إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سلسلة الاداب الشرعية للشيخ محمد المنجد // مفهرس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سلسلة الاداب الشرعية للشيخ محمد المنجد // مفهرس

    آداب المشي إلى الصلاة
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
    فإن المسلم بحاجة ماسة لمعرفة الآداب المشروعة التي تسبق الصلاة، استعداداً لها؛ لإن الصلاة عبادة عظيمة ينبغي أن يسبقها استعداد وتهيؤ مناسب، ليدخل المسلم في هذه العبادة على أحسن الهيئات. فمن تلك الآداب ما يلي:
    المشي بسكينة ووقار:
    إذا مشى المسلم إلى المسجد ليؤدي الصلاة مع جماعة المسلمين، فليكن ذلك بسكينة ووقار، والسكينة: هي الطمأنينة والتأني في المشي، والوقار: الرزانة والحلم وغض البصر وخفض الصوت وقلة الاتفات(1).
    عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (إذا نودي بالصلاة فأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)(2)، وفي لفظ: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)(3)، وفي لفظ: (إذا ثوب للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة)(4).
    التبكير بالخروج إلى المسجد:
    من الأفضل للمسلم أن يخرج إلى المسجد مبكراً ليدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام، ويحضر الصلاة من أولها، فإن في المحافظة على الصلاة من أولها مع الإمام فضيلة عظيمة، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)(5).
    المقاربة بين الخطا:
    المقاربة بين الخطا في المشي إلى الصلاة من طرق تكثير الحسنات، فكلما كثرت الخطوات التي يمشي بها المصلي إلى المسجد كثرت حسناته، ورفعت درجاته، ومحيت كثير من سيئاته، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أحدكم إذا توضأ فأحسن وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة، حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث فيه)(6)، وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط)(7)، وعن أبي موسى قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام) وفي رواية أبي كريب: (حتى يصليها مع الإمام في جماعة)(8).
    حتى رجوع المصلي من الصلاة له به أجر، والدليل على ذلك، حديث أبي بن كعب قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، فقيل له، أو قلت له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قد جمع الله لك ذلك كله)(9). قال الإمام النووي -رحمه الله-: (فيه إثبات الثواب في الخطا في الرجوع من الصلاة كما يثبت في الذهاب)(10)، وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لبني سلمة عندما أرادوا أن يبيعوا بيوتهم التي كانت بعيدة عن المسجد ويتحولون إلى قرب المسجد فقال لهم: (يا بني سلمة! ديارَكم تكتب آثاركم، ديارَكم تكتب آثاركم)(11).
    ذكر الذكر الوارد:
    عن عبد الله بن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى الصلاة وهو يقول: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم أعطني نوراً)(12).
    تقديم الرجل اليمنى عند دخول المسجد، واليسرى عند الخروج:
    إذا وصل المصلي إلى باب المسجد فيقدم رجله اليمنى عند الدخول، ويقول: (بسم الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم(13)، اللهم صلى على محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك)، وإذا أراد الخروج؛ قدم رجله اليسرى، وقال: (بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك)(14).
    صلاة ركعتين تحية المسجد:
    فإذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)(15).
    الإكثار من ذكر الله:
    فيكثر المسلم في المسجد وهو ينتظر الصلاة من ذكر الله، والدعاء، وقراءة القرآن، ويتجنب العبث؛ كتشبيك الأصابع وغيره؛ فقد ورد النهي عنه في حق منتظر الصلاة، فعن كعب بن عجرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك؛ فإنك في صلاة)(16).
    الحرص على الصف الأول:
    يحرص المصلي على أن يصلي في الصف الأول، لما لذلك من الأجر العظيم فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لا يجدون إلا أن يستهموا عليه لا ستهموا)(17)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خير صفوف الرجال أولها)(18)، ويحرص على القرب من الإمام؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (ليَلِني منكم أولو الأحلام والنهى)(19)، وهذا بالنسبة للرجال، وأما النساء فالصف الأخير من صفوف النساء أفضل لها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وخير صفوف النساء آخرها)(20)؛ لأن ذلك أبعد لها عن رؤية الرجال(21).
    اللهم وفقنا وسدد خطانا، واجعلنا من الراشدين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
    ________________________________________
    1 - راجع الملخص الفقهي (صـ 87).
    2 - متفق عليه.
    3 - رواه البخاري.
    4 - رواه مسلم.
    5 - رواه الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم (200) ومشكاة المصابيح رقم (1102).
    6 - رواه البخاري.
    7 - رواه مسلم.
    8 - رواه مسلم.
    9 - رواه مسلم.
    10 - شرح النووي على صحيح مسلم (5/168).
    11 - رواه مسلم.
    12 - رواه مسلم.
    13 - رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه، وأحمد، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (485).
    14 - سنن ابن ماجه، وروى أبو داود والنسائي نحوه، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه رقم (625)، وعند مسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك).
    15 - متفق عليه.
    16 - رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الترمذي رقم (316).
    17 - متفق عليه.
    18 - رواه مسلم، وأصحاب السنن، وأحمد.
    19 - رواه مسلم، وأصحاب السنن، وأحمد.
    20 - رواه مسلم، وأصحاب السنن، وأحمد.
    21 - راجع: الملخص الفقهي (صـ 89).
    =================



  • #2
    رد: آداب المشي إلى الصلاة

    جزاكِ الله خيراً أختي أمة الله ..

    و لكن ماذا عن مُلقي الدرس ؟؟
    اللهم اجعلنا من الأبرار .. من ليسوا بكفرةٍ و لا فُجار ..
    من يقومون الليل و يصومون النهار ..

    تعليق


    • #3
      رد: آداب المشي إلى الصلاة

      ستركم الله في الدنيا والآخرة
      و
      جزاكم الله خيرا
      أسأل الله أن يثبتناوإياكم على الحق
      نفع الله بكم ورفع قدركم


      تعليق


      • #4
        سلسلة الاداب الشرعية للشيخ محمد المنجد

        السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

        عناصر الموضوع :
        1. آداب العطاس
        2. من آداب التثاؤب
        3. من آداب التجشؤ
        4. من آداب البصاق
        5. آداب التثاؤب والتجشؤ
        إن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، وما ترك شراً إلا وحذرنا منه، وإن من الخير العميم الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم آداب الإسلام في احترام وتقديس الأماكن والهيئات، وإعطاء الناس حقوقهم، ومن تلك الآداب آداب العطاس والتثاؤب، وآداب البصاق والبزاق في المسجد وحال الصلاة.
        آداب العطاس:
        عقيدة أهل الجاهلية في العطاس:
        الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد ذكرنا في الدرس الماضي طائفة من أحكام العطاس وآدابه، وسوف نتم الكلام عن موضوع العطاس وندخل في أدب التثاؤب والجشاء، وكذلك البصاق والتفل والنخاعة والنخامة إذا كان الوقت متسعاً. ندخل في تتمة الكلام عن موضوع العطاس، ونذكر النقطة التي أشار إليها أحد الإخوة، ونتكلم عنها في هذه الليلة، ماذا كان يعتقد العرب في العطاس؟قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة : "ومما كان الجاهلية يتطيرون به ويتشاءمون منه العطاس، كما يتشاءمون بالبوارح والسوانح" -هذه من أنواع الطيور التي كانوا يتطيرون بها، وأتى ببعض الأبيات تدل على تشاؤم أهل الجاهلية من العطاس- قال: "وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له: عمراً وشبابة، وإذا عطس من يكرهونه، قالوا له: وراً وقحابة"، والوري: داءٌ يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب: السعال وزناً ومعنى، فكأنهم يدعون عليه بالداء الذي يصيب كبده وبالسعال، فكان الرجل إذا سمع عطاساً فتشاءم به يقول: بك لا بي، أي: أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك أنت لا بي أنا، وكان تشاؤمهم في العطسة الشديدة أشد، كما يحكى عن بعض الملوك أن مسامراً له عطس عطسةً شديدة راعته -أي: أخافته- فغضب الملك، فقال سميره: والله ما تعمدت ذلك، ولكن هذا عطاسي، فقال: والله لئن لم تأتني بما يشهد لك بذلك لأقتلنك، فقال: أخرجني إلى الناس لعلي أجد من يشهد لي، فأخرج وقد وكل به الأعوان، فوجد رجلاً، فقال: ناشدتك بالله إن كنت سمعت عطاسي يوماً فلعلك تشهد لي به عند الملك، فقال: نعم. أنا أشهد لك، فنهض معه فقال: أيها الملك! أنا أشهد أن هذا الرجل يوماً عطس فطار ضرس من أضراسه، فقال له الملك: عد إلى حديثك ومجلسك. يقول ابن القيم رحمه الله" فلما جاء الله بالإسلام وأبطل برسوله ما كان عليه الجاهلية الطغاة من الضلال والآثام، نهى أمته عن التشاؤم والتطير، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه دعاءً له بالرحمة" -أي: إذا كان أهل الجاهلية يقولون: بك لا بي، إذا عطس، وأيضاً يدعون عليه بالداء والمرض والسعال، فجاء الله عز وجل بهذا الشرع المطهر الذي فيه الدعاء للعاطس بالرحمة، وحمد العاطس الله عز وجل بعد العطاس. ولما كان الدعاء على العاطس نوعاً من الظلم والبغي جُعل الدعاء له بلفظ الرحمة المنافي للظلم، وأُمر العاطس أن يدعو لسامعه ومشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال، فيقول: يغفر الله لنا ولكم، أو يهديكم الله ويصلح بالكم، فأما الدعاء بالهداية فلمّا أنه اهتدى إلى طاعة الرسول، ورغب عما كان عليه الجاهلية فدعا له ليثبته الله عليها ويهديه إليها. لما قال هذا العاطس: الحمد لله، فقال له المشمت: يرحمك الله، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم. وكذلك الدعاء بإصلاح البال وهي كلمة جامعة لصلاح شأنه كله وهي من باب الخيرات، ولما دعا لأخيه بالرحمة فناسب أن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال، أما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت، فيقول: يغفر الله لنا ولكم، ليتحصل من مجموع دعوى العاطس والمشمت لهما المغفرة والرحمة معاً، وهو تأسٍ أيضاً بآدم عليه السلام. هذا بالنسبة لما كان عليه أهل الجاهلية، وما جاء الله به في هذا الدين من إبطال ذلك وإبداله بالأمر الحسن.
        أما بالنسبة لحديث: "من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص واللوص والعلوص" فهو ضعيف، ولذلك لا يسبق العاطس بالحمد؛ لأنه قال: من "سبق العاطس بالحمد، فإذاً: العاطس يترك حتى يحمد الله سبحانه وتعالى"، وهذا الشوص وجعٌ في البطن والضرس، والعلوص وجعٌ في التخمة ووجعٌ في البطن، واللوص: وجعٌ في الأذن، أنواع من الأوجاع.
        إذا عطس أكثر من ثلاث يدعى له بالعافية:
        وكذلك فإنه بالنسبة للعاطس إذا عطس أكثر من ثلاث مرات، فإنه قد سبق القول أنه يُدعى له بالعافية، ولذلك يقول ابن عبد القوي رحمه الله في منظومته: "وقل للفتى عوفيت بعد ثلاثةٍ وللطفل بورك فيك وأمره يحمدِ"
        وعوفيت بعد ثلاثة، أي: بعد ثلاث مرات، يدعى له بالعافية، يقال له: عوفيت، ليس في هذا حديث صحيح، لكن بما أنه أخبر أنه مزكوم، فالمناسب أن يُدعى له بالعافية، بعد تشميته ثلاث مرات، فإذا عطس الرابعة يقال له: عوفيت، وقال شيخ الإسلام وهو منصوص الإمام أحمد : "إن عطس ثانياً وحمد شمته، وثالثاً شمته، ورابعاً دعا له بالعافية، ولا يشمت للرابعة إلا إذا لم يكن شمته قبلها ثلاثاً"، فالاعتبار بفعل التشميت لا بعدد العطسات، هذا كلام صاحب الإقناع وشارح الإقناع، أن العبرة بالتشميت لا بعدد العطسات، فلو عطس شخص ثلاث مرات متوالية، ثم قال: الحمد لله، فشمته، ثم عطس رابعة فشمته، ثم عطس خامسة فشمته، كم عطسة عطس؟ خمس، كم مرة شمته؟ ثلاثاً. إذاً: في العطسة السادسة تقول له: عوفيت، فقال: إذاً العبرة بفعل التشميت لا بعدد العطسات، فلو عطس أكثر من ثلاث متواليات شمته بعدها إذا لم يتقدم تشميت، ويقال له: عافاك الله؛ لأنه مزكوم أو به داء. وقال مهنا للإمام أحمد : "أي شيء مذهبك في العاطس يشمت إلى ثلاث مرار؟ فقال: إلى قول عمرو بن العاص قال: العاطس بمنزلة الخاطب، يشمت إلى ثلاث، فما زاد فهو داء في الرأس." وتقدمت الأحاديث في هذا الأمر، وهناك مسألة، وهي: إذا دعا للعاطس بالعافية فهل يقول العاطس شيئاً؟ قال السفاريني رحمه الله في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: " لم أرَ لأحدٍ من الأصحاب ولا غيرهم في أن الداعي للعاطس بالعافية، هل يستحق جواباً أم لا". ولعله يجيب بقوله: عافانا الله وإياك، أي: لو قلت له: عوفيت بعدما عطس وشمته المرة الثالثة، عطس الرابعة، فقلت له: عوفيت، فيقول: عافانا الله وإياك، وهو مأخوذٌ من قول ابن عمر رضي الله عنهما. وهل يكون مستحباً أو واجباً أو مباحاً؟ لم أر من تعرض لشيءٍ من ذلك، والذي يظهر إن قلنا: الدعاء له بالعافية مستحب فالإجابة كذلك، إذا قلنا: عوفيت أو عافاك الله مستحب، فالإجابة بقول: عافانا الله وإياك، أو وإياك مثلاً: ونحو ذلك من الألفاظ الطيبة أنه مستحب كذلك، وإن قلنا: واجبٌ فكذلك الإجابة والله ولي الإنابة."
        الدعاء للغلام بالبركة إذا عطس:
        أما بالنسبة لقول الغلام: بورك فيك كما أشار الناظم فليس فيه حديثٌ صحيحٌ والله أعلم أن الغلام يخص بشيء، ولكن جاء في حديثٍرواه الحافظ السلفي"أن النبي صلى الله عليه وسلم عطس عنده غلام لم يبلغ الحلم، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بارك الله فيك يا غلام)" لكن يحتاج إلى معرفة صحته،ويكون هذا الحديث مستند الناظم ابن عبد القوي رحمه الله: "وقل للفتى عوفيت بعد ثلاثةٍ وللطفل بورك فيك وأمره يحمد", يعني: مره أن يحمد الله.
        تذكير العاطس الحمد إذا نسي:-
        العاطس إذا نسي أن يحمد الله عز وجل قال بعض العلماء:" يُذكَّر"، وقال بعضهم: "لا يُذكَّر"، وقد تقدم الخلاف في هذه المسألة، أما ابن القيم رحمه الله فقد قال في العاطس: "إذا ترك العاطس الحمد هل يستحب لمن حضره أن يذكره الحمد؟" قال ابن العربي: "لا يذكره وهذا جهلٌ من فاعله." وقال النووي: "أخطأ من زعم ذلك، بل يذكره؛ لأنه مرويٌ عن النخعي، وهو من التعاون على البر والتقوى،" فقال ابن القيم بعد ذلك: "وظاهر السنة يقوي قول ابن العربي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشمت الذي لم يحمد الله، ولم يذكره، وهذا تعزيرٌ له وحرمانه لتركه الدعاء، لما حرم نفسه بتركه الحمد، فنسي الله تعالى، فصرف قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له، ولو كان تذكيره سنة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بفعلها وتعليمها والإعانة عليها"، هذا رأي ابن القيم رحمه الله تعالى في المسألة. وذكر في شرح الإقناع ما يؤيد أنه ينبغي تذكير من نسي حمد الله، قال المروذي: "أن رجلاً عطس عند أبي عبد الله -الإمام أحمد رضي الله عنه ورحمه- فلم يحمد الله، فانتظره أبو عبد الله أن يحمد الله فيشمته، فلما أراد أن يقوم، قال له أبو عبد الله: كيف تقول إذا عطست؟ قال:
        أقول: الحمد لله، فقال له أبو عبد الله : يرحمك الله." قال في الآداب: "وهذا يؤيد ما سبق". أي: من كون بعض الأصحاب كان يذكر خبر من سبق العاطس بالحمد أمن الشوص ونحوه ويعلمه الناس، قال: "وهو متجه. فالمسألة فيها قولان: هل يذكر أو لا؟ ولكل من ذهب إلى أحد المذهبين له رأي".
        من آداب التثاؤب:
        وأما بالنسبة للتثاؤب، فإن التثاؤب من الشيطان، كما قال البخاري رحمه الله في كتاب الأدب: باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب، وذكر حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العطاس)، وفيه: (وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فليرده ما استطاع، فإذا قال: ها، ضحك منه الشيطان)، وفي رواية أبي داود : (فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، ولا يقول: هاها، فإنما ذلك من الشيطان يضحك منه"، وفي رواية: "إذا تثاءب أحدكم فليمسك على فيه فإن الشيطان يدخل" أي: يدخل مع التثاؤب. إذاً: التثاؤب من الشيطان، والشيطان يدخل مع التثاؤب إلى جوف الشخص، ويضحك من العبد المتثائب، أما بالنسبة للتثاؤب فأصله من ثئب فهو مثئوب، إذاً: مرد التثاؤب إلى الكسل، ومأخوذ منه.
        رد التثاؤب أو وضع اليد على الفم:
        أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بقوله: "فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع" وجاء في الرواية الأخرى: "فليضع يده على فيه". إذاً: وضع اليد على الفم جاء هذا في حديث مسلم:"إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه" أما بالنسبة لقوله عليه الصلاة والسلام:) "التثاؤب من الشيطان" أي: أن الشيطان يحب التثاؤب، وهو مبعث التثاؤب، وكل فعلٍ مكروه ينسبه الشرع إلى الشيطان؛ لأنه واسطته، والتثاؤب من امتلاء البطن، وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة الشيطان، وأضيف التثاؤب إلى الشيطان -كما يقول النووي رحمه الله-" لأنه يدعو إلى الشهوات، إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه"، والمراد: التحذير من السبب الذي يتولد منه التثاؤب وهو التوسع في الأكل. أما قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع" هل المقصود: إذا تثاءب يرده بعد انتهاء التثاؤب؟ الجواب: لا. هذا أسلوب تستعمله العرب، "إذا تثاءب أحدكم"، أي: إذا شرع فيه، إذا بدأ فيه " فليرده ما استطاع" يأخذ في أسباب رده، وقيل: إن المقصود إذا تثاءب أي: إذا أراد أن يتثاءب، مثل: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ "[النحل:98] أي: إذا أردت قراءة القرآن، إذا أردت أن تشرع فيها، وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان"، وفي رواية: "فإذا قال: آه"، وفي رواية: "فإذا قال: ها -مرة بتقديم الهاء ومرة بتأخيرها- ضحك منه الشيطان"، وفي رواية: " فإن الشيطان يدخل " يدخل مع التثاؤب، وورد في رواية ضعيفة لـابن ماجة : "فليضع يده على فيه ولا يعوي، فإن الشيطان يضحك منه" أي: شبَّه الصوت بعواء الكلب، ولكن هذه الرواية لم تثبت.
        غطية التثاؤب ورده في الصلاة وخارجها:
        هل تغطية الفم وكظم التثاؤب خاصٌ بالصلاة أو هو عامٌ يشمل الصلاة وغير الصلاة؟ الجواب: أما رواية الصحيحين فأكثرها عامة، ليس فيها تقييد بالصلاة، وورد في بعض الروايات تقييده بحال الصلاة، فهناك احتمال أن يحمل المطلق على المقيد، ونقول: الكظم والتغطية والمجاهدة والحبس هو في الصلاة، أو أن نقول: إنه عامٌ، ولكنه في الصلاة يكون أوكد، ولعل هذا هو الأقوى والله أعلم، فإن الشيطان في الصلاة له غرضٌ قوي في التشويش على المصلي، وهناك قاعدة أصولية يذكرها بعض أهل العلم، وهي: أن المطلق إنما يحمل على المقيد في الأمر لا في النهي، وموضوعنا الآن في حديث التثاؤب أمر، وبناءً على ذلك قاعدة حمل المطلق على المقيد لا تنطبق، لأنه هنا قال: ( إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع؛ فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان) وقال هنا: (فليرده منكم ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها، ضحك منه الشيطان) فاللام هنا لا شك أنها لام الأمر، فقال بعضهم: إن المطلق إنما يحمل على المقيد في الأمر لا في النهي، وهذا ظاهره أنه يقيد هاهنا، لكن ابن حجر رحمه الله ذكر في الفتح أن هناك ما يؤيد كراهته مطلقاً وهو كونه من الشيطان، أي: إذا كان التثاؤب من الشيطان هل هناك فرقٌ بين الصلاة وخارج الصلاة؟ حديث كون التثاؤب من الشيطان هل يعني: أنك تجاهده في الصلاة وخارج الصلاة لا تجاهده؟ ما هو الفرق إذا كان كلاهما من الشيطان؟ لكن في حال الصلاة هو أشد، قال ابن العربي رحمه الله: ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة؛ لأنها أولى الأحوال بدفعه، ولا شك أن التثاؤب فيه خروج عن اعتدال الهيئة، وفيه اعوجاجٌ للخلقة، والمتثائب إذا أفرط في التثاؤب ربما شابه الكلب، ويرفع رأسه فيه أيضاً، وبذلك يُعلم أن الشيطان إذا دفع العبد إلى التثاؤب فإنه يصيره في وضعٍ كريه، فإن الإنسان لو قدر له أن يرى حاله أمام المرآة وهو يتثاءب لرأى منظراً كريهاً بشعاً، فالشيطان من كيده أنه يدفع للتثاؤب، وهو هيئة كريهة وبشعة، وهو أيضاً يدخل مع التثاؤب، وظاهر الحديث الدخول الحقيقي. فإن قال قائل: إنه يجري من ابن آدم مجرى الدم؟ فنقول: إذا كان ذاكراً لله يتمكن منه، لكنه إذا تثاءب في تلك الحالة ولم يرده، تمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقةً، ولا يمنع أن يدخل فيه وهو يسير منه أو يجري منه مجرى الدم. والقضايا الغيبية، لا تحكم فيها بالعقول، ونقول: هذا داخل فكيف يدخل؟ وهذا خارج... هذه قضايا مردها إلى الله تبارك وتعالى، فهو يعلم كيفية ذلك.
        تغطية المتثائب فمه بكفه ونحوها:
        أما تغطية الفم فإنه يغطى بالكف ونحوه إذا انفتح، فإذا كان منطبقاً فهل يغطيه أم لا؟ أي: شخص استطاع أن يجاهد نفسه بألا ينفتح فمه عند التثاؤب، فنقول: يغطيه احتياطاً؛ لأن التثاؤب فيه رغبة قوية في فتح الفم، فاحتياطاً يغطي فمه بيده، أما إذا انفتح فتتأكد التغطية. هل يلزم وضع اليد بالذات، أو يمكن أن يضع ثوبه؟ لو وضع طرف الغترة أو غطاء الرأس، أو الكم، أو منديل مثلاً، فنقول: المقصود هو التغطية، وليس الشرط أن تكون في اليد، لكن إذا كان لا يستطيع أن يغطي إلا باليد تعينت اليد، مثل ألا يكون عنده شيءٌ قريبٌ يغطي به ونحو ذلك، وتتأكد التغطية في حال الصلاة أيضاً، كما تتأكد مجاهدة التثاؤب في حال الصلاة.
        إذا تثاءب حال قراءة القرآن أمسك عن القراءة:
        ومن الأشياء المفيدة: أن الإنسان المصلي أو قارئ القرآن إذا تثاءب أثناء قراءة القرآن فعليه أن يكف عن القراءة حتى ينتهي من مقاومة التثاؤب؛ لأن التثاؤب يغير نظم القراءة، وربما تتغير الحروف، وجاء عن مجاهد و عكرمة وعدد من التابعين المشهورين هذا، وهو الأمر بالإمساك عن القراءة حال التثاؤب، وحكم التثاؤب في الصلاة مكروه إذا أمكن دفعه، وينبغي عليه مجاهدة نفسه للأمر الوارد في الحديث، خصوصاً أن طريقة كثير من أهل الظاهر أنهم يوجبونه في مثل هذه النصوص. هل إذا تثاءب يستخدم في التغطية باليد اليمنى أو اليسرى؟ الجواب: ليس هناك -والله أعلم- نصٌ في هذه المسألة، ولكن قال بعضهم: يغطي فمه بيده اليسرى؛ لأن مبعثه من الشيطان، وذكر السفاريني رحمه الله كلاماً عن أحد شيوخه، لكن ليس فيه دليل، يقول: قال لي شيخنا التغلبي فسح الله له في قبره: إن غطيت فمك في التثاؤب بيدك اليسرى فبظاهرها، وإن كان بيدك اليمنى فبباطنها. وهذا التفريق ربما لا دليل عليه، لكن هذا من مراعاة المعنى وليس من مراعاة الدليل، يقول: "والحكمة من ذلك؛ لأن اليسرى لما خبث ولا أخبث من الشيطان، وإذا وضع اليمنى فبباطنها؛ لأنه أبلغ في الغطاء" تحكم بالتغطية بباطن اليد أكثر من الظاهر إذا قلبها. قال: "واليسرى مُعدَّة لدفع الشيطان، وإذا غطى بظهر اليسرى فببطنها معدٌ للدفع، أي: أن هذا الذي يدفع به، فيجعل الظاهر على الفم والباطن كأنه للدفع، وهذا لم يذكر فيه دليلاً، فالمسألة واسعة إن شاء الله إذا غطى باليمنى أو باليسرى، لكن فيه معنى إذا قلنا: إنه باليسرى لأجل أنه من الشيطان.
        كراهية إظهار التثاؤب بين الناس:
        بالنسبة للتثاؤب؛ فقد ذكر بعض أهل العلم بحثاً في تتمة كلام ابن مفلح رحمه الله في موضوع التثاؤب، قال: "ويكره إظهاره بين الناس مع القدرة على كفه، وإن احتاجه تأخر عن الناس وفعله"، أي: احتاج وغلبه التثاؤب أخفى ذلك عن الناس. وقال بعضهم: "يكره التثاؤب مطلقاً سواءً كان مع الناس أو لوحده"، أي: يقاوم التثاؤب حتى لو كان منفرداً، "ومما يعين على دفع التثاؤب: الإقلال من الطعام والشراب".
        من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عدم التثاؤب:
        ومن الأشياء التي ذكرها بعض أهل العلم في موضوع التثاؤب: هل يتثاءب النبي صلى الله عليه وسلم أم لا على أساس أن التثاؤب من الشيطان؟ قال ابن حجر رحمه الله في الفتح : ومن الخصائص النبوية ما أخرجه ابن أبي شيبة و البخاري في التاريخ من مرسل يزيد بن الأصم -إذاً هذا مرسل- قال: (ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط)، وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال: (ما تثاءب نبيٌ قط) ومسلمة أدرك بعض الصحابة وهو صدوق. إذاً: هو تابعي، ويؤيد ذلك ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان، فإذاً أتى بروايتين مرسلتين، وقالوا: ويؤيد ذلك أن التثاؤب من الشيطان، وجاء في الشفاء لـابن سبع: (أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطى لأنه من الشيطان) والله أعلم. هذا بالنسبة لما يتعلق بموضوع التثاؤب.
        من آداب التجشؤ:
        وأما بالنسبة للتجشؤ: فإن التجشؤ الذي هو خروج الصوت نتيجة الشبع، ويخرج معه ريح عادةً من البطن، فقد ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي و ابن ماجة، عن ابن عمر وحسنه الشيخ: الألباني بلفظ: (كف عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة) هذا الحديث ذكر الشيخ: الألباني طرقه في السلسلة الصحيحة ، وقال: روي من حديث ابن عمر و أبي جحيفة و ابن عمرو و ابن عباس و سلمان، ثم ذكر حديث يحيى البكاء، عن ابن عمر، قال: (تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: .. ) فذكره، أخرجه الترمذي ، وقال الترمذي : حديث غريب من هذا الوجه، قلت: يعني: ضعيف؛ لأن يحيى البكاء ضعيف. وأما حديث أبي جحيفة وله عنه طرق: الأولى: عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: "أكلت خبز بر بلحم سمينٍ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فتجشأت، فقال: احبس أو اكفف جشاءك..." الحديث، وزاد قال: "فما أكل أبو جحيفة ملء بطنه حتى فارق الدنيا"أخرجه ابن أبي الدنيا في الجوع، قلت: فيه الوليد وهو ضعيف، لكنه لم يتفرد به، لأن له متابعة. وكذلك من القصص التي وردت حديث سلمان يرويه عطية بن عامر الجهني قال:" سمعت سلمان وأُكِرَه على طعامٍ يأكله، فقال: حسبي، أي: عزموا عليه أن يأكل ويزيد، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا، أطولهم جوعاً يوم القيامة)". بعدما ذكر الشيخ طرق الحديث قال في آخره: وجملة القول: أن الحديث قد جاء من طرق عمن ذكرنا من الصحابة، وهي وإن كانت مفرداتها -أي: كل طريق بمفرده- لا تخلو من ضعفٍ، فإن بعضها ليس ضعفها شديداً، ولذلك فإني أرى أنه يرتقي بمجموعها إلى درجة الحسن على أقل الأحوال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
        كظم التجشؤ ورده:
        الحديث على ماذا يدل؟ على كظم التجشؤ ورده، وهذا فيه أيضاً الإقلال من الطعام، وكذلك تغطية الفم، وحبس الصوت، وكف الرائحة التي تخرج؛ لأن التجشؤ بالذات إذا أكل ثوماً أو بصلاً وتجشأ في المسجد بين المصلين، فإن فيه تنفيرٌ وإيذاءٌ لعباد الله المصلين، وكثيرٌ من الناس يتساهلون في هذا، ولا يبالون به، ويفعلونه في مجامع الناس، ويصدر أقوى ما لديه من الأصوات، وكأنه يرى من الصحة إخراج التجشؤ بأعلى صوت ممكن، ولا يبالي بتغطية فمه ولا بغير ذلك، وإنما يتجشأ بحضرة الناس أو وهم جلوس، أو في حلقة علم، أو في الصلاة، أو في اجتماع الناس، بدون مبالاة، وهذا من قلة الأدب أن يفعل ذلك بحضرة الناس، وخصوصاً أن التجشؤ غالباً يكون مصحوباً برائحة كريهة، خصوصاً عند أكل الثوم أو البصل أو الكراث.
        التجشؤ في الصلاة:
        الإنسان قد يغلبه التجشؤ فماذا يفعل؟ يكفه ما استطاع، حتى أن الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب قال: "إذا تجشأ وهو في الصلاة، فليرفع رأسه إلى السماء حتى تذهب الريح، وإذا لم يرفع رأسه آذى من حوله من ريحه، وهذا من الأدب،" وقال في رواية مهنا، عن الإمام أحمد: "إذا تجشأ الرجل ينبغي أن يرفع رأسه إلى فوقه؛ لكي لا يخرج من فيه رائحة يؤذي بها الناس، فإذا تجشأ عن يمينه أو شماله، أو وجهه إلى الأمام كأن الرائحة تكون أشد، فأكثر ما يمكن أن يفعله أن يرفع رأسه إلى فوق وهذا إذا اضطر إلى ذلك."

        إذا حمد المتجشئ.. ماذا يقال له؟:
        ماذا يقول المتجشئ؟ هل يحمد الله؟ هل يقاس على العطاس؟ ليس هناك دليلٌ في الموضوع والله أعلم، وقال ابن مفلح رحمه الله: "ولا يجيب المجشئ بشيءٍ، فإن قال: الحمد لله، قيل له: هنيئاً مريئاً، أو هنَّاك الله وأمراك" ذكره في الرعاية الكبرى، وكذا ابن عقيل ، وقال: "لا نعرف فيه سنة، بل هو عادةٌ موضوعة"، وذكر أن بعض الأطباء قالوا في علاج التجشؤ: ينفع فيه الكراويا أو الصعتر، أو النعناع مضغاً أو شرباً، أو الكندر مضغاً أو شرباً.
        من آداب البصاق:
        أما بالنسبة للبصاق والتفل، فالبصاق ماء الفم إذا خرج منه، يقال: بصق يبصق بصاقاً، ويقال: البزاق والبساق، والتفل لغةً: البصق، ولكن هناك فرق، والتفل بالفم: نفخٌ معه شيءٌ من الريق، فإذا كان نفخاً بلا ريق فهو النفث، والتفل شبيهٌ بالبزاق وهو أقل منه.. إذاً: هناك ثلاث مراتب: البزق أو البصق وهو أعلاها الذي يكون فيه اللعاب أكثر شيء، ثم التفل ويكون فيه اللعاب أقل، ثم النفث ويكون فيه اللعاب أقل ما يمكن، ثم النفخ ليس فيه لعاب أبداً؛ لأنه هواء. أما بالنسبة للبصاق فالأصل أن ماء فم الإنسان طاهر ما لم ينجسه نجس، أما ما يتعلق بالبصاق من الأحكام، فإنها كثيرة؛ فمن ذلك: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في عددٍ من الأحاديث، ولنذكر بعضها "إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى" قاله النبي صلى الله عليه وسلم "لما رأى نخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فحكها ثم قال.." الحديث رواه الإمام أحمد و البخاري و مسلم وغيرهم، وكذلك جاء عند أبي داود وهو حديث صحيح: "التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن يواريه"، وجاء أيضاً عند أبي داود من حديث أبي سعيد وهو حديث حسن: "أيسر أحدكم أن يُبصق في وجهه؟ إن أحدكم إذا استقبل القبلة إنما يستقبل ربه عز وجل، والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه ولا في قبلته، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فإن عجل به أمرٌ فليتفل هكذا" أي: في ثوبه، وروى النسائي و الحاكم و البيهقي وغيرهم وهو حديث حسن: "إذا صليت فلا تبصق بين يديك ولا عن يمينك، ولكن ابصق تلقاء شمالك إن كان فارغاً، وإلا فتحت قدميك وادلكه" وأحاديث البزاق أخرجها الإمام البخاري رحمه الله في الصحيح ، وقال: باب حك البصاق باليد من المسجد، وجاء في حديث أنس : "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامةً في المسجد فحكه" .
        النهي عن البصاق جهة القبلة وعن اليمين:
        وقال في حديث: باب لا يبصق عن يمينه في الصلاة، قال في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "رأى نخامة في حائط المسجد، فتناول حصاة فحتها، ثم قال: إذا تنخم أحدكم فلا يتنخم قبل وجهه ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى"، وحديث أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتفلن أحدكم بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت رجله" وهذا الحديث " لا يتفلن أحدكم " وحديث: " إذا تنخم أحدكم " ليس فيه تقييد للصلاة، فالآن هل هذا مقيد بالصلاة أم لا؟ هل النهي عن البصاق إلى جهة القبلة خاصٌ بالصلاة أم لا؟ أما النووي رحمه الله "فإن رأيه المنع في كل حالة"، داخل الصلاة وخارجها، سواءً كان في مسجد أو غيره، وجاء عن مالك أنه قال: "لا بأس به خارج الصلاة"، وقال ابن حجر : "يشهد للمنع عن ابن مسعود أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة، عندنا الآن جهتين منهي عن البصق فيها: جهة القبلة والجهة اليمنى، هل هذا خاص بالصلاة؟ وإلا لو أن إنساناً يمشي في الشارع لا يبصق في اتجاه القبلة ولا يبصق عن يمينه". قال ابن حجر رحمه الله: "ويشهد للمنع ما رواه عبد الرزاق وغيره"، عن ابن مسعود: "أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في صلاة"، وعن معاذ بن جبل قال: "ما بصقت عن يميني منذ أسلمت" وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى أبناءه عنه مطلقاً، فالذين قالوا: إنه مخصوص بحالة الصلاة، قالوا: إنه قال في حديث أبي هريرة : "فإن عن يمينه ملكا" فإذا قلنا: إن الملك هذا غير الكاتب والحافظ؛ لأن هناك ملكاً يكتب، وملائكة تحفظ، فيظهر عند ذلك اختصاصه بحال الصلاة، أي: هناك ملك غير الحافظ، ملك في الصلاة يكون عن يمين المصلي، فغير الصلاة لا يكون فيها، إذاً: يجوز أن يبصق خارج الصلاة عن يمينه، هؤلاء الذين قالوا: إن العلة وجود ملك -فهموا الحديث- في الصلاة عن يمين المصلي. والقاضي عياض رأيه أن النهي عن البصاق عن اليمين في الصلاة إنما هو مع إمكان غيره، فإن تعذر فله ذلك، أي: إذا لم يتمكن أن يبصق في جهة أخرى غير اليمين، ولذلك قال ابن حجر :" لا يظهر وجود التعذر مع وجود الثوب الذي هو لابسه، فإنه يمكن مثلاً أن يأخذ طرف الثوب ويبصق فيه عن الجهة اليسرى مثلاً، وإذا كان عن يساره أحد -طبعاً المساجد من قديم كان فيها تراب وحصى- فإذا كان في المسجد تراب وأراد أن يبصق يبصق عن يساره تحت قدمه اليسرى ويدلكها بالتراب وتنتهي، لكن الآن المساجد ليست مفروشة لا بالحصى ولا بالتراب ولا بالرمل، فإذاً: لو بصق ستكون في السجاد فيحصل تلويث وتقذير للمسجد. إذاً: ما هو الحل؟ أن يخرج منديلاً فيبصق فيه أو يبصق في طرف الثوب إذا احتاج لذلك، فقد يكون فيه علة حيث يجتمع البلغم ونحو ذلك ويسد مجرى التنفس ولا يستطيع القراءة ولابد من إخراجه، فإذا احتاج إلى البصاق، فماذا يفعل؟ يبصق عن يساره في ثوبه، أو في منديل، أما البصاق على الأرض تحت القدم اليسرى هذا محله إذا كان في مكانٍ فيه رملٌ أو تراب أو نحوه بصق تحت قدمه اليسرى ودلك ذلك حتى يذهب أثرها، كما إذا كان يصلي في أرضٍ مكشوفة في الرمل.
        مشروعية البصاق تحت القدم:
        وإذا كان عن شماله شخص فعند ذلك يبصق تحت قدمه اليسرى حتى لا يؤذي من بجانبه، وقال ابن حجر: "ولو كان تحت رجله مثلاً شيءٌ مبسوطٌ أو نحوه تعين الثوب"؛ لأنك إذا بصقت سيأتي على البساط فيتعين البصق في الثوب، ولو فقد الثوب مثلاً فلعل بلعه أولى من ارتكاب المنهي عنه، إذا كان عن يسارك أناس، وفي المسجد بساط، قال في النهاية:" فلعل بلعه أولى من ارتكاب المنهي، أنك تقذر البساط، أو تتفل عن يسار صاحبك أو تفعل شيئاً من الأشياء التي نهي عنها ". وبالنسبة للنخامة والبصاق، والنخامة والنخاعة: شيءٌ ينزل من الأنف إلى الحلق، والأخرى شيء يصعد من الصدر إلى الحلق، فهذا الفرق بينهما، فحكمها حكم البصاق، لكنها أشد من جهة أنها لعابٌ فيه شيءٌ مخلوط به مما يتقذر به بزيادة.. البلغم والنخامة والنخاعة أشد من مجرد البصاق، لكن حكمها حكمه، أي: قضية اليمين والشمال ونحو ذلك حكمها حكمه، أي: إذا أراد أن يمتخط في الصلاة فأخرج منديلاً يلتفت إلى اليسار ويمتخط.
        كفارة البزاق في المسجد دفنها:
        كذلك قال في باب كفارة البزاق في المسجد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها" لأن المساجد من تراب ورمل، فلذلك يمكن أن تدفن، والكفارة تدل على أن من بصق في المسجد آثم؛ لأنه لما قال: (خطيئة) أي: أنه آثم وأن لها كفارة. هنا قال بعضهم: "إنما تكون خطيئة إذا لم يدفن، أما إذا دفنت فلا تكون خطيئة"، لكن هذا لعله ليس هو الأقوى؛ لأن مجرد فعله في المسجد لوحده فيه ما فيه، لكن قال ابن حجر رحمه الله تعالى "يستدل برواية أحمد بإسنادٍ حسن، من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: "من تنخم في المسجد فليغير نخامته أن تصيب جلد مؤمنٍ أو ثوبه فتؤذيه" قال: وأوضح منه في المقصود ما رواه أحمد و الطبراني بإسناد حسن، من حديث أبي أمامة مرفوعاً: "من تنخع -من النخاعة- في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة" فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، وفي حديث مسلم مرفوعاً قال: "ووجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن" فهذا يدل على رأي القائلين بأنها تكون خطيئة إذا لم تدفن، فإذا دفنت لم تعد خطيئة ولا تكتب خطيئة. وذَكَر قصة لطيفة: روى سعيد بن منصور، عن أبي عبيدة بن الجراح، أنه تنخم في مسجد ليلةً فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار، ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: " الحمد لله الذي لم يكتب عليَّ خطيئة الليلة" فدل على أن الخطيئة تختص بمن تركها لا بمن دفنها؛ لأن هذا تراب لو ألقى عليه ما ألقاه ثم دفنه زال المحذور، والعلة المذكورة في الحديث: إيذاء المؤمن، فإذا دفنها زالت العلة. إذاً: هناك من العلماء من يقول: لا يلقيها في المسجد أصلاً، وهناك من يقول: إذا دفنها فلا حرج في إلقائها، وكذلك لو جعلها في ثوب فهو جائز حتى لو كان في مسجد. وعند أبي داود من حديث عبد الله بن الشخير: "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله" إسناده صحيح، والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم. وتوسط بعضهم، فحمل الجواز على ما إذا كان له عذرٌ، كأن لم يتمكن من خروج المسجد، أي: لو كنت في المسجد واحتجت إلى إخراجها فاخرج إلى خارج المسجد وألقها، لكن لو كنت في الصلاة ولا تتمكن من الخروج خارج المسجد فماذا تفعل؟ فعند ذلك يجوز إلقاؤها في المسجد، لكن بدون تقذير أو تجعلها في منديل.. ونحو ذلك. قال ابن حجر رحمه الله: وهو تفصيلٌ حسن، والله أعلم. وينبغي أن يفصل أيضاً بين من بدأ بمعالجة الدفن قبل الفعل كمن حفر أولاً ثم بصق وأورى، وبين من بصق أولاً بنية أن يدفن مثلاً، فأيهما أحسن؟ الذي يهيئ المكان قبل أن يبصق فيه كحفرٍ ثم يدفنه فيه أولى من إبرازها ثم دفنها. وقال الجمهور: يدفنها في تراب المسجد أو رمله أو حصبائه، هذا أيضاً بناءً على أن المساجد مفروشة بالتراب أو الحصباء. وأورد كذلك البخاري رحمه الله في باب دفن النخامة في المسجد حديث أبي هريرة: "إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها" هذا بالنسبة لاستدلاله بالحديث على كونه في المسجد، وقال في حديث:"إذا بدره البزاق فليأخذ بطرف ثوبه" عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة فحكها بيده، ورئي منه كراهية، وقال: إن أحدكم إذا قام في صلاته، فإنما يناجي ربه، فلا يبزقن في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه ورد بعضه على بعض، قال: أو يفعل هكذا" يعني: النبي صلى الله عليه وسلم أخذ طرف الثوب فبصق فيه ورد بعضه على بعض، كأنه أغلقه عليه ومسحه بحيث أنه لا ينتقل إلى شيءٍ آخر، ثم قال: "أو يفعل هكذا" فإذا عرض البصاق فهذا الإرشاد إلى ما يفعل، هكذا تكون الطريقة. الحديث فيه إزالة هذه الأشياء من المسجد وتفقد الإمام أحوال المسجد، وإزالة الأذى منه، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، واستدلوا بالحديث على أن خروج الصوت مثل النحنحة والنفخ في الصلاة لا يبطلها، ولكن بعضهم قال: إذا خرج منه أحرف هجاء أكثر من حرفين تبطل الصلاة؛ لأنه صار كلاماً عندهم، ولكن المسألة في قضية التعبد إذا تعمد أن يتكلم في الصلاة بكلام أجنبي بطلت وإلا فلا؛ لأنه إذا تنخم خرج حرف الخاء على سبيل المثال. هذا ما سنقف عنده في هذا الموضع، وبقي أشياء يسيرة في البصاق والنخامة والنخاعة نتكلم عليها إن شاء الله تعالى.والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
        التعديل الأخير تم بواسطة محبة المساكين; الساعة 12-11-2011, 10:40 PM. سبب آخر: تنسيق الموضوع


