إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

جزء في الأصول لابن عقيل الحنبلي {مسألة القرآن}:

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • جزء في الأصول لابن عقيل الحنبلي {مسألة القرآن}:

    جزء في الأصول لابن عقيل الحنبلي {مسألة القرآن}:





    تأليف:
    الإِمَام الْعَلامَة أبي الْوَفَاء عَليّ بن عقيل بن مُحَمَّد ابْن عَقيل بن عبد الله الْبَغْدَادِيّ الظفري الْمُتَوفَّى سنة 513 هـ














    بسم الله الرحمان الرحيم:


    عبد مذنب ورب غفور

    أما بعد: فإن سبيل الحق قد عفت آثارها، وقواعد الدين قد انحط شعارها، والبدعة قد تضرمت نارها وظهر في الآفاق شرارها، وكتاب الله عز وجل بين العوام غرضٌ ينتصل، وعلى ألسنة الطغام بعد الاحترام يُبتذل، تضرب آياته بآياته جدالا وخصاما، وتنتهك حرمته لغوا وآثاما، قد هوّن في نفوس الجهال بأنواع المحال، حتى قيل (ليس إلا الورق والخط المستحدث المخلوق، إن سلطت عليه النار احترق، وأشكال في قرطاس قد لفقت)، إزدراءً بحرمته وهواناً بقيمته، وتطفيفا في حقوقه وجحودا لفضيلته، حتى لو كان القرآن حيا ناطقا لكان من ذلك متظلما، ومن هذه البدعة متوجعا متألما.
    ترى أليس هذا الكتاب الذي قال الله فيه: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد ٍ) وقال: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) وقال : (وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ) وقال: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) وقال: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُف الْأُولَى) وقال: (حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) ؟
    أليس الحبر والورق قبل ظهور الحروف المكتوبة ولا يمنع من مسه المحدثون، فإذا ظهرت الحروف المكتوبة صار (لّا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)؟
    أليس هذا الكتاب الذي قال فيه صاحب الشريعة تنزيها له وتبجيلا له: " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم ويهينوه "؟
    أليس الله تعالى يقول في كتابه الأول: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)؟ وقال في حق موسى : (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيْلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) أَفترى من القوة تهوينها عند المكلفين، والازدراء بها عند المتخلفين ؟ يزخرفون للعوام عبارة يتوَقَّون بها إنكارهم، ويدفنون فيها معنى لو فهمه الناس لتعجل بوارهم، وهاأنا كاشفه لكل منصف، وموضّحه لكل مستجيب لأمر الله غير متعسف متعجرف. ويقولون تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء وكتابة ومكتوب، هذه الكتابة مكتوبة فأين المكتوب؟ وهذه التلاوة مسموعة فأين المتلو؟
    وقولهم: القديم عنده بذاته، إنما هي زخارف لبسوا بها ضلالتهم، وإلا فالقرآن عندهم مخلوق لا محالة، قد انكشف للعلماء فهم هذه المقالة، يُقدّمون رِجلا نحو الاعتزال فلا يتجاسرون، ويؤخرون أخرى نحو أصحاب الحديث ليستتروا فلا يتظاهرون.
    إن قلنا لهم ما مذهبكم في القرآن؟ قالوا: قديم غير مخلوق.
    وإن قلنا لهم: فما القرآن؟ أليس هو السور المسورة والآيات المسطرة في الصحف المطهرة؟ أليس هو المحفوظ في صدور الحافظين؟ أليس هو المسموع من ألسن التالين؟
    قالوا: إنما هو حكايته وما أشرتم إليه عبارته، وأما القرآن فهو قائم في نفس الحق غير ظاهر لِإحساس الخلق.
    فانظروا معاشر المسلمين رحمكم الله إلى مقالة المعتزلة كيف جاءوا بها في صورة تنافي الصورة، واسمعوا ما أقول من افساد دعواهم و البيان عن معتقدهم في القرآن من الزيغ و الضلالة، وأنهم قائلون بخلافه لا محالة. وهاأنذا أذكر من آيات الكتاب ما يشهد بأنهم بالاعتزال الصريح قالوا، و بالقول بخلق القرآن دانوا.
    قال الله سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
    وقال: (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ).
    وقال: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).
    وقال: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ).
    فقد اجتمعت الأمة على أن قوله: (هَٰذَا ) إشارة إلى هذا المسموع بالآذان المتلو بالألسن.
    وقد قالت الاشاعرة إن هذا المشار اليه هو المخلوق، فإن القديم قائم في النفس. فقد صرحوا بخلق القرآن إذ لله صفة تسمى قرآنا عندهم، وما في ذات الله تعالى غير مشار إليه لا منزلاً ولا متلواً ولا ظاهراً لِحسّ ولا مسموعاً بأذن. فقد قالوا بخلق القرآن في المعنى، وأرْضوا العوام بأن أثبتوا في النفس شيئا سموه كلاما.
    وأيضا من الدليل، فإنهم قالوا بحدث القرآن والله يقول (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ). (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).
    أَفتراه سبحانه يقول: قل فأتوا بمثل ما في نفسي ~ مما لم يعرفوه ولم يسمعوه؟ وهل هذا إلا بمثابة قوله: قل فأتوا بمثل علمي أو بمثل عيني أو بمثل قدرتي، مما لم يدركه الاحساس و لم يظهر لادراكات النفس. فلما تحدى العرب وعجّزهم وقال ( بِمِثْلِ هَذَا)، علمنا أنه إنما أشار إلى ما سمعوه و عرفوه، وإلا فلا حجة عليهم عند عجزهم عن الاتيان بما جهلوه. و ما في نفس الله تعالى لا صلة إليه ولا وقوف عليه ولا يقدر أحد على التحدي به. قال الله سبحانه إخبارا عن بعض أنبيائه : (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ) ولم يُنكر عليه.
    فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو هذا المتلو بالألسن المحفوظ في الصدور المكتوب في المصاحف، فأما أن تشيروا إلى ما في ذاته فكلا.
    قلنا لهم : أنتم أكفر وأغلظ منكم في الاول، لأن الحكاية هي المِثال و الشبه والنظير، فإن تنصّلكم هو التشبيه، وإن ذراكم على أصحاب الحديث بالكذب والتمويه، و إذا قلتم لله تعالى في نفسه صفة نعقل حكايتها وهي تلاوتنا، ونأتي بمثلها و هي قراءتنا فقد صرحتم بأن وصف الله تحكية، ووقعتم فيما تنصلتم منه من التشبيه. ولأن هذه التلاوات لو كانت حكايات لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله تعالى، فأين عجزهم؟ و لأن كلام الله تعالى عندهم ليس بحرف ولا صوت، فكيف تكون حكايته حرفا و صوتا؟ وهل هذه الحكاية إلا بمثابة من قال (إن علومنا كعلم الله و سمعنا و بصرنا حكاية سمع الله و بصره، وإن كان سمعه ليس بحاسة و أسماعنا حاسة)، وموّهتم على الناس أنكم من أهل السنة، و ما أبعدكم من هذه التسمية مع تكذيبكم بنص القرآن.
    والله تعالى يقول : (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا). (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى).(وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا). وقلتم إن الملَك كلمه والله ألهمه وفهّمه. وقد أكذب الله تعالى من سمّى التفهيم كلاما والإفهام من النداء، وكذب من جعل كلام الملك كلاماَ له سبحانه فقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ. إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). ولم يسمّ أحدا من الأنبياء كليماً مع كونه أوحى إليهم وأرسل إليهم الملائكة، فعلمنا أن التكليم حقيقةً لم يحصل إلا لقسم منهم، وهو الذي كلمه الله لا برسول ولا وحياً مثل موسى من وراء حجاب, و نبينا (صلى الله عليه وسلم ) من وراء المعراج.
    ولأن الله سبحانه قد أفرد من أراد خطاب الملائكة عمن اختصه بالتكليم، فقال سبحانه في حق زكريا و مريم: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ). وقال في موسى: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي). (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى). (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ). وقال سبحانه (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا. وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا). وقال في حق زكريا عليه السلام: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ). فذكر الله تعالى الأنبياء الذين أوحى إليهم وألهمهم، ولم يضف إليهم التكليم ولا أحدا منهم سماه بالكليم، ثم أفرد موسى بالذكر، فدل على أن الكلام كان لموسى بخصيصة ليست إلا بنفي الوسائط، و كلامه بنفسه سبحانه أوجب له إسم كليم، و إلا فمعلوم أن كثرة هؤلاء المذكورين لم يسم أحدا كليما ولا مكلما، فانقطع عنهم موسى وأفرده باسم المكالمة منهم، وهذا يدل ذوي العقول إلى حجة أولا .. على تمييزه منهم بميزة هي المواجهة و المكافحة من غير واسطة.
