إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سلسلة الاداب الشرعية للشيخ محمد المنجد // مفهرس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    محاضرة( آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل )للشيخ محمد المنجد

    محاضرة( آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل )للشيخ محمد المنجد

    عناصر الموضوع:
    1. الأدلة الواردة في المصافحة والمعانقة
    2. فضل المصافحة ومشروعية معانقة الأولاد وتقبيلهم
    3. تقبيل الميت والحجر الأسود
    4. تعريف المصافحة وحكم مصافحة النساء الأجنبيات
    5. حكم مصافحة الكفار
    6. بعض أحكام المصافحة
    7. بعض أحكام التقبيل
    8. الأدلة الواردة في مشروعية التقبيل في كتاب محمد بن إبراهيم المقرئ
    9. أحوال التقبيل
    10. الأسئلة

    آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل:
    ذكر الشيخ حفظه الله في هذه المادة أحكاماً وآداباً في المصافحة والمعانقة والتقبيل، فبدأ بإيراد الأدلة الواردة في ذلك، ثم بين ما يستحب منها وما يباح وما يكره، وبيَّن أن منها ما يحرم، وذكر الأدلة المبينة لذلك من فعل السلف الصالح رضوان الله عليهم.

    الأدلة الواردة في المصافحة والمعانقة:
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: سنتحدث اليوم -إن شاء الله تعالى- عن أدب آخر من الآداب الشرعية التي حفلت بها هذه الشريعة المطهرة، ألا وهو (أدب المصافحة والمعانقة والتقبيل) ولاشك أن هذا الأدب مما يحتاج إليه خصوصاً عند لقاء الإخوان وعند المقابلة، وكذلك مع أهل العلم ومع الأقارب، وقد جاء في المصافحة والمعانقة والتقبيل عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وعن السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وسنذكر بعض هذه الأحاديث مع التعليق عليها، وذكر بعض ما ذكره أهل العلم في هذه المسألة. فأما بالنسبة لهذه الآداب فقد ذكرها عدد من أهل العلم في كتبهم، ومنهم بعض الأئمة الستة في مصنفاتهم، وذكرها كذلك البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: الأدب المفرد ، فقال: باب مصافحة الصبيان، عن سلمة بن وردان قال: [رأيت أنس بن مالك يصافح الناس، فسألني من أنت؟ فقلت: مولى لبني ليث، فمسح على رأسي ثلاثاً، وقال: بارك الله فيك]. وعن أنس بن مالك قال: (لما جاء أهل اليمن قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أقبل أهل اليمن وهم أرق قلوباً منكم) وهم أول من جاء بالمصافحة. وقد صح موقوفاً ولم يصح مرفوعاً عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: [من تمام التحية أن تصافح أخاك] وقد روي مرفوعاً لكنه ضعيف. وأما بالنسبة للمعانقة فقد ذكر البخاري رحمه الله في باب المعانقة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابتعت بعيراً، فشددت إليه رحلي شهراً حتى قدمت الشام -أي سافر شهراً كاملاً من أجل سماع الحديث- فإذا عبد الله بن أنيس ، فبعثت إليه أن جابراً بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله ؟ فقلت: نعم. فخرج فاعتنقني -وهو موضع الشاهد، هذا قادم من سفر فخرج إليه أخوه الصحابي الآخر فاعتنقه- قلت: حديث بلغني لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت -أي: قبل أن أسمعه منك- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد -أو الناس- عراة غرلاً بهماً، قلنا: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد أحسبه قال: كما يسمعه من قرب..) وهذا من عجائب يوم القيامة أن الله ينادي الناس بصوت يسمعه البعيد كما يسمعه القريب، فإن العادة جرت أن البعيد يسمع أضعف من القريب، والقريب يسمع أشد من البعيد وأوضح، لكن الله سبحانه وتعالى عندما ينادي يوم القيامة ينادي بصوت يسمعه البعيد كما يسمعه القريب. يقول سبحانه وتعالى: (أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قلت: وكيف؟ وإنما نأتي الله عراة بهماً -ليس عندنا شيء حتى الثياب- قال: بالحسنات والسيئات) ورواه البخاري أيضاً تعليقاً في الصحيح ، ورواه موصولاً هنا في الأدب المفرد بإسناد حسن. وذكر رحمه الله حديثاً في باب الرجل يقبل ابنته، وذكر في باب تقبيل اليد، عن عبد الرحمن بن رزين ، قال: [ مررنا بـالربذة ، فقيل لنا: هاهنا سلمة بن الأكوع ، فأتيته فسلمنا عليه، فأخرج يديه، فقال: بايعت بهاتين نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخرج كفاً له ضخمة كأنها كف بعير -لأن سلمة رضي الله عنه كان رجلاً ضخماً قوي البنية- فقمنا إليها فقبلناها ]. حديث حسن الإسناد. هذا ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى في موضوع المعانقة والمصافحة والتقبيل. أما بالنسبة لما رواه غيره من أهل العلم أو رواه هو -أي البخاري- في صحيحه فقد جاءت هناك أحاديث كثيرة، فمن ذلك على سبيل المثال: ما ورد في رواية الصحيحين في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: [ فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة، ويقولون: لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لـطلحة ]. الشاهد من الحديث قوله: [ صافحني ] عندما لقيه قام إليه فصافحه. وأما ما ورد أيضاً في سنن أبي داود ، ولكنه حديث مرسل فيه ضعف، وفي الرواية: عن رجل من عنـزة أنه قال لـأبي ذر حيث أخرج من الشام : (إني أريد أن أسألك عن حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إذاً أخبرك به إلا أن يكون سراً، قلت: إنه ليس بسر، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إليَّ ذات يومٍ ولم أكن في أهلي، فلما جئت أخبرت أنه أرسل لي، فأتيت وهو على سريره فالتزمني، فكانت تلك أجود وأجود) لكن هذا الحديث في سنده ضعف. ومن الأحاديث التي جاءت عن أهل اليمن -أنهم أول من جاء بالمصافحة- ما رواه أبو داود رحمه الله بالإضافة لما تقدم مما سمعناه في الأدب المفرد للبخاري رحمه الله، قال أبو داود: روي عن أنس بن مالك قال: (لما جاء أهل اليمن ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة) المصافحة معروفة قبل أن يأتي أهل اليمن ، لكن أول من أفشاها ونشرها هم أهل اليمن، كما ذكر شراح الحديث. وكذلك من الأحاديث التي وردت في هذا، ما رواه الترمذي رحمه الله تعالى عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جنب، قال: فانبجست -أي: فانخنست فاغتسلت، لم يصافح أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم لما لقيه وهو على جنابة، ذهب ورجع إلى البيت واغتسل- ثم جئت، فقال أين كنت؟ قال: إني كنت جنباً، قال: إن المسلم لا ينجس) تحرج من النبي عليه الصلاة والسلام وهو على جنابة، فلما سأله النبي عليه الصلاة والسلام لماذا ذهب وأخبره بما وجد من الحرج، وأنه ذهب ليغتسل، قال عليه الصلاة والسلام: (إن المسلم لا ينجس). وقد وردت عدة أحاديث في هذا الموضوع، وقال الترمذي رحمه الله بعد سياق الحديث: وقد رخص غير واحد من أهل العلم في مصافحة الجنب ولم يروا بعرق الجنب والحائض بأساً، ولذلك عنون بعضهم في كتاب الطهارة: باب في الجنب يصافح، والمقصود بهذه الترجمة أن الجنب ليس عليه بأس أن يصافح غيره. ومما ورد في فضل المصافحة وما فيها من الأجر العظيم، ما رواه أبو داود وغيره عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا) وقد رواه الترمذي رحمه الله تعالى كذلك في سننه ، وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب، فالحديث صحيح وله ألفاظ كثيرة، وقد جاء: (أنهما إذا تصافحا فأخذ كل منهما بيد الآخر، لا يأخذ بها إلا لله -وهذا الشرط مهم- تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر في الخريف). إذاً: من فضل أخذ اليد والمصافحة مغفرة الذنوب، وتتحات الخطايا بكثرة. وكذلك مما ذكر الدارمي -رحمه الله- في كتاب الطهارة عن حماد قال: سألت إبراهيم عن مصافحة اليهودي والنصراني والمجوسي والحائض؟ فلم يرَ فيه وضوءاً، أي: لو صافح امرأته أو أخته وهي حائض مثلاً، أو صافح كافراً فإنه لا يلزمه الوضوء، لأن مجرد المصافحة ليس من نواقض الوضوء. أما مسألة أن المصافحة كانت شائعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يدل على ذلك الحديث الذي رواه البخاري و الترمذي عن قتادة ، قال: [قلت لـأنس بن مالك : هل كانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم]. إذاً: كانت المصافحة معروفة وموجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وبالنسبة لالتقاء المسلم مع أخيه لو حصل، فإن المشروع فيه المصافحة في الأحوال العادية، ولذلك جاء عند ابن ماجة من حديث أنس بن مالك قال: (قلنا: يا رسول الله! أينحني بعضنا لبعض؟ قال: لا. قلنا: أيعانق بعضنا بعضاً؟ قال: لا. ولكن تصافحوا). وكذلك روى الترمذي رحمه الله عن أنس بن مالك قال: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا. قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن. إذاً: هذا الحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن السنة إذا التقى الإنسان بأخيه المسلم أنه لا يعانقه ولا يقبله ولا ينحني له، وإنما يصافحه مصافحة.

    فضل المصافحة ومشروعية معانقة الأولاد وتقبيلهم:
    جاء كذلك في الأحاديث أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) وهذا الحديث قد رواه الإمام مالك رحمه الله في الموطأ ، لكن إسناده معضل، فقد سقط من إسناده رجلان، وقد جاء الحديث من وجوه، حتى قال ابن عبد البر : هذا يتصل من وجوه شتى حسان، وقال ابن المبارك: حديث مالك جيد، فعند ابن عبد البر -رحمه الله- أن هذا الحديث قد جاء موصولاً من طرق شتى، فالفائدة منه هي قوله: ( تصافحوا يذهب الغل ) فالمصافحة تذهب الحقد والعداوة التي تكون فيها بعض النفوس ممتلئة على بعض. ولذلك فالعناية بها لها فوائد، فقد تبين لنا أن من فوائد المصافحة أنها من أسباب مغفرة الذنوب والمحبة، وإذهاب الغل والحقد، وقد جاء كذلك في موضوع المعانقة والتقبيل عدة أحاديث أخرى، فقد روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه في كتاب الاستئذان، باب المصافحة، هذا أيضاً يضاف إلى المصافحة حديث ابن مسعود في التشهد، عندما علمه النبي صلى الله عليه وسلم التشهد، قال: (وكفي بين كفيه). وقد جاء -أيضاً- في موضوع المعانقة، ما جاء في كتاب المناقب، في صحيح البخاري ، باب مناقب الحسن و الحسين رضي الله عنهما، قال نافع بن جبير: عن أبي هريرة : (عانق النبي صلى الله عليه وسلم الحسن ) وقد رواه هنا معلقاً، ورواه أيضاً موصولاً كما سيأتي، وهذا الحديث الموصول هو ما رواه في كتاب البيوع، عن أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى أتى سوق بني قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة ، فقال: أثم لكع، أثم لكع، فحبسته قليلاً، فظننت أنها تلبسه سخاباً -وهو نوع من الملابس، تجهز الولد للقاء جده وهو النبي صلى الله عليه وسلم، أو تغسله حتى يخرج إليه طيب الرائحة- فجاء يشتد حتى عانقه وقبله) وهذا فيما يتعلق بموضوعنا في معانقة الصغار وتقبيلهم، ومعانقة الجد لحفيده وتقبيله. وموضوع الصغار يختلف عن موضوع الكبار، مثل الولد والحفيد يعانقه ويقبله ويشمه، كما جاء في الحديث الصحيح، لكن هذا يختلف عما يفعل مع الكبار، فالصغار من السنة أن يشمه ويقبله ويعانقه إذا لقيه كابنه وحفيده عانقه وقبله وقال: (اللهم أحببه وأحب من يحبه). وقد جاء هذا الحديث أيضاً في صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة ، فقال: أثم لكع، أثم لكع -أي: حسناً، وفي هذه الرواية تعيين الصبي الذي خرج إليه أنه الحسن بن علي رضي الله عنه -فظننا أنه إنما تحبسه أمه، لأن تغسله وتلبسه سخاباً- فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أحبه فأحبه وأحبب من يحبه) هذا بالنسبة لما فعله عليه الصلاة والسلام بحفيده. أما ما فعله عليه الصلاة والسلام مع ولده إبراهيم، فقد جاء في الحديث الصحيح في البخاري ، عن أنس بن مالك قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القيني ، وكان ظئراً لـإبراهيم -فهذا الحداد رضي الله عنه كان عنده إبراهيم يرتضع، مكث عنده فترة من الزمن- فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه...) الحديث. إذاً: في هذا الحديث مشروعية شم الأولاد وتقبيلهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وقد جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداًً، هذا رجل من الأعراب كان في الأعراب شيء من الجفاء، والخشونة والغلظة، استغرب قال: يا رسول الله! أنتم تقبلون الصبيان، وأنا عندي عشرة أولاد ما قبلت واحداً منهم؟ كأنها عندهم شيء مما يتنافى مع الرجولة، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنكراً هذا الكلام ومعاتباً، ثم قال: (من لا يرحم لا يرحم) وقال عليه الصلاة والسلام في عتابه: (أوأملك لك إذ نزع الله الرحمة من قبلك). إذا نزع الله الرحمة من قلبك لا تقبل الصبيان فماذا أملك لك؟ فهذا يدل على مشروعية تقبيل الصبيان. وعنون البخاري رحمه الله: (باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحهها)، هذه الصبية الصغيرة، وعموماً فإن الرحمة بالصغير تكون مقيدة بما لم يكن هناك فتنة. ومما ورد من الأحاديث التي فيها التقبيل: تقبيل الأب لابنته، فقد روى البخاري رحمه الله في كتاب المناقب، أن البراء دخل مع أبي بكر على أهله، فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها قبل خدها، وقال: كيف أنت يا بنية؟ إذاً هذا من تقبيل الأب لابنته المريضة، ومن المعلوم أن عائشة رضي الله عنها أول ما قدمت المدينة كانت صغيرة، فأصابت عدداً من المهاجرين حمى المدينة ، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا أن يذهب الله ما فيها من الحمى، فيجعلها بـالجحفة ، ولذلك قال: (وصححها لنا) أي: اجعل جوها وهواءها يكون فيه صحة لا يكون فيه مرض، فمن بركة المدينة أن جوها صحي أكثر من غيرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك.

    تقبيل الميت والحجر الأسود:
    ومما ورد أيضاً في التقبيل من الأحاديث: تقبيل الميت، فقد روى البخاري رحمه الله في كتاب الجنائز: (أن أبا بكر أقبل على فرسه من مسكنه بـالسنح ، حتى نزل، فدخل المسجد فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة رضي الله عنها، فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم -قصده- وهو مسجىً ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد نلتها ...) الحديث. إذاً: يشرع تقبيل الميت، والكشف عن وجهه، وتقبيله بين عينيه قبل أن يدفن. ومما ورد في التقبيل من الأحاديث: تقبيل الحجر الأسود، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عمر أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، فقال: [إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك]. وقد جاء أيضاً في صحيح مسلم رحمه الله تعالى عن سويد بن غفلة قال: رأيت عمر قبَّل الحجر والتزمه، وقال: [رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفياً] فإذاً يسجد عليه ويقبله إذا تمكن، فإذا لم يتمكن من تقبيله واستلمه بيده -أي: لمس الحجر بيده- هل يقبل يده؟ روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبيد الله عن نافع ، قال: [رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله]. إذاً: تقبيل اليد بعد لمس الحجر إذا لم يستطع أن يقبل الحجر مباشرة لأجل الزحام، فماذا يفعل؟ فإنه إذا استلم الحجر بيده قبَّل يده، وسيأتي بعض التفصيل لذلك.

    تعريف المصافحة وحكم مصافحة النساء الأجنبيات:
    جاء في منظومة ابن عبد القوي رحمه الله في موضوع المصافحة، قوله:
    وصافح لمن تلقاه من كل مسلم تناثر خطاياكم كما في المسند.
    أي: يا أيها المسلم! صافح كما جاء في المسطور عن النبي الأواب، المبعوث بالسنة والكتاب، صافح أخاك المسلم إذا لقيته. والمصافحة في اللغة: هي على وزن مفاعلة، أي: أنها تحدث من طرفين، وهي مأخوذة من إلصاق صفح الكف بالكف، ومنه علم أنه إذا أمسك بأطراف أصابعه فهي ليست مصافحة كاملة كما يفعل بعض الناس، وهذه ليست مصافحة الرجال، بل ولا حتى مصافحة النساء، لأن هذه المصافحة ناقصة، والمصافحة المشروعة هي وضع صفح الكف بصفح الكف والقبض عليها، فإذاً لا تكون المصافحة إلا بذلك. وأيضاً من تعريف المصافحة: إقبال الوجه على الوجه، فلو أعطاه يده من وراء ظهره.. ونحو ذلك لا تكون مصافحة شرعية إلا في أحوال قد تكون للحاجة أو أنه لا يستطيع ونحو ذلك. ويقال: صافحته، أفضيت بيدي إلى يده. وفي القاموس: المصافحة: الأخذ باليد كالتصافح. قوله رحمه الله:
    وصافح لمن تلقاه من كل مسلم.
    قيد الناظم رحمه الله المصافحة بالمسلم، أي: أن الكافر ليس له مصافحة.. هذا هو الأصل، لكن هل تحرم مصافحته أم لا؟ سيأتي الكلام على ذلك. إذاً: المسلم ولو كان صغيراً أو كبيراً فإنه يصافح بشرط أن تؤمن الفتنة، فقد يكون أمرداً أو يكون له فتنة به، فعند ذلك تحرم مصافحته ولاشك في ذلك. أما بالنسبة لمصافحة المرأة الأجنبية فإنه لا يجوز مصافحتها، سواءً كانت كبيرة أو صغيرة، وكذلك قد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن مصافحة النساء؟ قال: "لا. قال: قلت: فيصافحها بثوبه -لو جعل الثوب حائلاً؟ يمد يده فيكون الثوب بين يده ويدها- قال: لا". وقال ابن تيمية رحمه الله: "إن الملامسة أبلغ من النظر". ملامسة المرأة أبلغ من النظر إليها في الفتنة وثوران الشهوة، ولذلك لا يجوز مطلقاً. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن الإنسان لو طعن بمخيط -المخيط الإبرة العظيمة التي يخاط بها- في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له، سواء كان في المصافحة أو في غير المصافحة، ويكون هذا مس المرأة التي لا تحل له، وهذا من قواعد الشريعة العظيمة التي تدرأ بها الفتن، وتسد بها الذرائع إلى الشر، ويؤمن بواسطتها من ثوران الشهوات. إذاً: لا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية لا بحائل ولا بغير حائل، لا كبيرة ولا صغيرة. فإن قال قائل: الكبيرة ماذا يجوز منها إذاً؟ نقول: الله عز وجل قال: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً [النور:60]. وهذا الشرط أن تكون المرأة من القواعد من النساء -كبيرات السن- لا يرجون نكاحاً، أي: أنها بلغت من الكبر عتيا، وأنه قد ذهب كل جمال فيها، بحيث لم تعد ترجو زواجاً مطلقاً، ولا أحد يطمع فيها أو يتزوجها أبداً، فهذه المرأة فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60] أي: يجوز لها أن تضع الخمار عن رأسها إذا دخل عليها أجنبي، ولكن يشترط مع ذلك ألا تكون متزينة. على سبيل المثال: لا يجوز أن تضع مكياجاً مثلاً، أو حمرة أو خضرة، أو أي نوع من أنواع المساحيق الموجودة وغيرها، لا يجوز أن تضع ذلك وتكشف على الأجنبي، ولو كانت كبيرة ولا تشتهى، لا تضع الزينة، كل ذلك من احتياطات الشريعة لعدم الوقوع في الفاحشة، وعدم إشاعة الفتنة وثوران الشهوة، ولأجل صيانة المجتمع المسلم وحماية أفراد المسلمين، ولكل ساقطة لاقطة. إذاً: المرأة الكبيرة يجوز لها أن تضع ثيابها غير متبرجة بزينة إذا كانت لا ترجو نكاحاً، لكن لا يجوز مصافحتها ولا الخلوة بها، ولا أن تتعطر عنده ولا تتزين، ولا يسافر بها إذا لم يكن لها محرماً، لأن بعض الناس قد يتساهلون في الكبيرات، فيصافح ويقبل ويسافر ويخلو بها، فنقول: أقصى ما ورد أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة. أما المرأة الشابة الأجنبية فهذا معروف من باب أولى أنه لا يجوز مصافحتها ولا تقبيل رأسها ولا غيره، ولا السفر بها بدون محرم، ولا أن تكشف عليه، ولا أن يخلو بها.. إلى آخره.

    حكم مصافحة الكفار:
    أما بالنسبة لمصافحة الكافر، فإن الناظم ابن عبد القوي رحمه الله قال في منظومته:
    وصافح لمن تلقاه من كل مسلم تناثر خطاياكم كما في المسند

    حكم مصافحة أهل الذمة:
    بالنسبة لمصافحة غير المسلمين، فقد سئل الإمام أحمد عن مصافحة أهل الذمة؟ فقال: لا يعجبني. وهذا اللفظ من ألفاظ الكراهة عنده. إذاًَ: يكره عند الإمام أحمد رحمه الله للرجل أن يصافح كافراً، لكن لو صافحه جاز ذلك ولا يأثم، خصوصاً إذا كان يرجو تأليف قلبه للدخول في الإسلام. أما ما عمت به البلوى اليوم من كثرة وجود الكفرة بيننا في الأعمال المختلفة والمكاتب والجامعات.. ونحو ذلك، ونحن ننصح ونقول: أنت لا تمد يدك ابتداءً، لكن لو مد هو يده فإن خشيت من مفسدة، كأن يضر بك مثلاً، فيمكن أن تصافحه، لكن الأحسن ألا تفعل ذلك، لكن إذا صافحته فلا تأثم، وهؤلاء الذين يعملون في المكاتب والشركات.. ونحو ذلك يجدون حرجاً كبيراً في هذا الموضوع، فنقول: لا تبتدئ الكافر بالمصافحة، لكن لو مد الكافر يده ولم يكن في ذلك ضرراً على الإسلام وأهله، أو لم يكن في يده نجاسة مثلاً، لأن هؤلاء لا تدري عنهم ماذا يمسون بأيديهم، وقد يدخل دورة المياه والحمام والمرحاض وبيت الخلاء ويمس نجاسة ولا يغسل يده، فأنت لا تعلم كيف يفعلون، فهم أناس لم يتعلموا التنـزه والطهارة، ولم يطبقوا ذلك، لاشك أن أيديهم يكون فيها ما فيها، فهذا ما يمكن أن يقال في موضوع مصافحة الكافر.

    حكم مصافحة الكفار المحاربين:
    أما مصافحة عدو الله المحارب للإسلام، والمجاهر بالعداء للدين، أو يطعن في الدين، أو يثير الشبهات حول الإسلام، أو عن أي شيء في الدين، أو المبتدع، فلا مصافحة، وخصوصاً الذي بدعته كفرية تخرج عن الملة، فلا تجوز مصافحته؛ لأن المصافحة فيها مودة، والله عز وجل حرَّم المودة تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا [الممتحنة:1] ثم هؤلاء الذين أظهروا وأبدوا العداوة، فلا يجوز إظهار المودة لهم، والمصافحة من المودة. وقول الناظم رحمه الله تعالى: "تناثر خطاياكم"، فتناثر الخطايا: تفرقها وتساقطها، والخطايا جمع خطيئة، وهي: الذنب، أو ما يتعمد من الخطايا. وقوله: كما في المسنَّد: الأصل المُسْنَدِ ، لكن شدده لضرورة الوزن.

    بعض أحكام المصافحة:
    جاءت أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين إذا التقيا فتصافحا غفر لهما قبل أن يتفرقا، ذكرها الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره، وسبق ذكر بعضها قبل قليل. وبالنسبة لإشهار المصافحة وإعلانها سنة، وقد كانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبالنسبة لأول من صافح وعانق، قيل: إنه إبراهيم الخليل عليه السلام، لكن هذا يحتاج إلى دليل.

    المصافحة بعد الصلوات المفروضة:
    مما يتعلق بالمصافحة: المصافحة بعد الصلوات المفروضة، وقد نص أهل العلم على أن المداومة على المصافحة بعد كل صلاة بأن يصافح من عن يمينه وعن شماله بدعة. فنقول: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون وراءه، وما نقل عنه ولا عنهم أنهم بعد الصلاة كان يصافح بعضهم بعضاً، أو من عن يمينه وعن شماله، وإذا ألحقنا بالعبادة شيئاً معيناً وواظبنا عليه بعدها، كالمصافحة يميناً وشمالاً، فلاشك أننا نكون قد وقعنا في البدعة. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن المصافحة بعد العصر والفجر، هل هي سنة مستحبة أم لا؟ فأجاب رحمه الله بقوله: أما المصافحة عقب الصلاة فبدعة، لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستحبها أحدٌ من العلماء. إذاً: إذا التقى المسلمون، وقاموا من المسجد وخرجوا، أو وهم داخلون إلى المسجد وقابل بعضهم بعضاً، هل يتصافحون؟ الجواب: نعم، وورد سؤال عن رجل في صلاة الجمعة مد إليه رجل آخر يده أثناء الخطبة، فهل يصافحه أم لا؟ فسألت الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا السؤال، فقال: يصافحه دون كلام. لكن هل يجوز أن تشغل الناس أثناء الخطبة وتشغلهم عن سماعها؟ الجواب: لا، لكن لو أن شخصاً فعل ذلك وفوجئت به فصافحه دون سلام. علَّم النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود التشهد وكفه بين كفيه، فيمكن أن يطول التصافح، ليعلمه شيئاً مثلاً، وقد قال الصحابي: (صافحت بكفي هذه كف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أر خزاً ولا حريراً ألين من كفه عليه الصلاة والسلام). بالنسبة لمسألة المعانقة والتقبيل، فهي من الأشياء التي ترد بعد قضية المصافحة، لكن ينبغي أن نؤكد على مسألة المصافحة تأكيداً آخر قبل أن نغادر هذه النقطة، لأجل أن كثيراً من الناس يقصرون فيها، وربما مر بجانبه ويمكن أن يصافحه فلا يفعل ذلك. نعم! إنها ليست بواجبة، لكن لماذا يفوت هذا الأجر العظيم في قضية المغفرة، وتحات الخطايا والمودة، لماذا يفرط في ذلك؟ إذاً: ينبغي أن نحافظ على هذه الشعيرة الإسلامية، والأصل أن المصافحة تكون باليد اليمنى، لكن قد يكون فيه شيء في يده اليمنى من كسر أو حرق أو جرح فلا يستطيع المصافحة بها، فلو صافح باليد الأخرى فلا بأس بذلك.

    مصافحة العلماء والأرحام:
    وكذلك فإن مصافحة العلماء والأرحام كالآباء... وغيرهم من الأمور المؤكدة التي ينبغي التأكيد عليها أكثر من غيرها، أي: مصافحة أهل الخير أولى من مصافحة غيرهم، والاعتناء بذلك ينبغي أن يكون مما عليه حال طالب العلم، وقد ورد أن حماد بن زيد صافح ابن المبارك .

    بيان كيفية المصافحة :
    أما قضية المصافحة باليدين، فإن بعض الناس إذا صافح فإنه يصافح بكلتا يديه، فيقبض على يمينك ويضع شماله فوقها، فقد جاء في البخاري : باب الأخذ باليد، وصافح حماد بن زيد ابن المبارك بيديه، ومر معنا حديث ابن مسعود قوله: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه) أي: أنه آخذ بكف ابن مسعود بكفيه كلتيهما. إذاً: لو فعل ذلك فلا بأس به، فقد صافح ابن المبارك حماد بن زيد بكلتا يديه، فلا حرج فيها إذاً. بعض الناس يصافح ثم يقبض على إبهام صاحبه مثلاً، فنعلم أن المصافحة هي وضع الصفح بالصفح، أما القبض على الإبهام فلا يكون مصافحة. وضع الساعد على الساعد ليس مصافحة في اللغة، لكن أحياناً تدعو الحاجة إذا مد يده، والآخر يده غير جاهزة للمصافحة فيعطيه ساعده، فهذا لا بأس به ولو أنه أقطع اليدين الكف غير موجودة، فيقبض على الساعد وهذا للحاجة وليس هو الأصل. المصافحة فيها شيء من الهز: إذا قبض على اليدين فهزها فلا بأس بذلك أيضاً، ولكن برفق، فمن أخطاء المصافحة: أنه إذا قبض على يده قبض بقوة.. يفرقع بها أصابع الآخر، ويشد بها شداً مؤذياً مؤلماً، حتى تجده يقول: ليتني لم أصافحه، أو تراه يحتال لتخليص يده، أو يريد أن ينـزع يده بسرعة، فلاشك أن هذا ليس من الأدب. وكذلك إذا هزها بقوة حتى يكاد يخلع يده، فهذا أيضاً ليس من الأدب. فالمصافحة وضع الصفح في الصفح بلين ورفق وهز يسير لو أراد، هذا هو ما ينبغي أن تكون المصافحة، أما أن تكون المصافحة وسيلة لإيذاء الآخر فهذه ليست مصافحة مشروعة، وينبغي على القوي أن يرفق بالضعيف، وعلى الكبير أن يراعي الصغير، فيصافح برفق ولين.