        تعليق


        • #5
          رد: محاضرة( آداب التثاؤب والتجشؤ ) للشيخ محمد المنجد

          بارك الله فيكى
          وجزاكى الله خيرا
          اللهم فقهنا فى ديننا

          تعليق


          • #6
            محاضرة( آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل )للشيخ محمد المنجد

            عناصر الموضوع :
            1.أهمية الالتزام بآداب الصحبة
            2.آداب الأخوة
            3.الأسئلة
            4.آداب الصحبة
            إن الإنسان في هذه الحياة لا بد أن يكون له أصدقاء وإخوان؛ لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، وقد جاءت أحاديث في السنة النبوية تدل على فضل الأخوة وعِظَم منزلتها إذا كانت خالصة لله تعالى ليس فيها أي غرض من أغراض الدنيا، وإن أفضل طريقة لدوام الصحبة والمحافظة عليها هي الالتزام بآداب الصحبة، والتي ذكر الشيخ منها في هذا الدرس آداباً كثيرة.
            أهمية الالتزام بآداب الصحبة:
            الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فحديثنا في هذه الليلة أيها الإخوة عن أدب آخر من الآداب الشرعية ألا وهو "آداب الصحبة". وآداب الصحبة كثيرة, والصحبة ولا شك من الأمور المهمة للغاية, فإن الإنسان اجتماعي بطبعه ولا بد أن يكون له إخوان وأصحاب و"المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى قد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه خيراً فقال الله عز وجل: " فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ "[آل عمران:159] وقال سبحانه: " لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ"[الأنفال:63] وإذا كان الإنسان على دين خليله فلا بد أن يكون لهذا الخليل صفات تجعل مصاحبته في مرضاة الله سبحانه وتعالى, والصاحب يؤثر في صاحبه ولا شك، وقد أوصى أهل العلم بوصايا فقال أحدهم:

            لا تصحب أخا الجهل وإيـاك وإيـــاه

            فكم من جاهل أردى حليماً حيـن آخـاه

            يقاس المرء بالمـرء إذا ما المرء ماشـاه

            وللشيء من الشـيء مقـاييـس وأشـباه

            وللقلـب من القلـب دليـل حيـن يلـقاه

            ولا شك أن الاعتناء بآداب الصحبة يربط الإخوان ببعضهم البعض, ويجعل المسلمين جسداً واحداً كما يريد الله سبحانه وتعالى، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وإذا اعتنى الإنسان بإخوانه فصفت العشرة ودامت المودة، وأصبح المؤمنون كالجسد الواحد؛ كان ذلك بناء عظيماً للمجتمع الإسلامي، وسداً منيعاً في وجه الشرّ وأهل الكفر.
            آداب الأخوة:
            فتعالوا بنا نستعرض بعض آداب الأخوة التي ذكرها بعض أهل العلم, فمن آداب الأخوة: أولاً: حسن الخلق، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن خير ما يُعطَى الإنسان خلق حسن", كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم "بمخالطة الناس بالخلق الحسن ", فقال صلى الله عليه وسلم: "وخالق الناس بخلق حسن"وهو اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن حسن الخلق يولد الأخوة ويؤلف الطباع. ومن آداب الصحبة أيضاً أن تعطي كل أحد من الذين تصاحبهم حقه على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم, قال بعض أهل العلم: للمعاشرة أوجه، فللمشايخ والأكابر بالاحترام والخدمة والقيام بأشغالهم, وللأقران والأوصاف بالنصيحة وبذل الموجود، وللتلاميذ بالإرشاد والتأديب، والحمل على ما يوجبه العلم وآداب السنة. ومن آداب الأخوة كذلك: الإغضاء عن العثرات, فعثرات الإخوان لا بد من حصولها, والصفح عنها من قيم الصاحب المؤمن, قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الفتوة: الصفح عن عثرات الإخوان"
            وكما يحب الإنسان أن يعامل إذا أخطأ بالصفح والتغافر فينبغي كذلك أن يعامل إخوانه, قال ابن الأعرابي: "تناسَ مساوئ الإخوان يدم لك ودهم " . ولا شك أن الذين لا يتناسون عثرات إخوانهم يقعون في مأزق عندما يفقدونهم الواحد تلو الآخر, والله سبحانه وتعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: " فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ "[الحجر:85]ما هو الصفح الجميل؟ الذي ليس فيه تقريع ولا تأنيب وإنما هو معاتبة للرفيق, والمؤمن يألف ويؤلف, ومن الأشياء التي تجعل الإنسان يؤلف أن يتغاضى عن عثرات إخوانه. وكذلك من الآداب: ستر عيوب الإخوان.. وتحسين عيوبهم, فبعض الناس قد يجد في أخيه عيباً؛ فالموقف أن يحاول إصلاح عيبه، وأن يرشده إلى الطريقة التي به يقوم عيبه, ويستر عيوبهم؛ بمعنى أنه لا يشيعها ولا يتطلبها, ولذلك قال بعض السلف : "المؤمن يطلب معاذير إخوانه, والمنافق يطلب عثرات إخوانه", وينبغي على الإنسان إذا أخطأ أخاه أن يلتمس له الأعذار الكثيرة، وإذا لم يقبل عذره فليتهم نفسه، كيف تطلب كل هذه الأعذار ثم لا تقبلها؟ ومن آداب الأخوة: أن يعاشر من يوثق بدينه وأمانته في الظاهر والباطن؛ لأن الله قال: " لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" [المجادلة:22] ولذلك لا خير في مصاحبة أهل الدنيا؛ لأن أهل الدنيا يدلون على طلبها وجمعها ومنعها, ولا شك أن هذا يبعد الإنسان عن سبيل النجاة، وإنما يعاشر أهل الخير ومن يدله على طلب الآخرة، ولذلك أوصى بعضهم صاحباً له يريد مفارقته بقوله: "عليك بصحبة من تسلم منه بظاهر أمرك، وتبعثك على الخير صحبته، ويذكرك الله رؤيته أي: رؤيته تذكرك بالله، هذا الذي تحرص على صحبته. وكذلك من آداب الصحبة: ألا يحسد إخوانه على ما يراه من النعم عندهم, لأن الله سبحانه وتعالى قد فاوت بين العباد في الأرزاق والعطيات، والمواهب والأموال، ونحو ذلك, فينبغي على الأخ إذا آخى أخاً له ألا يحسده على نعمة عنده, وأن يحمد الله سبحانه وتعالى أن وهبها الله لأخيه, والله عز وجل قال: " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ "[النساء:54] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا". وكذلك من آداب الصحبة: ألا يواجه أخاً من إخوانه بما يكرهه, فإذا كان يكره أمراً معيناً فلا يواجهه به، ما لم يكن في ذات تلك المواجهة مصلحة له أو نصيحة في الدين. ومن آداب الصحبة: ملازمة الحياء مع الأخ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحياء من الإيمان" وقال عليه الصلاة والسلام: "استحي من الله كما تستحي رجلاً صالحاً من قومك" بل استحي من الله أعظم مما تستحي من رجل صالح من قومك, لكن ضربه مثلاً للتقريب. وكذلك من آداب الأخوة: بشاشة الوجه، ولطف اللسان، وسعة القلب، وإسقاط الكبر. ومن آداب الأخوة: ألا يصحب إلا عاقلاً وعالماً، وحليماً تقياً.. فإن صاحب العقل مهم, بالإضافة إلى كونه صاحب دين. وكذلك من آداب الأخوة: سلامة الصدر للإخوان والأصحاب، والنصيحة لهم، وقبول النصيحة منهم, وأن يكون كما قال الله: " إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " [الشعراء:89] وأن يكون صاحب صدر سليم؛ خال من الأحقاد والضغائن على إخوانه. وكذلك من آداب الأخوة: ألا يخلف الإنسان وعده, إذا وعد أخاه لا يخلفه؛ لأن إخلاف الوعد من علامات النفاق كما قال صلى الله عليه وسلم : "آية المنافق ثلاث.. وذكر منها إذا وعد أخلف" وقال الثوري رحمه الله: "لا تعد أخاك موعداً فتخلفه فتستبدل المودة بغضه " يحل محل المودة البغض, وقال نصر المروزي رحمه الله:

            يا واعد الوعد الذي أخلـفا ما الخلف من سيرة أهل الوفا

            ما كان ما أظهرت من ودنا إلا سـراجـاً لاح ثم انطفـا

            ومن آداب الأخوة: أن يصحب من يستحي منه ويحتشمه.. وقال بعضهم: أحب الطاعات بمجالسة من يستحيا منه, وقالوا كذلك: ما أوقعني في بلية إلا صحبة من لا أحتشم, وما المقصود بصحبة من لا تحتشم أي: الذي لا تستحي أن تفعل أمامه من المنكرات ما شئت, هذا لا تصحبه, لأنك مهما فعلت من الأخطاء والمنكرات فإنك لا تشعر بالحشمة. لا تحتشم أي: لا تقيم له وزناً, احرص على مصاحبة الشخص الذي تستحي من فعل أو قول المنكر أمامه، احرص على مصاحبة الشخص الذي تحتشم وتحرص على ألا يظهر منك عيب ولا خلل أمامه, لأن كثرة مصاحبة هؤلاء توجب للإنسان الابتعاد عن هذه السيئات, أما إذا صاحب أشخاصاً من السفلة الذين لا يستحي أن يسمع أمامهم منكراً أو يقول أمامهم منكراً؛ فلا شك أن هذا سيجرؤه على المنكرات, بل ربما أعانوه عليها. وكذلك من آداب الأخوة: أن يحفظ إخوانه فيما يصلحهم لا ما يريدونه, فإن الصاحب قد يريد منكراً أو يريد شراً فأنت لا تحرص على تلبية رغبته لأنه يريد منكراً, والمؤمن يعاشرك بالمعروف، ويدلك على صلاح دينك ودنياك, والمنافق يعاشرك بالممادحة ويدلك على ما تشتهيه, فهذا الفرق بين مصاحبة المؤمن ومصاحبة المنافق. وكذلك من آداب الصحبة: ترك ما يؤذيه عموماً بالمواجهة أو بغيرها, لأن الله سبحانه وتعالى يقول: " وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً " [الأحزاب:58] ومن آداب الصحبة: أن تحب له ما تحب لنفسك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". ومن آداب الصحبة: أن تحرص على ما يجلب المودة بينك وبينه كما قال عمر رضي الله عنه: "ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته, وتوسع له في المجلس, وتدعوه بأحب الأسماء إليه". ولا شك أن السلام من أسباب المحبة.. وإذا وسعت له في المجلس إذا دخل دل ذلك على قيمته عندك, وعلى حرصك على راحته, وعلى إكرامك له, والنفوس ترتاح لمن يكرمها، وإذا دعوته بأحب الأسماء إليه فإن ذلك أيضاً من أسباب محبته لك, فإن النفوس لا ترد من يناديها باسم فيه عيب أو فيه نوع من السخرية. وكذلك من آداب الأخوة: أن تحمل كلامه على أحسن الوجوه: فإذا وجدت لكلامه وجهاً حسناً فاحمله عليه, وضع أمر أخيك على أحسنه. ومن آداب الأخوة: السؤال عن اسمه واسم أبيه وعن منزله، لئلا تقصر في حقه, فإنك إذا عرفت أسماء أقاربه كان ذلك سبباً في مودته, لأنك إذا عرفتهم في مناسبة أو مكان فأكرمتهم من أجله؛ فإن هذا من الأسباب التي تقوي العلاقة بينك وبينه, فإذا عرفت أن أباه فلان وأخاه فلان وابن عمه فلان وغير ذلك, وأن صديقه فلان، كان برك لهم من برك له. وكذلك من آداب الأخوة: أن تلازم الأخوة ولا تقطعها ولا تمل منها, فإن بعض الناس يصاحبون الأشخاص لفترات قصيرة ثم يتركونهم, ويكون همه هو التعارف والمداخلة ثم الخروج وهكذا, والأخوة الحقيقة هي التي تدوم ويحرص الإنسان على الالتزام بها, لا تركها ومفارقتها, ولا شك أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل, وقد قال بعضهم: ليس لملول صديق, والملول: الذي يمل من كل أحد فيعاشر معاشرة بسيطة ثم يترك ويستبدل بالإخوان آخرين، وهكذا، ثم يستغني عنهم, ويمل من مصاحبتهم, فلا شك أن الملول لا يدوم له أخ.
            وكذلك من آداب الأخوة: ألا تقطع صديقاً بعد إذ صادقته، ولا ترده بعد أن قبلته, قال الخليل بن أحمد : لا تواصلنّ صديقاً إلا بعد تجربة, يعني: لا تصادق وتواصل إلا بعد تجربة, فإذا خبرته وسألت عنه وعرفت حاله فصاحبه وآخه, وإذا صادقته فلا تقاطعه, فمؤمن بلا صديق خير من مؤمن كثير الأعداء. ولا شك أن الإخوان إذا قاطعهم الإنسان ربما انقلب بعضهم عدواً, ولذلك لا تصاحب صديقاً إلا بعد تجربة, وإذا صاحبته فلا تقطعه؛ لأن من آداب الأخوة أن المؤمن إذا ظفر بأخ أو صديق لا يضيعه؛ لأن الأخوة والصداقة عزيزة, أي: أن الإخوان الذين عندهم الوفاء والصدق والبر قلة, فإذا ظفرت به فلا تتخل عنه ولا تقطعه, وكتب بعض الحكماء لصاحب له: استوحش ممن لا إخوان له, وأشد الناس تفريطاً من وجد أخاً ثم ضيعه بعد أن وجده, وإن وجدان الكبريت الأحمر أيسر من وجدان أخ, والكبريت الأحمر نوع خالص منه معروف يضرب به المثل لندرة وجوده, وإني لفي طلب الإخوان منذ خمسين سنة.. واعلم أن الناس ثلاث: معارف وأصدقاء وإخوان, فالمعارف بين الناس كثير, أي: من جهة المعارف قد يتعرف الإنسان على أشخاص كثيرين ويعرف أشخاصاً كثيرين, لكن الأصدقاء من المعارف أقل, والصديق عزيز، والأخ قلما يوجد, فقد تتعرف على شخص، وقد تصادق أشخاصاً في مكان العمل أو في فصل دراسي, والإخوان من هؤلاء الذين تصطفيهم بصفاتهم التي يؤمن جانبهم، وتأمن على نفسك إذا صادقتهم ندرة قلة
            الأسئلة :
            لا يشترط وجود جميع الآداب في الصاحب:
            السؤال: يقول: قد يجد بعضنا بعض الأخطاء وبعض الزلات من قبل بعض الأخوة! وكذلك نجد بعض التقصير فيما ذكرته من الصفات، ومع هذا كله تجد فيهم الخير الكثير, هل تركهم وعدم مخالطتهم في الكثير من نشاطاتهم المفيدة والنافعة أمر ممكن بما سبق من الأخطاء؟ الجواب: طبعاً عندما نقول الآن: آداب الأخوة وآداب الصحبة وهي هذه التي تقدم ذكرها، فإن اجتماعها في شخص واحد لا أظنها توجد, وإن وجدت فنادر جداً جداًَ, لكن احرص على أن تصاحب من اجتمع فيه أكبر قدر من هذه الخصال, ثم إننا الآن نتكلم فيما يجب علينا ولا ننظر للمسألة من قبل الآخرين؛ نقول: مَنْ تتوفر فيه هذه الصفات حتى أصاحبه؟ لا. أنت وفر هذه الصفات فيك فيمن تصاحبه, ولو أن كل واحد منا نظر هذه النظرة لتقاربت النفوس, أما كل واحد يقول: هذه غير موجودة في فلان, وهذه غير موجودة في فلان, لا يصفى لك شيء.
            ذم كثرة السؤال:
            السؤال: أحد الإخوان كثير الأسئلة، في الجلوس معه مشكلة تحقيق, وكثير ما يقع في الغيبة أو يوقع غيره فيها بكثرة أسئلته؟ الجواب:أولاً: انصحه, وقل له: إن الجلسة معك أشبه بالتحقيق. ثانياً: فإنه إذا سأل سؤالاً يترتب على الجواب غيبة, فلست ملزماً بالجواب, بل لا يجوز لك أن تجيب.
            حقيقة الاحتجاب عن الإخوان:
            السؤال: يقول: إننا في السكن الجامعي نضع أحياناً لافتات على الباب مثلاً: الرجاء عدم الإزعاج ونحو ذلك, حين يكون لدينا اختبارات أو نكون مشغولين, فهل هذا من باب الاحتجاب عن الإخوان؟ الجواب: نعم. هذا من الاحتجاب عن الإخوان, لكن إذا كان لعذر مثل أن تخشى أن يضيع الوقت من مجيء واحد تلو الآخر؛ خصوصاً في هذه الأماكن التي فيها سكن متقارب، والغرف متجاورة, والطارقون كثر، والمارون متعددون, فليس من المصلحة أن يجعل الإنسان غرفته كالمجلس العام, مفتوحاً، ثم بعد ذلك يصاب بما يصاب به من الرسوب وتدني المستوى ونحو ذلك, فلا شك أن هناك أوقاتاً للزيارة، وأوقاتاً للمدارسة؛ لكن الذي يكون دائماً مكتوب على غرفته: الرجاء عدم الإزعاج فلا شك أن هذا ممن يحتجب على إخوانه. وكذلك يمكن للإنسان أن يرد رداً جميلاً، ويعتذر اعتذاراً مؤدباً، أما أن يكون إذا طرق عليه الباب فتح النافذة وقال: ماذا تريد..؟ "هات من الشباك, خذ من الشباك، ومع السلامة" فلا شك أن هذا نوع من التعامل يؤدي إلى جفوة ووحشة, وكذلك يظهر النرفزة يقول: ضيعتم أوقاتي.. ضيعتم مستقبلي.. ضيعتم دراستي.. أنتم السبب.. لولا.. فلا شك أن هذا لا ينبغي، وأن على الإنسان أن يعالج الأمر من بدايته, وينبغي على الجميع أن يعذر بعضهم بعضاً في مثل هذه الأشياء، ثم إن الزيارات في أوقات الامتحانات ليست مناسبة, هل من الضروري أن تزوره في أوقات الامتحانات؟ يمكن أن تكون في غير أوقات الامتحانات، ثم الامتحانات النهائية الكبيرة التي فيها النسبة الكبرى والتي يتوقف عليها النجاح والرسوب أكثر من غيرها, يتشدد فيها الإنسان بشيء من العزلة من أجل المذاكرة، بينما الأشياء الصغيرة والأشياء التي تأتي على مدار السنة هذه الظروف اسمح فيها, فالمسألة إذاً مسألة تقدير ظروف من الجميع.
            كثرة الاختلاط بشخص معين :
            السؤال: يقول: إن مما نجد في وسط الشباب والملتزمين صحبة شخصين فيما بينهما، فيزعمون أنها لله, ولكن في حقيقتها ليست كذلك, إنما هي لتشاكل أو استحسان أحدهما للآخر، وقد تؤدي لأمور لا يحمد عقباها؟! الجواب: نعم. هذه مسألة تكاد تكون كالظاهرة في كثير من الأوساط, فصحيح أن الطيور على أشكالها تقع, لكن بعضهم يقع على أم رأسه في مثل هذه المسألة، فيتورط في علاقة تعلق تؤدي إلى إتلاف قلبه, وتؤدي إلى استحكام المحبة بحيث تصل إلى درجة من العشق، ولا شك أن هذا أمر مذموم؛ ولهذا علامات، وفرقان يفرق بين الحق والباطل فيه, فأرى في مثل هذه الحالة أن يوعظ هذان ويذكرا بالله تعالى وبالأخوة الحقيقية, ويقال لهما: لو كنتما صادقين في أخوتكما لصاحبتما فلاناً وفلاناً ممن هو أتقى لله منكما, فلماذا عكفت عليه وهناك من هو أتقى لله منه, وأعلم بالعلم الشرعي، وأنشط في الدعوة إلى الله، وأكثر تخلقاً بالأخلاق الحسنة, فإن كنت صادقاً في جعلك الأخوة المعيار فيها أنها لله فأين صحبتك للآخرين؟
            سؤال الله الوجه الحسن:
            السؤال: هل يجوز دعاء الله بأن يرزقه وجهاً حسناً؟ الجواب: نعم. لا بأس, وورد في حديث المرآة وهو ضعيف: اللهم كما حسنت خَلْقي فحسن خُلُقي؛ لكن لا بأس أن يدعو الإنسان أن يحسن خَلْقه وخُلُقه.
            حكم قول القائل: في ذمتك:
            السؤال: ما حكم قول: في ذمتك, على سبيل التأكيد؟ الجواب: إذا كان يميناً لا يحلفه بالذمة؛ لأنه لا يحوز الحلف إلا بالله.
            المسح على رأس اليتيم:
            السؤال: هل يؤجر من مسح على رأس أخيه؟ الجواب: هذا ورد في اليتيم, إذا كان أخوك يتيماً أو صاحبك يتيماً, وكان يؤتى بالصبيان فيمسح صلى الله عليه وسلم رء وسهم ويدعو لهم بالبركة.
            زيارة الأصدقاء المقصرين مع سَبْق نصحهم:
            السؤال: ما حكم زيارة الأصدقاء والزملاء المقصرين، مع العلم بأنه سبق نصحهم ودعوتهم؟ الجواب: لا بأس، لكن مع الاستمرار بالنصح والدعوة.
            حكم التبول واقفاً:
            السؤال: ما حكم التبول واقفاً؟ الجواب: جائز إذا كان يأمن من ارتداد الرشاش عليه.
            الإنفاق على الإخوان صدقة:
            السؤال: هل الإنفاق على الإخوان من الصدقة؟ الجواب: نعم. من أنواع الصدقة. هذا ختام المطاف.
            ونسأل الله أن يجعلنا إخوناً في سبيله متحابين، ويجعلنا في الجنة على سرر متقابلين، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
            التعديل الأخير تم بواسطة محبة المساكين; الساعة 12-11-2011, 10:10 PM. سبب آخر: تنسيق الموضوع


            تعليق


            • #7
              محاضرة( آداب الضحك )للشيخ محمد المنجد




              بسم الله الرحمن الرحيم
              السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

              محاضرة( آداب الضحك )للشيخ محمد المنجد




              عناصر الموضوع :
              1. معنى الضحك ومراتبه
              2. الضحك من صفات الله وتأويله بالرضا تأويل باطل
              3. حكم الضحك
              4. صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم
              5. أسباب الضحك
              6. بعض كلام العلماء في الضحك
              7. أحاديث تبين هديه عليه الصلاة والسلام وأدبه في الضحك
              8. ضحك الأنبياء والصالحين
              9. مواقف من ضحك الصحابة
              10. النهي عن الضحك من الضرطة
              11. حكم الضحك في الصلاة
              12. علاج كثرة الضحك
              13. آداب الضحك


              ما هي صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما هي السنة فيه؟ ما هي المواقف التي ضحك فيها النبي صلى الله عليه وسلم، أو ضحك فيها الصحابة؟ وما هو ضحك الأنبياء والصالحين؟ وما هو قرين الضحك؟ وما هو ضده؟ وكيف يتخلص منه؟ وبماذا وصفه أهل العلم؟ وما هي أسباب الضحك؟ وما هو حكمه لا سيما في الصلاة؟ أسئلة كثيرة جاءت إجاباتها مفصلة ضمن هذه المادة.


              معنى الضحك ومراتبه:
              الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعــد: فأحييكم -أيها الإخوة- بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموضوع درسنا في هذه الليلة في سلسلة الآداب الشرعية هو (آداب الضحك) الضحك الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى )[النجم:43]
              أي: أنه خلق في النفس صفة الضحك وصفة البكاء، فيضحك الإنسان ويبكيه، وكل ذلك مما ركبه الله سبحانه وتعالى في طبعه. أما بالنسبة للضحك فهو في اللغة: مصدر ضحك، وتعريفه: انبساط الوجه وبدو الأسنان، والفرق بينه وبين التبسم، أن التبسم هو مبادئ الضحك، فأول الضحك يكون تبسماً، ويكون غالباً للسرور، كما قال الله سبحانه وتعالى في الضحك: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ )
              [عبس:38-39] والضحك أعم من التبسم، فكل تبسمٍ ضحك، وليس كل ضحكٍ تبسماً. ولذلك قال ابن حجر رحمه الله: فإن كان بصوتٍ بحيث يُسمع من بعدٍ فهو القهقهة، وإلا فهو الضحك؛ وإن كان بلا صوتٍ فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك، وهي الثنايا والأنياب وما يليها، وتسمى النواجذ وهي التي تظهر عند الضحك. إذاً: عندنا في المسألة التفصيل على ثلاث مراتب: المرتبة الأخف: وهي التبسم، إذا كان بلا صوت، انفراج الفم تبسمٌ، وإن كان بصوتٍ فهو الضحك، وإن كان بحيث يسمع هو وجيرانه ومن بَعُدَ فهو القهقهة. إذاً يُطلق على التبسم ضحك، وما كان ضحك النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً، فالضحك أعم من التبسم، وهو نوعٌ منه.

              الضحك من صفات الله وتأويله بالرضا تأويل باطل:
              أما بالنسبة للضحك فهو صفة لله تعالى، فإنه عز وجل يضحك ، كما جاء في أحاديث كثيرة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله فيستشهد) رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد : (أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يُقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلا من الجنة، يضحك إليهم ربك، فإذا ضحك ربك إلى عبدٍ في موطن فلا حساب عليه). كذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله ضحك من صنيع فلانٍ وفلانة لما آثرا الضيف فقدما له طعام الأطفال، وباتا هما وأولادهما جائعين).. إلى غير ذلك من النصوص الشرعية التي فيها إثبات الضحك، وهو صفة لله عز وجل نثبتها له كما يليق بجلاله وعظمته، ولا نحرفها ولا نلعب بها، ولا نقول: الضحك بمعنى الرضا، صحيح أن الله إذا ضحك من شيء فهو يدل على رضاه سبحانه وتعالى، لكن ليس الضحك هو الرضا، وإنما من آثار صفة الضحك الرضا. فإذا رأيت في كلام بعض المؤلفين تفسير ضحك الله عز وجل بأنه الرضا فاعلم بأنه تأويلٌ منبوذ، وأنه تحريفٌ في الواقع، وقد جاء في الحديث الصحيح أيضاً: (إن الله سبحانه وتعالى ينشئ السحاب، فينطق أحسن النطق، ويضحك أحسن الضحك) وقد فسَّره ابن كثير رحمه الله في تفسيره لما تعرض للحديث الذي رواه أحمد هذا بأن نطق السحاب وضحكه هو البرق والرعد.


              حكم الضحك:
              أما بالنسبة للضحك فلا شك أن الإكثار منه مذموم شرعاً، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الكسوف: (ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً). إذاً: حال المؤمن الجاد المتصل قلبه بالله، المستحضر لعظمته سبحانه وتعالى، الذي يتذكر ما في اليوم الآخر وما يحدث يوم القيامة من الأهوال، ويعرف شدة عذاب النار لا يكثر من الضحك، فإننا ما خلقنا للضحك واللهو واللعب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً حكم كثرة الضحك وهو يوصي أبا هريرة : (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، وأقلّ الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب). هذا الحديث يبين حكم الضحك، حتى ذكر ابن النحاس رحمه الله في كتابه العظيم تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ، قال في تعداد الصغائر -لأنه ذكر فصلاً يتعلق بالكبائر وفصلاً يتعلق بالصغائر- ومنها -من الصغائر-: كثرة الضحك بلا سبب، كذا عدها العلماء من الصغائر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر: (إياك وكثرة الضحك! فإنه يميت القلب) ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو خير البشر متصلاً قلبه بربه، فكان لا يُكثر من الضحك، ولا يقهقه كما يفعل كثيرٌ من الناس، بل كان عليه الصلاة والسلام وقوراً متزناً هادئاً، فقد جاء في صحيح مسلم، عن جابر بن سمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت، قليل الضحك) وهاتان صفتان ينبغي أن يتخلق بهما المسلم الجاد، ولا شك أن هذا يعود إلى تقدير وتذكر ما خلق الإنسان من أجله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) [المؤمنون:115] وتصف عائشة رضي الله عنها ضحك النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الإمام البخاري ، قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، وإنما كان يتبسم). وجاء في رواية أخرى: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط حتى ترى لهواته). واللهاة: شيء في الفم، تظهر إذا أغرق الإنسان في الضحك، فانفتح فمه من شدته، فتظهر هذه اللهوات، ولذلك فإن الإقلال منه والاقتصاد وجعل أكثره تبسماً هو السنة. وكذلك فإن الضحك منه ما يكون كفراً كما إذا اشتمل على استهزاءٍ بشيءٍ مما أنزله الله سبحانه وتعالى، فإذا ضحك سخرية مما أنزله الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو من شخص النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه كافر، وقد أتاك نبأ الكفار من قريش لما اجتمعوا عند الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلي، قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي -انظر كيف يصفون النبي صلى الله عليه وسلم- أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم -أشقى القوم- ابن أبي معيط ، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعضٍ من الضحك. وفي رواية للبخاري أيضاً: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض حتى جاءت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فأزالته عن ظهره، ثم أقبلت عليهم تسبهم من شجاعتها بالرغم من صغرها رضي الله عنها. ومن الأمور المتعلقة بآداب الضحك: أنه لا يجوز الكذب لإضحاك الناس، كما يفعل كثيرٌ من المضحكين الذين همهم إضحاك القوم، فإنهم يكذبون لأجل ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الحسن الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما: (ويلٌ للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويلٌ له ويلٌ له). وبهذا تعلمون شيئاً من الأضرار الشرعية الناجمة عما يسمونه اليوم في عالم الفن والمسرحيات (بالكوميديا) الذي من أجله يعملون الأفلام والمسرحيات المضحكة، والغرض منها إضحاك الناس؛ فيكذبون لأجل ذلك، وكثيراً ما يستهزئون بالدين، أو بأسماء الله سبحانه وتعالى، يحرفون فيها، أو يلمزون المطوعين من المؤمنين من عباد الله الصالحين، ولا شك أن هذا كفر. كثير من المسرحيات التي صدرت مؤخراً فيها هذا الكفر وهي في قالب (الكوميديا)،


              ثم لو قلنا: إنها لا تشتمل على الكفر فهي تشتمل على الكذب، فإن فيها كثيراً من الكذب، ثم إن قلنا: إنها سالمة من الكذب، فإن مبناها على إضحاك الناس ضحكاً متوالياً حتى أن بعضهم من شدة الضحك قد يُلقى على الأرض، وتعلو أصوات القهقهات من المتفرجين، فهي تقسي قلوب جميع الناظرين إليها، ولا شك أن كثرة الضحك تميت القلب. وبذلك نعلم مخالفة هذه المسرحيات والأفلام الكوميدية لآداب الشريعة الإسلامية، ولذلك يقوم القائم منها وبطنه موجوعٌ من شدة الضحك، وقد علا قلبه غلاف سميكٌ من الران والغفلة التي نجمت عن مشاهدة هذا الفيلم أو المسرحية، وما عُهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحداً من أصحابه كانوا يجلسون مجلساً كله ضحك، من أوله إلى آخره، يجمعون به سائر الطرف وسائر الأشياء المضحكة ويعملون مجلساً للضحك، فبهذا يُعلم بأن هذه الأشياء كثيرٌ منها محرم والباقي مكروه.


              صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم:

              الآن نتعرف على صفة ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه أنه قال: (ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، ومن طريقٍ أخرى عنه قال: (ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، لا رآني إلا ضحك) أي: تبسم، لأن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وقد قلنا سابقاً: إن الضحك يُطلق على التبسم، وإن كل تبسمٍ في اللغة هو ضحك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله، وأعذبهم كلاماً، وأسرعهم أداءً، وأحلاهم منطقاً، قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في فصلٍ يتعلق بهديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه: "وكان يضحك مما يُضحك منه، وهو مما يُتعجب من مثله ويستغرب"، كان يضحك من الشيء الذي يدعو للضحك، لكن كان غالب ضحكه عليه الصلاة والسلام تبسماً، والأشياء التي يُضحك منها فسرها رحمه الله بقوله: "وهو مما يتعجب من مثله ويستغرب"، وستأتي شواهد لهذا. وعقد الترمذي رحمه الله في كتاب الشمائل المحمدية : باب ما جاء في ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم،


              وقد تقدم ذكر بعض الأحاديث الصحيحة منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مما جاء عنه أنه ربما جلس في مجلسٍ وفيه بعض أصحابه، فذكروا أشياء مما يُضحك منها فتبسم صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم : عن سماك بن حرب قال: قلت لـجابر بن سمرة : (أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيراً، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون) أي: حصل في بعض المجالس أنهم كانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم. مثال على هذه الأشياء: أنه ربما ذكروا قصة الرجل الذي كان يجعل صنماً من تمرٍ يزعم أنه إلهه فأينما حل وارتحل جعله معه، وأنزله معه يسجد له، فإذا جاع أكل منه، فهذا مما كان يتبسم منه صلى الله عليه وسلم، وربما كان في بعض أصحابه أناس من الظرفاء الذين عندهم طبعٌ فيه مزاحٌ وظرفٌ، فكان عليه الصلاة والسلام يضحك مما يحصل منهم من هذه الظرف، كما جاء في صحيح البخاري من حديث عمر بن الخطاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) فإذا وجد في طلاب أو جلساء العالم من عنده روح الدعابة والطرفة، فإذا حصل عند العالم أو هذا الشخص القدوة شيءٌ من الضيق أدخل على نفسه شيئاً من السرور بإضحاكه بحق، وهذا لا بأس به.


              أسباب الضحك:

              قال ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد : وللضحك أسبابٌ عديدة هذا أحدها وهو الضحك مما يتعجب منه ويُستندر. الثاني: ضحك الفرح: وهو أن يرى ما يسره أو يباشره -وسيأتي أمثلة لهذا إن شاء الله-. والثالث: ضحك الغضب: وهو كثيراً ما يعتري الغضبان إذا اشتد غضبه، وسببه تعجب الغضبان مما أورد عليه الغضب، وشعور نفسه بالقدرة على خصمه، وأنه في قبضته، وقد يكون ضحكه لملكه نفسه عند الغضب وإعراضه عمن أغضبه، وعدم اكتراثه به، ومن الأشياء التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في المناسبات يتبسم فيها تبسم المغضب قصة كعب بن مالك رضي الله عنه لما جاءه متخلفاً بعدما رجع النبي عليه الصلاة والسلام من الغزو، قال كعب : (فلما رآني تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب) فإذاً: التعبير عن الغضب يكون أحياناً بالابتسامة. وهذه بعض أسباب التبسم أو الضحك، وهي: مما يتعجب منه، وللفرح، وتبسم المغضب، وقد يكون -كما ذكرنا- ضحك سخرية واستهزاء وقد يكون كفراً، وقد يكون من قلة الأدب إذا كان ضحكاً بلا سبب. ومن الأمور التي جاءت الشريعة فيها بالندب إلى المضاحكة: ملاعبة الزوجة، والبكر بالذات، كما جاء في صحيح البخاري في عدة مواضع من حديث جابر لما تزوج ثيباً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تزوجت يا جابر ؟ فقلت: نعم. فقال: بكراً أم ثيباً؟ قلت: بل ثيباً، قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك؟... ) الحديث وهذا هو الشاهد منه، أن ملاعبة الزوجة ومضاحكتها لا شك أنها من الشرع الحنيف، ومن الأمور المحمودة.

              بعض كلام العلماء في الضحك ومما أورده أهل العلم في الضحك:
              كلام الإمام الماوردي في الضحك:
              ما قاله الإمام الماوردي رحمه الله في كتاب: أدب الدنيا والدين تحت عنوان: (آفة الضحك) قال: "وأما الضحك فإن اعتياده شاغلٌ عن النظر في الأمور المهمة"، أي: أن الإنسان الذي يكثر الضحك إنسان غير جاد، وكثرة الضحك من علامات عدم الجدية المطلوبة من المسلم. وقال في مفاسد الضحك: "والإكثار منه مذهلٌ عن الفكر في النوائب الملمة"، أي: إذا نزل بالإنسان نائبة ملمة وصار يُكثر من الضحك، لم يستطع فكره أن يجتمع لأجل مواجهتها، "وليس لمن أكثر منه هيبةٌ ولا وقار"، وهذه مضرة ثانية، فالشخص المكثر من الضحك يزول وقاره وهيبته من نفوس الناس، ولذلك يجترئون عليه، لما صار مكثراً للضحك، وتسقط هيبته من قلوب الناس، ولا شك أن هذه السلبية قاتلة لأثر الداعية على الآخرين، فإن الداعية لا ينبغي أن يكون من المكثرين من الضحك، فإن كثرة الضحك منه تزيل أثر كلامه أو لا تجعل لكلامه أثراً ووقعاً في قلوب الناس، وغاية ما يكون مع المدعو أنه يتندر معه ويأتي بالطرف.. ونحو ذلك. نعم! إن الإتيان بالطرف أحياناً بأدبٍ وحكمة لها فوائد، منها: إيناس الشخص الآخر ، وملاطفته للدخول إلى قلبه، لكن إذا كان الهدف إنما هو ضحك في ضحك، فأي شيءٍ هي الدعوة؟ هذا ما صار عبوراً إلى قلبه، بل صار كل شيءٍ هو الضحك. ولذلك تجد بعض الذين يؤدون الأدوار الهزلية حتى من بعض المنتسبين إلى التدين يَسقط شيءٌ من هيبتهم من قلوب المشاهدين والحاضرين، لأجل أن الدور الهزلي لا يناسب الشخصية الجادة. قال: "وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وسم به خطر ولا مقدار"، لأن الناس يقولون: هذا مضحك القوم، اذهب إلى فلان يضحكك، اذهب إلى فلان تجلس إليه يوسع صدرك بالنكت والطرائف، ويا ليتها نكتاً يستفاد منها. روى أبو إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه)، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى:( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا )[الكهف:49] قال: [ الصغيرة الضحك، والكبيرة القهقهة ]. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [من كثر ضحكه قلت هيبته]. وقال علي بن أبي طالب : [إذا ضحك العالم ضحكة مج من العلم مجة]، وقيل في منثور الحكم: ضحكة المؤمن غفلة في قلبه. والقول في الضحك كالقول في المزاح: إن تجافاه الإنسان بالكلية -لا يضحك أبداً- نُفر عنه وأُوحش منه، وإن ألفه .. دائماً يضحك، كان حاله ما وصفناه، أي: من عدم الهيبة والوقار، وعدم اجتماع الفكر للأشياء المهمة، وأنه يلهي عن الأشغال والأمور المهمة. قال: "فليكن بدل الضحك عند الإيناس تبسماً وبشرة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [التبسم دعابة]، وهذا أبلغ في الإيناس من الضحك -لأن التبسم يؤنس الشخص أكثر من الضحك- الذي قد يكون استهزاءً وتعجباً، وليس ينكر منه المرة النادرة"، كمن يضحك نادراً، لا بأس لطارئٍ استغفل النفس عن دفعه، فبعض الأحيان تهجم الضحكة فلا يستطيع مدافعتها فهي تأتي فجأةً. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملك الخلق لنفسه قد تبسم حتى بدت نواجذه، وإنما كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي ذكرناه.