    وقال في حق سليمان لما أراد أن يفهّمه: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ). ففرق بين التفهيم والتكليم. فمن سمى التفهيم تكليما فقد وضع لنفسه بدعة و لغة.
    وزعمتم أن غير الله يقول لموسى: (إِنَّنِي أَنَا الله). وموسى يقول لغير الله (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). و يقال لغيره (تُبْتُ إِلَيْكَ). وتجلى غير الله للجبل فجعله دكا. أترى الملائكة يتجلون للجبال على استمرار الزمن فلا تندك و لا تنهد؟ أوليس الأنبياء يسمعون كلام الملائكة فلا يصعقون و لا يفرقون؟
    وزعم أهل الزيغ و البدع أن الذي سمعه نبينا عليه السلام ليلة المعراج كلام الملَك. أترى أي الملائكة كلمه؟ وهذا جبريل يتقاصر خطوه عن مقام نبينا عليه السلام لقوله: (وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ). و انقطع جبريل حيث انقطع، و نبينا عليه السلام يقول: هذا مقام يفارق الخليل خليله، ثم زج بالنبي عليه السلام حيث لا ملك ولا واسطة، فقال بعد ذلك: فسمعت الحق يقول: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ). وفي حديث آخر: (فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟) وفي حديث آخر: ( فألهمني الله عز وجل أن قلت: التحيات لله). ففرّق بين كلام جبريل ومقامه وبين كلام الحق سبحانه.
    وزعمتم أن الله تعالى قد أرسل إليه بالملك فكلّمه فقد كلّمه الله تعالى، والله قد أكذبكم في نص كتابه فقال في حق الكفار: (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). و معلوم أنه إنما نفى عنهم كلامه بنفسه، فأما الملائكة فإنه قد أخبر عنهم أنها تكلمهم، قال الله سبحانه: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ)، و قال: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)، وقال: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا). فدل على أنه لا يكون مكلماً من كلمته الملائكة، ونفى عنهم كلامه، والذي نفى عنهم هو كلامُه بنفسه على الوجه الذي كلّم به موسى.
    ومما خالف به السنةَ أهلُ الزيغ والبدع أنه ورد في الاخبار: ( أن الجبار جل جلاله إذا مات الخلق دحا السماوات و الارض ونادى: أين الجبارو ؟ لمن الملك اليوم؟ فيجيب نفسه: لله الواحد القهار). أين هم لما قالوا في كلامه لموسى و غيره بأنه كلام الملك؟ ففي ذلك الوقت حيث لم تبق عين تطرف ولا لسان ينطق، من القائل: أنا الملِك لمن الملك اليوم؟
    وقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ). فأثبت لنفسه كلمات منفردات غير متناهية الاعداد.
    وقال سبحانه : (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً). فأثبت لنفسه كلمات.
    وقالت الاشاعرة: إنه شيء واحد. فيكون على زعمهم قوله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى) هو قوله: ( أَقِمِ الصَّلَاةَ). و معلوم أن تغاير ما بين الأمر والنهي و الوعد و الوعيد لا يزيد على معاني ما بين حرف وحرف. وقال سبحانه: (الم . ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ). وقال: (بَلْ هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم). وقال: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). وقال: (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ). وقالت الاشاعرة: ليس هو آيات ولا سور مفصلات.
    وقال سبحانه: ( الم . ذَٰلِكَ الْكِتَابُ). وقال تعالى: (حم ). (طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ). وقد ذكر حروفا وآيات وكنى بها عن الكتاب. و قالت الاشاعرة: ليس بحروف ولا أصوات .
    وقال الله سبحانه في الأنبياء: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ). و قالت الاشاعرة: كلهم كلّمهم. ~على قولهم بأن الوحي هو الكلام.
    وقال الله سبحانه: (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ). وقال سبحانه: (وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي). وقال سبحانه: (قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ). وقال سبحانه: (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ). وقال الله سبحانه: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). وقالت الاشاعرة : لا قول له ولا هو ممن يقول، وإنما كلامه كالفكر والحفظ أو الخاطر أو العلم والارادة التي تقوم بالنفس ولا تظهر للحس.
    وهذا هو الكفر وتكذيب القرآن عافانا الله.
    وقال النبي (صلى الله عليه وسلم ): (إذا كان يوم القيامة نادى الله بصوت فيسمعه أقصاكم كما يسمه أدناكم : أنا الملك أنا الديان وعزتي و جلالي لأسألن القرناء لم نطحت الجماء). وقالت الاشاعرة: لا صوت له .
    وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيما رواه البخاري في صحيحه عن جبريل عليه السلام: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوت كجر السلسلة على صفوان فتخر الملائكة للاذقان سجدا حتى إذا فزع عن قلوبهم قالت ملائكة كل سماء: ماذا قال ربكم؟ فيقول قال: الحق كذا). وقالت الاشاعرة: لا صوت لكلام الله ولا حرف.
    وتشغب على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (كجر السلسلة على الصفا) كيف يشبه القديم بالمحدث؟ و لم يشنعوا عليه حيث قال: (ترون ربكم كما ترون القمر). كان أوجب ذكر القمر تشبيها للكلام به. لم يبق إلا تشبيه الرؤيا بالرؤيا و السماع بالسماع لا المرئي و لا المسموع.
    وقال الله سبحانه لنبيه: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا). وقالت الاشاعرة: ما ألقي عليه إلا قول الملك.
    وقال الله سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآَناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) تقديره: لكان هذا القرآن. وقالت الاشاعرة: ليس الكلام تسير به الجبال ولا تقطع به الارض لأنه قائم في نفس الحق.
    وقال سبحانه: (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ). وقالت الاشاعرة : إنه لا يجوز عليه النزول.
    وقال الله سبحانه: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ). وقال الله سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ). وقال الله سبحانه: ( وَنُنَزِّل مِنْ الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ). و قال الله سبحانه: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ). وقالت الاشاعرة: كلام الله لا ينزل، ولا ينزل إلا حكايته أو عبارته أو كلام الملك.
    وقال الله سبحانه: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ). وقال الله سبحانه: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا). وقال الله سبحانه: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا).
    وقال الله سبحانه: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ). وقال الله سبحانه: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ). فأثبت لنفسه كلاما مسموعا. وقالت الاشاعرة : ليس المسموع كلام الله ولا هو القرآن. وزعمت الاشاعرة أن المسموع مخلوق وليس المسموع إلا القرآن، وليس هو القرآن المسموع.
    قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (لاتسافروا بالقرآن إلى أرض العدو). وقال علي (عليه السلام): (والله ما حكّمت مخلوقا وإنما حكّمت القرآن) وإنما أشار إلى هذا المسموع. وقالت الاشاعرة: لا يصح أن يحكم بالقرآن ولا يسافر به.
    وأجمع المسلمون أن من حلف بالله لا سمعت كلام الله وسمع القرآن كان حانثا في يمينه.
    وأجمع أهل اللغة أن الكلام ثلاثة أشياء: إسم وفعل وحرف. وقالت الاشاعرة: ليس سوى القائم في النفس .
    وقال الله تعالى إخبارا عن مريم أنها قالت: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا). فنفت الكلام. وقالت الاشاعرة: إنها كانت تتكلم بما كان في نفسها يتردد من حور الكلام.
    وقال الله تعالى في حق زكريا: (آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ). فنفى عنه الكلام لانتفاء الحروف و الاصوات. وقالت الاشاعرة: هو متكلم بما كان في نفسه ولم ينف الكلام بإمساكه .
    فقد خالفت الاشاعرة كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الفقهاء وأهل اللغة، فافهموا ذلك رحمكم الله وتدبروه، واجتنبوا مقالتهم، واحذروا بدعتهم وضلالهم، تسلموا من خدعهم، وأخبروا المسلمين مقالتهم واعتقادهم الفاسد. والله ولي معونته وهو حسبنا ونعم الوكيل. تمت المقالة.