    أحكام المعانقة:
    أما بالنسبة للمعانقة فقد وردت فيها أحاديث تقدم ذكر بعضها، وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه باب المعانقة، وقول الرجل: كيف أصبحت؟ ثم ساق حديث النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي مات فيه، وقول علي رضي الله عنه لما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: (يا أبا حسن ! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً -تفاؤلاً- فأخذ بيده العباس ، فقال: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، والله إني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفى في وجعه، وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله فيمن يكون الأمر...) الحديث. المعانقة عند القدوم من السفر سنة، كما جاء ذلك في حديث استقباله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه، ونص شيخ الإسلام رحمه الله على تقييدها بالسفر، وفي الأحوال العادية ليس هناك معانقة؛ لأن الحديث قال: (أيلتزمه فيعانقه؟ قال: لا). وأما إذا قدم من سفر فقد ثبتت المعانقة. وكذلك الصبيان فيعتنقهم حتى لو كان بغير سفر، سواء كان ولده أو حفيده كما جاء في الآثار، أما وغيرهم فيجوز ذلك مع أمن الفتنة، وكل هذه الأشياء: (المصافحة والمعانقة والتقبيل) يشترط فيها العلماء الأمن من الفتنة والشهوة؛ لأن المسألة حتى مع غير النساء يوجد فيها فتنة وشهوة، وهذا ما يذكره أهل العلم في مسألة المردان. في قضية المعانقة فإن الإمام أحمد رحمه الله احتج بحديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم عانقه، وقال إسحاق بن إبراهيم : سألت أبا عبد الله عن رجل يلقى الرجل يعانقه؟ قال: نعم. فعله أبو الدرداء. وقال: في الإرشاد المعانقة عند القدوم من السفر حسنة. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: فقيدها بالقدوم من السفر، وقال القاضي أبو يعلى من الحنابلة: وهو المنصوص عليه في السفر. إذاً: إذا قدم من السفر فعند ذلك يتعانقون، وقد جاء عن الشعبي أنه قال: [كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا التقوا تصافحوا، فإذا قدموا من السفر عانق بعضهم بعضاً]. قال السفاريني : قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية : إسناده جيد. أما بالنسبة لمعانقة الكافر فهي أشد من المصافحة بلاشك، وكذلك المبتدع، فيبتعد عنها أشد من ابتعاده عن المصافحة. أما بالنسبة لحديث أبي ذر المتقدم، فقد جاء عند أبي داود وفيه رجل مجهول، وقد جاء أنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه جعفر قام يجر إزاره، وهذا إذا انفلت الإزار بغير قصد، وليس المقصود أنه يتعمد إرسال الإزار، فإن الإسبال معروف حكمه، لكن قد يسقط عن قيام الشخص فجأة، أو لظرف عارض ونحو ذلك، فاعتنقه عليه الصلاة والسلام. قال بعضهم: تكون المعانقة إذا طالت الغيبة، وقد ذكر ذلك بعض أهل العلم قياساً على السفر، أن السفر فيه بعد وطول عهد، لكن ينبغي ألا يكون هذا ذريعة إلى إفشاء المعانقة كالمصافحة، وأن تكون في غير موضعها، وخصوصاً أن المسألة فيها نص، أنه عليه الصلاة والسلام سئل (أيلتزمه ويعانقه؟ فقال: لا.). إذاً: تكون المصافحة فقط في الأحوال العادية.

    بعض أحكام التقبيل:
    أما بالنسبة للتقبيل، فإن التقبيل مصدر قـبّل، والاسم منه: قبلة، والجمع: قُبَل.

    أقسام التقبيل:
    قسم بعض أهل العلم التقبيل إلى خمسة أقسام: 1- قبلة المودة للولد على الخد. 2- قبلة الرحمة للوالدين على الرأس. 3- قبلة الشفقة لأخيه على الجبهة. 4- قبلة الشهوة لامرأته أو أمته على الفم. 5- قبلة التحية للمؤمنين على اليد، أي: للعلماء أو للأبوين. 6- وزاد بعضهم: قبلة الديانة للحجر الأسود، للحاج والمعتمر، وهذا معروف، وقد تقدمت فيه الأحاديث، فإن عجز عن التقبيل استلمه بيده ثم قبلها، وبالنسبة إذا استلمه بغير يده، كما إذا استلمه بعصا، فقد جاء عن ابن عباس قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن) وجاء هذا الحديث في الصحيحين ، أما بالنسبة للركن اليماني فلا تقبيل، وإنما هو مسح فقط واستلام، يستلمه ويمسح عليه، ولاشك أن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطاً، وقد ثبت أنهما ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما، وإلا لأعشى ذلك النور أبصار أهل الأرض. وبالنسبة لتقبيل الأجنبية فهو نوع من الزنا ولاشك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن زنا الجوارح.. زنا اليد، وزنا العين النظر، وزنا اللسان، وزنا الأذن، وزنا الرجل.. وغير ذلك، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.

    حكم تقبيل اليد والفم والأمرد:
    وقد نص العلماء أيضاً في أحكام التقبيل، على تحريم تقبيل الأمرد الذي يكون مع تقبيله الشهوة. وكذلك فإنهم قالوا: لا يجوز للرجل أن يقبل فم الرجل، وكذلك المرأة لا تقبل فم المرأة، الفم عموماً متروك للزوجين أو الرجل وأمته. أما تقبيل اليد فقد جاء في الحديث أنهم قبلوا يد النبي عليه الصلاة والسلام، وعند البخاري في الأدب المفرد -كما تقدم- أنهم قبلوا يد سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، فأخذوا منها أن تقبيل يد العالم والفاضل أو الوالدين لا بأس به ولا حرج؛ بل هو مشروع، أما تقبيل يد الظالم فقالوا: إنها معصية، إلا إذا خشي على نفسه، وتقبيل الأرض بين يدي العظماء من المنكرات.

    أثر التقبيل على الاعتكاف والوضوء والصلاة والصيام:
    التقبيل يتعلق به أحكام في قضية الاعتكاف، هل إذا قبل يبطل الاعتكاف أم لا؟ نقول: إذا أنزل أبطل. وكذلك بالنسبة للصائم: هل يقبل؟ إذا كان يأمن على نفسه يقبل، وإذا كان لا يأمن على نفسه فلا يجوز أن يقبل. وذكروا كذلك في قضية الوضوء، هل ينتقض الوضوء بالقبلة أم لا؟ إذا خرج منه شيء انتقض وضوءه، وإذا لم يخرج منه شيء فوضوءه صحيح. وكذلك فإن التقبيل في الصلاة يفسدها عند من يقول ببطلان الوضوء بالتقبيل. ويحرم على المحرم بالحج والعمرة أن يقبل زوجته، ومن فعل ذلك بشهوة فعليه دم، وكذلك من قبل زوجته المطلقة بنية الرجعة في العدة، فهو رجوع.

    حكم تقبيل المصحف والخبز:
    وأما بالنسبة لتقبيل المصحف، فإنه لم يرد فيه شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد عن عكرمة أنه كان يقبله، ويقول: [كلام ربي، كلام ربي] وهذا ليس مما وافقه عليه الصحابة، ولذلك نص بعض أهل العلم على بدعية هذا. والناس اعتادوا تقبيل المصحف خصوصاً إذا سقط أو وقع على الأرض، وكأنه صار عندهم دين وشرع أن المصحف إذا وقع لابد أن يقبل، وليس هناك دليل على ذلك، والمواظبة على تقبيله مما لم يرد فيه دليل صحيح. وكذلك تقبيل الخبز، فإن بعض الناس يقبلون الخبز، وهذا مما لم يرد فيه دليل أيضاً، لكن الخبز ورد الحديث بإكرامه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكرموا الخبز) ومن إكرامه كأن يكون موجوداً فلا يلقى ويرمى ويهان، ولا يجعل مع القاذورات والنجاسات، إذا رأيته مرمياً فأخذته ورفعته، فهذا من إكرام الخبز، لكن تقبيله ليس عليه دليل. وتقبيل يد العالم الورع والوالدين تقدم، كما أنه يقبله في جبهته، وأيضاً يقبل يده، والنبي صلى الله عليه وسلم عانق جعفراً حين قدم من الحبشة ، وقبله بين عينيه، لكن هذا الحديث الذي رواه أبو داود قال المنذري : إنه حديث مرسل؛ لأنه من رواية الشعبي. ومن أنكر من العلماء تقبيل اليد، لعلهم لم يطلعوا على الحديث أو لم يثبت عندهم صحته، وتقبيل الأولاد والأحفاد والصغار تقدم الحديث فيه مع أمن الشهوة عموماً، وتقبيل الأب لابنته، والبنت لأبيها، وينبغي أن يشدد في مسألة تقبيل الأقارب بعضهم لبعض، لأجل فشو الفساد في هذا الزمان، لكن لو قبل جدته مثلاً في رأسها فلا حرج في ذلك، الجدة مثل الوالدة، وكذلك الجد، أو قبلت جدها في رأسه أو يده، فلا حرج في ذلك.

    حكم تقبيل المحارم:
    وموضوع التقبيل يستثنى منه تقبيل الفم -كما تقدم- وأنه خاص بالزوج، ولذلك حتى الأب لا يقبل ابنته في الفم مطلقاً، وبالنسبة لتقبيلها في الخد ورد حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وذكر ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية فصلاً في تقبيل المحارم من النساء في الجبهة والرأس، قال ابن منصور لـأبي عبد الله : يقبل الرجل ذات محرم منه؟ قال: إذا قدم من سفر ولم يخف على نفسه، وذكر حديث خالد بن الوليد قال إسحاق بن راهويه ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم من غزوٍ فقبل فاطمة ، ولكن لا يفعله على الفم أبداً، الجبهة أو الرأس. وقال بكر بن محمد، عن أبيه، عن أبي عبد الله، وسئل عن رجل يقبل أخته؟ قال: قد قبَّل خالد بن الوليد أخته. إذاً بالنسبة لتقبيل الأخت، ولابد من الأمن من ثوران الشهوة أو الفتنة، فنقول: لو صار كمثل عادات الناس اليوم، أن الرجل إذا واجه -مثلاً- أخته، قالوا: سلم عليها، وعند العامة كلمة سلم عليها معناها: تقبيل، لكن إذا نظرت في الحقيقة إلى كيفية التقبيل وجدت أنها معانقة، ولكن القبلة لا تقع على الوجه ولكن تقع في الهواء، هذا لا حرج فيه أصبحت معانقة وليست بتقبيل. إذاً هناك ضوابط في المسألة ذكرها الإمام أحمد رحمه الله في قضية أمن الشهوة والفتنة وعدم التقبيل في الفم مطلقاً، ولو كانت من المحارم وكبيرة فقبل رأسها فلا حرج في ذلك، أي: إذا أراد أن يقبل في الوجه يجعلها في الجبهة والرأس، مثل الخالة والعمة والأخت الكبيرة التي تكون أحياناً بمثابة الأم، والجدة التي هي أم، هذا بعض ما يتعلق بموضوع المصافحة والمعانقة والتقبيل. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الفقه في دينه.

    الأدلة الواردة في مشروعية التقبيل في كتاب محمد بن إبراهيم المقرئ:
    نريد أن نكمل موضوعاً آخر أيضاً وهو ما يتعلق بالتقبيل، فإنه قد كان الكلام في جلسة ماضية عن آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل، فتقدم الكلام عن المصافحة، وأظن من الآداب التي فات ذكرها: ألا ينـزع يده حتى ينـزع الشخص الآخر يده، لكن ذكر شيخ الإسلام كلاماً أنه إذا كان ذلك المقام يطول، بحيث أن هذا لم ينـزع يده والآخر مثله، سيبقى الجميع واقفون إلى متى؟ لذلك لو أن البادئ بمد اليد هو الذي يسحب يده أولاً في إنهاء هذه القضية فلا حرج في ذلك. فأما بالنسبة للتقبيل، فهناك كتاب بعنوان: الرخصة في تقبيل اليد ، من تصنيف الحافظ أبي بكر محمد بن إبراهيم المقرئ ، ذكر فيه أحاديث ونصوصاً في مسألة التقبيل، بالإضافة لما سبق ذكره سابقاً، وقد أورد حديث أسامة بن شريك ، قال: (قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده). قال ابن حجر رحمه الله: سنده قوي. وكذلك أورد فيه من الأحاديث -أيضاً- حديث أم ولد أنس بن مالك قالت: كان ثابت إذا أتى أنساً قال: [يا جارية! هاتِ طيباً أمسه بيدي، فإن ثابتاً إذا جاء لم يرض حتى يقبل يدي] وهو حديث صحيح، فإن ثابتاً كان يقبل يد أنس بن مالك ؛ لأن يد أنس بن مالك مست يد النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك من الأحاديث التي ذكرها، حديث سلمة بن الأكوع ، قال: [ بايعت بيدي هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم]. وقال الراوي عبد الرحمن بن رزين: قبلناها ولم ينكر ذلك. وقال ابن حجر رحمه الله: إسناده جيد، وقال الهيثمي : رجاله ثقات. وكذلك أورد حديثاً قد رواه البخاري في الأدب المفرد ، وهو عن ذكوان أن رجلاً قال له صهيب : [ رأيت علياً رضي الله عنه يقبل يدي العباس أو رجله، ويقول: أي عم! ارض عني ]. وكذلك أورد أثر موسى بن داود قال: [ كنت عند سفيان بن عيينة ، فجاء الحسن الجعفي ، فقام ابن عيينة فقبل يده ] وهذا صحيح إليه. وكذلك أثر ثابت قال: قلت لـأنس بن مالك : [أحب أن أقبل ما رأيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمكنه من عينيه]. وقال ثابت : [كنت إذا أتيت أنساً أخبر بمكانه، فأدخل عليه فآخذ بيديه فأقبلهما، فأقول: بأبي هاتين اليدين اللتين مستا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عينيه، وأقول: بأبي هاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم]. قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أبي بكر المقدمي وهو ثقة. وكذلك أتى من حديث ابن جدعان قال: سمعت ثابتاً يقول لـأنس : [مسست رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديك؟ قال: نعم، قال: فأعطني يدك، فأعطاه فقبلها]، والأثر فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، لكن يشهد له آثار وطرق أخرى في هذا، فيكون حسناً. وكذلك جاء من حديث أم أبان بنت الوازع بن الزارع ( أن جدها الزارع انطلق في وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملكنا أنفسنا أن وثبنا عن رواحلنا، وجعلنا نقبل يديه ورجليه ) والحديث حسنه ابن عبد البر رحمه الله تعالى.

    أحوال التقبيل:
    تقبيل اليد والتفصيل فيه:
    سبق الكلام على أنواع التقبيل: تقبيل اليد، وتقبيل القدم، وتقبيل العينين، وتقدم حديث أنس قال: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا. قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم). إذاً: في الأحوال العادية لا يستحب التقبيل إذا لقي الأخ أخاه، أما تقبيل اليد لسبب عارض، فإن كان للدنيا فإنه مكروه. وقال سفيان الثوري : أكرهها -تقبيل اليد- على دنيا. وقال وكيع شيخ أحمد بن حنبل رحمهما الله: إنها -أي: قبلة اليد- صلحت حين قبلت للآخرة، وأنها فسدت حين قبلت للدنيا. وقال أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- فيما نقله عنه المروذي، لما سأله عن قبلة اليد، فلم يرَ به بأساً عن طريق التدين، وكرهها على طريق الدنيا، وقال: إن كان على طريق التدين فلا بأس، فقد قبل أبو عبيدة يد عمر ، وإن كان على طريق الدنيا فلا، إلا رجلاً يخاف سيفه أو سوطه. وكذلك قال حميد زنجويه : ما كان على وجه التملق والتعظيم -أي: المكروه من المعانقة والتقبيل-. وقال النووي في كتاب الأذكار : إن كانت لغناه ودنياه وثروته وشوكته ووجاهته عند أهل الدنيا ونحو ذلك، فهو مكروه شديد الكراهة، وقال المتولي من أصحابنا: لا يجوز، فأشار إلى أنه حرام، وإذا كان الرجل ظالماً أو مبتدعاً أو كافراً تتأكد هذه الحرمة؛ لأن الواجب هجره أصلاً والإنكار عليه، وليس تقبيل يديه. وقال سفيان الثوري رحمه الله: تقبيل يد الإمام العادل سنة. وقال حميد زنجويه : تقبيل اليد لا يستوجبه كل أحد. وقال بعض أهل العلم: تقبيل يد الظالم معصية، إلا أن يكون عن خوف. وقال ابن الوردي الشاعر:
    أنا لا أختار تقبيل يد قطعها أجمل من تلك القبل
    أي: هذه حقها أن تقطع، ربما يكون يد سارق وناهب، فكيف تقبل يده؟! والواجب أن تقطع في الشريعة. وبعض الناس وخصوصاً الصوفية ورؤساؤهم، عندهم عادة تقبيل اليد، ويتخذونها كبراً وطلباً من الناس، وهذا يدل عليه تصرفاتهم، كما إذا مد يده ليقبلها الناس، تجد بعض شيوخ الصوفية الطرقيين إذا جلسوا في مجلس أو كانوا يمشون، وجاءهم الناس مدوا أيديهم، كأنه يقول: خذ قبل وتبرك وامسح! ويتبين كذلك فعل هؤلاء السفهاء بما إذا استحسنوا من تقبيل يده، تجد أنه إذا قبل شخص أيديهم ابتسموا وأكرموه وأثنوا على فعله، وقال: الله يرضى عليك، المقصود هؤلاء الصوفية ولا أقصد الوالد الذي إذا قبل الولد يده فدعا له فهذا شيء آخر، وكذلك يظهر هذا من تشنيعهم على من لم يقبل أيديهم أيضاً. وكان السلف رحمهم الله بخلاف ذلك، إذا جاء شخص يقبل يده ربما سحب يده، وعندما استأذن رجل الإمام أحمد رحمه الله في تقبيل رأسه، قال: لم أبلغ أنا ذاك، لم أصل إلى درجة أن تقبل رأسي أنا دون ذلك، هذا من تواضعه رحمه الله تعالى، وفي رواية عبد الله قال: لم أره يشتهي أن يفعل به ذلك، فكان من ورعهم وتواضعهم رحمهم الله أنهم لا يسمحون للناس بتقبيل أيديهم ورءوسهم، ويقولون: نحن أدنى من هذا، وكره أحمد رحمه الله المسح على اليد للتبرك ونحوها، فقال لمن مسح يده عليه عمن أخذتم هذا؟ وغضب ونفض يده. وقال ابن تيمية رحمه الله: ابتداء الإنسان بمد يده للناس ليقبلوها، وقصده لذلك، فهذا ينهى عنه بلا نزاع كائناً من كان، بخلاف ما إذا كان المقبل هو المبتدئ لذلك، فلا حرج، أما أن يمد يده للناس فهذا مما ينهى عنه. وأيضاً اعتياد التقبيل حتى لو كان للمشايخ أو أهل العلم، فهذا فيه نظر؛ لأن الصحابة لقوا النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكراراً، وما نقل عنهم أنهم كلما رأوه قبلوا رأسه ويده. نعم! قد تأتي العالم في المرة الأولى فتقبل رأسه أو يده، لكنك تأتيه في الدرس الذي يليه ثم الذي يليه ودائماً تواظب على هذه العادة فربما أدى هذا إلى شيء من الغلو. وكذلك قال ابن مفلح رحمه الله: تقبيل اليد لم يكونوا يعتادونه إلا قليلاً، ومن شعار بعض المبتدعة قرن تقبيل اليد بالمصافحة، فما صافح أحدهم صاحبه إلا قبل كل منهم يد صاحبه. وهذه أيضاً مسألة لا أصل لها، تجد بعض الناس في بعض الأماكن كلما صافح الأول الثاني هذا يقبل اليد وهذا يقبل اليد الأخرى، وأحياناً يقبل يد نفسه، كأنه يقبل اليد التي لامست يد الآخر، وهذا أيضاً مما لا دليل عليه.

    التقبيل لأجل التبرك أو الشهوة:
    وأما إذا كان التقبيل لأجل التبرك، فهذا يكون أشد وأشد، ولاشك أن تقبيل القبور والأعتاب والأحجار والأشجار من شعار المشركين في كل زمان ومكان، ولذلك أكد عمر رضي الله عنه ورحمه على هذه المسألة، فقال عندما قبل الحجر الأسود: [والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك] رواه البخاري. فكيف بمن يتبرك بحمار الشيخ، يقول: هذا الحمار الذي ركبه الشيخ، فيمسحون حمار الشيخ، وربما قبلوه، وتكلمنا عن مسألة التقبيل لشهوة، وأن ذلك لا يجوز إلا إذا كان لزوجته أو سريته. وبالنسبة للتقبيل للشهوة فإنه لا يجوز للإنسان أن يقبل أحداً إلا زوجته أو أمته، أما المرأة الأجنبية فلا شك أنه حرام، وكذلك الصبية الصغيرة والأمرد، كله حرام ولا يجوز، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه الطبراني، وهو حديث صحيح. وكلما خشي أن يثير شهوته، مثل: تقبيل يد الأمرد الحسن، أو الصبية الصغيرة الحسنة التي قاربت البلوغ، فحرام لاشك في ذلك، والفتنة بالمردان أمر معروف، وهو عند الصوفية دين يتخذونه ويتقربون إلى الله بذلك، ولو قال: لا تثور شهوتي، فإنه لا يأمن عليه، والله قال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] ولم يقل: لا تفعلوا الزنا، فحتى اقتراب الشيء الذي يكون سبباً للوقوع في المعصية لا يفعله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العين تزني وزناها البصر، واليد تزني وزناها اللمس، والفم يزني وزناه التقبيل) إذاً: زنا الفم أن يقبل بالحرام. وبالنسبة لتقبيل الإنسان يده بعد تقبيل الحجر الأسود، فذلك ثابت في السنة، وتقبيل المحجن أو العصا إذا استلم بها الحجر الأسود إذا لم يستطع أن يقبله بنفسه.

    تقبيل الخد وما بين العينين والفم:
    أما بالنسبة لتقبيل الخد، فقد ذكرنا أن أبا بكر الصديق قبل عائشة رضي الله عنها عندما أصابتها الحمى حين هاجروا إلى المدينة ، وكانت دون البلوغ، وهذه قبلة شفقة من الوالد لابنته. وأما بالنسبة لتقبيل ما بين العينين، فإنه قد ورد فيه تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم بين عيني العباس ، ورواه الطبراني وقواه الهيثمي ، وقبَّل مسلم بن الحجاج النيسابوري عيني البخاري رحمه الله، وقال: يا أستاذ الأستاذين، أو يا طبيب الحديث في علله. وبالنسبة لتقبيل العين جاء تقبيل التابعي لعين أنس كما تقدم، وبالنسبة لتقبيل الفم فهذا خاص بين الزوجين، وبالنسبة لتقبيل الكشح أو البطن، الكشح هو: ما بين الخاصره إلى الضلع، وقد قبل الصحابي النبي صلى الله عليه وسلم في كشحه لما كشفه له ليقتص منه، وقلنا في تقبيل الرأس: إنه يكون للكبير في السن أو العالم والوالد. كذلك لو كان له أخت كبيرة أو عمة أو جدة، فلا بأس أن يقبل رأسها، ولا حرج في ذلك.

    تقبيل المرأة للرجل الأجنبي وتقبيل الشعر:
    أما تقبيل المرأة للرجل الأجنبي، فهذا حرام ولو كان كبيراً، وتقبيل الرجل للمرأة الأجنبية حرام ولو كانت كبيرة في السن، وتقبيل الشعر كتقبيل الرأس في الحكم، وبعضهم قد يحتج بتقبيل الإمام أحمد رحمه الله لشعرة من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا كان ثابتاً عنده أنها شعرته، أما اليوم فمن أين نثبت أنه قد بقي شيء من آثار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نقبله؟ وذكرنا في مسألة تقبيل المصحف أنه لم يرد بذلك حديث صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن تيمية رحمه الله: لا نعلم في تقبيل المصحف شيئاً مأثوراً. وقد سئل أحمد عن تقبيله، فقال: ما سمعت فيه شيئاً، ولكن روي عن عكرمة بن أبي جهل ، واتباع السلف أولى، ولا يعلم له موافق رحمه الله على ذلك، ولم وافقه الصحابة على ذلك، ولم يكن شيئاً مشروعاً منتشراً عندهم.

    تقبيل آثار الصالحين وأرض الوطن:
    وأما بالنسبة لآثار الصالحين التي يفعلها بعض الناس وتقبيلها فهذا أيضاً من البدع، وكذلك تقبيل الشجر والحجر، أما بالنسبة لتقبيل الأرض بين يدي العظماء، فسبق الكلام أنه من المنكرات العظيمة، وقال ابن تيمية رحمه الله: وأما تقبيل الأرض ووضع الرأس أمام الشيخ والملك فلا يجوز، بل الانحناء كالركوع لا يجوز، ومن فعله قربة وتديناً بين له -نبين له أن تقبيل الأرض والانحناء كالركوع بين يدي الشيخ أو الصوفي هذا أو الملك لا يجوز- ومن فعله قربة وتديناً بين له أن هذا حرام ولا يجوز، فإن تاب وإلا قتل، وأما إذا أكره الرجل بأن يخشى أخذ ماله أو ضربه أو قطع رزقه في بيت المال، فإنه يجوز عند أكثر العلماء. وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به وخرج عن طاعة الله ورسوله، مثل أن يظن أن ببركة السجود لغيره وتقبيل الأرض عنده.. ونحو ذلك يحصل له السعادة، فهو من أحوال المشركين وأهل البدع وهو باطل لا يجوز اعتقاده ولا اعتماده. وقال أيضاً رحمه الله: وأما وضع الرأس عند الكبراء والشيوخ أو غيرهم أو تقبيل الأرض أو نحو ذلك، فهو مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهي عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير الله منهي عنه. هناك نوع من تقبيل الأرض يحدث في هذا الزمان، وهو تقبيل أرض الوطن بزعمهم أن ذلك وطنية، فلاشك أن هذا حرام، وفيه نوع من الشرك، وهذا دين المنتسبين، إذا وطأت قدماه بلده مثلاً قبل أرض بلده أو وطنه، ولاشك أن هذا حرام لا يجوز. ومن الأشياء التي تفعل في هذا الزمان مثلاً: التشبه بالكفار وتقليدهم في تقبيل الكلاب وبعض الحيوانات، ولاشك أن الكلب مما ينبغي التخلص منه، والاحتفاظ به ينقص الأجر. فهذه تكملة لآداب المصافحة والمعانقة والتقبيل، وبذلك نكون قد أنهينا الكلام عليها والحمد لله رب العالمين.

    الأسئلة :
    حكم قيام الليل مع الزوجة:
    السؤال: هل الأفضل في قيام الليل أن أصلي بعض الوقت وزوجتي تصلي البعض الآخر أو نصلي جماعة؟ الجواب: يصلي كل واحدٍ منهما بمفرده، ولا يتفقان على الجماعة في القيام، لكن إن انضمت إليه -وهو لا يريد أن ينضم إليها- فصلت وراءه فلا بأس.

    حكم تقبيل الكتف للعظماء:
    السؤال: ما حكم تقبيل كتف العظماء؟ الجواب: إذا كان ظالماً فلا يجوز تقبيله؛ لأن التقبيل نوع من التوقير، فإذا كان ظالماً أو كافراً لم يجز تقبيله، وإذا كان صالحاً راشداً قبل رأسه، كما إذا قبل رأس الخليفة الصالح الإمام العادل لأن هذا قد نص عليه أهل العلم.

    حكم تقبيل البنت الصغيرة ومصافحتها:
    السؤال: ما حكم مصافحة وتقبيل البنت الصغيرة؟ الجواب: البنت الصغيرة إذا كانت أجنبية لابد من الحذر الشديد، حيث أن هذا من الأبواب العظيمة التي ينفذ بها الشيطان، خصوصاً في هذا الزمان الذي عمَّت به الفتن.

    معانقة المسافر لمحارمه:
    السؤال: ما حكم معانقة المسافر العائد لأمه وعماته وخالاته؟ الجواب: لا بأس بذلك.

    حكم المعانقة في العيد:
    السؤال: ما حكم المعانقة في العيد؟ الجواب: المعانقة في العيد لا أعلم لها أصلاً، وكذلك المعانقة في العزاء.

    حكم تقبيل الرجل زوجته أمام أهله:
    السؤال: هل يقبل الرجل زوجته أمام أهله؟ الجواب: ينبغي أن يكون هذا مما يصان ولا يظهره، من أجل أن الرجل يستمتع بأهله على انفراد، ولا يكون أمام الآخرين. نكتفي بهذا القدر، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    حال حديث: ( من خلط سمكاً ولبناً فأصابه فالج فلا يلومن إلا نفسه ):
    السؤال: ما صحة حديث (من خلط سمكاً ولبناً فأصابه فالج فلا يلومن إلا نفس)؟ الجواب: هذا حديث غير صحيح، وقد جرب بعض الناس أكل السمك باللبن فلم يضرهم، وبعض الناس ضرهم، فالمسألة ترجع إلى طبيعة الأجساد.

