إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

حديث بدء الوحي - وقفات وتأملات // متجدد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حديث بدء الوحي - وقفات وتأملات // متجدد




    حديث بدء الوحي - وقفات وتأملات


    بسم الله الرحمن الرحيم



    المقدمة:

    الحمد لله الذي منَّ على هذه الأمَّة بنعمة الإيمان، وأكمل لهم دين الإسلام، وبعث إليهم رسولاً منهم؛ يتْلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ورضي لهم الإسلام دينًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه العزيز: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[يونس: 16]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، القائل: ((مثلي كمثل رجلٍ، استوقد نارًا، فلمَّا أضاءت ما حولها، جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعْن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه، فيَتَقَحَّمْن فيها، قال: فذلكم مثلي ومثلكم؛ أنا آخذ بحجزكم عن النَّار، هلمَّ عن النَّار، هلمَّ عن النَّار، فتغلبوني تُقْحمون فيها))[1]، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

    أمَّا بعدُ:
    فإنَّ أحلى ما يتمتع بقراءته القارئ من الكُتُب بعد كتاب الله - عز وجل - وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم هو سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وكل ما يتعلَّق بحياته: من مولده، ونشأته، وأسفاره، وزواجه، وتشرفه بالنبوة، ودعوته الناس إلى كلمة التوحيد، وتحمُّل الأذى في ذلك، وهجرته، وغزواته، ووفاته، وما حدث بعد وفاته، بل دراسة تاريخ العالم قبيل بَعْثته صلى الله عليه وسلم لها منَ الأهمية بمكان؛ لذا قد اهتمَّ المؤرِّخون وكتَّاب السير بهذا الجانب، وردُّوا مزاعم المفترين على رسالته - صلى الله عليه وسلم.

    وإن من الأهداف لدراسة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم التوجُّه للعمل التطبيقي لهذا الدين؛ فهو رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - وهو المثَلُ الأعلى في جميع شؤون الحياة، فهو الشاب المثالي المستقيم في حياته، وحتى قبل نبوته؛ ولذا قال: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[يونس: 16]، وهو الداعية الحكيم في أُسْلوب دعْوته، وهو الزَّوْج الأمثل في أُسرته، وهو الرئيس العادل في دولته، وهو القائد الماهر في معاركه، وهو السياسي الصادق الذي يُدير شؤون دولته، وهو المسلم الجامع لهذه الأمور وغيرها؛ فهو الصورة العلميَّة المتكامِلة لهذا الدِّين.

    ومما تفيدنا أيضًا دراسة السيرة النبوية: فَهم كتاب الله - عز وجل - لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وضَّح الكتاب العظيم، وفسَّر مجمله، وبيَّن ما يحتاج إلى بيان؛ يقول - تعالى -: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[النحل: 44].

    وفي حديثنا هذا - حديث بدء الوحي - ندرس مرحلة من مراحل حياة المصطفى r ولنستنبط منها بعض الدروس والعِبَر، فنطبقها في حياتنا؛ لنسعدَ في الدنيا والآخرة.
    أسأل الله - تعالى - أن ينفعَ بهذه الكلمات، وأن يجعلَها منَ المدخرات في الحياة وبعد الممات، حقَّق الله الآمال، وسدد الخُطى، وعلَّمنا ما ينفعنا، ونفعنا بما علَّمنا؛ إنَّه عليمٌ حكيم.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصَحْبه أجمعين.
    كتبه
    فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    ص.ب 41961 الرياض 11531
    البريد الإلكتروني: falehmalsgair@yahoo.com

    [1] رواه البخاري في الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي (6483)، ومسلم واللفظ له في الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته (2284).
    التعديل الأخير تم بواسطة *أمة الرحيم*; الساعة 20-01-2017, 09:24 PM.

  • #2
    رد: حديث بدء الوحي - وقفات وتأملات // متجدد


    وقفة حول رواية الحديث



    نص الحديث وتخريجه:



    قال الإمام البخاري - رحمه الله -:

    حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين، أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم؛ فكان لا يَرَى رؤيا إلا جاءتْ مثْل فلق الصبح، ثم حبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنَّثُ فيه - وهو التَّعبُّد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله - وَيَتَزوَّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراءٍ، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأَخَذَنِي فغطني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلتُ: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - فقال: ((زمِّلوني زمِّلوني))، فزمَّلُوه، حتى ذهب عنه الرَّوْع، فقال لخديجة، وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالتْ خديجة: كلا والله، ما يُخزيك الله أبدًا؛ إنَّك لتصل الرَّحِم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فانطلقتْ به خديجة، حتى أتتْ به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى، ابن عم خديجة، وكان امرأً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالتْ له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجك قومك! فقال رسول الله r: أَوَمُخرجيَّ هم؟! قال: نعم، لم يأت رجلٌ قط بمثْل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصُرك نصرًا مُؤزَّرًا، ثم لم ينشب ورقة أن تُوُفِّي، وفتر الوحي، قال ابن شهابٍ: وأخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن: أن جابر بن عبدالله الأنصاري قال - وهو يحدّث عن فترة الوحي فقال في حديثه -: بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء، جالس على كرسيٍّ بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ[المدثر: 1 - 5]، فحمي الوحي وتتابع.