              كلام صاحب المنهج المسلوك في سياسة الملوك في الضحك:
              قال صاحب المنهج المسلوك في سياسة الملوك : "اعلم أن كثرة الضحك تضاهي المزاح في المذمة والقبح، ولا تقتضيه حال الملوك وأرباب المناصب؛ لما به من زوال الهيبة، وذهاب الوقار، وقلة الأدب، ومن أكثر من شيءٍ عُرف به، ولكن لا بد أن يرى الإنسان أو يسمع ما يغلب عليه الضحك منه، أو تمسه الحاجة إليه، لإيناس الجليس، فينبغي إذا طرأ شيءٌ من ذلك أن يجعله تبسماً"، إذا جاء الضحك وطرأ عليك فاجعله تبسماً من غير قهقهة واسترسال، وبالنسبة للذي لا يضحك أبداً أو يتطرف في القضية ويقول: ينبغي علينا ألا نضحك ألبتة، ولذلك دائماً يكون عبوساً وكالحاً، ويكون دائماً ممن لا يلقى الناس بوجهٍ سهلٍ لينٍ، ولا يتبسم مطلقاً، ويعتبر ذلك من علامات الجدية، وأنه من الوقار ومن السمت، هذا كله من تسويلات الشيطان.

              كلام الإمام الذهبي في الضحك:
              هناك تعليق لطيف للذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء في ترجمة يحيى بن حماد رحمه الله تعالى، قال: قال محمد بن النعمان بن عبد السلام : لم أر أعبد من يحيى بن حماد وأظنه لم يضحك، قلت - الذهبي -: الضحك اليسير والتبسم أفضل، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين، فالمشايخ الذين لا يضحكون ويتبسمون: أحدهما: يكون فاضلاً لمن تركه أدباً وخوفاً من الله، وحزناً على نفسه المسكينة، فإذا كان هذا لا يضحك خوفاً من الله وحزناً على نفسه المسكينة فهذا معه الحق. والثاني: مذموم لمن فعله حمقاً وكبراً وتصنعاً. إذاً: الذي يتصنع عدم الضحك ويريد بذلك وقاراً دائماً.. ونحو ذلك، وربما صنعه كبراً، أي أنه لا يضحك مما يضحك منه الناس، ومما يتندر منه، ومن الأشياء الطريفة بالحق، ويزعم أنه لا يتأثر بها فلا يبدي أي نوع من أنواع الابتسامة فهذا إنسان متصنع للهيبة والوقار، وتصنعه ممجوجٌ مذمومٌ. إذاً: التكلف الموجود في بعض النفوس من عدم الضحك زعماً للوقار تطرفٌ مقيتٌ، كما أن من أكثر الضحك استخف به -ما صار له قيمة عند الناس- ولا ريب أن الضحك في الشباب أخف منه وأعذر في الشيوخ، هذه فائدة أخرى، أي: أنه ينبغي على من تقدمت به السن أن يراعي سنه وقربه من القبر، وأن الشاب ربما كان فيه من المرح وطبيعة روح الشباب ما يجعله يقع في هذا، لكن الشيخ الكبير لا ينبغي له الإكثار مثلما يقع من الشاب، ليس بنفس الدرجة هذا حكم السن. قال: "وأما التبسم وطلاقة الوجه فأرفع من ذلك كله"، أي: التبسم وطلاقة الوجه لا علاقة لها بمسألة القهقهة والإغراق في الضحك، التبسم وطلاقة الوجه سنة، وإدامة التبسم سنة، "قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) ، وقال جرير : (ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم) فهذا هو خُلق الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكَّاءً بالليل، بسَّاماً بالنهار"، هذه عبارة في غاية الجودة، فأعلى مقامات المسلم من كان بكَّاءً بالليل بسَّاماً بالنهار، هذا هو المطلوب.


              وقال رحمه الله: "إذا كان الإنسان طبعه مرح -طبعه أنه يكثر من الضحك- ينبغي أن يقصر من ذلك"، لا يقول هذا طبعي اقبلوني على ما أنا عليه، ولا تلوموني، لا. بل ينبغي عليه أن يعالج نفسه ويجاهدها.. ينبغي لمن كان ضحوكاً بساماً أن يقصر من ذلك ويلوم نفسه حتى لا تمجه الأنفس، وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم، هذه عبارات تربوية من الإمام الذهبي رحمه الله. إذا وجدنا إنساناً مفرطاً في المسألة نقول: جاهد نفسك ولومها حتى لا تمجك الأنفس، ونقول للشخص العابس المنقبض: تبسم وأحسن خُلقك "وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم ويحسن خُلقه ويمقت نفسه على رداءة خلقه، وكل انحرافٍ عن الاعتدال فمذموم كما قال الشاعر:

              كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ:
              " القصد: الوسط، وكلا الطرفين مذموم؛ الإكثار من الضحك مذموم، ودوام العبوس مذموم، "ولا بد للنفس من مجاهدة وتأديب". انتهى كلامه رحمه الله، كانت هذه عبارة نفيسة علقها الذهبي في ترجمة يحيى بن حماد رحمهما الله تعالى. وينبغي أن يعذر من كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة أكثر من الذي يتصنع الضحك ويقهقه، فبعض الناس وصل بهم التقليد إلى درجة من السوء أنه صار يقلد في ضحك الممثلين، وينظر من أعلى الناس صوتاً في الضحك فيقلده، وكيف يقهقه فلان فيقهقه مثله!! وهذا لا شك أنه من الأمور المذمومة، وقد ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي الوليد الباجي في كتاب فرق الفقهاء ، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الوراق -وكان ثقةً متقناً- أنه شاهد أبا عبد الله الصوري وكان فيه حسنُ خلقٍ ومزاحٌ وضحكٌ، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جبل عليه -أي: هذا العالم كان عنده شيءٌ من هذه الجبلة فهو مرحٌ أو يغلب عليه الضحك، لكنه لا يتقصد ذلك أو يتكلفه أو يكثر منه رغبة ، لا. لكن قد يكون عنده شيءٌ من هذه النفسية التي يهجم عليها الضحك هجوماً قوياً يصعب مدافعته-


              وكان فيه حُسن خلقٍ ومزاح وضحك، لم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين، ولكنه كان شيئاً جُبل عليه، ولم يكن في ذلك بالخارق للعادة، فقرأ يوماً جزءاً على أبي العباس الرازي وعَنَّ له أمرٌ ضَحَّكَهُ، وكان بحضرة جماعة من أهل بلده فأنكروا عليه، وقالوا: هذا لا يصلح ولا يليق بعلمك وتقدمك أن تقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تضحك وكثّروا عليه، وقالوا: شيوخ بلدنا لا يرضون بهذا، فقال: ما في بلدكم شيخٌ إلا يجب أن يقعد بين يدي ويقتدي بي، ودليل ذلك: أني قد صرت معكم على غير موعد، فانظروا إلى أي حديث شئتم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقرءوا إسناده لأقرأ متنه، أو اقرءوا متنه حتى أخبركم بإسناده -أي: الإكثار عليه والتشنيع والتعنيف من أجل هذه الخصلة الجبلية وأنه حصلت منه مرة بمجلس ونجعل من الحبة قبة هو أيضاً أمر مجافٍ للعدل- ثم قال الباجي : لزمت الصوري ثلاثة أعوام فما رأيته تعرض لفتوى، أي: كان ورعاً عن الفتوى، قلت - الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي عبد الله الصوري -: كان من أئمة السنة وله شعرٌ رائق، وقد مات الصوري سنة (441هـ).

              أحاديث تبين هديه عليه الصلاة والسلام وأدبه في الضحك:
              والآن لنتجه إلى أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الضحك في مناسبات جاء فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحك، وننظر من خلال هذه الأحاديث هديه عليه الصلاة والسلام وأدبه في ذلك.
              1- عقد البخاري رحمه الله في كتاب الأدب فصلاً بعنوان: باب التبسم والضحك، وقالت فاطمة عليها السلام: (أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فضحكت). وقال ابن عباس : [إن الله هو أضحك وأبكى] أي: أن الله أنشأ هذا في الإنسان، وأنه قد يضحك اليوم ويبكي غداً، بل إنه يضحك في لحظة ويبكي في أخرى بعدها، أو العكس بحسب الدواعي والدوافع كما حصل لـفاطمة رضي الله عنها كما سيأتي، يضحك الإنسان أحياناً في اليوم الواحد ويبكي، فالمشاعر والأحاسيس تتغير. قال: عن عائشة رضي الله عنها: (أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزَبِير فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة : يا رسول الله! إنها كانت عند رفاعة فطلقها ثلاث تطليقات فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزَبِير ، فقالت: وإنه والله ما معه -يا رسول الله!- إلا مثل هذا الهدبة هذبة أخذتها من جلبابها، قال: وأبو بكر جالسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن سعيد بن العاص جالسٌ بباب الحجرة ليؤذن له، فطفق خالد ينادي أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول صلى الله عليه وسلم وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم، ثم قال: لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك). فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءت هذه المرأة وذكرت هذا الكلام ومقصود المرأة أنه لا يجامعها وأنه ليس له قدرة على الجماع، وأن ما معه إلا مثل هدبة الثوب، فهو غير قادر على الجماع. ثم جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها تكذب، وإنه ينفضها نفض الأديم، المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع تعبير المرأة ضحك وتبسم، لأنه فَهِمَ مقصودها، وأنه ضحك ليبين أنه يفهم ماذا تريد؟ ولذلك قال: (لا. حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) أي: تريدين الطلاق من زوجك الجديد لترجعي لزوجك الأول، لا. حتى يقع الجماع في الزواج الجديد، لأنه لا يجوز العودة إلى الزوج الأول الذي طلق ثلاثاً وبعده تزوجت ثانٍ إلا إذا حصل وقاعٌ من الثاني في الزواج الثاني.
              2- ذكر البخاري في هذا الباب أيضاً حديث عائشة أنها قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم)، وهناك أحاديث: (فضحك حتى بدت نواجذه) والنواجذ: جمع ناجذة وهي الأضراس التي لا تظهر إلا إذا كان الضحك فيه شيءٌ من السعة، لكن هل هناك تنافي بين حديث عائشة : (ما رأيته مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته) ، وبين هذا الحديث: ( ضحك حتى بدت نواجذه )؟ الجواب: إن المثبت مقدم على النافي، هذا من جهة، وأقوى من ذلك كما رجح ابن حجر رحمه الله أن الذي نفته عائشة غير الذي أثبته أبو هريرة ، فضحك حتى بدت نواجذه لا يصل إلى درجة القهقهة، مستجمعاً ضاحكاً -أي: يقهقه- ربما ينقلب منها الشخص، لا. وقال ابن حجر بعد أن استعرض عدداً من الأحاديث -كما سنمر عليها إن شاء الله- قال: "والذي يظهر من مجموع الأحاديث أنه كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم، وربما زاد على ذلك فضحك، والمكروه من ذلك إنما هو الإكثار منه، أو الإفراط لأنه يُذهب الوقار. وقال ابن بطال : والذي ينبغي أن يُقتدى به من فعله ما واظب عليه في ذلك".
              3- وأتى البخاري رحمه الله كذلك في هذا الباب بحديث أم سلمة : (أن أم سليم قالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة غسلٌ إذا هي احتلمت؟ قال: نعم. إذا رأت الماء، فضحكت أم سلمة ، فقالت: أتحتلم المرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فبم شبهها الولد؟!). إذاً: المرأة تحتلم ويكون لها ماء، وإلا كيف يكون الشبه لها؟ يخرج الرجل لأعمامه إذا لم يكن لها ماء يعلو ماء الرجل أو يسبق ماء الرجل، فيحصل التذكير أو التأنيث أو يحصل أن يخرج لأعمامه أو لأخواله، فإذاً لا يُقال لها: فضحتِ النساء لإنها جاءت تسأل، وهنا ضحكت أم سلمة ، قال ابن حجر: "والغرض من إيراد البخاري لهذا الحديث؛ لوقوع ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها ضحكها، وإنما أنكر عليها إنكارها احتلام المرأة، فأثبت أنها تحتلم". وأما حديث عائشة : (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى أرى منه لهواته) فذكر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث أن اللهوات جمع لهاة: وهي اللحمة التي في أعلى الحنجرة من أقصى الفم، أي: لا يكون ضحكاً تاماً، مقبلاً بكليته على الضحك بحيث تبدو اللهاة التي في آخر الفم.
              4- ومن الأحاديث التي كان فيها ضحك النبي صلى الله عليه وسلم معبراً عن شيءٍ عظيم هذا الحديث، وهو آخر رجل يدخل الجنة، قص النبي صلى الله عليه وسلم قصة آخر رجل يدخل الجنة، يأتي وقد أخذ الناس أماكنهم، ويأتي ويقول: قربني إلى الجنة.. أبعدني عن النار.. اجعلني عند الباب.. أدخلني.. قال: (فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب! أدخلنيها، فيقول: يا بن آدم! ما يَصْرِيْنِي منك أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟) الناس قد أخذوا أخذاتهم واعطياتهم، وهذا الرجل لم يكن عنده أمل أن يدخل الجنة، وإنما يسأل الله، والله يقربه خطوة بعد أخرى حتى يدخله الجنة، ويقول له: تريد أن أعطيك ملكاً مثل الدنيا مرتين؟ (قال: يا رب! أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟) فهذا الرجل ما ظن أنه يصل ويحصل على هذا الكرم، فيقول لله: (أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود -راوي الحديث- فقال: ألا تسألوني مم أضحك! فقالوا: ممَّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر). فالله عز وجل ضحك من حالة عبده، والنبي صلى الله عليه وسلم ضحك لأن الله ضحك، وأثبت ضحك الله عز وجل، وابن مسعود ضحك، وهناك أحاديث اسمها (الأحاديث المسلسلة) وهذا مسلسل بالضحك، مثل حديث علي بن أبي طالب في ركوب الدابة فإنه ضحك.
              5- وكذلك من الأحاديث التي كان الضحك فيها معبراًُ عن شيءٍ مهم، ولم يكن ليضحك النبي عليه الصلاة والسلام عبثاً، ما جاء في صحيح البخاري في كتاب التوحيد: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم،


              فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك .. أنا الملك .. فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً لقوله) لقول هذا الحبر اليهودي. فكان ضحك النبي عليه الصلاة والسلام هنا تعجباً وتصديقاً للحبر، ونفاة الأصابع.. نفاة الصفات يقولون: ضحك سخرية من هذا النقص الذي ألحقه الحبر بالله، والحديث يقول: تصديقاً لقول الحبر، كيف نقول: إنه ضحك منه لأنه نسب لله الأصابع، كما يقول نفاة الصفات؟! 6- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك من الفرح والاستبشار، فإذا بُشر بشيءٍ حسن ضحك، كما جاء في صحيح البخاري في كتاب الجهاد والسير، من حديث أم حرام بنت ملحان : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عليها فتطعمه -وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت - فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك -وغالب ضحكه عليه الصلاة والسلام تبسم- فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة فقلت: يا رسول الله! أدع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول صلى الله عليه وسلم أن يجعلها الله منهم). 7- ومن البشائر التي أضحكت النبي عليه الصلاة والسلام قصة الإفك، بعد الغم العظيم، والهم الطويل، والعذاب والأذى الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من قبل المنافقين.. شهر كامل هو وأهل بيته يعيشون في شدة وغم، أخذه ما كان يأخذه من البرحاء لما نزل الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق -اللؤلؤ- في يومٍ شات، فلما سُري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، وهذا ضحك استبشار وفرحة بالوحي الذي جاء مفرجاً للهم العظيم الذي تراكم طيلة هذه الفترة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته، فكان أول كلمةٍ تكلم بها أن قال لـعائشة : (احمدي الله، فقد برأك.. ) الحديث. 8- وضحك النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لما بشره الله سبحانه وتعالى بنهر الكوثر، ولذلك جاء عن أنس قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفي إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفاً سورةٌ، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم:( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * < فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر)


              ضحك الأنبياء والصالحين:

              الأنبياء عليهم السلام كان لهم أدبٌ في الضحك، (رأى النبي عليه الصلاة والسلام آدم وعن يمينه أسودة وعن يمينه أسودة، فسأل عن ذلك؟ فقال جبريل: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم هم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، -أي: أن آدم مسرور أن هناك من ذريته بعض العدد يدخلون الجنة- وإذا نظر قبال شماله بكى) . وكذلك الرجل الصالح الذي يضربه الدجال فيفلقه نصفين، وهو رجل مؤمن، شاب من أهل المدينة ، من خيرة أهل الأرض، ومن أفضل الشهداء في ذلك المشهد، فإذا أرجعه الدجال مرة أخرى يُقبل ووجهه يتهلل ضاحكاً.


              مواقف من ضحك الصحابة:
              ومما حصل للصحابة أيضاً من المناسبات التي ضحكوا فيها، وهو ضحك يدل على معنى، ويدل على مغزى، وله فائدة: 1- ما جاء في صحيح مسلم في كتاب الحج، قال زيد بن ثابت لـابن عباس : تُفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ -أنت يـابن عباس تفتي أن الحائض تعود دون طواف الوداع؟- فقال: إن لم تصدق فسل فلانة الأنصارية: هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت، أي: تعجب منه رغم صغره كيف أصاب الحق! أو أنه كان يقول: كلامك صحيح وأنا لم أكن أعلم به. 2/ وكذلك ما كان من ضحك بعض الصحابة الذين يحدثون بأحاديث من عجلة بعض طلابهم: قلنا: يا أبا سعيد، جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثلما حدثنا في الشفاعة، فقال: هي هي -أي: هاتوا الحديث، ما الذي فعل؟- قالوا: فحدثناه بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هي هي، فقلنا: لم يزد لنا على هذا، فقال: لقد حدثني وهو جميعٌ منذ عشرين سنة فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلموا، قلنا: يا أبا سعيد ! فحدثنا، فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، وحدثهم بالحديث. 3/ ولما استغرب بعض الناس من عائشة لما قالت: (كنا نرفع الكراع فنأكله بعد خمسة عشر يوماً -يدخرون الكراع إلى وقت الجوع- قيل: ما اضطركم إليه؟ فضحكت -لعدم تصورهم للموقف- قالت: ما شبع آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم من خبز بر مأدومٍ ثلاثة أيام حتى لحق بالله). 4- وهذه فاطمة رضي الله عنها بكت وضحكت، أسر لها النبي عليه الصلاة والسلام حديثاً فبكت لما أخبرها أن أجله قريب، وضحكت لما أسر لها أنها سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، وأنها أول أهل بيته لحوقاً به، فضحكت فرحاً رضي الله عنها. 5- وحدثت عائشة رضي الله عنها ذات مرة بحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه -أبهمت- ويخرج إلى الصلاة بدون أن يتوضأ، فقيل لها: ما هي إلا أنت هذه المرأة -التي أبهمتها هي أنت- فضحكت عائشة رضي الله عنها) والحديث رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح. 6- وكذلك ما حصل من ضحك الصحابة لما رأوا حماراً وحشياً وهم محرمون ومعهم أبو قتادة غير محرم، قال أبو قتادة : [فنظرت فإذا أنا بحمارِ وحشي، فحملت عليه فطعنته فأصبته واستعنت بهم أن يمسكوه معي فأبوا أن يعينوني فأكلنا من لحمه معاً.. إلخ] وقد عنون له البخاري، فقال: بابٌ إذا رأى المحرمون صيداً فضحكوا ففطن الحلال، أي: أن المحرم إذا نبه الحلال بالضحك أو التبسم على صيدٍ موجود لم يره الحلال، فصاده الحلال فأكل منه المحرم فلا بأس بذلك. 7/ ومن المواقف الطريفة التي حصلت في السنة: ما جاء في صحيح مسلم في كتاب الأشربة: لما كان النبي عليه الصلاة والسلام والمقداد وآخر -ثلاثة- مشتركين في إناءٍ من لبن يحلب لهم فيشرب كل واحد منهم الثلث، يقول المقداد : فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها -قضى على نصيب النبي صلى الله عليه وسلم- فلما أن وغلت في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل، قلت: ندمني الشيطان -هكذا الشيطان يفعل، يسول القضية ثم يُنَدِّم الشخص على الوقوع فيها، فقال: ويحك! أشربت شراب محمدٍ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك، وعلي شملةٌ إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرجت قدماي وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فشربا نصيبهما وناما، ولم يصنعا ما صنعت، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلم كما كان يسلم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك، فقال: (اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني) قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها عليّ وأخذت الشفرة وانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي حافل وإذا هن حفلٌ كلهن، ووجدتها كلها مليئة فعمدت إلى إناءٍ لأهل محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، فحلبت فيه حتى علته رغوة -امتلأ- فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أشربتم شرابكم الليلة؟ قال: قلت: يا رسول الله! اشرب فشرب ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله! اشرب فشرب ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأصبت دعوته ضحكت حتى ألقيت على الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إحدى سوءاتك يا مقداد! ...) الحديث. فيكون هذا لو حصل مثل هذا الأمر الذي لا يتمالك فيه الإنسان نفسه، وهو خلاف الأولى أن يحدث، لكنه لم يكن في هذه الحالة يرتكب أمراً محرماً.


              النهي عن الضحك من الضرطة:

              وكذلك فإن الضحك قد يكون لتأليف الشخص أو إيناسه، وينبغي أن نعلم هنا أدباً هاماً جداً من آداب الضحك، وهو ما جاء في صحيح البخاري في حديث عبد الله بن زمعة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظهم في ضحكهم من الضرطة، وقال: لم يضحك أحدكم مما يفعل؟)، وجاء في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضحك من الضرطة) والضرطة: هي ما يخرج من الشخص من الفساء بصوت، فلو أن شخصاً سبقه الحدث في مجلس ولم يملك نفسه وتحرك بحركة، كان في بطنه شيء فخرج وله صوت، هل نضحك منه؟ لا. كل الناس معرضون لذلك، أنت، وهو..ئ فيا أيها الضاحك! يمكن أن يقع منك هذا فلم تضحك من هذا الشخص الذي حصل منه؟ خصوصاً عندما يأتي من غير قصد، تحرك حركة فخرج منه أو تكلم كلمة، أو تنحنح فخرجت منه الضرطة، فلا ينبغي الضحك من هذا الشخص.


              حكم الضحك في الصلاة:

              وأخيراً: نختم الكلام في موضوع الضحك بمسألة فقهية وهي: الضحك في الصلاة. إن الضحك بصوتٍ يفسد الصلاة عند جمهور الفقهاء إن ظهر حرفان فأكثر على مذهب كثيرٍ منهم، وقال بعضهم: إنها لا تبطل لأنها ليست بكلام، أما التبسم فلا يفسد الصلاة عند جمهور الفقهاء لأنه ليس بكلام. أما بالنسبة للوضوء من الضحك فقد جاء حديثٌ ضعيفٌ جداً: (الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء)، وحديثٌ ضعيفٌ آخر: (من ضحك في الصلاة فليعد الوضوء والصلاة) لكن الصحيح وإن كان بعض الأحناف يقولون إلا أن الضحك لا ينقض الوضوء. وإعادة الوضوء من القهقهة ومن الضحك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك نعلم أن الضحك لا ينقض الوضوء ولا القهقهة، لكن إذا قهقه الإنسان فجمهور الفقهاء على أن صلاته تبطل إذا صدر الصوت.


              علاج كثرة الضحك:

              علاج كثرة الضحك يكون بأمور، منها: أولاً: الإكثار من ذكر الله عز وجل. ثانياً: تذكر عظمته. ثالثا: تذكر اليوم الآخر. رابعاً: أن يجاهد نفسه في كتم الضحك. خامساً: ألا يكثر من مخالطة الشخصيات الهزلية. سادساً: أن يساعده أصحابه على ذلك، لا يقولون: يا فلان، ما هي آخر نكتة؟ وأطرفنا، أو أضحكنا، وماذا عندك اليوم؟ بل عليهم أن يساعدوه على أن يكون جاداً، هذا ما ينبغي أن يكون. ولعل تذكر الموت وما بعده من الأهوال مما يُعين على ذلك، والمسألة مسألة مجاهدة. هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هادين مهديين، وأن يهدي بنا، وأن يتوب علينا أجمعين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
              التعديل الأخير تم بواسطة محبة المساكين; الساعة 09-11-2011, 10:47 PM. سبب آخر: تنسيق الموضوع


              تعليق


              • #8
                رد: محاضرة( آداب الضحك )للشيخ محمد المنجد

                بارك الله فيكى اختى وجزاكى خير الجزااء

                تعليق


                • #9
                  رد: محاضرة ( آداب الصحبة )للشيخ محمد المنجد

                  جزاكى الله خيرا اختى
                  وبارك فيكى الرحمن
                  ونفع بك وبارك الله فى جهودك

                  تعليق


                  • #10
                    محاضرة( آداب الضيافة [1، 2] )للشيخ محمد المنجد

                    محاضرة( آداب الضيافة [1، 2] )للشيخ محمد المنجد



                    عناصر الموضوع :
                    1. الحث على إكرام الضيف
                    2. أحكام الضيافة في الشرع
                    3. إبراهيم عليه السلام وإكرامه لضيفه
                    4. صور من إكرام الضيف
                    5. آداب المضيف
                    6. هل يستضاف الكافر؟
                    7. وقفة مع بعض قصص الصحابة وضيوفهم
                    8. آداب الضيف
                    9. الكرم ومنزلته عند العرب وذم البخل والبخلاء
                    10. الأسئلة

                    آداب الضيافة :
                    قد جاءت الكثير من الأحاديث الحاثة على إكرام الضيف والمبينة أنه من الإيمان، فالضيافة من آداب الإسلام وشرائعه وأحكامه، وهي من سنن المرسلين عليهم السلام، ومن أخلاق السلف رضوان الله عليهم. وللضيافة أحكام وآداب موجودة في قصة إبراهيم عليه السلام ذكرها الشيخ في هذا الدرس.

                    الحث على إكرام الضيف:
                    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فالحديث في هذه الليلة في هذه المجموعة من سلسلة الآداب الشرعية الثانية سيكون عن: (إكرام الضيف) وهو من الآداب العظيمة التي حفلت بها هذه الشريعة المباركة، وأكدت ما كان موجودا ًعند العرب من المعروف في هذا الأمر. أما ضاف القوم وتضيفهم أي: نزل عليهم ضيفاً وأضافوه وضيفوه أي: أنزلوه، والضيف معروف.. وجمعه أضياف وضِيفان، والاسم هو الضيافة ويقال: أضفته إضافة إذا نجى إليك من خوف فأجرته، واستضافني فأضفته استجارني فأجرته، وتضيفني فضيفته إذا طلب القِرى، فإذا طلب الإنسان أن ينزل ضيفاً فيقال: تضيف، والذي يقبل هذا يقال: ضيفه، هكذا في المصباح المنير. والضيافة من آداب الإسلام وشرائعه وأحكامه وهو من سنن المرسلين، وأول من ضيف الضيف إبراهيم عليه السلام، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24] فوصفهم بأنهم أكرموا. وقصته عليه السلام لما قدم لهم عجلاً حنيذاً نزلاً وضيافةً معروفة. وجاء في بعض الإسرائيليات قصة فيها عبرة: كان إبراهيم عليه السلام لا يأكل وحده، فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه، فلقي يوماً رجلاً فلما جلس معه على الطعام قال له إبراهيم: سم الله، قال له الرجل: لا أدري ما الله!! قال له: اخرج عن طعامي، فلما خرج الرجل نزل إليه جبريل فقال له: يقول الله عز وجل: إنه يرزقه على كفره مدى عمره، وأنت بخلت عليه بلقمة، فخرج إبراهيم مسرعاً فرده فقال: ارجع، فقال: لا أرجع، تخرجني ثم تردني لغير معنى، فأخبره بالأمر فقال: هذا رب كريم آمنت، ثم دخل عند إبراهيم وسمى الله وأكل بعدما آمن، وستأتي قصة إبراهيم الخليل عليه السلام والعبر التي فيها والآداب المنطوية عليها بالنسبة للضيافة في قصته مع الملائكة. وأما لوطٌ عليه السلام فإنه كان يكرم الضيوف أيضاً، كيف لا وهو قد تعلم من إبراهيم عليه السلام، ولما جاءه ضيوفه وجاء قومه يهرعون إليه لعمل الفاحشة فدافعوه الباب حتى كادوا يغلبونه وهو يخاطبهم هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:78] وأخبر عز وجل أنهم راودوه عن ضيفه فطمس أعينهم ولم يرجمهم فقط ولكن طمس أعينهم ثم رجمهم، وهذا دليل على أهمية وخطورة إيذاء الضيف. وهذه عجوز السوء امرأته التي كانت تدل الفجار على ضيفه قال الله تعالى فيها: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [الأعراف:83]، وقال: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ [هود:81] لماذا؟ لأنها كانت تدل قومها على الضيفان وهذه خيانة لزوجها؛ فعذب الله عجوز السوء القوادة -كما قال العلماء- بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث. وقد جاء في معرض الذم ذكر القوم الذين نزل عليهم الخضر وموسى عليهما السلام فأبوا أن يضيفوهما. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد كان أعظم الناس في إكرام الضيف على الإطلاق، وقد وصفته خديجة بمثل ذلك من أيام الجاهلية، فلما دخل عليها فزعاً مما لقي في الغار بعد نزول سورة اقرأ وقال: (زملوني) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لـخديجة : (أي خديجة مالي لقد خشيت على نفسي؟ -فأخبرها الخبر- فقالت خديجة : كلا. أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف) والحديث في صحيح البخاري.

                    منزلة الضيف عند أهل الجاهلية:
                    كان لأهل الجاهلية شأن عظيم في إكرام الضيف والذم فيمن لم يكرمه، فجاء الله بهذا الدين الذي رفع شأن هذا الأدب العظيم وهو إكرام الضيف؛ فأقر ما كان عليه أهل الجاهلية من المعروف في هذا وزاد عليه، وأبطل ما كان معروفاً عندهم في هذه الخصلة وغيرها كما كانوا يفعلون من بعث الرجل بأمته إلى ضيفه. وقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم قصة عندما ذهبوا مع أبي سعيد رضي الله عنه، وسافروا ونزلوا على حيٍ من أحياء العرب المشركين، فاستضافوهم فأبو أن يضيفوهم حتى لدغ أحدهم فرقاه أبو سعيد رضي الله عنه على قطيع من الغنم. وكان قيس بن عاصم الصحابي رضي الله عنه سيد قومه وكان جواداً حليماً، أخذ الأحنف بن قيس الحلم عنه. تزوج قيس امرأة فأحضرت له طعاماً فقال لها: أين أكيلي؟ فلم تدر ما يقول لها! فأنشأ يقول:
                    إذا ما صنعت الزاد فالتمسـي له أكيلاً فإني لست آكـله وحـدي
                    أخاً طارقاً أو جار بيتٍ فإنني أخاف ملامات الأحاديث من بعدي
                    وإني لعبد الضيف من غيـر ذلة وما في إلا ذاك من شيمة العبد
                    فسمعه جارٌ له وكان بخيلاً فقال:
                    لبيني وبين المرء قيس بن عاصم بما قال بون في الفعال بعيد
                    وإنا لنجفو الضيف من غير قلة مخافة أن يغـرى بـنا فيعـود
                    وقد أوصى قيس بن خفاف بن عمر بن حنظلة جبيلاً ابنه بقصيدة فيها آداب ومصالح يقول له فيها:
                    أجبيل إن أباك كارم يومه فإذا دعيـت إلى المـكارم فاعجل
                    أوصيك إيصاء امرئ لك ناصحٍ ظن بغيه الدهر غير معقـل
                    الله تتـقه وأوف بنـذره وإذا حلـفـت ممـارياً فتحـلـل
                    والضـيف تكرمـه فإن مبيته حقٌ ولا تـك لعنـة للنـزل
                    واعلم بأن الضيف مخبر أهله بمبيت ليلته وإن لم يســأل

                    أحاديث في إكرام الضيف:
                    قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه) رواه البخاري ومسلم . ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (جائزته يومٌ وليلة) أي: يكرمه ويتحفه ويحفظه يوماً، وثلاثة أيام ضيافة، وقال الخطابي معناه: أنه يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وإلطاف، وأما في اليوم الثاني والثالث فيقدم له ما كان بحضرته، الاجتهاد في اليوم الأول هو الجائزة، والثاني والثالث ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاث فصدقة ومعروف ليس بواجب عليه، وإذا فعل فهو تطوع منه إن شاء فعل وإن شاء ترك. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه) معناه: لا يحل للضيف أن يقيم عند المضيف بعد الثلاث من غير استدعاء إلا إذا أصر وألح عليه وطالبه بذلك، لئلا يقع المضيف في الإثم ولئلا يقع في الحرج. وعن أبي كريمة المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه -أي: الضيف- فهو عليه دين إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أضاف قوماً فأصبح الضيف محروماً فإن نصره حقٌ على كل مسلم -أن تؤخذ له الضيافة- حتى يأخذ بقراء ليلة من زرعه وماله) رواه أبو داود بإسنادٍ حسن كما قال النووي في المجموع شرح المهذب . وعن عقبة بن عامر قال: (قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقومٍ فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن نزلتم بقومٍ فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فأخرجوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له) خذوا منهم، رواه مسلم في صحيحه.

                    أحكام الضيافة في الشرع:
                    وحكم الضيافة أنها سنة عند جمهور العلماء، فإذا استضاف مسلم لا اضطرار به مسلماً استحب له ضيافته ولا تجب وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة ومذهب الشافعي والجمهور. وقال الليث بن سعد و أحمد بن حنبل : هي واجبةٌ يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن؛ لأن أهل القرى هم الذين يجتاز بهم المارون وكذلك البدو الذين يجتاز بهم المارون أصحاب الحاجة، أما أهل المدن فلا، قال الإمام أحمد : هي واجبة يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن واحتجوا بحديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه عليه جائزته) قال أحمد رحمه الله: والضيافة على كل المسلمين، كل من نزل عليه ضيفٌ كان عليه أن يضيفه، قيل: إن ضاف الرجل ضيفٌ كافرٌ؟ يعني: إذا طلب الضيافة هل يضيفه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليلة الضيف حق واجبٌ على كل مسلم) وهذا الحديث بين، ولما أضاف المشرك النبي عليه الصلاة والسلام دل على أن المسلم والمشرك يضاف وأنا أراه كذلك. والضيافة معناها: صدقة التطوع على المسلم والكافر، واليوم والليلة حق واجب. فإذاً الإمام أحمد رحمه الله قال: الليلة الأولى واجبة. وقال الجمهور: الضيافة مستحبة إلا إذا صار اضطراراً. وقول: الواجب يوم وليلة والكمال ثلاثة أيام كما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، واليوم هذا داخل في الثلاثة، ومن امتنع من إضافته فللضيف بقدر إضافته، قال الإمام أحمد رحمه الله: له أن يطالبه بحقه الذي جعله له النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هذا حقي الليلة، فيجوز أن يأخذ منه ثمن الضيافة التي منعوها إياه، قال أحمد رحمه الله: ولا يأخذ شيئاً إلا بعلم أهله، وفي رواية: أن له أن يأخذ ما يكفيه بغير إذنهم، لو جاء الضيف فلم يضيفوه الليلة الواجبة في البادية أو في القرى يأخذ بغير إذنهم كما في رواية أخرى، واستدل بحديث: (فأخرجوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له). وكذلك سئل أبو عبد الله أحمد رحمه الله عن الضيافة أي شيء تذهب فيها؟ قال: هي مؤكدة وكأنها على أهل الطرق والقرى الذين يمر بهم الناس أوكد، فأما مثلنا الآن فكأنه ليس مثل أولئك، هذه عبارة مهمة ذكرها ابن قدامة رحمه الله في المغني نقلاً عن الإمام أحمد رحمه الله، قال: وكأنها الوجوب على أهل الطرق والقرى الذين يمر بهم الناس أوكد -المارين في طرق السفر- وهذا قد ينطبق على أصحاب المحطات قال: فأما مثلنا الآن في بغداد -في البلد التي كان فيها الإمام أحمد رحمه الله- فكأنه ليس مثل أولئك. وذكرنا أن الليث بن سعد ذهب إلى أن الضيافة واجبة واستدل بحديث: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) ولا شك أنها من مكارم الأخلاق وحسن المعاملة بين الخلق، واحتج الجمهور بقوله: ( فليكرم ) بأن الكرامة من خصائص الندب دون الوجوب كما ذكر ذلك ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن. فهذا بالنسبة لأهل البدو ولأهل القرى والحضر. إذاً: فهي واجبة على أهل القرى والبادية بخلاف أهل الحضر، وقد ذكر بعض الفقهاء في تعليل هذا -وهو سحنول المالكي رحمه الله-: الضيافة على أهل القرى وأما أهل الحضر فإن المسافر إذا قدم الحضر وجد منزلاً -وهو الفندق- وإنما أراد بذلك أنه يتأكد الندب إليه، ولا يتعين على أهل الحضر بعينه على أهل القرى لمعانٍ: أحدها: أن ذلك يتكرر على أهل الحضر فلو التزم أهل الحضر؛ الضيافة لما خلوا منها، وأهل القرى يندر ذلك عندهم ويقل فلا تلحقهم بذلك مشقة. والوجه الآخر: أن المسافر يجد في الحضر من المسكن والطعام وغير ذلك ما يحتاج إليه فلا تلحقه المشقة لعدم الضيافة، عنده فنادق وعنده مطاعم، أما في القرى الصغار فلا يجد ما يحتاج إليه من مطاعم أو مكان يبيت فيه لأنه غريب فهو كالمضطر إلى أن يضيفوه، وحكم القرى الكبار التي توجد فيها الفنادق والمطاعم للشراء ويكثر ترداد الناس عليها حكم الحضر والله أعلم وأحكم. وهذا فيمن لا يعرفه الإنسان، وأما من يعرفه معرفة مودةٍ أو بينه وبينه قرابة، أو بينه وبينه معنى يقتضي المواصلة والمكارمة فحكمه في الحضر وغيره سواء، والله أعلم. فأما بالنسبة لثبوت الحق فهل يأخذه بإذنه وبغير إذنه؟ تقدم القولان عن الإمام أحمد رحمه الله، ولكن هنا ملاحظة أشار لها ابن القيم في أعلام الموقعين وابن رجب في القواعد وهي: أن الحق إذا كان سبب ثبوته ظاهراً فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه، كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم هنداً وأفتى به الضيف إذا لم يقره من نزل عليه كما في سنن أبي داود قال: (فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه) وفي رواية: (نزل بقومٍ فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه) يعني: لو أتى بفاتورة فقال لهم: سددوا لأنكم لم تضيفوني وهو حق واجب. قال: وإن كان سبب الحق خفياً لم يجز له ذلك كما أفتى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) هكذا في أعلام الموقعين. فإذاً لو أن شخصاً نزل عليهم فقالوا: ليس لك شيء، اتركه واجلس إلى يوم القيامة، مع أن حقه واضح للناس الغادين والرائحين، فلو أخذه بغير إذنهم وعدا على غنمٍ لهم أو على شيء فأخذه بالإكراه فحقه واضح يعني: لو أخذ لا يتهم عند الناس.
                    كذلك المرأة التي زوجها بخيل فإن نفقتها واجبة عليه، فإذا لم ينفق عليها فلها أن تأخذ منه -وهذا حق- ولو بغير إذنه، لكن لو كان سبب الحق خفياً -مثلاً- أحد الأشخاص اختلس منك مالاً ثم استأمنك على ماله فلا يجوز أن تختلس منه خفيةً مادام الحق ليس ثابتاً ظاهراً فلا يجوز الاختلاس، وبهذا يجاب على من سأل من العمال والموظفين، قائلٌ: إن صاحب العمل قد أكل شيئاً من حقي وأنا محاسب ويمكن أن آخذ حقي الذي أخذه مني خلسة دون أن يعلم أحد، فإذا لم يكن حقه ظاهراً مثبتاً يعلم فلا يجوز له أن يأخذ خلسة، وهذا معنى حديث: ( ولا تخن من خانك ) رواه الترمذي وهو حديث حسن. ومن أهمية هذا الأمر -إكرام الضيف- ما ذكره المفسرون كـمجاهد رحمه الله في تفسير قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] قال: [إنما نزلت في الضيافة] إذا نزل رجلٌ على رجلٍ ضيفاً فلم يقم به جاز له إذا خرج عنه أن يذكر ذلك، يقول: ما ضيفني ولا أعطاني ولا أكرمني لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] قالوا: نزلت في الشخص الذي ينزل ضيفاً فلا يعطى ولا يقرى ولا يكرم، فإذا جهر بالسوء عليهم بما منعوه من حقه جاز له ذلك؛ لأنه ظلم. وذكر العلماء في أسباب تحريم اتخاذ الكلاب قالوا: إنها تروع الضيف وابن السبيل كما ذكره العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام فلذلك من اتخذها نقص من أجره كل يوم قيراط، لكن كان بعض أهل الجاهلية يمتدحون أنفسهم أو يتباهون بأن كلابهم لا تنبح على الضيوف، وأنهم علموها ذلك فصارت لا تنبح على الضيفان. فهذا المعنى المذكور في منع اتخاذ الكلاب لأهمية مسألة إكرام الضيوف. وكذلك قيل: بمشروعية الاستدانة لإكرام الضيف، فذكر السرخسي رحمه الله من الحنفية: إن ما استدانه لقرى الضيف لو استدان شخص مالاً ليقري ضيفه، فهو كما استدانه لنفقته ومصلحة نفسه حتى قالوا: يعطى من سهم الغارمين، لأن هذا حق لا بد أن يقوم به، استدان فصار غارماً فيعطى من حق الغارمين، لكن من هذا الذي يضيف بحق، لأن هناك من يظلمون أنفسهم فيضيفون بغير حق، يذبحون الذبائح فيرهقون أنفسهم ثم يطوفون على الناس ويقولون: أعطونا نحن نذبح ذبائح. ومن أهمية إكرام الضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في اتخاذ فراشٍ خاصٍ له، ولم يعد فراشاً زائداً في البيت من أجل الضيف ولم يعد هذا ترفاً، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (فراشٌ للرجل وفراشٌ لامرأته وفراش للضيف وفراش للشيطان) حديث صحيح. وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام رهن شيئاً عند يهوديٍ من أجل طعام ضيفٍ، ولكن ضعف الخبر بعض أهل العلم كـابن حزم رحمه الله في المحلى . ومن أهمية إكرام الضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرشد عمر إلى اتخاذ الوقف جعل عمر من مصارف الوقف إكرام الضيف، وذلك في الأرض التي أصابها عمر بـخيبر قال عليه الصلاة والسلام مرشداً وناصحاً: ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ) حبس الأصل: هو الوقف وتسبيل الثمرة وأي منفعة تنفق في الخير والأصل محبوس قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال: فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث فتصدق بها في الفقراء -نص عمر على ذلك وكتبه وجعله عند حفصة وهي قائمة على وقفه- فتصدق بها في الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف) وقد روى ذلك البخاري رحمه الله وعبد الرزاق وغيره من أهل العلم وهو حديث مشهور.