    عدد وجبات السلف:
    السؤال: هل تناول ثلاث وجبات في اليوم والليلة مما أثر عن السلف ؟ الجواب: أثر عنهم الغداء والعشاء، وكان غداءهم في الصباح، والعشاء قبل المغرب كان عندهم وجبتان.

    حكم إجابة دعوة من عنده تلفاز:
    السؤال: إذا كان عند الداعي تلفاز هل يسقط وجوب إجابة الدعوة؟ الجواب: إذا كان التلفاز مفتوحاً على شيء محرم فيسقط إجابة الدعوة.

    حكم وضع اليد على الصدر بعد المصافحة:
    السؤال: كثير من الناس يضع يده على صدره بعد أن ينتهي من المصافحة؟ الجواب: لا أعلم في هذا دليل.

    كيفية الترتيب في إجابة أكثر من دعوة:
    السؤال: إذا دُعيت إلى وليمة، ودعيت بعد يومين إلى وليمة وقد نسيت الأولى وأني قد وافقت على الوليمتين، هل أذهب إلى ما أريد أم لابد من إجابة الأولى؟ الجواب: إذا كان فات وقت الأولى فتجيب الثانية، وإذا لم يفت فتجيب الأولى.

    حكم وضع الستائر على الجدران:
    السؤال: هل تُعتبر الستائر من ستر الجدران؟ الجواب: نعم. ولذلك توضع الستائر على الشبابيك لأجل الغبار أو الشمس، أما على الجدران كلها بما لا داعي له، فلاشك أن هذا نوع من الإسراف.

    حكم تقبيل البنت الصغيرة الأجنبية:
    السؤال: ما حكم تقبيل البنات الصغيرات الأجنبيات؟ الجواب: إذا كان بشهوة فهو حرام.
    الاستدلال بحديث الغلام على عدم السكوت حال الطعام
    السؤال: بعض الناس يستشهد بحديث: (يا غلام! سم الله) على دلالة الكلام عند الأكل؟ الجواب: هذا رأى منكراً فأنكره لا يستلزم أن يكون هذا دليل على هذه المسألة.

    عدم وجوب إجابة الدعوة العامة:
    السؤال: هذه الأيام تكثر الدعوة لوليمة العرس، وتكون عامة، فهل يكفي معرفة اسم الشخص دون معرفته شخصياً إذا كانت عامة؟ الجواب: إذا كانت الدعوة عامة فلا مانع أن تذهب، لكن لا يجب عليك إلا إذا خصصت بالدعوة.

    حكم إجابة المبتدع والكافر لتأليفه ودعوته إلى الله:
    السؤال: ما حكم إجابة المبتدع والكافر لتأليفه ودعوته إلى الله؟ الجواب: لا بأس أن يذهب لتأليفه ودعوته إلى الله.

    متى يأثم المدعو؟:
    السؤال: هل يأثم المدعو إذا اعتذر عن الإجابة؟ الجواب: إذا قبل العذر الحمد لله لا يأثم.

    مشروعية عدم إجابة دعوة العاصي:
    السؤال: ما حكم عدم الإجابة للدعوة تأديباً للداعي على معصيته؟ الجواب: مشروع.

    تحريم اللعب بالورق:
    السؤال: ما حكم لعب الورق؟ الجواب: جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء أنه حرام، وأن فيه شبه من الميسر، وأنه يلهي عن ذكر الله، أزيد على ذلك أن فيه صوراً لذوات الأرواح.

    عدم وجوب إجابة الدعوة إذا وجدت مشقة:
    السؤال: ما حكم إجابة الدعوة إذا كنت في بلد بعيد وفي السفر مشقة؟ الجواب: إذا كان فيه مشقة لا يتحملها الشخص لا يجب عليه الإجابة.

    وجوب الكفارة للحانث في يمينه:
    السؤال: حلف رجل على ألا يدخل منزل أبيه وأخيه حتى يغيروا المنكرات فيها، علماً أنه لا يجلس في مكان في البيت فيه منكر، وبعد ذلك دخل البيت، فهل عليه كفارة؟ الجواب: نعم. عليه كفارة إذا كان يمينه يمنياً واحداً.

    حكم الاقتراض من البنك:
    السؤال: هل يجوز اقتراض مبلغ من البنك ثم رده إلى البنك بأكثر؟ الجواب: هذا هو الربا بعينه.

    حالات وجوب إجابة الدعوة:
    السؤال: إذا كنا في عرس، ودعانا أحد الأشخاص في الليلة الثانية في عرس لولده، وكانت الدعوة لجميع الموجودين فما هو الحكم؟ الجواب: إذا كانت الدعوة عامة لا تجب، ويستحب أن تأتي، لكن إذا خصك أنت وأرسل إليك رسولاً، أو بطاقة باسمك، وجبت الإجابة ما لم يكن هناك عذرٌ.

    حكم ارتداء الملابس الداخلية أمام الناس:
    السؤال: هل الذهاب إلى دورة المياه في السكن الجامعي بالملابس الداخلية سراويل قصيرة وعليه سراويل طويلة وفنيلية يعتبر من خوارم المروءة؟ الجواب: هذا قد يعتمد على الشخص، وعلى شفافية هذا القماش، فقد يكون شفافاً، وقد يمشي مسافة بعيدة ويمر على أشخاص كثيرين، فبعض الأشخاص قد يكون إمام مسجد، لا يجوز في حقه أن يمشي بهذا الشكل بين الناس الذين هم من المأمومين، فعند ذلك يحتاط ويتحفظ ويكون محتشماً في ملابسه.

    حكم الأكل في المطعم المزجج:
    السؤال: كثير من المطاعم يكون تصميمه بالزجاج، مما يجعل المار ينظر إلى الزبائن وهم يأكلون؟ الجواب: هذا ليس هو الأفضل، الأفضل ألا يجعل من زجاج حتى لا ينظرون إلى الزبائن، لأن هذا كأنهم يأكلون في السوق، وهناك المار والغادي والرائح، ويدخل فيه كلام أهل العلم في قضية أنه من خوارم المروءة، ولا يشترط في خوارم المروءة أن تكون محرمة، لكن المقصود أنها مما يعاب.

    وصايا تساعد على هضم الطعام:
    السؤال: عدم شرب الماء الكثير مع الطعام يقلل الهضم؟ الجواب: هذه أشياء مذكورة، لكن يبدو أن هذا الكاتب له معرفة بالطب، يقول: أكل الفاكهة قبل الأكل مفيد لسببين: أولاً فرصة امتصاص المواد المفيدة في الفاكهة تكون أكبر. ثانيا: السكريات تقلل من الشهية للأكل بكثير. فائدة: شرب الشاي مع الطعام يمنع امتصاص فيتامين الحديد. فائدة: يمنع النوم مباشرة بعد الأكل لدرجة الشبع، فالنوم يشغل الجسم عن الهضم. هذه وصايا، وقضية الشره في الطعام والإكثار منه، وانتفاخ البطن، وعدم شرب الماء الكثير مع الطعام يقلل الهضم، فهذا آخر ما جاء من الأسئلة. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


    تعليق


    • #17
      محاضرة( آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل )للشيخ محمد المنجد

      محاضرة( آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل )للشيخ محمد المنجد

      عناصر الموضوع:
      1. الأدلة الواردة في المصافحة والمعانقة
      2. فضل المصافحة ومشروعية معانقة الأولاد وتقبيلهم
      3. تقبيل الميت والحجر الأسود
      4. تعريف المصافحة وحكم مصافحة النساء الأجنبيات
      5. حكم مصافحة الكفار
      6. بعض أحكام المصافحة
      7. بعض أحكام التقبيل
      8. الأدلة الواردة في مشروعية التقبيل في كتاب محمد بن إبراهيم المقرئ
      9. أحوال التقبيل
      10. الأسئلة

      آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل:
      ذكر الشيخ حفظه الله في هذه المادة أحكاماً وآداباً في المصافحة والمعانقة والتقبيل، فبدأ بإيراد الأدلة الواردة في ذلك، ثم بين ما يستحب منها وما يباح وما يكره، وبيَّن أن منها ما يحرم، وذكر الأدلة المبينة لذلك من فعل السلف الصالح رضوان الله عليهم.

      الأدلة الواردة في المصافحة والمعانقة:
      الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: سنتحدث اليوم -إن شاء الله تعالى- عن أدب آخر من الآداب الشرعية التي حفلت بها هذه الشريعة المطهرة، ألا وهو (أدب المصافحة والمعانقة والتقبيل) ولاشك أن هذا الأدب مما يحتاج إليه خصوصاً عند لقاء الإخوان وعند المقابلة، وكذلك مع أهل العلم ومع الأقارب، وقد جاء في المصافحة والمعانقة والتقبيل عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وعن السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وسنذكر بعض هذه الأحاديث مع التعليق عليها، وذكر بعض ما ذكره أهل العلم في هذه المسألة. فأما بالنسبة لهذه الآداب فقد ذكرها عدد من أهل العلم في كتبهم، ومنهم بعض الأئمة الستة في مصنفاتهم، وذكرها كذلك البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: الأدب المفرد ، فقال: باب مصافحة الصبيان، عن سلمة بن وردان قال: [رأيت أنس بن مالك يصافح الناس، فسألني من أنت؟ فقلت: مولى لبني ليث، فمسح على رأسي ثلاثاً، وقال: بارك الله فيك]. وعن أنس بن مالك قال: (لما جاء أهل اليمن قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أقبل أهل اليمن وهم أرق قلوباً منكم) وهم أول من جاء بالمصافحة. وقد صح موقوفاً ولم يصح مرفوعاً عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: [من تمام التحية أن تصافح أخاك] وقد روي مرفوعاً لكنه ضعيف. وأما بالنسبة للمعانقة فقد ذكر البخاري رحمه الله في باب المعانقة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابتعت بعيراً، فشددت إليه رحلي شهراً حتى قدمت الشام -أي سافر شهراً كاملاً من أجل سماع الحديث- فإذا عبد الله بن أنيس ، فبعثت إليه أن جابراً بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله ؟ فقلت: نعم. فخرج فاعتنقني -وهو موضع الشاهد، هذا قادم من سفر فخرج إليه أخوه الصحابي الآخر فاعتنقه- قلت: حديث بلغني لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت -أي: قبل أن أسمعه منك- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد -أو الناس- عراة غرلاً بهماً، قلنا: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد أحسبه قال: كما يسمعه من قرب..) وهذا من عجائب يوم القيامة أن الله ينادي الناس بصوت يسمعه البعيد كما يسمعه القريب، فإن العادة جرت أن البعيد يسمع أضعف من القريب، والقريب يسمع أشد من البعيد وأوضح، لكن الله سبحانه وتعالى عندما ينادي يوم القيامة ينادي بصوت يسمعه البعيد كما يسمعه القريب. يقول سبحانه وتعالى: (أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قلت: وكيف؟ وإنما نأتي الله عراة بهماً -ليس عندنا شيء حتى الثياب- قال: بالحسنات والسيئات) ورواه البخاري أيضاً تعليقاً في الصحيح ، ورواه موصولاً هنا في الأدب المفرد بإسناد حسن. وذكر رحمه الله حديثاً في باب الرجل يقبل ابنته، وذكر في باب تقبيل اليد، عن عبد الرحمن بن رزين ، قال: [ مررنا بـالربذة ، فقيل لنا: هاهنا سلمة بن الأكوع ، فأتيته فسلمنا عليه، فأخرج يديه، فقال: بايعت بهاتين نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأخرج كفاً له ضخمة كأنها كف بعير -لأن سلمة رضي الله عنه كان رجلاً ضخماً قوي البنية- فقمنا إليها فقبلناها ]. حديث حسن الإسناد. هذا ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى في موضوع المعانقة والمصافحة والتقبيل. أما بالنسبة لما رواه غيره من أهل العلم أو رواه هو -أي البخاري- في صحيحه فقد جاءت هناك أحاديث كثيرة، فمن ذلك على سبيل المثال: ما ورد في رواية الصحيحين في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: [ فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة، ويقولون: لتهنك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لـطلحة ]. الشاهد من الحديث قوله: [ صافحني ] عندما لقيه قام إليه فصافحه. وأما ما ورد أيضاً في سنن أبي داود ، ولكنه حديث مرسل فيه ضعف، وفي الرواية: عن رجل من عنـزة أنه قال لـأبي ذر حيث أخرج من الشام : (إني أريد أن أسألك عن حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إذاً أخبرك به إلا أن يكون سراً، قلت: إنه ليس بسر، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إليَّ ذات يومٍ ولم أكن في أهلي، فلما جئت أخبرت أنه أرسل لي، فأتيت وهو على سريره فالتزمني، فكانت تلك أجود وأجود) لكن هذا الحديث في سنده ضعف. ومن الأحاديث التي جاءت عن أهل اليمن -أنهم أول من جاء بالمصافحة- ما رواه أبو داود رحمه الله بالإضافة لما تقدم مما سمعناه في الأدب المفرد للبخاري رحمه الله، قال أبو داود: روي عن أنس بن مالك قال: (لما جاء أهل اليمن ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة) المصافحة معروفة قبل أن يأتي أهل اليمن ، لكن أول من أفشاها ونشرها هم أهل اليمن، كما ذكر شراح الحديث. وكذلك من الأحاديث التي وردت في هذا، ما رواه الترمذي رحمه الله تعالى عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جنب، قال: فانبجست -أي: فانخنست فاغتسلت، لم يصافح أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم لما لقيه وهو على جنابة، ذهب ورجع إلى البيت واغتسل- ثم جئت، فقال أين كنت؟ قال: إني كنت جنباً، قال: إن المسلم لا ينجس) تحرج من النبي عليه الصلاة والسلام وهو على جنابة، فلما سأله النبي عليه الصلاة والسلام لماذا ذهب وأخبره بما وجد من الحرج، وأنه ذهب ليغتسل، قال عليه الصلاة والسلام: (إن المسلم لا ينجس). وقد وردت عدة أحاديث في هذا الموضوع، وقال الترمذي رحمه الله بعد سياق الحديث: وقد رخص غير واحد من أهل العلم في مصافحة الجنب ولم يروا بعرق الجنب والحائض بأساً، ولذلك عنون بعضهم في كتاب الطهارة: باب في الجنب يصافح، والمقصود بهذه الترجمة أن الجنب ليس عليه بأس أن يصافح غيره. ومما ورد في فضل المصافحة وما فيها من الأجر العظيم، ما رواه أبو داود وغيره عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا) وقد رواه الترمذي رحمه الله تعالى كذلك في سننه ، وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب، فالحديث صحيح وله ألفاظ كثيرة، وقد جاء: (أنهما إذا تصافحا فأخذ كل منهما بيد الآخر، لا يأخذ بها إلا لله -وهذا الشرط مهم- تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر في الخريف). إذاً: من فضل أخذ اليد والمصافحة مغفرة الذنوب، وتتحات الخطايا بكثرة. وكذلك مما ذكر الدارمي -رحمه الله- في كتاب الطهارة عن حماد قال: سألت إبراهيم عن مصافحة اليهودي والنصراني والمجوسي والحائض؟ فلم يرَ فيه وضوءاً، أي: لو صافح امرأته أو أخته وهي حائض مثلاً، أو صافح كافراً فإنه لا يلزمه الوضوء، لأن مجرد المصافحة ليس من نواقض الوضوء. أما مسألة أن المصافحة كانت شائعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يدل على ذلك الحديث الذي رواه البخاري و الترمذي عن قتادة ، قال: [قلت لـأنس بن مالك : هل كانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم]. إذاً: كانت المصافحة معروفة وموجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وبالنسبة لالتقاء المسلم مع أخيه لو حصل، فإن المشروع فيه المصافحة في الأحوال العادية، ولذلك جاء عند ابن ماجة من حديث أنس بن مالك قال: (قلنا: يا رسول الله! أينحني بعضنا لبعض؟ قال: لا. قلنا: أيعانق بعضنا بعضاً؟ قال: لا. ولكن تصافحوا). وكذلك روى الترمذي رحمه الله عن أنس بن مالك قال: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا. قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن. إذاً: هذا الحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن السنة إذا التقى الإنسان بأخيه المسلم أنه لا يعانقه ولا يقبله ولا ينحني له، وإنما يصافحه مصافحة.

      فضل المصافحة ومشروعية معانقة الأولاد وتقبيلهم:
      جاء كذلك في الأحاديث أيضاً، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) وهذا الحديث قد رواه الإمام مالك رحمه الله في الموطأ ، لكن إسناده معضل، فقد سقط من إسناده رجلان، وقد جاء الحديث من وجوه، حتى قال ابن عبد البر : هذا يتصل من وجوه شتى حسان، وقال ابن المبارك: حديث مالك جيد، فعند ابن عبد البر -رحمه الله- أن هذا الحديث قد جاء موصولاً من طرق شتى، فالفائدة منه هي قوله: ( تصافحوا يذهب الغل ) فالمصافحة تذهب الحقد والعداوة التي تكون فيها بعض النفوس ممتلئة على بعض. ولذلك فالعناية بها لها فوائد، فقد تبين لنا أن من فوائد المصافحة أنها من أسباب مغفرة الذنوب والمحبة، وإذهاب الغل والحقد، وقد جاء كذلك في موضوع المعانقة والتقبيل عدة أحاديث أخرى، فقد روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه في كتاب الاستئذان، باب المصافحة، هذا أيضاً يضاف إلى المصافحة حديث ابن مسعود في التشهد، عندما علمه النبي صلى الله عليه وسلم التشهد، قال: (وكفي بين كفيه). وقد جاء -أيضاً- في موضوع المعانقة، ما جاء في كتاب المناقب، في صحيح البخاري ، باب مناقب الحسن و الحسين رضي الله عنهما، قال نافع بن جبير: عن أبي هريرة : (عانق النبي صلى الله عليه وسلم الحسن ) وقد رواه هنا معلقاً، ورواه أيضاً موصولاً كما سيأتي، وهذا الحديث الموصول هو ما رواه في كتاب البيوع، عن أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى أتى سوق بني قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة ، فقال: أثم لكع، أثم لكع، فحبسته قليلاً، فظننت أنها تلبسه سخاباً -وهو نوع من الملابس، تجهز الولد للقاء جده وهو النبي صلى الله عليه وسلم، أو تغسله حتى يخرج إليه طيب الرائحة- فجاء يشتد حتى عانقه وقبله) وهذا فيما يتعلق بموضوعنا في معانقة الصغار وتقبيلهم، ومعانقة الجد لحفيده وتقبيله. وموضوع الصغار يختلف عن موضوع الكبار، مثل الولد والحفيد يعانقه ويقبله ويشمه، كما جاء في الحديث الصحيح، لكن هذا يختلف عما يفعل مع الكبار، فالصغار من السنة أن يشمه ويقبله ويعانقه إذا لقيه كابنه وحفيده عانقه وقبله وقال: (اللهم أحببه وأحب من يحبه). وقد جاء هذا الحديث أيضاً في صحيح مسلم رحمه الله عن أبي هريرة قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة ، فقال: أثم لكع، أثم لكع -أي: حسناً، وفي هذه الرواية تعيين الصبي الذي خرج إليه أنه الحسن بن علي رضي الله عنه -فظننا أنه إنما تحبسه أمه، لأن تغسله وتلبسه سخاباً- فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أحبه فأحبه وأحبب من يحبه) هذا بالنسبة لما فعله عليه الصلاة والسلام بحفيده. أما ما فعله عليه الصلاة والسلام مع ولده إبراهيم، فقد جاء في الحديث الصحيح في البخاري ، عن أنس بن مالك قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القيني ، وكان ظئراً لـإبراهيم -فهذا الحداد رضي الله عنه كان عنده إبراهيم يرتضع، مكث عنده فترة من الزمن- فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه...) الحديث. إذاً: في هذا الحديث مشروعية شم الأولاد وتقبيلهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وقد جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداًً، هذا رجل من الأعراب كان في الأعراب شيء من الجفاء، والخشونة والغلظة، استغرب قال: يا رسول الله! أنتم تقبلون الصبيان، وأنا عندي عشرة أولاد ما قبلت واحداً منهم؟ كأنها عندهم شيء مما يتنافى مع الرجولة، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنكراً هذا الكلام ومعاتباً، ثم قال: (من لا يرحم لا يرحم) وقال عليه الصلاة والسلام في عتابه: (أوأملك لك إذ نزع الله الرحمة من قبلك). إذا نزع الله الرحمة من قلبك لا تقبل الصبيان فماذا أملك لك؟ فهذا يدل على مشروعية تقبيل الصبيان. وعنون البخاري رحمه الله: (باب من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحهها)، هذه الصبية الصغيرة، وعموماً فإن الرحمة بالصغير تكون مقيدة بما لم يكن هناك فتنة. ومما ورد من الأحاديث التي فيها التقبيل: تقبيل الأب لابنته، فقد روى البخاري رحمه الله في كتاب المناقب، أن البراء دخل مع أبي بكر على أهله، فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها قبل خدها، وقال: كيف أنت يا بنية؟ إذاً هذا من تقبيل الأب لابنته المريضة، ومن المعلوم أن عائشة رضي الله عنها أول ما قدمت المدينة كانت صغيرة، فأصابت عدداً من المهاجرين حمى المدينة ، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا أن يذهب الله ما فيها من الحمى، فيجعلها بـالجحفة ، ولذلك قال: (وصححها لنا) أي: اجعل جوها وهواءها يكون فيه صحة لا يكون فيه مرض، فمن بركة المدينة أن جوها صحي أكثر من غيرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك.

      تقبيل الميت والحجر الأسود:
      ومما ورد أيضاً في التقبيل من الأحاديث: تقبيل الميت، فقد روى البخاري رحمه الله في كتاب الجنائز: (أن أبا بكر أقبل على فرسه من مسكنه بـالسنح ، حتى نزل، فدخل المسجد فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة رضي الله عنها، فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم -قصده- وهو مسجىً ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد نلتها ...) الحديث. إذاً: يشرع تقبيل الميت، والكشف عن وجهه، وتقبيله بين عينيه قبل أن يدفن. ومما ورد في التقبيل من الأحاديث: تقبيل الحجر الأسود، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عمر أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله، فقال: [إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك]. وقد جاء أيضاً في صحيح مسلم رحمه الله تعالى عن سويد بن غفلة قال: رأيت عمر قبَّل الحجر والتزمه، وقال: [رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفياً] فإذاً يسجد عليه ويقبله إذا تمكن، فإذا لم يتمكن من تقبيله واستلمه بيده -أي: لمس الحجر بيده- هل يقبل يده؟ روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبيد الله عن نافع ، قال: [رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله]. إذاً: تقبيل اليد بعد لمس الحجر إذا لم يستطع أن يقبل الحجر مباشرة لأجل الزحام، فماذا يفعل؟ فإنه إذا استلم الحجر بيده قبَّل يده، وسيأتي بعض التفصيل لذلك.

      تعريف المصافحة وحكم مصافحة النساء الأجنبيات:
      جاء في منظومة ابن عبد القوي رحمه الله في موضوع المصافحة، قوله:
      وصافح لمن تلقاه من كل مسلم تناثر خطاياكم كما في المسند.
      أي: يا أيها المسلم! صافح كما جاء في المسطور عن النبي الأواب، المبعوث بالسنة والكتاب، صافح أخاك المسلم إذا لقيته. والمصافحة في اللغة: هي على وزن مفاعلة، أي: أنها تحدث من طرفين، وهي مأخوذة من إلصاق صفح الكف بالكف، ومنه علم أنه إذا أمسك بأطراف أصابعه فهي ليست مصافحة كاملة كما يفعل بعض الناس، وهذه ليست مصافحة الرجال، بل ولا حتى مصافحة النساء، لأن هذه المصافحة ناقصة، والمصافحة المشروعة هي وضع صفح الكف بصفح الكف والقبض عليها، فإذاً لا تكون المصافحة إلا بذلك. وأيضاً من تعريف المصافحة: إقبال الوجه على الوجه، فلو أعطاه يده من وراء ظهره.. ونحو ذلك لا تكون مصافحة شرعية إلا في أحوال قد تكون للحاجة أو أنه لا يستطيع ونحو ذلك. ويقال: صافحته، أفضيت بيدي إلى يده. وفي القاموس: المصافحة: الأخذ باليد كالتصافح. قوله رحمه الله:
      وصافح لمن تلقاه من كل مسلم.
      قيد الناظم رحمه الله المصافحة بالمسلم، أي: أن الكافر ليس له مصافحة.. هذا هو الأصل، لكن هل تحرم مصافحته أم لا؟ سيأتي الكلام على ذلك. إذاً: المسلم ولو كان صغيراً أو كبيراً فإنه يصافح بشرط أن تؤمن الفتنة، فقد يكون أمرداً أو يكون له فتنة به، فعند ذلك تحرم مصافحته ولاشك في ذلك. أما بالنسبة لمصافحة المرأة الأجنبية فإنه لا يجوز مصافحتها، سواءً كانت كبيرة أو صغيرة، وكذلك قد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن مصافحة النساء؟ قال: "لا. قال: قلت: فيصافحها بثوبه -لو جعل الثوب حائلاً؟ يمد يده فيكون الثوب بين يده ويدها- قال: لا". وقال ابن تيمية رحمه الله: "إن الملامسة أبلغ من النظر". ملامسة المرأة أبلغ من النظر إليها في الفتنة وثوران الشهوة، ولذلك لا يجوز مطلقاً. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن الإنسان لو طعن بمخيط -المخيط الإبرة العظيمة التي يخاط بها- في رأسه خير له من أن يمس امرأة لا تحل له، سواء كان في المصافحة أو في غير المصافحة، ويكون هذا مس المرأة التي لا تحل له، وهذا من قواعد الشريعة العظيمة التي تدرأ بها الفتن، وتسد بها الذرائع إلى الشر، ويؤمن بواسطتها من ثوران الشهوات. إذاً: لا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية لا بحائل ولا بغير حائل، لا كبيرة ولا صغيرة. فإن قال قائل: الكبيرة ماذا يجوز منها إذاً؟ نقول: الله عز وجل قال: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً [النور:60]. وهذا الشرط أن تكون المرأة من القواعد من النساء -كبيرات السن- لا يرجون نكاحاً، أي: أنها بلغت من الكبر عتيا، وأنه قد ذهب كل جمال فيها، بحيث لم تعد ترجو زواجاً مطلقاً، ولا أحد يطمع فيها أو يتزوجها أبداً، فهذه المرأة فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60] أي: يجوز لها أن تضع الخمار عن رأسها إذا دخل عليها أجنبي، ولكن يشترط مع ذلك ألا تكون متزينة. على سبيل المثال: لا يجوز أن تضع مكياجاً مثلاً، أو حمرة أو خضرة، أو أي نوع من أنواع المساحيق الموجودة وغيرها، لا يجوز أن تضع ذلك وتكشف على الأجنبي، ولو كانت كبيرة ولا تشتهى، لا تضع الزينة، كل ذلك من احتياطات الشريعة لعدم الوقوع في الفاحشة، وعدم إشاعة الفتنة وثوران الشهوة، ولأجل صيانة المجتمع المسلم وحماية أفراد المسلمين، ولكل ساقطة لاقطة. إذاً: المرأة الكبيرة يجوز لها أن تضع ثيابها غير متبرجة بزينة إذا كانت لا ترجو نكاحاً، لكن لا يجوز مصافحتها ولا الخلوة بها، ولا أن تتعطر عنده ولا تتزين، ولا يسافر بها إذا لم يكن لها محرماً، لأن بعض الناس قد يتساهلون في الكبيرات، فيصافح ويقبل ويسافر ويخلو بها، فنقول: أقصى ما ورد أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة. أما المرأة الشابة الأجنبية فهذا معروف من باب أولى أنه لا يجوز مصافحتها ولا تقبيل رأسها ولا غيره، ولا السفر بها بدون محرم، ولا أن تكشف عليه، ولا أن يخلو بها.. إلى آخره.

      حكم مصافحة الكفار:
      أما بالنسبة لمصافحة الكافر، فإن الناظم ابن عبد القوي رحمه الله قال في منظومته:
      وصافح لمن تلقاه من كل مسلم تناثر خطاياكم كما في المسند

      حكم مصافحة أهل الذمة:
      بالنسبة لمصافحة غير المسلمين، فقد سئل الإمام أحمد عن مصافحة أهل الذمة؟ فقال: لا يعجبني. وهذا اللفظ من ألفاظ الكراهة عنده. إذاًَ: يكره عند الإمام أحمد رحمه الله للرجل أن يصافح كافراً، لكن لو صافحه جاز ذلك ولا يأثم، خصوصاً إذا كان يرجو تأليف قلبه للدخول في الإسلام. أما ما عمت به البلوى اليوم من كثرة وجود الكفرة بيننا في الأعمال المختلفة والمكاتب والجامعات.. ونحو ذلك، ونحن ننصح ونقول: أنت لا تمد يدك ابتداءً، لكن لو مد هو يده فإن خشيت من مفسدة، كأن يضر بك مثلاً، فيمكن أن تصافحه، لكن الأحسن ألا تفعل ذلك، لكن إذا صافحته فلا تأثم، وهؤلاء الذين يعملون في المكاتب والشركات.. ونحو ذلك يجدون حرجاً كبيراً في هذا الموضوع، فنقول: لا تبتدئ الكافر بالمصافحة، لكن لو مد الكافر يده ولم يكن في ذلك ضرراً على الإسلام وأهله، أو لم يكن في يده نجاسة مثلاً، لأن هؤلاء لا تدري عنهم ماذا يمسون بأيديهم، وقد يدخل دورة المياه والحمام والمرحاض وبيت الخلاء ويمس نجاسة ولا يغسل يده، فأنت لا تعلم كيف يفعلون، فهم أناس لم يتعلموا التنـزه والطهارة، ولم يطبقوا ذلك، لاشك أن أيديهم يكون فيها ما فيها، فهذا ما يمكن أن يقال في موضوع مصافحة الكافر.

