمة استحقت هذه السورة أن تكون أعظم سورة في كتاب الله.
      نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح علينا في هذا الكتاب العظيم وأن يجعل الفاتحة فاتحة لنا لكل خير إنه سميع مجيب الدعاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته





      تدبر سورة الفاتحة

      د. رقية العلواني

      اسلاميات

      تعليق


      • #4
        رد: تدبر سورة الفاتحة د. رقية العلواني

        (إهدنا الصراط المستقيم).
        والهداية هي أعظم مطلوب وقد يتعجب الإنسان بعد تقديم الثناء وبعد تقديم التوحيد بأشكاله لله سبحانه وأنواعه وبعد الترقّي يا ترى ألا أطلب شيئاً غير الهداية؟ أبداً.

        أعظم مطلوب تربيني سورة الفاتحة عليه الهداية والهداية. كما نعلم جميعاً على نوعين:

        هداية عامة لكل البشر لعبيد ربوبيته هو قال سبحانه (رب العالمين) رب كل أحد رب الكافر ورب المؤمن رب الذي يعصيه كما هو رب الذي يطيعه. الهداية الأولى العامة هداية البيان ربي بيّن ربي أرسل رسلاً أنزل كتباً أعطى كل هذه الدلائل أعطى كل هذه الإشارات للتوصل إليه لسلوك الطريق إليه لبناء العلاقة معه عز وجل هذه هداية عامة. ولكن الهداية التي أطلب في سورة الفاتحة هداية خاصة هداية لا تكون إلا لعبيد ألوهيته، العبيد من درجة خاصة، العبيد الذين ترقّت بهم سورة الفاتحة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). هداية خاصة بمعنى هداية التوفيق هداية التيسير هداية التوفيق للطاعات وأعمال البر هداية التيسير

        (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)
        وتدبروا معي كيف أن كلمة اهدنا
        جاءت بصيغة الجمع لتذكر الإنسان أنك فرد صحيح ولكنك فرد في جماعة وأن هذا الأمر متعلق بمشيئته سبحانه، أنا فرد صحيح أحب الخير لنفسي باعتبار البشرية وحدود البشرية ولكنك أنت عبد يريد ربك أن يربيك والعبد الذي يريد الله أن يربيه عبد غير أناني، عبد معطاء، عبد يطلب الهداية لنفسه ولغيره ولذا جاءت (إهدنا) بصيغة الجمع ولم تأتي بصيغة المفرد ولا تُقبل من العبد حين يطلبها على الإفراد لأنك تعبده كما يريد لا تعبده كما أنت تريد

        (صراط الذين أنعمت عليهم )
        مرتين، تكررت كلمة (الصراط) في سورة الفاتحة (إهدنا الصراط) ثم تأتي (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) القضية في غاية الأهمية ومن الذي يُنعم؟ ومن الذي يُغدق على العبد ليسير في الصراط المستقيم؟ الله مرة أخرى. العلاقة التي تبنيها سورة الفاتحة العلاقة بين الله سبحانه وتعالى وبين عبيده علاقة عجيبة علاقة تُشعر المؤمن بأن كل حركة تقوم بها الفضل فيها لله سبحانه. (أنعمت) أنت الذي تُنعم لست أنا باختيار بعض الناس قد يهيأ له للحظة أن يمنّ على الله سبحانه وتعالى أنا أصلي وأصوم وأفعل الخير، من الذي يمنّ؟! (أنعمت) أنت الذي تنعم بالطاعة (أنعمت عليهم). وتضع الإنسان سورة الفاتحة في هذه الآية على المحك النعمة الحقيقية ليست في كثرة مال ولا في فتح الدنيا من كل أبوابها على الإنسان، النعمة الحقيقية هي الهداية إلى الصراط المستقيم أنا قد أمتلك أموالاً وجاهاً ومناصب ونعماً دنيوية متعددة فتكون هي مصدر الضلال والغضب من الله عز وجل، إذاً أين النعمة في هذه؟ هذه نقمة ليست نعمة. النعمة الحقيقية هي الهداية وهي النعمة الكبرى لأنها تحوّل كل الأشياء التي يهبني ربي عز وجل إلى نعم متعددة تصب في تلك النعمة.



        تدبر سورة الفاتحة د. رقية العلواني

        تعليق


        • #5
          قبسات من روائع البيان - سورة النور

          (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ (2)) لاحظ كيف تقدّم ذِكْرُ المؤنث على المذكر في هذه الآية إذ ذكر البيان القرآني الزانية قبل الزاني على خلاف كثير من التشريعات الإلهية في القرآن الكريم. وذلك لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل بما تقوم به من إغراء ومقدّمات من شأنها إيقاع الرجل في شباك الخطيئة. أما لو منعت المرأة نفسها وصانت فرجها لما وجد الرجل إليها سبيلا.

          (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)) تأمل كيف فرض رب العزة شهود جماعة من المسلمين لعذاب من يُقام عليهما حدُّ الزنا وذلك لتحقيق إقامة الحدّ والحذر من التساهل فيه. وحتى لا يكون ذلك مدعاة لاستخفاف المسلمين به. وأما الغرض الأسمى من حضور جماعة من المؤمنين فهو أن يتّعِظ الحاضرون ويرتدعوا عن إتيان ما يوجِب الحدّ.


          (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً (4)) تبصَّر في مدلول هذه الآية التي تشير إلى أن يكون الشهداء أربعة غير الذي رمى، فما الغاية من هذا العدد وقد وجب وجود شاهدين لا أربعة في تعاملات أخرى؟ ذلك حتى لا تكون إقامة الحد بفِرية من متواطئين على الكذب لغاية في أنفسهم ضد من يرمونهم. ثم لتعذر اجتماع أربعة من الشهود إلى جانب القاذف في مشاهدة حادثة الزنى. وإذا تمّ ذلك فإنه يعني أن هناك مجاهرة من الزُناة وبذلك حقّ عليهم الحدّ حفاظاً على المجتمع وطهارته وأمنه.

          (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ (6)) انظر كيف أُعفي الزوج من إحضار أربعة شهود واكتُفي منه بأَيمان أربعة. وذلك لأن الزوج بما عنده من الغيرة يأنف من الإتيان بأربعة رجال ليشهدوا على زوجه وهي على هذه الحالة من التلبّس بالزنا لما في ذلك من تشنيع لها وفضحٍ لعِرضه قبل عِرضها.

          (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ (11)) لاحظ كيف جاء لفظ (عُصْبَةٌ) نكِرة مع أن الذين أشاعوا حادثة الإفك أُناس معروفون. وما ذاك إلا لتقليل شانهم وتحقير قولهم وإثبات كونهم فئة نكِرة لا يُعبأ بهم. ثم أعقبه ذلك وقال (مِّنكُمْ) ليدل على أنهم من المسلمين وأن ظلمهم أشد من صدوره من الكافرين والمشركين.

          (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ (11)) انظر كيف عطف البيان الإلهي الجملة الإسمية (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) على الجملة الفعلية (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم) ولم يعطف مفرداً على مفرد فيقول لا تسحبوه شراً لكم بل خيراً لكم. وذلك لأن الجملة الإسمية تدل على الثبات والدوام والاستمرار مما يعني أنه خير متواصل. ولو عطف مفرداً على مفرد لأفاد خيراً آنياً مؤقتاً في هذه الحادثة.