                    إبراهيم عليه السلام وإكرامه لضيفه:
                    ومن إكرام الضيف نبدأ بإكرام الضيف بما جاء عن إبراهيم الخليل عليه السلام.. ثم ما جاء في السنة وفي قصص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في كلام العلماء في كتب الأدب. قال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * < إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * < فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * < فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:24-27] ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعددة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله يقول: أولاً: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، وهذا من إكرام الله تعالى للملائكة على قول، والقول الثاني: إكرام إبراهيم لضيوفه ولا تنافي بين القولين كلاهما صحيح، فإذاً وصف الله ضيوف إبراهيم بأنهم مكرمين لأن إبراهيم أكرمهم وهم مكرمون. ثانياً: قال تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الذاريات:25] فلم يذكر استئذانهم ففي هذا دليل على أنه عليه السلام كان معروفاً بإكرام الضيفان، فمنزله مطروق وبابه مفتوح ولا يحتاج إلى استئذان أحد فيدخلون مباشرة، بل إن استئذان الداخل هو دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم، فقد تقدم معنا في أدب الاستئذان أن الإنسان إذا فتح بابه للضيوف فدعاهم إلى وليمة أن فتح الباب هو إذن، فلا يحتاجون إلى طرق ولا استئذان مادام فتح الباب الخارجي وفتح المجلس معناها هذا هو الإذن، وكان إبراهيم عليه السلام بابه مفتوح دائماً وعنده مكان خاص للضيوف يدخلون إليه مباشرة من غير استئذان إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الحجر:52]. ثالثاً: قوله: (سلامٌ) بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ ))[الذاريات:25] والسلام بالرفع أكمل، لماذا؟ لأن قولهم (سلاماً) هي جملة فعلية.. أسلم سلاماً. و(سلامٌ) جملة اسمية (سلامٌ) مبتدأ، ومعنى الدوام والثبوت والاستقرار في الجملة الاسمية أكثر من الجملة الفعلية؛ لأن الجملة الاسمية دالة على الثبات وعدم التجدد، والجملة الفعلية تدل على أن الشيء يذهب ويجيء، يزول ويرجع، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم فإن قوله سلامٌ أي: عليكم، دالٌ على الثبوت. رابعاً: أنه حدث المبتدأ من قوله: (قومٌ منكرون) فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم عن مواجهتهم بذلك ولم يقل: إني أنكرتكم، لم يقل: أنتم قومٌ منكرون قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ [الذاريات:25] وهذا الحذف ألطف في الكلام. خامساً: أنه بني الفعل من مفعول فقال: (منكرون) ولم يقل: إني أنكركم من أنتم؟ ومنكر صيغة المبني للمفعول حذف فاعله؛ لأنه كره أن يقول: أنا أنكركم.. أنا لا أعرفكم فقال: أنتم غير معروفين. فهناك فرق في أن يقول لهم مواجهة: إني لا أعرفكم، أنت لست بمعروف، هذا مبني والمبني للمفعول لا يعرف .. لكن أنت غير معروف، كره أن يقول لهم ذلك فهذا أبعد عن التنفير والمواجهة بالخشونة. سادساً: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بالنزل وهي الكرامة، والروغان هو: الذهاب باختفاء، بحيث لا يشعر به الضيف وهذا من كرم رب المنزل -المضيف- أن يذهب باختفاء حتى لا يشق على الضيف ويستحي فلا يشعر الضيف إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه ويقول لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، فحفظ مشاعر الضيف من إكرامه، وعدم إحراجه أيضاً من إكرامه. سابعاً: أن إبراهيم ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، وذلك معناه أنه كان بيته مستعداً للإكرام ولم يذهب إلى السوق ليشتري أو يذهب إلى الجيران ليستعير أو يذهب ويقترض وإنما كل شيء جاهز عنده في البيت، يعني مجهز البيت لخدمة الضيوف فهذا ما حصل، ثم مجيئه بسرعة فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ [الذاريات:26] ما قال: ثم جاء، لأن ثم تقتضي التراخي، والفاء للتعقيب، مباشرة فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ [الذاريات:26] وهذا يدل على أنه يوجد استعداد دائم.. ما عنده خبر أن هؤلاء سيأتون، دخلوا عليه وفاجئوه ومع ذلك كان مستعداً؛ لأن الإنسان إذا كان مستعداً لعمل الخير فأول ما تأتيه الفرصة يكون جاهزاً، أما الذي ليس بمستعد والمسألة ليست في باله وهو غير متهيئ لها، فإذا فوجئ بها تفوت الفرصة عليه. أهل الجهاد في بدر خرجوا مباشرة مستعدين للجهاد، لكنها فاتت على من؟ على الذي كان يحتاج إلى استعداد، فطوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله يخرج على أول صيحة، وهذا هو المستعد دائماً. فإذاً: الاستعداد لعمل الخير يكسب الإنسان فرصاً عظيمة، كمن يأتي لصلاة الجمعة مستعد دائماً للصدقات -مثلاً- في هذا اليوم الفضيل، بخلاف من تأتيه فرصة عظيمة ثم يبحث فلا يجد ويذهب ليقترض أو يذهب إلى البيت ويرجع وقد ذهبت الفرصة، فالمسألة هي قضية زيادة في الإيمان، مستوى الإيمان المرتفع بالاستعداد الدائم للخيرات، إبراهيم عليه السلام كان مستعداً باستمرار لعمل الخير فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] من الذي جاء؟ هو وليس الخادم ولا السائق ولا صاحب المطعم، هو الذي جاء بالعجل بنفسه، وهذا أبلغ في الإكرام، أن يأتي الإنسان بالضيافة لضيفه بنفسه ولو كان عنده خدم، ولم يقل: فأمر لهم بعجلٍ سمين بل هو الذي ذهب وهذا أبلغ في إكرام الضيف. ثامناً: أنه جاء بعجلٍ كامل ولم يأت ببعض منه، وهذا من تمام كرمه، فلم يأت بفخذ ولا بكتف ولا بظهر بل بعجل كامل، والعجل: البقر الصغير لحمه من أطيب اللحوم، وليس بقراً غليظاً. تاسعاً: أنه سمين وليس بهزيل، ومعلوم أن ذلك من أفخر أمواله، يذبح العجل الصغير وهذا إكرام متناهي؛ لأن العجل الصغير عادة يتخذ للاعتناء والتربية ولكن آثر به ضيفانه وجاءهم بهذا الصغير ذا اللحم الطري لأجل إكرامهم. عاشراً: أنه قربه بنفسه ولم يقل للخدم قربوه أنتم أو قرب المائدة يا غلام، وإنما قربه هو ولم يأمر خادمه بذلك. الحادي عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة أن تجلس الضيف ثم تأتي له بالطعام إليه وتحمله إلى حضرته ولا تضع الطعام في ناحية ثم تأمر ضيفك أن يقترب إليه، طبعاً الآن في البيوت هذا قد يكون شبه متعسر؛ لأن الألوان كثيرة فسيأتي بهذا وبهذا ويضعونه ويجهزونه ثم يقول للضيوف: ادخلوا، لا حرج في ذلك وهو من الإكرام على أية حال وليس ضد الإكرام، لكن إذا جيء به وسيق به إليهم أفضل وأحسن.. افرض أن عندك ما لا يشق نقله فجئت به على عربة إليهم أو على طاولة تدرج بها إليهم، هذا أولى من أن تضعه وتقول: تعالوا أو انزلوا عندك. الثاني عشر: أنه قال: ألا تأكلون؟! فاستخدم أسلوب العرض وهذا تلطف، وهو أحسن من أن يقول: كلوا مدوا أيديكم؟ مالكم لا تمدوا أيديكم؟ نحن أتينا به لمن؟ قال: ألا تأكلون؟ الثالث عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون ولم يكن ضيوفه يحتاجون إلى إذن؛ لأن مجرد تقديم الطعام للضيف هو إذن بأكله؛ وأنت قدمته لأي شيء؟ يتفرجوا عليه؟ فبمجرد التقديم أبحت لهم الأكل فإذاً لو قلت: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه) فيقول قائل: لم يأذن فيقال: إن مجرد التقديم عرفاً هو إذن بالأكل فحلال عليهم، طيب فلماذا قال إبراهيم: ألا تأكلون؟ لأنه لاحظ أنهم لا يأكلون، وفي الأصل قدمه إليهم تقديماً كاملاً مع الإذن ولا يحتاجون إلى كلمة تفضل، لكن لما رأى أنهم لا يأكلون قال: ألا تأكلون؟ ولهذا أوجس منهم خيفة وأحسها. الرابع عشر: أنهم لما امتنعوا من الأكل من طعامه وخاف منهم لم يظهر لهم ذلك الخوف، أوجس منهم خيفة وأخفاه لكن الملائكة علمهم الله قالوا: لا تخف وبشروه بالغلام، فجمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، قال ابن القيم رحمه الله: وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً فصلى الله على إبراهيم. ومن الآداب فتح الباب للضيف قبل وصوله قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73] فأبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدمٌ فتحها بدليل قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ [ص:50] مفتحة قبل وصولهم، وذلك لأن تقديم فتح الباب في الضيافة على وصول الضيف هو إكرام له، وتأخير باب العذاب على أهل جهنم من باب المفاجأة حتى يؤخذوا بأشد الأخذ وهو من زيادة العذاب، فلذلك إذا جاءوها فتحت أبوابها.

                    صور من إكرام الضيف:
                    من إكرام الضيف: إيثاره، وقد جاء في صحيح البخاري في القصة العظيمة التي عجب الله من أصحابها وضحك إليهم، وإذا ضحك الله إلى عبدٍ فلا عذاب عليه، وذلك دليل رضاه عز وجل عنه، هذه القصة التي أخفيت في الليل فنشرها الله في الصباح، وأنزل الوحي بها على نبيه عليه الصلاة والسلام، أن الله في السماوات عجب وضحك إلى هذين الصحابيين الجليلين الرجل وزوجته. والقصة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جائع يريد من يضيفه، فبعث إلى نسائه عليه الصلاة والسلام فقلن: ما معنا إلا الماء -وهذا بيت أعظم قائد في الأمة ما عنده إلا ماء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا؟ فقال رجلٌ من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، قال: هيئي طعامك وأصلحي سراجكِ ونومي صبيانكِ إذا أرادوا عشاء -إذا طلبوا الأكل نوميهم- فهيئت طعامها وأصلحت سراجها يعني: -أشعلت الفتيلة- ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها -كأنها حركة تمثيلية- فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان). وليس من الأدب أنك تغلق النور على الضيف وإن كان بعض الناس عندهم عادات في الضيافة منها ما هو حسن ومنها ما هو قبيح، فبعضهم يغلق النور على الضيف يقول: حتى لا يستحي، وبعضهم لا يحضر مع الضيف نهائياً، وبعضهم .. وبعضهم لذلك ابن القيم قال: تخلف وتكلف في أشياء ما أنزل الله بها من سلطان. فبطبيعة الحال لا بد من السراج من أجل أن يرى الضيف، يدخل على بيتٍ منير لكن في الوقت نفسه ستكون هناك تمثيلية أخرى بعد قليل يريانه أنهما يأكلان وهما لا يأكلان حتى لا يشعر هو بالحرج أنهما لا يأكلان، فلذلك قامت كأنها تصلحه فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان بالصوت ووضع اليد في الإناء ورفعها وهي ما فيها شيء -كما أن جماعة من الفقراء حضرهم طعام فأطفئ السراج وجعلوا يأكلون فلما طلع النهار وجد الطعام بحاله. كل واحد يريد أن يؤثر- قال: فأطفأته فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح الضيف وصاحب البيت غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ضحك الله الليلة -أو عجب- من فعالكما فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9])رواه البخاري . فهذا الموقف العظيم إكرام الضيف وإيثاره بطعام صاحب البيت وزوجته والأطفال هذا موقف ذكر في السماء فضحك الرب فرضي عنهما، وأنزلت آية في القرآن بسبب إكرام الضيف، نزلت آية وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] أي: جوع وحاجة. قال العلماء: إن طعام الأولاد مقدم على طعام الضيف شرعاً، ولكن إذا كان بهم جوعٌ خفيف لا يضرهم جاز تقديم الضيف كما حصل في هذه الآية، وتغلب إكرام الضيف على المشاعر الجياشة للأب والأم لأجل الفقير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا قال: (ألا رجلٌ يضيف هذا الليل يرحمه الله؟) هذه كلمة كافية -دعاء يرحمه الله- في أن يأخذ الضيف ويقدمه على نفسه وزوجته وأولاده، فكان موقفاً عظيماً ذكر في السماء ونزل إلى الأرض وأخبر به أهل الأرض، وكان فيه إخلاص واضح جداً في إطفاء السراج؛ ما أشعر الضيف بأي شيء وأكل ولم يشعر بأن هناك أمر عَكِر أو حرج، ولذلك أهل الإخلاص إذا أخفوا أعمالهم فالله يكشفها ليكونوا قدوة وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]. ومن إكرامه كذلك: أن الإنسان ولو كان صائماً فإنه لا ينسى الطعام لأجل الضيوف، فعن أبي أمامة قال: قلت: (يا رسول الله! مرني بعمل أدخل به الجنة؟ فقال عليك بالصوم فإنه لا مثل له) يعني في الأجر لا مثل له، قال الراوي: [فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً -ليس هناك طبخ، صيام دائماً- إلا إذا نزل به ضيفٌ فيرى الدخان نهاراً] رواه عبد الرزاق في المصنف ، بل إن الإنسان لا بأس أن يفطر من أجل الضيف إذا كان صائماً صوماً مستحباً إذا كان يشق على الضيف أن يبقى صاحب البيت صائماً، وفي ذلك أحاديث. وقال عطاء :
                    سألت سلمان بن موسى أكان يفطر الرجل لضيفه؟ قال: نعم. وكان الحسن يرخص للرجل الصائم إذا نزل به الضيف أن يفطر ويقضي يوماً مكانه، قال: إنه رحمه الله إذا دخل في صوم تطوع استحب له الإتمام لقوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] ولكن إذا شق على ضيفه صومه فيستحب أن يفطر فيأكل معه لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن لزورك عليك حقاً) يعني: لزوارك، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) أما حديث: (من نزل على قومٍ فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم) فرواه الترمذي وقال: حديث منكر، أما إذا لم يشق على ضيفه صومه التطوع فالأفضل بقاءه على الصيام، فإذاً هذا هو التفصيل، لو أن أحدهم قال: أنا صائم وجاءني ضيف ماذا أفعل؟ نقول: إذا كان لا يشق على الضيف أن تبقى صائماً ولا يشعر بالحرج أنه يجلس يأكل وأنت لا تأكل كبعض إخوانك المقربين الذين عندهم مثل هذا الشيء عادي لو ما أكلت وهم أكلوا لا بأس، فإذاً البقاء على الصيام أفضل، وإن كان هناك مشقة عليهم يروك لا تأكل معهم، أو يراك الضيف لا تأكل معه، فعند ذلك الأفضل أن تفطر لأجل الضيف، وتقضي يوماً مكانه لتحصل الأجرين معاً. بل نص العلماء على جواز الأكل فوق الحاجة من أجل الضيف، مع أن الأكل فوق الحاجة مكروه، وورد عن بعض الصحابة أن ولده لما أصابه من التخمة مرض قال: لو مات ما صليت عليه لأنه اعتبره مثل القاتل لنفسه الذي يأكل حتى يتفجر فيموت، فما حكم الأكل فوق الحاجة؟ قالوا: مكروه أما إذا وصل لدرجة الهلكة فهذا حرام وانتحار؛ لكن الأكل فوق الحاجة مكروه إلا إذا عرض له غرضٌ صحيح في الأكل فوق الشبع فحينئذٍ لا بأس بذلك ذكروا مثالين: أن يزداد الأكل استعداداً لصيام غد طويل حار. والمثال الثاني: لأجل الضيف قال: بأن يأتيه ضيفٌ فيأكل الضيف ويستمر الضيف في الأكل وصاحب البيت شبع فيزداد في الأكل من أجل ألا يحرج الضيف؛ لأنه إذا توقف صاحب البيت فربما توقف الضيف وقد يكون الضيف بحاجة الطعام أو فيه جوع، أو أن بدنه أو جسده أعظم أو أكبر وذاك نحيل لا يحتاج إلى طعامٍ كبير فيجوز له أن يزيد عن الشبع لأجل إكرام ضيفه لئلا يخجل. وكذلك من الآداب إباحة الشريعة السمر مع الضيف بعد العشاء رغم كرهها للكلام بعد العشاء، كما في حديث النهي عن النوم قبل العشاء والكلام بعده -بعد العشاء- إلا لمصليٍ أو مسافر أو مع ضيفه يسامره، ليس سمراً على البلوت والأفلام والكلام القذر والغيبة لأجل الترويح عن الضيف من عناء السفر والإكرام والمباسطة.. المباسطة جزء كبير من الإكرام سيأتي مزيد عن الكلام عن ضيافة المشرك والتفصيل فيها.

                    آداب المضيف :
                    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعـد: فقد تقدم الكلام في المرة الماضية عن هذا الأدب الإسلامي الكبير وهو: (إكرام الضيف)، وذكرنا مقدمة عن الضيافة وإكرام الضيف، وبعض الآداب المتعلقة بالمضيف تجاه ضيفه، ونتابع إن شاء الله في هذه الليلة الحديث عن هذا الموضوع وهو: (آداب المضيف) ثم نتبعها بآداب الضيف. تحدثنا عن سمر المضيف مع ضيفه بعد العشاء مع أن الشريعة قد كرهت الحديث بعد العشاء، لكن حيث إن ذلك من الحاجة فإنه لا بأس بأن يسمر المضيف مع ضيفه لأجله ولا بأس كذلك بتنويع الطعام للضيف كما دل عليه حديث أبو الهيثم بن التيهان وسوف يأتي وفيه: فأمر لهم بشعيرٍ يعمل وقام فذبح شاةً، واستعذب لهم ماءً، وهذا كله يدل على المبالغة في تطييب المضيف الطعام وإتحاف الضيف به بأفضل ما يجب، ولا بأس بجمع الإدام في النادر لضيفٍ أو وليمة أو ما أشبه ذلك، وإنما يكره التنويع الكثير في الأطعمة من باب الورع حتى لا يخرج إلى حد السرف، وكذلك لا يؤدي إلى إنفاق الأثمان الكثيرة في هذا، وأقبح ما يكون عند نزول الحاجة بالناس وضيق معاشهم والضرورة الحاجة للمواساة، ثم يأتي بعض الناس وينوعون الطعام تنويعاً عجيباً؛ لكن إذا حضر ضيف فلا بأس من تنويع الطعام لأجل الضيف، وينبغي إذا حضر من دعي وأحضر الطعام ألا ينتظر من غاب، وينبغي له أن يحضر من الطعام ما أمكنه من غير إجحاف بأهله. والضيف له حكم آخر غير حكم أهل البيت، إذ أن أهل البيت يمكنهم أن يأكلوا الألوان في عدة أيام، بخلاف الضيوف فقد لا يقيمون، ولأنه قد تكون شهوة بعض الضيوف في لون آخر؛ فإذا كان التنوع في الألوان لأجل الإكرام حتى إذا لم يعجبه نوعٌ أعجبه نوعٌ آخر فلا بأس بذلك، ولما فيه من إدخال السرور على الضيوف والأجر عظيم في إدخال السرور على المسلمين. وقد كان بعض السلف إذا جاءه الأضياف يقدم لهم في وقتٍ واحد ما يقوم بنفقته شهرٌ ونحوه، فيقال له في ذلك: فيقول: قد ورد أن بقية الضيف لا حساب على المرء فيها، فكان لا يأكل إلا فضلة الضيوف؛ لأجل ذلك: يكثر الطعام للضيوف ثم يأتي هو بعده ويقول: هذا حسابه أقل من أن أطبخ أنا لنفسي؛ لأن فضلة الضيف طيبة فآكله بعده. وينبغي أن يروح عليه بالخدمة ولا يفعل ذلك قائماً لأنه زي الأعاجم، وقد تقدم النهي عن القيام على رأس الشخص، ولا بأس أن يأكل مع ضيوفه خلافاً لمن لا يفعل ذلك من بعض الناس العامة الذين عندهم عادات تمنع من الأكل مع الضيوف؛ لأن الأكل مع الضيف في الحقيقة فيه مؤانسة له، أي: يستأنس إذا أكلت معه، وأكرمته، وقدمت له أطايب الطعام ونحو ذلك، فإن أكل معه فيستحب له أن يخدمه بنفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى أمر أصحاب النجاشي بنفسه الكريمة، فقيل له: ألا نكفيك؟ فقال: (خدموا أصحابي فأريد أن أكافئهم) هذا إذا صح الحديث، ذكره ابن الحاج رحمه الله في المدخل ، ومن ذلك أن يتولى بنفسه صب الماء على يد الضيف حين غسل يديه. ويجوز للإنسان إذا حضر معه جماعة كثر أن يدخلهم فوجاً فوجاً إذا كان مجلس الطعام لا يتسع، وقد ورد إدخال الناس عشرة عشرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان يأكل مع إنسان ضرير أعلمه بما بين يديه حتى لا يفوته الطعام الطيب. وكذلك فإنه لا يحرج الضيوف بإبقائهم دون أن يأذن لهم بالطعام، بل يسارع إلى دعوتهم إلى الطعام بأسلوبٍ لطيف. وكذلك فإن الإنسان يقدم للضيف ما يعلم أن الضيف يحبه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الدباء.
                    ويستحب للمضيف إيناس الضيف بالحديث الطيب والقصص التي تليق بالحال؛ لأن من تمام الإكرام طلاقة الوجه وطيب الحديث عند الخروج والدخول؛ ليحصل له الانبساط، ولا يكثر السكوت عند الضيف، ولا يغيب عنه، ولا ينهر خادمه بحضرته، ولا يجلسه مع من يتأذى بجلوسه أو لا يليق به أن يجلس معه، وأن يأذن له بالخروج إذا استأذنه، وأن يخرج معه إلى باب الدار تتميماً لإكرامه، وأن يأخذ بركاب ضيفه إذا أراد الركوب، فقد ورد حديث عند ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: () إن من السنة أن يخرج الرجل مع ضيفه إلى باب الدارلكن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إن من السنة إذا دعوت أحداً إلى منزلك أن تخرج معه حتى يخرج] ذكره ابن عبد البر ، وهذا الذي يعرف بتشييع الضيف، قال في المصباح المنير في فصل الشين مع الياء: شيعت الضيف: خرجت معه عند رحيله إكراماً له وهو التوديع، فيندب للإنسان أن يشيع ضيوفه ويخرج معهم إلى باب الدار وإلى السيارة ويفتح له الباب ليركب، أو يأخذ بزمام الراحلة إذا كان عنده راحلة ويودعه هذا من تمام الضيافة. وروى أبو بكر بن أبي الدنيا قال: قال أبو عبيد القاسم بن سلام : زرت أحمد بن حنبل فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر مجلسه فقلت: يا أبا عبد الله ! أليس يقال: صاحب البيت والمجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم. يقعد ويُقعد من يريد -مادام هو صاحب البيت يقعد في صدر المجلس من يريد وهو أحق بها، لكن إذا رغب في جلوس ضيفه فيه فلا حرج- قلت في نفسي: خذ أبا عبيد هذه واحدة -إليك فائدة- ثم قلت: يا أبا عبد الله ! لو كنت آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنةٍ إلا مرة أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد يعني: يحدث نفسه بالفوائد التي جناها من زيارته لـأحمد رحمهما الله.. فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله ! لا داعي للقيام وتمشي، قال: قال الشعبي من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار وتأخذ بركابه، قال: قلت يا أبا عبد الله ! من عن الشعبي قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي، قلت يا أبا عبيد ! هذه ثالثة.. فإذا ً تشييعه والخروج مع من تمام الضيافة. وقد أمسك عبد الله بن عباس بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنهما فقال: [أتمسك بي وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنا هكذا نصنع بالعلماء] وينبغي الاهتمام بإكرام أضياف الإسلام أكثر من الضيوف الشخصيين.. الضيوف الذين جاءوا من أجل الدين مثل أهل الصفة على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما حضره لبن قال لـأبي هريرة : (اذهب إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحدٍ إذا أتته صدقةٌ بعثها إليهم ولم يتناول منها شيء). رواه البخاري ، فهؤلاء أضياف الإسلام.. فإذاً: من جاء لحق الدين فهذا أكرم من يستحق الإكرام. وقد جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم إكرام طلبة العلم من الضيوف إذا جاءوهم فقال مالك بن خزين : [كنت جالساً مع أبي هريرة بأرضه بالعقيل فأتاه قومٌ من أهل المدينة على دواب فنزلوا عنده، قال أبو هريرة -يقول للشخص عنده- اذهب إلى أمي فقل: إن ابنك يقرئك السلام ويقول: أطعمينا شيئاً قال: فوضعت له ثلاثة أقراص في صحفة وشيئاً من زيتٍ وملح ثم وضعتها على رأسي وحملتها إليهم، فلما وضعتها بين أيديهم كبر أبو هريرة لما رأى الطعام وقال: الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين -الماء والتمر- فلم يصب القوم من الطعام شيئاً فلما انصرفوا قال: يا بن أخي! أحسن إلى غنمك وامسح الرغام عنها...] الحديث. وهذا يحتمل أنهم قصدوه للتعلم والأخذ عنه وإحضار أبو هريرة للطعام المتيسر عنده من باب إكرام الزائر والضيف وتقديم ما حضر إليه، ولذلك قدم إليهم ثلاثة أقراص وزيتاً وملحاً، وكبر أي: على معنى الذكر لله والشكر له على ما نقله من حال المجاعة التي كان يخر فيها بين البيت والمنبر ما به شيءٌ إلا الجوع إلى هذه الحال من الخصب والكثرة حتى وجد عنده خبزٌ وإدام دون استعداد ولا تأهب، عنده خبز في البيت عد ذلك نعمةً عظيمة كبر الله عليها.

                    هل يستضاف الكافر؟ :
                    هل يستضيف الإنسان الضيف الكافر؟ جاء في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضافه ضيفٌ كافر -يعني: نزل عليه- فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاةٍ فحلبت فشرب حلابها ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها -ما استطاع أن يتم الثانية- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن يشرب في معي واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء) معناها: لا بركة في طعام الكافر.. وأما إذا أسلم أو آمن يبارك الله في طعامه فيكفيه من الطعام ما لا يكفي الكافر ببركة الإسلام. فإذاً: الحديث هذا يؤخذ منه جواز تضييف الكافر، قيل إنه: جمامة بن أساد ، وقيل: جحاد الغفاري ، وقيل غير ذلك، لكن نلاحظ أن النبي عليه الصلاة والسلام أضاف الكافر قيل: رجاء إسلامه، أو إذا كان يخشى عليه الضياع إذا كان ممن له حق مثل الكفار المعاهدين يعني: الكفار الذين لهم حقوق غير الكفار الذين قد يكونون أقارب. إذاً: هناك اعتبارات، فالنبي عليه الصلاة والسلام أضاف الكفار إكراماً لهم لعلهم يتأثرون من باب الدعوة أو كفار معاهدين لهم حقوق، كفار أقارب.. أما أن يدعو الإنسان كافراً إلى بيته فيأتيه بنساءٍ عاريات أو يأتيه بنجسٍ أو بشركٍ وكفرٍ، وقد سأل بعضهم عن حكم تمكين الضيف الكافر من تأديت شعائر دينه في بيت المسلم الذي أضافه فسألت عن هذا الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين فقال: لا يمكنه من ذلك يعني: لا يجوز له بأن يرضى أن يعمل شعائر الكفر في بيته. وإذا أضاف المسلم كافراً هل يآكله، أم يقدم له الطعام فقط ولا يجلس معه للأكل؟ يقول الإمام مالك رحمه الله: ترك مآكلة النصراني في إناء واحد أحب إلي ولا أراه حراماً ولا نصادق نصرانياً. لا أراه حراماً لكن الأحب إلي أني لا آكل معه في صحن واحد، فنهى عن مآكلته لما في ذلك من معنى المصادقة.. وأما تضييفه فيمكن أن يكون للاستئلاف ورجاء الإسلام يكون فيه أجر.. ووجود الطعام ببعض الأشكال العصرية أو مثلاً هذه البوفيهات وهذا الطعام الذي يوضع ثم يسكب منه الناس يحل مشكلة الأكل معه في صحنٍ واحد. فالخلاصة إذاً: إذا رجي إسلامه بتأليف قلبه فلا مانع من إضافته، أما إذا كان يخشى منه بأن يأتي معه بمنكرات أو يعمل أشياء محرمة في بيتك فلا تضيفه. ومما ذكر في صحيح مسلم عنوان: باب استحباب وضع النوى خارج التمر، واستحباب دعاء الضيف لأهل الطعام، وطلب الدعاء من الضيف الصالح وإجابته لذلك.

                    وقفة مع بعض قصص الصحابة وضيوفهم:
                    لقد ضيف الصحابة رضوان الله عليهم ضيوفاً ولهم في ذلك قصص، فلنعرج على بعض القصص التي ذكرها أهل العلم بالحديث أو المحدثون في كتبهم.

                    قصة أبي بكر مع ضيوفه:
                    من أشهر قصص إضافة الضيوف التي حدثت على عهد الصحابة منها: قصة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق : أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة) وفي البخاري : (من كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامسٍ أو بسادس)، وإن أبا بكر جاء بثلاثة فانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وإن أبا بكر تعشى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء بعدما ذهب من الليل ما شاء الله فقالت امرأته: ما أحبسك عن أضيافك؟ قال: أو ما عشيتهم؟ قالت: أبو حتى تجيء أنت، قد عرضوا عليهم الطعام فغلبوهم يعني: الضيوف ورفضوا الضيافة إلا إذا جاء الصديق. يقول ولد أبي بكر الصديق : فذهبت أنا فاختبأت فقال: يا غنثر ! فجدع وسب وقال: كلوا لا هنيئاً وقال: والله لا أطعمه أبداً، قال الضيوف: وايم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا نرى من أسفلها أكثر منها -قال: شبعنا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك- فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر ثم قال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ قالت: لا. وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني: اليمين. وفي رواية: يقول عبد الرحمن بن أبي بكر : نزل علينا أضياف وكان أبي يتحدث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال: يا عبد الرحمن ! افرغ من أضيافك، فلما أمسيت جئنا بقرى فأبوا قالوا: حتى يجيء أبو منزلنا فيطعم معنا، فقلت: إنه رجلٌ حديد وإنكم إن لم تفعلوا -إذا ما أكلتم الآن- خفت أن يصيبني منه أذى، قال: فأبوا، فلما جاء قال: فرغتم من أضيافكم؟ قالوا: لا والله ما فرغنا قال: أولم آمر عبد الرحمن -أوصيه بالضيوف- قال عبد الرحمن: وتنحيت عنه فاختبأت، فقال أبو بكر: يا غنثر! أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي إلا أجبت قال: فجئت فقلت: والله مالي ذنب، هؤلاء أضيافك فسلهم قد أتيتهم بقراهم -بكرامتهم وضيافتهم- فأبوا أن يطعموا حتى تجيء، فقال: ما لكم ألا تقبلوا عنا قراكم؟ فقال أبو بكر: والله لا أطعمه الليلة فقالوا: والله لا نطعمه حتى تطعمه، قال: فما رأيت الشر كالليلة قط، ويلكم مالكم ألا تقبلوا عنا قراكم؟ ثم قال أبو بكر رجع إلى نفسه: إنما الأولى من الشيطان -حلفنا وهذا الحلف من الشيطان ما حلفنا على بر ولا على خير حلفنا ما نأكل ما هو بر ولا خير هذه من الشيطان- ثم قال: هلم قراكم فجيء بالطعام فسمى فأكل وأكلوا فلما أصبح رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! بروا وحنثت قال: (بل أنت أبرهم وأخيرهم) رواه مسلم . في هذا الحديث جواز الاشتغال عن الضيف بمصلحة المسلمين مثل ما فعل الصديق ، إذا كان هناك من يقوم بإكرامهم مثل ولده. وفيه أن الضيف لا يمتنع مما يريد المضيف مما يتعلق بإكرامه ولا يعترض عليه؛ لأن المضيف قد يكون له غرض في أن يتقدم الضيوف للطعام فلا يشق عليه بالرفض، وفيه السمر مع الضيف والأهل. وفيه قول الضيف لصاحبه: لا آكل حتى تأكل، وإنما امتنع أضياف الصديق عن الأكل؛ لأنه قد يفرغ الأكل ويأتي أبو بكر وليس له عشاء فقالوا: ننتظر وإنما اختبأ عبد الرحمن خوف الخصام، وغنثر معناها: الثقيل وقيل: الجاهل وقيل: السفيه وقيل: اللئيم وقيل: ذباب أزرق، والسب هو: الشتم. وفيه الاختباء خوف الأذى، وأنه لا أذى بمثل هذا من الوالد يعني: إذا الوالد قسا على ولده بمثل هذا لا يعتبر جريمة، وفيه عدم المؤاخذة عما يحدث حال الغيظ. وقوله: أبي رجلٌ حديد: يعني: قوي يغضب. وقد ترجم البخاري رحمه الله: باب السمر مع الضيف والأهل. وكذلك فإن أبا بكر ظن أن عبد الرحمن فرط في حق الأضياف ولذلك عنفه وقال عليه كلاماً غليظاً ومن الانفعال قال: لا هنيئاً، ولكن الصديق رغم مكانته وفضله رجَّاع إلى الحق وقال: هذه من الشيطان وأكل.. وما أخره عن ضيوفه إلا أنه كان مع النبي عليه الصلاة والسلام ولا شك أنه كان في أمر مهم، ولذلك أكرم الصديق بكرامات الأولياء حتى إنه يقول: كلما رفعوا لقمة ربا مكانها أكثر منها، ربا يعني: زاد من أسفلها في الموضع الذي أخذت منه، فلما نظروا إلى الجفنة فإذا هي أكثر مما كانت عليه. قال: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني يعني: مما أقر الله به عينها من هذه الكرامة لزوجها، وهذه البركة عظيمة وما هو بعجيب قول أسيد رضي الله عنه: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر فـأبو بكر رجلٌ مبارك جعل الله له هذه الكرامة وهي كرامة من كراماته الكثيرة.. وأكرمه وأزال عنه الحرج فعاد مسروراً وانفك الشيطان مدحوراً، وأكرم أضيافه، وزاد الطعام، وعنده سبيل كفارة اليمين لأجل قسمه. ثم حملت هذه الجفنة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان هناك جيشٌ فأكلوا من تلك الجفنة التي أرسل بها أبو بكر إلى النبي عليه الصلاة والسلام لتتم البركة ويعظم أجر الصديق ، وكفت الجيش كله. وفي رواية عند أحمد والترمذي والنسائي قال: أتي النبي عليه الصلاة والسلام بقصعة فيها ثريد فأكل وأكل القوم فما زالوا يتداولونها إلى قريبٍ من الظهر يأكل قومٌ ثم يقومون ويجيء قومٌ فيتعاقبونه فقال رجل: هل كانت تمد بطعام؟ فقال الراوي له: أما من الأرض فلا، إلا إن كانت تمد من السماء. قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري : قال بعض شيوخنا: يحتمل أن تكون هذه القصعة هي التي وقع فيها في بيت أبي بكر ما وقع والله أعلم. ففي هذا الحديث تصرف المرأة فيما تقدم للضيف، والإطعام إلى غير إذن خاص من الرجل لأنها قدمت لهم الطعام. وفيه جواز الغلظة على الولد على وجه التأديب والتمرين على أعمال الخير. وفيه أيضاً: كرامات أولياء الله الصالحين وما يقع من لطف الله تعالى بهم، وكيف أن خاطر أبي بكر الصديق كان مشوشاً وخاطر ولده وأهله وأضيافه، ثم إن الله أعطاه هذه النعمة العظيمة التي قرت به عينه هو وزوجته وولده وأضيافه، وبقي البقية التي أرسلت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وانقلب الكدر صفاءً والحزن سروراً ولله الحمد والمنة.

                    قصة أبي الهيثم بن التيهان:
                    ومن الصحابة أيضاً الذين حصل لهم مشهد عظيم في الضيافة: أبو الهيثم بن التيهان ، وذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فإذا هو بـأبي بكر وعمر فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله! قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما). هؤلاء أعظم ثلاثة في الأمة؛ خرجوا من بيوتهم وما أخرجهم إلا الجوع، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم والخليفة الأول والثاني من بعده أخرجهم الجوع من البيت قال: قوموا، فقاموا معه فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأتهم المرأة قالت: مرحباً وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا الماء إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني.. فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بسر وتمر ورطب حتى ينتقي الضيف ما يشاء فقال: كلوا من هذه حتى يسكن الجوع، ريثما تذبح الذبيحة وتطبخ، وهذا من حسن الضيافة أن يسكن جوع الضيف بشيء إذا كان الطعام سيتأخر، وأخذ المدية فقال صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب) لا تذبح ذات در ترضع أولادها وتنتفعون من حليبها ولبنها.. فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر وعمر: (والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم) رواه مسلم رحمه الله. ومن القصص العظيمة ضيوف أبي طلحة رضي الله تعالى عنه والتي تقدمت لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا رجلٌ من يضيفه هذه الليلة رحمه الله) فأخذه إلى بيته وقدم له طعام زوجته وقوت الصبية. ويؤخذ من الحديث أن من آداب الضيافة التلطف في إكرام الضيف على أحسن الوجوه وعدم إحراجه.

                    آداب الضيف:
                    ذكرنا آداب المضيف فما هي آداب الضيف؟ لأن الضيافة فيها ضيف ومضيف؛ المضيف تقدم الكلام عنه فما هي آداب الضيف؟

                    إحراج المضيف:
                    أولاً: لا يجوز له إحراج المضيف، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ولا يحل لضيف أن يثوي عند صاحبه حتى يحرجه الضيافة ثلاثٌ) يعني: ثلاثة أيام وبعدها ينصرف، وكان ابن عمر لا يأكل طعاماً يقدم له بعد ثلاث وإنما ينصرف إلا إذا رغب صاحب البيت في جلوسه فعند ذلك يجلس. ولا يجوز له أن يثقل عليه وأن يعرضه للضيق، وأن يوقعه في الإثم؛ بأن يقول قولاً أو يفعل فعلاً يأثم به، ولا يجوز له أن يضيق على أهله، ولا يجوز له أن يجعله يتبرم، وبعض الناس ما عندهم أدب في هذه إطلاقاً، فتجده يأتي ويحتكر بيت الآخر كأنه بيته.. وهذا البيت يضيق عليه ولا يتهيأ له أن يطبخ باستمرار، ولا يتهيأ له طعام يكفي الجميع باستمرار، وهذا جالس مقيم، ولو خرج رب البيت من الدار لما خرج هو.

                    ألا يكلفه ما لا يطيق:
                    ثانياً: ألا يكلفه ما لا يطيق، قال ابن الحاج : ينبغي ألا يتخير المدعو على الداعي، بعض الناس يشرط ويقول: اصنع لنا كذا واصنع لنا كذا.. فإذا علم أنه لا يحب ذلك فلا يفعل لأنه ليس من الأدب، إنما يأكل ما حضر وينبغي إن خير المدعو ألا يتشرط لو قال: ماذا تريد؟ يقول: أريد كذا وكذا يتطلب الأشياء التي قد لا توجد، اللهم إلا أن يعلم أنه ليس في ذلك تكلف ويدخل السرور على من خيره، والتكلف هو: أن يأخذ عليه شيئاً بالدين، وليس له جهة يعوض منها، وهذا من إيقاعه في الحرج.