      حكم مصافحة الكفار المحاربين:
      أما مصافحة عدو الله المحارب للإسلام، والمجاهر بالعداء للدين، أو يطعن في الدين، أو يثير الشبهات حول الإسلام، أو عن أي شيء في الدين، أو المبتدع، فلا مصافحة، وخصوصاً الذي بدعته كفرية تخرج عن الملة، فلا تجوز مصافحته؛ لأن المصافحة فيها مودة، والله عز وجل حرَّم المودة تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا [الممتحنة:1] ثم هؤلاء الذين أظهروا وأبدوا العداوة، فلا يجوز إظهار المودة لهم، والمصافحة من المودة. وقول الناظم رحمه الله تعالى: "تناثر خطاياكم"، فتناثر الخطايا: تفرقها وتساقطها، والخطايا جمع خطيئة، وهي: الذنب، أو ما يتعمد من الخطايا. وقوله: كما في المسنَّد: الأصل المُسْنَدِ ، لكن شدده لضرورة الوزن.

      بعض أحكام المصافحة:
      جاءت أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين إذا التقيا فتصافحا غفر لهما قبل أن يتفرقا، ذكرها الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره، وسبق ذكر بعضها قبل قليل. وبالنسبة لإشهار المصافحة وإعلانها سنة، وقد كانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبالنسبة لأول من صافح وعانق، قيل: إنه إبراهيم الخليل عليه السلام، لكن هذا يحتاج إلى دليل.

      المصافحة بعد الصلوات المفروضة:
      مما يتعلق بالمصافحة: المصافحة بعد الصلوات المفروضة، وقد نص أهل العلم على أن المداومة على المصافحة بعد كل صلاة بأن يصافح من عن يمينه وعن شماله بدعة. فنقول: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون وراءه، وما نقل عنه ولا عنهم أنهم بعد الصلاة كان يصافح بعضهم بعضاً، أو من عن يمينه وعن شماله، وإذا ألحقنا بالعبادة شيئاً معيناً وواظبنا عليه بعدها، كالمصافحة يميناً وشمالاً، فلاشك أننا نكون قد وقعنا في البدعة. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن المصافحة بعد العصر والفجر، هل هي سنة مستحبة أم لا؟ فأجاب رحمه الله بقوله: أما المصافحة عقب الصلاة فبدعة، لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستحبها أحدٌ من العلماء. إذاً: إذا التقى المسلمون، وقاموا من المسجد وخرجوا، أو وهم داخلون إلى المسجد وقابل بعضهم بعضاً، هل يتصافحون؟ الجواب: نعم، وورد سؤال عن رجل في صلاة الجمعة مد إليه رجل آخر يده أثناء الخطبة، فهل يصافحه أم لا؟ فسألت الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا السؤال، فقال: يصافحه دون كلام. لكن هل يجوز أن تشغل الناس أثناء الخطبة وتشغلهم عن سماعها؟ الجواب: لا، لكن لو أن شخصاً فعل ذلك وفوجئت به فصافحه دون سلام. علَّم النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود التشهد وكفه بين كفيه، فيمكن أن يطول التصافح، ليعلمه شيئاً مثلاً، وقد قال الصحابي: (صافحت بكفي هذه كف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أر خزاً ولا حريراً ألين من كفه عليه الصلاة والسلام). بالنسبة لمسألة المعانقة والتقبيل، فهي من الأشياء التي ترد بعد قضية المصافحة، لكن ينبغي أن نؤكد على مسألة المصافحة تأكيداً آخر قبل أن نغادر هذه النقطة، لأجل أن كثيراً من الناس يقصرون فيها، وربما مر بجانبه ويمكن أن يصافحه فلا يفعل ذلك. نعم! إنها ليست بواجبة، لكن لماذا يفوت هذا الأجر العظيم في قضية المغفرة، وتحات الخطايا والمودة، لماذا يفرط في ذلك؟ إذاً: ينبغي أن نحافظ على هذه الشعيرة الإسلامية، والأصل أن المصافحة تكون باليد اليمنى، لكن قد يكون فيه شيء في يده اليمنى من كسر أو حرق أو جرح فلا يستطيع المصافحة بها، فلو صافح باليد الأخرى فلا بأس بذلك.

      مصافحة العلماء والأرحام:
      وكذلك فإن مصافحة العلماء والأرحام كالآباء... وغيرهم من الأمور المؤكدة التي ينبغي التأكيد عليها أكثر من غيرها، أي: مصافحة أهل الخير أولى من مصافحة غيرهم، والاعتناء بذلك ينبغي أن يكون مما عليه حال طالب العلم، وقد ورد أن حماد بن زيد صافح ابن المبارك .

      بيان كيفية المصافحة :
      أما قضية المصافحة باليدين، فإن بعض الناس إذا صافح فإنه يصافح بكلتا يديه، فيقبض على يمينك ويضع شماله فوقها، فقد جاء في البخاري : باب الأخذ باليد، وصافح حماد بن زيد ابن المبارك بيديه، ومر معنا حديث ابن مسعود قوله: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه) أي: أنه آخذ بكف ابن مسعود بكفيه كلتيهما. إذاً: لو فعل ذلك فلا بأس به، فقد صافح ابن المبارك حماد بن زيد بكلتا يديه، فلا حرج فيها إذاً. بعض الناس يصافح ثم يقبض على إبهام صاحبه مثلاً، فنعلم أن المصافحة هي وضع الصفح بالصفح، أما القبض على الإبهام فلا يكون مصافحة. وضع الساعد على الساعد ليس مصافحة في اللغة، لكن أحياناً تدعو الحاجة إذا مد يده، والآخر يده غير جاهزة للمصافحة فيعطيه ساعده، فهذا لا بأس به ولو أنه أقطع اليدين الكف غير موجودة، فيقبض على الساعد وهذا للحاجة وليس هو الأصل. المصافحة فيها شيء من الهز: إذا قبض على اليدين فهزها فلا بأس بذلك أيضاً، ولكن برفق، فمن أخطاء المصافحة: أنه إذا قبض على يده قبض بقوة.. يفرقع بها أصابع الآخر، ويشد بها شداً مؤذياً مؤلماً، حتى تجده يقول: ليتني لم أصافحه، أو تراه يحتال لتخليص يده، أو يريد أن ينـزع يده بسرعة، فلاشك أن هذا ليس من الأدب. وكذلك إذا هزها بقوة حتى يكاد يخلع يده، فهذا أيضاً ليس من الأدب. فالمصافحة وضع الصفح في الصفح بلين ورفق وهز يسير لو أراد، هذا هو ما ينبغي أن تكون المصافحة، أما أن تكون المصافحة وسيلة لإيذاء الآخر فهذه ليست مصافحة مشروعة، وينبغي على القوي أن يرفق بالضعيف، وعلى الكبير أن يراعي الصغير، فيصافح برفق ولين.

      أحكام المعانقة:
      أما بالنسبة للمعانقة فقد وردت فيها أحاديث تقدم ذكر بعضها، وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه باب المعانقة، وقول الرجل: كيف أصبحت؟ ثم ساق حديث النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي مات فيه، وقول علي رضي الله عنه لما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: (يا أبا حسن ! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً -تفاؤلاً- فأخذ بيده العباس ، فقال: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، والله إني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفى في وجعه، وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله فيمن يكون الأمر...) الحديث. المعانقة عند القدوم من السفر سنة، كما جاء ذلك في حديث استقباله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه، ونص شيخ الإسلام رحمه الله على تقييدها بالسفر، وفي الأحوال العادية ليس هناك معانقة؛ لأن الحديث قال: (أيلتزمه فيعانقه؟ قال: لا). وأما إذا قدم من سفر فقد ثبتت المعانقة. وكذلك الصبيان فيعتنقهم حتى لو كان بغير سفر، سواء كان ولده أو حفيده كما جاء في الآثار، أما وغيرهم فيجوز ذلك مع أمن الفتنة، وكل هذه الأشياء: (المصافحة والمعانقة والتقبيل) يشترط فيها العلماء الأمن من الفتنة والشهوة؛ لأن المسألة حتى مع غير النساء يوجد فيها فتنة وشهوة، وهذا ما يذكره أهل العلم في مسألة المردان. في قضية المعانقة فإن الإمام أحمد رحمه الله احتج بحديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم عانقه، وقال إسحاق بن إبراهيم : سألت أبا عبد الله عن رجل يلقى الرجل يعانقه؟ قال: نعم. فعله أبو الدرداء. وقال: في الإرشاد المعانقة عند القدوم من السفر حسنة. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: فقيدها بالقدوم من السفر، وقال القاضي أبو يعلى من الحنابلة: وهو المنصوص عليه في السفر. إذاً: إذا قدم من السفر فعند ذلك يتعانقون، وقد جاء عن الشعبي أنه قال: [كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا التقوا تصافحوا، فإذا قدموا من السفر عانق بعضهم بعضاً]. قال السفاريني : قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية : إسناده جيد. أما بالنسبة لمعانقة الكافر فهي أشد من المصافحة بلاشك، وكذلك المبتدع، فيبتعد عنها أشد من ابتعاده عن المصافحة. أما بالنسبة لحديث أبي ذر المتقدم، فقد جاء عند أبي داود وفيه رجل مجهول، وقد جاء أنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه جعفر قام يجر إزاره، وهذا إذا انفلت الإزار بغير قصد، وليس المقصود أنه يتعمد إرسال الإزار، فإن الإسبال معروف حكمه، لكن قد يسقط عن قيام الشخص فجأة، أو لظرف عارض ونحو ذلك، فاعتنقه عليه الصلاة والسلام. قال بعضهم: تكون المعانقة إذا طالت الغيبة، وقد ذكر ذلك بعض أهل العلم قياساً على السفر، أن السفر فيه بعد وطول عهد، لكن ينبغي ألا يكون هذا ذريعة إلى إفشاء المعانقة كالمصافحة، وأن تكون في غير موضعها، وخصوصاً أن المسألة فيها نص، أنه عليه الصلاة والسلام سئل (أيلتزمه ويعانقه؟ فقال: لا.). إذاً: تكون المصافحة فقط في الأحوال العادية.

      بعض أحكام التقبيل:
      أما بالنسبة للتقبيل، فإن التقبيل مصدر قـبّل، والاسم منه: قبلة، والجمع: قُبَل.

      أقسام التقبيل:
      قسم بعض أهل العلم التقبيل إلى خمسة أقسام: 1- قبلة المودة للولد على الخد. 2- قبلة الرحمة للوالدين على الرأس. 3- قبلة الشفقة لأخيه على الجبهة. 4- قبلة الشهوة لامرأته أو أمته على الفم. 5- قبلة التحية للمؤمنين على اليد، أي: للعلماء أو للأبوين. 6- وزاد بعضهم: قبلة الديانة للحجر الأسود، للحاج والمعتمر، وهذا معروف، وقد تقدمت فيه الأحاديث، فإن عجز عن التقبيل استلمه بيده ثم قبلها، وبالنسبة إذا استلمه بغير يده، كما إذا استلمه بعصا، فقد جاء عن ابن عباس قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن) وجاء هذا الحديث في الصحيحين ، أما بالنسبة للركن اليماني فلا تقبيل، وإنما هو مسح فقط واستلام، يستلمه ويمسح عليه، ولاشك أن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطاً، وقد ثبت أنهما ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما، وإلا لأعشى ذلك النور أبصار أهل الأرض. وبالنسبة لتقبيل الأجنبية فهو نوع من الزنا ولاشك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن زنا الجوارح.. زنا اليد، وزنا العين النظر، وزنا اللسان، وزنا الأذن، وزنا الرجل.. وغير ذلك، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.

      حكم تقبيل اليد والفم والأمرد:
      وقد نص العلماء أيضاً في أحكام التقبيل، على تحريم تقبيل الأمرد الذي يكون مع تقبيله الشهوة. وكذلك فإنهم قالوا: لا يجوز للرجل أن يقبل فم الرجل، وكذلك المرأة لا تقبل فم المرأة، الفم عموماً متروك للزوجين أو الرجل وأمته. أما تقبيل اليد فقد جاء في الحديث أنهم قبلوا يد النبي عليه الصلاة والسلام، وعند البخاري في الأدب المفرد -كما تقدم- أنهم قبلوا يد سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، فأخذوا منها أن تقبيل يد العالم والفاضل أو الوالدين لا بأس به ولا حرج؛ بل هو مشروع، أما تقبيل يد الظالم فقالوا: إنها معصية، إلا إذا خشي على نفسه، وتقبيل الأرض بين يدي العظماء من المنكرات.

      أثر التقبيل على الاعتكاف والوضوء والصلاة والصيام:
      التقبيل يتعلق به أحكام في قضية الاعتكاف، هل إذا قبل يبطل الاعتكاف أم لا؟ نقول: إذا أنزل أبطل. وكذلك بالنسبة للصائم: هل يقبل؟ إذا كان يأمن على نفسه يقبل، وإذا كان لا يأمن على نفسه فلا يجوز أن يقبل. وذكروا كذلك في قضية الوضوء، هل ينتقض الوضوء بالقبلة أم لا؟ إذا خرج منه شيء انتقض وضوءه، وإذا لم يخرج منه شيء فوضوءه صحيح. وكذلك فإن التقبيل في الصلاة يفسدها عند من يقول ببطلان الوضوء بالتقبيل. ويحرم على المحرم بالحج والعمرة أن يقبل زوجته، ومن فعل ذلك بشهوة فعليه دم، وكذلك من قبل زوجته المطلقة بنية الرجعة في العدة، فهو رجوع.

      حكم تقبيل المصحف والخبز:
      وأما بالنسبة لتقبيل المصحف، فإنه لم يرد فيه شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ورد عن عكرمة أنه كان يقبله، ويقول: [كلام ربي، كلام ربي] وهذا ليس مما وافقه عليه الصحابة، ولذلك نص بعض أهل العلم على بدعية هذا. والناس اعتادوا تقبيل المصحف خصوصاً إذا سقط أو وقع على الأرض، وكأنه صار عندهم دين وشرع أن المصحف إذا وقع لابد أن يقبل، وليس هناك دليل على ذلك، والمواظبة على تقبيله مما لم يرد فيه دليل صحيح. وكذلك تقبيل الخبز، فإن بعض الناس يقبلون الخبز، وهذا مما لم يرد فيه دليل أيضاً، لكن الخبز ورد الحديث بإكرامه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكرموا الخبز) ومن إكرامه كأن يكون موجوداً فلا يلقى ويرمى ويهان، ولا يجعل مع القاذورات والنجاسات، إذا رأيته مرمياً فأخذته ورفعته، فهذا من إكرام الخبز، لكن تقبيله ليس عليه دليل. وتقبيل يد العالم الورع والوالدين تقدم، كما أنه يقبله في جبهته، وأيضاً يقبل يده، والنبي صلى الله عليه وسلم عانق جعفراً حين قدم من الحبشة ، وقبله بين عينيه، لكن هذا الحديث الذي رواه أبو داود قال المنذري : إنه حديث مرسل؛ لأنه من رواية الشعبي. ومن أنكر من العلماء تقبيل اليد، لعلهم لم يطلعوا على الحديث أو لم يثبت عندهم صحته، وتقبيل الأولاد والأحفاد والصغار تقدم الحديث فيه مع أمن الشهوة عموماً، وتقبيل الأب لابنته، والبنت لأبيها، وينبغي أن يشدد في مسألة تقبيل الأقارب بعضهم لبعض، لأجل فشو الفساد في هذا الزمان، لكن لو قبل جدته مثلاً في رأسها فلا حرج في ذلك، الجدة مثل الوالدة، وكذلك الجد، أو قبلت جدها في رأسه أو يده، فلا حرج في ذلك.

      حكم تقبيل المحارم:
      وموضوع التقبيل يستثنى منه تقبيل الفم -كما تقدم- وأنه خاص بالزوج، ولذلك حتى الأب لا يقبل ابنته في الفم مطلقاً، وبالنسبة لتقبيلها في الخد ورد حديث أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وذكر ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية فصلاً في تقبيل المحارم من النساء في الجبهة والرأس، قال ابن منصور لـأبي عبد الله : يقبل الرجل ذات محرم منه؟ قال: إذا قدم من سفر ولم يخف على نفسه، وذكر حديث خالد بن الوليد قال إسحاق بن راهويه ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم من غزوٍ فقبل فاطمة ، ولكن لا يفعله على الفم أبداً، الجبهة أو الرأس. وقال بكر بن محمد، عن أبيه، عن أبي عبد الله، وسئل عن رجل يقبل أخته؟ قال: قد قبَّل خالد بن الوليد أخته. إذاً بالنسبة لتقبيل الأخت، ولابد من الأمن من ثوران الشهوة أو الفتنة، فنقول: لو صار كمثل عادات الناس اليوم، أن الرجل إذا واجه -مثلاً- أخته، قالوا: سلم عليها، وعند العامة كلمة سلم عليها معناها: تقبيل، لكن إذا نظرت في الحقيقة إلى كيفية التقبيل وجدت أنها معانقة، ولكن القبلة لا تقع على الوجه ولكن تقع في الهواء، هذا لا حرج فيه أصبحت معانقة وليست بتقبيل. إذاً هناك ضوابط في المسألة ذكرها الإمام أحمد رحمه الله في قضية أمن الشهوة والفتنة وعدم التقبيل في الفم مطلقاً، ولو كانت من المحارم وكبيرة فقبل رأسها فلا حرج في ذلك، أي: إذا أراد أن يقبل في الوجه يجعلها في الجبهة والرأس، مثل الخالة والعمة والأخت الكبيرة التي تكون أحياناً بمثابة الأم، والجدة التي هي أم، هذا بعض ما يتعلق بموضوع المصافحة والمعانقة والتقبيل. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الفقه في دينه.

      الأدلة الواردة في مشروعية التقبيل في كتاب محمد بن إبراهيم المقرئ:
      نريد أن نكمل موضوعاً آخر أيضاً وهو ما يتعلق بالتقبيل، فإنه قد كان الكلام في جلسة ماضية عن آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل، فتقدم الكلام عن المصافحة، وأظن من الآداب التي فات ذكرها: ألا ينـزع يده حتى ينـزع الشخص الآخر يده، لكن ذكر شيخ الإسلام كلاماً أنه إذا كان ذلك المقام يطول، بحيث أن هذا لم ينـزع يده والآخر مثله، سيبقى الجميع واقفون إلى متى؟ لذلك لو أن البادئ بمد اليد هو الذي يسحب يده أولاً في إنهاء هذه القضية فلا حرج في ذلك. فأما بالنسبة للتقبيل، فهناك كتاب بعنوان: الرخصة في تقبيل اليد ، من تصنيف الحافظ أبي بكر محمد بن إبراهيم المقرئ ، ذكر فيه أحاديث ونصوصاً في مسألة التقبيل، بالإضافة لما سبق ذكره سابقاً، وقد أورد حديث أسامة بن شريك ، قال: (قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده). قال ابن حجر رحمه الله: سنده قوي. وكذلك أورد فيه من الأحاديث -أيضاً- حديث أم ولد أنس بن مالك قالت: كان ثابت إذا أتى أنساً قال: [يا جارية! هاتِ طيباً أمسه بيدي، فإن ثابتاً إذا جاء لم يرض حتى يقبل يدي] وهو حديث صحيح، فإن ثابتاً كان يقبل يد أنس بن مالك ؛ لأن يد أنس بن مالك مست يد النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك من الأحاديث التي ذكرها، حديث سلمة بن الأكوع ، قال: [ بايعت بيدي هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم]. وقال الراوي عبد الرحمن بن رزين: قبلناها ولم ينكر ذلك. وقال ابن حجر رحمه الله: إسناده جيد، وقال الهيثمي : رجاله ثقات. وكذلك أورد حديثاً قد رواه البخاري في الأدب المفرد ، وهو عن ذكوان أن رجلاً قال له صهيب : [ رأيت علياً رضي الله عنه يقبل يدي العباس أو رجله، ويقول: أي عم! ارض عني ]. وكذلك أورد أثر موسى بن داود قال: [ كنت عند سفيان بن عيينة ، فجاء الحسن الجعفي ، فقام ابن عيينة فقبل يده ] وهذا صحيح إليه. وكذلك أثر ثابت قال: قلت لـأنس بن مالك : [أحب أن أقبل ما رأيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمكنه من عينيه]. وقال ثابت : [كنت إذا أتيت أنساً أخبر بمكانه، فأدخل عليه فآخذ بيديه فأقبلهما، فأقول: بأبي هاتين اليدين اللتين مستا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عينيه، وأقول: بأبي هاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم]. قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أبي بكر المقدمي وهو ثقة. وكذلك أتى من حديث ابن جدعان قال: سمعت ثابتاً يقول لـأنس : [مسست رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديك؟ قال: نعم، قال: فأعطني يدك، فأعطاه فقبلها]، والأثر فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، لكن يشهد له آثار وطرق أخرى في هذا، فيكون حسناً. وكذلك جاء من حديث أم أبان بنت الوازع بن الزارع ( أن جدها الزارع انطلق في وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملكنا أنفسنا أن وثبنا عن رواحلنا، وجعلنا نقبل يديه ورجليه ) والحديث حسنه ابن عبد البر رحمه الله تعالى.

      أحوال التقبيل:
      تقبيل اليد والتفصيل فيه:
      سبق الكلام على أنواع التقبيل: تقبيل اليد، وتقبيل القدم، وتقبيل العينين، وتقدم حديث أنس قال: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا. قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم). إذاً: في الأحوال العادية لا يستحب التقبيل إذا لقي الأخ أخاه، أما تقبيل اليد لسبب عارض، فإن كان للدنيا فإنه مكروه. وقال سفيان الثوري : أكرهها -تقبيل اليد- على دنيا. وقال وكيع شيخ أحمد بن حنبل رحمهما الله: إنها -أي: قبلة اليد- صلحت حين قبلت للآخرة، وأنها فسدت حين قبلت للدنيا. وقال أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- فيما نقله عنه المروذي، لما سأله عن قبلة اليد، فلم يرَ به بأساً عن طريق التدين، وكرهها على طريق الدنيا، وقال: إن كان على طريق التدين فلا بأس، فقد قبل أبو عبيدة يد عمر ، وإن كان على طريق الدنيا فلا، إلا رجلاً يخاف سيفه أو سوطه. وكذلك قال حميد زنجويه : ما كان على وجه التملق والتعظيم -أي: المكروه من المعانقة والتقبيل-. وقال النووي في كتاب الأذكار : إن كانت لغناه ودنياه وثروته وشوكته ووجاهته عند أهل الدنيا ونحو ذلك، فهو مكروه شديد الكراهة، وقال المتولي من أصحابنا: لا يجوز، فأشار إلى أنه حرام، وإذا كان الرجل ظالماً أو مبتدعاً أو كافراً تتأكد هذه الحرمة؛ لأن الواجب هجره أصلاً والإنكار عليه، وليس تقبيل يديه. وقال سفيان الثوري رحمه الله: تقبيل يد الإمام العادل سنة. وقال حميد زنجويه : تقبيل اليد لا يستوجبه كل أحد. وقال بعض أهل العلم: تقبيل يد الظالم معصية، إلا أن يكون عن خوف. وقال ابن الوردي الشاعر:
      أنا لا أختار تقبيل يد قطعها أجمل من تلك القبل
      أي: هذه حقها أن تقطع، ربما يكون يد سارق وناهب، فكيف تقبل يده؟! والواجب أن تقطع في الشريعة. وبعض الناس وخصوصاً الصوفية ورؤساؤهم، عندهم عادة تقبيل اليد، ويتخذونها كبراً وطلباً من الناس، وهذا يدل عليه تصرفاتهم، كما إذا مد يده ليقبلها الناس، تجد بعض شيوخ الصوفية الطرقيين إذا جلسوا في مجلس أو كانوا يمشون، وجاءهم الناس مدوا أيديهم، كأنه يقول: خذ قبل وتبرك وامسح! ويتبين كذلك فعل هؤلاء السفهاء بما إذا استحسنوا من تقبيل يده، تجد أنه إذا قبل شخص أيديهم ابتسموا وأكرموه وأثنوا على فعله، وقال: الله يرضى عليك، المقصود هؤلاء الصوفية ولا أقصد الوالد الذي إذا قبل الولد يده فدعا له فهذا شيء آخر، وكذلك يظهر هذا من تشنيعهم على من لم يقبل أيديهم أيضاً. وكان السلف رحمهم الله بخلاف ذلك، إذا جاء شخص يقبل يده ربما سحب يده، وعندما استأذن رجل الإمام أحمد رحمه الله في تقبيل رأسه، قال: لم أبلغ أنا ذاك، لم أصل إلى درجة أن تقبل رأسي أنا دون ذلك، هذا من تواضعه رحمه الله تعالى، وفي رواية عبد الله قال: لم أره يشتهي أن يفعل به ذلك، فكان من ورعهم وتواضعهم رحمهم الله أنهم لا يسمحون للناس بتقبيل أيديهم ورءوسهم، ويقولون: نحن أدنى من هذا، وكره أحمد رحمه الله المسح على اليد للتبرك ونحوها، فقال لمن مسح يده عليه عمن أخذتم هذا؟ وغضب ونفض يده. وقال ابن تيمية رحمه الله: ابتداء الإنسان بمد يده للناس ليقبلوها، وقصده لذلك، فهذا ينهى عنه بلا نزاع كائناً من كان، بخلاف ما إذا كان المقبل هو المبتدئ لذلك، فلا حرج، أما أن يمد يده للناس فهذا مما ينهى عنه. وأيضاً اعتياد التقبيل حتى لو كان للمشايخ أو أهل العلم، فهذا فيه نظر؛ لأن الصحابة لقوا النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكراراً، وما نقل عنهم أنهم كلما رأوه قبلوا رأسه ويده. نعم! قد تأتي العالم في المرة الأولى فتقبل رأسه أو يده، لكنك تأتيه في الدرس الذي يليه ثم الذي يليه ودائماً تواظب على هذه العادة فربما أدى هذا إلى شيء من الغلو. وكذلك قال ابن مفلح رحمه الله: تقبيل اليد لم يكونوا يعتادونه إلا قليلاً، ومن شعار بعض المبتدعة قرن تقبيل اليد بالمصافحة، فما صافح أحدهم صاحبه إلا قبل كل منهم يد صاحبه. وهذه أيضاً مسألة لا أصل لها، تجد بعض الناس في بعض الأماكن كلما صافح الأول الثاني هذا يقبل اليد وهذا يقبل اليد الأخرى، وأحياناً يقبل يد نفسه، كأنه يقبل اليد التي لامست يد الآخر، وهذا أيضاً مما لا دليل عليه.

      التقبيل لأجل التبرك أو الشهوة:
      وأما إذا كان التقبيل لأجل التبرك، فهذا يكون أشد وأشد، ولاشك أن تقبيل القبور والأعتاب والأحجار والأشجار من شعار المشركين في كل زمان ومكان، ولذلك أكد عمر رضي الله عنه ورحمه على هذه المسألة، فقال عندما قبل الحجر الأسود: [والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك] رواه البخاري. فكيف بمن يتبرك بحمار الشيخ، يقول: هذا الحمار الذي ركبه الشيخ، فيمسحون حمار الشيخ، وربما قبلوه، وتكلمنا عن مسألة التقبيل لشهوة، وأن ذلك لا يجوز إلا إذا كان لزوجته أو سريته. وبالنسبة للتقبيل للشهوة فإنه لا يجوز للإنسان أن يقبل أحداً إلا زوجته أو أمته، أما المرأة الأجنبية فلا شك أنه حرام، وكذلك الصبية الصغيرة والأمرد، كله حرام ولا يجوز، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه الطبراني، وهو حديث صحيح. وكلما خشي أن يثير شهوته، مثل: تقبيل يد الأمرد الحسن، أو الصبية الصغيرة الحسنة التي قاربت البلوغ، فحرام لاشك في ذلك، والفتنة بالمردان أمر معروف، وهو عند الصوفية دين يتخذونه ويتقربون إلى الله بذلك، ولو قال: لا تثور شهوتي، فإنه لا يأمن عليه، والله قال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] ولم يقل: لا تفعلوا الزنا، فحتى اقتراب الشيء الذي يكون سبباً للوقوع في المعصية لا يفعله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العين تزني وزناها البصر، واليد تزني وزناها اللمس، والفم يزني وزناه التقبيل) إذاً: زنا الفم أن يقبل بالحرام. وبالنسبة لتقبيل الإنسان يده بعد تقبيل الحجر الأسود، فذلك ثابت في السنة، وتقبيل المحجن أو العصا إذا استلم بها الحجر الأسود إذا لم يستطع أن يقبله بنفسه.