          (لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)) تأمل هذه الصياغة الموحية فلم يكتف تعالى بقوله "فأولئك الكاذبون" بل قال (فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) وذلك للمبالغة في كذبهم وشناعته وعِظَم إثمهم عند الله سبحانه وكأن غيرهم لا يُعدّ كاذباً لهول ما جاؤوا به من الإفك.

          (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)) تبصَّر كيف استعمل ربنا (أَفَضْتُمْ) ولم يقل "لمسّكم فيما تحدثتم فيه عذاب عظيم". وذلك لأن الإفاضة صبّ الماء في الإناء والإكثار منه وخروجه من جوانبه. وهذا ما حصل منهم فعلاً فهم لم يتحدثوا فقط بل أسرفوا في الحديث وأشاعوه وتزيّدوا فيه حتى بلغ حدّاً لا يُحتمل.

          (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)) لاحظ هذه الجملة الاعتراضية (سُبْحَانَكَ) التي توجَّه فيها الخطاب إلى الله عز وجل وذلك للإشارة أن الغاضب الأكبر من إشاعة الفواحش والإفك والبهتان هو الله سبحانه. فهو الأَوْلى بأن يُتوَجه إليه بالتوبة من الذين مسّهم الإفك.

          (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22)) تأمل هذه الصيغة (أَلَا تُحِبُّونَ) فهي لم تُستعمل لمجرد الاستفهان وإنما أُريد منه الحضّ على العفو والصفح والحثّ على التسامح بما يضمن مغفرة الله عز وجل فهو غفر رحيم فكيف بالبشر؟!

          (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)) من المعروف أن أعضاء الجسد كلها تشهد على صاحبها يوم القيامة فلِمَ خصّ الله عز وجل هذه الأعضاء هنا دون غيرها؟ ذلك لأن الذين جاؤوا بالإفك استعملوا هذه الأعضاء خاصة فنطقوا بألسنتهم بالزور والبهتان وأشاروا بايديهم إلى من طعنوا في طهارتها ونزاهتها أي السيدة عائشة رضي الله عنها ومشوا بأرجلهم لمجالس القوم وتواديهم إشاعة الخبر ونشر حديث الإفك.

          (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)) لك أن تتسائل لِمَ وصف الله عز وجل ذاته بالمصدر (الْحَقُّ)؟ ذلك لأن الوصف بالمصدر يدل على ثبات الصفة في الموصوف كأن تقول: هذا رجل عدْلٌ. مما يعني أن ذاته سبحانه وتعالى متحققة بما لا يتطرق إليه العدم. وأنه صاحب حق وعدل من شأنه إثبات الحقيقة بعد شيوع الإفك والبهتان.

          (أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)) لاحظ أن الله تعالى لم يقل "أولئك مبرأون من الإفك" بل قال (أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) وذلك ليشير إلى أن ما زعموا لا يعدو أن يكون قولاً غير مطابق للواقع ولا يمُتُّ إلى الحقيقة بصلة ولا حاجة للاكتراث به والاهتمام بمضمونه.

          (لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ (29)) انظر كيف قال تعالى (بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) ولم يقل "بيوتاً غير مأهولة" وذلك ليدل على أن المراد من قوله (غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) ليس خلوّها من السكان. فبيوت الأشخاص والأُسر لا يجوز دخولها بغير إذن سواء وُجد فيها أصحابها أم لم يوجدوا. إنما المراد أنها معدّة للسكن الدائم المتعارف عليه كالخانات والفنادق مما لا حاجة لأخذ الإذن بدخولها. فقاطنوها يعلمون بدخول القاصي والداني إليها. فهم على استعداد دائم من دخول أي شخص إليهم فلا حاجة في الاستئذان منهم.

          (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ (30)) لِمَ قال ربنا (يَغُضُّوا) ولم يقل "يصرفوا" في قوله (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)؟ ذلك لأن غضّ البصر هو صرف البصر عن التحديق وعدم تثبيت النظر مع حياء وخجل. ثم أعقبه بقوله (مِنْ أَبْصَارِهِمْ) لأن النظرة الأولى مسموح بها وما بعدها منهيٌ عنه. وهذا ما وضّحه النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ كرّم الله وجهه "لا تُتبع النظرة النظرو فإنما لك الأولى وليست الثانية" ولذا وجب الغضُّ من الأبصار ما كان تالياً.

          (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (33)) انظر إلى هذه الجملة (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) والتي يظن البعض أنها من قبيل الإطناب. وأن قوله تعالى (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء) يفي بغرض النهي وذلك لأن إكراه الفتيات على البغاء يدل على إباءٍ منهن واعتراض وهذا الإباء قد يكون لسبب أو لآخر لكن الأبشع والأشنع أن تجبر الفتيات على ارتكاب الفاحشة مع إرادتهن التحصن والعفة والطهارة. ففي ذلك تشنيع بهؤلاء المكرهين وتصوير لتكالبهم على الدنيا وأمرهم بالفواحش مقابل مال قليل وعَرَض ٍزائل.

          (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ (35)) تأمل كيف قال رب العزة والجلال (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) ولم يقل "نوره كمشكاة". وذلك حتى لا يتوهم البعض تشخيص الذات الإلهية بشيء من المحسوسات. فهم ليس بجسم ولا عرض فلا شبيه ولا مثيل له سبحانه وتعالى. ولذلك أعقب القول بعدد من التشبيهات التمثيلية المتراكبة فقال (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) وذلك حتى لا يُتوصل إلى صورة مشخصة للذات الإلهية. فهذا مما لا يمكن تصوره أو حصره في تخيّل أو تشبيه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

          (نُّورٌ عَلَى نُورٍ (35)) قد تتساءل عن سبب هذه الزيادة في قوله (نُّورٌ عَلَى نُورٍ) مع أنه ذكر قبلها ما يدل على ذلك كما رأينا عند قوله (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ)؟ ذلك ليدل على الغاية من كل هذه التشبيهات التمثيلية. فليس الغرض منها التشخيص والتصوير إنما هو توضيح هيئة هذا النور مما لا حدّ له. فالمصباح في مشكاة أشد إضاءة وإذا كان في زجاجة صافية تضاعف نوره وإذا كان زيته نقياً كان أشد إسراجاً.

          (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (36)) تبصَّر كيف قال تعالى (أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ) ولم يقل "أمر الله أن تُرفع" لأن الله عز وجل لم يأمر أهل التوراة والإنجيل باتخاذ الأديرة والصوامع والبيَع. لكنهم أحدثوها للاستعانة بها عند الانقطاع للعبادة. ولم ينههم الله تعالى عنها فدخلت في قسم المباح مما أذن الله فيه لعدم نهيه عنه.

          (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ (37)) لعلك تتساءل عن سبب تخصيص الرجال دون النساء في هذه الآية. ذلك لأن الرهبان والنُسّاك كانوا رجالاً. فانقطاعهم عن البشر واعتكافهم في صوامع وبِيَع بعيدة عن تجمعات الناس أمرٌ لا تقوى عليه النساء ولم تجترئن على فعله. ثم أعقبه بقوله (لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ) ليؤكد ذلك المعنى فهو ما اختص به الرجال دون النساء في تلك الأزمنة.

          (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء (39)) لاحظ تشبيه المعقول بالمحسوس. فقد شبّه البيان القرآني أعمال الكفار مما ليس محسوساً أو مشاهداً بالسراب في أرض منبسطة وهو مما يُدرَك ويُشاهَد وذلك لتقريب الحالة إلى الأذهان ومحاولة تصويرها وتشخيصها ليتم فهمها واستيعابها وتكون بذلك أقرب إلى الواقع وأوضح في التصور والإدراك.