                    ألا يتعدى في إعطاء الطعام:
                    ثالثاً: ألا يتعدى في إعطاء الطعام ولا يختلس منه شيئاً فينبغي للمدعو أن لا يعطي من الطعام شيئاً إلا بإذن صاحب المنزل، أو إذا كان العرف يسمح بذلك، فمثلاً أحد الضيوف يتصرف في الطعام ويعطي هذا، ويعطي هذا إذا كان العرف يسمح بذلك فعله وإلا فلا يتصرف في الطعام، وإنما صاحب البيت هو الذي يتصرف، وينبغي له أن يحذر مما يفعله بعض من لا خير فيه من أنهم يأخذون بعض ما تيسر لهم أخذه فيختلسونه ويجعلونه تحتهم حتى إذا رجعوا إلى بيوتهم أخرجوه، وهذا من باب السرقة وأكل أموال الناس بالباطل. قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية : وقالت الحنفية: يحرم رفع المائدة إلا بإذن صاحبها؛ لأنه مأذون بالأكل لا بالرفع. ولو ناول الضيف لقمة من طعامٍ ضيفاً آخر؟ روي عن محمد أنه لا يحل للآخذ أن يأكل بل يضعه ثم يأكل من المائدة؛ لأن الضيف مأذون له بالأكل لا بالإعطاء. وقال عامة مشايخهم: يحل له للعادة؛ لأن العادة جرت بأنه لا بأس للضيف أن يعطي ضيفاً آخر لأن العادة جرت بهذا، وكذا لو أعطى بعض الخدم القائمين على رأس المائدة جاز، ولا يجوز أن يعطي سائلاً ولا إنساناً دخل لحاجة؛ لأنه لا إذن فيه عادة، يعني: هو وضع الطعام، والضيف مأذون له بالأكل وليس أن يتصدق من مال المضيف وصاحب البيت على المحتاجين، هذا ما أذن له به فلا يتصرف فيه، وكذا لو ناول شيئاً من الخبز واللحم كلب صاحب البيت أو غيره لا يسعه، ولو ناوله الطعام والخبز المحترق وسعه؛ لأنه مأذون فيه عادةً، ما دام أنه شيء يزهد فيه بل ربما يرمى، إذاً يجوز أن يعطى مثل أن تأتي قطة فيأخذ عظماً أو شيئاً يسيراً جداً مما يرمى فيعطيها لا بأس به.

                    آداب أخرى تجب على الضيف:
                    وكذلك مما ذكروه في آداب الضيف: أن صاحب الطعام يبدأ بالضيف قبل نفسه، ثم إن الضيف لا يقطع أشياء يشق على صاحب البيت تقطيعها، ولا يتصرف في الطعام تصرفاً يضايق صاحب البيت، ولو أنه دعي إلى طعام وجاء معه من لم يدعى فماذا يفعل؟ ماذا يفعل الضيف إذا جاء معه شخصٌ غير مدعوٍ؟ جاء في صحيح مسلم : باب ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه صاحب الطعام، واستحباب إذن صاحب الطعام التابع وأتى بحديث: أن رجلاً من الأنصار يقال له أبو شعيب صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً ثم دعاه خامس خمسة وأتبعهم رجل فلما بلغ الباب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا اتبعنا فإن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع؟ قال: لا. بل آذن له يا رسول الله!) فإذاً ماذا يفعل الضيف؟ إذا جاء معه شخص ليس مدعو؟ الضيف يقول للمضيف: فلان جاء معي أتأذن له؟ فإن أذن دخل وإن لم يأذن رجع. ومشكلة بعض الإخوان أحياناً إذا جاء عالم إلى مكان ودعي إلى بيت فيأتي مع العالم هذا ناس ويستحلون بيت صاحب الوليمة بدون حرج ويحرجونه، فنفرض -مثلاً- أن أحد العلماء الكبار جاء إلى هذا البلد فقام أحد طلبة العلم أو أحد الأشخاص ودعا العالم إلى بيته يعني: حسب حساب واحد.. اثنين.. ثلاثة.. خمسة، فبعض هؤلاء الشباب يأتون مع هذا الشيخ, ويقولون: أين سيذهب الشيخ؟ فيقال: معزوم عند فلان فتذهب خمس سيارات أو عشر سيارات، ثم يدخلون، الرجل استعد لخمسة أشخاص فجاء ثلاثون شخصاً ففيها إحراج ولا شك، ولذلك ينبغي على الإخوان أن ينتبهوا لمثل هذا؛ لأن فيه إثم وإحراج لصاحب البيت، وإذا أكلوا طعاماً لا يسمح به وليس بطيب نفسٍ منه. كان الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله يدعى إلى وليمة، وكان الشيخ محمد بن صالح العثيمين تلميذاً عنده، فكان ينتهز الفرصة ويذهب مع الشيخ في الطريق يسأله - ابن عثيمين يسأل السعدي في الطريق إلى الوليمة- إلى الباب ثم يرجع إلا إن أذن له صاحب البيت أو لزم عليه ولم ير الشيخ مانعاً في الدخول أو لا يضيع الوقت عليه دخل، فإذاً لا مانع من مرافقة العالم إلى المكان الذي دعي إليه لكن لا يدخل معه، تريد أن تستفيد من الطريق أم أن تستفيد من البطن؟ فإلصاق النفس في الحقيقة فيه حرج شرعي وإثم. وكان جارٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسياً طيب المرق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً ثم جاء يدعوه فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وهذه؟ يشير إلى عائشة فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. فعاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ فقال: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا. ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ قال: نعم -في الثالثة- فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله). فينبغي على الضيف أن يستأذن لمن معه أو يأمرهم بالرجوع إذا أحس أن هناك حرج على صاحب البيت، وينبغي على صاحب البيت أن يتلطف في الرد، وكذلك فإن الضيف لا يأتي معه بمن يؤذي صاحب البيت دخوله. ومن آداب الضيف: أنه لا يتقدم على صاحب البيت في الإمامة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) ولأن في التقدم عليه إزراء به وليس هذا من حسن الخلق. وينبغي على الضيف إذا نزل أن يحذر من إتلاف شيءٍ من أثاث ومتاع صاحب البيت، فإن بعض الضيوف إذا جاءوا إلى البيت كسروا وأطلقوا لأولادهم العنان فتراهم يكسرون في ممتلكات صاحب البيت، ويوسخون السجاد، وترى (الآيسكريم) على الفراش، والحلاوى على الحيطان وهذا شيء سيئ جداً. روى عبد الرزاق رحمه الله -والحديث في الترمذي- قال: [نزل بـعائشة ضيفٌ فأمرت له بملحفة صفراء مما يلتحف به فاحتلم فيها، فأصاب اللحاف شيء فاستحيا أن يرسل بها وفيها أثر الاحتلام، فغمسها في الماء ثم أرسل بها، فقالت عائشة : لما أفسد علينا ثوبنا؟ إنما كان يكفيه أن يفركه بأصبعه.. ربما فركته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصبعي]. ورواية الترمذي: [ضاف عائشة ضيف فأمرت له بملحفة صفراء، فنام فيها فاحتلم فاستحيا أن يرسل بها وبها أثر الاحتلام، فغمسها بالماء ثم أرسل بها فقالت عائشة : لما أفسد علينا ثوبنا إنما كان يكفيه..] وذكر الحديث، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وهو قول واحدٍ من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء مثل سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق قال في المني يصيب الثوب: يجزئه الفرك وإن لم يغسل، فإذاً لينتبه الضيف من إفساد متاع أصحاب البيت، أو ترك الأولاد يعبثون في الأشياء ويكسرونها؛ فهذا ليس متاعاً له وإنما هي حقوق الناس، وفي الحقيقة يغرم إذا تعدى، وإذا ترك أولاده يفسدون يغرم لكن إذا تلف شيءٌ بدون تفريطٍ منه فلا يضمن. وينبغي على الضيف المبادرة إلى الأكل إذا دعي، فإن السنة إذا قدم الطعام أن يبادر بالأكل؛ لأنه كرامة لصاحب المنزل فلما قبضت الملائكة أيديهم نكرهم إبراهيم؛ لأنهم خرجوا عن العادة وخاف أن يكون من ورائهم شر، فقبول الكرامة والأكل منها فيه تطييب لخاطر صاحب البيت، والرفض فيه شيء من الإهانة والإزعاج، كما قال ابن العربي في أحكام القرآن ، وقال عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار شرح البزدوي : ألا ترى أن ترك الأكل عند الإباحة إساءة ودليل على العداوة، حتى أوجس الخليل صلوات الله عليه خيفة في نفسه من الضيف إذ لم يأكل من ضيافته. وقال في المغني : والعرف يقتضي أن تقديم الطعام للضيف هو إذن له بأكله، ولا خلاف بين العلماء فيما علمناه بأن تقديم الطعام بين يدي الضيفان إذن بالأكل وأنه لا يحتاج إلى قبول بقوله، ووجد ما يدل على التراضي. وإن من الكبائر سرقة الضيف من بيت المضيف الذي أدخله وأكرمه، فإذا سرق الضيف من مال مضيفه شيئاً نظر فإن سرقه من الموضع الذي أنزله فيه أو موضعٍ لم يحرزه عنه لم يقطع؛ لأنه لم يسرق من حرز، وإن سرق من موضعٍ محرزٍ دونه نظرت فإن كان منعه القرى -يعني: بخل وما ضيفه- فسرق بقدر ما منعه فلا قطع عليه، وإن لم يمنع قراه -يعني: ضيفه وأكرمه- فإن أخذ شيئاً من الحرز يقطع، وهذه ظاهرة موجودة في المجتمع، ويدخلون على أنهم ضيوفهم وهم في الحقيقة حرامية، وقد يقع ذلك عند النساء أيضاً تدخل بيت صاحبتها فتسرق الدروج، المحافظ، والشنط، وغيرها من الأشياء. يقول لي أحدهم: دخلت بيتنا امرأة وقد وضعت مبلغاً في حقيبة فوق الدولاب وكانت زوجتي غائبة ثم رجعت وما انتبهت للحقيقة، ثم خرجت من الغرفة فأخذت الحقيبة أريد المال فما وجدت المال فقلت لها: انظري في شنطة هذه المرأة قال: فوجدنا فيها نفس المبلغ وقد وضعت فيها فئات مختلفة.. فوجدنا نفس تلك الفئات، فهناك بعض من لا يتقي الله يعملون الكبائر، ثم أين؟ في بيت من أكرمهم. أحضر لي شخص في المسجد قبل أيام فاتورة التلفون بمبلغ أربعين ألف ريال، وقال: حضرني أقرباء في عيد الأضحى وبعد أن غادروا جاءت الفاتورة بهذا المبلغ كله في المدة التي جلسوا فيها عندي في البيت. فإذاً: هناك من يرتكب الكبائر العظيمة التي يزداد قبحها في حق من أكرمه وفتح له بيته وآواه وضيفه، فأين هم من ديان يوم الدين؟ ومن بعض المنكرات التي يفعلها بعض الناس من الضيوف أن يحلف بالطلاق على المضيف ألا يذبح له، ما دخل زوجته الآن؟! وهذا أصل المشكلة التكلف من أصحاب البيوت من المضيفين، والنبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن التكلف للضيف) والحديث في صحيح الجامع . وفي الأوسط للطبراني عن شقيق بن سلمة قال: دخلنا على سلمان الفارسي فدعا بما كان في البيت، وقال: [ لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن التكلف للضيف لتكلفت لكم ]. فلا ينبغي للإنسان أن يتكلف، ولا ينبغي للضيف أن يحلف بالطلاق، يمكن أن يقول: لا تذبح، وإذا علم أن الرجل هذا سيستدين، ويرهق نفسه، ولو نهاه ما يذبح، يمكن يحلف عليه في الله، لو كان يخشى أنه يتكلف كلفة لا يطيقها، ثم إن بعض الناس يحلف وذاك يذبح، ثم لا هو استفاد من الحلف وذبحت الذبيحة ثم يأتي ليضع يده على الرز يقول: هذه تحليل يمينك يا فلان، ما علاقة وضع اليد على الرز بالأيمان. مسألة فقهية: لو حلف عليه ألا يذبح فاكتشف أنه ذبح قبل أن يحلف قال: والله ما تذبح، قال: ذبحنا، ففي كتاب أنوار البروق في أنواع الفروق في قاعدة تعذر المحلوف عليه قال: إذا حلف ضيف على صاحب الدار ألا يذبح فتبين أنه قد ذبح فلا حنث؛ لأن رفع الواقع محال، فإذاً لا تجب كفارة في هذه الحالة، ولا يكون حانثاً، إذا فات محلوفٌ عليه لمانعٍ إذا كان شرعياً فحلفة مطلقة، وإن كان كلٌ قد تقدم منهما فلا حنث.

                    الكرم ومنزلته عند العرب وذم البخل والبخلاء:
                    وختاماً: فإن الإكرام من الأمور الحسنة الطيبة التي جاء بها الإسلام ودل عليها العقل والفطرة السليمة، وحتى العرب كانوا يعرفون ذلك، وكان ذلك من شئونهم، وقالوا كلاماً كثيراً، وأشعاراً حسنة في هذا الباب، ومن ذلك هذه الأبيات التي جاءت في الكرم والبخل يقول:
                    لعمرك ما الأرزاق يوم اكتيالها بأكثر خيراً من خوان عذافر
                    هذا الفرزدق يمدح عذافر المشهور بالكرم:
                    ولو ضافه الدجال يلتمس لقرى حل على خبازه بالعساكر
                    بعـة يأجـج ومـأجـج لهم لأشبعهم يوماً غداء العذافر
                    طبعاً هذا من المبالغات، وقال الخريمي :
                    أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب
                    وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
                    يقول: الإكرام بطلاقة الوجه أهم من الإكرام بالأكل. وكذلك قال عمر بن الأحسن التيمي الذي شعره كأنه حلل منشرة:
                    ذريني فإن الشح يا أم مـالكٍ لصـالح أخـلاق الرجـال سـروق
                    ذريني وحظي في هواي فإنـ ني على الحسب العالي الرفيع شفـيق
                    ومستنبح بعد الهدوء أجبتـه وقد حـان من سـاري الشتاء طروق
                    والمستنبح: هو الكلب.
                    فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً فهذا مبيت صـالحٌ وصـديق
                    أضفت ولم أفحش عليه ولم أقل لأحرمه إن الفناء يضـيق
                    لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضـيق
                    وأما في البخل فقالوا أيضاً أبياتاً مما يعيب البخيل، فمن ذلك قول حماد عجرد :
                    وجدت أبا الصلت ذا خبرة بما يصلح المعدة الفاسدة
                    تخوف تخـمة أضـيافـه فعلمهـم أكـلة واحـدة
                    وقال حاتم الطائي :
                    إذا ما بخيل الناس هرت كلابه وشق على الضيف الغريب عقورها
                    فإن كلابي قد أقرت وعودت قليلٌ علـى من يعتريـها هريرهـا
                    إذا حل ضيفي بالفلاة ولم أجد سوى منبت الأطنـاب شب وقـودها
                    وقال بعضهم:
                    يستأنس الضيف في أبياتنا أبداً فليس يعلم خلقٌ أينا الضيف
                    من مستأنس البيت ما تدري من هو الضيف. وقيل للأوزاعي : رجلٌ قدم إلى ضيفه الكامخ والزيتون وعنده اللحم والعسل والسمن؟ قال: هذا لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. وقال بعضهم:
                    لا در دري إن أطعمت نازلهم خبز الشعير وعندي البر مكنوز
                    وقال أحد البخلاء:
                    أعددت للضيفان كلباً ضارياً عندي وفضل هراوة من أرزن
                    وهذا نوع من الشجر الصلب تتخذ منه العصي.
                    ومعاذراً كذباً ووجهاً باسراً متشكياً عض الزمان الألزن
                    ورأى الحطيئة رجلاً وبيده عصا فقال: ما هذه؟ قال: عجراء بنت سلم ، قال: إني ضيف، قال: للضيفان أعددتها. وقال آخر:
                    وأبغض الضيف ما بي جل مأكله إلا تنفخه حولي إذا قعدا
                    مازال ينفخ جنبيه وحبوتـه حتى أقول لعل الضيف قد ولدا
                    وقال بعضهم:
                    استبق ود أبي المقاتل حين تأكـل من طـعامـه
                    سيان كسر رغيفته أو كسر عظـمٍ من عظـامـه
                    فـتراه مـن خـوف النزيل بـه يروع في منامه
                    وقال بعضهم:
                    يا تارك البيت على الضيف وهارباً منه من الخـوف
                    ضيفك قد جاء بخبزٍ له فارجع فكن ضيفاً على الضيف
                    وأخيراً: قال أعرابي يصف أحد هؤلاء:
                    أقاموا الديدبان على يفـاعٍ وقالوا: لا تنم للديدبان
                    قال صاحب بيت لحارسه: إذا رأيت ضيفاً يقدم علينا فأخبرنا به.
                    فإن أبصرت شخصاً من بعيدٍ فصفق بالبنان على البنان
                    ثم قال: إنهم من بخلهم جعلوا الصلاة بلا أذان، خافوا إذا أذنوا أن يسمع الناس الصوت ويأتون. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن أكرموا ضيوفهم وأن يجعلهم ممن أكرمهم إكراماً في جنات النعيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

                    الأسئلة :
                    أكل الضيف الأول مرة أخرى مع الضيف الثاني:
                    سؤال: إذا كان الإنسان ضيفاً أكل، وبعد ذلك أتى ضيفٌ آخر فهل للضيف الأول أن يأكل معهم؟ الجواب: لا بأس. وإذا لم يأكل أيضاً فلا حرج.

                    الحذر من بعض الضيوف غير المعروفين:
                    سؤال: في هذه الأيام ومع انتشار الفساد هل هناك حرج من ضبط الضيف غير المعروف؟ الجواب: يمكن للإنسان أن يضيفه ويراقبه، وليس معنى ذلك إدخال السرق والمجرمين للبيوت، لا. وسيأتي مزيد لهذا إن شاء الله في الدرس القادم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
                    التعديل الأخير تم بواسطة جارة فاطمة; الساعة 30-11-2011, 06:28 PM.


                    تعليق


                    • #11
                      رد: محاضرة( آداب الضحك )للشيخ محمد المنجد

                      جزاكى الله خيراً
                      فعلآ موضوع مهم جدآ والله
                      عسى أن نتعلم هذه الآداب

                      لكن ممكن طلب أختى الكريمة
                      بس لو تقسمى الموضوع
                      لأنه بس بيكون طويل

                      تعليق


                      • #12
                        رد: محاضرة ( آداب الصحبة )للشيخ محمد المنجد

                        بارك الله فيكم ونفع بكم

                        موضوع رائع
                        إن لم يكن للحق أنت فمن يكون ؟

                        تعليق


                        • #13
                          محاضرة( آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل )للشيخ محمد المنجد

                          محاضرة( آداب الطعام )للشيخ محمد المنجد

                          عناصر الموضوع :
                          1. جملة من الآداب في باب الأكل
                          2. التفصيل في مسألة التسمية
                          3. هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأكل عموماً من كلام ابن تيمية
                          4. هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الطعام من كلام ابن القيم
                          5. التفصيل في مسألة الأكل مما يليه
                          6. الانحراف في الأكل وتحريم ما أحل الله
                          7. أقسام الأكل حسب الأحكام الخمسة
                          8. مسائل متفرقة في آداب الطعام وبقية الآداب
                          9. التفصيل في الأكل على الأرض
                          10. التفصيل في عدم الاتكاء أثناء الأكل
                          11. التفصيل في الأكل والأطعمة
                          12. آداب الطعام العرفية
                          13. الأسئلة

                          آداب الطعام :
                          إن الله سبحانه وتعالى قد أكمل لنا هذا الدين، فلا يحق لأحد أن يزيد فيه أو ينقص، أو يعدل أو يستدرك، وقد بين لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم كل شيء في السنة المطهرة، ومما ذكر لنا آداب الأكل والطعام، وقد أورد الشيخ حفظه الله آداباً جمة وردت فيها الأحاديث عن رسول الله، ثم ذكر بعد ذلك آداباً طيبة دل عليها العرف والعادات الحميدة عند المسلمين .

                          جملة من الآداب في باب الأكل:
                          الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فحديثنا في هذه الليلة أيها الإخوة عن أدبٍ آخر من الآداب الشرعية، وهو أدبٌ نحتاج إليه باستمرار، ألا وهو: (أدب الأكل)، أو: (آداب الطعام)، وهذا الأدب من الآداب التي أطال العلماء في شرحها؛ نظراً لكثرة الآثار الواردة فيها والأحاديث والنصوص الشرعية، وقد سبق أن قلنا: إن الشريعة تهتم بجميع نواحي حياة الإنسان، وكلما كانت الناحية أكثر وجوداً في حياة الشخص المسلم، كانت الشريعة أكثر تطرقاً لما يتعلق بهذا الأدب من التفصيلات. أما بالنسبة إلى هذا الأدب فإننا نحتاج أن نلخص بعض فروعه قبل أن نبدأ في تفصيله، فنقول: والله المستعان. إن آداب الطعام، أو آداب الأكل كثيرة؛ فمن آداب الأكل: أولاً: غسل اليدين قبله، لما رواه النسائي بإسنادٍ صحيح ورجاله رجال الشيخين، غير محمد بن عبيدة وهو صدوق، كان النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ، وإذا أراد أن يأكل غسل يديه) وهذا حديثٌ عزيزٌ جيد في هذه المسألة. ثانياً: تسمية الله سبحانه وتعالى قبل الطعام، كما دلت عليه أحاديثٌ كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله) وقد جاء صريحاً بلفظ: (يا غلام! إذا أردت أن تأكل فقل: باسم الله). ثالثاً: أن يأكل بيمينه: لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( وكل بيمينك). رابعاً: أن يدنوا من الطعام: لقوله عليه السلام في حديث الغلام أيضاً: (ادن يا بني). خامساً: أن يأكل مما يليه: لقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: (وكل مما يليك). سادساً: الاجتماع على الطعام، وعدم الأكل متفرقين، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه) وينتج عن ذلك أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، وطعام الأربعة يكفي الخمسة والستة.. كما رواه ابن ماجة وهو حديثٌ صحيح. سابعاً وثامناً: ألا يمسح يده بالمنديل أو بغيره حتى يَلعِقها، أو يُلعقها كما جاء عند النسائي وهو حديثٌ صحيح: (إذا أكل أحدكم الطعام فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يُلعِقها، ولا يرفع الصفحة حتى يلعقها فإن آخر الطعام فيه البركة) وهذا هو الأدب الثامن، والذي قبله لعق الأصابع، والثامن: لعق الإناء. فإن آخر الطعام فيه البركة. تاسعاً: إذا سقطت اللقمة ألا يتركها لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا طعم أحدكم فسقطت لقمته من يده، فليمط ما رابه منها وليطعمها، ولا يدعها للشيطان). عاشراً: انتظاره حتى يذهب فوره ودخانه، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إنه أعظم للبركة) يعني: الطعام الذي ذهب فوره. الحادي عشر: عدم النفخ في الطعام، وقد يكون لهذا أضرار لا نعلمها. الثاني عشر: الأكل من جوانب الطعام كما قال عليه الصلاة والسلام: (كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها -أي وسطها- يبارك لكم فيها) وقال صلى الله عليه وسلم: (كلوا باسم الله من حواليها واعفوا رأسها، فإن البركة تأتيها من فوقها) وقال أيضاً في الحديث الصحيح: (إن البركة وسط القصعة فكلوا من نواحيها ولا تأكلوا من رأسها). الثالث عشر: أن يجلس على الأرض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد؛ فإنما أنا عبد) وقال أيضاً في الحديث الآخر: (آكل كما يأكل العبد، فوالذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء). الرابع عشر: إذا أتاه خادمه بالطعام أن يناوله منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح (إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه قد كفاه علاجه ودخانه؛ فليجلسه معه -يعني إجلاس الخدم معهم- فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلةً أو أكلتين). إذاً: بما أن الخادم قد شق عليه عمل الطعام، وهو الذي قد جاءه من حره ودخانه فمن المكافأة له وقد اشتهاه أن يجلسه معه، وهذا أيضاً فيه تواضع، بالإضافة إلى المكافأة على ما حصل له. الخامس عشر: أنه إذا لم يعجبه شيءٌ من الطعام فإنه لا يتأفف ولا يتذمر وإنما يتركه فقط، كما جاء في الحديث: (إن اشتهاه أكله وإلا تركه) (ولما قدم الضب للنبي صلى الله عليه وسلم ترك أكله، وقال: إنه لم يكن بأرض قومي؛ فأجدني أعافه). السادس عشر: تفتيش التمر من الدود: فقد جاء في حديثٍ صحيح رواه أبو داود وغيره: (عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالتمر فيه دودٌ، فيفتشه يخرج السوس منه). السابع عشر: ما ذكره صلى الله عليه وسلم في مسألة ما يقال بعد الأكل ولهذا أذكارٌ كثيرة سنأتي عليها إن شاء الله، ومنها: الحمد لله، وما يقال أيضاً: لصاحب الوليمة، إذا دعاك فأجبت دعوته وطعمت عنده فماذا تقول له؟ وهذا سيكون إن شاء الله في موضوع: آداب الوليمة، وإجابة الدعوة، لكن في آداب الأكل سنتطرق إلى الصيغ الواردة في حمد الله تعالى لأنها كثيرة. الثامن عشر: أن الإنسان إذا طبخ لحماً مثلاً فإن عليه أن يكثر المرق ويغرف منه للجيران، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا طبختم اللحم فأكثروا المرقة، فإنه أوسع وأبلغ للجيران) وقال أيضاً: (إذا طبخ أحدكم قدراً فليكثر مرقها ثم يناول جاره منها) يعني من هذا المرق ومن هذا الطعام. التاسع عشر: ماذا يفعل إذا وقع الذباب في الإناء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن أدبٍ يتعلق بذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) وفي رواية: (وإنه يقدم السمّ ويؤخر الشفاء، فإذا غمسه كله ذهب ذلك). العشرون: كف الجشاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كف عنا جشاءك) وفي راوية: (أقصر من جشائك) وهو: الصوت الغليظ الصادر من الفم كما سبق بيانه. الحادي والعشرون: تنظيف اليدين من بقايا الطعام، خصوصاً إذا أراد أن ينام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا نام أحدكم وفي يده ريح غمرٍ -وهو رائحة اللحم ودسامة اللحم وزهومته ودهنه- فلم يغسل يده فأصابه شيءٌ فلا يلومن إلا نفسه) . الثاني والعشرون: أنه إذا وضع العَشاء وحضرت صلاة العِشاء، فإنه يقدم العَشاء ولا يعجل عن طعامه. الثالث والعشرون: في طريقة الجلسة، أن يجلس ناصباً اليمنى جالساً على اليسرى، أو يجلس القرفصاء كما جاء أيضاً في رواية، ولا يجلس متكئاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أنا فلا آكل متكئاً). الرابع والعشرون: النهي أن يأكل الرجل منبطحاً على بطنه لأنه قد ورد في الحديث الصحيح أيضاً: (النهي أن يأكل الرجل منبطحاً على بطنه) . الخامس والعشرون: عدم الشبع: لقوله في الحديث: (فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه، حسب ابن آدم لقيماتٌ يقمنَ صلبه) وذم التوسع في ألوان الطعام والشراب. السادس والعشرون: الأكل بثلاثة أصابع: فإنه قد ورد في الحديث الصحيح: (أنه عليه الصلاة والسلام كأن يأكل بثلاثة أصابع، وكان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث) . السابع والعشرون: ألا يقرن بين تمرتين خصوصاً إذا شاركه غيره، لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الإقران) وهو الجمع بين تمرتين ونحوها من الفواكه أو من الثمار التي تكون مفردة، فإنه لا يجمع بين حبتين منها، إلا أن يأذن له صاحبه، لأن في الحديث قوله: ( إلا أن يستأذن الرجل أخاه ). الثامن والعشرون: النهي عن الجلوس على المائدة التي فيها محرم، وهذا من الأحكام، كما جاء في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس على مائدةٍ يشرب عليها الخمر). التاسع والعشرون: الاعتدال في الطعام، حتى في أنواعه، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يأكل البطيخ بالرطب ويقول: نكسر حر هذا ببرد هذا، وبرد هذا بحر هذا) وهذا يدل على اعتداله صلى الله عليه وسلم في أنواع الأطعمة التي كان يتناولها. الثلاثون: عدم أكل الثوم والبصل والكراث، ولا يقربن المسجد إذا أكل الثوم والبصل والكراث، وعدم أكله لمن أراد أن يأتي المسجد. الواحد والثلاثون: الاعتناء بما دلت الشريعة على فضله من الأطعمة كالتمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بيتٌ لا تمر فيه كالبيت لا طعام فيه) وفي حديثٍ آخر: (بيت لا تمر فيه جياعٌ أهله) وكذلك قال: (كلوا الزيت وادَّهنوا به) فالتمر إذاً قد ورد الاعتناء به، وكذلك زيت الزيتون المعروف، وكذلك الخل فقد قال: (نعم الإدام الخل) وما راق للإنسان أكله من الأطعمة بعد ذلك، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- يعجبه الذراع والدباء -القرع- وهذا عائد إلى النفس. وفي الاعتناء بالأطعمة التي ورد الشرع بها أيضاً: إكرام الخبز -عدم القائه والاستهانة به- فإنه قد قال: (أكرموا الخبز) ولم يصح النهي عن قطعه بالسكين، وإنما الذي ورد إكرامه، فلذلك لا يلقى، والإنسان لو رآه يعتني به أكثر من غيره، للأمر بالاعتناء بإكرامه، فإذا رآه ملقىً مثلاً أخذه فوضعه أو جعله في مكان مرتفع أو أطعمه للدواب أو نحو ذلك. فهذه طائفة من آداب الطعام وشيء من الأحكام المتعلقة بها، وما يتعلق بالوليمة وآداب الدعوة والضيف، هناك أشياء مرتبطة بها مثل: الأطعمة ومثل: عدم سؤال صاحب الدعوة عن طعامه إذا كان مسلماً، كأن يقول: من أين هذا؟ ومن أين اشتريته؟

                          التفصيل في مسألة التسمية:
                          أما بالنسبة لبعض التفاصيل المتعلقة بالموضوع فلعلنا نبدأ بحديث التسمية على الطعام، حيث إن هذا من أول ما يكون في الطعام، وإن كان غسل اليدين مثلاً يكون قبله بالترتيب المنطقي لكن نبدأ بهذا الحديث، فإنها كانت أول وصية في حديث: (يا غلام سم الله) وقد عقد الأئمة رحمهم الله في كتبهم أبواباً لهذا الأدب العظيم، ولا تخلو الكتب الستة وغيرها من بابٍ أو كتابٍ عن آدب الأكل. وأيضاً: بوبوا في الأطعمة، فإن العلماء يذكرون في مصنفاتهم آداب الأكل وأحكام الأطعمة.. والصيد والذبائح ماذا يحل منها؟ وماذا يحرم؟ وهناك بعض الاشتراك، لكن الذي يهمنا نحن الآن التركيز عليه هو قضية آداب الأكل. روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه : عن عمر بن أبي سلمة قال: (كنتُ غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت تلك طعمتي بعد) .

                          صيغة التسمية عند الطعام:
                          عنون البخاري عليه: باب التسمية على الطعام والأكل باليمين. والمراد بالتسمية على الطعام قول: باسم الله، والبسملة قول: بسم الله الرحمن الرحيم، وقد ورد هذا صريحاً حيث قال: ( سم الله ) لكن الكلمة قد جاء مصرحاً بها كما جاء عند أبي داود و الترمذي من طريق أم كلثوم عن عائشة مرفوعاً: (إذا أكل أحدكم طعاماً فليأكل باسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: باسم الله أوله وآخره) وهذا أدب يلحق بالتسمية أصلاً أو تبعاً لها، فهذا الحديث بين صفة التسمية. وهناك حديثٌ آخر أيضاً رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني في السلسلة : عن عمر بن أبي سلمة قال: (كنتُ غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم _حِحر وحَجر كلاهما صحيح- وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! إذا أكلت فقل باسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك). قال الشيخ: وهذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، وقد ذكرت طرقه وخرجته في الإرواء ، وإنما خرجته هنا من طريق الطبراني بهذا اللفظ؛ لعزته وقلة وجوده في كتب السنة المتداولة. وفي الحديث دليلٌ على أن السنة في التسمية على الطعام، إنما هي: باسم الله فقط، فإذاً: جاء الحديث بلفظ ( سم الله ) وجاء في حديث: (اذكروا اسم الله تعالى عليه يبارك لكم فيه) وجاء النص على الكلمة التي تقال وهي: باسم الله.

                          حكم زيادة الرحمن الرحيم التسمية:
                          قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث بعد أن ذكر الرواية التي تنص على قول: باسم الله قال: ( أما قول النووي في أدب الأكل من الأذكار: إن صفة التسمية من أهم ما ينبغي معرفته، والأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإن قال: باسم الله، كفاه وحصلت السنة، فلم أر لما ادعاه من الأفضلية دليلاً خاصاً ). ( وأما ما ذكره الغزالي من آداب الأكل في كتابه الإحياء: أنه لو قال في كل لقمة: باسم الله كان حسناً، وأنه يستحب أن يقول مع الأولى: باسم الله، ومع الثانية: بسم الله الرحمن، ومع الثالثة: بسم الله الرحمن الرحيم، فلم أر في استحباب ذلك دليلاً ). إذاً السنة: باسم الله، والزيادة عليها غير محمودة؛ لأنها زيادة على السنة، ولذلك ذكر الشيخ الألباني في بعض كلامه العيب على من يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا قلت له: باسم الله فقط، فإنه يجيبك وماذا فيها؟ يعني: لو زدنا ماذا في هذه الزيادة؟ وقد سبق بيان أن كلمة العامة: زيادة الخير خيرين، أنها ليست بصحيحة على إطلاقها، وأن الزيادة على السنة توقع في البدعة، وأن مجاوزة ما جاء به النص عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه فتح الباب، والخطير من ذلك: الاستدراك على الشريعة، لأنه كأنه يقول: ما جاءت به الشريعة فهناك ما هو أفضل منه، ويحكم رأيه فيقول: عندي وفي رأيي أن: بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من باسم الله؛ لأن فيها ذكر كلمة: الرحمن والرحيم، وهما اسمان من أسماء الله عظيمان. فنقول: ليست المسألة بالاستحسان العقلي، المسألة بالدليل، ما دام أنه قد ورد النص على باسم الله، فنلتزم به. وواضح من كلام ابن حجر رحمه الله أن التسمية مرة واحدة فقط في بداية الطعام، وأنه لا يكرر ذلك في اللقم المختلفة. لكن لو نسي قال: باسم الله في أوله وآخره. لكنه يقولها مرة واحدة. وهذا الحديث وهو: حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله تعالى عنه وهو صحابيٌ صغير، ولكنه حفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ونقله، وهو أنه جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فجلس وكانت يده تطيش في الصحفة ومعنى تطيش: تتحرك في نواحي الصحفة المختلفة ولا تقتصر على موضعٍ واحد يميناً وشمالاً، وكذلك معناها: تسرع.. فالطيشان في الصحفة إذاً: الإسراع والتجول فيها يميناً وشمالاً، وعدم الالتزام بمكانٍ معين، أو الالتزام بالأكل مما يليه. وأما بالنسبة للصحفة فهي: التي تشبع الخمسة وهي أكبر من القصعة.

                          حكم الإتيان بالتسمية:
                          وأما بالنسبة لحكم التسمية، لما قال: (يا غلام! سم الله) فادعى النووي رحمه الله إجماع العلماء على استحباب التسمية، ولكن ادعاؤه ذلك فيه نظر كما بين الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، والأصل أن الأمر للوجوب، قال يا غلام: (سم الله) وهذا فعل أمر؛ فهو يفيد الوجوب، لكن لابد أن نقول: إن العلماء قد اختلفوا في ذلك. فمنهم من قال: إنه للاستحباب ومنهم من قال: إنه للوجوب، وقد اقترنت المسألة -مسألة سم الله- بمسألة لا شك بوجوبها وهي: قضية الأكل باليمين، لأنه قال: (سم الله، وكل بيمينك) ولا شك أن من القرائن التي يستدل بها على وجوب أمرٍ من الأمور أن يكون مقترناً بشيءٍ آخر الأمر فيه للوجوب قطعاً، ولا شك أن الأكل باليمين واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على من أكل بشماله، فقال: (لا استطعت) وقال لمن رآها تأكل بشمالها: (أخذها طاعون غزة) وفعلاً بعد سنواتٍ مرت بـغزة وكانت فيها طاعون فماتت منه. إذاً: هذه قرينة تدل على أن التسمية واجبة، وصيغة الأمر واردة في الحديث في جميع الأوامر (سم الله) (كل بيمينك) (كل مما يليك) ونص الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب: الأم على الوجوب، ولكن أكثر الشافعية حملوه على الندب وبذلك جزم النووي رحمه الله تعالى، هذا بالنسبة لقول: باسم الله.

                          هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأكل عموماً من كلام ابن تيمية:
                          وفاتنا شيءٌ أن نذكره في بداية الحديث وهو: هديه صلى الله عليه وسلم في الأكل عموماً ملخصاً فلعلنا نرجع إليه الآن قبل أن يفوتنا ذكره ونحن شرعنا في التفاصيل. لقد ذكر ابن تيمية رحمه الله طائفة عامة من هديه عليه الصلاة والسلام في الطعام، وكذلك ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر طائفة عامة من هديه عليه الصلاة والسلام في الطعام، فلنعد إلى ذلك قبل أن نسترسل في التفاصيل: فقد ذكر الإمام تقي الدين أحمد بن عبد السلام رحمه الله تعالى في موضوع آداب الطعام ما يلي: قال: وأما الأكل واللباس فخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكان خلقه في الأكل أنه يأكل ما تيسر إذا اشتهاه ولا يرد موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، فكان إذا حضر خبزٌ ولحمٌ أكله، وإن حضر فاكهةٌ وخبزٌ ولحمٌ أكله، وإن حضر تمرٌ وحده أو خبزٌ وحده أكله، وإن حضر حلوٌ أو عسلٌ طعمه أيضاً، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان يأكل القثاء بالرطب، فلم يكن إذا حضر لونان من الطعام يقول: لا آكل لونين -ربما بعض الصوفيين الذي يدعون الزهد، إذا حضر بين يديه لونان من الطعام قال: لا آكل لونين ارفع واحداً حتى آكل- ولا يمتنع من طعام لما فيه من اللذة والحلاوة بحجة أنه يشغل عن العبادة أو أنه منافٍ للزهد، فإنه يأكله ولو كان مشوياً لذيذاً يأكله -مادام حضر، ما دام حلالاً طيباً- وكان أحياناً يمضي الشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار، ولا يأكلون إلا التمر والماء، وأحياناً يربط على بطنه حجراً من الجوع، وكان لا يعيب طعاماً فإن اشتهاه أكله، وإلا تركه، وأكل على مائدته لحم ضبٍ فامتنع عن أكله وقال: (إنه ليس بحرام، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه). وقال رحمه الله تعالى: كذلك في مسألة أكل الطيبات. بعد ما أتى بحديث الإنكار على الثلاثة الذين حرموا ما أحل الله على أنفسهم، وقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم، قال عليه الصلاة والسلام: (لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) طبعاً هذا فيه رد على النباتيين الذين يأكلون الأشياء النباتية من باب الزهد، يقولون: لا نأكل اللحم؛ لأن أكل اللحم منافٍ للزهد، فإذاً هؤلاء مبتدعة ومن أنواع البدع البدع التركية؛ لأنه يترك أشياء لم تأمر الشريعة بتركها، مثل أكل اللحم تزهداً وتقرباً، فهذه من أنواع البدع، لكن إن تركه؛ لأنه يضر به، أو لوصية الأطباء واقتصر على أكل الفاكهة والخضار، فإنه ليس بمبتدعٍ والسبب في ذلك نيته، فإن نيته في الحالة الأولى: تركه تقرباً إلى الله، وفي الحالة الثانية: تركه لأنه يضر به. فقال رحمه الله: وقد كان اجتمع طائفةٌ من أصحابه على الامتناع من أكل اللحم ونحوه وذكر الحديث... ثم قال: وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172] فأمر بأكل الطيبات والشكر لله، فمن حرم الطيبات كان معتدياً، ومن لم يشكر كان مفرطاً مضيعاً لحق الله. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها) وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر) فهذه الطريق التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أعدل الطرق وأقومها والانحراف عنها إلى وجهين، ملخص الوجهين: أولاً: قومٌ يسرفون في تناول الشهوات. ثانياً: قومٌ يحرمون الطيبات. فإذاً الانحراف في هذا سيأتي من هذين الطريقين، الطريق الأول: قوم يسرفون في تناول الشهوات، والله يقول: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]. الطريق الثاني: قومٌ يحرمون الطيبات والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87].

                          هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الطعام من كلام ابن القيم:
                          وقال ابن القيم رحمة الله عليه في كتاب زاد المعاد : وكذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته في الطعام لا يرد موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، فما قرب إليه شيءٌ من الطيبات إلا أكله إلا أن تعافه نفسه، فيتركه من غير تحريمٍ وما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. كما ترك أكل الضب لما لم يعتده، ولم يحرمه على الأمة بل أكل على مائدته وهو ينظر، كما جاء في الحديث فاجتره خالد -الضب اجتره خالد- وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما. وذكر ابن القيم رحمه الله طائفة مما أكل عليه الصلاة والسلام فقال: وأكل لحم الجزور والضأن والدجاج.. كما سيأتي في حديث الرجل الذي تنزه عن أكل لحم الدجاج؛ لأنه رآه يأكل شيئاً منتناً فدعاه أبو سعيد وقال: أكله النبي عليه الصلاة والسلام، دعاه إلى أكل الدجاج. وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما، وأكل لحم الجزور والضأن والدجاج، ولحم الحبارى، ولحم حمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر الذي أتى به أبو عبيدة ، وأكل الشواء والرطب والتمر وشرب اللبن خالصاً ومشوباً، والسويق، والعسل بالماء، وشرب نقيع التمر -طبعاً هذا ليس بمسكر- وأكل الخزيرة وهي: حساءٌ يتخذ من اللبن والدقيق، وأكل القثاء بالرطب، وأكل الإقط، وأكل التمر بالخبز، وأكل الخبز بالخل، وأكل الثريد -وهو الخبز باللحم- وأكل الخبز بالإهالة وهي الودك -الشحم المذاب- وأكل من الكبد المشوية، وأكل القديد -اللحم المجفف- وأكل الدباء المطبوخة، وكان يحبها، وأكل المسلوقة، وأكل الثريد بالسمن، وأكل الجبن، وأكل الخبز بالزيت، وأكل البطيخ بالرطب، وأكل التمر بالزبد، وكان يحب التمر بالزبد، ولم يكن يرد طيباً ولا يتكلفه، بل كان هديه أكل ما تيسر فإن أعوزه صبر، حتى إنه ليربط على بطنه الحجر من الجوع، ويرى الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيته نار، وكان طعامه يوضع على الأرض في السفرة، وهي كانت مائدته، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها إذا فرغ، وهو أشرف ما يكون من الأكلة فإن المتكبر يأكل بأصبع واحدة، والجشع الحريص يأكل بالخمس، ويدفع بالراحة، وكان لا يأكل متكئاً والاتكاء على ثلاثة أنواع: أحدها: الاتكاء على الجنب. الثاني: التربع. الثالث: الاتكاء على إحدى يديه وأكله بالأخرى، والثلاث مذمومة -هذا رأيه رحمه الله- وكان يسمي الله تعالى على أول طعامه ويحمده في آخره، فيقول عند انقضائه: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفيٍ ولا مودعٍ ولا مستغنٍ عنه ربنا -غير مكفي: من الكفاية، ولا مودع: أي غير متروك الطلب- فإنه دائماً يطلب وربما قال: الحمد لله الذي يطعم ولا يُطعم... إلى آخر الألفاظ التي ذكرها رحمه الله. وكان إذا فرغ من طعامه لعق أصابعه، ولم يكن لهم مناديل يمسحون بها أيديهم، وكان أكثر شربه قاعداً وذكر موضوع الشرب، والشرب ستأتي له آدابٌ خاصةٌ به إن شاء الله تعالى.