      تقبيل الخد وما بين العينين والفم:
      أما بالنسبة لتقبيل الخد، فقد ذكرنا أن أبا بكر الصديق قبل عائشة رضي الله عنها عندما أصابتها الحمى حين هاجروا إلى المدينة ، وكانت دون البلوغ، وهذه قبلة شفقة من الوالد لابنته. وأما بالنسبة لتقبيل ما بين العينين، فإنه قد ورد فيه تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم بين عيني العباس ، ورواه الطبراني وقواه الهيثمي ، وقبَّل مسلم بن الحجاج النيسابوري عيني البخاري رحمه الله، وقال: يا أستاذ الأستاذين، أو يا طبيب الحديث في علله. وبالنسبة لتقبيل العين جاء تقبيل التابعي لعين أنس كما تقدم، وبالنسبة لتقبيل الفم فهذا خاص بين الزوجين، وبالنسبة لتقبيل الكشح أو البطن، الكشح هو: ما بين الخاصره إلى الضلع، وقد قبل الصحابي النبي صلى الله عليه وسلم في كشحه لما كشفه له ليقتص منه، وقلنا في تقبيل الرأس: إنه يكون للكبير في السن أو العالم والوالد. كذلك لو كان له أخت كبيرة أو عمة أو جدة، فلا بأس أن يقبل رأسها، ولا حرج في ذلك.

      تقبيل المرأة للرجل الأجنبي وتقبيل الشعر:
      أما تقبيل المرأة للرجل الأجنبي، فهذا حرام ولو كان كبيراً، وتقبيل الرجل للمرأة الأجنبية حرام ولو كانت كبيرة في السن، وتقبيل الشعر كتقبيل الرأس في الحكم، وبعضهم قد يحتج بتقبيل الإمام أحمد رحمه الله لشعرة من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا كان ثابتاً عنده أنها شعرته، أما اليوم فمن أين نثبت أنه قد بقي شيء من آثار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نقبله؟ وذكرنا في مسألة تقبيل المصحف أنه لم يرد بذلك حديث صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن تيمية رحمه الله: لا نعلم في تقبيل المصحف شيئاً مأثوراً. وقد سئل أحمد عن تقبيله، فقال: ما سمعت فيه شيئاً، ولكن روي عن عكرمة بن أبي جهل ، واتباع السلف أولى، ولا يعلم له موافق رحمه الله على ذلك، ولم وافقه الصحابة على ذلك، ولم يكن شيئاً مشروعاً منتشراً عندهم.

      تقبيل آثار الصالحين وأرض الوطن:
      وأما بالنسبة لآثار الصالحين التي يفعلها بعض الناس وتقبيلها فهذا أيضاً من البدع، وكذلك تقبيل الشجر والحجر، أما بالنسبة لتقبيل الأرض بين يدي العظماء، فسبق الكلام أنه من المنكرات العظيمة، وقال ابن تيمية رحمه الله: وأما تقبيل الأرض ووضع الرأس أمام الشيخ والملك فلا يجوز، بل الانحناء كالركوع لا يجوز، ومن فعله قربة وتديناً بين له -نبين له أن تقبيل الأرض والانحناء كالركوع بين يدي الشيخ أو الصوفي هذا أو الملك لا يجوز- ومن فعله قربة وتديناً بين له أن هذا حرام ولا يجوز، فإن تاب وإلا قتل، وأما إذا أكره الرجل بأن يخشى أخذ ماله أو ضربه أو قطع رزقه في بيت المال، فإنه يجوز عند أكثر العلماء. وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به وخرج عن طاعة الله ورسوله، مثل أن يظن أن ببركة السجود لغيره وتقبيل الأرض عنده.. ونحو ذلك يحصل له السعادة، فهو من أحوال المشركين وأهل البدع وهو باطل لا يجوز اعتقاده ولا اعتماده. وقال أيضاً رحمه الله: وأما وضع الرأس عند الكبراء والشيوخ أو غيرهم أو تقبيل الأرض أو نحو ذلك، فهو مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهي عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير الله منهي عنه. هناك نوع من تقبيل الأرض يحدث في هذا الزمان، وهو تقبيل أرض الوطن بزعمهم أن ذلك وطنية، فلاشك أن هذا حرام، وفيه نوع من الشرك، وهذا دين المنتسبين، إذا وطأت قدماه بلده مثلاً قبل أرض بلده أو وطنه، ولاشك أن هذا حرام لا يجوز. ومن الأشياء التي تفعل في هذا الزمان مثلاً: التشبه بالكفار وتقليدهم في تقبيل الكلاب وبعض الحيوانات، ولاشك أن الكلب مما ينبغي التخلص منه، والاحتفاظ به ينقص الأجر. فهذه تكملة لآداب المصافحة والمعانقة والتقبيل، وبذلك نكون قد أنهينا الكلام عليها والحمد لله رب العالمين.

      الأسئلة :
      حكم قيام الليل مع الزوجة:
      السؤال: هل الأفضل في قيام الليل أن أصلي بعض الوقت وزوجتي تصلي البعض الآخر أو نصلي جماعة؟ الجواب: يصلي كل واحدٍ منهما بمفرده، ولا يتفقان على الجماعة في القيام، لكن إن انضمت إليه -وهو لا يريد أن ينضم إليها- فصلت وراءه فلا بأس.

      حكم تقبيل الكتف للعظماء:
      السؤال: ما حكم تقبيل كتف العظماء؟ الجواب: إذا كان ظالماً فلا يجوز تقبيله؛ لأن التقبيل نوع من التوقير، فإذا كان ظالماً أو كافراً لم يجز تقبيله، وإذا كان صالحاً راشداً قبل رأسه، كما إذا قبل رأس الخليفة الصالح الإمام العادل لأن هذا قد نص عليه أهل العلم.

      حكم تقبيل البنت الصغيرة ومصافحتها:
      السؤال: ما حكم مصافحة وتقبيل البنت الصغيرة؟ الجواب: البنت الصغيرة إذا كانت أجنبية لابد من الحذر الشديد، حيث أن هذا من الأبواب العظيمة التي ينفذ بها الشيطان، خصوصاً في هذا الزمان الذي عمَّت به الفتن.

      معانقة المسافر لمحارمه:
      السؤال: ما حكم معانقة المسافر العائد لأمه وعماته وخالاته؟ الجواب: لا بأس بذلك.

      حكم المعانقة في العيد:
      السؤال: ما حكم المعانقة في العيد؟ الجواب: المعانقة في العيد لا أعلم لها أصلاً، وكذلك المعانقة في العزاء.

      حكم تقبيل الرجل زوجته أمام أهله:
      السؤال: هل يقبل الرجل زوجته أمام أهله؟ الجواب: ينبغي أن يكون هذا مما يصان ولا يظهره، من أجل أن الرجل يستمتع بأهله على انفراد، ولا يكون أمام الآخرين. نكتفي بهذا القدر، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

      حال حديث: ( من خلط سمكاً ولبناً فأصابه فالج فلا يلومن إلا نفسه ):
      السؤال: ما صحة حديث (من خلط سمكاً ولبناً فأصابه فالج فلا يلومن إلا نفس)؟ الجواب: هذا حديث غير صحيح، وقد جرب بعض الناس أكل السمك باللبن فلم يضرهم، وبعض الناس ضرهم، فالمسألة ترجع إلى طبيعة الأجساد.

      عدد وجبات السلف:
      السؤال: هل تناول ثلاث وجبات في اليوم والليلة مما أثر عن السلف ؟ الجواب: أثر عنهم الغداء والعشاء، وكان غداءهم في الصباح، والعشاء قبل المغرب كان عندهم وجبتان.

      حكم إجابة دعوة من عنده تلفاز:
      السؤال: إذا كان عند الداعي تلفاز هل يسقط وجوب إجابة الدعوة؟ الجواب: إذا كان التلفاز مفتوحاً على شيء محرم فيسقط إجابة الدعوة.

      حكم وضع اليد على الصدر بعد المصافحة:
      السؤال: كثير من الناس يضع يده على صدره بعد أن ينتهي من المصافحة؟ الجواب: لا أعلم في هذا دليل.

      كيفية الترتيب في إجابة أكثر من دعوة:
      السؤال: إذا دُعيت إلى وليمة، ودعيت بعد يومين إلى وليمة وقد نسيت الأولى وأني قد وافقت على الوليمتين، هل أذهب إلى ما أريد أم لابد من إجابة الأولى؟ الجواب: إذا كان فات وقت الأولى فتجيب الثانية، وإذا لم يفت فتجيب الأولى.

      حكم وضع الستائر على الجدران:
      السؤال: هل تُعتبر الستائر من ستر الجدران؟ الجواب: نعم. ولذلك توضع الستائر على الشبابيك لأجل الغبار أو الشمس، أما على الجدران كلها بما لا داعي له، فلاشك أن هذا نوع من الإسراف.

      حكم تقبيل البنت الصغيرة الأجنبية:
      السؤال: ما حكم تقبيل البنات الصغيرات الأجنبيات؟ الجواب: إذا كان بشهوة فهو حرام.
      الاستدلال بحديث الغلام على عدم السكوت حال الطعام
      السؤال: بعض الناس يستشهد بحديث: (يا غلام! سم الله) على دلالة الكلام عند الأكل؟ الجواب: هذا رأى منكراً فأنكره لا يستلزم أن يكون هذا دليل على هذه المسألة.

      عدم وجوب إجابة الدعوة العامة:
      السؤال: هذه الأيام تكثر الدعوة لوليمة العرس، وتكون عامة، فهل يكفي معرفة اسم الشخص دون معرفته شخصياً إذا كانت عامة؟ الجواب: إذا كانت الدعوة عامة فلا مانع أن تذهب، لكن لا يجب عليك إلا إذا خصصت بالدعوة.

      حكم إجابة المبتدع والكافر لتأليفه ودعوته إلى الله:
      السؤال: ما حكم إجابة المبتدع والكافر لتأليفه ودعوته إلى الله؟ الجواب: لا بأس أن يذهب لتأليفه ودعوته إلى الله.

      متى يأثم المدعو؟:
      السؤال: هل يأثم المدعو إذا اعتذر عن الإجابة؟ الجواب: إذا قبل العذر الحمد لله لا يأثم.

      مشروعية عدم إجابة دعوة العاصي:
      السؤال: ما حكم عدم الإجابة للدعوة تأديباً للداعي على معصيته؟ الجواب: مشروع.

      تحريم اللعب بالورق:
      السؤال: ما حكم لعب الورق؟ الجواب: جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء أنه حرام، وأن فيه شبه من الميسر، وأنه يلهي عن ذكر الله، أزيد على ذلك أن فيه صوراً لذوات الأرواح.

      عدم وجوب إجابة الدعوة إذا وجدت مشقة:
      السؤال: ما حكم إجابة الدعوة إذا كنت في بلد بعيد وفي السفر مشقة؟ الجواب: إذا كان فيه مشقة لا يتحملها الشخص لا يجب عليه الإجابة.

      وجوب الكفارة للحانث في يمينه:
      السؤال: حلف رجل على ألا يدخل منزل أبيه وأخيه حتى يغيروا المنكرات فيها، علماً أنه لا يجلس في مكان في البيت فيه منكر، وبعد ذلك دخل البيت، فهل عليه كفارة؟ الجواب: نعم. عليه كفارة إذا كان يمينه يمنياً واحداً.

      حكم الاقتراض من البنك:
      السؤال: هل يجوز اقتراض مبلغ من البنك ثم رده إلى البنك بأكثر؟ الجواب: هذا هو الربا بعينه.

      حالات وجوب إجابة الدعوة:
      السؤال: إذا كنا في عرس، ودعانا أحد الأشخاص في الليلة الثانية في عرس لولده، وكانت الدعوة لجميع الموجودين فما هو الحكم؟ الجواب: إذا كانت الدعوة عامة لا تجب، ويستحب أن تأتي، لكن إذا خصك أنت وأرسل إليك رسولاً، أو بطاقة باسمك، وجبت الإجابة ما لم يكن هناك عذرٌ.

      حكم ارتداء الملابس الداخلية أمام الناس:
      السؤال: هل الذهاب إلى دورة المياه في السكن الجامعي بالملابس الداخلية سراويل قصيرة وعليه سراويل طويلة وفنيلية يعتبر من خوارم المروءة؟ الجواب: هذا قد يعتمد على الشخص، وعلى شفافية هذا القماش، فقد يكون شفافاً، وقد يمشي مسافة بعيدة ويمر على أشخاص كثيرين، فبعض الأشخاص قد يكون إمام مسجد، لا يجوز في حقه أن يمشي بهذا الشكل بين الناس الذين هم من المأمومين، فعند ذلك يحتاط ويتحفظ ويكون محتشماً في ملابسه.

      حكم الأكل في المطعم المزجج:
      السؤال: كثير من المطاعم يكون تصميمه بالزجاج، مما يجعل المار ينظر إلى الزبائن وهم يأكلون؟ الجواب: هذا ليس هو الأفضل، الأفضل ألا يجعل من زجاج حتى لا ينظرون إلى الزبائن، لأن هذا كأنهم يأكلون في السوق، وهناك المار والغادي والرائح، ويدخل فيه كلام أهل العلم في قضية أنه من خوارم المروءة، ولا يشترط في خوارم المروءة أن تكون محرمة، لكن المقصود أنها مما يعاب.

      وصايا تساعد على هضم الطعام:
      السؤال: عدم شرب الماء الكثير مع الطعام يقلل الهضم؟ الجواب: هذه أشياء مذكورة، لكن يبدو أن هذا الكاتب له معرفة بالطب، يقول: أكل الفاكهة قبل الأكل مفيد لسببين: أولاً فرصة امتصاص المواد المفيدة في الفاكهة تكون أكبر. ثانيا: السكريات تقلل من الشهية للأكل بكثير. فائدة: شرب الشاي مع الطعام يمنع امتصاص فيتامين الحديد. فائدة: يمنع النوم مباشرة بعد الأكل لدرجة الشبع، فالنوم يشغل الجسم عن الهضم. هذه وصايا، وقضية الشره في الطعام والإكثار منه، وانتفاخ البطن، وعدم شرب الماء الكثير مع الطعام يقلل الهضم، فهذا آخر ما جاء من الأسئلة. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