    فصل:
    وأما دعوى الاشاعرة موافقة أحمد بن حنبل رضي الله عنه فباطل. أين هم عن قول أحمد رضي الله عنه: (من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر)؟
    قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي: تكلم الله بصوت. وقال: لا ينكر هذا إلا الجهمية.
    وقال عبد الله: سألت أبي عن رجل قال: التلاوة مخلوقة والقرآن غير مخلوق. فقال: هذا كافر، وهذا فوق المبتدع، وهذا كلام الجهمية ومن وافقهم.
    وقال أيضا فيما رواه عنه صالح ابنه وابن عمه حنبل: قال الله تبارك وتعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ). فجبريل سمعه من الله والنبي سمعه من جبريل وسمعه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم.
    وقال إمامنا أحمد لأبي أحمد الأسدي: يوجه القرآن على خمس جهات: حفظ بالقلب وتلاوة باللسان وسمع بأذن وبصر بعين وخط بيد. ~قال أبو أحمد الاسدي~ فأشكل علي قوله وبقيت متحيرا في ذلك. فقال لي ما حالك؟ القلب مخلوق و المحفوظ به غير مخلوق. واللسان مخلوق و المتلو به غير مخلوق. والاذن مخلوقة والمسموع اليها غير مخلوق. واليد مخلوقة و المخطوط بها غير مخلوق. والعين مخلوقة والمنظور اليها غير مخلوق. قال: فقلت: يا أبا عبد الله، العين تنظر الى السواد و الورق. فقال لي: مه. أصح شيء في هذا حديث ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسافروا بالقرآن الى أرض العدو) ولم يذكر حبرا ولا ورقا. وهل نهاهم إلا عن الحروف المضمنة فيه ؟
    والاشاعرة تقول: إن جبريل لم يسمع كلام الله من الله. و القراءة عندهم والتلاوة و الكتابة مخلوقة، و القرآن صفة قائمة في نفس المتكلم لا تظهر لاحساس المكلفين، وانما الحروف والاصوات حكايتها.
    واعتمدوا على نفي الحروف والأصوات بأن الحروف متغايرة مختلفة: الألف غير الجيم والميم غير الغين، و القديم لا يتغير ولا يختلف لانه ذات واحدة، ولأن الاصوات تحتاج الى اصطكاك أجرام، والحروف تحتاج إلى مخارج مخصوصة من مجوفات الاجسام، و الباري تعالى ليس بجسم ولا ذي آلات ولهوات، فبطل أن يكون الكلام الا وصفا قائما بنفس المتكلم .
    وهذا باطل والجواب عنه من وجوه:
    أحدها: من حيث اللغة. والثاني: القرآن المرتب بظهوره على اللغة. والثالث: السنة. والرابع: أدلة العقول.

    أما طريق اللغة: فإنه إجماع أهل اللسان على أن الممسك عن الحروف والاصوات من غير آفة ساكتٌ وإن كان يمكن أن يكون متفكرا. فلو كان الكلام هو لتصوير في النفس لكان المتفكر أحق بإسم المتكلم من الذي تظهر منه الحروف والاصوات، ولوجب ألا يسمى القارئ غير المتفكر فيما يقوله متكلما، ولوجب ان يكون المعتبر متكلما لانه على أصلهم متكلم، وسقط عنه تسمية الاعتبار والتفكر وإن لم يبد منه النطق وإنما قام فيه فكر في النفس.
    وأجمع فقهاء شريعة الاسلام على ان من حلف لا يتكلم فتفكر لم يحنث. وبخلاف هذا من ظهرت منه الحروف والاصوات سمي متكلما وان لم يكن له فكر ولا تزوير ولا اعتبار. ولهذا سمى الله الأيدي والأرجل متكلمة بقوله: (وَتُكَلِّمنَا أَيْدِيهمْ) لكونها تنطق بالشهادة عليهم و ان لم يوجد منها فكر ولم يكن لها نفس يقوم بها الكلام الذي يشير إليه الاشاعرة.
    ولهذا قال الله عز وجل: ( وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). ولا يخلو أنه عز وجل يريد ألاّ يسمعهم صوته .. لا جائز أن يريد ألاّ يكون في نفسه كلام لهم، لأن عند الاشعري أن كلام الله الذي هو وعيد الكفار وامرهم ونهيهم هو قائم في نفسه اليوم ويوم القيامة وكل يوم من ايام الابد لا يزول عنه. لم يبق إلا أنه أراد ألاّ يسمعهم صوته. فثبت أن كلامه تعالى هو الصوت المسموع بالمعاني المخصوصة ليقع به الفهم. فهذا دليل اللغة.
    وأما دليل الكتاب: فقوله تعالى: (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) فسمى الذي سمع من القارئ كلاما له. وعند الاشعري أن المسموع ليس بكلام وإنما الكلام هو المعنى القائم بالنفس. وهذا خلاف ظاهر لنصه سبحانه وتعالى.
    وقال تعالى; (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى). وقال: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) إلى قوله (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ) فقرن النداء بالسمع. ومعلوم أن السمع لا يحله شيء سوى الصوت سيما وقد قرن به النداء، و النداء لا يكون إلا صوتا. ولقد وردت به السنن والآثار أكثر من أن تحصى، منه ما روي أنه نادى عليه السلام بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار)، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم: (رفع صوته بالتلبية)، وأشباه ذلك كثير.
    وفي سياق الآية ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ). ولا يقول غير الله أَنَا اللَّهُ إلا ويكون كاذبا. كيف وقد خص الله ذلك بقوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ)؟ وقد عنَّف نبيا من أنبيائه بقوله: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ).
    وقال سبحانه وتعالى: (طسم . تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ). فذكر جل جلاله حروفا وكنى عنها بأنها آيات الكتاب.
    وأما من جهة السنة: فما رواه البخاري في كتابه الصحيح عن عبد الله بن أنيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الله العباد حفاة عراة ُ: " يَحْشُرُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ قَالَ: الْعِبَادَ عُرَاةً، غُرْلا، بُهْمًا، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ مِنْهُمْ ، كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ : أَنَا الْمَلِكُ ، أَنَا الدَّيَّانُ) وذكر عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إقرأوا القرآن تؤجرون عليه بكل حرف منه عشر حسنات) إلى آخر الحديث.
    وكذلك خرّج البخاري في كتابه الصحيح حديث عبد الله بن عمر (لا تسافروا بالقرآن الى أرض العدو) وكذلك خرجه مسلم، وما منع السفر به إلا الحروف المكتوبة .
    وأما من حيث المعقول: فإن ما ليس بحرف ولا صوت وإنما هو في النفس فقد انفرد بتسميته في الشاهد، وهو كونه فكراً ووسوسة وخاطرا وغير ذلك مما يهجس في النفس، ولأنه يستغنى بإرادة الأحداث للأصوات المضمنة الأمر والنهي عن الكلام القائم في النفس، فإن الذي نشير إليه هو هذه الحروف المخصوصة و الاصوات المسموعة المتضمنة المعاني المفيدة، فلا معنى لتسمية الشيء الواحد بإسميْن وقد يوجد الاجتزاء باحدهما عن الاخر.
    وأما ما ذكروه من أن الحروف تتغاير وتختلف فذلك يوجب حدوثها، يبطل على الأشاعرة بنفس الكلام لكونه أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا. وليس الأمر هو النهي بل هو ضده، لأن الأمر استدعاء الفعل، والنهي استدعاء الترك.
    فما هربت منه الأشاعرة وقعت فيه، لأنها هربت من إثبات الحروف خوف التغاير، ووقعت في تغاير الكلام بكونه خبرا و استخبارا وأمرا ونهيا ووعدا ووعيدا. فإن كابرت الأشاعرة وقالت (ليس الأمر غير النهي) ساغ أن يقال لهم (إن الألف ليس غير الجيم). وهذا ركوب الجهالات.
    ولأن الأشاعرة فد أثبتت الصفات من العلم و القدرة والحياة والارادة والكلام و الوجه واليدين والسمع والبصر، وكل واحد من هذه الصفات ليس هو الآخر، ولم يدخل فيه التغاير والاختلاف، كذلك هاهنا.
    وأما قول الأشاعرة إن إنكارنا الحروف و الاصوات خوفا أن يؤدي إلى إثبات الجسم و الأدوات و المخارج المخصوصات وذلك مستحيل على القديم واستحال ما لا يحتاج إليه إثباته، فغلط .لأنه قد لزم الأشعري مثل هذا في إثبات قائم بالنفس. فإن ما يكون في أنفسنا نحن إنما هو محتاج إلى محل يقوم به من آلات تخيل وفكر، وهو القلب والرأس والشيء المخصوص الذي يتعاهد على إحداث الفكر فإذا أثبته في النفس ولم يخرج الى آلات التفكر في حقنا و ما يقوم بأنفسنا، هذا ما نثبته كلاما على حد ما نعقله لا بالآلات و أدوات، ولا انفصال عن هذا إلا إلى الهوس والهذيان والتدليس على من يعجز عن إقامة البرهان. والله الموفق للصواب.