                          التفصيل في مسألة الأكل مما يليه:
                          ونعود إلى موضوع الآداب لنأخذ أدباً أو جزئية أخرى فقط من الجزئيات فيما تبقى من الوقت. وهي مسألة الأكل مما يليه: والأكل مما يليه قد جاء في الحديث: ( كل مما يليك ) وفي هذه المسألة عنون البخاري رحمه الله: باب الأكل مما يليه، وقال أنس -جاء بحديث معلق- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذكروا اسم الله وليأكل كل رجلٍ مما يليه) لأن مسألة الأكل مما يليه واضحة وينبغي أن يجمع بين الأشياء، بين الأكل مما يليه وبين إلعاق الإناء، فإن قال: الإنسان كيف يكون ذلك؟ نقول: إنه يأكل مما يليه بحيث يظهر قاع الصحفة فيلعقها، يعني: الناس عندما يأكلون، بعضهم يأكل أفقياً ويتوسع، وبعضهم يأكل عمودياً تقريباً، فأيها الأقرب للسنة في الجمع بين لعق الإناء وبين الأكل مما يليه؟ لا شك أنه إذا أكل مما يليه دون أن ينتشر يميناً وشمالاً بحيث إذا ظهر قاع الصحفة لعق ما يليه، وليس المقصود أنه يلعق كل الإناء أو (التبسي) فهذا قد لا يتيسر بل ربما انبشم ولما يلعقه كله، فإذاً يأكل مما يليه حتى إذا ظهر قاعها لعقه، فإنه ينظفه ويأتي عليه بأصابعه فيكون مكان أكله محفوظاً عن الانتشار. وكذلك فإنه مما يشكل في الموضوع حديث تتبع الدباء من حوالي القصعة، فقد يظهر في بادئ الأمر تعارضاً بين حديث تتبع الدباء في القصعة وبين قضية الأكل مما يليه، وحديث تتبع الدباء رواه البخاري عن أنس : (أن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعه، قال أنس : فذهبتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبع الدباء من حوالي القصعة، قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذٍ) إذا تأملنا في عنوان البخاري عن الحديث لربما تبين لنا شيئاً من الأشياء التي يزول بها التعارض. فإنه قال رحمه الله: بابٌ من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه الكراهية، وهذا القيد في قوله: إذا لم يعرف منه الكراهية مهم؛ لأن تتبع الأشياء كثيراً مما يكرهه الناس، إذا كان يأكل مع جماعة فتتبع مما عن يمينه وشماله فإنه يأكل مما عن يمين غيره وعن شمال غيره من هاهنا ومن هاهنا، لكن إذا كان يعلم أنهم لا يعيبون ذلك ولا يكرهونه، فهل يحق له أن يأخذ منه إذا علم ذلك؟ فظاهر فعل البخاري رحمه الله وصنيعه في هذه الترجمة أنَّ له ذلك. وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى، أن الجواب عن هذا التعارض يمكن أن يقال: إن المسألة فيها تفصيلٌ: أنه إذا كان لوناً واحداً فلا يتعدى ما يليه، وإذا كان أكثر من لون فيجوز. وقد حمل بعض الشراح هذا الحديث على ذلك فقال: إن كان الطعام مشتملاً على مرقٍ ودباءٍ وقديد، فكان يأكل مما يعجبه وهو الدباء، ويترك ما لا يعجبه وهو القديد، وبعضهم قال: هذا يحمل على ما إذا كان يأكل لوحده فيجوز له أن يتتبع الشيء الذي يريده، وقد جاء في بعض طرق الحديث أن الخياط تركه يأكل وذهب لعمله، أو أنه محتاج للذهاب فذهب، وإذا كان يأكل لوحده من صحن بناءً على ذلك، فإنه لا يكون هناك محذور في كراهية الآخرين لتتبعه لشيءٍ معين، فيمكن أن يكون الجمع بهذه الطريقة أيضاً، فإذاًً نقول: أولاً: إذا كان يعلم أن غيره لا يكره ذلك. ثانياً: إذا كان الطعام ألواناً وأصنافاً، فأمامه -مثلاً- رز أبيض، وفي الناحية الأخرى رز أحمر وهو يريد الأحمر فإنه إذا أخذ مما هو بعيدٍ عنه مما يلي غيره لا بأس بذلك. وثالثاً: أن نقول: إنه إذا كان يأكل لوحده جاز له أن يتتبع ما يريد، وبهذا يكون الجواب على هذه المسألة. ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحدٌ ليتقذر صنيعه أو يكره منه فعله، فكون يده جالت في الطعام لأجل ذلك فإنه لا يكون قد آذى غيره مطلقاً، بل هناك أمر أدق من هذا ألا وهو: أنهم كانوا يتبركون بلعابه صلى الله عليه وسلم، وبريقه الذي يمسه يده، ولذلك لو أكل من أمام غيره لربما كان ذلك فيه إكرام له، من هذه الجهة.

                          الانحراف في الأكل وتحريم ما أحل الله:
                          الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعــد: سبق أن تكلمنا -أيها الإخوة- عن موضوع آداب الأكل، وعددنا بعض الآداب مع ذكر بعض الأدلة في ما يتعلق بكل أدبٍ من الآداب، وسنكمل إن شاء الله الكلام عن الموضوع في هذه الليلة، وسبق أن ذكرنا أن الناس يقعون في الطعام في محذورين، وأن الانحراف في مسألة الأكل يحدث من جهتين: الجهة الأولى: الإسراف فيه. والثانية: تحريم ما أحل الله منه. وهذا هو الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن الناس يقعون في الأكل في انحرافين أو هم على طرفين: الإسراف فيه، وتحريم ما أحل الله منه. وهناك بعض القصص التي ذكرها الذهبي رحمه الله في كتاب: سير أعلام النبلاء التي تبين بعض ما وقع فيه هؤلاء. قال في ترجمة أحد الزهاد: أنه عمل له خلوةً فبقي خمسين يوماً لا يأكل شيئاً، وقد قلنا: إن هذا الجوع المفرط لا يسوغ، فإذا كان سرد الصيام والوصال قد نهي عنهما فما الظن؟ -يعني فما الظن بالامتناع عن الطعام هذه الفترة الطويلة- وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع) ثم قلَّ من عمل هذه الخلوات المبتدعة إلا واضطرب وفسد عقله، وجف دماغه، ورأى مرأى، وسمع خطاباً لا وجود له في الخارج -يعني: الذي يجوع هذا الجوع المفرط، فإنه يسمع أشياء لا وجود لها في الحقيقة، لكن من شدة الجوع يتراءى له ويتخيل- فإن كان متمكناً من العلم والإيمان فلعله ينجو بذلك من تزلزل توحيده، وإن كان جاهلاً بالسنن وبقواعد الإيمان، تزلزل توحيده وطمع فيه الشيطان، وادعى أنه وصل إلى مرتبة عالية ونحو ذلك، وبقي على مزلة قدم وربما تزندق وقال: أنا هو، كما يقول: هؤلاء الصوفية ، يقول: أنا هو، يعني أنا الله سبحانه وتعالى. وقال: نعوذ بالله من النفس الأمارة ومن الهوى، ونسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا. آمين. ثم قال في ترجمة رجلٍ آخر من الزهاد قال: صام طائر أربعين يوماً أربعين مرة، فآخر أربعين عملها صام على قشر الدخن؛ فليبسه قرع رأسه واختلط في عقله، قلتُ: -الذهبي يقول- فعل هذه الأربعينات حرامٌ قطعاً، فعقباها موتٌ من الخور أو جنونٌ واختلاط، أو جفافٌ يوجب للمرء سماع خطاب لا وجود له أبداً في الخارج، فيظن صاحبه أنه خطابٌ من الله سبحانه وتعالى، مع أنه في الحقيقة من الجوع. وفرقٌ بين هذا وبين ما يحصل من زهد بعض الزهاد، أو أنهم كانوا لا يفرطون في الشبعة، فرق بين هذا المغرق في ترك الطعام، وبين من يترك الشبع ولا يترك الطعام. ولذلك لما نقل عن الشافعي رحمه الله، قال أبو عوانة الإسفرائيني : حدثنا ربيع قال: سمعت الشافعي يقول: ما شبعت منذُ ستة عشر سنة إلا مرةً فأدخلت يدي فتقيئتها، يعني: مما وجد عليه من الأذى فيها. فقول الشافعي : ما شبعتُ منذُ ستة عشر سنة إلا مرة، لا يدل على أنه تارك للطعام، وإنما يدل على أنه كان يقل منه، ولأن الإكثار منه والنهم فيه ربما يسبب الأضرار، وقد مات أحد من ترجم لهم الذهبي رحمه الله في السير بسبب أنه كان أكولاً. قال: كان فلان أكولاً، فقال أحد رفقته لما قدموا مكاناً معيناً: أهدي إليه فالوذج لم ينضج، يعني: لم يكن مطبوخاً طبخاً جيداً، فقلنا له: يا فلان لا تأكله فإنا نخاف عليك، فلم يعبأ بكلامنا وأكله، فلما استقر في معدته شكى وجع بطنه وانسهل إلى أن وصلنا إلى المدينة ولا نهوض له، فتفاوضنا في أمره، و لم يكن لنا سبيلٌ إلى المقام عليه لأجل الحج، ولم ندر ما نعمل في أمره، فعزم بعضنا على القيام عليه وترك الحج، وبتنا فلم نصبح حتى أوصى ومات فغسلناه ودفناه. فإذاً: النهم قد يكون أحياناً سبباً في الموت، وربما مات بعضهم فعلاً من كثرة الطعم.. انبشم ومات. وينبغي أن يكون الطعام -كما ذكرنا- من الحلال؛ ولذلك فإن أكل الحلال من أسباب إجابة الدعاء وقد أطعم أبا بكر غلامه طعاماً من كهانة تكهن بها وهو لا يحسن الكهانة، فلما علم أبو بكر قاء ما في بطنه. وأكل معمر من عند أهله فاكهة، ثم سأل فقيل: هدية من فلانة النواحة، هذه امرأة تعمل بالنياحة وتأخذ أجرة على النياحة، وأهدتهم فاكهة، فلما علم أن الفاكهة من فلانة النواحة قام فتقيأ، وذلك لأنه لا يدخل بطنه إلا الحلال. وكذلك فإن صاحب الأكل اليسير الحلال لا يحتاج إلى الأطباء، ولا تعرض له كثير من الأمراض التي تعرض للأكولين، عن ابن سيرين أن رجلاً قال لـابن عمر : أعمل لك جوارش؟ قال: وما هو؟ قال: شيءٌ إذا كظك الطعام فأصبت منه سهل -إذا صار عندك كظة الطعام وأضر بك وازدحم عليك؛ عملنا لك هذا فسهل- فقال: ما شبعتُ منذُ أربعة أشهر، وما ذاك ألا أكون له واجداً، ليس لأني لا أجد الطعام، ولكن عهدت قوماً يشبعون مرة ويجوعون مرة، فكان يقتدي بهم رضي الله تعالى عنه. فإذاً ينبغي أن يكون الإنسان في مسألة الطعام معتدلاً غير مكثرٍ منه ولا مفرطاً فيه.. ولا يكون في ذات الوقت تاركاً له بالكلية بحيث يضر بصحته وببدنه، وعليه أن يتحرى الحلال، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجوع فترةً طويلة؛ لأنه كان لا يجد عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان لزهده في الدنيا لا يطلب ما لا يجد وإنما كان عليه الصلاة والسلام إن وجده أكله وإلا لم يتطلبه ولم يتكلفه، وعلى الآكل أن ينوي بأكله الاستعانة على طاعة الله تعالى.

                          أقسام الأكل حسب الأحكام الخمسة:
                          إذا أردنا أن نقسم الأكل حسب الأحكام الخمسة فيمكن أن نقسمه إلى واجبٍ ومندوبٍ ومباحٍ ومكروهٍ ومحرم.

                          الأكل الواجب:
                          فأما بالنسبة لما يبقى على الإنسان بحيث لو أنه ما أكل هلك، فهذا تفريط يعاقب على تركه، وأما إن كان لا يعينه على أداء الواجبات كالصلاة المفروضة وقد يبقى على قيد الحياة، لكن لا يصلي الواجبات مثلاً فهذا أيضاً من قسم الواجب يأثم لو تركه؛ لأنه لابد له من الإتيان بالصلاة الواجبة وأداء الصوم الواجب، وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب.

                          الأكل المندوب والمباح والمكروه:
                          القسم الثاني: ما هو مندوب: إذا كان يعينه على تحصيل رزقه، وتحصيل النوافل مثل: قيام الليل أو أنه يعينه على الإكثار من صيام النافلة، يكون مستحباً.. وقد يكون مباحاً إذا لم يصل إلى درجة الشبع والامتلاء فهو يزيد فيأكل مقدار الثلث، ويزيد لكن لا يصل إلى درجة الشبع والامتلاء، أما إذا وصل إلى درجة الشبع فإنه يكون مكروهاً وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم يأكل في معيٍ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) الكفار يأكلون لا يشبعون ولا يذكرون الله عز وجل، ولو أن الإنسان دقق في أكل بعض الكفار لوجد فعلاً أنهم يأكلون أكلاً أكثر مما يأكله كثيرٌ من المسلمين، وتتعجب أين يذهب هذا الطعام، ليس في طعامهم بركة: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12].

                          الأكل الحرام:
                          وإذا وصل الأكل إلى درجة ما فوق الشبع، فإنه يكون ضاراً عند ذلك، وربما يهلك به صاحبه، وتصيبه الآلام والأمراض والأوجاع، ولا شك أن هذا حرام، الله تعالى قال: وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ولا شك أن الإنسان إذا أكل بقصد الاستعانة على طاعة الله وعبادته يؤجر، أما إذا كان يأكل لمجرد التلذذ والتمتع فإنه لا يكسب هذا الأجر، نعم، إنه لا يكون قد عمل محرماً وهذا شيءٌ أباحه الله، لكن لا يكون وصل إلى المرتبة العالية، أو أنه يؤجر على ذلك. وهناك أطعمة يستحب الأكل منها، كالأضحية والعقيقة بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليأكل كل رجلٍ من أضحيته) فأمر بذلك. وهناك مأكولاتٌ لا يجوز أكلها مطلقاً كالخنزير والميتة. وهناك مأكولاتٌ يجوز أكلها لبعض الناس دون بعض، كالكفارات والنذور، فالذي يخرج الكفارة، أو أنه نذر أن يذبح ذبيحةً للفقراء لا يجوز له أن يأكل منها، بينما يجوز للفقير أن يأكل منها. ومن الأطعمة التي يستحب الأكل منها كذلك، الأكل مع الضيف إيناساً له، إجابة الوليمة والأكل من وليمة النكاح. هذا ما يتعلق ببعض الأحكام العامة في الأكل، وسبق أن ذكرنا بعض الآداب، ونتابع الكلام في تفصيل بعض هذه الآداب، من آداب ما قبل الأكل التي ذكرناها تسمية الله سبحانه وتعالى، وذكرنا بعض التفاصيل المتعلقة بذلك، ومما يضاف أيضاً إلى ما سبق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى في أوله، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره).

                          مسائل متفرقة في آداب الطعام وبقية الآداب:
                          الاجتماع على الطعام سبب للبركة:
                          والتسمية كما قلنا سبب البركة في الطعام، والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان عنده طعام مع ستة نفر من أصحابه فجاء أعرابي فأكله في لقمتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه لو سمى لكفاكم) ومن الأدلة على أن التسمية أيضاً تجلب البركة، حديث وحشي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع، قال: لعلكم تفترقون، قالوا: نعم، قال: اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله؛ يبارك لكم فيه) صححه الألباني. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن خير الطعام ما كثرت عليه الأيدي) وهو حديثٌ حسن يبين أن الاجتماع على الأكل من آداب الطعام، وأن الإنسان يحاول قدر الإمكان ألا يأكل لوحده ما أمكنه وأن يجلس مع آخرين. وكذلك فإنه قد ورد حديث ضعيف: (أن الإنسان إذا قال: باسم الله أوله وآخره، قاء الشيطان جميع ما أكله) لكن ذلك لا يستبعد، ولكن يحتاج إلى صحة الدليل، لكن الشيطان إذا ما سمى الإنسان ماذا يقول لأصحابه؟ أدركتم العشاء، وإذا دخل وما سمى الله عند دخوله البيت؛ قال الشيطان لمن معه: أدركتم المبيت. فإذاً التسمية عند دخوله البيت مانع للشياطين من المبيت مع أهل البيت، وكذلك التسمية عند بدء الطعام مانعةٌ لهم من أن يطعموا معهم. وكذلك فإنه قد جاء في الحديث الصحيح عن حذيفة أنه قال: (كنا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده) هذا من الآداب التي تضاف وهو: انتظار الكبير أو العالم حتى يبدأ بالطعام، لكن الحديث في التسمية على أية حال، ولكن هذا الأدب في القصة، قال: (لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرةً طعاماً فجاءت جاريةٌ كأنها تدفع -كأن واحداً يدفعها- فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية، ليستحل بها فأخذتُ بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده! إن يده في يدي مع يدهما ثم ذكر اسم الله تعالى وأكل) رواه مسلم. فإذاً هؤلاء جاءوا دفعهم الشيطان، ليأتوا للطعام لكي يستحل الشيطان بواسطتهما الطعام؛ لأنهما لم يذكرا اسم الله تعالى، النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بيديهما قبل أن يضع يديهما في الطعام، ثم سمى النبي صلى الله عليه وسلم وأكل.

                          حكم الأكل بالشمال وما يستثنى منه:
                          وبالنسبة للأكل باليمين، فإن الأكل باليمين واجب، واليمين مفضلة على أية حال (فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى، وأما حكم الأكل بالشمال فقد قال النبي قال صلى الله عليه وسلم: (لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) رواه مسلم. فإن أكل بشماله فهو آثم، ويدل على ذلك حديث: (الرجل الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام يأكل بشماله فأمره أن يأكل بيمينه، قال: لا أستطيع؟ قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر فما رفعها ) يعني هذا الرجل قال: لا أستطيع.. كبراً وإلا فهو يستطيع فقال: لا أستطيع، قال: لا استطعت.. دعا عليه فلما دعا عليه شُلت وما استطاع أن يرفعها مطلقاً. لكن هناك بعض الحالات التي يجوز للإنسان أن يأكل فيها بشماله مثل: شلل اليد اليمنى فعجز عن رفعها وحركتها، وأن يكون بها جراحة، ومقطوع اليد، فهذا لا حرج عليه أن يأكل بشماله.

                          عدم عيب الطعام:
                          وبالنسبة لقضية عدم عيب الطعام، فسبق ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه، من جهة أن الطعام مباح لكن هو لا يشتهيه، إذا كان حراماً هذا لابد أن يعاب، لو قدموا له خنزيراً أو ميتاً أو شيئاً محرماً فإنه يعيبه ولا شك، لكن إذا قدموا له شيئاً لا يشتهيه فإنه لا يعيبه، وقد تكون طريقة طهي الطعام فيها شيء مثلاً فمن السنة أن لا يعيبه، وذلك لأسباب: أن في عيبه لكسر قلب صاحبه؛ لأنه محسن وجاء بالطعام، قد تكون هذه قدرته وهذه استطاعته، وكذلك فإن عيب الطعام من العلل التي فيها لكسر قلب الصانع له، أنه ينمي عن التكبر -الكبر- والترفع والرعونة وسوء الطبع، وقد ذكر بعض أهل العلم: أن من عيب الطعام، أن يقول: حامض.. مالح.. ما في ملح، ونحو ذلك من الألفاظ التي يستعملها بعض الناس. فالعيب قد يكون من جهة الخلقة، وقد يكون من جهة الصنعة، قد يعيب شكل الطعام هذا، أو يعيب صنعته، ولا شك أن الأول أشد إذا عاب شكل الطعام، وإذا كان يعود إلى الصنعة: كأن يقول: حامض، مالح قليل الملح، غليظ، رقيق غير ناضج، ونحو ذلك فهذا تجنبه من حسن الأدب.

                          السؤال عن الطعام:
                          أما بالنسبة للسؤال عنه فإنه لا يدخل في قضية العيب: إذا حضر إنسان على طعام، فالسؤال على نوعين: إما أن يسأل هذا مذبوح أو لا؟ فقلنا: إذا كان مسلماً ثقةً لا يسأله، يأكل فقط، أما إذا كان إنساناً متساهلاً مفرطاً غير متحرٍ للحلال لا يتورع عن الشبهات هذا يتأكد منه الآكل. لكن هناك سؤالٌ ليس به عيب، وهو أن يسأل ما هذا الطعام، أي وضعوا بين يديك طعاماً لا تدري ما هو!! قد يكون فيه شيء أنت لا تريده ولا تحبه ففي هذه الحالة لا بأس أن تسأل، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن ذلك، فيسأل للاطمئنان، والدليل على ذلك ما رواه البخاري عن خالد بن الوليد ، أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة : وهي خالته وخالة ابن عباس ، فوجد عندها ضباً محنوذاً -ضباً مشوياً- قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد. معناه: أن الضب لا يعيش في مكة ، ولا الحجاز ، ويكون في نجد : (فقدمت الضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قل ما يمد يده لطعام حتى يحدث به ويسمى له -هذا هو الشاهد ما يسأل هذا حلال أو حرام، لا، بل يسأل ما هو هذا؟- وأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الضب، فقالت امرأةٌ من النسوة الحضور: أخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ما قدم له هو الضب، فقلت: يا رسول الله هو الضب، فرفع رسول صلى الله عليه وسلم يده عن الضب، فقال خالد بن الوليد : أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: لا. ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد : فاجتررته وأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلي) . فمن أراد بالسؤال أن يعرف هل هذا النوع مما هو يشتهيه أو مما يكرهه فلا بأس أن يعرف ما هو هذا، يسأل عن نوع الطعام أو من أي شيء صنع ونحو ذلك، ولأن بعض الأطعمة من طريقة الطهي لا تعرف وتتغير ملامحها، هذا الضب مشوي بطريقة لم يظهر فيها، ولذلك ما تميز له إلا بعد أن قالوا له هو ضب. بالنسبة لوعظ من يسيء الأكل فقد تقدم حديث عمر بن أبي سلمة الذي يدل على مشروعية وعظ من يسيء الأكل.

                          حكم الإقران في الطعام:
                          ومن آداب الأكل: مسألة النهي عن الإقران بين التمرتين: وبالنسبة للإقران بين التمرتين ونحوها فقد جاءت فيه أحاديث، ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: المظالم، باب إذا أذن إنسان لآخر بشيء جاز.. عن جبلة قال: كنا في المدينة مع بعض أهل العراق فأصابنا سنة -يعني قحط- فكان ابن الزبير يرزقنا التمر فكان ابن عمر رضي الله عنهما يمر بنا فيقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه) أي: لا يقرن تمرة بتمرة عند الأكل لئلا يجحف برفقته، ما داموا مجتمعين على الطعام.. وهذا جاء من ابن الزبير كان يمدهم به وهو في قحط، فإذاً من الظلم أن الإنسان يتفرد بقران تمرتين دون إخوانه، ولذلك قال في الشرح في فتح الباري : فإن أذنوا له في ذلك جاز؛ لأنه حق لهم، فلهم أن يسقطوه. وكذلك أورده البخاري رحمه لله تعالى في كتاب الشركة: باب القران في التمر بين الشركاء حتى يستأذن صاحبه، وأتى بحديث جبلة بن سحيم قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعاً حتى يستأذن صاحبه، قال ابن بطال : النهي عن القران من حسن الأدب في الأكل عند الجمهور لا على التحريم كما قال أهل الظاهر. أي أن المسألة فيها خلاف: هل النهي عن القران للتحريم أو أنه من حسن الأدب أن لا يقرن؟ قال: لأن الذي يوضع للأكل سبيله سبيل المكارمة لا التشاح باختلاف الناس في الأكل، الناس قدراتهم وطاقاتهم في الأكل وحاجاتهم مختلفة، هذا يأكل قليلاً وهذا يأكل كثيراً وهكذا.. لكن إذا استأثر بعضهم بأكثر من بعض لم يحل له ذلك، يعني: واحد يستولي على شيء دون الآخرين لا يحل له ذلك، إذا كانوا شركاء مثل المناهدة، وهي: أن يدفع كل شخصٍ قدراً من المال، فيشترون بهذا المال المجتمع طعاماً لهم جميعاً، ثم يقسمونه بينهم أو يجتمعون عليه، هذه هي المناهدة وقد وردت في السنة، وكانوا يستعملونها في الأسفار، يأخذون اشتراكات من كل واحد من الرفقة ثم يشترون بها طعاماً للجميع، فإذا نزلوا منزلاً للغداء أو العشاء ونحو ذلك أكلوا مجتمعين. فإذا تفرد بعضهم بالطعام دون بعض وقد اشتركوا جميعاً في قيمته فلا شك أنه فيه شيءٌ من الظلم، ثم إن البخاري رحمه الله تعالى: قد أورده أيضاً في كتاب الأطعمة، وقال: ثم يقول (إلا أن يستأذن الرجل أخاه فإذا أذن له جاز) والمراد بالأخ: رفيقه الذي اشترك معه في التمر مثلاً، سوء اشتركا في القيمة، أو أنه كان مهدى إليهما جميعاً، فإذا أكله دون أخيه لا شك أنه من الظلم، وكذلك فإن الإقران هذا يدخل فيه غير التمر ما كان مثل التمر، ولذلك لو كانوا وضعوا بين أيديهم عنباً أو خوخاً أو مشمشاً أي شيء مما له ثمرٌ مما هو منفصل، ولذلك قال ابن حجر : في معنى التمر الرطب وكذا الزبيب والعنب ونحوهما، لوضوح العلة الجامعة. بعضهم قيد النهي عن الإقران بما إذا كان في حال الفقر.. وأما إذا كان موسع فلو قرن بين الاثنتين فإنه لا يكون ظالماً للآخر؛ لأن الآخر عنده زيادة وموجود.. الخير كثير، فلو قرن يعني أنه لا بأس به، على أساس أنه في غير وقت الفقر والشدة. وكذلك قالها بعضهم: أنه مقيد بما إذا كانوا مشتركين فيه، أما إذا أعطاهم الطعام واحد غيرهم دون اشتراك فيقرنوا هم دون صاحب الطعام، لكن هذا يصلح إذا قلنا: العلة في القران هي الظلم، فهنا لا ظلم فلا بأس، لكن لو قلنا مثلاً: من العلة الشره، أنه إذا أكل اثنتين مع بعض صار كأن عنده نهم وشره، فهنا حتى لو كان هو مالك الطعام، فإن العلة لا تزال موجودة.

                          المضمضة بعد الطعام:
                          كذلك مما يؤخذ من قضية النهي عن القران المساواة بين الضيوف، ولعله يأتي من الأحاديث ما يبين هذا. وكذلك من آداب الآكل قضية المضمضة بعد الطعام، ولعل هذه لم نذكرها في الآداب ونضيفها الآن، وقد جاء في حديث سويد بن النعمان (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بـالصهباء فحضرت الصلاة، فدعا بطعامٍ فلم يجده إلا سويقاً فلاك منه، فلكنا معه ثم دعا بماء فمضمض، ثم صلى وصلينا ولم يتوضأ). قد يقال: هذا محله إذا كان سيصلي بعده لكن على أية حال، فالمضمضة مما يزيل الأوساخ أو مخلفات الطعام وكذلك السواك، ومما يكون فيه محافظة على الأسنان؛ فإن من أسباب تلف الأسنان بقايا الطعام التي تكون موجودة ومحبوسة فيها؛ فإذا تعفنت وأنتنت بين الأسنان سببت التسوس والآلام والأضرار. ولذلك المضمضة بعده والتسوك لا شك أنه مما يحافظ الإنسان به على صحته، ومن الأشياء التي يتأكد المضمضة فيها اللبن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مضمضوا من اللبن فإن فيه دسماً).. (أو فإن له دسماً) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. يعني: اللبن فيه دسم فالمضمضة ليست مثل شرب الماء، فهذا الدسم يحتاج إذهاب أثره إلى مضمضة، واستخدام الأدوات في الطعام جائز، مثل الشوكة والسكين والملعقة، ومن الأدلة على ذلك حديث الصحيحين: عن عمرو بن أمية الضمري (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاةٍ في يده، فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين التي يحتز بها، ثم قام فصلى ولم يتوضأ) . أما حديث (لا تقطع اللحم بالسكين) فقد بين الإمام أحمد رحمه الله أنه ليس بصحيح، وكذلك النهي عن تقطيع الخبز لم يثبت فيه شيء عن تقطيعه بالسكين، فتقطيع اللحم والخبز بالسكين لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم قد استخدم الأدوات أثناء الأكل كاستخدام السكين، فلو أكل واستخدم الملعقة والشوكة وغير ذلك لا بأس به، لكن ينتبه الذين يستخدمون الشوكة والسكين أن عليهم أن يمسكوا الشوكة باليد اليمنى، وأنهم إذا احتاجوا للقطع باليمنى فإنهم لا يأكلون مباشرة، يقطعوها باليمين أولاً، ثم يأكل بالشوكة باليمين، أما ما يفعله بعضهم المقلدين للكفرة من إمساك الشوكة باليسرى والسكين باليمنى ثم يقطع باليمنى ويأكل مباشرةً باليسرى فهذا من إشراكهم للشيطان معهم في الأكل.

                          التفصيل في الأكل على الأرض:
                          ومن آداب الطعام: الأكل على الأرض لحديث: (آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد) وقد جاء أيضاً في البخاري عن أنس قال: (لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان، وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات) وقال: (ما علمت النبي صلى الله عليه وسلم أكل على سكرجة قط، ولا خبز له مرقق قط، ولا أكل على خوانٍ قط، قيل لـقتادة على ما كانوا يأكلون؟ قال: على السفر).


                          تعليق


                          • #14
                            رد: محاضرة( آداب الطعام )للشيخ محمد المنجد

                            حكم الأكل على السكرجة:
                            أما بالنسبة للأكل على الأرض فقد علمنا أن الأكثر تواضعاً والسنة أن يأكل الإنسان على الأرض، وبالنسبة للأكل على غير الأرض مما ارتفع عنها كالطاولة مثلاً فإن هذا الحديث وهو حديث أنس الذي فيه: (ما علمت النبي صلى الله عليه وسلم أكل على سكرجة قط) فما معنى السكرجة؟ وما علاقتها بالموضوع؟ أما السكرجة جاء في تعريفها: أنها فارسية تكلمت بها العرب، وأن معنى هذه الكلمة: قال بعضهم: القصعة المدهونة، وقال بعضهم: أنها قصعة ذات قوائمٍ من عودٍ كمائدةٍ صغيرة، فلماذا لم يأكل على السكرجة؟ قال بعض أهل العلم: ترك أكله على السكرجة إما لكونها لم تكن تصنع عندهم أو استصغاراً لها؛ لأن عادتهم الاجتماع على الأكل وهذه تضيق الدائرة، أو أنها كانت تُعد لوضع الأشياء التي تعين على الهضم، ولم يكونوا غالباً يشبعون فلا يحتاجون إلى شيءٍ يوضع عليه فيساعد على الهضم، الآن الناس يكثرون الطعام ويشربون بيبسي للهضم. طيب لا يحتاج أن تشرب بيبسي إذا كنت لا تكثر من الطعام، لكن صارت الآن الأمراض والأشياء التي تستخدم للإعانة على الهضم نتيجة خطأ أساسي في البداية، فالذي يظهر والله أعلم أن الأكل على الطاولة ليس بمحرم، وإن الأكل على الأرض أحسن، وأكثر تواضعاً وهو السنة، لكن لو أكل على الطاولة لا حرج إن شاء الله، لكن لو سأل واحد ما هو الأفضل نأكل على الأرض أو نأكل على الطاولة؟ نقول: على الأرض؛ فهي جلسة النبي صلى الله عليه وسلم وهي التواضع: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد) لكن لو أكل على الطاولة لا حرج، ولعل الأكل على الأرض من مزاياه أن الإنسان يستطيع أن يجلس الجلسة التي وردت في السنة، وهي: نصب الرجل اليمنى والجلوس على القدم اليسرى، لكن لو أكل على الطاولة في الغالب لا يتمكن أن يجلس هذه الجلسة، وأقول: لأجل هذا فإن الأكل على الأرض هو الأفضل والأقرب إلى السنة، ويمكن الإنسان إلى الجلسة المشروعة فيه، لكن الأكل على الطاولة لا يصل إلى أن يكون محرماً ألبتة. ثم إن الإنسان قد يستطيع في بيته أن يكيف على أشياء، لكن في بيوت الناس والمحلات العامة لا يكاد يوجد الأكل على الأرض.

                            التفصيل في عدم الاتكاء أثناء الأكل:
                            وكذلك من آداب الطعام أيضاً: عدم الاتكاء أثناء الأكل، وذكرنا كلام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد حول هذا الموضوع، وقد جاء في حديث عبد الله بن مسلم قال: (أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاةٌ، فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه يأكل، فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟! فقال: إن الله جعلني عبداً كريماً ولم يجعلني جباراً عنيداً) رواه ابن ماجة ، وقال البوصيري ، في الزوائد : إسنادٌ صحيح، ورجاله ثقات.

                            كيفية الاتكاء على الأرض وحكمه:
                            لكن ما كيفية الاتكاء؟ ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاث كيفيات للاتكاء: الاتكاء على الجنب، الاتكاء على اليد، والتربع، وقد اختلف العلماء في حكمه لأن النهي ليس بصريح، لأنه قال: (إني لا آكل متكئاً) فالآن هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أو مما نحن نقتدي به: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]؟ فلا شك أن الأصل أن نقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولا نأكل متكئين وهذا هو الأحوط على الأقل، فقيل في صفة الاتكاء: أن يتمكن من الجلوس على أي صفةٍ كانت، يعني: يأخذ راحته ويتمكن، ويجلس جلسة فيها اطمئنان وراحة تامة، طبعاً من المحذور فيها أنه سيكثر من الطعام تبعاً لطريقة جلسته، وقيل: أن يميل على أحد شقيه على الجنب، وقيل: أن يعتمد على يده اليسرى من الأرض. وقال الخطابي : تحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه وليس كذلك بل هو المعتمد على الوطاء الذي تحته فيجعل تحته فرشاً وشيئاً مريحاً للجلوس، يعني: كأنه يرى رحمه الله أن الاتكاء داخلٌ فيه، يعني: أي وضعية فيها راحة تامة، بحيث إن الإنسان يجلس فترة طويلة، فيتسبب في مزيدٍ من الأكل، قال: ومعنى الحديث (إني لا أقعد متكئاً على الوطاء عند الأكل فعل من يستكثر من الطعام، فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزاً) . وجاء في حديث أنس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل تمراً وهو مقعٍ) -من الإقعاء- وفي رواية (وهو محتفز) والمقصود: أن يجلس على وركيه غير متمكن، وعموماً يدل ذلك على كراهة كل ما يعد الآكل فيه متكئاً لا بصفةٍ بعينه، اتكاء على جنب، اتكاء على اليد، اتكاء على الوطاء، جلسة مستمكنة يستريح فيها تماماً ويأخذ راحته فيها، كل ذلك داخلٌ فيه، ولعل الأكل وهو على جنب مما يضر به، فلا ينحدر الطعام في مجاريه سهلاً هنيئاً فربما يتأذى به لو أكل متكئاً، وقيل: إن ذلك من فعل الملوك الأعاجم الأكل متكئاً، ولذلك صار مكروهاً . والمستحب إذاً للآكل أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب رجله اليمنى ويجلس على اليسرى، فإذاً هناك كيفيتان للجلوس على الطعام قد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولاً: أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه. الثانية: أن يكون ناصباً للرجل اليمنى جالساً على الرجل اليسرى. ولا يستبعد أن تكون العلة مجتمعة في أشياء كثيرة -مثلاً- طبية وشرعية، قد تكون أقرب للتواضع وأبعد عن مشابهة الأعاجم.. تؤدي إلى عدم الإكثار من الطعام، وهكذا..

                            التفصيل في الأكل والأطعمة:
                            ذم الإسراف في الأكل ورميه:
                            وأما بالنسبة لمسألة الأكل فإن الأكل ينبغي أن يصان عما يهينه، فقد درج الناس على أنهم إذا طبخوا طعاماً اليوم لا يأكلون منه غداً، وإذا زاد يرمونه لا شك أن هذا من الإسراف ومن الاستهانة بالنعمة، وهناك من الناس من يبحث عن لقمةٍ صغيرة، وهؤلاء لا يطيقون الطعام الذي يبيت في الثلاجة ولو كان محفوظاً، فترى عندهم استحالة أن يأكل الواحد من الطعام ثاني يوم، ولا شك أن هذا من البطر، لماذا لم يؤكل الطعام اليوم الثاني؟ لماذا لا يسخن؟ ثم ليتهم إذا ما أكلوه اليوم الثاني تصرفوا من اليوم الأول! لا، يرمى كأنه صار غير صالح للأكل، يعني: إذا زاد شيء لابد أن يرمى، أما يوم الثاني لا يمكن أن يبقى عندهم؛ وعلى أية حال، فإن هذا من صنيع المترفين ولعله يخشى على من فعل ذلك أن تزول منه النعمة.

                            أطعمة دل الشرع على فضلها:
                            سبق أن ذكرنا أن هناك بعض الأطعمة التي جاءت السنة بما يفيد استحبابها أو فائدتها أو أن لها موقعاً خاصاً ونحو ذلك، فمثلاً التمر قد ورد مدحه وأن البيت الذي لا تمر فيه جياعٌ أهله، ومن أكل سبع تمرات من تمر العالية العجوة لم يضره سمٌ ولا سحر، هذا نوع معين من التمر يكون في المدينة من عجوة العالية منطقة يسمونها: العوالي، وقال بعض أهل العلم: أنه يفيد أكل سبع تمرات على الريق في الصباح من أي نوعٍ كان، لكن إذا كان من تمر العالية يكون أحسن، وأن من فعل ذلك لم يضره سمٌ ولا سحر. كذلك ورد الوصية بالتلبينة للمريض وأنه عليه الصلاة والسلام قال: (مجمةٌ لفؤاد المريض، وتذهب ببعض الحزن) ما هي التلبينة؟ حساء، يعمل من دقيق أو نخالة، ويجعل فيه عسل سميت تلبينة تشبيهاً لها باللبن في رقتها وبياضها. جاء كذلك أن الخل نعم الإدام، حتى قال جابر : فالخل يعجبني منذُ سعمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما يقول. وجاء كذلك الثريد قال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). وكذلك اللبن: الإنسان إذا شرب اللبن أكل أي طعام يقول: اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيراً منه، لكن اللبن يقول: وزدنا منه، لا يقول: وارزقنا خيراً منه، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإني لا أعلم طعاماً أفضل منه أو خيراً منه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

                            الاعتدال في الطعام والثناء على الله بعده:
                            وكان عليه الصلاة والسلام كما ذكرنا معتدلاً في طعامه، وربما جمع اللونين معاً لأجل الاعتدال، كما كان يجمع بين البطيخ والرطب، والتمر والقثاء، والقثاء بالرطب، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام كان إذا فرغ من الطعام ورفعت مائدته عليه الصلاة والسلام قال: (الحمد لله كثيراً مباركاً طيباً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنٍ عنه ربنا) رواه البخاري. المكفي: من انكفأ الإناء إذا انقلب للاستغناء عنه، يعني: أن نشكر نعمة الله ولا نكفرها، وأن هذا الطعام نعمة من الله لا نكفرها، ولا مودع: غير متروك الرغبة إليه والطلب منه، ولسنا بمستغنين عنه، فهو فيه حمدٌ لله سبحانه وتعالى على هذا الطعام، وأنه يتمنى من الله سبحانه وتعالى أن تدوم هذه النعمة، وألا تنقطع. وكذلك قد جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام، كان إذا فرغ من طعامه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين). وكذلك جاء في الحديث الذي صحح إسناده النووي رحمه الله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجاً) لأنه أذىً لمن لم يجعل له مخرج، لأن هذه نقمة، ومصيبة، ولذلك بعض الناس يعملون عمليات جراحية لأجل أن يجعل له مكان تخرج منه الفضلات. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة غفر له ما تقدم ما ذنبه) حسنه الترمذي . وكذلك فإنه قد جاء: (اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه -وأما اللبن فيقال- اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس يجزئ من الطعام والشراب غير اللبن) قال الترمذي حديثٌ حسن. وقد صحح الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة حديثاً مشابهاً لهذا، فيما يقال عند شرب اللبن.