    تابعه عبدالله بن يوسف وأبو صالح، وتابعه هلال بن رداد عن الزّهري، وقال يونس ومعمر: بوادره.
    رواه البخاري بهذا اللفظ[1]، وفي طرفه عند البخاري برقم (6982) زيادة: وفتر الوحي فترةً حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارًا، كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقًّا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك.

    ورواه مسلم[2] والترمذي بلفظ: أوّل ما ابتدأ به رسول الله r من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، ألا يرى شيئًا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فمكث على ذلك ما شاء الله أن يمكث، وحبب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو[3].

    ورواه أحمد في مسنده[4].

    * * * * * *

    [1] صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله جل ذكره: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء: 163]، وأطرافه في البخاري: (2664، 3238، 3392، 4922، 4926، 4954، 4957، 6214).


    [2] "صحيح مسلم"، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله r (160، 161).

    [3] "جامع الترمذي" كتاب المناقب، باب في ذكر الرؤيا الصادقة عند بدء النبوة (3632).

    [4] رواه أحمد في "باقي مسند المكثرين" (14615)، وفي "باقي مسند الأنصار" (2476، 25337، 25428).
    التعديل الأخير تم بواسطة *أمة الرحيم*; الساعة 20-01-2017, 09:15 PM.

    تعليق


    • #3
      رد: حديث بدء الوحي - وقفات وتأملات // متجدد


      وقفة على أحوال الناس

      قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم-
      ولد الرسول صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب في مجتمع عربي له سماته وخصائصه، وفي ذلك الوقت كان يتصدَّر الناسَ دولتان عظيمتان، تتقاسمان السيادة على العالم، وهما: دولة فارس، ودولة الروم، ولكنهما كانتا تعانيان الانحلال والاضطراب في جميع شؤون الحياة، وتسودهما صراعات دينية، وصراعات عقائدية وفلسفية، وصراعات اجتماعية.

      أما جزيرة العرب فقد كانتْ أحسن حالاً، كانتْ هادئة بعيدةً منعزلة عن مظاهر هذه الاضطرابات، وكانتْ طبائع العرَب أشبه ما تكون بمواد الخام، لكنهم كانوا يعيشون في ظلام دامسٍ، في جاهلية مبسطة في جميع مظاهر الحياة، فنجد لديهم من ظلال الجاهلية في جميع الأحوال: في الأحوال الدينيَّة، والاجتماعيَّة، والسياسيَّة، والاقتصادية، والأخلاقية.
      وأكثر العرب من ولد إسماعيل - عليه السلام - لذا كانوا يدينون بدين آبائهم إسماعيل وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - غير أنه قد دخل عليه التحريف، فكانوا يشركون بالله في العبادة، ويعبدون الأصنام، وأول من قام بهذا التخريب هو عمرو بن لحي، وفي حديث صلاة الكسوف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ورأيت فيها - أي: النار - عمرو بن لحي، وهو الذي سيب السوائب))،[1]، وأورده ابن إسحاق في "السيرة الكبرى"، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي صالح، أتم من هذا ولفظه: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: ((رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنَّه أوَّل من غيَّر دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، وبحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي)).