      تعليق


      • #18
        محاضرة ( آداب الهديـة )للشيخ محمد المنجد

        محاضرة ( آداب الهديـة )للشيخ محمد المنجد
        عناصر الموضوع :
        1. تعريف الهدية
        2. ذكر الهدية في القرآن
        3. ذكر الهدية في السنة
        4. الأمر بقبول الهدية
        5. المكافأة على الهدية
        6. الناس في الهدايا على ثلاث طبقات
        7. من أحكام الهدايا
        8. الأحوال التي ترد فيها الهدية
        9. تحري أحسن الأوقات والأماكن عند إهداء الهدية
        10. استحباب تبيين سبب رد الهدية
        11. أنواع الهدايا
        12. حكم الهدية على قضاء الحاجات
        13. مسألة الشفاعة والواسطة
        14. الغرض من الهدايا
        15. حكم إهداء القضاة
        16. حكم قبول الحاكم للهدايا
        17. حكم قبول العمال للهدايا
        18. حكم قبول الهدايا من الكفار
        19. حكم إهداء المشرك
        20. بعض الأبيات التي جاء فيها ذكر الهدايا
        21. بعض الهدايا التي يمكن إهداؤها
        22. آداب الهديـة
        الهدية كما عرفها أهل العلم هي عطية بلا اشتراط مقابل، وقد ورد ذكرها والحث عليها في القرآن والسنة، وهي من أعظم الأسباب التي تعين على إزالة ما في النفوس وتحبب المؤمنين بعضهم إلى بعض، وقد ذكر الشيخ مسائل كثيرة تتعلق بآداب الهدية وغيرها من القضايا التي تتعلق بالهدية.
        تعريف الهدية:
        الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن آداب الهدية، وهي شعيرةٌ إسلامية جميلة جداً، فبها يتم سببٌ عظيمٌ للتآلف بين القلوب والاجتماع، وشيوع المودة بين المسلمين، وهذا من أعظم ما جاء في شريعة الإسلام. أما الهدية: فإنها ما أتحفت به، والتهادي: أن يهدي بعضهم إلى بعض، يقال: أهديت له وإليه، والجمع هدايا، وهداوى، وهداوي، وهداوٍ كما هي في بعض روايات أهل اللغة، والهدية: مفرد هدايا، يقال: أهدى له وأهدى إليه، كلاهما صحيح، فيتعدى الفعل باللام وإلى، ويقال: أهدى الهدية إلى فلان، وأهدى له هدية، أي: بعث بها إكراماً له. ويقال أيضاً: أهديت العروس إلى بعلها، أي: زفت إليه، وهادى فلانٌ فلاناً أي: أرسل كلٌ منهما هدية إلى صاحبه. وبالنسبة للتعريف الشرعي للهدية، فإن العلماء قد ذكروا عدة تعريفات، ويمكن أن نقول عموماً: إن الهدية هي دفع عينٍ -سواءً كانت مالاً أو سلعة- إلى شخصٍ معين -الذي يراد بالهدية هذا الشخص المعين- لأجل الألفة والثواب، من غير طلبٍ ولا شرط. لأجل الألفة والثواب: وهو الأجر من الله سبحانه وتعالى. من غير طلبٍ؛ لأنه لو قال: أهدني أو أعطني ربما صارت رشوة. ولا شرط كما يشترط بعضهم في الإعانة، بشرط الإعانة. فإذاً الهدية: هي عطية بلا اشتراط مقابل، وهناك كلمات مرادفة لكلمة الهدية مثل: الهبة والعطية والصدقة، وقد جاء عن أهل العلم رواياتٌ في التفريق بينها، ولكن يمكن أن نقول: إن الهدية والهبة والصدقة والعطية بمعنىً واحد من جهة أنها تمليكٌ في الحياة بلا عوض، فالهدية والهبة والعطية والصدقة تشترك كلها في أنها تمليك في الحياة بلا عوض؛ لأنك تملكه هذا الشيء بلا مقابل، والعطية: اسمٌ شاملٌ للجميع. والهدية يُتقرب بها محبة لك، والهبة والعطية معناهما متقارب حتى لا يكاد يوجد فرقٌ بينهما، والصدقة: التي تُدفع إلى الشخص لقصد ثواب الآخرة فقط. فإذاً هناك فرقٌ بين الهدية والصدقة، من جهة أن الهدية يقصد بها التحبب وثواب الآخرة، والصدقة يقصد بها ثواب الآخرة فقط. وتُمتلك الهدية بالقبض، فإذا قبلها وقبضها صارت في ملكه، ولا تنتقل إلى ملكه إلا بقبضها سواء قبضها هو أو وكيله، واحتج جمهور العلماء بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو أهدي إلي كراعٌ لقبلت). فالهدية بناءً على ذلك لا تُملك بمجرد الإهداء، حتى تصل إلى الشخص المهدى إليه أو وكيله، فإذا استلمها صارت ملكاً له، وهذا ينبني عليه أحكام، مثلاً: هل يجوز للإنسان أن يرجع فيها؟ متى يجوز له أن يرجع فيها؟ أو متى تنتقل إلى ملكية الشخص الآخر بحيث لا تكون في ملك الأول؟ إذا قبضها المهدى إليه -استلمها- دخلت في ملكه، فمن مجرد استلامه دخلت في ملكه، أما لو قال: سأهديك، أو أهديتك، ولم يسلمه شيئاً، فإنها لا زالت باقية في ملك المهدي ولم تخرج من ملكه.
        ذكر الهدية في القرآن:
        وقد جاء في القرآن الكريم ذكر الهدية، فقالت ملكة سبأ- بلقيس - لما خافت من سليمان عليه السلام، قالت للملأ من حولها: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:35-36]. فأرادت استمالة قلب سليمان لدفع الضرر عنها، وأرادت مصانعته، وأن تثنيه عن دعوته لها ولقومها وتهديدهم لهم، وسليمان لم يقبل الهدية؛ لأنها لم تكن لوجه الله، ولا كان فيها معروف، وإنما أرادت إيقافه عن جهادها، عن الجهاد وقتال هذه البلدة وهي اليمن ، فلما رأى سليمان عليه السلام أن هذه الهدية ليس فيها خير ولم يرد بها وجه الله ردها، وقال: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا ))[النمل:36-37] ليعلموا أننا نريد الجهاد وإقامة الدين، وليست القضية مجاملات وهدايا، كما هي العادة بين الملوك: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:37] حتى لا ينخدعوا بحطام هذه الدنيا أو يظنوا أننا نغتر بالهدايا أو أننا سنترك الجهاد لأجل هديتهم: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا [النمل:37]. ومما يدخل -أيضاً- في الهدية مثل العطية والهبة، أو مما يقرب من معناها ما جاء في قوله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء:4] فالله عز وجل أمر بإيتاء النساء المهور. وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4] ومعنى نحلة: عطية عن طيب نفس. وقال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ [النساء:4] وهبنه لكم، وتنازلن عنه لكم: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء:4] فإذا تنازلت عن جزء من الصداق لزوجها أو أعطته إياه بعدما استلمته منه دون ضغط منه ولا إكراه، وإنما عن طيب نفسٍ منها ورضا: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء:4]. فإذاً: من أعظم الحلال الذي يؤكل، المغانم: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً [الأنفال:69] وهو أعظم أنواع المال الحلال، بل هو أشد الأموال حلة، وقد فاتنا هذا النوع من المال بسبب ترك الجهاد. وكذلك من الأموال الحلال الطيبة، ما تتنازل به المرأة من مهرها لزوجها، قال الله عز وجل: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء:4] ولذلك جاء عن بعضهم أنه قال: إذا أردت أن تستشفي فاستوهب درهماً من زوجتك عن طيب نفسٍ منها، ثم اشتر به عسلاً، وهاتِ إناءً واجمع فيه من ماء المطر، ثم اقرأ القرآن وأذب العسل فيه واشربه، قال: أما ماء المطر فإنه ماءٌ مبارك، والعسل فيه شفاءٌ للناس، والقرآن -أيضاً- فيه شفاء، ودرهم الزوجة هنيئاً مريئاً، فإنك تبرأ بإذن الله.
        ذكر الهدية في السنة :
        والهدية قد وردت في السنة النبوية، وجاء النص عليها لما لها من الأثر العظيم في النفوس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) وقد رواه البخاري في الأدب المفرد وقال ابن حجر : إسناده حسن. ولا شك أن الهدية سببٌ للمحبة وتآلف القلوب، وكان التابعون يرسلون بهداياهم، ويقول الواحد لأخيه الذي يهديه: نحن نعلم غناك عن مثل ذلك، وإنما لتعلم أنك منا على بال، يعني: نحن نعلم أنك مستغن عن هديتنا، ولكن لتعلم أننا نقدرك وأن لك في أنفسنا مكانة، وقال الشاعر:
        هدايا الناس بعضهمُ لبعضٍ تولـد في قـلوبهـم الوصـالا
        وتزرع في الضمير هـواً ووداً وتكسوهُ إذا حضروا جمالا
        وقال آخر:
        إن الهدايا لها حـظٌ إذا وردت أحظى من الابن عند الوالد الحدبِ
        يكون لها مكانة في النفس إذا جاءت. وقال آخر:
        إن الـهـديـة حـلـوةٌ كالسحر تجتذب القلوبا
        تدني البغيض من الهوى حتى تصـيره قريبـا
        وتعيد مضتغن العـداوة بعـد نفرتـه حـبيبا
        وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يقبل الهدية ويثيب عليها) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراعٍ لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت) وهو في صحيح البخاري.
        الأمر بقبول الهدية:
        وجاء الأمر بقبول الهدية وعدم ردها إذا كانت لا شبهة فيها ولا حرام، فأخرج الإمام أحمد و البخاري في الأدب المفرد وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين) فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رد الهدية، وهذا الحديث صححه الألباني. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عمر شيئاً من العطاء فكان يقول عمر : (أعطه من هو أفقر مني يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا جاءك من هذا المال شيءٌ وأنت غير مستشرف) أي: غير متطلع (ولا سائلٍ) ما طلبته (فخذه فتموله) أي: تملكه (فإن شئت كله وإن شئت تصدقت به، ومالا -إذا كان خالياً من هذه الشروط- فلا تتبعه نفسك) فإذاً: قوله: (إذا جاءك من هذا المال شيء فخذه) يدخل فيه الهدايا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله شيئاً من هذا المال من غير مسألة فليقبل، فإنما هو رزقٌ ساقه الله إليه) مادام أن المال أتى من غير مسألة، وأنت لست مستشرفاً له، ولا متطلعاً له، ولا متعلقة نفسك به تهفو إليه وترجوه، فخذه ولا ترده، فهذا مال مبارك. ومن الأدلة أيضاً -أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية- قصة بريرة رضي الله عنها، وجاء في صحيح البخاري عديدٌ من الروايات في هذه القصة، فمنها ما رواه في كتاب الأطعمة، وربما تكون هذه الرواية هي أوضحها وأتمها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوماً بيت عائشة وعلى النار برمةٌ تفور فدعا بالغداء، فأتي بخبزٍ وأدمٍ من أدم البيت فقال: (ألم أر لحماً؟ قالوا: بلى يا رسول الله! ولكنه لحمٌ تُصدق به على بريرة، فأهدته، لنا وأنت لا تأكل الصدق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو صدقة عليها وهديةٌ لنا). إذاً: المال لما انتقل من شخص اختلف حكمه. من المتصدق إلى بريرة صدقة، ومن بريرة إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام هدية، إذاً: يجوز للنبي عليه الصلاة والسلام أن يأكل منه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتي بطعامٍ سأل عنه: أهديته أم صدقة؟ فإن قيل صدقة قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل؛ -لأنه لا يليق بمقام النبوة أن يأخذ من صدقات الناس وأوساخهم- وإن قيل: هدية، ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم) رواه البخاري في كتاب الهبة. إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، والسبب في ذلك كما تقدم، وهذه آيته عليه الصلاة والسلام في الكتب المتقدمة، أنه كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، والكتب المتقدمة كانت فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن هناك فرقاً بين الهدية والصدقة، فالهدية نوع من الكرامة، ومن باب حسن الخلق، وتتألف بها القلوب، وكان عليه الصلاة والسلام يأكلها؛ لأنها من باب الإكرام ولا يردها؛ لأجل ألا يغضب الذي أهدى، أو يصبح في نفسه عليه شيء، فلا شك أن في أخذ الهدية تألفاً للقلوب وإبلاغاً له بأن إكرامك مقبول. أما الصدقة من اليد العليا إلى اليد السفلى فلا تليق بمقام النبوة، وكان عليه الصلاة والسلام يقبل الهدية ولو كانت قليلة ويسيرة، ولذلك قال: (ولو أهدي إلي ذراعٌ أو كراعٌ لقبلته) والكراع: ما دون الكعب، وما عليه إلا اليسير من اللحم، لكن لو أهدي إليه لقبله عليه الصلاة والسلام ولم يحتقر شيئاً، وبذلك أوصى نساء المؤمنين فقال: (يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارةٌ لجارتها ولو فرسن شاة) والفرسن: هو في الأصل اسمٌ لخف البعير، فاستعير للشاة فهو ظلفها، ولم تجر العادة بإهداء ظلف الشاة، لكن ذكره على سبيل المبالغة، أي: اقبل الشيء اليسير من الهدية ولا ترده، فأحياناً قد يهدي إليك أخ شيئاً يصنعه بيده من الأوراق التي لا قيمة لها في الحقيقة، فاقبله تطييباً لخاطره وقلبه.
        من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في الهدايا:
        وكان من كريم خلقه صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءته الهدية، أشرك فيها من معه، أو من حوله، كما جاء في كتاب الرقاق في صحيح البخاري ، دخل عليه الصلاة والسلام فوجد لبناً في قدح فقال: (من أين هذا اللبن؟ فقالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانةٌ، فقال: أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهلٍ ولا مال ولا على أحدٍ. كان عليه الصلاة والسلام إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هديةٌ أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها...) الحديث. إذاً: كان هذا من كريم خُلقه عليه الصلاة والسلام، من كرمه أنه كان إذا جاءته الهدية لم ينس من حوله من الفقراء والمحتاجين، وكان من حضره يعطيه، وإذا أهديت إليه باكورة الثمر -أو الثمار- كان يعطيها لأصغر القوم سناً -الطفل-. وكان صلى الله عليه وسلم يتألف بهداياه القوم، وربما كان رجلٌ حديث عهدٍ بالإسلام أو في قلبه شيء على الإسلام وأهله، أو على النبي صلى الله عليه وسلم فلا يزال يعطيه حتى يرضيه. ومن الأحاديث الجميلة التي وردت في صحيح البخاري عن ابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أهديت له أقبية من ديباجٍ مزررةٍ بالذهب فقسمها في ناسٍ من أصحابه) ولا يلزم أن يلبسوها؛ لأن لبس الحرير للرجال حرام لكن يمكن أن يعطوها زوجاتهم أو بناتهم، أو كما فعل عمر حين أهداها لأخٍ له مشرك بـمكة . (أهديت له أقبية من ديباجٍ مزررةٍ بالذهب فقسمها في ناسٍ من أصحابه، وعزل منها واحدة لـمخرمة بن نوفل ، فجاء ومعه المسور بن مخرمة فقام على الباب فقال: ادعه لي -وكان صاحب جفاء وغلظة- فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فأخذ قباءً فتلقاه به واستقبله بأزراره فقال: يا أبا المسور! خبأت هذا لك، يا أبا المسور! خبأت هذا لك، وكان في خلقه شدة) أي: أبو المسور. وقد كان ابنه المسور بن مخرمة من كبار رواة الأحاديث. وكان صلى الله عليه وسلم يرسل الهدايا في أقربائه، وكان عنده من الوفاء لذكرى زوجته خديجة ما يستخدم الهدية فيه لإحيائه، والتدليل على أنه باقٍ في نفسه ذكرى تلك المرأة الطيبة التي ساعدته بمالها ودافعت عنه بنفسها، وكان أولاده منها، وأن ذكراها الطيبة لا زالت موجودة وحية، فكان إذا ذبح الشاة يُهدي لصديقات خديجة . ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها: (ما غرت على امرأةٍ للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة) مع أنها ما رأتها، لكن غارت عليها من الذكر والسمعة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يذكرها دائماً حتى قالت عائشة : (ما تريد من عجوزٍ حمراء الشدقين أبدلك الله خيراً منها؟! قال: إنها كانت وكانت... وكان لي منها ولد) . قالت عائشة : (ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة ، هلكت قبل أن يتزوجني، لكثرة ما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيتٍ من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن) أي: يُعطيهن ما يسعهن.
        المكافأة على الهدية:
        وكان صلى الله عليه وسلم يكافئ على الهدية، كما جاء في الحديث: (كان يقبل الهدية ويثيب عليها) ولا شك أن هذا من السنن الجميلة -المكافأة على الهدية- وذلك لعدة أسباب، منها: السبب الأول: ألا يبقى له منةٌ عليك، أو أن تبادله محبة بمحبة، أو أن تُظهر له أنك كافأته على جميله بجميل، وأنك لم تنس الجميل، وأنه صنع إليك معروفاً فصنعت إليه معروفاً مقابله، ولا شك كما قلنا أن الهدية الأصل فيها هو التبرع، وأن الذي يهدي لا يشترط المكافأة. وقد تكلم العلماء في حكم المكافأة على الهدية، وقال بعض أهل العلم: إن المكافأة على الهدية لا تجب، إذا أهداك شخص هدية لا يجب أن تكافئه عليها. وقال بعض المالكية: تجب المكافأة على الهدية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، لكن مجرد فعله عليه الصلاة والسلام لا يدل على الوجوب.
        الناس في الهدايا على ثلاث طبقات:
        جعل بعض العلماء الناس في الهدايا على ثلاث طبقات: هبة الرجل إلى من هو دونه، فهي إكرامٌ وإلطاف لا تقتضي الثواب والمكافأة بالمثل، فإذا استلمها هذا الأدون لا يستلزم ذلك أن يرد بهديةٍ مقابلها. وثانياً: هبة النظير إلى نظيره. وثالثاً: هبة الأدنى إلى الأعلى، إذا أهدى الأدنى للأعلى فإنه يكون من المؤكد في حق الأعلى أن يثيبه، وذلك بما جرت به العُرف والعادة. فإذاً: حكم الإثابة على الهدية مستحب؛ لأنه ورد في السنة. إذا أهداك إنسان هدية يُسن لك أن تهديه أخرى، وخصوصاً عندما يكون الذي أهداك أقل منك منزلة أو سناً -مثلاً- والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه). وقد أهدى أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فعوضه صلى الله عليه وسلم ستة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) فالهدية على الهدية من شكر الناس. إذاً: دخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه) الهدية على الهدية، وجاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (من أُعطي عطاء فليجز به إن وجد، وإن لم يجد فليثن به، فإن من أثنى به فقد شكر، ومن كتمه فقد كفره، ومن تشبع بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور). وهذا الحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حبان ، وإذا لم يجد شيئاً، فأقل شيء أن يدعو لمن أهدى له الهدية، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وحسنه: (من صُنع إليه معروفٌ فقال لفاعله: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء، وأجزل له في العطاء). وينبغي كذلك على المدعو له أن يبادل الدعاء بدعاء، كأن يقول له: وجزاك، أو وإياك، ونحو ذلك، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فقال: اقسميها، فكانت عائشة إذا رجع الخادم تقول: ما قالوا؟) عندما ترسل عائشة الهدية أو العطية مع الخادم إلى شخصٍ آخر أو بيت ناس، تسأل الخادم إذا رجع، تقول له: ماذا قال أهل البيت لما أعطيتهم ما أرسلنا به إليهم؟ فيقول الخادم: (قالوا: بارك الله فيكم، فتقول عائشة : وفيهم بارك الله، نرد عليهم مثلما قالوا، ويبقى أجرنا لنا).
        من أحكام الهدايا:
        أما بالنسبة لمن يُستحب أن يهدي إليهم الإنسان ويبدأ بهم، فقد جاء في صحيح البخاري في كتاب الهبة أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أعتقت وليدةً لها -جارية- فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (لو وصلت بعض أخوالك كان أعظم لأجرك) يعني لو أعطيتها بعض أخوالك، كان أعظم لأجرك من العتق؛ لأنهم قد يكون بهم حاجة، فإعطاؤها إياهم أحسن وأكثر أجراً. وكذلك من الضوابط في مسألة الإهداءات أن نبدأ بمن جاء في صحيح البخاري في كتاب الشفعة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) فالجار الأقرب يُبدأ به في الهدية؛ لأن الإنسان قد تكون مقدرته محدودة على الإهداء، ليس عنده هدايا كثيرة تسع الجميع، فيبدأ بالأقرب باباً بالنسبة لهدايا الجيران. وكذلك من الأحوال التي يتأكد فيها الإهداء: إذا احتاج الناس، إذا كانت هناك حاجة كما جاء في صحيح البخاري في كتاب المغازي: [أن رجلاً من الصحابة رضي الله عنه صنع طعاماً فلما أوشك على النضج جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! طعيمٌ لي -طعيم: تصغير طعام، أي: هو قليل- فقم أنت يا رسول الله! ورجلٌ أو رجلان] عندي طعيم لو تأتي أنت ورجل أو رجلان قال: (كم هو؟ فذكرت له كم هو مقدار الطعام، فقال: كثيرٌ طيب). ثم قال: (قل لها -يعني لزوجتك التي تطبخ الطعام- لا تنزعي البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قوموا) ومن حوله كان المهاجرون والأنصار، فقام المهاجرون والأنصار، والرجل يريد واحداً أو اثنين أو ثلاثة بالكثير، فالنبي عليه الصلاة والسلام نادى المهاجرين والأنصار فلما دخل على امرأته قال: (ويحك -مصيبة- جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار، فقالت المرأة -وكانت فقيهة-: هل سألك عن مقدار الطعام؟! قلت: نعم. فاطمأنت) لأنه ما دام يعلم أن الطعام قليل ومع ذلك دعاهم، فلا بد أن يكون هناك سبب، فلما دخلوا قال: (ادخلوا ولا تباغطوا -النبي صلى الله عليه وسلم- فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقيت بقية، فقال عليه الصلاة والسلام للمرأة: كلي هذا واهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة). فإذاً: تتأكد أن الهدية احتاج الناس إليها وصارت حاجة، فيكون إرسالها فيه أجر عظيم. وبالنسبة لبعض الهدايا التي يتأكد عدم ردها: ما كان غير ذي مئونة ولا فيه كلفة، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عُرض عليه ريحانٌ فلا يرده؛ لأنه خفيف المحمل طيب الرائحة) رواه أحمد و أبو داود ، وصحح إسناده في صحيح الجامع الصغير . فإذاً: الأشياء اليسيرة يتأكد عدم ردها.
        الأحوال التي ترد فيها الهدية:
        ما هي الأحوال التي ترد فيها الهدية؟ أولاً: هل ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام رد هدايا؟ نعم. ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رد هدايا بعض المشركين، وقال -أيضاً- في الحديث الصحيح: (وايم الله! لا أقبل بعد يومي هذا من أحدٍ هدية إلا أن يكون مهاجراً قرشياً أو أنصارياً أو دوسياً أو ثقفياً) والسبب أن أعرابياً وهب النبي عليه الصلاة والسلام ناقة فأثابه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فقال: (أرضيت؟ قال: لا. فزاده حتى عوضه ست بكرات) هذا الأعرابي كأنه يريد بالهدية أن يأخذ أكثر منها. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه العبارة الشديدة: أنه هم ألا يقبل هدية إلا من هؤلاء الأحياء من العرب، قال: (إن فلاناً أهدى إلي ناقةً فعوضته عنها ست بكرات، فضل ساخطاً، ولقد هممت ألا أقبل هديةً إلا من قرشي أو أنصاريٍ أو ثقفيٍ أو دوسي) رواه أحمد و الترمذي . وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن رجالاً من العرب يهدي أحدهم الهدية فأعوضه منها بقدر ما عندي، ثم يتسخطه فيظل يتسخط فيه عليّ، وايم الله! لا أقبل بعد مقامي هذا من رجلٍ من العرب هدية إلا من قرشيٍ أو أنصاريٍ أو ثقفيٍ أو دوسي) لأن هؤلاء لا يفعلون هذه الأفاعيل، هؤلاء الأربعة الأحياء من العرب معروفون بجودة الأخلاق، فالواحد منهم لا يلجأ إلى هذه الأساليب الملتوية، ثم يتسخط إذا أُعطي رداً عليها. فالإنسان إذا أحس أن الشخص يُريد بالهدية إحراجه، فإن له أن يردها، وإذا كانت الهدية من حرام، فإنه يجب ردها. وإن كانت فيها شبهة فإنه يستحب له أن يردها، وإذا كانت رشوة، فإنه يجب عليه أن يردها، كأن يكون موظفاً صاحب منصب ولولا وظيفته ما أعطي الهدية، أو يكون موظفاً في الجوازات، أو موظفاً في المصلحة الفلانية، فإذا جاءته هدية من معقب الشركة، قال: هذه الشركة تهدي لك هذه الهدية، فلا يأخذها، لأنه يجوز له ذلك، ولو كان في غير هذه الوظيفة ما أعطوه، لكن لو أن جاره أو قريبه أعطاه، فليقبلها؛ لأنها ما جاءت من أجل أنه موظف في هذه الدائرة التي يراجعها الناس، وإنما جاءت لأنه قريب أو جار. فإذاً: إذا اشتم منها رائحة التهمة أو الرشوة أو الريبة فإنه يردها. فإذاً هناك بعض الحالات التي يجب فيها رد الهدية، أو يستحب فيها رد الهدية. كذلك لو أهداك إياها فاجر فاسق، أو كافر يريد بالهدية أن يبقى له منةٌ عليك، حتى إذا قابلك انكسرت عينك وذلت نفسك له، ففي هذه الحالة لا تقبلها، لكن إذا جاءتك الهدية سليمة نقية ما فيها شائبة ولا ريبة ولا شبهة ولا حرمة فاقبلها ولا تردها، وربما قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا وهو لا يحبها، لا يحبها من جهة نفسه؛ لأن نفسه لا تشتهيها لكن يأخذها إكراماً لصحابها، كما جاء في كتاب الهبة في صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عباس قال: [أهدت أم حفيدة خالة ابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطاً وسمناً وأضباً -جمع ضب- فأكل النبي من الأقط والسمن وترك الضب تقذراً -نفسه تعافه؛ لأنه لم يكن بأرض قومه، لم يكن من طعام قريش- وأكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان حراماً لما أكل على مائدته]. إذاً: يأخذ الإنسان الطعام ولو كانت هذه الأكلة لا تعجبه، فيأخذها ويعطيها إلى أناس آخرين. بعض الأحيان قد يطبخ جيرانك طعاماً، ويهدوك منه، وأنت لا يعجبك هذا النوع من الطعام مطلقاً، فلا غضاضة عليك لو أخذته وطيبت خاطرهم بأخذه، ثم أعطيته بعض الفقراء أو العمال أو المساكين، أو الناس الآخرين فهم يأكلونه أو يستفيدون منه.
        تحري أحسن الأوقات والأماكن عند إهداء الهدية:
        وإذا أراد الإنسان أن يُهدي أخاه هدية، فإنه يتحرى أحسن الأوقات والأماكن، ليهدي إليه حتى تصبح أعظم، وحتى تصبح أوقع في النفس، والدليل على ذلك ما رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض. وقالت عائشة: [ كان الناس يتحرون بهداياهم اليوم الذي يكون فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ]. فإذاً: الهدية إذا كانت في يوم مُفضل أو ساعة أو مكان معين أو ظرف معين عند المهدى إليه تكون أوقع في النفس وأحسن، فهذا من آداب الهدية. وقد حدثت قصة طويلة في هذا الباب رواها البخاري رحمه الله في كتاب الهبة وفي كتاب المناقب، وملخص هذه الهدية أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة فاجتمع صواحبي - تقول عائشة - إلى أم سلمة فقلن: (يا أم سلمة! والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريد عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث ما كان، أو حيث ما دار -لا يتقصدون عائشة - قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني، فلما عاد إليَّ ذكرت له ذلك فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة! لا تؤذيني في عائشة، فإنه -والله- ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) وهذا من فضلها رضي الله عنها. وجاء في رواية أخرى: (أنهن وسطن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول له: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر ، فكلمته فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى. فرجعت إليهن فاطمة ) ثم أنه ليس من المناسب للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول: يا أيها الناس! أهدوني في بيت فلان وفلان. فعلى أية حال: النبي عليه الصلاة والسلام كان يُحب أن يهدى إليه وهو في بيت عائشة؛ لأنه يحب عائشة رضي الله عنها، وأن تأتيه الهدية في هذا البيت يكون موقعها أجمل وأحسن، على أنه ينبغي على الإنسان المتزوج بأكثر من زوجة أن يراعي مسألة الغيرة أشد المراعاة حتى لا تتفاقم المشكلات وتعظم، ويكون هذا من أسباب القطيعة، أو من أسباب تنغيص عيشه في بيته مع زوجاته، وقد جاءت قصة حفصة مع النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يحب العسل والحلوى، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من أحدهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، تقول عائشة: فغرت، لماذا أطال عند حفصة أكثر من المعتاد؟ فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكةً من عسل فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة فقلت: أما والله لنحتالن له، وجاءت قصة العرفط والمغافير التي حصلت من حيلة عائشة رضي الله عنها، فالإنسان على أية حال يحتاج أن ينتبه إلى مسألة الغيرة بين الزوجات، ولا يكون هو سبب الشر، أو يكون هو مفتاح الشر.
        استحباب تبيين سبب رد الهدية:
        ومن آداب الهدية أن الإنسان إذا رد الهدية لسبب يبين للشخص الذي ردها له ما هو السبب، مثال: روى البخاري رحمه الله تعالى عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي : (أنه أهدى لرسول صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بـالأبواء أو بـودان -هذا موضع بين مكة و المدينة - صاده، فرده عليه النبي عليه الصلاة والسلام وكان محرماً صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أننا حرمٌ) وقد يقال: ألم يقبل من أبي قتادة الهدية وهو محرم؟ فقد جمع العلماء بين هذين الحديثين وقالوا: إن الصيد إذا صِيْدَ للمحرم -صيد لأجله- فإن عليه أن يرده؛ لأن المحرم لا يأكل الصيد، لا يصيد ولا يأكل الصيد الذي صيد لأجله، لكن إذا لم يصد لأجله جاز له أن يأكل، فـأبو قتادة لما صاد حمار الوحش عندما لما تضاحك المحرمون من رفقائه والتفتوا ورأى الصيد وصاده، ما صاده لأجل النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان بعيداً عنه، فهو صاده لأجل نفسه، وأهدى للنبي عليه الصلاة والسلام وأكل النبي صلى الله عليه وسلم. فالفرق بين القصتين أن ما صيد لأجل المحرم لا يُؤكل، وإذا كان لم يُصد لأجله جاز للمحرم أن يأكل منه. والشاهد الذي أورد الحديث من أجله هنا فهو تبيان أن الإنسان إذا رد الهدية لسبب، فإنه يُطيب خاطر المهدي بتبيان السبب. وكذلك من الأمور التي تتعلق بالهدية والتي ذكرها أهل العلم: إذا مات المهدى إليه قبل وصول الهدية، فلمن هي؟ هل ترجع للمهدي؟ أو هي لورثة المهدى إليه؟ فالإمام أحمد رحمه الله سُئل عن ذلك، فقال مجيباً عن هذا السؤال: إن كان حاملها - لما حصل الموت- رسول المهدي رجعت إلى المهدي، وإن كان حاملها رسول المهدى إليه فهي لورثته. فإذا حصل الاستلام من المهدى إليه أو من رسوله أو ولده دخلت في ملكه وإلا فلا.
        أنواع الهدايا، والهدية أنواع:
        هدية المحبة والمودة :
        فمنها هدية المحبة والمودة، التي يقصد بها تثبيت الصحبة وتأكيد الأخوة، وحسن العشرة والمروءة بين الناس، وهذا النوع من الهدية قد يكون من الأعلى للأدنى، أو من الكبير للصغير، أو من المعلم للتلميذ، فإذا كانت من الأعلى إلى الأدنى صار فيها شيء من معنى الصدقة، بخلاف ما إذا كانت من الأدنى إلى الأعلى؛ لأنها تكون أبعد عن معنى الصدقة. وقد تكون الهدية من باب الصلة والبر إذا كانت بين الأهل والأقارب، أي: تكون الهدية من صلة الرحم، قد تكون من باب التحبب والتقرب إلى الله، كالهدايا التي تقدم للعلماء والصالحين. قد يقصد بالهدية التوسعة كما إذا كانت من الغني للفقير، وقد يُقصد بالهدية تأليف القلب، كأن يعطيها الإنسان لمن بينه وبينه عداوة؛ لإزالة العداوة. قد تكون الهدية لتأكيد الصحبة والمحبة، كما إذا كانت بين الإخوان والأصحاب، وقد تكون الهدية هدية تشجيع كما إذا أعطى المدرس هدية لطالب نجيب عنده، أو يحفظ القرآن، أو يستذكر دروسه، فهي هدية تشجيعية يُقصد بها التشجيع. فإذاً الهدية لها عدة معانٍ جميلة ينبغي الالتفات لكل معنى منها، وقد تكون الهدية في مناسبة كالعيدين، أو مناسبة دينية أو اجتماعية موافقة للشرع مثل هدية زواج، أو هدية ولادة، أو هدية ختان، أو هدية إلى المريض، أو هدية للقيام من المرض، أو هدية للنجاح، أو للترقية، أو للمسافر، أو للعائد من السفر. فإذاً: الهدية كلما كانت مناسبتها أحسن كلما كان نفعها أكبر، وكلما كانت أفضل عند الله سبحانه وتعالى.
        هدايا الوالدين:
        والهدايا للوالدين لا شك أنها من أعظم الهدايا؛ لأن بر الوالدين واجب، ويتقرب الإنسان إلى الله بالهدية للوالدين أكثر من غيرهما، أما هدية الوالدين للأبناء فإنها تتعلق بها أحكام، فلا يجوز للأبوين أن يفضلا أحد الأولاد أو بعض الأولاد على بعض دون مسوغ شرعي، كأن يكون أعطاه هبةً لفقره أو لأنه تزوج، أو لأنه مريض يحتاج إلى علاج، أو لأنه نجح في الدراسة ولم ينجح بقية إخوانه، أو لأنه حفظ سورة لم يحفظها بقية إخوانه، فإذا كانت لسبب شرعي فلا بأس بذلك، ولو لم يعط بقية الإخوة، لكن ينبغي عليه أن ينوي في نفسه أنه لو مر أحدٌ من الأولاد الآخرين بالظرف نفسه الذي مر به هذا الولد الذي أعطاه أن يُعطيهم مثلما أعطاه، أي: لو أن أحد أولاده -مثلاً- تزوج فأعطاه عشرة آلاف ريال، فيجب على الأب من العدل أن ينوي في قلبه أنه لو تزوج الولد الثاني أن يُعطيه مثلما أعطى الولد الأول، إذا كان في ذلك الوقت مستطيعاً. ولا يجوز له أن يميز أحد الأولاد على بعض، كأن يُعطي هدية أو عطية أو هبة لولدٍ دون آخر دون سببٍ شرعي، فالراجح أنه حرام لا يجوز، ويكاد يكون هذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله خلافاً لجمهور العلماء، وقد نصر ذلك ابن القيم نصراً مؤزراً في تهذيب السنن في شرحه على أبي داود وذكر أدلة الفريقين ورجح المذهب القائل بعدم جواز أن يميز الأب ولداً من أولاده بعطية أو هدية أو هبة دون مسوغٍ شرعي، وحديث: (اذهب فأشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور) ونحو ذلك من ألفاظ الحديث كلها تدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام رفض أن يشهد على عطية النعمان وتمييزه عن بقية إخوانه. ولذلك التمييز بينهم حرامٌ، ولا شك أنه من الأسباب التي تولد الضغائن بين الأولاد، أن يميز الأب واحداً منهم بشيء، والله سبحانه وتعالى قال: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً [النساء:11]. وبقي في موضوع الهدية بقية، وخصوصاً الكلام على الفرق بين الهدية والرشوة؛ لأنها مهمة في خِضم الحياة التي نعيشها. فأقول أيضاً أيها الإخوة: إن الهدية العلمية الشرعية والنصيحة من أعظم ما يُهدى للإنسان المسلم. ويدل على ذلك ما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عيسى أنه سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: (ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: بلى فأهدها لي، فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليكم؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد) فإذا أهديت لإنسان معلومة دينية شرعية فلا شك أن هذه من أعظم ما يُهدى. ومن الأمور والأحكام المتعلقة بالهدية ذكرنا هدية المحبة والمودة، وهدية الوالدين.
        هدية المخطوبة:
        ومن الهدايا أيضاً هدية المخطوبة التي جرت بها العادة، والتي يُراد بها التودد والتحبب أيضاً، فإن الناس قد اعتادوا أنه إذا خطب أحدهم امرأة أو عقد على امرأة أن يُهدي لها هدايا، ومنها هذه الشبكة. فأما بالنسبة لما يُهدى من المطعومات والمشروبات والأمور المستهلكة والملابس وكل ما لم يُقصد به المهر أو جزءاً منه، فإنه ملكٌ لمن أهدي إليها، فإذا فُسخت الخطوبة سيبقى عندها، لكن إذا كان قد أُعطي لها على أنه جزءٌ من المهر مثل الشبكة التي تعارف الناس على أنها جزء من المهر، فهذه إذا حدث ما حدث من الفراق، فإنها تكون من جملة الأشياء التي يسترجعها الرجل. وبالنسبة لمن أهدى هدية طمعاً في المكافأة عليها، فإن هذا الشخص لا يكون له ثوابٌ عليها حيث أنه أراد من وراء الهدية أن يُهدى إليه، وإذا لاحظ المهدى إليه أنه قُصد من وراء الإهداء إليه أن يرد، مثل أن يكون غنياً وأهدي إليه من قبل فقير، فإنه إذا أخذها يأخذها على أن يُهدي ويُثيب ويكافئ؛ لأنها أعطيت إليه بهذا القصد وإلا فلا يأخذها.
        حكم الهدية على قضاء الحاجات:
        أما بالنسبة للهدية على قضاء الحاجات، فإن أهل العلم لهم أقوالٌ في مسألة من أهدى لآخر هدية لأنه قضى له حاجةً مباحة، فقال بعضهم بالحل، وقال بعضهم بالكراهة، ورأي الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن الهدية على عملٍ مباح مكروهة إلا أن يكافئ بمثلها، قال أبو الحارث : إن أبا عبد الله سُئل عن رجل يسأله الرجل حاجةً، فيسعى فيها يقول: يا فلان! هل يمكن أن تقضي لي الحاجة الفلانية؟ -تنهي لي هذه المشكلة أو هذه المعاملة أو هذه الوظيفة- فإذا فعلها له أهدى له هدية، هل يجوز أن يقبلها أم لا؟ فقال الإمام أحمد رحمه الله: إن كان شيئاً من البر وطلب الثواب كرهت له ذلك؛ لأنه لما قضى له الحاجة ماذا أراد الذي قضاها: هل أراد جعلاً؟ هل أراد مقابلاً مادياً؟ هل قال: أسعى في المعاملة أو أقضيها في مقابل مادي؟ هل قال: أسعى لك في المعاملة أو أقضيها لك -مثلاً- أو أتابعها لك أو أنهي لك هذه القضية بمقابل كذا من المال؟ لا. إنما فعلها لوجه الله. فإذا أهدي له هدية فإنه لا يأخذها؛ لأنه يريد أن يتم له الأجر، لكن إن أخذها فإنه يأخذها بقصد المكافأة عليها، ويثيب عليها وتكون واحدة بواحدة ويبقى له أجر ما عمل.
        مسألة الشفاعة والواسطة:
        بالنسبة لمسألة الشفاعة والواسطة، أنه يطلب من شخص أن يتوسط له في مسألة من المسائل أو أمر من الأمور، بجاهه يقول: يا فلان! أنت تعرف المدير، أنت تعرف فلاناً، أنت تعرف الرئيس الفلاني، توسط لي عنده في إنهاء هذه القضية أو هذه الوظيفة ونحو ذلك، فهذه شفاعة، إذا كانت في أمرٍ مباح فهي جائزة، والشافع مأجور: (اشفعوا تؤجروا). لكن ما حكم أخذ الهدية على الشفاعة؟ الجواب: الراجح أنه لا يجوز أخذ الهدية على الشفاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (من شفع لأخيه شفاعةً فأهدى له هديةً عليها فقبلها منه، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا) ولعل من الحكم من وراء هذا الأمر -وهو عدم جواز أخذ الهدية على الشفاعة والواسطة الحسنة- أن الجاه نعمة من الله ينبغي أن يُستخدم في خدمة عباد الله مجاناً بدون مقابل، وينبغي أن يتسارع إليه الناس المستطيعون، لنصرة حقٍ أو رفع ظُلم، ولا ينبغي لمن ساهم بجاهه في جلب حقٍ أو دفع ظلم أن يأخذ مالاً على ذلك، حتى لا يتكاسل الناس عن هذه المسألة، ويشترطون الأجر، فيقول أحدهم: لا أتوسط لك إلا بمقابل. قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: الهدية لمن يشفع له بشفاعة عند السلطان ونحوه لا يجوز أخذ الأجرة عليها. وقال بعض الفقهاء: لا يجوز أخذ العوض مقابل الدفع عن المظلوم، وإنه يجب أن تُقضى له الحاجة مجاناً. وقال ابن الجوزي : يجب على الولاة إيصال قصص المظلومين وأهل الحوائج، وقال: والواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة، وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها من تبليغه للسلطان حاجاتهم، وتعريفه بأمورهم، ودلالته على مصالحهم، وصرفه عن مفاسدهم، بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة. إذاً: لا يجوز أخذ المقابل على هذه الشفاعة وخصوصاً إذا كانت لجلب حقٍ أو دفع ظُلم. وقد أفتى ابن تيمية رحمه الله -في مسألة أخذ العوض أو الهدية على قضاء الحاجة- بعدم الجواز، وقال: هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار، ولما سئل ابن مسعود عن السحت قال:إنما السحت أن يستعينك على مظلمةٍ فيهدي لك. فلا تقبل. يقول: تعال ادفع عني هذه المظلمة فإذا أهدى لك هدية لا تقبل؛ لأنه سحت، لو قبلتها فهذا سحت. وعن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها، فأهدى إليه صاحب المظلمة وصيفاً فرده ولم يقبله، وقال مسروق : سمعت ابن مسعود يقول: [من رد عن مسلمٍ مظلمة فأعطاه على ذلك قليلاً أو كثيراً فهو سحت، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نظن أن السحت إلا الرشوة في الحكم، قال: ذلك كفرٌ نعوذ بالله من ذلك] أي: أشد وأشنع، أي: الرشوة للقاضي أشد وأشنع ليحكم بغير الحق والصواب. وجاء نصرانيٌ إلى الإمام الأوزاعي وكان يسكن بيروت فقال: إن والي بعلبك ظلمني وأريد أن تكتب فيَّ إليه، وأتاه بقلة عسل -هدية معه- فقال له: إن شئت رددت عليك قلتك وأكتب إليه؟ وإن شئت أخذتها ولا أكتب؟ -أنت بين أمرين إما أن تأخذ هديتك وأكتب لك , وإلا لا أكتب لك ولا أقبل هديتك- فقال النصراني: بل اكتب لي وارددها، فكتب له أن ضع عنه من خراجه، فشفّعه الوالي فيه، وحط له عن جزيته ثلاثين درهماً. أي: كان قد أخذ أكثر من الجزية الشرعية. فإذاً: لا ينبغي الاستعانة بالهدايا على قضاء الحوائج وتيسير المهام؛ حتى لا تتوقف الأمور على ذلك وتضيع المروءات والأخلاق بين الناس، ويكون التعامل بينهم على أساس مادي، فيضيع باب الاحتساب ويضعف الوازع الديني عند الناس. وكذلك من الأشياء التي لا ينبغي قبول الهدية فيها مطلقاً: الهدية مقابل حفظ الأمانة، كأن يستودع أحد عندك أمانة ثم جاء فأخذها كاملة فأعطاك هدية فلا تأخذها منه، إلا بنية أن تكافئه عليها، حتى يبقى أجرك عند الله موفوراً، وحتى لا تصبح قضية حفظ الأمانات بين الناس مقابل هدايا ومكافآت، وينبغي أن يُسعى في قضاء الحوائج للناس ابتغاء الأجر من الله سبحانه تعالى، وينبغي أن يبذل المسلم جاهه بدون مقابل؛ لأن الجاه زكاة مثل المال. ولذلك فإن الذي يُعطي شخصاً مالاً وهو مضطر، أعطاه إياه؛ لأنه ما عنده طريقة أخرى يصل بها إلى حقه أو يدفع الظلم عن نفسه، فيجوز له أن يدفعها؛ لأنه مضطر، لكن لا يجوز للآخر أن يأخذها، وإنما يستخدم جاهه في مساعدته، أما إذا كانت الهدية لإحقاق باطل، أو إبطال حق فلا شك أنها محرمة تحريماً عظيماً.
        الغرض من الهدايا:
        وقد ذكر بعضهم أن الهدايا لها أغراض أربعة: أولاً: أن يكون الغرض منها حصول الثواب الأخروي، كأن يكون المهدى إليه فقيراً أو عالماً أو صالحاً. ثانياً: أن يُقصد بالهدية جلب المحبة والتودد، مثل أن يُعطي المخطوبة يتودد بالهدية إلى قلبها. فهذان جائزان. ثالثاً: أن يقصد بها غرضاً دنيوياً، كأن يعطي الفقير غنياً هدية على أمل أن يُعطيه أكثر، فيجوز للغني أن يأخذها إذا كان سيعطيه فعلاً. رابعاً: أن يكون المراد بها الاستعانة على فعل أمر معين، كالمحتاج إلى السلطان في مسألة، فيُعطي وكيله هدية، فهذا إذا كان في إحقاق باطل أو إبطال حق فلا شك في تحريمه. وإذا كان العمل في أخذ حقه أو دفع الظلم عن نفسه، فقد يجوز الإعطاء، ولكن لا يجوز الأخذ أبداً. أما الأشياء المباحة كأن يتوسط له في جلب بضاعة -مثلاً- ليس مضطراً إليها ولا محتاجاً إليها، يريد أن يتوسع بها، فهذه الهدية في هذه الحالة الأحوط ألا يأخذها؛ لأن فيها استعمال الجاه بمقابل.
        حكم إهداء القضاة:
        وبالنسبة لهدايا القضاة فإن العلماء قد تكلموا على ذلك، وذكر بعضهم أن القاضي لا يجوز له مطلقاً أن يقبل الهدية، وهذا قول بعض أهل العلم، وقال بعضهم: جائز، وقال بعضهم: يجوز إذا كان الذي أهدى للقاضي ليس له قضية عند هذا القاضي، وبعضهم قال: يجوز إذا كان ممن يهديه قبل القضاء، فيجوز له أن يهديه بعد القضاء، وشرط بعضهم أن يكون ممن يهديه قبل القضاء وليس عنده قضية عند القاضي. وعلى أية حال فإن تحريم أخذ القاضي للهدايا هو القول الأحوط، وقد رجحه ابن قدامة رحمه الله تعالى، ولا شك أن القاضي إذا أخذ الهدية فإن ذلك سيكون باب شرٍ عظيم. اللهم إلا إذا كان هدية لا علاقة لها بالقضاء أبداً، كما إذا أهدى له أخوه هدية، أو جاره أهداه هدية للجوار فقط، أو من -مثلاً- قاض آخر يكون زميلاً له، أي: لا علاقة له بالقضاء مطلقاً، فهو يجزم تماماً أنها لا علاقة لها بالقضاء، فهذا يجوز له أخذها. ولذلك قال النووي رحمه الله: إن كان المهدي ممن لم تجر له العادة بالهدية إليه قبل الولاية حرم عليه قبول الهدية. وإذا كانت له عادة بالهدية من قبل ولم تكن له قضية عند القاضي أو حكومة -العلماء يسمونها حكومة- جاز قبولها، وإن كان له حكومة أو قضية عند القاضي فلا يجوز للقاضي أن يقبلها حتى لو كان المهدي له سابق عهد بالهدية، قبل أن يتولى القاضي القضاء. كذلك فإن من الأشياء التي يمكن أن تكون بريئة، الإهداء للقاضي بعد التقاعد من القضاء، أو أن يهدي له شخص شيئاً ما، وهذا الشخص لا علاقة له بمجال القضاء ولا يأتي إليه في خصومة مثل أن يكون في بلدٍ آخر فيه قاض آخر، فأهدى له هدية من بلد إلى بلد، فهنا لا يطمع أن يكون له عند القاضي شيء، وإذا أهديت للقاضي هدية؟ قال بعض أهل العلم: يردها إلى بيت المال.
        حكم قبول الحاكم للهدايا:
        أما بالنسبة للحاكم، فإنه لا يأخذ شيئاً مطلقاً، ولذلك قيل لـعمر بن عبد العزيز : يا أمير المؤمنين! مالك لا تقبل الهدية وكان رسول صلى الله عليه وسلم يقبلها؟ فقال عمر رضي الله عنه ورحمه: إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، وإنها اليوم رشوة. كانوا يهدونه لنبوته يتقربون بها إلى الله، لكن نحن لماذا يهدوننا؟! لسلطاننا وإمرتنا، ولذلك قال: هي رشوة، فإذاً: لا يجوز له أخذها من الرعية. أما بالنسبة لمسألة قبوله هو لهدايا من ملوك الأرض -مثلاً- كما أهدى النجاشي و أكيدر دومة الجندل وغيرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشياء، فقبلها عليه الصلاة والسلام، فإن كان فيها مصلحة للمسلمين أخذها، وهذا الباب فيه تفصيل، لكن لعلنا لا نحتاج إليه في هذا المقام والزمان.
        حكم قبول العمال للهدايا:
        أما بالنسبة للعمال وهم الموظفون العاملون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر الحكم صريحاً فقال: (هدايا العمال غلول) أي: سرقة وحرام وسحت، من هم العمال؟ موظفو الدولة عموماً، كل من تولى ولاية عامة، أو في مكان له علاقة بالناس يقضي لهم المعاملات، فإن هذا الموظف لا يجوز له أخذ الهدية من الناس أبداً، وحديث ابن اللتبية واضح جداً لما جاء يحاسب النبي عليه الصلاة والسلام قال: (هذا مالكم وهذا هدية -قال: هذه الزكوات جمعتها لكم وهذه أعطوني إياها هدية- فغضب النبي عليه الصلاة والسلام غضباً شديداً وخطب الناس وقال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذه هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟! والله لا يأخذ أحدٌ منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله عز وجل يحمل بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاةً تيعر، ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه يقول: اللهم هل بلغت؟). وفي رواية: (فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً) أي: يقول: لو لم تكن موظفاً عندنا وكنت في بيت أبيك وأمك هل كانت تأتيك الهدية؟ لو كنت صادقاً اقعد في بيت أبيك وأمك وانتظر الهدية. إذاً: كل هدية تأتي للموظف بسبب وظيفته حرامٌ عليه أخذها؛ لأنها رشوة، وهذه مسألة صريحة لا تحتاج إلى نقاش، ويقع بسبب قبول الموظفين في الأماكن العامة للهدايا من المراجعين والناس فسادٌ عظيم. وعن سليمان بن يسار : (أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر) هذا موظف النبي عليه الصلاة والسلام أرسله إلى يهود خيبر لأجل الخرص؛ لأن بينهم صُلح ولا بد أن يؤدوا أشياء معينة ونسبة معينة، قال: (فجمعوا له حلياً من حلي نسائهم -اليهود- فقالوا: هذا لك، وخفف عنا وتجاوز القسط) رشوة واضحة من إخوان القردة والخنازير، خذ هدية وخفف عنا (فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود! والله لأنكم من أبغض خلق الله إليّ وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم) يقول: أنتم أبغض خلق الله إليّ وربما ما فعلتموه الآن معي يزيدني عليكم حنقاً وبغضاً، لكن مع ذلك لن أجور عليكم في القسمة (فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض). وقال ابن تيمية رحمه الله: وما أخذ ولاة الأمور وغيرهم من مال المسلمين بغير حق، فلولي الأمر العادل استخراجه منهم، كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (هدايا العمال غلول) أي: خيانة. الخلاصة: لا يجوز للموظف أخذ الهدية من الناس مطلقاً، إلا إذا كانت هدية لا علاقة لها بالوظيفة أبداً، مثل هدية شخصية، أبوه أهداه هدية، أو أخوه، لا علاقة له بأنه موظف أو غير موظف، فهنا في هذه الحالة يأخذها، لكن أن يأخذ من عامة الناس ومن المراجعين فهذا حرام وسحت ولا يجوز. وقد تكون الهدية بأشكال كثيرة، كأن يقول صاحب ورشة لشخص: هات أصلح لك السيارة، هات نراعك فيها، هات نعطك أثاثاً بنصف السعر، فهذا كله سحت، حرام سواءً كان بشيءٍ مادي، أو خصم، أو خدمة مثل إصلاح سيارة أو تأجيرها، أو أشياء مجانية، لشخصه هو فهي حرام، ولا يجوز للآخر أن يدفعها، وإعطاء الهدية للموظف في الجوازات أو الشرطي أو لشخص في المرور حرام مطلقاً، وذكرنا استثناء في موضوع دفع الظلم عن نفسه وهي قضية أخرى.
        حكم قبول الهدايا من الكفار:
        أما بالنسبة لقبول الهدايا من الكفار، فإنه قد وردت نصوص أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ هدايا من الكفار، مثلما أخذ -مثلاً- من أكيدر دومة الجندل . وكذلك قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدية اليهود لما أهدوه الشاة التي وضعوا فيها السم، ووردت أحاديث بمنع أخذ الهدية منهم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نقبل زبد المشركين) وزبد المشركين: هو عطاؤهم وهداياهم، فكيف جمع العلماء بين هذه الأحاديث؟ قال بعضهم: إن أحاديث المنع ناسخة، والأخذ منسوخة. وقال بعضهم: أحاديث الأخذ ناسخة، وأحاديث المنع منسوخة. وقال بعضهم: إنه إذا أُهدي إليه عليه الصلاة والسلام خاصةً لا يقبل، وفيما أهدي للمسلمين يقبل، لكن هذا فيه نظر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أُهدي هدايا خاصة، فقد أهداه المقوقس ملك الإسكندرية بغلة ومارية القبطية له خاصة، فهذا قد لا يكون جواباً صحيحاً أو راجحاً. وقال بعض العلماء: إذا كان الذي أهداه قصد الموالاة فيردها، وإذا كان الذي أهداه يُرجى بقبول هديته تأليفه إلى الإسلام وتأنيسه فيأخذها، وهذا جمعٌ جيد. وقال بعضهم: إن كانت من أهل الكتاب قبلها، وإن كانت من أهل الأوثان لم يقبلها، وقال بعضهم: إن كانت من المحاربين لم يقبلها وإن كانت من غير المحاربين قبلها، فلعل الراجح إن كانت من غير المحاربين ومن غير أهل الأوثان من أهل الكتاب، الذين يراد بقبول هديتهم تأليفهم، فيقبل وإلا فلا.
        حكم إهداء المشرك:
        ما حكم أن نهدي المشرك؟ فالجواب: إذا كان المشرك محارباً فلا يجوز إهداؤه؛ لأنه لا يوجد بيننا وبينه إلا السيف، وإذا كان غير محارب فالله يقول: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8] كانت أم أسماء مشركة، فلما رغبت في صلتها قال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (صلي أمك) والوصل عام يمكن أن يكون بالهدايا أو بغير الهدايا، والصلة عامة لهذه الأم المشركة. فإذاًَ: يجوز أن نهدي المشرك خصوصاً إذا أهديناه لأجل تأليف قلبه، ودعوته إلى الله. ما حكم إهداء الكفار في مناسباتهم الدينية مثل الأعياد؟ الجواب: لا يجوز ذلك مطلقاً؛ لأنه مشاركة وإقرار ولا ينبغي إظهار الفرحة، أو مشاركتهم بفرحتهم مطلقاً مهما كانت، وأصحاب أبي حنيفة يشددون في ذلك جداً، حتى قالوا في بعض كتبهم: من أهدى إليهم يوم عيدهم بطيخة بقصد تعظيم عيدهم فقد كفر.
        بعض الأبيات التي جاء فيها ذكر الهدايا
        وهناك أبياتٌ للشيخ حافظ الحكمي رحمه الله فيها ذكر بعض أحكام الهدية يقول:
        ثابتةٌ بالسنن القويمة وقد روي إذهـابـها السـخـيمـة
        يُشرع للمسلم أن يقبلـها وأن يثيـب كـرمـاً فـاعلـها
        إذ صح مروياً عن النبي وهو دليـل الخلـق المرضـي
        وبين مسلمٍ وكافرٍ تحـل مالم يخف وداً لمنـعٍ قـد نقـل
        يجوز ردها بدون مانـع شرعـي إذ قـد مـنع الشـارع
        القاضي والأمير والشافع أن يقبلها نصاً صريحاً في السنن
        وإن تكن إلى جوارٍ تهدي فقـدم الأقـرب عـن ذي البـعدِ
        وإذا كانت الهدية من الصغير إلى الكبير فإنها فكلما لطفت ودقت كانت أبهى، وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أوقع، وبعث أبو العتاهية إلى الفضل بن ربيع بنعل وكتب معها:
        نعلٌ بعثت بها لتلبسـها تسعى بها قدمٌ إلى المـجدِ
        لو كان يمكن أن أشركها جلدي جعلت شراكها خدي
        وقال رجل لـأبي الدرداء : إن فلاناً يقرئك السلام، فقال: هدية حسنة ومحملٌ خفيف.
        بعض الهدايا التي يمكن إهداؤها:
        وفي نهاية الكلام عن الهدية نريد أن نستعرض وإياكم بعض الهدايا التي يمكن إهداؤها، فأشير الآن ما هي الهدايا المناسبة التي يمكن أن تهدى للناس والإخوان والأقارب والجيران وغيرهم: طبعاً الكتاب والشريط الإسلامي لا شك أنه من أعظم ما يُهدى في هذا الزمان. ومن الهدايا الساعة، لكن لا تكون مطلية بالذهب أو فيها صلبان، وكذلك الأقلام لا تكون مطلية بالذهب. ومما يهدى أيضاً الملابس، فالنبي عليه الصلاة والسلام أهديت له ألبسة، وهي من الأشياء الجيدة التي وردت فيها السنة مثل الثوب وغيره. الأطعمة والأشربة أيضاً كانت تُهدى، كما تُصدق على بريرة ، و بريرة أهدته لبيت النبي صلى الله عليه وسلم، والمصحف وهو داخل في كتب العلم، لأنه هو أعظم كتاب على الإطلاق، ولا شك أنه كلما قرأ فيه، والغالب أن يُقرأ فيه كثيراً -يعني: المصحف- أكثر من أي كتاب آخر، يؤجر عليه الإنسان. والمركوبات، ولكن هذه أشياء مكلفة أي: لا يتيسر لعامة الناس أن يهدوها إلا إذا كان صاحب يسار فأهدى سيارة مثلاً. وكذلك الآلات التي تستخدم في حفظ المعلومات كالحاسب الآلي أو الآلات الحاسبة التي تهدى للطلبة أو الأشياء القرطاسية كالمساطر وعلب الهندسة والدفاتر ونحوها، وكذلك الشاة تهدى للمتزوج من باب المساعدة في الوليمة، وقد ثبت في السنة مساعدة صاحب الوليمة أو الزوج بما ييسر عليه مئونة حفلة الزفاف، وإهداء الزوجة من الحلي. ينظر في حاجته فيعطيه هدية تناسب حاجته، وكذلك إهداء مبلغ من المال. الورد للمرضى من عادات الكفرة ولذلك لا ينبغي إهداء الورود للمرضى، ومن عاداتهم حمل العروس باقة وردٍ بيدها في حفلة الزفاف، لكن لو أهداه ورداً في غيرها كأن يأتي لأمه بوردٍ أو قرنفلٍ أو ياسمينٍ أو فُل -مثلاً- وجده جيداً وطيباً فلا شك أنها هدية جيدة ومحمودة. وإهداء النصيحة، أو إهداء العلم الشرعي، أو تعليم حديث كما مر معنا من الهدايا الطيبة، وكذلك العسل. فعلى أية حال الهدايا كثيرة وهذا طرف منها وأمثلة، وبذلك نختم الكلام عن موضوع الهدية. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا وإياكم بالسبيل القويم، وأن يرزقنا اتباع سنة نبيه الكريم، والله أعلم.