          (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ (43)) لِمَ عدَل ربنا سبحانه عن قوله "يسوق سحاباً" إلى قوله (يُزْجِي سَحَابًا)؟ ذلك لأن الغاية هنا هي الحديث عن منشأ السحاب وليس عن تسييره من مكان لآخر. ثم إن الفعل (يُزْجِي) يدل على دنو السحاب وانضمامه مع بعضه وبذلك يصير كثيفاً متراكباً مكتنزاً بالماء مُصدراً البرق والرعد أثناء التحامه.

          (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ (45)) تأمل كيف استعملت (من) لغير العاقل عند قوله تعالى (مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) (مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) وذلك لأن المشي أكثر ما يُطلق على بني البشر. وقد استعمل المشي لهذه الكائنات كلها فلزم من ذلك تغليب ضمير العقلاء عليها. ولم يبدأ في ترتيبه بـ (مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) وهم البشر المعنيون بالمشي لأن ترتيب الأجناس هنا ليس لغرض تمييز جنس على آخر بل لإظهار قدرة الله عز وجل وعظمته. فالزاحف على بطنه دون ظهور أعضاء المشي أعجب ممن يمشي على رجلين ومن يمشي على رجلين أعجب ممن يمشي على أربع. فبدأ بأكثرها تعقيداً وصولاً إلى أبسطها صورة.

          (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48)) إن من عادة المؤمنين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا تخاصموا أن يحتكموا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأن يتداعوا إلى الأخذ برأيه وحُكمه. فلِمَ قيل (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) مع أنهم دعوا إلى النبي الكريم وحده؟ ذلك لأن حُكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالف شرع الله عز وجل ولا يكون إلا عن وحي وإلهام. لذلك أعقبه بقوله (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) وهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي يُصدر حُكمه من شرع الله تبارك وتعالى.

          (أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ (50)) لحظ كيف جاءت الجملة الأولى (أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) إسمية ثم جاء بعدها جمل فعلية. وذلك لأن الجملة الإسمية تدل على الثبات والتمكن. فالمرض في قلوبهم متأصّل ولم يدخلها إيمان قوي مع يقين. ثم أعقبها بجمل فعلية ليدل على الحدوث والتجدد. فقد حصل لهم الإرتياب لأن قلوبهم مريضة لم يدخلها إيمان راسخ.

          (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)) إن الخطاب في أول الآية شمل طاعة الله عز وجل ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام. فلِمَ قال هنا (وَإِن تُطِيعُوهُ) ولم يقل "وإن تطيعوهما"؟ ذلك إثبات أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تخرج عن كونها طاعة لله سبحانه وتعالى. فمن أطاع النبي الكريم وقصد في ذلك وجه الله تعالى لم يكن في طاعته خروج عن طاعة الله تبارك وتعالى في كل أوامره ونواهيه.

          (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ (55)) لاحظ كيف قيّد رب العزة والجلال استخلاف المؤمنين الصالحين في الأرض. وذلك ليدل على أن سطوتهم وجبروتهم لن تقتصر على الأمكنة التي يسكنونها من الأرض بل ستشمل كل أرجاء المعمورة بطريقة أو بأخرى. فيمكن أن يحكموها ويمكن أن تكون لهم صولة وجولة بين بقية الأمم والشعوب التي ستسعى عندئذ إلى مسالمتهم ومراضاتهم وبذلك يتم استخلافهم في الأرض كلها.

          (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ (55)) قد يتوهم البعض أن الله عز وجل لم يكن قد مكّن للمؤمنين دينهم بعد وأن ذلك سيتم لهم بعد إيمانهم وصلاحهم وليس هذا هو المقصود. وليس المراد من التمكين التثبيت والترسيخ بل الغرض منه الشيوع والانتشار. فعندما ينتشر دين الإسلام بين الأمم والشعوب ويكثر متّبعوه يصبح كالشيء الراسخ الثابت الذي لا يُخشى زواله. ولذلك أضاف الجين إلى أولئك المؤمنين الصالحين فقال (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ) لزيادة تشريفهم وإعلاء شأنهم.

          (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ (61)) تأمل كيف رخّص الله تعالى لهؤلاء ممن أصيبوا بعاهات تعذرهم. لكن لم يعدّها مباشرة فيقول "ليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج" بل عدّها كلٌ على حِدة فقال (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وذلك لأن أعذراهم متفاوتة باختلاف أسبابها. لذلك فالحرج مرفوع عن كلٍ منهم بحسب مرضه وعذره. فيرخّص للأعمى فيما يشترط فيه البصر وللأعرج فيما يشترط فيه المشي أو الركض وللمريض بحسب مرضه وما يمكا أن يسقطه عنه من التكليف. وبدأ بالأعمى لأنه أشدهم عذراً.

          (وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ (61)) لاحظ كيف عطف ربنا قوله (أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ) على قوله (مِن بُيُوتِكُمْ) ولم يذكر "بيوت أولادكم" وذلك لأن بيوت الأبناء متاحة للآباء أو مما يدخل في ملكيتهم يصورة أو بأخرى لقوله صلى الله عليه وسلم "أنت ومالك لأبيك". فلزِِم من ذلك عدم ذكر بيوت الأبناء مما هو معلوم حكمه بالضرورة وليست بيوت الآباء والأمهات من قبيل ذلك. ولا يجوز للأبناء التصرف فيها إلا بإذن الوالدين أو أحدهما.

          (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا (63)) انظر إلى كلمة (يَتَسَلَّلُونَ) كم تعبِّر عن مضمونها. فالتسلل هو الإنسلال من صُرّة. أي الخروج بخفية خروجاً كأنه سلّ شيئاً من شيء. ويقال تسلل أي تكلّف الإنسلال مثل ما يقال تدخّل إذا تكلّف إدخال نفسه. ولذلك قال عنهم (يَتَسَلَّلُونَ) ولم يقل "ينسلون" ليصور شدة تكلفهم الخروج دون أن يشعر بهم أحد وأنّى لهم ذلك.

          (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)) هل يريد الله تعالى أن يخبر المسيئين بما اقترفوا وحَسْب حتى قال (فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا)؟ أراد بـ(فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا) مجازاتهم وعقابهم جرّاء أعمالهم. فالإخبار إن لم يعقبه عقاب لا جدوى تُرجى منه


          اسلاميات

          تعليق


          • #6
            تدبر سورة الإسراء د. رقية العلواني

            (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً(1)الإسراء)
            العبد هنا ليس العبد فقط بمعنى العبيد فكلنا عبيد لله عز وجل المؤمن والكافر شاء أم أبى ولكن سورة الإسراء تريد أن تصنع منا جميعاًعباداً أولي بأس شديد، أيّ عباد؟ عباد من درجة خاصة عبودية إختيارية حين أختار أن أكون عبداً لله فأكون في نفس الوقت قد قررت أن أختار الحرية والتحرر من كل الأرباب التحرر من كل العبوديات الزائفة التحرر من كل الأصنام الواهية أتحرر من سلطان المال أتحرر من العبودية للدرهم والدينار، أتحرر من العبودية للسلطة بكل أبجدياتها أتحرر من العبودية لأي سلطة أخرى سوى سلطة الله سبحانه وتعالى الواحد الأحد