      وذكر ابن إسحاق: أن سبب عبادة عمرو بن لحي الأصنام أنه خرج إلى الشام، وبها يومئذٍ العماليق، وهم يعبدون الأصنام، فاستوهبهم واحدًا منها، وجاء به إلى مكة، فنصبه إلى الكعبة وهو هُبَل، وكان قبل ذلك في زمن جرهم قد فجر رجل - يقال له: أساف - بامرأةٍ - يُقال لها: نائلة - في الكعبة، فمسخهما الله - جل وعلا - حجرين، فأخذهما عمرو بن لحي فنصبهما حول الكعبة، فصار مَن يطوف يَتَمَسَّح بهما، يبدأ بأساف، ويختم بنائلة.
      وذكر محمد بن حبيب، عن ابن الكلبي: أن سبب ذلك أن عمرو بن لحي كان له تابع من الجن، يقال له: "أبو ثمامة"، فأتاه ليلة فقال: أجب أبا ثمامة، فقال: لبيك من تهامة، فقال: ادخل بلا ملامة، فقال: ايت سيف جدّة، تجد آلهة معدّة، فخذها ولا تهب، وادع إلى عبادتها تجب، قال: فتوجه إلى جدة، فوجد الأصنام التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس، وهي ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، فحملها إلى مكة، ودعا إلى عبادتها، فانتشرت بسبب ذلك عبادة الأصنام في العرب.
      وفي اليمن قد دخلت اليهودية عن طريق بعض الأحبار، والنصرانية عن طريق الحبشة، ولكنها كانتْ محرَّفة، ليستْ كما جاءت من عند الله، والمجوسية قد تسربت إلى بعض من يقطنون بجوار دولة فارس، وكان الدِّينُ السائد في الجزيرة الوثنيةَ وعبادة الأصنام.
      وإذا تأملت الحالة الاجتماعية، تجد أن العرب طبقات، طبقة من الأشراف، وطبقة من العبيد، والرجل السيد مستبد إلى حدٍّ كبير، والاختلاط كان سائدًا بين الرِّجال والنساء في كثير من الأوساط إلى حد الدعارة، والمجون، والفاحشة الظاهرة، وتُصَوِّر لنا عائشة - رضي الله عنها - بعض الصوَر الاجتماعية في صور النكاح الموجودة في الجاهلية، تقول:
      إنَّ النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:
      فنكاحٌ منها نكاح الناس اليوم؛ يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها.

      ونكاحٌ آخر: كان الرجُل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان، فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا، حتى يتبيَّن حملُها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.

      ونكاحٌ آخر يجتمع الرَّهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يُصيبها، فإذا حملت ووضعتْ، ومرَّ عليها ليال بعد أن تضعَ حملها، أرسلتْ إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبَّت باسمه، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنعَ به الرجل.
      والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن راياتٍ تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدَم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم[2].

      وكانوا يعددون في الزواج إلى غير حدٍّ ينتهي إليه، وينكحون زوجة الأب، ووأد البنات خشية العار أو الإنفاق كان سائدًا، والمرأة لا قيمة لها تباع وتشترى وتورث، والحروب مستمرَّة فيما بين القبائل، تسيل فيها الدماء، وتفنى فيها الأعمار، وكانوا يحبون القتال إلى حد أنهم كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن وقتها، فالأمنُ معدوم، والخوف على النفس والعرض والمال في كل حين.
      وإذا اتجهنا إلى الحالة الاقتصادية: تجد أن الحالة السائدة في العرب هي التجارة، وكانت لقريش رحلتان: رحلة في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، والتجارة أيضًا كانت مهدَّدة إلا في الأشهر الحرم، وكان عندهم شيء من الزراعة ورعي الأغنام، وكانت بعض النساء يشتغلن بالغزل، أما الصناعات: فالعرب كانوا أبعد الناس عنها.

      أما الحالة الأخلاقية: فتجدهم بجانب ما عندهم من الأخلاق الذميمة أفضل من غيرهم في ذلك العهد، فكان خلق الكرم سائدًا، يأتي أحدهم الضيف، وليس عنده من المال إلا الناقة التي بها معاشه وحياته، فيذبحها لضيفه، وكانوا يَتَمَسَّكون بخلق الوفاء بالعهد، وكانوا يعدون الخلف بالعهد جريمة كبرى، ومن صفاتهم الشجاعة، وشدة الغيرة، حيث إنهم يسلون السيوف لأدنى كلمة يشمون منها رائحة الذل والهوان، كما كانوا يُمتدحون بالحلم والأناة.
      هذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهي تشير إلى بعض الحكم التي من أجلها بعث النبي صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، ويضاف إلى ذلك وُجُود البيت الحرام في مكة المكرمة، وتوسط الجزيرة في الكرة الأرضية، واختار الله - سبحانه وتعالى - لغة العرب لتكون لغة كتابه الذي ينزل على نبيه صلى الله عليه وسلم لأنها أكثر اللغات جمعًا للمعاني، وأوسعها بيانًا، وأسهلها تعلُّمًا.

      في هذه الأوساط الاجتماعية والدينية والخلقية وُلد محمد صلى الله عليه وسلم وبُعث، فأنقذ الله - تعالى - به هذه الأمة، ونقلها من تلك الضلالات العقائدية والأخلاقية إلى نور الإسلام وعدله وصفائه وأخلاقه.