        تعليق


        • #19
          محاضرة( آداب الوليمة )للشيخ محمد المنجد

          محاضرة( آداب الوليمة )للشيخ محمد المنجد

          عناصر الموضوع :
          1. تعريف الوليمة
          2. أنواع الولائم
          3. حكم إجابة الدعوة
          4. شروط وجوب تلبية الدعوة للولائم
          5. حكم الإتيان إلى وليمة لم يدع إليها
          6. من أخبار الطفيليين

          آداب الوليمة:
          تحدث الشيخ في هذا الدرس عن تعريف الوليمة وأنواع الدعوات من وليمة عرس وعقيقة مولود... إلى آخر تلك الأنواع. وبين حكم إجابة الدعوة إلى الوليمة أو إلى غيرها، سواء كانت الدعوة من امرأة أو رجل، وذكر الحالات التي يسقط فيها حكم الوجوب عن المدعو, وختم الدرس ببعض أخبار الطفيليين.

          تعريف الوليمة:
          الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: سنتحدث -أيها الإخوة- في هذه الليلة في سلسلة الآداب الشرعية عن آداب الوليمة. ومعنى الوليمة في اللغة هو مشتقٌ من الجمع والضم، فيقولون: الولم: هو الجمع والضم، ويقال: أولم الرجل إذا اجتمع عقله وخلقه، وسمي القيد في الرجل ولماً لأنه يجمع الرجلين، واشتهر إطلاق الوليمة على الطعام الذي يُصنع للعرس لأن فيه اجتماع الزوجين، وكذلك فإن فيه اجتماع الناس للطعام، فالوليمة طعام العُرس، وقيل: هي كل طعام، والجمع ولائم. ولكن اشتهر إطلاقها واختصاصها بطعام العرس، وكذلك قالوا: إن الوليمة تقع على كل دعوة تتخذ لسرورٍ حادث من نكاح أو ختان أو غيره، لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح، وتقيد في غيره، فإذا قيل وليمة يُفهم أنها وليمة النكاح، هذا إذا أطلقوا، إذا أردنا غيرها نقول: وليمة الختان، وليمة السفر، وليمة النقيع ونحو ذلك من الأسماء، والدعوة أعم من الوليمة، فالدعوة ما دعوت إليه من طعامٍ وشراب.

          أنواع الولائم:
          فالدعوة أعم من الوليمة والوليمة أخص منها، والولائم أنواع، ذكرها الناظم في قوله:
          أسامي الطعام اثنان من بعد عشرةٍ سأسردها مقرونة ببيانِ
          وليمة عـرسٍ ثـم خـرس ولادة عقيقة مولودٍ وكيرة بان
          وضيمة ذي موتٍ نقيعة قادمٍ عذيرٌ أو اعذارٌ ليـوم خـتانِ
          ومأدبـة الخـلان لا سـببٌ لها حذاقة يـوم الختـم للقرآنِ
          وعاشرها في النظم تحفة زائرٍ قرى الضيف مع نزلٍ له بأمانِ
          وسنأتي على شرحها بسرعة، ثم نتوسع في مسألة وليمة الزواج أو النكاح، وبعض التفاصيل المتعلقة بها.

          الوليمة والخرس والعقيقة:
          أما بالنسبة لوليمة النكاح فهي ما يُصنع من الطعام بسبب النكاح، أما وليمة الخُرس فهو الطعام الذي يُصنع لسلامة المرأة من الطلق في النفاس، وكذلك فإن هناك العقيقة وهو الطعام الذي يُصنع بسبب ولادة المولود، وقيل: إن العقيقة أصلها من الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وسميت بذلك لأنه يحلق عنه في يوم سابعه، وهو اليوم التي تذبح فيه العقيقة، وقال بعض أهل العلم: إن العق هو القطع، والعقيقة هي الذبح نفسه، وهي اسمٌ للشاة المذبوحة عن المولود يوم السابع من ولادته. وقد اختلف أهل العلم فيها بين الوجوب والاستحباب، وجمهورهم على الاستحباب، ومن أدلة أهل الوجوب: (كل غلامٍ رهينة بعقيقته) أي: مرتهنٌ بها، والسُنة شاتانِ عن الغلام الذكر وشاة عن الأنثى، ويجوز أن يذبح شاة عن الذكر لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن الحسن و الحسين شاةً شاةً، والمسألة فيها تفاصيل أخرى.

          الوكيرة والوضيمة والنقيعة:
          وبالنسبة لوليمة الوكيرة: هي ما ذبح لإحداث بناء السكن، مأخوذٌ من الوكر، وهو المأوى والمسكن، فيُصنع بسبب البيت الجديد وليمة يدعى إليها الناس. وأما الوضيمة: فهي ما يصنع من الطعام -بسبب المصيبة- لأهل الميت، وهي سنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد جاءهم ما يشغلهم). أما إذا كان اجتماع على طعام يصنعه أهل الميت، فهو من النياحة المحرمة، وقد جاء النص بذلك عن الصحابي جرير بن عبد الله رضي الله عنه: [كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام بعد دفنه من النياحة]. أما ما يفعله أهل البيت من صنع طعام، وجمع الناس عليه أول يوم وثاني يوم وثالث يوم فهو من النياحة، وهو حرام، ولا يجوز الأكل منه مطلقاً. فإذا صنعوا طعاماً لأنه أتاهم ما يشغلهم، أو صنعوا للضيوف الذين جاءوا من بعيد، فناموا عندهم وأكلوا معهم، فهذا لا بأس به، أما أن يصنعوا طعاماً يدعى إليه الناس والجيران والمعزون، فهذا من البدع المحدثة وهو حرام. أما بالنسبة لوليمة النقيعة فهي الدعوة التي تُصنع بسبب قدوم المسافر سالماً من سفره، مأخوذة من النقع وهو الغبار، قال الله تعالى: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً [العاديات:4]. ويصنعها المسافر أو يصنعها أهله، وقيل: تُصنع للمسافر فرحاً بسلامة وصوله، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نحر جزوراً أو بقرة، فهذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله يدل على مشروعية عمل الطعام بعد القدوم سالماً من سفره.

          العذيرة والمأدبة:
          وأما بالنسبة للعذيرة فهي الوليمة التي تُصنع بسبب الختان، وتُسمى أيضاً الإعذار، والإعذار هو الختان، وهو الطعام الذي يُطعم بمناسبة الختان، وقد جاء عن بعض السلف فعل هذه الوليمة، وهل هي للذكر فقط أم تشمل الأنثى؟ للعلماء أقوالٌ في المسألة، ومما قاله ابن الحاج المالكي رحمه الله في كتابه المدخل: إن السنة في الختان للذكور إظهاره، وفي ختان النساء إخفاؤه فإذا كان ذكراً خُتن، فإنه يُصنع له هذه الوليمة إذا جرت العادة بذلك، فلا بأس في فعلها، وقد جاء فعلها عن بعض السلف رحمهم الله تعالى. فإذا صار ختانه وحلق شعره في اليوم السابع فالعقيقة تغني عن هذا. وأما وليمة المأدبة فهي الضيافة التي تعمل بدون سببٍ معين، فإذا أراد أحد الناس أن يجمعهم على طعام من أجل أن يكسب أجراً في إطعام الناس، فدعاهم للطعام، كالأصدقاء والأحباب والإخوان والأقارب والجيران. أراد أن يصنع المعروف من باب أن إطعام الطعام وإفشاء السلام من أسباب دخول الجنة، وليس لوليمته سبب معين، فلا بأس بذلك. وقد جاء في الحديث أن ملائكة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا: (إن لصاحبكم هذا مثلاً، مثله كمثل رجلٍ بنى داراً، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فالدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم فرّق بين الناس) صار الناس فريقين: مؤمنون وكفار، وهذه المأدبة التي تصنع بلا سبب، إذا كانت عامة فتسمى الجَفَلَى (بالألف المقصورة)، بأن قال: يا أيها الناس هلموا، وليأت من يريد من الناس، فهذه دعوة عامة يجوز لكل واحد أن يأتيها، أو فعلها في مكان عام على الشارع مثلاً أو في أرضٍ مفتوحة، ودعا إليها من شاء من الناس أن يأتيها، فتسمى جَفَلَى، يجوز لكل واحد أن يأتيها. وإذا كانت خاصة فتسمى النَقَرى، فهي خاصة بمن يدعى إليها، فإذاً لا يجوز لغيرهم أن يأتي، وإطعام الأصحاب على أية حال من القُرب، ودعوة الإخوان أيضاً من الطاعات.

          الحذاقة والقرى:
          أما الوليمة التي يسمونها الحذاقة فهي الإطعام عند ختم الصبي للقرآن إذا حفظه، فإن حفظ ولد الرجل القرآن وصنع والده وليمة للناس فرحاً بمناسبة ختم ولده للقرآن، وربما صنعت أيضاً إذا نبتت أسنان الصغير ونحو ذلك، وهي مأخوذة من قولهم: (حَذِقَ الصبيُّ يَحْذَقُ حِذْقاً، إذا مهر في الشيء) ويقال لليوم الذي يختم فيه الصبي القرآن: يوم حذاقة، ويقال: فلانٌ حاذقٌ في صنعته، وجاء عن بعضهم أنهم كانوا يصنعون هذا لغلمانهم. ويروى عن الحسن أنه قال: "كانوا إذا حذق الغلام قبل اليوم نحروا جزوراً واتخذوا طعاماً" ويُروى كذلك عن حميد أنه قال: "كانوا يستحبون إذا جمع الصبي القرآن أن يذبح الرجل الشاة ويدعو أصحابه". فهذه الشاة على أية حال هي شكر على نعمة حفظ الولد للقرآن، فإذا ذبح شاة على أية نعمة فلا بأس بذلك، لكن عندما تكون القضية واردة في السنة كالأضحية والعقيقة فإنها تتأكد، لأن لها مستنداً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو من قوله، فهي لا شك أقوى وأقوى. أما أشياء جرت من عادات الناس، قد لا تكون واردة في السنة فهي بمنزلة أدنى، وإن كانت من عادات الناس ولم يقصدوا بها السنة، ولم يقصدوا بها التعبد فلا بأس بذلك، وذبح الشاة لأجل النعمة يدل عليه مجموع أحاديث وردت في الشريعة، فنعمة القدوم من السفر ذبحت فيها شاة، ونعمة المولود ذبحت فيها شاة، ونعمة الزواج ذبحت فيها شاة: (أولم ولو بشاة) إذاً ذبح شاة أو ذبيحة أو عمل طعام لمناسبة سارة أو لنعمة أنعم الله بها على الشخص لا بأس به ولا حرج فيه شرعاً، لكن فرق أن يعتقد الإنسان أنه سنة، فهذا لا بد له من دليل، أو أنه لم يعتقد أنه سنة، وإنما هو سنة على وجه العموم فإن في الشريعة ما يدل على ذبح شيء أو دعوة الناس إلى طعام بمناسبة حدوث شيءٍ سار. مثل لو أن إنساناً ترقى في وظيفته، أو تبوأ وظيفة ونحو ذلك أو تخرج من الجامعة، فعمل طعاماً فلا بأس بذلك، ليس بدعة ولا حراماً ولا مكروهاً ما لم يتضمن منكراً أو محظوراً من المحظورات الشرعية، وأيضاً وليمة القرى وهي الطعام الذي يصنع للضيف، وإكرام الضيف لا شك أنه قد ورد في السنة، ولعلنا نأتي إن شاء الله في هذه السلسلة على آداب الضيافة.

          الفرع والعتيرة:
          وكذلك فإن من أنواع الولائم التي ذكرت وليمة الفرع، والفرع هو أول نتاج الناقة، كان أهل الجاهلية يذبحونه لطواغيتهم، فأبطله الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا فرع). وأما العتيرة: فهي الشاة التي كانوا يذبحونها في رجب، وتسمى الرجبية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عتيرة) وهنا اختلف العلماء هل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عتيرة) إبطال لذبيحة رجب بالكلية، أو لا عتيرة بمفهوم أهل الجاهلية، كأن يكون هناك اعتقادٌ معين عند الجاهليين، كما أنهم كانوا يذبحون لأصنامهم في رجب مثلاً ويسمونها عتيرة، فتكون مشروعة إذا كانت لله؟ قال بعض العلماء: يشرع ذبح شاة في رجب لله عز وجل، وأجابوا عن حديث: (لا عتيرة) أن المقصود ذبحها بمفهوم أهل الجاهلية، أو كما كان أهل الجاهلية يذبحون.

          حكم إجابة الدعوة:
          أما بالنسبة لإجابة الدعوة فقد ورد في الولائم والدعوات أحاديث، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم خمس (وفي رواية ست) -وذكر منها- وإذا دعاك فأجبه) وقوله صلى الله عليه وسلم: (فكوا العاني، وأجيبوا الداعي، وعودوا المريض). وبالنسبة للدعوة العامة أيضاً ورد في صحيح مسلم : (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك) كأن يكون صائماً أو كأن يعاف الطعام أو يكون مريضاً ونحو ذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام : (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصلِّ وإن مفطراً فليطعم) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه ، وقال عليه الصلاة والسلام: (ائتوا الدعوة إذا دعيتم) رواه مسلم . أما بالنسبة للوليمة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عُرساً كان أو نحوه) وقال صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها -الفقراء الذين يريدون الطعام يمنعون والأغنياء الذين لا يريدون الطعام يدعون- ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله). وقال: (بئس الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليها الأغنياء، ويترك المساكين) وجاء ذلك من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، وكان ابن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس وهو صائم، وهو الذي روى حديث: (أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها) رواه البخاري رحمه الله. فيتضح لنا من هذه الأحاديث أن إجابة الدعوة أقل ما يُقال فيها أنها سنة مشروعة أياً كانت الدعوة، ما دامت من مسلم وليس فيها منكرات، ويتأكد إجابة وليمة العرس تأكيداً خاصاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) فيتأكد ذلك، لأن عدم إجابة وليمة العرس معصية لله ورسوله. وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام في البخاري : (إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) وهو أمرٌ بالحضور، ولا شك أن الوليمة هنا وليمة العرس. وقال جمهور العلماء: إن إجابة وليمة العرس فرض عين لمن دعي إليها وهي واجبة، وقال بعض العلماء: فرض كفاية، لكن قول الجمهور أرجح، ويسند قولهم حديث: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) بأن الأصل إجابة الدعوة إلى وليمة العرس.