            (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُومُؤْمِنٌفَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) الإسراء)
            سعيك مشكور حتى وإن لم تأتي الثمار ولا النتائج، أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكرإلتزامك ومدافعتك عن الحق مشكور ومحفوظ عند الله عز وجل وستلقاها غداًفي كتابك منشوراً حتى ولو لم تأتي بنتائج مرجوة ولا بثمار إيجابية. وفي هذاقد ضرب النبي صلّ الله عليه وسلم في مكة على وجه التحديد أروع الأمثلة قدوة لنا أسوة لنا في كل شيء إستمر في دعوته ما يزيد عن العشر سنوات دعوةمتواصلة أين النتائج؟ أين نتائج النجاح التي حققها؟ لم تكن تلك النائج التي لم تحقق بشكل كما كان ينبغي أن تحقق لم تكن مانعاً ولا حاجزاً للنبي عليه الصلاة والسلام عن مواصلة دعوته عن تقديم رسالته، وهكذا ينبغي أن يكون الواحد منا. فلا تقاعص في هذا الدين ولاتكاسل ولا إحباط ولا يأس طالما أن هذا الإنسان يسير في طريقه في الحياة



            (الأقارب عقارب) أي مصدر للسموم مصدر للأذى كيف يسيغ لمجتمع إرتضى بالقرآن منهجاً أن يبرر تحت أيّ ظرف من الظروف أن تكون العلاقات بين أولى القربى بين الأسرة الواحدة من أعمام وخالات وأولاد عموأولاد خالة مهما كانت المبررات أن تتحول إلى علاقة سُمِّية، علاقة يحكمها البغضاء والشحناء والتنافر والبعد والصد والنفور من بين بعضنا البعض؟ كيف يمكن أن يبرر هذا؟! القرآن يصحح هذه العلاقات ويؤكد أن الإنسان الذي اختار القرآن منهجاً لحياته لا يمكن أن يسلك مع أقاربه هذا المسلك لايمكن أن يسلك سوى ما أمر به القرآن (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ(26)الإسراء) هو حق للأقارب إن لم أقم به فأنا مقصِّرة في جنب الله


            نحن نقرأ الآيات في سورة الإسراء كيف عالج القرآن الأمراض الإقتصادية؟ وهل هناك فعلاً أمراض إقتصادية في مجتمعاتنا؟ واحدةمن أبرز الأمراض الإقتصادية في مجتمعاتنا كأفراد وكلنا يعاني منها قضيةالموازنة بين الإستهلاك وبين ما أملك، بين التملك الشيء الذي أنا أملكه فيحدود طاقاتي المالية والمادية وبين إنفاقي وبين إستهلاكي، ذلك التباينالعجيب في مجتمعاتنا ذلك الإستهلاك الذي وصل بنا إلى جعل الكماليات والتحسينات في حياتنا تقع في موقع الحاجيات والضروريات. يعيد القرآن ويعالج الأمور ويعيدها إلى نصابها بقوله عز وجل (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَمَلُومًا مَّحْسُورًا (29) الإسراء) إنه التوازن إنه التعادل في كل شيء وهذا التوازن الذي تؤكده سورة الإسراء كنموذج من نماذج معالجة القرآن للأمراض وللأدواء المستعصية ينبغي أن يطبق ليس فقط على سبيل حياة الأفراد وإنماعلى المجتمعات على الدول التي أصبحت تنفق أكثر من مدخولاتها فوقعت فيأزمات ديون على مدى سنوات طويلة هذه أمراض هذه أسقام هذه أدواء حقيقيةيعاني منها العالم المعاصر الذي نعيش فيه على الرغم من كل النظرياتالإقتصادية المعاصرة الحديثة التي حاولت عبثاً أن تعالج تلك الأمراض.


            (وَلاَتَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً {32} الإسراء)
            بعض المجتمعات والدول المعاصرة اليوم تعالج قضية الأولاد غيرالشرعيين الذين يشكلون عبئاً حقيقياً على ميزانيات الدول هذه القضية يعالجونها بطريقة مختلفة يحاول أن يجد الحلول لحضانة هؤلاء الأولاد غيرالشرعيين دون أن يعالج المرض ويجتث المرض من أساسه. ما هو الأساس لإشكالية وجود أولاد غير شرعيين؟ ما هو الأساس؟ علاقات غير مشروعة علاقات الزنا. ألا يهدي القرآن للتي هي أقوم؟ ألا يقدم القرآن المنهج الأقوم والأصوب حين يعالج المرض ويجتث المرض من جذوره؟ هذا هو القرآن هذا هو نهج القرآن.



            (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) الإسراء)
            عجيب! حتى طريقة السير والمشي يحددهاالقرآن ينزل فيها آيات؟! نعم، وفي ذلك بيان واضح إلى معالجة قضية التكبر والإستكبار والإستخفاف بالآخرين، القرآن يعلم الإنسان الفرد ألا يستكبرعلى غيره يجتث مشكلة الإستعلاء والإستخفاف والإستهانة بالآخرين حتى فيأبسط صورها حتى في طريقة المشي، لا تمشي في الأرض وتحاول أن تبين أو تظهرأنك متعالي على الآخرين حتى وإن كنت قد أوتيت من وسائل الوسائل المادية وسائل الإستعلاء الوسائل التي يهيأ لك أنها تبرر لك أن تكون بالفعل مستعلياً على الآخرين متكبراً عليهم إياك وهذه الصفة

            اسلاميات

            تعليق


            • #7
              تدبر سورة البروج د. رقية العلواني


              (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿١﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴿٢﴾)
              اليوم الذي وُعِد به الناس جميعاً يقفون بين يدي الجبّار لا يتكلم منهم أحد، لسان حالهم يشهد، جوارحهم تشهد، أيديهم تشهد، ألسنتهم تشهد بأي شيء؟ بكل ما اقترفوه، بكل ما اكتسبوه، فذلك الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، لا يغادر طفلاً ولا شيخاً لا امرأة ولا عجوزاً ولا بيتاً قد هُدِم ولا شيئاً قد كُسر ولا قبلاً قد فُطِر على طفل أو شاب أو رضيع، ولا قطرة قد سُفِكت إلا أحصاها وسيسألهم عنها

              (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴿٣﴾)
              شهادات موثقة مسجلة فالأرض ستسألهم وتسجل عليهم الخطوات، وذرّات الرمال تحسب قطرات الدماء التي سكبت عليها بل تحسب حتى ما حوته بين ثناياها من جثث الأطهار والأبرياء من الشهداء الذين ذهبت أرواحهم مهراً للجنة والحق الذي آمنوا به. كل تلك الذرّات ستشهد عليهم يوم القيامة، الشهادات محسوبة والسجلات مكتوبة والرب عادل والمحكمة عادلة لا تعرف مهادنة ولا تعرف ظلماً فالكل سواء أمام ميزان الحق وأمام ميزان العدل الذي أراده الله أن يحكم بين عباده.