      * * * * *

      [1] رواه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة (1212).

      [2] رواه البخاري في النكاح، باب من قال: "لا نكاح إلا بولي" (5127).


      يتبع بإذن الله

      التعديل الأخير تم بواسطة *أمة الرحيم*; الساعة 20-01-2017, 09:10 PM.

      تعليق


      • #4
        رد: حديث بدء الوحي - وقفات وتأملات // متجدد

        وقفة على أحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل النبوة
        مولد النبي صلى الله عليه وسلم:

        ولد الرسول صلى الله عليه وسلم بشعب بني هاشم بمكة، صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول في عام الفيل، وحادث الفيل منَ النِّعَم التي امتنَّ الله بها على قريش فيما صرف عنهم أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدْم الكعبة، فأبادهم الله، وردهم بشر خيبة، وكانوا قومًا نصارى من أهل الكتاب، ولكن أرغم الله أنوفهم، وكان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه يقول: لم ننصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي - صلوات الله وسلامه عليه[1].
        الإرهاصات:
        وقد سبق مولده صلى الله عليه وسلم حوادث من باب الإرهاص والتوطئة لمبعثه صلى الله عليه وسلم من ذلك ما أشير إليه من حادث الفيل، ومن ذلك أيضًا ما قالت أمه آمنة حين تخوفت حليمة السعدية عليه، قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟ قالت: بلى، قالت: كلا، والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لبني لشأنًا، أفلا أخبرك خبره؟ قالت: بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي به قصور بصري من أرض الشام، ثم حملتْ به، فوالله ما رأيت مِن حمل قط كان أخفَّ ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يده بالأرض، رافع رأسه إلى السماء[2].
        ومن ذلك أيضًا ما ذَكَرَه الطبري والبيهقي أن أربع عشرة شرفة سقطتْ من إيوان كسرى عند مولده r وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة.
        ومن ذلك ما ذكره ابن إسحاق عن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - قال: والله إني لغلام يفعة[3] ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت؛ إذ سمعت يهوديًّا يصرخ بأعلى صوته على أطمه بيثرب: يا معشر يهود، حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك مالك؟! قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به[4].
        نسب الرسول صلى الله عليه وسلم:
        ورسولنا r مِن أزكى القبائل، وأشرف الأنساب، فما تسلسل شيء مِن أدران الجاهلية إلى نسب الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبه كما ذكر البخاري - رحمه الله -: محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان[5].
        وفي "صحيح مسلم"، عن واثلة بن الأسقع، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا مِن كنانة، واصطفى من قريشٍ بني هاشمٍ، واصطفاني من بني هاشمٍ))[6].
        نشأته صلى الله عليه وسلم:
        قد تُوفِّي أبوه وهو صلى الله عليه وسلم حمل في بطن آمنة بنت وهب، فولد يتيمًا، ثم ماتت أمه وعمره ست سنوات، فكفله جده لمدة سنتين ومات أيضًا، ثم كفله عمه أبو طالب إلى أن شب، فنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأة اليتامى.
        استرضع عبدالمطلب للنبي صلى الله عليه وسلم حليمة ابنة أبي ذؤيب من سعد بن بكر، وقد بوركت أسرة حليمة السعدية بأنواع من البركات طيلة مكوث النبي r رضيعًا فيهم، وحل هناك شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: ((نعم، أنا دعوة إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهمًا لنا، إذ أتاني رجلان، عليهما ثياب بيض بطست من ذهب، مملوءة ثلجًا، فأخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي فشقاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي بذلك الثلج حتى أنقياه))[7].



        [1] تفسير ابن كثير، سورة الفيل، بتصرف.

        [2] "سيرة ابن هشام" (1/213).

        [3] غلام يفعة: معناه: قوي قد طال قده.

        [4] "سيرة ابن هشام" (1/217).

        [5] ذكره البخاري في "صحيحه" في كتاب المناقب.

        [6] رواه مسلم في الفضائل، باب فضْل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (2277).

        [7] "سيرة ابن هشام" (1/214).



        التعديل الأخير تم بواسطة *أمة الرحيم*; الساعة 20-01-2017, 09:07 PM.

        تعليق


        • #5
          رد: حديث بدء الوحي - وقفات وتأملات // متجدد



          أشغاله صلى الله عليه وسلمقبل النبوة



          إنَّ الله - سبحانه وتعالى - قد حفظه من جميع أدران الجاهلية، وكان ذا أخلاق عالية، حتى إنَّ أهل مكة سموه الأمين، يقول ابن هشام: فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية؛ لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأكرمهم حسبًا، وأحسنهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفُحْش والأخلاق التي تدنس الرجال تنَزُّهًا وتكرُّمًا، حتى ما اسمه في قومه إلا "الأمين" لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة[1].