    فصل :
    قالت الأشاعرة بالتهجم على تأويل المتشابه وصرف الأحاديث عن ظاهرها بالرأي وحكم العقل خلاف الشرع. وذلك خطر عظيم و غرر جسيم وإثم موبق ودخول في من قال الله عز وجل في حقه: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ).
    فمذهب السلف وأئمة الخلف الإيمان بالأسماء و الصفات توقيفاً لا يخرج عن ظاهرها إلى تأويل دليل العقول و شواهد النظر، و لا يقومون بتفتيش صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله وتلقتها الصحابة و القرابة بالإيمان بها و التسليم لها من غير رد و لا تأويل لها كما ابتدعته الأشاعرة والكلابية ومن وافقهما من المبتدعة. و قد علموا بأن النقل لما وصل إليهم أنه سئل عليه السلام عن الروح أهو شيء مخلوق يناله الحدوث؟ قال الله له: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) فلما شذَّ عنهم علم باب صفة الروح من أوصافنا، فبأن نمنع من تفتيش وصفه أولى وأحرى. فوجب أن نتلقاه تسليما، ولا نكيّف فنقول ما اليدان وما النفس وما المجيء وما الإتيان وما الوجه وما السمع وما البصر وما النزول وما الضحك؟ وجميع الصفات التي نقلها الثقات والأئمة الأثبات. فيكون سؤالنا عن أوصافه بعد كتمه هذا وصفا من أوصافنا غباوة وجهلا. بل نقول كما قال و نمسك عما وراء ذلك.
    ولو قدمنا على أخذها بقياس أفعالنا جاء من هذا الكفر المحض. فإن من بنى فأتقن ثم هدم، وجمع ثم فرّق، وأمكن من مخالفته فأنظر إبليس مع علمه بأن إنظاره يعود بفساد أكثر خلقه و مخالفة أكثر أوامره. وهذا جميعه في الواحد منّا سفه وهو جل وعز منه حكمة. فإذا كانت أفعاله كذا لا يقوم لها تأويل ولا يصح في العقل لها تعطيل، كان غاية أمرنا التسليم، فأوصافه أولى لأن مفعولاته مخلوقة وأوصافه قديمة.
    ولأن الأشاعرة لا تخلو أن تكون صدقت النقلة فيما روته من أخبار الصفات أو كذبت.
    فإن كانت صدقت: وجب المصير إلى ما قالته و نقلته و ترك تأويله وإمراره كما جاء على ما جاء من ظاهره.
    وإن كانت كذبت: وجب ترك ما قالت ولم يجب تأويله.
    ووجدنا رواة أخبار الصفات أئمة المسلمين و صدورهم و المرجوع إليهم في الفتاوى، كسفيان الثوري، ومالك بن أنس، و الحمادين، وسفيان بن عيينة، و الأوزاعي، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، و الشافعي، و يحي بن معين، وأبي عبيد بن سلام، والحميدي، وأبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبي داود السجستاني، والبخاري، ومسلم، ومحمد بن يحي الذهلي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبي زرعة الدمشقي، وأبي عبد الرحمان النسائي، وأبي عيسى الترمذي، وإبراهيم الحربي، وعثمان الدرامي، والمروذي، والأثرم، وأبي بكر بن أبي عاصم، وابن خزيمة، وعبد الله بن أبي داود، وعبد الرحمان بن أبي حاتم، وأبي بكر الأنباري، وأبي سليمان البستي، والدارقطني، وعبد الله الطبري، وغير هؤلاء من الحفاظ الأثبات، هم والله سرج البلاد و نور العباد، فغير جائز أن يكون خبرهم إلا صحيحا.
    وقد ذكرأبو بكر بن الأنباري عن عبد الله بن مسعود وابن عباس قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) قالوا كلهم بأجمعم: الواو للإستئناف و ليست عاطفة. وكذلك قال الفراء وأبو عبيد.
    وذكر أبو سليمان البستي أن الوقف التام في هذه الآية عند قوله: ( إِلاَّ اللَّهُ) وما بعده استئناف. وحكى في ذلك قول ابن مسعود وابن عباس وعائشة.
    وقال إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت.
    وقال أيضا: قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان.
    وقال: خلق آدم على صورته وخلق آدم بيده. كل ذلك نقول به لورود الحديث به.
    وقال أيضا في الأحاديث التي تروي أن الله ينزل إلى السماء الدنيا، وإن الله يضع قدمه في النار، وما أشبه ذلك: نؤمن به ونصدّق به ولا كيف ولا معنى، ولا نردّ شيئا منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح.
    وقال أيضا: يضحك الله، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول.
    وقال أيضا: إن المشبّهة تقول: يدٌ كيدي وقدمٌ كقدمي، ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه.
    وقال أيضا: من قال إن الله خلق آدم على صورته على صورة آدم، فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه!؟
    وقال إسحاق بن راهويه: قد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة الرحمان، وإنما علينا أن ننطق به.
    وقال ابن قتيبة: إن الذي عندي والله أعلم، أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والسمع والبصر والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لها لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأتنا في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع.
    وذكر أبو عيسى الترمذي في كتابه: (و قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة منها رؤية الرب يوم القيامة وذكر القدم و ما أشبه هذه الأشياء. والمذهب في هذا كله عند أهل العلم مثل سفيان و مالك و ابن المبارك ووكيع و ابن عيينة و غيرهم أنهم قالوا: أمِّروها و لا تقولوا كيف؟ و هذا أمر أهل العلم الذي اختاروه و ذهبوا إليه). وبالله التوفيق.
    والحمد لله على فضله و أياديه أولاً وآخراً. و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليماً كثيراً.