              (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ﴿٤﴾)
              قُتِل الطغاة في كل عصر وفي كل زمان، قُتِلوا بكل ما شقّوا للمؤمنين من أخاديد.
              (النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ﴿٥﴾ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴿٦﴾ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴿٧﴾)
              ولنا أن نتوقف عند كلمة (شهود) التي تتردد في هذه السورة العظيمة (شهود) والشاهد يُسأل، أنا سأُسأل وأنتم ستُسألون وكلنا سيُسأل ونحن نقف بين يدي العزيز الجبار سنُسأل عما فعلناه لأجل المؤمنين، عما فعلناه لأجل الحق وأهل الحق، هل ناصرناهم؟ هل وقفنا إلى جانبهم؟ هل وقفنا إلى جانب الحق الذي آمنوا ونؤمن به؟ أم كنا ضعفاء؟! الحق لا يُنصر بالضعفاء، الحق يُنصر بالأقوياء. ومن يبذل الروح والنفس والوطن في سبيل الحق الذي يؤمن به ليس بالضعيف، ليس بالعبد وإنما هو حرٌ سيّد مُطاع من سادات الجنة،تدبر سورة البروج - د. رقية العلواني

              هنياً لذلك السيّد الذي بات سيداً في التاريخ حين تحرر من عبودية أمية بن خلف. هنيئاً لبلال وهنيئاً لكل أصحاب الحق من أمثال بلال وغير بلال عبر التاريخ في زماننا في وقتنا ممن جهروا بالحق، من رفعوها عالية خفاقة يقولون لا إله إلا الله في وجه كل طاغية ليوقفوا الطاغية مهما تعددت الجيوش من حوله ومهما تعددت كل وسائل التدمير من حوله أن مُلكك إلى زوال، كيف لا يقتلهم؟ كيف لا يحرقهم بالنيران؟ كيف لا وهو يراهم بأُم عينه يهزّون عرشه وملكه ويقوّضون مملكته من تحت قدميه، كيف لا؟! الله سبحانه وتعالى الحميد أراد للحق أن يظهر على أكتاف هؤلاءت


              المعركة بين الحق والباطل معركة محسومة لصالح من؟ لصالح أهل الحقّ، سواء أضرمت فيهم النيران أم قُتّلوا أم سُفكت دماؤهم أو هُدّمت عليهم بيوتهم الله ناصرهم، الفوز قد كُتب لهم، فازوا الفوز الكبير ولذلك ربي عز وجل في هذه السورة قال (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) الفوز قد تحقق، متى تحقق يا رب؟
              أصحاب الأخدود لم تذكر سورة البروج لهم كيف كانت نهاية الطاغية والحاشية التي كانت معه، لم تذكر أنهم قد أُهلكوا بالغرق كما في فرعون أو كما في ثمود بالريح لم تذكر لهم عقاباً دنيوياً، لم تذكر لهم نهاية مأساوية كما يُخيّل أو يظن البعض أو يتوقع دائماً. ولكن الظالم سواء أكانت النهاية المحسومة المحتومة قد وقعت له بشكل يشفي غليل المؤمنين ويشفي صدور المؤمنين أم لم تقع فالخسارة في حقه قد حدثت، له نار جهنم يخسا فيها أبد الآبدين! ما قيمة أن يعيش حفنة من الأزمنة أو من السنوات؟! ما قيمة أن يعيش الدنيا طولاً وعرضاً ويزهو بها والنهاية الحتمية خلود إلى النار إلى جهنم وبئس المصير؟! المعركة محسومة. نحن اليوم كبشر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه "ولكنكم تستعجلون" أما اليوم الموعود فالجزاء فيه محسوم.


              موقع اسلاميات

              يتبع



              تعليق


              • #8
                رد: تدبر سورة البروج د. رقية العلواني


                (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿٨﴾
                الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿٩﴾)
                أنت لست بحاجة إلى شهادة مراقبين، أنت لست بحاجة إلى شهادة موثّقة من مؤسسات أو منظمات دولية فالله شاهد وشهيد عليك. الله قد شهد على كل شيء فهو الشهيد، هو العالم الذي يعلم بكل شيء يحدث في مملكته سبحانه وهو الحامد الحميد في أفعاله سبحانه، له في كل شيء حكمة. ما يمر بك من محنة أو ابتلاء أو تجويع أو حصار أو تدمير أو هدم أو برد أو قسوة أو سطوة إنما هو ترقّي لك في سلّم الإيمان والتوحيد والنجاح فاصبر إن العاقبة للمحسنين الصابرين المرتقين في سُلّم التوحيد والإيمان الصادقين الثابتين على الحق
                (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) وتأملوا معي رحمة رب العالمين، باب التوبة المفتوح لكل الناس لكل إنسان مهما طغى مهما تجبر إن رجعتَ عن الباطل والغيّ الذي أنت فيه فإن باب التوبة مفتوح ولكن عليك أن تُصحِّح، عليك أن تؤوب، عليك أن تتوب، عليك أن تعود إلى خالقك، تعود إلى نفسك، تعود إلى الروح التي خلقها الله عز وجل لتتأمل فيها لتتدبر في نفسك وأحوالك لترى ما أنت صانع في نفسك؟ (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) هو الحريق ولكن الحريق يختلف بين حريق الدنيا والنار التي أُضرمت في أصحاب الأخدود في أيّ زمن وفي أيّ وقت وبين ذاك الحريق الذي ينتظر المجرمين والطغاة والظالمين ممن لم يتوبوا ولم يعودوا إلى خالقهم أبد الآبدين.


                معركة أصحاب الأخدود معركة محسومة، معركة طالما تكررت عبر التاريخ معركة الباطل والحق، معركة أهل الحق وأهل الباطل، النتيجة فيها محسومة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) إنه الفوز، النتيجة محسومة لا تنتظر دائماً فقط العواقب أو النتائج التي نحن كبشر نرسمها لأنفسنا، النصر الذي نحاول نحن أن نخطط لهذا النصر، النصر والفوز إنما قد حُسِم لأهل الإيمان، لأهل الصدق، لأهل الحق. الدنيا ساعة لا يهم فيها من ارتفع ومن كانت له الكلمة في نهاية الأمر ولكن الآخرة هي دار القرار اليوم الموعود يوم الفصل هو ذلك اليوم الذي ستظهر فيه الحقائق (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ). ولكي يبقى دائماً الطغاة في كل زمان وفي كل مكان على علم ويقين بأن الله سبحانه وتعالى لن يفلت أحدٌ منه تأتي الآية العظيمة (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿١٢﴾ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴿١٣﴾ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴿١٤﴾ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴿١٥﴾ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴿١٦﴾)


                قد يتساءل البعض منا وخاصة ونحن نمر في مثل هذه الأيام بقصص أقرب ما تكون إلى قصة أصحاب الأخدود، أهل الإيمان وأهل الحق يُعذّبون ويُقتّلون ويُشرّدون وأهل الباطل إنما يُسلطون على أهل الحق لِمَ يُسلِّط أهل الباطل على أهل الحق؟!
                دعونا نعيد الكرة ونتساءل بطريقة مختلفة كيف مكّن أهل الحق أهل الباطل من أن يسلطوا عليهم؟! نحن أهل الحق حين ضعفنا وتضاعفنا وانتكسنا وعجزنا عن نصرة الحق الذي نؤمن به، عن الدفاع عن القرآن الذي نحفظه في صدورنا، عن اتباع أوامره في جزئيات حياتنا اليومية مكّنا بذلك البعد عن منهج الله لأهل الباطل أن يرتفعوا فوق رؤوسنا! ولذا من أعظم اسلحة من وقع في محنة وابتلاء وكل المؤمنين اليوم في محنة وابتلاء أن يعودوا إلى خالقهم بالتوبة، التوبة النصوح أن يعودوا بقلب مؤمن صادق مخبت لله أن يا رب قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
                الابتلاءات التي ينزلها بنا، لماذا؟ ليميز الخبيث من الطيبن ليميز القلوب المؤمنة الصادقة -وهو بها أعلم- من القلوب المنافقة الخبيثة الذليلة الضعيفة. فهنيئاً لتلك القلوب التي استطعمت معنى الابتلاء ليس لأنها تريد الابتلاء ولكن لأنها تريد رضى الرحمن في سبيل تقديم هذه التضحية وذاك الابتلاء.