          وقد حماه الله - تعالى - منَ الانحرافات الخلقيَّة أو التديُّن بدين الجاهلية؛ مِن عبادة الأصنام، أو التقرُّب إليها؛ روى الحاكم والبَيْهقي والبزَّار وغيرهم عنْ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: سمعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما هممتُ بما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر، كلاهما يعصمني الله - تعالى - منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش في أعلى مكة في أغنام لأهلها ترعى: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما تسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجتُ، فلما جئت أدنى دار من دور مكة، سمعتُ غناء، وصوت دفوف وزمر، فقلتُ: ما هذا؟ قالوا: فلان تزَوَّج فلانة لرجل من قريش تزوج امرأة، فلهوت بذلك الغناء والصوت حتى غلبتني عيني، فنمتُ، فما أيقظني إلا مسّ الشمس، فرجعتُ فسمعتُ مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوتُ بما سمعت وغلبتني عيني، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعتُ إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئًا))، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فوالله ما هممتُ بعدها أبدًا بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله - تعالى - بنبوته))[2].

          وأخرج البخاري عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: لما بنيت الكعبة، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباسٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق فقال: ((إزاري إزاري))، فشد عليه إزاره[3]، فما رُؤيتْ له عورة بعد ذلك.

          وأخرج البخاري عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيدٌ: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه[4].

          ومما عمله النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة رعي الأغنام؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكة))[5]، وأيضًا قد اشتغل النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بالتجارة، وقد خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ولما بلغ من عمره الخامسة والعشرين خرج إلى الشام مرة أخرى تاجرًا في مال خديجة - رضي الله عنها - قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة، ذات شرف ومال، تستأجر الرِّجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قومًا تجارًا، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها؛ من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه؛ بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له: ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام[6].

          ولما أقبل قافلاً إلى مكة، وقد رأى ميسرة منه ما رأى من تكريم الله إياه، والأرباح المضاعَفة، حكى ذلك لخديجة - رضي الله عنها - فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض نفسها عليه ليتزوجها، وكانت - رضي الله عنها - يومئذٍ أفضل نساء مكة نسَبًا وعقلاً ومالاً، فذكر رسول الله r لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتزوَّج عليها غيرها حتى توفِّيَتْ - رضي الله عنها.

          ولما بلغ عمره خمسًا وثلاثين سنة أرادتْ قريش بناء الكعبة، وتجزأت بناء الكعبة في القبائل، ولما بلغ البنيان موضع ركن الحجر الأسود اختلفوا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى استعدوا للقتال وتحالفوا عليه، فقال أحدهم - وهو أسنّهم وأعقلهم -: يا معشر قريش، اجعلوا أول مَن يدخل من باب هذا المسجد حكَمًا يقضي بينكم، ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فطلب صلى الله عليه وسلم ثوبًا فأتوا به، فوضع صلى الله عليه وسلم الحجر عليه، وطلب مِن رؤساء القبائل أن يأخذ كل واحد منهم بناحية من الثوب، حتى إذا بلغوا إلى موضعه وضَعه هو بيده، وهكذا قد أنهى تشاجُرهم الذي قد وصل إلى التحالُف على القتال.

          ومِن إكْرام الله رسوله صلى الله عليه وسلم قبْل تشْرِيفه بالنبوة: أنَّ بعض الجمادات كانتْ تُسلِّم عليه؛ ففي "صحيح مسلم"، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف حجرًا بمكة كان يُسَلِّم عليَّ قبل أن أُبعَث، إنِّي لأعرفه الآن))[7].

          هذه بعضُ الأحْداث التي مرَّتْ على نبينا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، ولعلنا نقف مع بعضها مواقف سريعة، نستلهم منها بعض العِبَر والدروس؛ لنستفيدَ منها في واقع حياتنا العلمية؛ لأنه كما ذكَرتُ في البداية أنَّ الفائدة من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم هو تطبيقها في حياتنا وفي واقعنا.

          الدرس الأول: في نسَبه الشريف صلى الله عليه وسلم دلالة ظاهرة على سلامة أصْله، فلو لَم يكن كذلك لتَعَرَّضَتْ دعوتُه إلى الطعن فيها، ولذا لَمَّا سأل هرقل أبا سفيان عن نسبه صلى الله عليه وسلم لم يجد مفرًّا من قوله: إنه ذو نسب، فقال هرقل: كذلك الرُّسُل تُبْعَث في نسَب قومها، ولله الحكمة البالغة.