    بسم الله الرحمان الرحيم

    عبد مذنب ورب غفور
    لله الكلمة الأزلية

    إعلم وفقك الله وهداك، أن من جملة ما ذهبت إليه الأشاعرة واستدلوا على صحته بما رمزوا: من ذلك نفيهم حقائق القرآن، وقولهم إنه مجاز.
    وإنما ذهبوا الى ذلك لأنهم قالوا: (إن الله تعالى لم يكلم موسى، وإنما اضطره الى معرفة المعنى القائم بالذات من غير أن يسمع صوتا أو يفهم حرفا).
    وبنوا على ذلك أصلهم في حد الكلام، وأنه المعنى القائم بالذات، وأن كل ما يقرأ و يتلى إنما هو عبارة عما لم يفارق الذات، وهو المعنى القائم في النفس، وأنه لا يدرك بشيء من الحواس بحال.
    وفرعوا على هذا الأصل فروعاً. وأنا أذكر منها ما علمته ببطلان كلامهم إن شاء الله.
    فمن ذلك: أن قالوا: إن كلام الله تعالى لا يسمع منه ولا يتكلم به غيره، وإن الله تعالى يتكلم بلا حرف ولا صوت، وإنه لا يجوز أن يقال: إنه تكلم أو خاطب أو قرأ أو لفظ. ومن قال ذلك عندهم فقد كفر.
    ومن فروعهم الفاسدة وأقوالهم الباطلة أن منعوا نزول القرآن جملة واحدة من غير تفصيل، وأن القراءة والتلاوة والأصوات والحروف عندهم مخلوقة، وزعموا بعقلهم الفاسد أن المفهوم من ذلك غير مخلوق، وأن المقروء و المتلو والمسموع و المكتوب غير مخلوق. وهذا من رموزهم أيضا التي أحادوا بها العامة و أضلوا بها الأمة.
    وإني أبيْن جميع قولهم إن شاء الله، وأذكر ما استدلوا به وأجيب عنه بما أمكنني وحضرني مما وفقني الله سبحانه.
    فأما نفيهم للحقائق: فاستدلوا على ذلك بأن قالوا: ( إذا ثبت أن حد الكلام هو القائم بالذات، وأن الكلام صفة للذات، وقد ثبت أن الصفة لا تفارق الموصوف، وأن الموصوف لا سبيل إلى تكييفه وحدّه، وأنه لا يتقسم ولا يتبعض، ولا يحويه مكان، عُلمَ أن كلامه بيننا مجاز لا حقيقة. لأننا لو حققنا وجوده بيننا كنا قد حكمنا بأن الصفة تفارق الموصوف ويحويها المكان، وذلك لا يجوز. فلم يبق إلا أن كلام الله سبحانه لا حقيقة له بيننا، وإنما بيننا العبارة عنه. الدليل على ذلك أن كلام الله تعالى لا يتغير ولا يدخله اللحن ولا يقع عليه المدح والذم، وكل ذلك يدخل على عبارتنا، فثبت ما قلنا).
    والجواب على ما استدلوه من وجوه :
    أحدها: أنهم حدوا كلام الله سبحانه بما حدوا به كلام المخلوقين، وقد أثبتوا أن الباري عز وجل لا يحد ولا يكيف، فبأن لا يحد كلامه أحرى وأولى. ولما جاز أن يحد المخلوقون جاز أن يحد كلامهم. وخلافنا ليس في كلام المخلوقين وإنما هو في كلام الخالق، فبطل تحديد كلامه بما حدوه به.
    والوجه الثاني من وجوه المنع للحد، هو: أنه إذا حد الكلام بأنه هو المعنى القائم في النفس، كان محدودا مدخولا بالفكر والمفهوم والمقروء والمتلو والمسموع والرمز والإشارة، ومعلوم أن الاشتراك في الحد لا يجوز، فبطل ما قالوه.
    والثالث من وجوه المنع للحد هو: أن الحد من شرطه الطرد والعكس لئلا يتبعض الحد، وإذا كان حد الكلام: المعنى القائم بالنفس، فيجب أن يكون حد المعنى القائم بالنفس: الكلام. فيكون الكلام هو الحد وهو المحدود، وهذا بخلاف الأصول. لأن الحد عندنا: إنما هو بعض المحدود، ولا يجوز أن يكون الكل، فبطل ما أصّلوه واعتمدوه. ويجب أن يقال : كل ما في النفس كلام، ويقال: كل الكلام ما في النفس. فيؤدي هذا إلى أن الكلام لا يسمع بحال، وهذا باطل.
    والرابع من وجوه المنع للحد هو: أن الحد إذا كان هو المعنى القائم بالنفس من غير نطق، فما الفرق بين الساكت و المتكلم؟ ولأي فائدة وضع أهل اللسان صفة السكوت إذا كان يعد متكلما لأجل أن في نفسه كلاما، وقد يكون في نفس الساكت كلام أيضا، وما حد السكوت عندهم؟ وليس عن شيء مما ذكرناه انفصال بحال.
    وأما الثاني من وجوه الجواب عن الاستدلال على نفي حقيقة القرآن بيننا:
    هو أنا اتفقنا على أن حد الحقيقة استعمال الشيء فيما وُضع له، وحد المجاز استعمال الشيء فيما وُضع لغيره.
    فمثال الحقيقة: الله ربنا، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبينا، و الكعبة قبلتنا.
    ومثال المجاز: تسميتنا للجد أباً، وللرجل القوي أسدا المعنى من الشبه.
    وقد اتفقنا أن الحقيقة لا تنتفي، والمجاز هو الذي ينتفي. فيقول القائل: لي جد و ليس لي أب، فلو كان الجد أبا على الحقيقة لم ينتف عنه اسم الأب. وكذلك يقول القائل: رأيت رجلا ولم أر أسدا، فلو كان الرجل أسدا على الحقيقة، لم ينتف عنه إسم الأسد. ثم اتفقنا على أنا نقول: كلام الله تعالى على الحقيقة مقروء بألسنتنا، على الحقيقة متلو في محاريبنا، على الحقيقة مفهوم بقلوبنا، على الحقيقة محفوظ في صدورنا، على الحقيقة مسموع بآذاننا، على الحقيقة مكتوب في مصاحفنا، غير حالّ في شيء من ذلك، ولاينفصل عن ربنا عز وجل، ولو كان ما بيننا مجازا لم يثبت به اسم الحقيقة لما ذكرناه، لأن المجاز لا يعبّر عنه بالحقيقة.
    فإن قيل: لا نُسلّم، بل يُعبّر عندنا بالحقيقة عن المجاز، وذلك أن الغايط وهو المكان المطمئن من الأرض ينقله الاستعمال من الحقيقة الى المجاز، فصار ذلك المجاز حقيقة، فيقول القائل: جئت من الغائط، وحقيقته المكان المطمئن من الأرض، وإخباره حال عن الحدث، فيُعبّر بالحقيقة عن المجاز. وكذلك الوضوء والصلاة و الزكاة يُعبّر فيها بالحقيقة عن المجاز، وكذلك نحن عبرنا فيما ذكرناه بالحقيقة عن المجاز لكثرة الاستعمال.
    فالجواب هو: أن هذا الكلام غير صحيح لوجوه:
    أحدها: أن اتفاقنا على أن الحقيقة لا تنتفي بحال، ومما يدل على بطلان هذا السؤال: هو أن القائل قد يقول: جئت من الغائط ولم أحدث، ومن الفلاحة وغيرها، ويقول: حثيت من الزكاة ولم أزك، وكان قد يجد ويقول: كتبت ولم أكتبه، وكنت أسمع القرآن ولم أسمعه، وفهمت القرآن لأصلي ولم أصل، وكان يدعو، أو يصلي على النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويقول كنت أتوضأ ولم أتوضأ، وكان يغسل يده من الغمر. ولا يصح منه أن يقول: كنت أقرأ القرآن ولم أقرأه، وكنت أتلو القرآن ولم أتله، وكنت أكتب القرآن بقلمي ولم أفهمه، وحفظت القرآن في صدري ولم أحفظه. وهذا كلام لا يذهب إليه ولا يعول عليه إلا من عدم التحصيل وطلب التعطيل.
    والثالث من وجوه الجواب عن الاستدلال عن نفي حقيقة القرآن بيننا:
    هو قولهم إن الموصوف وهو الباري سبحانه لا يكيف ولا يحد، وأن الصفة لا تفارق الموصوف. نقول لهم وعليه نناظر، لأنا لا ندعي أن القرآن فارق ربنا عز وجل، سبحانه وتعالى عن ذلك، وإنما نقول إنه نور يفرقه الله تعالى في قلوبنا، وتنطق به ألسنتنا، وتسمع به أسماعنا، ونكتبه في مصاحفنا، غير حالّ في شيء مما ذكرناه.
    قال الله عز وجل: (بَلْ هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم).
    وقال عز وجل: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) والهاء راجعة الى القرآن، لأنه لا شيء يحرك به لسانه إلا القرآن، لقوله تعالى ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)، ولو كان القرآن هو القائم بالذات، لكان قوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ) مستحيلا، لأنه نهي لا معنى له، لأن تحريك اللسان بما في الذات معدوم.