                يتبع



                تعليق


                • #9
                  رد: سلسلة بعنوان : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

                  جزاكم الله خيراً ونفع بكم

                  تعليق


                  • #10
                    رد: سلسلة بعنوان : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

                    بارك الله فى حضرتك على تجميعك تدبر السور للدكتورة رقية العلوانى
                    فى سلسله ليسهل متابعتها
                    جعله الله فى ميزان حسناتك

                    تعليق


                    • #11
                      رد: سلسلة بعنوان : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

                      سواء أكانت نهاية الطغاة والظالمين مرئية مشهودة أما أعيننا كنهاية فرعون أو كنهاية قوم ثمود أو غيرهم من الأقوام التي كذبت وطغت وأفسدت في الأرض أو لم تكن كنهاية أصحاب الأخدود الذين لم يذكر لهم القرآن نهاية مخزية أو معينة في الدنيا مذكورة كنهاية فرعون أو غيره ولكنهم في نهاية الأمر لن يفلتوا من الله سبحانه وتعالى وانظر إلى الآية (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ ﴿٢٠﴾) أحاط بكل أعمالهم علماً، أحاط بكل طغيانهم، أحاط بكل ظلمهم وجبروتهم، أحضاها عليهم، أحصى عليهم عدد النفوس التي أُزهقت، أحصى عليهم عدد البيوت التي هُدّمت، أحصى عليهم عدد الأعراض التي انتهكت، أحصى عليهم عدد أنفاس الحياة التي أخذوها وانتهبوها، أحصى عليهم كل شيء سبحانه وتعالى إنما يمهلهم ليوم خسر فيه الخاسرون خسر فيه الطغاة، خسر في الظالمين.


                      (بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ﴿٢١﴾ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴿٢٢﴾)
                      المجد للقرآن، المجد لحملة القرآن، المجد دوماً لأهل القرآن ومن يحمله والحلّ الوحيد أمام الطغيان، الحل الوحيد للوقوف في وجه كل طاغية وظالم هو هذا القرآن المحفوظ، هو هذا القرآن المجيد. من أراد أن يقف في وجه أيّ طاغية في أيّ زمان في أيّ مكان لا يمكن أن يقف في وجه الطاغية وهو بعيد عن القرآن وعن تعاليمه. إحفظ القرآن في قلبك، إحفظ القرآن في صدرك، إحفظ القرآن في سلوكك وأفعالك وتصرفاتك، لا عليك أمام من ستقف، لا عليك أمام أيّ طاغية ستقف، لا عليك، بأي جنود وبأي أدوات ولا باي أسلحة سيهاجم أو سيقف، لماذا؟ لأن عظمة القرآن الذي تحمله بين جنبيك، عظمة هذا القرآن سيخرّ لها هذا الطاغية مهما استقوى ومهما تصوّر واهماً أن له من القوة والمنعة ما يصده عن هذا القرآن. التمسك بالقرآن إيماناً وتصديقاً، علماً وعملاً هو مفتاح النجاة من كل طاغية من كل ظلم من كل عدوان.السبب من عند أنفسنا، ما أصابنا من مصيبة وما يصيبنا اليوم يحتاج إلى التوبة، يحتاج إلى الإنابة، يحتاج إلى الرجوع لله وللقرآن وحده دون سواه.


                      ختاماً لكل ملوك الأرض إن أردتم استقراراً في ملككم، إن أردتم أن تبنوا لكم عزّاً أو مجداً فلا تظنوا أبداً ولا تتوهموا أن المجد يُصنع إلا بهذا القرآن العظيم. إن أردت أن يستقر لك الحكم وأن يستقر لك المُلك فاحكم بهذا القرآن العظيم علماً وتعلماً وتعليماً وإيماناً واحتساباً واجعل النية خالصة لله وحده لا شريك له، لا تجعل النية الحفاظ على ملكك أو عرشك فالملك يزول وإن طالت به الأيام والعرش يذهب وإن عَلَوْتَ به ولا كبير إلا الله ولا عالي إلا الله سبحانه وتعالى ولا ملك باقٍ على وجه الحقيقة سوى ملك الله الواحد الديّان. أقبِل على القرآن واجعل قرّة عينك في القرآن لا تتحير ولا تستشر من هم في اليمين أو في اليسار، استشر القرآن، أقبِل عليه بقلب صادق، عُد إلى الله سبحانه وتعالى ستجد عنده الإجابة، ستجد عنده الدواء، ستجد عنده الشفاء لكل ما فينا وفي قلوبنا وفي واقعنا وفي مجتمعاتنا من أمراض وأزمات مستعصية. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم الذي أنزل القرآن المجيد أن يعيدنا إليه عودة صادقة، أن يردّنا إليه ردّاً جميلاً، أن يرفع عنا البلاء، أن يعيدنا إلى كتابه، أن يردّ الحق إلى أصحابه، أن يثبِّتنا على الحق الذي نؤمن به، أن يردّنا إلى كتابه ردّاً جميلاً غير مُخزٍ ولا فاضح، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

                      تدبر سورة البروج - د. رقية العلوانى

                      موقع اسلاميات

                      تعليق


                      • #12
                        رد: سلسلة بعنوان : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

                        سورة البقرة


                        السورة التي بين أيدينا اليوم هي السورة التي أوصى النبي صلّ الله عليه وسلم بتلاوتها وتعلمها، السورة التي قال: إن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البَطَلة (بمعنى السحرة). السورة التي وصفها مع آل عمران بأنهما الزهراوين يقول النبي صلّ الله عليه وسلم في وصيته لأمته بتعلم السورة التي بين أيدينا وإحقاقها في واقع حياتنا أفرادًا أو مجتمعات، يقول صلّ الله عليه وسلم " تعلموا القرآن" – وتأملوا كلمة تعلموا، التعلم لا يكون محصورًا فقط بتلاوة أو حفظ في الصدور،
                        التعلم بمعنى التطبيق، التعلم بمعنى السير على المنهج الذي جاء في هذه السورة العظيمة
                        السورة التي بين ايدينا سورة البقرة مع آل عمران سماهما النبي صلّ الله عليه وسلم الزهراوين لنورهما، لهدايتهما، لعظيم أجرهما.

                        السورة التي جاءت إجابة على السؤال والدعاء الملحّ الذي يلحّ به العبد على ربه في سورة الفاتحة حين يقول (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) فإذا بسورة البقرة تأتي وتفتتح بقوله عز وجل (الم ﴿١﴾ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَفِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾) تريد الهداية؟ وتطلب الهداية وتدعو لنفسك بالهداية؟ (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) هذه هي الهداية، لا بد من العمل

                        لا يمكن أن يكون هناك انفصال أو شرخ بين أن أحفظ الآيات في قلبي، في صدري وأتلوها وبين أن لا أعيش تلك الآيات في واقعي وتعاملي وأخذي وعطائي وسلوكي وأخلاقي، لا يمكن أن يكون هناك شرخ. من هنا نستطيع أن نفهم لِمَ هذه السورة العظيمة مع آل عمران جاءت لتسمى الزهراوين: النور والهداية. والنور والهداية يمكن أن تكون هناك شمس أمامي في النهار ولكني إذا أغلقت النوافذ والمنافذ أمام نور الشمس هل أستطيع أن أرى نور الشمس وضياء الشمس؟! لا يمكن، لأني أغلقت المنافذ ليس لأن الشمس غير موجودة وليس لأن نور الشمس وضياءها غير موجود أو بعيد، أنا من أبعدت، أنا من أعلقت. وما يقال عن نور الشمس يقال هنا في هذا الحديث عن نور الزهراوين.