                            آداب الطعام العرفية:
                            وقد سبق ذكر كثيرٍ من الآداب التي وردت الأدلة من السنة الصحيحة بها، وهناك آدابٌ أخرى ذكرها أهل العلم بلا أدلة لكنها من الأدب ومن العرف الطيب، وقبل أن ندخل فيها هل سبق ذكر عدم إدخال الطعام على الطعام في آداب الأكل؟ لا. لاشك أنه مضر من جهة الصحة، وأنه يعرقل هضم الغذاء الأول، فبعد الفراغ من الطعام وجدت طعاماً آخر، فأضفته إلى الأول وهكذا قبل أن يتم هضم الأول، تدخل وجبة على وجبة فلا شك أن هذا مما يضر في الطب، فما صحة حديث النهي عن إدخال الطعام على الطعام؟

                            عدم المسح بالمنشفة قبل الأكل:
                            وما ذكره أهل العلم في هذا ونلخص ما ذكره الأقفهسي رحمه الله في: آداب الأكل، وكذلك مما ذكره ابن طولون الصالحي في كتابه فص الخواتم فيما قيل في الولائم في موضوع آداب الطعام والأكل، قال:
                            واغسل يديك ولا تمسح بمنشفةٍ قبل الطعام ففيه الأمن من علل
                            ولا تغسل الصبيان أيديهم قبل الشيوخ ولا تمسـح من البـللِ
                            فمما ذكروه أنه يترك تنشيف اليدين قبل الطعام؛ لأنه ربما كان في المنديل وسخٌ تعلق في اليد؛ فإذا أكل تعلق الوسخ بالطعام، لكن إذا كان المنديل نظيفاً فلا بأس أن يمسح يديه ولا حرج في ذلك، فهم يقولون: لا ينشف إذا غسل قبل الطعام حتى يدخل بيديه نظيفتين للأكل مباشرةً، وإذا غسل بعد الطعام نشف يديه لأنه لن يدخل يديه في الطعام.

                            غسل الكبار قبل الصبيان:
                            وكذلك مما ذكروه: عدم تقديم الصبيان على الشيوخ في الغسل قبل الأكل؛ لأنه ربما كان الماء قليلاً أو شحيحاً فيقدم الشيوخ قبل الصبيان في الغسل قبل الطعام، لأن الوسخ بأيدي الصبيان أكثر مما يكون في أيدي الكبار، فلو انتهى الماء بعد غسل الصبيان أيديهم فنكون قد أمنا من الأذى الأكثر.
                            تنقية الطعام قبل أكله:

                            وكذلك مما ذكروه في آداب الطعام قوله:
                            ونقي شوك طعامٍ أنت آكلـه ولا تكن حـاطبـاً يومـاً علـى دغـل
                            كحاطب الليل إن يقبض على حطـبٍ حوى البلاء ونوع الإثم والأصلِ
                            فهذا يفيد تنقية الطعام الذي فيه شوك أو أذى قبل أكله، والذي يأكله من غير تنقية يسمونه: بحاطب ليل؛ لأنه ربما أخذ مع اللقمة شيئاً يضره.

                            تقديم الفاكهة قبل الطعام:
                            وكذلك قالوا من آدابه: أن تقدم الفاكهة قبل الطعام كما قال:
                            نضيج فاكهةٍ قبل الطعام فكل ما لم يطب أكله فاطرحه في الذبل
                            يعني أن تقديم الفاكهة قبل الطعام أحسن؛ لأنه أسرع لهضمها، وبعضهم يستند بقوله تعالى: في ضيافة أهل الجنة أو طعام أهل الجنة: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:20-21] فقدم الفاكهة على الطعام، لكن هذا لا يستلزم أن يكون دليلاً، فمجرد ذكره معطوفاً عليه لا يكون دليلاً على تقديم الفاكهة، ثم إن الوضع في الجنة قد يختلف عن الدنيا.. على أية حال سواء قدموا الفاكهة قبل الأكل أو بعده فالأمر واسع.

                            الأكل بثلاث أصابع إذا كان الأكل جامداً:
                            وسبق أن ذكرنا الأكل بثلاث أصابع، وقلنا: محلهما إذا كان الأكل بها ممكناً كما إذا كان الطعام جامداً، كما قال هذا:
                            كل بالثلاث إذا جمد الطعام أتى وبالجميع إذا سمـح الطـعام ولـي
                            في الأكل من أصبعٍ مقت الإله ودع دون الثلاث ففيها كبر ذي خيلِ
                            يعني: أن الأكل بثلاث إذا كان الطعام جامداً يمكن أكله بثلاث هو السنة، والأكل بأصبع واحد مقت، وبالاثنين كبر، فلذلك السنة الأكل بثلاث، وإذا كان لا يمكن أكله بثلاث فإنه يؤكل بأكثر من ذلك للحاجة.

                            استثناء الفواكه في الأكل مما يلي:
                            وذكروا أيضاً في آداب الطعام: الأكل مما يليه واستثنوا منه الثمار "الفاكهة" فإنه لا يشترط أن يأكل فيها مما يليه لأنه حب وعدد، وقد يحتاج وقد يريد أخذ واحدة دون أخرى من جهة النوع، فهي قد تكون مختلطة الأنواع، فإذا كانت ثمار فلا يشترط فيها ما يشترط في الطعام من الأكل مما يليه، وتقدم أيضاً النهي عن القران في التمر وغيره من الأشياء كالعنب وما يشابه التمر أيضاً من الثمار، واستثنوا منه ما إذا كان هو الذي يملك الطعام، أو إذا كانوا قد سامحوه بذلك الآكلون معه، أو إذا كان الآكلون كلهم يقرنون، وبعضهم قال أيضاً: يستثنى من ذلك إذا ما أكل مع عياله وأهله، وبعضهم قال: الحديث عام فلا يستثنى حتى لو أكل مع أهله.

                            إذا أكل من طعام غيره لا يزيد على الشبع:
                            وكذلك مما ذكروه في آداب الطعام: أنه إذا أكل من طعام الغير فإنه لا يزيد على الشبع إلا إذا علم رضا صاحب الطعام وصاحب الوليمة، فله أن يأكل ما يشاء مع الالتزام بآداب الطعام الشرعية؛ لأن زيادة الطعام تسبب عدداً من الآفات قيل في الحكمة: يا بني! إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة -القدرة على التفكير تنام- وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. وقال بعض الحكماء: من كثر أكله كثر شربه، ومن كثر شربه كثر نومه، ومن كثر نومه كثر لحمه، ومن كثر لحمه قسا قلبه ومن قسا قلبه، غرق في الآثام، ولا شك أن هذا مما هو معين، ويسبب الخمول والكسل.

                            عدم إدخال الطعام على الطعام:
                            وكذلك ذكروا أن البردة مما ينافي آداب الآكل وهي: إدخال الطعام على الطعام الأول قبل هضمه؛ لأن المعدة تبرز عن هضم الطعام عند ذلك وتصبح مرتبكةً بهذا القادم الجديد.. وكذلك فإن المرضى لا يكرهون على الطعام؛ لأن الله سبحانه وتعالى يطعمهم ويسقيهم كما ورد في الحديث الصحيح.

                            أن لا يكون نهماً في أكله ولا يديم النظر إلى الآكل:
                            من الأشياء التي تضاف إلى قضية عدم الإكثار من الطعام أو من آداب الأكل أن لا يكون نهماً في أكله:
                            ولا تكن نهماً في الأكل واقتصد وانفي عن العرض وصف الجوع والبخل
                            إن الرغيب مشئومٌ في الأنام فكن زهيد أكل تـرى فـي النـاس ذا نحـلِ
                            فالتوسط في كل شيء حسن، والله يقول: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67] فالإنسان يتوسط في أكله فلا يقصر فيه حتى ينسب إلى التحشم، ولا يبالغ فيه حتى ينسب إلى الشره. ومما ذكروه أيضاً: أنه إذا قدم له طعامٌ فإنه لا يطعم منه غيره ولو كان قطاً إلا بإذن صاحب الطعام لأنه هو مالكه. ومن آداب الأكل التي ذكروها: أنه ينبغي للآكل حال أكله أن لا يديم النظر إلى جليسه؛ لأن ذلك يخجله فيترك الطعام قبل أن يشبع. وينبغي كذلك: ألا يقضم الخبز في فمه ثم يضعه في الطعام، فبعض الناس إذا أراد أن يغمس شيئاً بالخبز قضم الخبز بأسنانه ثم وضعه في الأكل، وهذا يورث أن تعاف النفوس الأخرى -نفوس الجالسين- الأكل فقد يلتصق بها من بصاقه أو يكون في فمه شيءٌ من البخر، والرائحة الكريهة، فيكره له ذلك، وهذا النوع يسمونه المهندس؛ لأنه يهندس اللقمة ثم يضعها في الطعام، كما سماها صاحب كتاب: عجائب الأكل، أو الآكل المهندس الذي يقضمها بأسنانه قبل أن يدخلها في الإناء وإن هذا مما يسبب التقزز والنفور فلا يفعل ذلك.

                            إغلاق الشفتين عند الأكل:
                            من الآداب التي ذكروها أيضاً في الأكل: إغلاق الشفتين عند الأكل وأن لا يتركهما مفتوحتين، وذلك لمعنيين: المعنى الأول: الأمن من تطاير البصاق حال المضغ، وقد يقع ذلك في الطعام فيورث قنافةً يعني: تقززاً وأذىً عند الآخرين. وثانياً: أنه إذا ضم شفتيه لم يبق لطعامه فرقعة وصوت، فإن بعض الناس ربما ينزعج من صوت المضغ الذي يخرج من الآخرين، فإذا أطبق الشفتين أمن من تطاير البصاق، وأمن ثانياً من إصدار الصوت المزعج عند أكله للآخرين.

                            ألا يكون خردباناً:
                            وكذلك من آداب الأكل ألا يكون خردباناً، والخردبان: هو الذي يجر الخبز خوفاً أن يسبقه إليه غيره، فيجعله في شماله ويأكل بيمينه، فهذا لا شك أنه دالٌ على الشره، فالذي تكون اللقمة في يده قبل أن يبتلع التي في شدقه وعينه على الثالثة، فهذا لا شك أنه من الجشعين؛ لأن بعض الناس كأنه لا يصدق أن ما أمامه طعامٌ يمكن أن يأكله، فإذا أخذ لقمةً قبل أن يبتلع التي قبلها فهذا شره منافٍ لآداب الطعام، وتكون عينه على الثالثة أيضاً، أو تكون كلتا يديه فيهما الأكل والطعام فيأخذ من هذه لهذه ونحو ذلك، أو أنه يأخذ رغيف الخبز كله، فيجعله في يده ونحو ذلك، كلها من الأشياء التي تنافي آداب الطعام.

                            ترك السعال وقت الأكل:
                            وكذلك من الآداب التي ذكروها في حال الأكل: عدم السعال، فإذا سعل أو اضطر للسعال فإنه يحول وجهه عن الطعام ويبعده عنه، أو يجعل شيئاً على فيه حتى لا يخرج البصاق مع السعال فيقع في الطعام، فيسبب الأذى للآخرين. وكذلك ألا يتنخم، لا يخرج النخامة أو البلغم، ولا يبصق، ولا يتمخط بحضرة الآخرين عند الطعام، ولاشك أن هذا أيضاً مما يسبب القرف لدى البعض أو الأكثرين.

                            ألا يصف أشياء مستقذرة عند الأكل:
                            وكذلك لا يذكر شيئاً فيه مستقذر، لا يصف أشياء مستقذرة إذا أكل على الأكل لا يأتي مثلاً بوصف الصراصير والجرذان والفئران، ونحو ذلك ويذكر القصص المقرفة؛ فإنها أيضاً مما يسبب نفسياً النفور من الأكل، وربما عافه بعضهم، وقال: من أجل هذه السيرة التي أتيت بها تركنا الأكل.

                            ألا يأكل قبل الناس:
                            كذلك من الآداب ألا يأكل قبل الناس، ولا يمد يده قبل الناس، ويمد يده الأكبر مثلاً ممن كانت الوليمة من أجله، أو الذي قدمه صاحب المنزل للطعام، فقد يقدم شخصاً معيناً ليبدأ أو الأكبر بالسن أو الأفضل صاحب العلم العالم، وكان الصحابة لا يمدون أيديهم إلى الطعام حتى يمد النبي صلى الله عليه وسلم يده، والذي يمد يده قبل القوم دون أن يكون هناك سبب كأن يكون هو الأكبر أو صاحب العلم والفضل أو الذي قدمه صاحب البيت فلا شك أنه إذا لم تكن هناك هذه الأسباب أو بعضها يكون جشعاً.

                            ألا يطأطئ رأسه حال الأكل على الإناء:
                            ومن الآداب: ألا يطأطئ رأسه على الإناء حال الأكل، وإنما يجعل شيئاً من المسافة بينه وبين الأكل. ومنها: ألا ينفض يديه على الطعام، بعض الناس وخصوصاً الذين يأكلون الرز من هذه (التباسي) وهذه الأواني فإنه يأكل وينفض يديه بعد كل لقمة على هذا الإناء ثم يأكل وينفض يديه وهكذا، وربما نفضهما على من بجانبه، على أية حال هذا أيضاً من الأشياء التي تسبب النفور، وربما وقع شيءٌ على ثوب الجليس أو على طعامه فيسبب تقذراً.

                            إذا أكل بطيخاً ألا يخلط القشر باللبِّ:
                            وكذلك من آداب الطعام ألا يخلط -إذا أكل بطيخاً- يخلط القشر باللب، والأشياء التي تقشر كثيراً لا يخلط القشر ببقية الفاكهة، وكذلك لا يلقي بالقشور بعيداً؛ فربما نالت أحداً أو صدمته أو تقاطر منها شيءٌ من القشرة المرمية على الآخرين، فلا يلقي بها على المائدة. وكذلك ذكرنا عدم خلط النوى بالتمر، وكذلك كل ما كان مثل التمر، كالبرقوق مثلاً لا يخلط النوى بالثمرة، لا يخلط ما أكل بما لم يأكل، طبعاً أنتم ترون الآن -أيها الإخوة- أن هذه الأشياء فيها دقة بالغة، ولا شك أن بعض الناس يقولون: هل في الشريعة ذوق؟ مثل هذه الأشياء ربما كان بعض الناس لا يتصورون أن هذه تكلم عنها العلماء، لكنهم تكلموا عنها وذكروها وفصلوا فيها تفصيلاً عجيباً، كل الأشياء التي تخطر ببال الإنسان من القضايا المتعلقة بالذوق والأدب والنظافة، والبعد عن القرف والتقزز والقنافة وما يكرهه الآخرون كلها مذكورة ومكتوبة، مما يدل على الأدب في هذه الشريعة وأن العلماء فهموا ذلك ودونوه، وكانوا يلاحظون من الواقع الأشياء التي تنافي الأدب أو التي هي من الأدب فينصون عليها، ولو ما وردت فيها الأحاديث لكنهم ذكروها. وقلنا: إنه لا يتصرف بالطعام في غير الأكل إذا كان ليس هو صاحب الطعام، ولذلك قالوا: لا يطعم الهر والقط وغيره إلا إذا أذن صاحب البيت.

                            أن يختار لنفسه من الطعام الحلو:
                            وكذلك من الأشياء التي ذكروها: أن يختار لنفسه من الطعام الحلو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل، ولاشك أن هذا من الطباع ولا يلزم الإنسان به.

                            أن الآكل إذا شبع لا يرفع يده قبل القوم:
                            ومن الآداب أيضاً: أنه ينبغي للآكل إذا شبع ألا يرفع يده قبل القوم الذين لم يكتفوا منه، كما إذا كان هناك شخصٌ جائع أو شخصٌ جاء متأخراً فلو وقفوا أو توقفوا عن الطعام كلهم لأحرجوا هذا المتأخر، فيضطر لرفع يده معهم ولم يحصل له الاكتفاء من الطعام.

                            تليين الجانب وخفض الجناح مع الضيف:
                            وكذلك ينبغي للآكلين أن يلينوا جانبهم ويخفضوا جناحهم لمن يأكل معهم، ولا يؤثروا أنفسهم بشيءٍ دون بعضهم البعض، وذكروا حتى من آداب الأكل مسامرة ومآنسة الضيف الآكل، إذا كان الكلام مما يجعله ينبسط ويرتاح في أكله وطعامه، فإذا كان السكوت يجعل هناك جواً من الوحشة يخيم على الآكل فقد لا يكون مرتاحاً أثناء الطعام فقالوا: إنه يأتي بالحكايات على الأكل التي في سماعها إيناسٌ للآكل، وإطالةٌ لجلسته.

                            تصغير اللقمة وجودة المضغ:
                            وكذلك ذكروا من آداب الطعام ألا يمسح يديه بالخبز وقالوا: إنه داخلٌ في حديث (أكرموا الخبز) وتقدم أن هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة. وأيضاً من آداب الطعام: تصغير اللقمة، وجودة المضغ قبل البلع، لأن بعض الناس يبلع بدون مضغٍ جيد، فهذا يضره من جهة ويدل على شرهه من جهة، لأنه يريد أن يأكل أكثر كمية في أقل وقت. وقد سئل النووي رحمه الله عن مسألة وهي: هل ورد حديثٌ في تصغير اللقمة؟ فقال: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتصغير اللقمة ولا بتدقيق المضغ، ولكن نقل عبادي في الطبقات عن الربيع عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: في الأكل أربعة أشياء فرض، وأربعة سنة، وأربعة أدب، أما الفرض: فغسل اليد، والقصعة، والسكين، والمغرف، والسنة: الجلوس على اليسار، وتصغير اللقمة، والمضغ الشديد، ولعق الأصابع، والأدب: أن لا تمد يدك حتى يمد من هو أكبر منك، والأكل مما يليك، وقلة الكلام، هذا مما نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى، فإذاً تصغير اللقمة، وجودة المضغ من آداب الطعام.

                            ألا يقيم الآكل قبل أن يفرغ من الطعام:
                            وكذلك ألا يقيم الآكل قبل أن يفرغ من الطعام، واختلفوا في الضيف هل يملك الطعام الموضوع للأكل أم لا يملكه؟ ثم قالوا: إذا امتلكه فمتى يمتلكه؟ هل إذا وضع بين يديه، أو إذا تناوله بيده، أو إذا أدخله فيه؟ وقد ينبني على هذا دقائق وفروع فقهية، لكن بعضها فيه مبالغات، كما قالوا: لو أكل الضيف تمراً وطرح النوى فنبتت شجرة فلمن هي؟ فعش أيها الضيف ويا صاحب المنزل حتى تنبت الشجرة ثم سل عن هذا الحكم.

                            ألا يحمل شيئاً إلا بإذن المضيف:
                            من آداب الطعام أيضاً: أنه لا يحمل معه شيئاً من بيت الذي أضافه إلا بإذن صاحب البيت؛ لأنه أذن له أن يأكل ولم يأذن له أن يحمل، والطعام طعامه والمال ماله، وإذا علم رضاه جاز له أن يدعو غيره وأن يأخذ معه ويحمل وأن يأكل على الشبع، فإذا علم رضا صاحب البيت وكان صديقاً له أو أخاً ويعلم أنه لا يمانع في ذلك فعله.

                            ألا يأكل وحده :
                            وكذلك من آداب الأكل: ألا يأكل وحده ما أمكن ذلك، بل إنه يدعو من يمكن دعوته خصوصاً من الصالحين (لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي) وقد يصادف صالحاً يدعوه معه؛ فيكون داخلاً في حديث إطعام الطعام الذي هو من أسباب دخول الجنة، ولعله يصيب من هذا الرجل دعوةً صالحةً تنفعه نفعاً عظيماً، وأيضاً الأكل أن يأكل لوحده ليس من دلائل الإيثار، ومشاركة الآخرين، ولذلك كان بعض السلف رحمهم الله، إذا حضر الطعام وهو لوحده يلتمس من يأكل معه، يبحث وربما مشى مسافة حتى قيل: إن بعضهم إذا كان يريد الأكل يمشي الميل والميلين يلتمس من يتغدى معه، ولاشك أن على رأس هؤلاء إبراهيم الخليل عليه السلام الذي كان مشهوراً بإكرام الضيوف.

                            أن يأكل صاحب المنزل مع الضيف:
                            وكذلك من آداب الطعام: أنه إذا كان الضيف يستحي من الأكل لوحده فإنه ينبغي على صاحب المنزل أن يأكل معه، وجرى في عادات بعض الناس أنهم يضعون الطعام ويمشون، وقد يصيب الحرج الآكلين ويريدون أن يجلس معهم صاحب البيت، ليأنسوا ولا يشعروا بالحرج لكن هو يصر على العادات والتقاليد ويمشي من المكان. وهذا ليس من الدين في شيء، هذا يرجع إلى حال الضيوف فإن كانوا ممن يرون أن تجلس معهم اجلس معهم، وإن كانوا لا مانع عندهم أن تذهب اذهب، لكن أن تقول: أنا سأحكم العادات والتقاليد، ونحن عاداتنا ما نجلس مع الضيف عند الأكل، ولو كان الضيف يريدك أن تجلس، إذاً هذا من قلة الأدب وليس من الأدب في شيء، ضع العادات على جنب وخذ ما جاء في الشريعة التي أمرت أو حثت على الإيناس واللطف وحسن العشرة، فإذا كان من حسن العشرة أن تجلس مع الضيوف فاجلس معهم وكل معهم، وآنسهم.

                            البدء بالطعام قبل الصلاة:
                            وكذلك ذكروا من آداب الطعام: أنه إذا حضر الطعام لا يذهب للصلاة ويترك الطعام، وإنما يبدأ بالطعام لأن البدء به فيه إذهاب ما في نفسه من الشوق للطعام الذي قد يشغله عن الخشوع في الصلاة، وفي هذا تفصيل سبق ذكره في شرح كتاب: عمدة الأحكام .

                            أن يأخذ ما سقط من الأكل:
                            وكذلك من آداب الأكل: أن يلقط ما سقط خصوصاً من حبات الرز، الذين يأكلون الرز في هذه الأيام لا يكلفون أنفسهم مطلقاً في لقط حبات الرز الساقطة، فترمى وتجمع مع السماط وترمى، ولا شك أن هذا إهدار للنعمة وإهانة لها، ولم يتقزز الإنسان من شيء هو السبب فيه وهو الذي أسقطه والسبب في تناثره، فلماذا لا يجمعه؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت اللقمة من أحدكم فيأخذها وليمط عنها الأذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان) فلماذا لا يلتقطون حبات الأرز التي وقعت ويأكلونها؟ وهناك في العالم الذين يتمنون حبة رز؛ بل ربما تبع بعضهم نملة حتى يراها تذهب إلى شيء في الأرض من حبة شعير أو قمح صغير فيأخذه قبله، إذا كثرت النعمة عند الناس استهانوا بها ولا يعرفون قيمتها إلا إذا فقدوها. وما يورده بعض العامة لأولادهم ( من أن اللقمة تتبع صاحبها يوم القيامة وتجري وراءه إذا لم يلتقطها ) ليس له مستند صحيح، ولذلك لا ينبغي أن نخوف الناس بالأحاديث الضعيفة والموضوعة وعندنا من الصحيح ما يغني عنها. وكذلك: (الإناء يستغفر للاعقه) هذا حديث معروف أنه ليس ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هناك ما يغني عنه في لعق الإناء من الأحاديث التي وردت.

                            أن لا يأكل عند رجل يشتهي الطعام وينظر إليه:
                            ومن آداب الأكل: أن لا يأكل بحضرة شخص يشتهي الطعام وينظر إليه، حتى ولو كان خادماً، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر الإنسان إذا أكل والخادم موجود أن يناوله منه أو يشاركه فيه، إما أن يجلسه معه أو على الأقل يناوله منه فإنه هو الذي ولي حره ودخانه، فالخادم هو الذي طبخ وتعرض للدخان والحر والنار التي طبخ بها، فلا أقل من أن يشرك أو يعطى من الطعام. وبعض الناس يأكلون وغيرهم ينظر إليهم بتشهي الطعام، ولكن لسبب أو لآخر لا يجعلونه يشارك معهم، فذكر أهل العلم كراهية أنه يأكل بحضرة من يشتهي الطعام دون أن يشاركه فيه، حتى قالوا: ولو كان قطاً. حتى قال بعضهم: فإن في نظرة هذا من السموم التي ربما أثرت في الآكل، نظرة المتشهي للطعام ولو كان قطاً قد يكون فيها شيء، ولذلك يرمى له بشيء.

                            عدم الأكل في السوق :
                            ثم من آداب الأكل: قضية الأكل في السوق، وذكروا أن الأكل في السوق من خوارم المروءة وأنه إذا فعل ذلك سقطت شهادته، لكن هذه المسألة تعتمد على الزمن والوقت، يمكن يكون في وقتٍ مضى الأكل في السوق عيب كبير جداً.. والذي يأكل في السوق هذا إنسان ما عنده مروءة، إنسان دنيء، ولا يبالي أن يأكل أمام الناس وهم يمشون ويذهبون، ولاشك أن فيه شيءٌ من الدناءة فعلاً، خصوصاً الذين يأكلون السندوتشات وهم يمشون في السوق، أو في الأسواق والشوارع، لا شك أن فيه شيء من الدناءة وقلة المروءة. لكن الآن جعلت مطاعم فيها طاولات منفصلة، ولا يمر عليك الناس الغادين والرائحين، السوق في الماضي كان الأكل فيه دناءة وقلة مروءة؛ لأنه يأكل أمام الناس الغادي والرائح، والأكل ينبغي أن يكون فيه شيء من الاحتشام والآداب التي يصعب تطبيقها في السوق، وخصوصاً إذا كان يتمشى ويأكل، فليس من الأدب أن يأكل ويتمشى بين الناس. أما الشرب فإنهم رخصوا فيه، قالوا: لنقص زمنه.. لأنه لا يأخذ إلا شيئاً يسيراً، ثم قد يحتاج.. يصيبه العطش ويحتاج وقد جوزوا للمعتكف أن يخرج على بيته للأكل والشرب، ولو كان معتكفاً ما دام لم يحضر معه طعاماًَ وما تيسر إحضار الطعام معه.

                            تنظيف الأسنان بعد الأكل:
                            كذلك من آداب الأكل: أن يتخلل بعد الطعام ويستعمل السواك أو العود لتنظيف الأسنان وإخراج ما بها، وفي عصرنا هذا الفرشاة ومعجون الأسنان. ثم إن بعضهم: فرقوا بين الشيء الذي يخرج من الأسنان هل يبتلع أم لا؟ فقال بعضهم: إذا أخرجه بالخلال استحب طرحه وكره ابتلاعه، وإن قلعه بلسانه لم يكره ابتلاعه، ونقلوا ذلك عن الشافعي رحمه الله، ولم يظهر لي الفرق وما هو السبب في هذا؟ ولعل الأكل الذي يكون بين الأسنان نتيجة طول اللبث أو المكث فإنه يحدث له تغير أو رائحة؛ فإذا ابتلعه ربما يكون له ضرراً عليه، فهذا النوع من العالق الذي يطول مكثه يحتاج إلى عود إلى إخراجه، لكن الذي يخرج باللسان قد يكون مما يسهل إخراجه، ولذلك إذا خرج باللسان فلم يكن قد حدثت له فترة مكث في الفم، فما حصل له هذا التغير أو النتن، والله أعلم.

                            النوم بعد الغداء والمشي بعد العشاء:
                            وكذلك من الأشياء أيضاً فإنهم ذكروا مسألة النوم بعد الأكل، وقال بعض أهل العلم: يستحب من جهة الطب النوم بعد الغداء، والمشي بعد العشاء، وقالت العرب: تعشى وتمشى، وتغدى وتمدى. طبعاً: تعشى وتمشى، واضح التمشية بعد العشاء، ولا ينام حتى ربما يهضم طعامه لأن نومه طويل، والغداء في وسط أو في أول النهار، وبعده قيلولة، تغدى وتمدى، والأصل طبعاً تمدد، لكن اختصر على دالٍ واحدة. وكما في قوله تعالى: ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى [القيامة:33] قالوا: هي أصلها يتمطط، فكان من علم الأولين بالطب أن النوم بعد الغداء مفيد.. والعشاء لابد من المشي بعده، وهذا موجود في أمثال العامة اليوم، حتى بنفس اللفظ هذا، مثل قديم لكنه ساري المفعول، تعشى وتمشى، وتغدى وتمدى. وأيضاً: مما ذكره الأطباء في الماضي التي دونها أهل العلم أن يعرض نفسه على الخلاء قبل النوم، يعني: إذا أكل قبل أن ينام يدخل الخلاء حتى لا يحتبس فيه البول والغائط فيضره ذلك؛ لأن النوم قد يأخذ وقتاً طويلاً، فيدخل الخلاء قبل أن ينام.

                            لا يشرع في الأكل حتى يؤذن له:
                            هذا بعض ما ذكره الأقفاسي رحمه الله في كتابه: آداب الأكل ابن عماد الأقفاسي المتوفى سنة 880هـ وابن طولون هو: محمد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي الذي توفي بعد بفترة فإنه قد ولد بعد موت الأول، ولد في عام 880هـ وتوفي في عام 953هـ ألف كتابه: فص الخواتم فيما قيل في الولائم ، وذكر في أثناء الكتاب فصلاً يتعلق بآداب الأكل، تخلل كلامه عن الولائم، فأخذ من كلام الأقفاسي شيئاً كثيراً جداً، كما هو واضح في الكتاب، والأقفاسي يأخذ من الغزالي أشياء كثيرة جداً من الإحياء، المهم لا زال أهل العلم يأخذ بعضهم من بعض، ويذكر بعضهم من بعض، والعلم ليس ملكاً لأحد، لكن لعل هناك بعض الإضافات التي ذكرها فمما ذكر من آداب الأكل: أنه لا يشرع في الأكل إذا كان عند الآخرين حتى يؤذن له، فمثل أن يقول: سموا الله أو كلوا ونحو ذلك، وقال بعضهم: يكفي أن يضع الطعام بين أيديهم، فإن مجرد وضع الطعام بين أيديهم دليلٌ على إذنه لهم بالأكل وأنه لا يشترط لفظ معين، فإذا كان العرف جارياً أنه بمجرد وضع الطعام بين أيديهم دليلٌ على الإذن لهم بالأكل يمشي على ذلك، أما إذا كان جرى في العرف أنه لا يبدأ إلا إذا قال صاحب البيت: سموا الله أو باسم الله، أو كلوا أو تفضلوا أو اشرعوا أو ابدأو ونحو ذلك، فإنه ينتظر حتى يبدأ ويقدم لهم صاحب الطعام أو يأذن لهم بمثل هذه الألفاظ. وقال النووي رحمه الله: الصحيح في تقديم الطعام أنه لا يجوز الأكل بلا لفظٍ سواء دعاه أم لا، بشرط ألا يكون ينتظر غيره. وقال ابن العماد : يشترط أن يكمل وضع السماط، يعني: ليس من أول طبق يأتي به معناه: اشرعوا في الأكل قال: يشترط أن يكتمل وضع السماط: يكتمل وضع الطعام بأنواعه أو بما يريد إحضاره وبعد ذلك يشرعوا فيه. نحن ذكرنا قضية غسل اليدين، وقضية الحديث الذي ورد في الوضوء للجنب، أو غسل اليدين للجنب قبل الطعام وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وثبت في حديثٍ آخر من طريقٍ عزيز ذكره الشيخ: ناصر في السلسلة غسل اليدين قبل الطعام عموماً للجنب ولغير الجنب، وللمحدث وغير المحدث.

                            ترك أكل الأشياء غير الناضجة:
                            ومن الأشياء التي ذكرها رحمه الله تعالى في آداب الأكل ألا يأكل الطعام غير نضيج سواء كان فاكهة أو غيرها، وأن أكل الفواكه غير الناضجة من الأشياء التي تضر، وكذلك أكل اللحم النيئ، وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن أكل اللحم المتغير، لحم قد يحصل له تغير في الرائحة بسبب طول مكثه فقال: إن لم يكن يضر فيجوز أكله، وإن كان يضر فلا يجوز أكله، ونقل عن الغزالي قوله: ويأكل من استدارة الرغيف إلا إذا قل الخبز فيكسره ولا يقطعه بالسكين، وقد تقدم أن قطع الخبز بالسكين ليس به بأس، وأن الحديث الوارد في النهي عن قطع الخبز بالسكين ليس بصحيح.

                            عدم إهدار النعمة:
                            ومن الآداب التي ذكرها أيضاً ألا يوضع الطعام على الخبز إلا ما يؤكل منه، فإن بعض الناس قد يأخذ رغيفاً ويضع عليه قطعةً من الطعام، ثم يأكل جزءاً من الرغيف ويترك الباقي وقد تلوث أو أصابه ما أصابه من الطعام فلا يأكله لا هذا ولا هذا، ويفضي ذلك إلى إهدار النعمة، كما يحدث لكثير من الناس عندما يوزعون الأرغفة على الطعام فإن بعضهم يجعل الأرغفة توزع، بحيث يقسم من هذا ومن هذا ومن هذا ثم تبقى الأشياء المقسومة أو الباقية ترمى، ولا شك أن هذا مخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أكرموا الخبز).

                            عدم غمس اللقمة الدسمة في الخل:
                            وكذلك ورد في كلامهم: عدم غمس اللقمة الدسمة في الخل، ولعل من أسباب ذلك عدم تلويث السائل أو الشراب، أو الخل وإنما يأخذ منه فيضعه على اللقمة، ولا يضعها فيه فيجعله مشوباً بها، فربما أدى ذلك إلى تقزز الآخرين ونفورهم.

                            عدم الحلف على الآخرين بالأكل:
                            وكذلك من آداب الأكل التي ذكرت عدم الحلف على الآخرين، وأما الحلف عليه بالأكل فممنوع، وروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب أنه قال: الطعام أهون من أن يحلف عليه، فينبغي للشخص ألا يقول للآكل: أقسم عليك بالله.. حلفت عليك بالله أن تأكل.. والله العظيم أن تأكل، الأكل أهون من أن يحلف عليه، ما يستحق الأكل أن تأتي بلفظ الجلالة وتقسم، والله يقول: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم:10] الحلاف الذي يكثر الحلف بالشيء المهم وغير المهم ويحلف هذه عادته وطبيعته، كثرة الحلف هذا مذموم، خصوصاً إذا كان في أشياء مثل هذه، ويمكن أنه يعزم عليه، وأن يدعوه إلى الطعام بغير الحلف كأن يلح عليه بقوله ائت، تخير، كُلْ، تفضل، وإذا آنس من رفيقه الأكل نشطه بألفاظ ولكنه لا يحلف عليه. ولا شك أن الشخص الغريب أو الشخص الذي يأتيك لأول مرة على طعام ربما يكون في نفسه شيءٌ من الحياء، ويحتاج منك إلى شيء من الإلحاح أو شيء من التشجيع على الأكل، فهذا من الأداب مع الضيف، وهذا داخل في آداب الضيف ربما استبقناه هنا، لكن على أية حال لا يقسم بالحلف على الكل هذا من الأمور السيئة المنتشرة بين الناس.

                            عدم شرب الماء أثناء الأكل:
                            ومما ذكروه أيضاً من الفوائد الطبية في آداب الأكل: أن لا يكثر من شرب الماء أثناء الأكل، قالوا: إلا إذا غص بلقمةٍ ونحوها الحاجة، لأنه وجد أن ذلك مضر بالهضم أو المعدة. وينبغي كذلك الحذر من استعمال الحار بعد البارد، والبارد بعد الحار، في الأكل والشرب وفي الشرب أكثر لأن ذلك ربما أضر به، وقال العز بن عبد السلام رحمه الله في مسألة اللقمة: ويحرم عليه لو كان الطعام قليلاً أن يأكل لقماً كباراً مسرعاً في مضغها وابتلاعها حتى يحرم أصحابه، فلا شك أن هذا من الجشع، فلو كان الطعام قليلاً فلا يكبر اللقمة إذا كان مشتركاً ومعه أناسٌ آخرون حتى يكون هناك عدلٌ في الطعام.

                            حمد الله بعد الطعام:
                            وكذلك تقدم: أنه يحمد الله بعد الانتهاء من الطعام، ويسأل الله أن يرزقه خيراً منه إلا اللبن، فإنه يقول: وزدنا منه، ولا يقل، ارزقنا خيراً منه، لأنه ليس هناك طعامٌ يجزئ عن اللبن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإن من آداب الطعام أيضاً، أنه يتجنب الأكل من الأشياء الضارة أو التي تضره هو مثل الأكل من الثوم والبصل إذا أراد أن يذهب إلى المسجد، أو أن يأكل من لحم البقر إذا ثبت عنده حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لحم البقر داء) . لكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى عن أهله ببقرة.

                            المحادثة أثناء الأكل:
                            وكذلك فإن من آداب الطعام ما قاله النووي رحمه الله: وإذا أكلوا جماعةً فمن الأدب أن يتحدث على طعامهم بما لا إثمٍ فيه، وبعض الناس يورد حديثاً: (تحدثوا ولو بثمن أسلحتكم) لكنه ليس بصحيح. فالأكل أثناء المحادثة مما يكون فيه إيناس، ولذلك فإنه لا بأس به وليس بحرام، بعض الناس يظن أن الحديث أثناء الأكل مما يكره أو مما ينهى عنه، وليس ذلك بصحيحٍ على الإطلاق، وللشرب آداب كما للأكل آداب، لكن حيث إن موضعنا هو آداب الأكل فنقتصر عليه.

                            معرفة قدر هذه النعمة:
                            وكذلك فإن من آداب الطعام أنه يعرف قيمة هذه النعمة، ليحمد الله سبحانه وتعالى عليها وينوي بالأكل التقرب إلى الله عز وحل بتقوية البدن لأجل الطاعة، وهذا مما يفوت كثيراً استحضاره من كثيرٍ من الآكلين. ونكتفي بهذا القدر من آداب الأكل، وبذلك يكون قد انتهى هذا الموضوع مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة، ومن كلام أهل العلم، والآداب التي ذكروها واستحسنوها مما يتبع العرف الحسن والذوق الطيب، والأدب الذي تهواه وتميل إليه النفوس ذات الفطر الصحيحة والسليمة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

                            الأسئلة:
                            الإسراف في الوجبات المكلفة:
                            السؤال: هل من الإسراف ما يفعله بعض الناس من ارتياد بعض المطاعم المكلفة، حيث قد تبلغ وجبة الفرد الواحد مائة ريال؟ الجواب: نعم. لا شك في أن هذا من الإسراف، ولكن المسألة أحياناً تعتمد على قدرة الشخص المادية أن يشتري طعاماً، لكن في بعض الحالات يكون هذا إسراف حتى في حق أغنى الأغنياء، فيكون الطعام غالي الثمن بغير فائدة، وإنما مجرد لأنه من المطعم الفلاني، ففي هذه الحالة يكون إسرافاً.

                            معنى الخل:
                            السؤال: ما هو الخل؟ هل هو الخل المعروف في يومنا؟ الجواب: نعم. الخل: هو هذا الخل المعروف في يومنا وهو يؤخذ من عدة أشياء، فهناك خل من العنب، وخل من التفاح وغير ذلك، الخل أنواعٌ كثيرة، وبعضه له فوائد طبية، بحسب المأخوذ منه.

                            حكم الأكل بالملعقة:
                            السؤال: ماذا تقول إذا قال الشخص أن الأكل بالملعقة سنة لأنك تمسكها بثلاثة أصابع؟ الجواب: قد لا نقول: إن الأكل بالملعقة سنة، لأنك إذا قلت إن الأكل بالملعقة سنة معناها أنه كان عليه الصلاة والسلام يأكل بالملعقة، نعم، إن المغارف والملاعق كانت معروفة في عهدهم وقد جاء في بعض الأحاديث ذكرها، لكن يمكن أن يقول الشخص: إنك إذا كنت مخيراً بين الأكل بالملعقة أو الأكل بالخمس الأصابع فإن الأكل بالملعقة أقرب إلى السنة، يعني: لا تقول: هو سنة، لكن تقول: هو أقرب إلى السنة من عدة جهات: أولا: أنه يمسكها بثلاث أصابع، والذي يأكل بخمس أصابع يأكل بالخمسة معاً؛ فهي أكثر من الثلاث. ثانياً: أنه إذا أكل بالملعقة كانت اللقمة أصغر مما إذا أكل بالخمس.. أليس كذلك؟ ولا شك أن تصغير اللقمة من السنة، وتكبيرها من الجشع، ولذلك الأكل بالملعقة أقرب إلى السنة من الأكل بالخمس من جهة تصغير اللقمة. ثالثاً: أنه إذا أكل بالخمس نثر الطعام أمامه وتساقط، وإذا أكل بالملعقة يمكنه أن يتحكم فيه، فكان الأكل بالملعقة أحسن من الأكل بالخمس؛ لأن الأكل بالخمس يؤدي إلى تناثر الطعام، وأكثر هؤلاء الذين يأكلون بالخمس ويتناثر بينهم الطعام لا يكلفون أنفسهم جمعه ولا أكله، وإنما يبقى هكذا. فمن هذه الجهة يكون الأكل بالملعقة أحسن من الأكل بالخمس. كذلك يمكن أن يقال: إن الأكل بالملعقة أكثر تحكماً من الأكل بالخمس؛ لأنه عند أكله بالخمس كما قلنا يتناثر الطعام. لكن لو كان الإنسان يستطيع أن يأكل بثلاث أصابع والطعام يؤكل بثلاث أصابع، لأن من الطعام ما يؤكل بثلاث أصابع ومنه ما لا يؤكل بثلاث أصابع، فمثلاً: ما كان متماسكاً كالثريد، وكالتمر المخلوط بالسمن والزبد (حيس) هذا يمكن أن يأكل بالثلاث أصابع، لا داعي أن يأكل بالخمس أبداً، فلو قيل لك: تأكله بثلاث أصابع أو تأكل بالملعقة أيهما هو السنة؟ بثلاث أصابع أفضل، لكن بين الخمس وبين الملعقة قد تكون الملعقة أقرب إلى السنة من الخمس، ثم إن الذين يستخدمون الخمس ليسوا سواء، فبعضهم يستخدمها استخداماً جيداً، وبعضهم يستخدمها استخداماً في غاية الرداءة. فإذاً هناك طعام لا يمكن أن يؤكل بثلاث، الرز -مثلاً- كيف تأكل الرز بثلاث أصابع؟ ولذلك قد يكون هناك عذر أن يأكل بأكثر من ثلاث أصابع، لكن ليس العتب هنا في استخدام أكثر من ثلاث للحاجة، العتب في طريقة الاستخدام، وإذا كان الأكل بالملعقة سلبياته أقل فيكون هو أحسن، وهناك من الأطعمة ما لا يمكن أكله لا بثلاث أصابع ولا بخمس مثل: الحساء، كيف يحتسي بأصابع؟ لا يمكن، فطريقة الاحتساء إما أنه يشرب من الإناء مباشرة أو أنه يبتلعه بمغرفةٍ أو ملعقةٍ مثلاً.. فإذاً المأكولات تختلف، ومنه ما يحتاج إلى إمساك بالقبضة كالتفاح مثلاً، فأنواع الأكل تتحكم في الطريقة التي تستخدم في أكلها.