          الدرس الثاني: كونه نشأ يتيمًا فيه حكمة بالغة لا يعلم كنهها إلا الله - عز وجل - ولعل من السِّر في ذلك ما يظهر للمتأمل أنه لا يكونُ للمبطلين سبيلٌ لإدخال الرِّيبة إلى القلوب، أو إيهام الناس بأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما جاء بدَعْوى النبوة بإرشاد وتوجيه مِن أبيه وجده؛ لأنهم كانوا أشْرافًا، ومنَ الحِكَم أيضًا من كونه نشأ يتيمًا بعيدًا عن الميوعة، بعيدًا عن الترَف الذي يزيد في تنعيمه؛ حتى لا تميلَ نفسُه إلى هذا النعيم، أو إلى الترَف، أو إلى مجد المال، أو الجاه، والسلطة، ونحو ذلك.

          الدرس الثالث: في رَعْيه r للغنم كسب شريف؛ لأنه من عمل يده، وترويض له على العطف على الفقراء، واستنشاق للهواء النقي في الصحراء، وتقوية للجسم، واتباع لسنة الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وتربية على قيادة الأمة جمعاء؛ لأنَّ منَ المعروف عند أهل الرعي أن الغنم صعبة القيادة، فهنا قد هيأ الله له التربية على القيادة منذ الصغر، وفي رعيه - صلوات الله وسلامه عليه - الغنم حُكم غير هذه.
          الدرس الرابع: كونه - صلوات الله وسلامه عليه - أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، كان لِحِكَمٍ عديدة؛ أهمها: ليكون أبعد من تُهَمَة الأعداء، وشبهة المغترين أنه اغترف هذا العلم من علوم فارس والروم، أو أخذه بقراءة كتب، وغير ذلك من التُّهَم والشبهات، وقد أشار الله إلى هذه الحكمة بقوله: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ[العنكبوت: 48]، إذًا كونه نشأ أميًّا دليلٌ قوِيٌّ على صحة ما جاء به من عند الله - سبحانه وتعالى - من الوحي.

          الدرس الخامس: درْؤه للفِتَن في حال شبابه - صلوات الله وسلامه عليه - ويظهر ذلك في عدَّة مواقع؛ منها: وقت بناء الكعبة في وضْع الحجر الأسود في موضعه، وقد حضر حلف الفضول، وذلك أن قبائل من قريش تعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وفي ذلك ذكر ابن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد شهدتُ في دار عبدالله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبتُ))[8].

          الدرس السادس: إن ما جاء من حفْظ الله - سبحانه وتعالى - إياه من كلِّ شر، وخاصة ما حماه الله - سبحانه - مِن عبادة الأصنام وأخلاق الجاهلية - فيه دليلٌ على صِدْق نبوته صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان وقع في شيء من ذلك لطَعَنُوه به، وقالوا له: بالأمس كنت تفعل كذا وكذا، واليوم تنهانا عنه، لذا سأل هرقل أبا سفيان: هل كنتم تتَّهِمُونه بالكذب قبل أن يقولَ ما قال؟ قال أبو سفيان: لا، فقال هرقل: لم يكنْ ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.

          حماه الله - تعالى - عن كل ما لا يتَّفق مع مُقتضيات النبوة والدعوة، حتى لا تلمز تلك الدعوة بتلك الانْحِرافات السابقة في حياته صلى الله عليه وسلم عندما يبتدئ الدعوة، فلله الحكمة البالغة، وهكذا ينْبغي لدُعاة اليوم - وفي كلِّ يوم - أن يتخلَّقوا بالأخلاق الفاضلة، وأن ينظفِّوا سرائرهم، وبواطنهم، وظواهرهم؛ لأجل ألا يلمزوا بتلك البواطن في دعواتهم عندما يقولون كلمة حق، أو يرشدون الناس، ويوجهونهم إلى الخير أو يأمرون بالمعروف وينهون عنِ المنكر.

          هذه كانتْ وقفات سريعة مع حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، والآن لندخل في صلب الموضوع، وهو فقه حديث بدء الوحي.

          * * * * *



          [1] "سيرة ابن هشام" (1/229).

          [2] رواه الحاكم في "المستدرك" في كتاب التوبة والإنابة برقم (7619) (4/245).

          [3] رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب بنيان الكعبة (3829)، ومسلم في الحيض، باب الاعتناء بحفظ العورة (340).

          [4] رواه البخاري في مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل (3826).

          [5] رواه البخاري في الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط (2262).

          [6] "سيرة ابن هشام" (1/234، 235).