                        هذه أطول سورة في كتاب الله، هذه السورة التي فيها أعظم آية في كتاب الله، هذه السورة التي كان يمكث صحابة النبي صلى الله عليه وسلم السنوات الطوال لتعلمها كما ورد عن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلم السورة والعرب كلنا نعلم أنهم أمة حافظة فكان أسهل شيء عليهم أن يحفظوا الكلمات والحروف ولكن ما كان حفظ الكلمات والحروف مقصدهم، كان حفظ الآيات والتعاليم والأوامر في واقعهم وتطبيقها في مجتمعهم المقصد والغاية الأساس

                        الإنسان صاحب سورة البقرة الإنسان الذي حفظ السورة بقليه بحياته بسلوكه بتطبيقه لها فكان الجزاء من جنس العمل حفظته سورة البقرة لما حفظها في حياته، جاءت تشفع له وتدافع عنه يوم القيامة لما دافع عن أحكامها وأوامرها وتطبيقها في واقع حياته، الجزاء من جنس العمل.

                        يتبع

                        تعليق


                        • #13
                          رد: سلسلة بعنوان : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

                          مقدمة سورة البقرة

                          نحن بشر تحيط بنا المخاوف، الوساوس، الشكوك، الأوهام من اشياء متعددة هذه المخاوف لا يمكن أن تبدد إلا من خلال شحنة إيمانية وقوة إيمانية دافئة، القوة الإيمانية في هذه السورة العظيمة وبخاصة في آية الكرسي حين يقرأها المؤمن وهو مؤمن بها وهو مستشعر لعظمة ما يقرأ مستحضر للآيات التي قرأ مستحضر لكل حرف في تلك السورة وفي تلك الآية.

                          سورة البقرة تتألف من ثلاثة أجزاء:
                          الجزء الأول منذ بدايته أقام دعائم الهداية، المقصد الأساس في السورة، السورة سورة هداية، سورة نور في الدنيا وفي الآخرة لأصحابها، لمن يقوم بحقها، أقام دعائم الهداية على التوحيد الخالص الصادق الذي هو مراد الله عز وجل ولذلك ابن القيم لديه كلمة جميلة يقول: إن كل آية في القرآن متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه. فالجزء الأول في سورة البقرة أقام دعائم الهداية على التوحيد وبيّن منذ البداية أن لا عمل يصحّ إلا حين يُبنى على ذلك التوحيد (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَفِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إيمان، توحيد، يقين

                          ثم تعرض السورة في الجزء الأول مواقف متعددة متنوعة لبني إسرائيل في سياق التذكير لهذه الأمة، الأمة التي نزل عليها القرآن أول ما نزل، أمة العرب. هذا الكتاب الذي أنزله الله على هذه الأمة عرض لها نماذج من تعامل بني إسرائيل مع منهجهم، مع دعوة نبيهم موسى عليه السلام مع التوراة كيف تعاملوا، الرب سبحانه وتعالى أكّد هذه الوصية (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)) والوصية ليست لبني إسرائيل دون غيرهم، الوصية لكل الأمم، الوصية لهذه الأمة التي نزل فيها القرآن (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) والحديث عن القوة هنا يتضمن كل أشكال وأسباب القوة المادية والمعنوية حين تأخذ القرآن وتأخذ سورة البقرة وأوامر سورة البقرة خذها بقوة، خذها بقلبك، خذها بطاعة، خذها بخضوع وانكسار ورغبة حقيقية في تطبيقها في واقع حياتك ودافع عنها بقوة لأن المنهج يحتاج أن تدافع عنه. إذا كنت أنت مؤمنًا بهذا المنهج حق الإيمان عليك أن تدافع عنه، لأنك بطبيعة الابتلاء والحياة ستواجه أشكالًا من التحديات، أشكالًا من الصعوبات ألوانًا من الابتلاءات، إن لم تكن لديك القوة الكافية لمواجهة تلك التحديات إذن قطعًا ستفشل في أداء ذلك المنهج



                          ترد الآيات في سورة البقرة في الجزء الأول مرة بعد مرة قضية العصيان الذي وقع في هذه الأمة إلى الشرك بأنواعه المتعددة، إلى عدم خلوص التوحيد، التوحيد القضية الأولى، ولذلك تقول عنهم الآيات (قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (93)) عبادة العجل التي وقعت في بني إسرائيل، البعد عن التوحيد، التخبط، الزيف، الإنحراف عن المنهج، المماطلة في تنفيذ أوامر الله (قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) وقالوا في آية أخرى (قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88)) أُغلقت، وهي بالفعل قد أُغلقت، كيف أُغلقت؟ الآيات في سورة البقرة تحدثنا عن أشكال من العقوبات التي أصابت قلوب تلك الأمة التي ترنحت في القيام بمنهج الله سبحانه وتعالى وتنفيذه في واقع الحياة، قسوة (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ (74)) وغُلف وختم، لم كل هذه العقوبات على القلوب؟ لأن الإنسان حينما يُغلق قلبه أمام المنهج فإن العقوبة من جنس العمل!


                          (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ))
                          هذه الوصية العظيمة لأجل مواجهة التحديات، الحياة ليست مفروشة بالورود، طريق الحياة وطريق تطبيقك للمنهج في حياتك وفي واقعك ليس مفروشًا بالرياحين والورود بل ربما يأتيك في بعض الأحيان العديد من الصعوبات والأشواك والصخور كيف ستواجه كل ذلك إن لم يكن في قلبك وفي حياتك سورة البقرة العظيمة وهذا القرآن العظيم الذي تحمله بقلبك وتدافع عنه بكل ما أوتيت من قوة؟!

                          يتبع


                          تعليق


                          • #14
                            رد: سلسلة بعنوان : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني


                            الجزء الثاني في سورة البقرة بدأ بالحديث عن القبلة وتحويل القبلة نحو المسجد الحرام وتحمل الأمة المسلمة التي نزل عليها الكتاب القرآن، الأمة الوسط، مسؤولية الشهادة على الأمم (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (143)) إذن هي الرسالة هي الأمانة هي تحقيق وحمل تلك الأمانة التي ضيّعها بنو إسرائيل من قبل ونحن بحاجة كأمة أن لا نضيّعها وما جاء في الجزء الأول من حديث عن بني إسرائيل إنما جاء في سياق التحذير لهذه الأمة من أن تقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل من تضييع للأمانة من تضييع لذلك المنهج الرباني المنزل عليهم في التوراة في واقع الحياة وفي سلوكهم وتعاملهم. هذه الأمة تحملت تلك المسؤولية ولذلك الجزء الثاني واضح جدًا فيه التعاليم المختلفة الآيات التي تحدثت عن القصاص، الآيات التي تحدثت عن الدين، التي تحدثت عن الوصايا التي تحدثت عن الزواج عن الطلاق عن الحج عن الصيام عن العبادة ما تركت شيئًا إلا وتحدثت عنه، جمعت كل التعاليم جمعت كل الأوامر التي تقيم المنهج في واقع الحياة، التي لا يمكن لمجتمع أن يعيش بعيدًا عنها، ربي سبحانه وتعالى ما خلق البشر فوضى وما أراد لعباده أن يتركهم هكذا يعبثون ويلعبون ويجربون القانون تلو القانون والدستور تلو الدستور، أبدًا، ربي سبحانه وتعالى ما كان ليترك عباده هَملًا بلا منهج، ولذلك منذ اللحظة التي نزل فيها آدم ربي سبحانه وتعالى أعطى له ذلك المنهج فقال (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38)) إذن هو المنهج مرة أخرى وهذا المنهج هو الذي تتحدث عنه هذه الآيات العظيمة في الجزء الثاني من سورة البقرة.