    و قال الله عز وجل: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) فالهاء راجعة الى الوحي، والوحي راجع الى النطق.
    وقال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ )، ولا يسمع إلا القرآن ولا ينصت إلا له.
    وقال تعالى: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ).
    وقال تعالى: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ).
    فإن قيل: كيف يكون القرآن بما ذكرتم غير حال؟
    قيل: يلزمكم هذا مثل ما يلزمنا، لأنكم أثبتم المقروء والمتلو والمكتوب والمفهوم بيننا، ولم تسألوا كيف أثبتّموه حالّ أو غير حالّ.
    فإن قيل: نحن إنما أثبتناه مجازا لا حقيقة، وأنتم أثبتموه حقيقة لا مجازا.
    قيل: فما فائدة ذكركم للحقيقة وقد أبطلنا عبارتكم بها عن المجاز؟
    ثم نقول: إذا نظر أحدكم في الماء وفي المرآة وفي الجسم الصافي الصقيل، هل هي -أي صورة الرائي- هو، أم هي غيره؟ وهل هي صفة الناظر أو صفة غيره؟
    فإن قالوا: هي صفته، أخطأوا، لأنهما مفترقتان رأي العين.
    وإن قالوا: لا نثبت أن الصفة ترى في غير محل الموصوف عن غير انتقال ولا طول.
    وإن قالوا: ليس هي صفة الناظر أخطأوا، لأنها توجد وتعدم بعدمه، ولا تخالف صفته، فبطل ما قالوه .
    وإن قالوا: ليست هي هو، ولا هي غيره .
    قلنا لهم: فما هذا المرئي فيهما؟ وليس عن هذا انفصال بحال.
    ثم نقول لهم: أخبرونا عن شعاع الشمس إذا حل على الجدار واكتست منه الدنيا، هل انفصل ذلك الشعاع منها، أم هو متصل بها؟
    فإن قالوا: انفصل منها، أخطأوا.
    وإن قالوا: متصل بها: قيل لهم: فهل هو منفصل من الأرض؟
    فإن قالوا: نعم، أخطأوا، لأنه موجود رأي العين.
    وإن قالوا: لا. قيل لهم: فهل هو صفة للشمس أم للدنيا؟ فإنه متصل بهما جميعا.
    فإن قالوا: هو صفة للشمس. قيل لهم: فقد فارقت الصفة الموصوف من غير انفصال ولا حلول.
    فكذلك نحن نقول: إن القرآن هو حبل ممدود بين الله وبين خلقه، غير منفصل من الله تعالى، ولا حالّ في خلقه، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم ): (القرآن حبل الله المتين طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ) والحبل هو السبب، والسبب هو الحبل.
    والرابع من وجوه الجواب على نفي حقيقة القرآن بيننا:
    هو أن ذكرهم المكان لامعنى له، لأن المجاز لا يستغني عن المكان، كما أن الحقيقة لا تستغني عن مكان، والذي يلزمنا من ذلك يلزمكم مثله.
    ثم نقول لهم: أخبرونا عن الباري سبحانه، هل هو معنا أو بيننا؟
    فإن قالوا: لا، كفروا، لأنهم نفوا آية من القرآن، ومن نفى آية من القرآن فقد كفر.
    وإن قالوا: نعم، طالبناهم بالمكان. ليس عن هذا انفصال بحال.
    والخامس من وجوه الجواب على الاستدلال على نفي حقيقة القرآن بيننا:
    هو أن العبارة التي أسندوا ظهورهم إليها وعوّلوا عليها وجعلوها لهم أصلا، وموهوا على العالم بها، فإن حقيقتها غير ما ذهبوا إليه. وذلك أنهم قالوا: (إن القارئ إذا قرأ القرآن، لم يكن متكلما بكلام الله عز وجل على الحقيقة، كما لا يجوز أن يتكلم بكلام زيد على الحقيقة، فلم يبق إلا أنه يعبر عن كلام الله سبحانه).
    وهذا كلام غير صحيح، لأنه لا خلاف بين أهل هذا الشأن في أن العبارة لا تكون حقيقة إلا من طريق المعنى فقط، ثم لا يجوز أن يعبر الرجل إلا عمن سمع كلامه وفهم معناه، دون من لم يسمع كلامه ولا فهم معناه، يدل على ذلك نقل الشهادة ونقل الأخبار. ثم لم يبق إلا أن القارئ إنما عبر عن من سمع كلامه، وهو الذي علمه، وكذلك صاعداً إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، ثم إن النبي (صلى الله عليه وسلم) عبّر عن جبريل، وجبريل لم يعبّر عن رب العالمين لأنه لم يسمع كلامه، ولا عن ميكائيل ولا عن إسرافيل لأنهم لم يسمعوا كلام الله تعالى عندهم، فكيف يجوز أن يقال: عبارة عن كلام الله تعالى والله تعالى لم يسمع كلامه أحد ممن عبر عنه عندهم؟ فبطل ما ادعوه من العبارة.
    فإن قيل: جبريل عبّر عن ميكائيل، وميكائيل عن إسرافيل، وإسرافيل أخذ من اللوح المحفوظ.
    قيل: فتكون العبارة عن اللوح، واللوح لا يتكلم، ولو تكلم لنسب الكلام إلى اللوح ولم ينسب إلى الله تعالى، فلما لم ينسب الكلام إلى اللوح بطل حكم العبارة من كل الوجوه، وثبت أن قارئ القرآن يتكلم بكلام الله عز وجل على الحقيقة، لقوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)، ولقوله سبحانه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)، وقوله (هو ): راجع إلى النطق الذي نطق به النبي (صلى الله عليه وسلم )، فأثبته الله تعالى أنه وحي علمه إياه، ولم يقل إنه كلام محمد (صلى الله عليه وسلم).
    وقوله عز وجل: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)، فسمى الله تعالى ما يتلوه النبي (صلى الله عليه وسلم) وحياً، لم يقل إنه كلام النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولا خلاف أن التلاوة والقراءة واحدة.
    فإن قيل: هما اثنان.
    قلنا لهم: ففرقوا بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو، ولا فرق. وقد قال تعالى إخبارا عن من قال إن هذا إلا قول البشر: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)، فأوجب الله عز وجل بعدله جهنم لما قال إن هذا القرآن كلام محمد.
    وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) قال ابن عباس: لولا أن الله تعالى يسره على لسان الآدميين ~ يعني القرآن ~ ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام الله عز وجل. وهذا يدل على أن الميسر هو القرآن وليس هي للقراءة، ولو كانت القراءة لم يكن لذكر القرآن فائدة.
    وقوله تعالى: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) فهذه الهاء راجعة على كلام الله تعالى.
    وقوله عز وجل: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ)، فأمره أن يتلو القرآن الذي أوحى الله إليه، ولو كان لا يمكن أحداً أن يتكلم بكلام الله تعالى لكان الله تعالى قد كلف رسوله ما لا يتأتى وقوعه منه، وذلك محال.
    وقوله تعالى: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ).
    وقوله تعالى: ( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ): وما كان بذات الله تعالى لا يقدر أحد على تبديله.
    وقوله تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ): والإشارة لا تكون لما بذات الله سبحانه لأنه لا يوصف.
    فإن قيل: فإنما تحداهم بالتلاوة والقراءة والفصاحة والبلاغة وحسن التأليف، ولم يتحداهم بمثل الكلام القائم بالنفس.
    قيل: التلاوة والقراءة لا تسمى عندكم قرآناً، ولا تعجز عنها فصحاء العرب، وإنما عجزوا عن الإتيان بمثل المعجزة، والتلاوة والقراءة ليست عندكم معجزة، فبطل قولكم.
    وقوله تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). وقوله تعالى: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ). الهاء راجعة إلى القرآن، والذي بذات الله تعالى لا سبيل إلى تبديله، فثبت أن كلامه الذي ينطق به.