          [7] رواه مسلم في الفضائل، باب فضل نسب النبي r وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (2276).

          [8] "سيرة ابن هشام" (1/182).


          >> يتبع بإذن الله <<





          التعديل الأخير تم بواسطة *أمة الرحيم*; الساعة 20-01-2017, 09:05 PM.

          تعليق


          • #6
            رد: حديث بدء الوحي - وقفات وتأملات // متجدد



            الوقفة الأولى:
            الرؤيا الصالحة



            قالتْ عائشة - رضي الله عنها -: أول ما بدئ به رسول الله r الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يَرَى رؤيا إلا جاءتْ مثل فلق الصبح.


            قال النووي - رحمه الله -: "هذا الحديث من مراسيل الصحابة - رضي الله عنهم - فإن عائشة - رضي الله عنها - لَم تدرك هذه القضية، فتكون قد سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابي، وقد قدمنا في الفصول: أن مرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء، إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني، والله أعلم"[1].


            وقولها - رضي الله عنها -: "الرؤيا الصالحة"، وفي رواية مسلم - رحمه الله -: "الرؤيا الصادقة"، قال النووي: وهما بمعنى واحد؛ أي: ليس من أضغاث أحلام، أما حقيقة الرؤيا فقد اختلف الناس فيها ليس هذا مجال تفصيلها، ونقتصر على ما ورد في السُّنَّة؛ ففي الحديث الصحيح عن محمد بن سيرين: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وما كان من النبوة فإنه لا يكذب))، قال محمد - أي: ابن سيرين -: وأنا أقول هذه، قال: وكان يقال: الرؤيا ثلاث: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله، فمَن رأى شيئًا يكرهه، فلا يقصه على أحد، وليَقُم فليُصَل[2].


            والرؤيا الصادقة إنما ترى من كثر صدقه، وفي الحديث: ((وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا))[3]، قال ابن حجر نقلاً عن القرطبي في "المفهم": وإنما كان كذلك؛ لأن من كثر صدقه تنور قلبه، وقوي إدراكه، فانتقشت فيه المعاني على وجْه الصِّحَّة، وكذلك من كان غالب حاله الصدق في يقظته، استصحب ذلك في نومه، فلا يرى إلا صدقًا، وهذا بخلاف الكاذب والمخلط، فإنه يفسد قلبه ويظلم، فلا يرى إلا تخليطًا وأضْغاثًا، وقد يندر المنام أحيانًا، فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب الأكثر ما تقَدَّم، والله أعلم.


            ووقع في حديث عوف بن مالك رفعه: ((الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان؛ ليحزن ابن ادم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا منَ النبوة))[4]، قال ابن حجر: قلتُ: وليس الحصر مُرادًا من قوله: ((ثلاث))؛ لثبوت نوع رابع في حديث أبي هريرة في الباب، وهو حديث النفس، وليس في حديث أبي قتادة وأبي سعيد الماضيين سوى ذكر وصْف الرؤيا بأنها مكروهة ومحبوبة، أو حسنة وسيئة، وبقي نوع خامس، وهو تلاعُب الشيطان، وقد ثبت عند مسلم من حديث جابر قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رأسي قطع فأنا أتبعه، وفي لفظ: فقد خرج فاشتددت في أثره، فقال: ((لا تُخبر بتلاعب الشيطان بك في المنام))، وفي رواية له: ((إذا تلاعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يُخبر به الناس))[5]، ونوع سادس: وهو رؤيا ما يعتاده الرائي في اليقظة، كمَن كانتْ عادته أن يأكلَ في وقت فنام فيه، فرأى أنه يأكل، أو بات طافحًا من أكل أو شرب، فرأى أنه يتقيأ، وبينه وبين حديث النفس عموم وخصوص، وسابع وهو: الأضغاث.


            والرُّؤيا الصَّادقة هي بُشرى من الله؛ فعنْ سعيد بن المسيب: أنَّ أبا هريرة قال: سمعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لم يبق من النبوة إلا المبشرات))، قالوا: وما المبشرات؟ قال: ((الرؤيا الصالحة))[6].