                            سورة البقرة تعلّم الإنسان من خلال الأوامر والنواهي كيف يتقي الله كيف يقول لنفسه (لا) حين ينبغي أن يقول لها (لا)، وعلى قدر ما تكون عظمة الله عز وجل في قلب ذلك المؤمن الذي تبنيه السورة في آياتها آية بعد آية على قدر ما يكون تعظيم ذلك الإنسان لأمر الله ووقوفه عن نواهيه ولذلك الكلام متواصل في السورة في الجزء الثاني عن (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا) (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا) لأنه على قدر ما تولّد في قلبي من توحيد وتعظيم لربي عز وجل الآمر الناهي على قدر ما يكبر ويتحقق ذلك الأمر في واقعي وفي حياتي، خشية الله عز وجل تبنيها سورة البقرة. ويأتي الكلام عن الجهاد في سبيل الله ليس من باب التسلط على شعوب العالم أبدًا أو إكراه العالم على الدخول في الدين، أبدًا، وإنما من باب آخر من باب إيصال الرسالة التي تحمي الإنسانية من غوائل وزيف الشر والفساد التي تقتلع بذور الشر والفساد في النفوس والأمم، لا بد لهذه الرسالة أن تصل وتصل بالحسن ولكن إذا اقتضى الأمر أن يكون هناك مواجهة فالمؤمن يواجه ولكن دون ظلم ولا اعتداء على أحد فالله لا يحب المعتدين

                            يتبع


                            تعليق


                            • #15
                              رد: سلسلة بعنوان : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

                              (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ)
                              خذ المنهج بقوة في حياتك في تطبيق كي تحقق المنهج وتُسعَد به وتُسعِد به من حولك.
                              هذه هي رسالة سورة البقرة ولذلك ختم الجزء الثاني من سورة البقرة بقصة طالوت وجالوت ليبين معنى الثبات على الحق والصبر على تعاليم المنهج والتزاماته مؤكدًا سنة التمحيص والغربلة والتدافع بين الناس ليُحِقّ الله الحق بكلماته وعلى أيدي مَنْ؟
                              ربما تكون على أيدي فئة قليلة (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ (249))
                              ولكن لكي تغلب هذه الفئة من الناس لا بد أن ينتصر المنهج في نفوسها أولًا، في سرّها قبل أن يكون في العلن، لا بد أن تتخلص من أدواء النفس ونزعاتها وأنانيتها وتسلّطها ورغبتها في التسلط والجبروت والتكبر على الآخرين. فما كان لذلك المنهج ولا لأصحابه أن يرتقوا على أنفسهم وحياتهم إلا بتلك التعاليم وتطبيقاتها، ما كان لهم أن يرتقوا بعيدًا عن ذلك المنهج.

                              ثم تأتي في بداية الجزء الثالث من السورة بالتأكيد مرة أخرى على أن دعوة الأنبياء واحدة وأن لا عداء بين الأديان على الإطلاق ولذلك في عصرنا الحاضر من يدّعي ويلعب على وتر أن ما يحدث من نزاعات إنما هو بين الأديان المختلفة هذا الكلام لا واقع له من الصحة على الإطلاق، الديانات الحقة السمواية جاءت برسالة واحدة الرسل جاؤوا برسالة واحدة رسالة التوحيد رسالة العدل إذن لماذا يحدث هذا النزاع وهذا الصراع؟ لما حدث من اختلاف في أتباعهم بعد ذلك، والاختلاف ما كان لأجل الدين وما كان لتحقيق رسالة الأديان ومنهج الأديان في الكون وإنما كان لأجل النفس وأطماعها ونزعاتها وأنانيتها ورغبتها في التسلط على الآخرين كما حدث في قصة طالوت وجالوت، المسألة لا يمكن أن تخرج عن ذلك الإطار.





                              ثم تأتي الآية العظيمة أعظم آية في كتاب الله، تلك الآية التي قال النبي صلّ الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب: يا أبا المنذر أيّ آية معك من كتاب الله أعظم؟ فيقول أُبيّ: قلت الله ورسوله أعلم، قال أبا المنذر أيّ آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم (آية الكرسي) قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر. آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله، تلك الآية التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تُصبح. من أين جاء الحفظ في هذه الآية العظيمة؟ أعظم آية في كتاب الله، آية التوحيد، آية الكرسي هي آية التوحيد، الآية التي يتعرّف الله سبحانه وتعالى ويتجلّى فيها لعباده بصفاته فالقرآن كما يقول ابن القيم: كلام الله تجلّى الله فيه لعباده بصفاته. وفي هذه الآية العظيمة ربي سبحانه وتعالى تجلّى لعباده بصفاته في هذه الآية (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)


                              (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255))
                              صفات عظيمة صفات تولد في قلب المؤمن صفات التوكل على الله عز وجل تأخذ من كل هذه الصفات أعمال قلبية ولذلك يصبح الإنسان في حرز يتخلص من المخاوف الموهومة، الخوف من العين، الخوف من السحر، الخوف من الحسد، الخوف من الفقر، الخوف على المستقبل، الخوف على النفس، الخوف من المرض، الخوف على الأولاد، يُسقط عنه كل تلك المخاوف الموهومة بنور الإيمان حين يتجلى في قلبه، نور الإيمان بصفات الكمال والجلال لله الواحد القهار، وكلما شهد العبد هذ الصفات حين يقرأ هذه الآية العظيمة ولّدت لديه توكلًا على الله، شعورًا بالافتقار إلى الله سبحانه والاستعانة به دون سواه والذل والخضوع والانكسار له وهذا محض التوحيد والعبودية، هذا محض رسالة التوحيد العظيمة أن يشعر الإنسان أن لا حاجة له إلى أحد سوى الله سبحانه وتعالى فيخشع القلب لله تعظيمًا وإجلالًا وتوقيرًا ومهابة وينكسر بين يدي خالقه ويشهد نِعَم الله عز وجل فيخشع القلب فتتبعه الجوارح وتسير على هداه. القلب قائد، القلب يخشع حين يقرأ هذه الآية العظيمة بالقلب، بالإحساس، لا يبقى هناك خوف من أحد! تتبدد المخاوف وما أكثر المخاوف التي نعاني منها في وقتنا الحاضر! بعض الناس لا ينام بالليل من القلق، من الأرق، من الخوف ولكن من ملأ الإيمان بربه قلبه أيخاف أحدًا؟ أيخاف شيئًا؟! أيمكن لك أن تخاف شيئًا والله مولاك؟! أيمكن لك أن تخاف على رزقك ومن بيده ملكوت السموات والأرض لك ربًا؟! أيمكن ذلك؟!

                              يتبع



                              تعليق

                              يعمل...
                              X