    وقوله عز وجل: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا). فالمراد بذلك هو القرآن الذي يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم.
    فإن قيل: العبارة عندنا إنما تكون عن المعنى دون الصيغة، كما لو أن رجلا قال لعبده: (قل لفلان تعال)، ففال له العبد: بيون - كلمة فارسية معناها تعال -، لم يحسن من السيد لومه، لأنه قد أتى على الغرض والمقصود.
    فالجواب أن هذا كلام فاسد، لأن المقصود بقوله (قل لفلان تعال) أن يجيء، فلو مضى العبد وأخذ بيد فلان وجاء به من غير أن يكلمه لم يحسن من السيد لومه.
    وليس كذلك المقصود بنقل كلام الله تعالى، وإنما المقصود به معرفة الأحكام منه وإظهار المعجز الذي عجز الخلق عن الإتيان بمثله، ولو كان المقصود به المعنى لم يعجز أحد عن ذلك، ثم لم يلزمهم على هذا قراءته بالأعجمية وغيرها من اللغات.
    وأما قولهم (إن اللحن والذم لا يتوجه على كلام الله سبحانه، وإنما يتوجه ذلك على عبارتنا): فهذا كلام غير صحيح. لأن من لحن في القرآن عندنا لم يقرأ القرآن، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (من قرأ القرآن باللحن فقد كذب على الله سبحانه ). واللحن هاهنا أيضا أردنا به نحن ترك الإعراب دون التطريب و التلحين في القرآن.
    وأما الذم والمدح فلا يخلو أن يكونا جميعا أو أحدهما، وكونهما جميعا متناقض، وكون أحدهما دون الآخر لا يخلو أن يكون مع وجود الإعراب أو مع عدمه، فإن كان مع عدمه فالمدح هاهنا لا يحسن، والذم إنما وقع على عدم الإعراب. وإن كان مع وجوده فالذم هاهنا لا يحسن، والمدح أيضا هو الإصابة للإعراب دون القرآن في نفسه فلم يقع عليه لحن ولا ذم. الدليل عليه هو أنه يقال: رجل معرب ورجل لحان أي لحنة. والمدح يقع على الرجل الفاعل للإعراب والتارك له.
    الدليل على ذلك: لو زين صوته بالقرآن ولحن فإنه يذم ولا يمدح وإن كان صوته حسنا.
    ثم نقول: هذا الفأفأ والبليد الخاطر يحرف المعاني ويخرج المعنى عن مقتضى ما يقع الذم: عليه أو على مفهومه؟
    فإن قالوا: عليه، فهو ما قصدنا إليه. وإن قالوا: على مفهومه، ناقضوا وجعلوا القراءة مثل المفهوم، وهو عندهم بخلافنا.
    ثم نقول لهم: أخبرونا عن رجل بنى حائطا لم يجدّ بناءه ولا أحسن عمله، أيقع الذم على الحائط؟
    فإن قالوا: على الحائط، أخطأوا لأنه لا صنع له في فساد نفسه وا في صلاحها.
    وإن قالوا: على البنّاء، قيل لهم:
    أخبرونا عن رجل خلق خلقا قبيح الصورة، أيقع الذم عليه أم على خالقه؟
    فإن قالوا: عليه، أخطأوا. وإن قالوا: على خالقه، كفروا.
    ولم يبق إلا أن القارئ أيضا يتوجه عليه المدح لإصابة الإعراب، ويتوجه عليه الذم لعدمه.
    وأما قولهم: (إن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله بحاسة أذنه، وإنما اضطره الى معرفة المعنى القائم بالذات ): فهذا إنكار لكتاب الله عز وجل وجحد له.
    قال الله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، وهذا مصدر ومعناه على الحقيقة، وهذا لا خلاف بيننا وبينكم فيه.
    وقولهم: (اضطره الى معرفة المعنى القائم بالذات ) خطأ، لأن الإضطرار إنما هو الإلجاء والإكراه، وذلك لا ميزة لموسى فيه على غيره.
    ثم نقول: لا يخلو موسى من أحد أمرين: إما أن يكون سمع كلام الله تعالى بأذنه فلا ... وإن فهمه بقلبه فهذا إلهام وليس بكلام. والله تعالى لا يكذب في أخباره، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
    فإن قيل: اضطره الى سماع كلامه بلا حرف ولا صوت.
    قيل لهم: هذا ممتنع من كل الوجوه، لأنا اتفقنا على أن كل ما وقع بقلب الانسان لا يعد كلاما لله، وكذلك ما ألهمه لا يعد كلاما له، فبطل ما قالوه. لأنه لا يخلو أن يكون فهم ما سمع، أو فهم ما لم يسمع، وأي ذلك كان لا يصح، لأن السماع لا يكون إلا بالأذن، كما أن الفهم لا يكون إلا بالقلب، وهذا إنما هو فيمن تنسب إليه الأذن والقلب دون من لا تنسب إليه الأذن. قال الله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)، ومعلوم أن الكافر لا يسمع كلام الله تعالى من الله، فدل على أنه يسمعه من غيره، وليس إلا القارئ.
    فإن قيل: فإن الله إنما نصّ على الكافر حتى يسمع كلام الله لا كلام غيره، فإن قام دليل العقل على منع ذلك وعلى عدم سقوط فائدة الآية، فلم يبق إلا أن الكافر يسمع كلام الله.
    وجواب آخر: وهو أن الله تعالى لا يكلف رسوله ما لا سبيل إليه، ولا يبعث به ولا يأمره بما لا فائدة له، وذلك ممتنع بكل حال.
    فإن قيل: إنما أراد حتى يسمع العبارة عن كلام الله تعالى.
    قيل: العبارة معلومة على ما بيّنّاه، ثم لو وُجدت لم تُسَمّ كلاما لله تعالى، ولم يبق إلا أنه يسمع كلام الله تعالى.
    ثم نقول: إذا كان الله تعالى اضطره الى سماع كلامه من غير صوت ولا حرف، فما المانع أن يضطره إلى أن يتكلم بكلامه بحرف وصوت؟
    فإن قيل: قام الدليل على المنع من ذلك.
    قيل: وكذلك قام الدليل على منع ما قلتموه أنتم أيضاً. قال الله سبحانه: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فدل على أن المسموع القرآن، والذي يُنصَت إليه هو القراءة.
    وقال تعالى: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ومعلوم أن كلام الله لم يسمعوه، وإنما سمعوا القراءة من القارئ وعقلوها دون كلام الله القائم بذاته الذي لا يصلون الى تحريفه، كما أنهم لا يصلون الى العلم الذي بذاته، فثبت أنه الكلام الذي نتلوه.
    وقال تعالى إخبارا عن الجن: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) ومعلوم أنهم لم يسمعوا كلام الله من الله، وإنما سمعوه من القارئ.
    وقال الله عز وجل إخبارا عن الجن: (إِنّا سَمِعنا كِتابًا أُنزِلَ مِن بَعدِ موسىٰ) ولم يسمعوا الكتاب لأن الكتاب لا يُسمع، وإنما سمعوا قراءة القرآن.
    وأما قولهم: (إن الله تعالى كلّم موسى بلا حرف ولا صوت، وإن كلامه لا يجوز أن يقال إنه بحرف وصوت) فخطأ، لأنه قال تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ). وقوله تعالى: ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي). وقوله تعالى : (فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ) ومعلوم أن النداء لا يكون إلا بصوت، والصوت لا يكون إلا بحرف، فثبت أنه تعالى نادى بصوت وحرف ليس كمثل أصواتنا ولا حروفنا، لأن أصواتنا لها آلة، وحروفنا لها مخارج، والله تعالى لا يوصف بشيء من ذلك.
    فإن قيل: فهذا هو دليلنا عليكم، لأنكم أثبتتم لأصواتكم آلة ولحروفكم مخارج ونفيتم ذلك عن الله تعالى، ثم قلتم إن كلامكم بكلامه هو كلامه على الحقيقة، وذلك لا يجوز، إلا أن تثبتوا لصوته آلة و لحروفه مخارج، وإن بلغتم الى هذا فقد كفرتم.
    قيل: يلزمنا من ذلك ما يلزمكم في إثباتكم أن السماوات والأرض قالتا أتينا طائعين، وذاك لا يخلو أن يكون القول بصوت أو بغير صوت، فإن كان بصوت فيلزمكم أن تثبتوا لذلك الصوت آلة وحروفا ومخارج كما ألزمتمونا فما قلنا، وإن لم يلزمكم ما قلنا لم يلزمنا ما قلتم، وكذلك يلزمكم أن تثبتوا الآلة للذراع والأيدي والأرجل ولجهنم.