            وهنا إشكال؛ وهو أنَّ القول بأنَّ الرؤيا الصالحة أو الصادقة جزء من النبوة، هل يستلزم بقاء النبوة واستمرارها؟ فالأمرُ ليس كذلك؛ لأنه مُجرد تشبيه الرُّؤيا بالنبوة؛ ولأن جزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصْفه له، كما لو قال أحد: أشهد أن لا إله إلا الله، رافعًا بها صوته، لا يُقال بأنه أذَّن، وإن كانتْ هذه الكلِمة جزءًا منَ الأذان، وكذا لو أنَّ أحدهم قرأ القرآن قائمًا، لا يقال بأنه صلَّى، وإن كانت القراءة جزءًا من الصلاة، كما ذكر ذلك ابن حجر - رحمه الله - وقال الخطابي: وإنما كانت جزءًا مِن أجزاء النبوة في حقِّ الأنبياء دون غيرهم، وكان الأنبياءُ - صلوات الله وسلامه عليهم - يوحى إليهم في منامهم، كما يوحى إليهم في اليقَظة، وقال: وقال بعض العلماء: معنى الحديث: أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة؛ لأنها جزء باقٍ من النبوة، والله أعلم.


            وقولها: "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءتْ مثل فلق الصبح"، قال أهلُ اللغة: فلق الصبح وفرق الصبح - بفتح الفاء واللام والراء - هو ضياؤه، وإنما يُقال هذا في الشيء الواضح البَيِّن.

            قال القاضي - رحمه الله - وغيره من العلماء: إنما ابتدئ r بالرؤيا؛ لئلا يفجأه الملَك، ويأتيه صريح النبوة بغتة، فلا يحتملها قوى البشرية، فبُدئ بأول خِصال النبوة وتباشير الكرامة مِن صِدْق الرُّؤيا، وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر، والشجر عليه بالنبوة.




            * * * * * *




            وإذا علِمْنا ذلك تعاملنا مع هذه الرؤى والأحلام بالمعاملة الشرعية، فإذا رأى الإنسان أمرًا يحبه، وظاهره خير، فليسأل عنه مَن عرف بالتعبير السليم مع الاستقامة في سلوكه، وصحة معتقده، وليحذر من سؤال الأفَّاكين والكهَّان، وقرَّاء الكف والفنجان، أو من عرف بقلة العقل، ورداءة الخُلُق، وضعْف الاستقامة.

            وإن كان ظاهرُها شرًّا، فلينفث على يساره، ويتَعَوَّذ بالله من شرِّها، ومن شر الشيطان الرجيم، ويتَحَوَّل عن جنْبه الذي كان عليه، وإن أمكن أن يُصَلِّي ركعتين فحسن، فإنها لا تضره؛ كما ثبَت ذلك في الحديث الصحيح، فعن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الرؤيا الصالحة من الله، والرؤيا السوء من الشيطان، فمَن رأى رؤيا فكره منها شيئًا، فلينفث عن يساره، وليتعوَّذ بالله من الشيطان، لا تضره، ولا يخبر بها أحدًا، فإن رأى رؤيا حسنةً، فليبشر ولا يخبر إلا من يحب))[7].


            أما أحلام التخليط، فهذه أضغاث أحلام، فعلى المسلم ألا يشتغل بها، وهنا - ونحن نختم هذه الوقْفة - نرى في هذا الزمَن انسياق كثير من الناس حول الرؤى والمنامات، بل وصل بعضهم إلى اعتقادها يقينًا، وبنوا عليها أعمالاً في واقع حياتهم وعلاقاتهم، وكذا أحكامًا شرعية، وهذا بلا شك خلاف المنهج الصحيح، وقد يزل به المرء ويهلك، فليتنبه إلى مثل هذه المواقف والأعمال، والله المستعان.

            * * * * * *





            [1] ينظر ما كتبته في ذلك عن حديث (بعث معاذ إلى اليمن) رواية ودراية، طبع دار ابن الأثير.

            [2] رواه البخاري في التعبير، باب القيد في المنام (7017)، ومسلم في الرؤيا، باب في كون الرؤيا من الله، وأنها جزء من النبوة (2263).

            [3] رواه مسلم في الرؤيا، باب في كون الرؤيا من الله، وأنها جزء من النبوة (2263).

            [4] رواه ابن ماجه في تعبير الرؤيا، باب الرؤيا ثلاث (3907)، وحسّنه ابن حجر في "الفتح".

            [5] (27).

            [6] رواه البخاري في التعبير، باب المبشرات (6990).

            [7] رواه البخاري في بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (3292)، ومسلم في الرؤيا، باب في كون الرؤيا من الله، وأنها جزء من النبوة (2261).

            تعليق


            • #7
              رد: حديث بدء الوحي - وقفات وتأملات // متجدد

              عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
              جزاكم الله خيرًا ونفع الله بكم


              تعليق


              • #8
                رد: حديث بدء الوحي - وقفات وتأملات // متجدد

                وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
                جزاكم الله خيرًا ونفع بكم

                "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                وتولني فيمن توليت"

                "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                تعليق

                يعمل...
                X