                            أكل الدباء ليس بسنة:
                            السؤال: هل أكل الدباء سنة وعبادة؟ الجواب: فيما يتعلق بالدباء ليست هذه سنة تعبدية، فلا يترتب على أكل الدباء أجر من جهة أنه سنة مثل الأكل بثلاث أصابع أو التسمية أو الأكل باليمين، لا. هذه لا تقارن بهذه مطلقاً.

                            كيفية قول: لا إله إلا الله.. بعد الفجر والمغرب:
                            السؤال: قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بعد المغرب والفجر؟ الجواب: عشراً عشراً كما ثبت في السنة، بعد الصلاة عشراً عشراً، وبقية الصلوات مرة أو ثلاث مرات، كما ورد في السنة.

                            حكم ذكر دعاء معين قبل الصلاة:
                            السؤال: هل يجوز الدعاء قبل كل صلاة، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً؟ الجواب: الدعاء قبل كل صلاة لا بأس به، بل هو من أوقات الإجابة بين الأذان والإقامة، لكن تعيين دعاء معين يقوله فهذه مشكلة إذا ما ورد في السنة، ولذلك لا يواظب على دعاءٍ معين.

                            حكم قراءة الفاتحة بعد الإمام:
                            السؤال: هل تقرأ الفاتحة بعد قراءة الإمام؟ الجواب: هذه المسألة طويلة ولكن الخلاصة: اختلف العلماء فيها في الصلاة الجهرية، منهم من قال تجب القراءة، ومنهم من قال: لا تجوز القراءة، ومنهم من قال: إذا كانت الصلاة جهرية لا يقرأ، وإذا كانت سرية يقرأ، وهذا أوسط الأقوال وأعدلها، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

                            تعليم الطفل قول: باسم الله:
                            السؤال: بعض الأطفال لا يقولون: باسم الله؟ الجواب: يسقط عن الطفل إذا لم يستطع أن يقول، لكن يذكره أمامه أبوه أو أمه من باب التعليم.

                            كيفية الأكل جماعة:
                            السؤال: إذا أكل جماعة مجتمعين ولكن في صحون صغيرة، كلٌ على حدة على مائدةٍ واحدة؟ الجواب: نعم. إنهم ليسوا متفرقين تماماً لكن لو اجتمعوا في صحنٍ واحد يكون أحسن.

                            عدم جواز رمي الأكل المكشوف:
                            السؤال: الأكل المكشوف من غير تعمد هل يرمى لأنه قد يخاف منه الداء الذي ينزل كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: سبق أن سألت هذا السؤال الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: لا. يؤكل أو إذا خشي أن يكون نزل عليه الداء، يطعم للبهائم ولا يرمى.

                            حكم اللحوم تذبح في ديار أهل الكتاب:
                            السؤال: يوجد في الأسواق كثير من اللحوم التي ذبحت في ديار أهل الكتاب؟ الجواب: إذا كان هؤلاء لم يعرف عنهم أنهم يقومون بقتلها بطرق غير شرعية فإننا نأكل، هذا الأصل من حل أكل طعام أهل الكتاب، لكن إذا وردت الأخبار، وتكاثرت الأنباء، وتعددت المصادر، وجاءت الروايات والصور وشهادات الناس الذين زاروا تلك المصانع، أنهم يصعقون ويرمون الدجاج في أحواض المياه المغلية، وهي حية، أو يضربون البقر بالمسدس مثلاً.. فيقتلونها فعند ذلك لا نأكل، لأن الشبهة صارت قوية جداً، الآن جاءت الأخبار وتكاثرت وأصلاً عندهم جمعيات الرفق بالحيوان، تمنع الذبح وتقول: رفقاً بالحيوان لا تذبح، ورفق بالإنسان الذي يأكل هذه الميتة!!

                            كيفية أكل التمر المسوس:
                            السؤال: ما كيفية أكل النبي صلى الله عليه وسلم التمر المسوس؟ الجواب: سبق أن ذكرنا الحديث الذي رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل التمر فتشه وأخرج ما فيه من السوس ثم أكله).

                            عيب الطعام بعد الانتهاء منه:
                            السؤال: ماذا لو عاب شخص الطعام بعد انتهائه بفترة؟ الجواب: إذاً دخلنا في عيب الطعام قبله أو بعده أو معه، ما دام أنه حصل العيب فهو عيب، ولكن إذا أراد أن يبين لصاحب المطعم عيوب الطعام لا بأس، فهذا لمصلحة المسلمين لكن الآن ما صار لأجل مصلحة المسلمين كأن يقول: يا أخي اهتم بطعامك أنتَ تفعل فيه كذا وكذا ونحو ذلك، فهذا لا بأس، هذا قصده نصيحة للمسلمين.

                            الفرق بين التربع والقرفصاء:
                            السؤال: هل التربع هو القرفصاء؟ الجواب: لا. يختلف التربع عن القرفصاء.

                            تحريم الجمع بين اليد اليمنى واليسرى في الأكل:
                            السؤال: استعمال الأكل باليد اليسرى مع اليمنى أثناء الأكل كأن يمسك باليد اليمنى طعاماً ويمسك باليد اليسرى شراباً؟ الجواب: العبرة بالذي يوصل الطعام إلى الفم، فإذا كانت اليسرى فهو حرام.

                            سؤال صاحب المطعم عن مصدر طعامه:
                            السؤال: هل أسأل صاحب المطعم عن الطعام؟ الجواب: إذا كثرت الشبه عن هذا اللحم الذي يستخدمه أو الدجاج فإنك تسأله، لكن إذا كان يستخدم طعاماً مستورداً من بلاد المسلمين لا تسأل، أو من بلاد أهل كتاب لا يعرف عنهم شيء غير الذبح فلا تسأل.

                            الملاعق والسكاكين من الذهب أو الفضة:
                            السؤال: الملاعق والسكاكين مصنوعة من الذهب والفضة؟ الجواب: حرام، لا تجوز، الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة فكأنما يجرجر في بطنه نيران جهنم، ومثلها الأواني والصحون والملاعق والسكاكين والشوك وكلها داخلة فيها.

                            اشتراط الأكل من الوليمة في إجابة الدعوة:
                            السؤال: هل إجابة دعوة الوليمة تقتضي الأكل من الطعام؟ الجواب: هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، بعضهم قال: يشترط لكي تكون مجيباً للدعوة أن تأكل من الطعام، الذي هو وليمة الزواج، وقال بعضهم: لا يشترط ولعله هو الأرجح.

                            أكل الشيطان مع من يأكل بشماله:
                            السؤال: هل الشيطان يأكل مع الذي يأكل بشماله حتى وإن كان قد ذكر اسم الله عند الأكل؟ الجواب: نعم. لأنه قال: الشيطان يأكل بشماله، ولا مانع أن يكون هناك عدة وسائل للشيطان تمكنه من الأكل مع الإنسان، منها: ألا يذكر اسم الله، ومنها: أن يأكل بشماله، وإذا أكل بشماله وما سمى الله شبع الشيطان.

                            حكم دفع الفوائد من البنك للضرائب:
                            السؤال: دفع الفوائد من البنك إلى الضرائب؟ الجواب: حرام. لأنه استفاد من الربا لشيءٍ وهو دفع الضرر عن نفسه. هذا بالنسبة لأسئلة هذا الدرس.. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


                            تعليق


                            • #15
                              محاضرة( آداب المزاح )للشيخ محمد المنجد

                              محاضرة( آداب المزاح )للشيخ محمد المنجد

                              عناصر الموضوع :
                              1. صور من ممازحة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
                              2. قراءة في كتاب المراح في المزاح للغزي
                              3. صور من مزاح السلف الصالح رضوان الله عليهم
                              4. ضوابط المزاح
                              5. آداب المزاح

                              المزاح بضم الميم: كلام يراد به المباسطة بحيث لا يفضي إلى أذى، والمزاح مباح، ولكن لا يستحب الإكثار منه؛ لأنه قد يؤدي إلى جرح مشاعر الآخرين أو أذيتهم، ولا تجوز أذية المسلمين، والمزاح له آداب وضوابط ذكرت في هذا الدرس. وقد وردت أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمازح أهله وأصحابه رضوان الله عليهم.
                              صور من ممازحة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
                              الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعــد: نشرع في آداب المزاح إن شاء الله تعالى, والمزاح -بضم الميم-: كلام يراد به المباسطة بحيث لا يفضي إلى أذى, فإذا بلغ إلى الإيذاء، فهو السخرية. والمزاح بكسر الميم مصدر, وقد ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه مزح، وكان يمزح عليه الصلاة السلام, فقد روى الترمذي في كتاب الشمائل المحمدية : باب ما جاء في صفة مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا ذا الأذنين). قال أبو أسامة الراوي: أي: يمازحه, وليس المقصود السخرية أو الاستهزاء، وإنما ممازحة منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل إنسان له أذنان, وهو حديث صحيح. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير -وهو أخوه لأمه-: يا أبا عمير ! ما فعل النغير). قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: وفِقه هذا الحديث:
                              1- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمازح.
                              2- وفيه: أنه كنَّى غلاماً صغيراً فقال له: ( يا أبا عمير ).
                              3- وفيه: أنه لا بأس أن يعطى الصبي الطير ليلعب به, وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير ما فعل النغير) لأنه كان له نغير -أي: طائر صغير- يلعب به فمات هذا الطائر، فحزن الغلام عليه، فمازحه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا أبا عمير ! ما فعل النغير). هذا الحديث فيه عدة فوائد، حتى قال الشافعي رحمه الله: إنه أمضى ليلة فاستخرج من هذا الحديث ألف فائدة بتوابعها ومتعلقاتها، وإلا فيصعب أن يستخرج منه بدونها ألفاً, لكن بما يمكن أن يترتب على ما يستخرج منه يكون فيه هذا العدد الكبير من الفوائد. وهذا الحديث -أيضاً- حديث صحيح, و أبو عمير توفي صغيراً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قالوا: يا رسول الله! إنك تداعبنا، قال: (نعم. غير أني لا أقول إلا حقاً). وعن أنس بن مالك أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: سأله دابة ليركبها- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني حاملك على ولد ناقة, فقال: يا رسول الله! ما أصنع بولد الناقة, فقال صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق) أي: أن الناقة مهما كبرت فهي بنت ناقة, قد ولدتها أمها من قبل, وهو حديث صحيح. وعنه أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً , وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى مسكنه في البادية، وإذا جاء هو من البادية أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدايا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن زاهراً باديتنا -أي: نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته- ونحن حاضروه) أي: نحن حاضروا المدينة له, نعطيه ما يستفيد من الحاضرة, وهو يعطينا ما نستفيد من البادية, وكان صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلاً دميماً رضي الله عنه، فهو قبيح الصورة، مليح السريرة، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه -كأنه أتى من البادية بشيء يبيعه في المدينة - فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره, فقال: من هذا؟ أرسلني -اتركني- فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم, فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه- أي: يحاول ويجتهد طيلة الوقت أن يلصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم، لبركته عليه الصلاة والسلام وبركة جسده الشريف- فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يشتري هذا العبد, فقال: يا رسول الله! إذاً والله تجدني كاسداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد) أو قال: (أنت عند الله غالٍ). وعن الحسن قال: أتت عجوزٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: (يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة, فقال: يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز, قال: فولت تبكي, فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً [الواقعة:35-37]) فجعلناهن عذارى، أعدنا إنشاءهن من جديد حتى تصبح الثيب في الدنيا عذراء يوم القيامة (عرباً) متحببات إلى أزواجهن, (أتراباً) في سن واحدة, وأهل الجنة أعمارهم جميعاً ثلاثة وثلاثين سنة كما جاء في الحديث الصحيح. إذاً: هذا يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح، ولكنه قال: (إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً) للتأكيد, وفي رواية: (إني وإن داعبتكم، فلا أقول إلا حقاً) وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قال -أيضاً- مبيناً شيئاً مما لا يجوز في المزاح، قال: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً). وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد قال في الحديث الصحيح: (أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً). إذاً: هذه الأحاديث تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يمزح، وهناك ضوابط مذكورة في هذه الأحاديث تدل على مزاحه عليه الصلاة والسلام, ومشروعية مزاحه عليه الصلاة والسلام.

                              قراءة في كتاب المراح في المزاح للغزي:
                              أما بالنسبة لآداب المزاح، فقد ذكر العلماء فيها أشياء كثيرة منهم: الماوردي رحمه الله في أدب الدنيا والدين , و للغزي رحمه الله كتاب بعنوان: المراح في المزاح , ونقتطف منه أجزاء في هذا الدرس. قال: "الحمد لله على جميل أفضاله وجزيل بره ونواله, والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وصحبه وآله, وبعد: فقد سئلت قديماً عن المزاح وما يكره منه وما يباح، فأجبت؛ لأنه مندوب إليه بين الإخوان والأصدقاء والخلان، لما فيه من ترويح القلوب والاستئناس المطلوب، بشرط ألا يكون فيه قذف ولا غيبة ولا انهماك فيه يسقط الحشمة ويقلل الهيبة". وسنستعرض بعد قليل ما هي الضوابط في المزاح. المسألة ليست مسألة إقناع الناس أن المزاح أمر شرعي, فالناس -على كل حال- متفلتين في هذا الجانب, الآن القضية قضية ضبط المزاح ضبطاً شرعياً, فذكرنا بعض الضوابط في الأحاديث وسنعيدها مع شيء من التعليق, و-أيضاً- سيأتي في كلام صاحب هذه الرسالة المراح للغزي رحمه الله وبعض الأشياء الأخرى, قال: "بشرط ألا يكون فيه قذف ولا غيبة ولا انهماكٌ فيه يسقط الحشمة ويقلل الهيبة، ولا فحشٌ يورث الضغينة ويحرك الحقود الكنينة, ثم طلب السائل من بعد مدة بسط الكلام في ذلك وإيضاح الدلائل، فقلت مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه ومفوضاً جميع أموري إليه: قد ورد في ذم المزاح ومدحه أخبار, فحملنا ما ورد في ذمه على ما إذا وصل إلى حد المثابرة والإكثار، فإنه إزاحةٌ عن الحقوق، ومخرجٌ إلى القطيعة والعقوق, يصم المازح، ويضيم الممازح". بعض العبارات ربما إذا قارن أحد بعض الكتب يجدها منقولة، فمثلاً يقول الماوردي في كتابه: اعلم أن للمزاح إزاحة عن الحقوق ومخرج إلى القطيعة والعقوق, يصم المازح، ويؤذي الممازح, والعبارة تقريباً موجودة, فوصمه المازح: أن يذهب عنه الهيبة والبهاء ويجرئ عليه الغوغاء والسفهاء, ويورث الغل في قلوب الأكابر والنبهاء, وأما إضامة الممازح، فلأنه إذا قوبل بفعل ممضٍ أو قول مستكره وسكت عليه أحزن قلبه، وأشغل فكره -الذي يمزح معه في الغالب أنه تخرج منه المزحة بطريقة استهزاء، فهذا سيسكت على مضر, وربما يجامل ويضحك مع البقية في المجلس لكن في الحقيقة ماذا في قلبه؟- قال: أو قابل عليه مع صاحبه حشمة وأدباً، وربما كان للعداوة والبغضاء سبباً, فإن الشر إذا فتح لا يستد, وسهم الأذى إذا أرسل لا يرتد, وقد يعرض العرض للهتك، والدماء للسفك, وربما تكون هذه المقاتلة التي ربما تصل إلى سفك الدماء أصلها مزحة, فحق العاقل يتقيه وينزه نفسه عن وصمة مساويه, وعلى ذلك يحمل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بها هنا بصيغة التضعيف: (لا تماري أخاك ولا تمازحه) لكن بما أنه لم يثبت فلا نتكلف الجواب عليه, لكن لو ثبت فنقول: ما معنى لا تمازحه وقد مازح النبي صلى الله عليه وسلم؟ فنقول: لا بد أن نحمل النهي عن الممازحة هنا على أمرٍ غير الذي ورد في الممازحة, فنقول: إن الممازحة كانت للدعابة والفكاهة والطرفة والملح، وكان فيها تطييب للنفوس، وتأليف للقلوب, وما ورد فيه النهي عنه إلا إذا كان فيه غيبة أو إيذاء للآخرين.. أو نحو ذلك.

                              أقوال عابرة في المزاح:
                              قال عمر بن عبد العزيز : " اتقوا المزاح فإنها حمقة تولد ضغينة ". وقال: " إن المزاح سباب إلا أن صاحبه يضحك ". وقيل: إنما سمي مزاحاً لأنه مُزيح عن الحق. وقال إبراهيم النخعي : المزاح من سخط أو بطر. وقيل في ميسور الحكم: المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب. وقال بعض الحكماء: من كثر مزاحه زالت هيبته ومن كثر خلافه طابت غيبته. وقال بعض البلغاء: من قلّ عقله كثر هزله. وذكر خالد بن صفوان المزاح -وهو من الخطباء المشهورين- فقال: يصك أحد صاحبه بأشد من الجندل، وينشقه أحرق من الخردل, ويفرغ عليه أحرَّ من المرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحه بعد كل هذا الإيذاء، يقول: إنما كنت أمزح معك. وقال بعض الحكماء: خير المزاح لا ينال، وشره لا يقال، فنظمها بعض الشعراء، فقال:
                              شر مزاح المرء لا يقـال وخيره يا صاح لا ينــال
                              وقد يقال كثـرة المـزاح من الفتى تدعو إلى التلاح
                              إن المزاح بـدؤه حـلاوة لكـنمـا آخـره عـداوة
                              يحقد منه الرجل الشريف ويجترئ بسخفه السخـيف
                              لا تمازح الشريف يحقد ولا الدنيء يجترئ ويفسد
                              وقال بعضهم: ربما يستفتح المزح مغاليق الحمم، أي: الموت. وقال بعضهم لولده: اقتصد في مزحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ السفهاء، وإن التقصير فيه يغض عنك المآنسين، ويوحش منك المصاحبين -يجعل بينك وبينهم وحشة- وإما أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم, أي: إذا كان المقصود بالمزاح نفي السآمة التي طرأت، مثلاً: حصل ملل في مجلس العلم، كأن يطول المجلس، فحصل فيه نوعٌ من السآمة، فأورد أحد الحاضرين طرفة قصد بهذه المزحة إزالة السآمة، فهذا أمرٌ محمود، وإما أن ينفي بالمزاح ما طرأ عليه من سأم، أو حدث به من همَّ أو غم، فقد قيل: لا بد للمصدور أن ينفس، أي: الذي في صدره شيء لا بد له من تنفيس. وقال بعض الشعراء:
                              أروق القلب ببعض الهـ زل تجاهل مني بغير جـهل
                              أمزح فيه مزح أهل فضـ ل والمزح أحياناً جلاء العقل
                              وقال أبو الفتح البستي رحمه الله وهو صاحب القصيدة المشهورة:
                              زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران
                              أفض طبعك المكـدود بالجـد راحةً يجم وعلله بشيءٍ من المزح
                              ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما تعطي الطعام من الملـح
                              إذاً: فليكن المزاح في الكلام مثل الملح في الطعام, وإذا لم يوجد بالمرة كان الكلام فيه شيء من السآمة, وإذا كثر أفسد، مثلما أن الملح إذا كثر في الطعام أفسده وما عاد مستساغاً، إما أن يكون غير مستساغ أو ممجوج.

                              مزاحه صلى الله عليه وسلم :
                              ومما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث. حديث: (صح جسمك يا خوات) وهذا الحديث رواه الحاكم، وفي سنده موسى بن زكريا التستري , قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال : موسى بن زكريا التستري الذي يروي عن شباب العصفري ونحوه تكلم فيه الدارقطني , وحكى الحاكم عن الدارقطني أنه متروك، وقال ابن حجر في لسان الميزان عن موسى بن زكريا التستري الذي هو في إسناد (صح جسمك يا خوات) قال: الذي يروي عن شَبَاب العصفري ونحوه تكلم فيه الدارقطني، وحكى الحاكم عن الدارقطني بأنه متروك, وهذه العبارة في ميزان الاعتدال و لسان الميزان لـابن حجر. إذاً: علة هذا السند هو موسى بن زكريا التستري . ولنأت الآن إلى بعض الأحاديث التي وردت مما أورده المصنف رحمه الله وغيره, ونريد معرفة صحة هذه الأحاديث من مزاح النبي عليه الصلاة والسلام, عن أم أيمن أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لزوجها، فقال لها: (من زوجك؟ قالت: فلان, فقال: الذي في عينه بياض؟ فقالت: أي رسول الله! ما بعينه بياض, قال: بلى. إن بعينه بياضاً, فقالت: لا والله, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما من أحدٍ إلا في عينه بياض)، وفي رواية: (فانصرفت عجلة إلى زوجها، وجعلت تتأمل عينيه, فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في عينيك بياضاً, فقال: أما ترين بياض عيني أكثر من سوادها). وكذلك قد جاء أنه مزح صلى الله عليه وسلم مع محمود بن الربيع ، والقصة معروفة وهي في الصحيح، ومجّ مجّة من دلوٍ من ماء في وجهه, فداعبه بها أو مازحه بها. وكذلك مما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال للشفاء بنت عبد الله : (علمي حفصة رقية النملة) وهي قروح تخرج في الجنب, هذه الرقية يقول فيها بعض العلماء: إن فيها إشارة إلى مزاحه صلى الله عليه وسلم ومداعبته لزوجته حفصة , قالوا: إنها كانت -أي: الرقية- كلاماً تقوله النساء مما لا يضر ولا ينفع, وهو أنهم كانوا يقولون:
                              العروس تحتفـل وتختضـب وتكتحـل
                              وكل شيء تفتعل غير ألَّا تعصي الرجل
                              فقيل: إنه عليه الصلاة والسلام أراد مزاحاً ولغزاً في الكلام؛ لأنه كان قد ألقى إلى حفصة سراً، فأفشته، فقال للشفاء : (علميها رقية النملة)لأن في رقية النملة هذه العبارة: "غير ألَّا تعصي الرجل" وأنها قد عصته بإفشاء سره. وقال البعض: ليس الأمر مزاحاً إنما تعليماً، وأنه قال: كما علمتها الكتابة، وأن هذه الرقية رقية جادة وليست مزاحاًَ على الاختلاف في شرح هذا الحديث, لكن هذا قول من الأقوال التي وردت في شرحه. وعن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عالياً، فلما دخل تناولها ليلطمها -أي: أبو بكر أراد أن يؤدب بنته, كيف ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم؟!- وقال: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبسه -أي: يمنع أبا بكر من ضرب عائشة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر لـعائشة : (كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟ قال: فمكث أبو بكر أياماً، ثم استأذن، فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد فعلنا) رواه أبو داود . وثبت من ممازحته عليه الصلاة والسلام وتلطيف الجو بين نسائه، والضرائر يكون بينهن ما يكون, عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بيت عائشة ، فبعث إليه بعض نسائه بقصعة - فغارت عائشة : كيف تأتي بصحن طعام في بيتي وفي يومي؟ تتجرأ هذه الجرأة- فأخذت عائشة القصعة وألقتها، فكسرتها، من غيرتها رضي الله عنها, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم -في البخاري وغيره- يضم الطعام ويجمعه ويجمع كسر الإناء, ويقول: (غارت أمكم) أي: عائشة ، لأنها أم المؤمنين، هذا من مزاحه عليه الصلاة والسلام، ومن ملاطفته أو من تلطيف الجو المتكهم نتيجة الغيرة بين نسائه. يقول العلماء: "إن الغيرة يعذر فيها صاحبها أو صاحبتها ما لا يعذر الشخص الذي لا يكون عنده هذه الغيرة, حتى قيل: الغيرة لا ترى أسفل الوادي من أعلاه" أي: إذا بلغت بها الغيرة شدتها لا تعرف أسفل الوادي من أعلاه, تنقلب الأمور عندها وتنعكس. ولذلك ربما يغتفر منها في الغيرة ما لا يغتفر من المرأة العادية, هذا فيه إشارة إلى أن الشخص -مثلاً- لو تزوج امرأة واحدة، ثم تزوج عليها أخرى فحدثت غيرة شديدة من الأولى أو الثانية ولكن الغيرة من الأولى أكثر، فساء تصرفها، فعليه أن يحتمل ذلك ويعذرها لأجل ما فيها من الغيرة, كما هو مركبٌ في طبع النساء, فعليه أن يعذر في هذه الحالة, فلما جاءت قصعة عائشة بعث بها إلى صاحبة القصعة التي كسرتها، وأعطى عائشة القصعة المكسورة, فعدل عليه الصلاة والسلام, وعوض صاحبة القصعة المكسورة بقصعة المرأة التي كسرتها. وكذلك فإنه قد جاء في حديث رواه أبو يعلى، وقال الحافظ العراقي : إسناده جيد, أن عائشة قالت: (كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم و سودة , فصنعت خزيراً -الخزير: نوع من الطعام يستخدم فيه اللحم والدقيق- فجئت به، فقلت لـسودة : كلي, فقالت: لا أحبه- فظنت عائشة أنها قالت: لا أحبه؛ لأنها لا تريد أن تأكل من صنعها وأنها نفرت من صنعها، أو أن فيها إذلالاً أو في تصرفها شيء- فقالت: والله لتأكلين أو لألطخنّ وجهك -كل هذه الأشياء لا بد أن تفهم في قضية الغيرة الموجودة بين النساء, والإنسان العادي لا يحتمل ما يحصل- فقالت: ما أنا بباغية, فأخذت شيئاً من الصحفة فلطخت به وجهها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما بيني وبينها, فخفض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه لتستقيد مني, فتناولت من الصفحة شيئاً، فمسحت به وجهي, وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك). وجاء كذلك عند أبي داود عن أسيد بن حضير -رجل من الأنصار- قال: بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح، وبينما هو يضحكهم، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود, فقال: أصبرني، فقال: (اصطبر -أي: أنت طعنتني وأنا أريد أن أقتص- قال الأعرابي: إن عليك قميصاً يا رسول الله! وليس علي قميص -لا بد من العدل، أنت طعنتني وليس علي قميص، في اللحم مباشرة, وأنا أريد أن يكون في اللحم مباشرة- فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبل كشحه- أي: يقبل جلده وبياضه- قال: إنما أردت هذا يا رسول الله) الحديث رواه أبو داود في كتاب الأدب. ومن أمثلة الممازحات التي ليست في موضعها وتصلح أن تكون مثالاً يأتينا في الضوابط، ما رواه أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علقمة بن مجزر على بعثٍ وأنا فيهم, فلما انتهى إلى رأس غزاته، أو كان ببعض الطريق استأذنته طائفة من الجيش فأذن لهم، وأمّر عليهم عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي ، فكنت فيمن غزا معهم, فلما كنت ببعض الطريق أوقد القوم ناراً ليصطلوا، أو ليصنعوا عليها صنيعاً- أي: يطبخوا عليها- فقال عبد الله- وكانت فيه دعابة أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى. قال: فما أنا بآمركم بشيء إلا صنعتموه, قالوا: نعم. قال: فإني أعزم عليكم إلا تواثبتم في هذه النار - أي: تدخلوا في هذه النار- فقام أناس فتحجزوا، فلما ظن أنهم واثبون- أي: أنهم فعلاً سيثبون بها- قال: أمسكوا على أنفسكم، فإنما كنت أمزح معكم, فلما قدمنا -أي: على النبي صلى الله عليه وسلم- ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه) الأمير إذا أمر بمعصية الله فلا تطيعوه, أنتم تريدون الهرب من النار، فكيف تقعون فيها؟ هذا الحديث موجود في أحد الكتب الأربعة؛ أبو داود ، أو النسائي ، أو الترمذي ، أو ابن ماجة. وهذا حديث آخر رواه ابن ماجة، وفيه ضعف؛ لأن في إسناده زمعة بن صالح وهو متكلمٌ فيه, أن أبا بكر خرج في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام ومعه نعيمان و سويبق بن حرملة , وكانا قد شهدا بدراً , وكان نعيمان على الزاد، وكان سويبق رجلاً مزاحاًَ، فقال لـنعيمان : أطعمني، قال: حتى يجيء أبو بكر , قال: فلأغيظنك -أي: سأضع لك مقلباً- قال: فمروا بقوم، فقال لهم سويبق: تشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم. قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم: إني حرٌ, فإذا قال لكم هذه المقالة تركتموه، فلا تفسدوا علي عبدي, قالوا: لا بل نشتريه منك, فاشتروه منه بعشر قرائص -بعشر من الإبل- قال: خذوه, ثم أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً، فقال

                              صور من مزاح السلف الصالح رضوان الله عليهم:
                              ومما ورد في مزاح أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ما رواه البخاري عن بكر بن عبد الله المزني قال: [كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمازحون حتى يتبادحون بالبطيخ، فإذا حزبهم أمر كانوا هم الرجال] وهذا حديث صحيح رواه البخاري في الأدب المفرد , وهذا ليس فيه إهدار للنعمة، أو أنه يؤذي، بمعنى: أنه يضربه بشيء ثقيل, فلو أنه حصل في بعض المناسبات أن رماه بقشرته -مثلاً- دون أن يؤذيه فلا بأس, لكن المقصود أنه كان في بعض المواقف يحصل شيء من هذا, قد يكون في الأسفار عندما يكون الجو فيه تعب, فيكون المزاح في السفر مما يقبل لأن في السفر شدة وعناء, والملاطفة والممازحة في السفر أوكد من الحضر, فيكون مقبولاً. وسئل النخعي : هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم. والإيمان في قلوبهم كالجبال الرواسي, والناس الآن قد يغرقون في الضحك، لكن ما عندهم إيمان لا مثل الجبال الرواسي ولا مثل القدور الرواسي. وكذلك فإنه قد جاء في مزاح عدد من السلف آثار، فمن ذلك: ما رواه ابن أبي المليح، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب : [إني ليعجبني أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، فإذا أربد منه حاجة وجد رجلاً] أي: أنه يكون عنده تواضع لأهله، ولين ورفق, ولكن إذا كانت حاجة المرأة إلى رجل كان رجلاً, ونظر ابن الخطاب إلى أعرابي يصلي صلاة خفيفة، فلما قضاها، قال: اللهم زوجني بحور العين, قال عمر: أسأت النقد، وأعظمت الخطبة, خطبت الحور العين، وما هو المقابل؟ صلاة سريعة بلا طمأنينة. وكذلك مما جاء عن عيينة بن حصن أنه شكا إلى نعيمان -و نعيمان كان فيه طرافة- صعوبة الصيام, فقال: صم الليل, فروي أن عيينه دخل على عثمان وهو يفطر في شهر رمضان, فقال: العشاء، فقال: أنا صائم, فقال عثمان: الصوم بالليل, فقال: هو أخف عليّ, فيقال: إن عثمان قال: هذه إحدى هنات نعيمان -وكبير السن الذي لا يستطيع أن يصوم يشرع له الإفطار ويطعم: فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]. وقال علي بن أبي طالب: [لا بأس بالمفاكهة يخرج بها الرجل عن حد العبوس] أحياناً تكون هناك للمازحة مناسبات، وتكون مؤكدة ومقبولة، كأن يكون هناك رجل عابس أو مقطب, فالإنسان يمازحه ليذهب عنه تقطيبه أو عبوسه, وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دخل على النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام مهموم وفيه غم بسبب ما حصل مع زوجاته, قال عمر: [أردت أن أقول شيئاً أضحك به النبي صلى الله عليه وسلم] فهو تقصد ذلك في هذه المناسبة. وكذلك روي أن علياً رضي الله عنه جاءه رجل يشكو إليه، يقول: إني احتلمت على أمي -أي: إني رأيت أني أزني بأمي- فقال: أقيموه بالشمس واضربوا ظله حد الزنا, كأنه يقول: أنا مهموم، وحصلت لي مصيبة رأيت في المنام أني وقعت على أمي, ماذا أفعل؟ ما هو الحكم الآن؟ و علي معروف في القضاء رضي الله عنه, قال: أقيموه في الشمس واجلدوا ظله. وروى الأعمش عن أبي وائل أنه قال: مضيت مع صاحب لي نزور سلمان ، فقدم إلينا خبز شعير وملحاً جريشاً, فقال صاحبي: لو كان في هذا الملح زعتر كان أطيب, فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد الله الذي قنعنا بما رزقنا, فقال سلمان : لو قنعت بما رزقت لم تكن مطهرتي مرهونة -أي: من أجل أن آتي لك بالزعتر رهنت مطهرتي، لأنه ليس عندي قيمة الزعتر- وأنت تتمنى الزعتر على صاحب البيت، فتسبب ذلك أن المطهرة مرهونة الآن من أجلك. وكذلك جاء من الطرف عن الشعبيوكان الشعبي من العلماء الكبار، لكن كان مزاحاً- فمما جاء عن الشعبي أنه سئل عن المسح على اللحية؟ فقال: خللها بالأصابع، قال: أخاف ألا تبلها- بعض العلماء المفتين قد يمزح مع السائل مزحة لكن لها معنى ومغزى وليست فقط للضحك- قال: أخاف ألا تبلها -هذا تنطع- قال الشعبي : إن خفت، فانقعها من أول الليل!! وسأله آخر: هل يجوز للمحرم أن يحك بدنه؟ قال: نعم. قال: مقدار كم؟ قال: حتى يبدو العظم! وروى الشعبي حديثاً (تسحروا ولو بأن يضع أحدكم أصبعه على التراب ثم يضعها في فيه) فقال رجل: أي الأصابع؟ فتناول الشعبي إبهام رجله، وقال: هذه! وقال رجل: ما اسم امرأة إبليس, قال الشعبي: ذاك نكاح ما شهدناه. وروي أن خياطاً مرَّ بـالشعبي وهو مع امرأةٍ في المسجد، فقال: أيكما الشعبي؟ هذا مغفل إلى هذه الدرجة لا يعرف الشعبي! فأشار إليه الشعبي: أن هذه! وكذلك من الذين كانوا معروفين بالمزاح الأعمش رحمه الله, قال ابن عياش : رأيت على الأعمش فروة مقلوبة صوفها من الخارج, فأصابنا مطر، فمررنا على كلب، فتنحى الأعمش وقال: لا يحسب أني شاة. وقع بين الأعمش وامرأته وحشة، فسأل بعض أصحابه أن يصلح بينهما, فقال هذا الصاحب لزوجة ذاك محاولاً تلطيف ما بينهما, قال: هذا سيدنا وشيخنا أبو محمد فلا يزهدنك فيه عمش عينيه، وحموشة ساقيه، وضعف ركبتيه، وقزل رجليه، وجعل يصف!! فقال الأعمش : قم عنا فقد ذكرت لها من عيوبي ما لم تكن تعرفه. وجاء رجل إلى أبي حنيفة ، فقال له: إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل فإلى القبلة أتوجه أم إلى غيرها؟ فقال له: الأفضل أن يكون وجهك إلى جهة ثيابك لئلا تسرق! قال الربيع : دخلت على الشافعي وهو مريض، فقلت: قوِّى الله ضعفك؟ -فقصده واضح أي: أن يبدلك الله بدلاً من الضعف قوة, يعني: بدل المرض صحة- فقال الشافعي رحمه الله: لو قوى ضعفي قتلتني, لأن العبارة قد تفهم قوى الله ضعفك أي زاده وجعله مضاعفاً, قال قلت: والله ما أردت إلا الخير, قال: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير. فقلت: ما أقول؟ أي: علمني عبارة بدل هذه العبارة، فلاطفه بهذه الملاطفة. قال عثمان الصيدلاني: شهدت إبراهيم الحربي وقد أتاه حائكٌ في يوم عيد، فقال: يا أبا إسحاق! ما تقول في رجل صلّى صلاة العيد ولم يشترِ ناطفاً ما الذي يجب عليه؟ الناطف: نوع من الحلوى, يجعل من السكر ويدهن به الأشياء التي تصنع من العجين فانظر إلى سذاجة هذا الخياط. فتبسم إبراهيم ، ثم قال: يتصدق بدرهمين, فلما مضى قال: ما علينا أن نفرح المساكين من مال هذا الأحمق الذي يسأل مثل هذا السؤال! وهناك كثير من القصص التي وردت عن السلف في مسألة المزاح, وحسبنا منها ما ذكرنا.

                              ضوابط المزاح:
                              نذكر في ختام هذا الدرس ضوابط المزاح: أولاً: ألاَّ يكون فيه كذب, امزح ولكن لا تقول إلا حقاً, رواية، حادثة صحيحة فيها طرفة تذكرها, أما أن تختلق أشياء لإضحاك الناس فلا. ثانياً: ألا يكون فيه غيبة. ثالثاً: ألا يكون فيه قذف. رابعاً: أن يكون في الوقت المناسب, فلا يكون -مثلاً- في وقت الوعظ، أو التذكير بالموت، أو جلسة علم وجِدٍّ، ويأتي في منتصف هذا الجو العلمي أو الوعظي من يلقي بطرفة، فهذا من أسوأ ما يمكن أن يحدث في مجالس العلم. خامساً: عدم الانهماك والاسترسال والمبالغة والإطالة. سادساً: عدم الترويع وعدم الإضرار به, فلا يأتي شخص ويخطف مفتاح سيارة شخص آخر أو يسرق, أو يأخذ منه شيئاً ثميناً، فهذا فيه ترويع وخوف، وربما يبلغ الشرطة، وفي الأخير يأتي هذا ويقول: كنت أمزح, فهذا لا يكون بحال. سابعاً: ألا يكون فيه فحش, بعض النكت التي تُسمى عند العوام نكتاً هي عبارة عن قلة حياء، وقلة أدب وبذاءة, وتكون قبيحة، وهي كثيرة جداً ومنتشرة بين الناس في المجالس, كل الطرف التي يأتون بها متعلقة بالعورات المغلظة, وربما بلغت البذاءة ببعضهم أن يأتيك بطرفة فيما يتعلق بجماع الرجل بزوجته, أو ما يكون بينهما من الأشياء, والله لا يحب الجهر بالسوء من القول, ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً أو متفحشاً. ثامناً: ألا يكون فيها استهزاء بشيء من الدين، كالاستهزاء بالكتاب العزيز، أو بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو بالملائكة, فبعض النكت مذكور فيها استهزاء بالملائكة، أو الجنة والنار، أو عذاب القبر، فهذه كثيرة بين الناس, يقول: عندي نكتة ثم يأتي بشيء فيه ذكر لأشياء من العقيدة أو من اليوم الآخر يجعله في هيئة طرفة ونكتة. تاسعاً: ألا يكون مع السفهاء، لأنه إذا مازح السفهاء ردوا عليه سفاهة, فأضر ذلك بشخصيته. عاشراً: أن يراعي شعور الآخرين, لأنه قد يأتي بمزحة لكن تجرح شعور الذي أمامه, ويجب على الإنسان أن يكون أدبياً يراعي مشاعر الخلق, وإذا أراد أن يمازح لا يزعجه ولا يجعله يغضب منه, وليست القضية إضحاك أكبر عدد في المجلس ولو كان فيها إيذاء للآخرين, وكثير من المزحات يكون فيها ضحايا, يعني: ضحك من في المجلس، لكن صار بينك وبين الذي مزحت به كما يقال في لغة العرب: تطنـزت به, هذا موجود في كثير من النكت وطرائف الناس, وربما قام من المجلس وقد خاصمهم وهجرهم أو لم يكلمه من أجل أنه جعل منه أضحوكة في المجلس, وهذا يقع كثيراً, وهذا لا شك أنه إيذاء للمؤمنين, وإيذاء المؤمنين حرام وسخرية، قال تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ [الحجرات:11] وبعض الناس متخصص في هذه القضية, المسألة أنه كيف يجعل الآخرين أضحوكة.. كيف يهزأ بهم في المجلس، كيف يجعلهم مضحكة في الناس, وهذا حرام لا يجوز. حادي عشر: ألا يمازح مع الكبير والعالم بما لا يليق بمقامه أن تمازحه في هذا المجال, ممكن أن يمازح شخص صديقه، لكن قد لا يناسبه أن يمزح مع كبير في السن في المجلس، فأنت عندما تمازحه فكأنك لا تحترمه ولا توقره, مزاحك له تنبئ عن عدم توقيرك له. ثانية عشر: ألَّا يكون فيه إغراق في الضحك، أو يؤدي إلى الإغراق في الضحك, كل مزاح النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إغراق في الضحك حتى ينقلب الإنسان على قفاه, أو على عقبيه وهو يضحك, بل مزاح معتدل. ثالثة عشر: ألَّا يضر بشخصه بين الناس, فيكون مضحكة أو مهرج القوم، حتى إذا أراد أحد أن يضحك -كما يقولون- يأتي إلى هذا المهرج، ويقولون: ما هو آخر شيء عندك؟ أعطنا موقفاً، وكثير من المقابلات الجادة مع بعض المشايخ يكون فيها سؤالاً، مثل أن يقول: اذكر لنا موقفاً طريفاً مر بك؟ نكتفي بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يؤدبنا بآداب شريعته, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.


                              تعليق

                              يعمل...
                              X