    ويلزمكم أن تثبتوا للباري سبحانه آلة القرآن وآلة النداء وآلة الخطاب، لأنه تعالى خاطب العالم فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) و( يَا أَيُّهَا النَّاسُ) و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وخاطب ذرية بني آدم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وهم في العدم، وهل سمع الله تعالى كلامهم ذلك الوقت في حين خطابه لهم أم لا؟ وآلة القدرة وآلة النظر وآلة المنظور إليه، لأنكم أثبتتم أن الله تعالى يرى يوم القيامة وأنه يرى ويسمع، فيلزمكم أن تثبتوا له السمع و البصر، وكل ذلك لا تلزموه أنفسكم فلم يلزمنا ما قلتموه.
    ولو جاز أن يقال: إنا لم نجد في الشاهد حروفا إلا ممن له أدوات، فيجب في الغائب مثله، لجاز لنا أن نقول: إنا لم نعقل في الشاهد علماً إلا من أحد طريقين: إما ضرورة وإما استدلالا، فكذلك يجب أن يكون علم الباري سبحانه، وذلك عين الخطأ.
    فإن قيل: إن المانع من أن يكون كلام الله تعالى بحروف، هو أن الثاني من الحروف متأخر والأول متقدم، والقديم لا يجوز أن يسبق بعضه بعضاً، فثبت أن الحروف مخلوقة لأنها مترتبة في الوجود.
    قيل: هذا يبطل عليكم بقول الله سبحانه لآدم وعيسى: (كُن)، ومعلوم أن آدم خلق قبل عيسى.
    فإن قيل: إنما قال لآدم ولعيسى: كن في الأول، وإنما تقدم الوجود لآدم قبل عيسى، ولم يتقدم القول بعضه على بعض.
    قيل : هذا باطل ، لقوله تعالى : (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، ولا يخلو أن يكون جميع ما في الدارين شيئا واحداً أو أشياء كثيرة ، فإن كان شيئا واحداً فإن دليل الشرع والعقل يمنع ذلك ويثبت أن جميع ما في الدارين أشياء عدة وكل شيء منها قال الله له: (كن). ولابد أن يخلق شيئا بعد شيء، فيكون (كن) الذي هو القول لكل شيء منفرد من القول للشيء الآخر، وذلك يمتنع أن يكون في حالة واحدة، في ساعة واحدة، لأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وقوله تعالى: ( كن) لا يستغرق زمان ستة أيام لشيء واحد، وهذا هو المحال بعينه .
    ويبطل ما قالوه بقوله تعالى: ("كهيعص" ). ولا يخلو أن يكون حروفاً متوالية أو غير متوالية، أو هي قرآن أو غير قرآن، أو المنطوق به منها غير المفهوم أو هو المفهوم منها.
    فإن كانت متوالية بطل ما قالوه، وإن كانت غير متوالية فيعكسونها في القرآن وذلك أن يقولوا (صعيهك )، وهذا إن بلغوا إليه كفروا، لأنها إن كانت قرآنا لم يجز تغييرها، وإن لم تكن عندهم قرآنا كفروا لأنهم نفوا آية من المصحف المجمع على ما فيه.
    ثم نقول: هل يُفهم من الحروف التي في أوائل السور غير ما ينطق به منها؟- وهو قراءتها -
    فإن قالوا: المفهوم غيرالمنطوق به، لزمهم أن يبينوه ويظهروه لكي نعلمه كما علموه، وإن كان هو المنطوق به منها فليس ينطق إلا بحروف مقطعة، فثبت أنها قرآن، وبطل أن تكون مخلوقة.
    ولأن الله تعالى لا يخلو من أن يكون قال: (ألم) أو لم يقل:
    فإن كان قال فهو قوله وقوله غير مخلوق. وإن كان لم يقل، فيجب أن تمحوها من المصحف وتسقطوها من القرآن، وإن بلغوا إلى هذا كفروا.
    وأما منعهم لنزول القرآن وأنه لم يفارق الذات، فإنهم استدلوا على ذلك بأن النزول هو الظهور في لسان العرب، والقرآن هو الجمع في لغتهم، وإنما سمى بذلك مجازا. وهذا كلام غير صحيح، لأن النزول إذا كان هو الظهور فالمعنى القائم بالذات لم يظهر، لأن ظهوره يخرجه عن أن يكون قائما بالذات، لأن دليل العقل يمنع من ذلك.
    فإن قيل: ما في النفس تسميه العرب كلاماً، وأنشدوا بيت الأخطل*.
    واستدلوا بقول الله تعالى: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ)، والإشارة كلام، وبقوله تعالى: (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً) وأن الله تعالى سمى الرمز كلاما، فكذلك يجب أن يكون المعنى القائم بالذات كلاما.
    فالجواب عن جميع ما أوردوه هو أن الظاهر لا يجوز أن يكون قائما بالذات، لأن الظاهر هو الذي يدرك بالحواس، و القائم بالذات لا يدرك بها.
    فإن قيل: لا نسلم أن كلام الله تعالى يدرك بالحواس.
    قيل: هذا يبطل بالمفهوم، فإنه لا يفهم إلا بالحواس.
    فإن قيل: أخبرونا كيف يكون النزول من غير انتقال وانفصال ؟
    قيل: يكون كُرُوباَ -دنوا - من غير حصر بكيف، وكالنداء بغير صوت ولا حرف ولا إلهام. وجوابكم عن هذا هو جوابنا لكم .
    فأما بيت الأخطل فلا حجة فيه لأنه ليس بجميع أهل اللغة، وأما الدليل أن أهل اللغة وافقوه على ما قال، فيحتاج المحتج بقوله أن يقيم دلالة على أن جميع أهل اللغة وافقوه على ذلك، فإن وضعوا صيغة تدل على ما قالوه -وذلك معدوم من وصفهم - بطل الاحتجاج بقول الأخطل.
    وأما قولهم: إن القرآن هو الجمع ، واستدلوا بقول العرب ، فالجواب عنه كالجواب عن قول الأخطل.
    ثم نقول: يبطل هذا بقول الله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) فذكر الجمع ذكر القرآن، فلو كان القرآن هو الجمع لم يجز أن يقول إن علينا جمعه وقرآنه، لأن التأكيد لا يعطف، ولأن العرب تقول: خرج القوم أجمعون أكتعون، ولا يعطفون ذلك بالواو، فثبت أن الجمع معنىً غير القرآن.
    فأما قوله : (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) فالإشارة عندنا غير الكلام، لأن المصلي يحرم عليه الكلام ويبطل صلاته، وإنما كان ذلك معجزة لمريم وبراءة لها لكي يفهمهم، لأنها أتت بولد من غير أب، فكان قوله براءة لها فصدقوا ذلك، فأشارت أن اسألوه ، وليس هو عندنا كلاماً. كما أن الإشارة لا تسمى قراءة ولا تلاوة، ولأنها قد تفهم وقد لا تفهم، ولأن الأخرس لا يتكلم وهو يشير وتفهم إشارته ولا يعد متكلماً.
    وأما قوله تعالى: (آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً) فاستثنى الرمز من الكلام.
    وقوله: إن المستثى لا يكون إلا من جنس المستثنى منه، وهذا غير مسلم لأن الاستثناء عندنا يجوز من غير الجنس، كقوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ)، وإبليس ليس من جملة الملائكة، والرمز عندنا ليس هو من جنس الكلام .
    وقال تعالى : ( المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ).
    وقال تعالى : (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
    وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ ).
    وقال تعالى: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى).
    وقال تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
    وقال تعالى : (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ).
    والمعنى القائم بالذات لا يخبر عنه بهذ ا، ولا يشار إليه بهذا.
    تم الفصل بحمد الله وعونه .



    ( المصدر: خزانة التراث العربي )

    -----------
    *بيت الأخطل :
    (إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلا)





يعمل...
X