          حكم إجابة الدعوة في غير وليمة العرس:
          وأما غير وليمة العرس من الدعوات فما حكم إجابتها؟ قال النووي رحمه الله: فيها وجهان: أحدهما: أنها كوليمة العرس. والثاني: أن الإجابة إليها ندبٌ وإن كانت في العرس واجبة. ونقل القاضي عياض رحمه الله اتفاق العلماء على وجوب الإجابة لوليمة العرس، قال: واختلفوا فيما سواها. وقال مالك والجمهور: لا تجب الإجابة إليها، وأهل الظاهر قالوا: تجب الإجابة لكل دعوة، إذاً عندنا شيء واضح وجوب إجابة دعوة وليمة العرس، ومسألة الدعوات الأخرى فيها خلاف، والأحوط أن الإنسان يجيب إذا لم يكن عنده عمل مصلحته أعلى، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام عموماً إجابة الدعوة، وكأن يأتي إلى وليمة العرس خصوصاً. روى البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك : (أن خياطاً دعا النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال: فذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرب خبز شعيرٍ ومرقاً فيه دباء وقديد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة، فلم أزل أحب الدباء بعد يومئذٍ). وكلمة المرق مما أجاب به الذين قالوا: لماذا لم يأكل مما يليه؟ لأن الدباء كان في المرق فهو يتتبع، وكذلك أخرج البخاري رحمه الله عن أبي مسعود الأنصاري قال: كان رجل من الأنصار يقال له: أبو شعيب ، وكان له غلامٌ لحام، فقال: اصنع لي طعاماً أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة -اعمل حسابك على خمسة أشخاص- فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة فتبعهم رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للداعي لما وصلوا: (إنك دعوتنا خامس خمسة، وهذا رجلٌ قد تبعنا، فإن شئت أذنت، وإن شئت تركته، قال: بل أذنت له). من فوائد هذا الحديث الذي ذكره ابن حجر رحمه الله: من صنع طعاماً لغيره فهو بالخيار بين أن يرسله إليه أو يدعوه إلى منزله، إذا صنعت طعاماً لغيرك سواء دعوته إليك أو أنك أوصلته إلى منزله، فكلاهما يصبح من الإكرام. ثانياً: من دعا أحداً استحب أن يدعو معه من يرى من أخصائه وأهل مجالسته، إذا دعوت رجلاً وكان له أصدقاء يجلس معهم باستمرار ، فالأفضل أن تدعوهم معه حتى لا تفصل بينه وبينهم، وهو يريد الجلوس معهم. وكذلك: إجابة الإمام والكبير دعوة من دونهم وأكل طعامهم، هذا النبي عليه الصلاة والسلام أجاب خياطاً، وذهب إليه، وقد جاء عند الحاكم بإسنادٍ صحيح حديث في هذا المعنى، وفيه أيضاً ذكرٌ لأدب من آداب الطعام الذي مر معنا سابقاً، وهو قول أنس رضي الله عنه: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يردف خلفه) بل أربع خصال تدل على التواضع، حديث أنس : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار) صححه الألباني. قوله: (ويضع طعامه على الأرض) فيه دليل على وضع الطعام على الأرض، وإن كان يجوز الأكل على المائدة والخوان كما تقدم، والشاهد من الحديث هذا قوله: (ويجيب دعوة المملوك) أن النبي عليه الصلاة والسلام يجيب دعوة الناس ولو كانوا مغمورين أو كانوا ضعفاء، أو كانوا لا يشار إليهم بالبنان وليسوا ذوي شرف ومكانة بين الناس، وكان يجيب إلى الطعام القليل: (لو دعيت إلى كراع لأجبت) يجيب إلى الطعام ولو كان قليلاً، ولا يستحقره أو يحتقر الداعي، لأن هذا جهده، فيجيبه إليه. ومن فوائد حديث الأنصاري الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة أن من قصد التطفل أي: المجيء إلى الوليمة من غير دعوة لم يمنع ابتداءً، لا يقال له: لا تأت، يقال: ممكن تأتي لكن لا تدخل إلا بإذن، لأن الرجل يتبع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرده، لاحتمال أن تطيب نفس صاحب الدعوة بالإذن له، ولعله يأتي بعض الأحكام المتعلقة بالتطفل في النهاية إذا صار هناك متسع من الوقت إن شاء الله.

          حكم إجابة دعوة المرأة:
          والمرأة تشترك في وليمة العرس، وينبغي أن تفهم هنا حديث البخاري عن سهل قال: (لما عرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاماً ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد ، بلت تمراتٍ في تورٍ من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي من الطعام أماتته له، فسقته تتحفه بذلك) وفي رواية لمسلم: (تخصه بذلك) وينبغي أن يفهم هذا الحديث فهماً صحيحاً. النووي رحمه الله قال: إن هذا الحديث كان قبل الحجاب، لأن المرأة أجنبية عنهم، وكانت تقدم لهم الطعام، وقال بعضهم: محمولٌ على أنها مستورة ستراً تاماً، وليس هناك فتنة بطبيعة الحال، فمحل ذلك أمن الفتنة ومراعاة الستر، ولذلك الأحوط أن المرأة لا تخرج على الرجال مطلقاً، خصوصاً إذا ترجح كلام من قال: إن ذلك كان قبل فرض الحجاب. وأما ما ورد من دعوة المرأة للرجل للوليمة، فقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم نساءً وصبياناً مقبلين من عرسٍ، فقام ممتناً فقال: (اللهم أنتم من أحب الناس إلي) قال القسطلاني في شرح الحديث: فلو دعت امرأةٌ امرأةً أو رجلاً لوليمة وجب أو استحب للرجل الإجابة لا مع خلوةٍ محرمة، فلا يجيبها إلى طعامٍ مطلقاً -أي: في حالة وجود الخلوة- أما إذا بعثت إليه بطعام أو لم يكن هناك خلوة ولا فتنة، فلا بأس بذلك. فالمرأة لها أن تدعو المرأة لوليمة الطعام، فما حكم إجابة المرأة المدعوة للوليمة هل هي واجبة أم لا؟ الجواب: تستأذن زوجها فإن أذن لها زوجها فإنها تذهب، بل يتعين عليها الذهاب، وإن لم يأذن فإنه لا يجوز لها الذهاب، أما دعوة المرأة رجلاً للوليمة فلا بأس بها إذا لم تكن فتنة، أي: مثلاً امرأة عندها بنت وزوجت البنت، وأبوها ميت، فصارت هي التي تدعو الناس، وهي امرأة كبيرة في السن وليس هناك فتنة، فوجهت الدعوة للرجال، فيحضرون ويطعمون وينصرفون. و مليكة جدة أنس -وهي امرأة كبير في السن- دعت النبي صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعته، فأتى فأكل ولم يكن هناك خلوة ولا فتنة، أما في الأحوال التي يكون فيها فسادٌ وفتن فلا تدعو امرأةٌ رجلاً أبداً، ولذلك فرق العلماء بين المرأة الكبيرة العجوز وبين المرأة الشابة، وبين المرأة الصالحة والمرأة السوء، ولا يمكن بأي حال أن تجعل الشريعة ستاراً لأعمال الفحش.

          شروط وجوب تلبية الدعوة للولائم:
          نعود فنقول: إن وليمة العرس يتأكد إجابتها، والراجح الوجوب في ذلك، والأحوط أن يجيب الإنسان الدعوات الأخرى إذا لم يكن ثم مانعٌ شرعي أو مصلحة أعظم تفوت. لكن ما هي شروط وجوب تلبية الدعوة؟ ذكر العلماء شروطاً لوجوب تلبية الدعوة، والأصل أنه يجب عليك أن تلبي، ولكن متى لا يجب عليك؟ ما هي الأشياء التي لو حصلت لا يجب عليك أن تلبي، بل ربما لا يجوز لك أن تلبي الدعوة؟

          ألا يخص الأغنياء:
          قالوا: أولاً: ألا يخص الأغنياء، بل يعم الداعي بدعوته جميع عشيرته أو جيرانه، أو أهل حرفته أغنياءهم وفقراءهم، فإن وقع التخصيص فلا تجب الدعوة لقوله صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء) رواه مسلم ، وفي رواية: (يمنعها من يأتيها ويدعي إليها من يأباها) ويخرج من هذا التخصيص ما لو دعا جميع عشيرته أو أقربائه أو أهل حرفته، فكانوا كلهم أغنياء. فهنا يجب على المدعو الإتيان؛ لأنه ما خصص الأغنياء هنا، بل دعا جيرانه، فاتضح أنهم كلهم أغنياء، فهنا تجب الإجابة، لكن لو وجه الدعوة فقط للأغنياء وانتقاهم، واستثنى الفقراء من أقربائه ومن عشيرته وجيرانه، فهنا قالوا: إذا خصت الدعوة بالأغنياء لا تجب الإجابة.

          أن يكون المدعو مقصوداً بنفسه:
          ثانياً: أن يخص بالدعوة بنفسه أو يبعث شخصاً، هنا تجب الإجابة، إذا قال لك بنفسه: تعال، أسألك الحضور، أحب أن تحضر، فهنا يجب الحضور، أو أرسل إليك رسولاً منه ببطاقة دعوة لوليمة الزفاف، مرسولاً منه، فعند ذلك يجب الحضور، أما لو فتح باب الدار وقال: ليدخل من شاء، أو أرسل شخصاً فقال له: ادعُ من شئت، فلا يُوجب هذا على الشخص المدعو أن يجيب، لأن الداعي لم يعينه بنفسه، أو بعينه، أو يرسل له مرسولاً هو بالذات حتى يأتي، وإنما قال للرسول: ادعُ من شئت، أو قال لشخص: أنت ادعُ من جهتك، والآخر: أنت ادعُ من جهتك، فهنا لا يجب على المدعو الإتيان، أي: لو لم يجئ لا يكون آثماً ولا عاصياً. لكن لو وجهت الدعوة لشخصٍ بعينه، أو أرسل رسولاً له بعينه، أن يأتي أو بطاقة بالبريد أو بأي طريقة ولم يكن عند الآخر عذرٌ، فإنه يجب عليه الإجابة. أما لو قال: يا أيها الناس تعالوا، أو فتح الباب، فلا يجب على كل مار أمام الباب أن يدخل، والسبب واضح، لأنه إذا دعا شخصاً بعينه والشخص لم يجئ، أدى ذلك إلى وقوع الوحشة والنفرة، لكن لو قال: من شاء أيها الناس أن يأتي بدون أن يُعين شخصاً أو أشخاصاً بأعيانهم، فعند ذلك لو لم يجيئوا فلن تحدث هذه النفرة والوحشة. وكذلك لو تعنى فأرسل رسولاً أو سائقه أو خادمه إلى شخصٍ بعينه، فلا شك أنه يجد في نفسه عليه، ويكون في خاطره شيءٌ عليه، ولذلك فإن الدعوة للمعين تجب الإجابة فيها ولغير المعين لا تجب الإجابة فيها. وكذلك إذا كانت صيغة الدعوة ليس فيها إلزامٌ بالحضور، كأن قال: إن شئت فاحضر، لم يلزمه ذلك، بل قال الشافعي : إن قال له: ( إن شئت فاحضر ) فلا أحب أن يجيب، كأنه يقول: لست بعازمٍ عليك ولا بملح، ولست بمشترطٍ حضورك، إذا صار من عندك الدافع أن تأتي فافعل، أما أنا فليس عندي دافع، إن شئت أن تحضر فاحضر، فلا يجب الحضور إذا كان القائل يقصد معناها.

          ألا تكون دعوته لخوف منه أو طمع فيه:
          وكذلك من شروط الحضور ألا يكون إحضاره لخوفٍ منه، فلو خاف من شخص كمن يخشى أنه لو لم يدع رئيسه في العمل لأضر به، فدعا رئيسه في العمل لا محبة فيه ولا رغبة في إتيانه، وإنما خشية من أنه إذا لم يدعه فربما يضر به، أو ظالم من الظلمة، يخشى إذا لم يدعه أنه يظلمه، فهنا لا يجب على هذا المدعو أن يأتي، لأنه إنما دعي اتقاء شره، أو خشية ظلمه، فعند ذلك لا يجب عليه الإتيان. أو إن دعا شخصاً طمعاً في جاهه، أو ليعينه على الباطل، أو ليتزلف إليه وينافق، فعند ذلك لا يتوجب عليه الحضور، ولذلك يجب على الإنسان إذا دعا أن يقصد بالدعوة السنة وإعلان النكاح وإطعام الطعام؛ يقصد مقاصد صالحة، ولا يقصد التزلف إلى فلان، والمنافقة مع فلان، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، ويقصد بالدعوة تقريب ما بينه وبين إخوانه، والتحبب والتودد إلى إخوانه ونحو ذلك.

          ألا يكون في المجلس من يتأذى به أو منه:
          وكذلك مما لا يوجب الحضور أن يكون في المجلس من يتأذى به أو منه، كما إذا دُعي إلى المجلس فسقة، أو أناس عندهم مجون وفحش، أتيت إلى المجلس ووجدت فيه ناساً يقولون كلاماً بذيئاً أو طرائف وأضحوكات، لا يليق بك أن تجلس معهم، أنت صاحب دين وملتزم بالدين، ثم يدعوك مع هؤلاء السفلة عند ذلك لا يجب عليك الحضور، ولو لم تحضر لم تأثم، ولو رجعت فما عليك شيء، فمن دعا معه أراذل أو دعا معه فسقه ومجرمين معروفين بأكل الربا والسحت والسلب، فعند ذلك جلوسك معهم مضرة بك، وفيه إيذاءٌ لك، فلا يليق بك أن تجلس في هذا المجلس، فلا يجب عليك الحضور. والعلماء في الماضي كانوا يضربون أمثلة ببعض الصوفية الذين همهم أن يأكلوا الطعام، ويقولون للناس: ادعونا لتحصل لكم البركة ونحو ذلك، ويتلبسون بلباس أهل الطاعة، وربما قال: قرأت القرآن لميتك وهو قد قرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرات، يقصدون بذلك التزلف والمنافقة.

          ألا يكون في الوليمة منكر:
          وكذلك من شروط إجابة الدعوة ألا يكون هناك منكر في الدعوة، فلو كان هناك منكر فلا يجب الحضور، بل لا يجوز، كما إذا كان هناك مائدة يُدار عليها الخمر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر) رواه الترمذي وحسنه. والمنكرات كثيرة في الولائم؛ مثل الملاهي المحرمة -المعازف- كالطبل والعود والطنبور والربابة والمزمار وغير ذلك من آلات المعازف، ومن الآلات الحديثة الأورج والبيانو وغيرها، فوجودها يسقط الوجوب، فمادام في الوليمة منكر سقط الوجوب، ما عاد للمجلس حرمة ولا وجوب لإجابة الدعوة، كذلك لو وضع في المجلس سجاجيد من الحرير، ومعروف أن افتراش الحرير لا يجوز، والجلوس عليه لا يجوز، أو فيه أشياء مأخوذة من مساجد أو مدارس لا يجوز له أخذها، أو أن يكون هناك مغنٍ أو مطرب أو مغنية أو مطربة، أو أن يكون هناك مطعوم محرم، أو مشروب محرم كالخمر كما تقدم، أو صور ذوات الأرواح على الجدران والسقوف والثياب، كما يفعل ذلك كثيرٌ من اللاهين العابثين. وهذه الأشياء المنقوشة والمصورة والمطبوعة والمنحوتة، إذا كانت من ذوات الأرواح، فهي تسقط وجوب إجابة الدعوة، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يدخل البيت لما رأى في الستر صورة من صور ذوات الأرواح، كذلك ستر الجدران واستعمال الحرير، فقد ورد أن صحابياً لم يدخل البيت وقد ستروا جداره بديباجٍ أخضر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله في الحديث الصحيح: (إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة واللبن) وقال ابن عباس : لا تستر الجدران بالثياب، فبعضهم اعتبر أن ستر الجدران وتغطيتها بالقماش ونحوه مما يسقط الوجوب. أما لو كان هناك أشياء جائزة كصور لغير ذوات الأرواح، من الأشجار مثلاً ونحوها، فإن ذلك لا يسقط الوجوب، أو لُعب البنات إن كانت في البيت فإنها لا تسقط الوجوب، لأن اتخاذ لُعب البنات من الصُوف أو العِهْن جائز، وقالوا: إذا كانت صور ذوات الأرواح على الفراش الذي يوطأ ويهان ويداس عليه فإنه يجوز، وقال بعض أهل العلم: لا يجوز حتى يقطع ويُغير. وكذلك لو كان هناك مثلاً في الوليمة ملاعق من ذهب أو فضة، أو آنية ذهب أو فضة عموماً، فإن ذلك من أسباب إسقاط الوجوب، وكذلك لو كان المجلس فيه كذب وفحش مما هو منكر، وعلى رأس ذلك الاستهزاء بالدين، فيجب الخروج حينئذ، ولا يجوز الحضور.

          عدم تكرار الوليمة في أيام متتابعة:
          وكذلك من الأشياء التي لا تجعله واجباً الدعوة في اليوم الثاني والثالث، دعاهم في اليوم الأول فالإتيان واجب، أما الدعوة في اليوم الثاني فمكرمة، والثالث اختلفوا فيه، فقال بعضهم: إنه فخر فلا يجوز، وقال بعضهم: إنه جائز، والصحيح الجواز، وحديث: (الوليمة في اليوم الأول حق، وفي الثاني معروف، وفي الثالث رياء وسمعة) ليس له إسناد صحيح متصل. وقد يُحتاج إليه فقد يدعو في اليوم الأول قسماً من الناس وفي الثاني قسماً آخر، وفي الثالث قسماً ثالثاً، لأن الناس كُثُر والمكان ضيق، قد يدعو في اليوم الأول مثلاً أقاربه، والثاني أصدقاءه، والثالث عامة الناس، إذاً قضية الدعوة أكثر من ثلاثة أيام قد وردت أيضاً ، وليس بها بأس إذا لم يكن قصده المفاخرة والمراءاة، فإذا دعاك أول يوم، ثم دعاك ثاني يوم فالدعوة الواجبة في اليوم الأول، والثانية لا تكون واجبة.

          أن يكون الداعي مسلماً:
          وكذلك أن يكون الداعي مسلماً، فلو دعاك كافر فلا تجب الإجابة، وإذا كان الكافر ممن يحارب الدين فلا تجوز إجابته أصلاً، أو كان مبتدعاً فلا تجوز إجابته، وخصوصاً إذا كان صاحب بدعة كفرية، وكذلك من الشروط التي ذكروها في وجوب الإجابة أن يكون مال الداعي حلالاً، فلو كان ماله من الحرام كرجل يعمل في بنك الربا، أو يأخذ الرشاوى ونحو ذلك فإنه لا يجاب لطعامه. ومن ذلك دعوة أمراء الجور والظلم وقضاة الرشوة، فهؤلاء لا تجب إجابة دعوتهم، بل إذا كان كل مكسبهم من الحرام لا يجوز الأكل من طعامهم أصلاً.

          ألا يكون هناك عذر تسقط معه صلاة الجماعة:
          وكذلك يجب الإجابة ما لم يكن هناك عذرٌ شخصي، ما هي ضوابط الأعذار؟ قد اختلفوا فيها، لكن ذكر بعضهم ضابطاً، قالوا: يُعذر في عدم إجابة الوليمة بكل عذرٍ تسقط معه صلاة الجماعة. مثلاً المرض على سبيل المثال، يخشى أن يذهب ماله، أو يتلف من شدة الحر والبرد، والمطر الذي يبل الثوب، أو الاشتغال بتجهيز ميت، أو إطفاء حريق، أو رد جملٍ شارد، أو كان ممن يجب عليه السعي إلى الجمعة، فيسعى إليها، أي: قد يكون هناك دعوة لكن للنساء، وهذا الشخص يجب عليه أن يأتي الجمعة فلا يجيب الوليمة، حتى ولو كان من المحارم مثلاً. وكذلك إذا كان هناك زحامٌ شديدٌ بحيث لا يستطيع الوصول، أو كان شبعان متخماً، وكذلك مما يسقط الوجوب أن يكون عليه حق متعين كأداء شهادة، أو صلاة جنازة، والعبد لا يجب عليه الحضور إلا بإذن سيده، فإذا لم يأذن السيد لم يجز له أن يأتي، وإذا كان الداعي من الذين يطلبون المباهاة والفخر، فإنه أيضاً لا يجاب، ولو كان الداعي سفيهاً، ولم يأذن له وليه بالتصرف، فكذلك لا يجاب. وقال بعضهم: إن القاضي لا يجب عليه الإجابة، لأن الشبهة موجودة في دعوته.

          ألا تسبقها دعوة أخرى:
          وكذلك من الأسباب والأعذار التي تُسقط الإجابة ألا تكون مسبوقاً بدعوة أخرى قبلها، فإذا كُنت مسبوقاً بدعوة أخرى قبلها بأن دعاك شخص قبل ذلك، فإنك تجيب الأول، إذا دعا اثنان فصاعداً أجاب الأسبق، وإذا دعوه معاً كأن جاءت البطاقتان إلى بيتك في وقتٍ واحد في اليوم نفسه، فتجيب الأقرب رحماً أو الأقرب داراً لحق الجوار مثلاً. القاعدة إذاً أنك تجيب الأسبق، وقال بعض أهل العلم: إذا دعاه اثنان كل واحدٍ منهما إلى وليمة نفسه، فإن أمكن الجمع بينهما بأن تكون إحداهما عند طلوع الشمس والأخرى بعد ذلك مثلاً أجابهما، وإن لم يمكن الجمع بينهما بأن كانت في وقتٍ واحد أجاب السابق منهما، فإن استويا بالسبق أجاب أقربهما رحماً، فإن استويا في الرحم أجاب أقربهما داراً، والآن مثلاً لو دُعي الإنسان إلى ثلاث أو أربع ولائم لا يمكن أن يجيب، قد يستطيع إجابة وليمتين لكن لا يستطيع إجابة ثلاث: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].

          من مسقطات الوجوب قبول عذرك من الداعي:
          كذلك مما يسقط الوجوب أن يعتذر المدعو ويقبل الداعي العذر، فإن اعتذر له فرضي عن تخلفه، فإنه لا يجب عليه أن يأتي، ولذلك لو كان عند الإنسان مصلحة أو كان عنده شيء أهم، أو أحس بشيء من الكسل والخمول والفتور، أو أراد أن ينام فاتصل بمن دعاه فاعتذر إليه، أو أرسل من يعتذر عليه، فإن وجده قد قبل ورضي رد رسوله إليه رضا الداعي عن عدم الحضور، وبذلك ينتهي الحرج عنه. وكذلك المرأة الأجنبية إذا دعت لا تجب الإجابة، وإذا كانت هناك خلوة أو فتنة فإنه لا يجوز، وليس مما يُسقط الوجوب أن يكون بين الداعي والمدعو عداوة شخصية. وكذلك لا تسقط الإجابة بالصوم، فلو كان صائماً يجيب ويدعو لهم، ولا يشترط أن يُفطر، وإذا أفطر فصام يوماً مكانه إذا كان صوم نفل، فهذا قد جمع بين أمرين حسنين، فله ما فيهما من الأجر والثواب. وعلى الإنسان بعد الطعام أن يخرج من بيت الداعي ولا يمكث فيه حتى لا يثقل على صاحب البيت، كما قال الله: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [الأحزاب:53] قال ابن كثير رحمه الله: فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض.

          حكم الإتيان إلى وليمة لم يدع إليها:
          أما إذا أتى الإنسان إلى وليمة لم يدع إليها، فالذي يظهر أن هذا الأمر محرمٌ والله أعلم، من دخل بغير إذن وأكل بغير إذن، فهو كالسارق، ولذلك يحذر العلماء من التطفل والتطفيل، والتطفيل قيل: إنه مأخوذٌ من الطفل، وهو إقبال الليل على النهار بظلمته لأن الطفيلي يدخل على القوم بغير استئذان ولا يدرون من دعاه، وقيل: إنه منسوبٌ إلى طفيل رجل من بني غطفان، كان يأتي الولائم من غير أن يدعى إليها. وكان هذا الأمر مذموماً حتى في الجاهلية، وإذا أراد الإنسان أن يأتي إلى وليمة ويدعو غيره، فإنه يستأذن من صاحب الدعوة، يقول: معي فلان يأتي؟ فإن قال: نعم فيأتي به معه، أو يأتي به، فإن أراد الدخول قال: معي فلان، هل يدخل معنا؟ فإن رضي من غير إحراج فإنه يدخل ويطعم معهم، وقد ذكرنا بعض الأحاديث فيما مضى مما يتعلق بهذا الأمر. ولكن الإنسان يحذر أن يأتي إلى وليمة لم يُدع إليها وأن يكون متطفلاً، وإذا كان لرجلٍ صديق قد تأكدت حرمته به، وثبتت مخالطته له فقد رُخص في إتيان طعامه من غير أن يدعوه إليه، إذا علم أنه يؤثر ذلك، ويشتهيه ولا يكرهه، بل يرغب فيه، قال ذلك الخطيب البغدادي رحمه الله. إذا كنت تعلم أنه يُسر لو أتيته ولو بغير دعوة، وأن عدم دعوته ليست إلا نسياناً، أو أنه قال: فلان ما يحتاج دعوة لأنه صاحب محل، فهنا يجوز لك أن تأتي من غير دعوة، فهو قد اعتبرك من أصحاب البيت، فيجوز لك أن تأتي بغير دعوة. وأما التلميح بالإتيان عند الحاجة فلا بأس به إن شاء الله، كأن يكون بالشخص جوع فيلمح لرجلٍ أن يدعوه فلا بأس بذلك.

          حكم التعريض بالحاجة إلى طعام من غير سؤال:
          وقد جاء ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه رضي الله عنه كان يسأل بعض الصحابة عن مسائل أحياناً لا لأجل العلم، ولكن لأجل أن يكفوه الجوع، قال أبو هريرة : (كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني، حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وألصق بطني بالحصى، وأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني) وقال: (إن كنت لأسأل الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية لأنا أعلم بها منه، لا أسأله إلا ليطعمني شيئاً) لأنه كان يخر من الجوع مغشياً عليه حتى يظن الناس أن به جنوناً - صرعاً- فيجثم الواحد على صدره يقرأ عليه، يريد إخراج الجن وهو ليس به صرع، ما به إلا الجوع رضي الله عنه. ولذلك حفظ هذه الآلاف من الأحاديث، قال: (فكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لا يجيبني حتى يذهب بي إلى منزله، فيقول لامرأته: يا أسماء أطعميه، وإذا أطعمني أجابني، وكان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه) ولذلك كان يسمى بـأبي المساكين رضي الله عنه. فالتعريض في مثل هذه الحالة لا بأس به إن شاء الله، لأن ذلك مما يُحتاج إليه عند الحاجة إليه، أما أن يأتي الإنسان بغير دعوة ولا حاجة؛ ويفرض نفسه، فهذا هو المكروه.

          من أخبار الطفيليين:
          وقد جاءت الأخبار عن الطفيليين أنهم كانوا يحتالون للدخول. جاء طفيلي إلى عرسٍ فمُنع من الدخول، وكان يعرف أن أخاً للعروس غائباً، فذهب فأخذ ورقة وطواها وختمها وليس في بطنها شيء، وجعل العنوان من الأخ إلى العروس، وجاء فقال: معي كتابٌ من أخ العروس إليها، فأذن له فدخل ودفع إليهم الكتاب، فقالوا: ما رأينا مثل هذا العنوان ليس عليه اسم أحد، فقال: وأعجب من هذا أنه ليس في بطنه حرفٌ واحد، لأنه كان مستعجلاً؛ فضحكوا منه، وعرفوا أنه قد احتال ليدخل. وقيل لـنوح الطفيلي : كيف تصنع إذا لم يتركوك تدخل إلى عرس؟ قال: أنوح على الباب فيتطيرون مني فيدعونني، وكان بعضهم إذا أراد أن يدخل ذهب إلى باب النساء، فإذا أراد أن يدخل نادوه، وقالوا: من هنا من هنا، فقال: أنا أعتبرها دعوة، وليست سرقة. وأيضاً من الأشياء الظريفة التي ذكرها الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب التطفيل قال: عن نصر بن علي أبي عمرو الجهضمي قال: كان لي جار طفيلي، وكان من أحسن الناس منظراً، وأعذبهم منطقاً، وأطيبهم رائحةً، وأجملهم لباساً، فكان من شأنه أني إذا دُعيت إلى مدعاةٍ تبعني، فيكرمه الناس من أجلي، ويظنون أنه صاحبٌ لي، ينتظرني إذا خرجت لدعوة مشى ورائي، والناس يسمحون له بالدخول بناءً على أنه صاحبٌ لي، فاتفق يوماً أن جعفر بن القاسم الهاشمي أمير البصرة أراد أن يختن بعض أولاده، فقلت في نفسي: كأني برسول الأمير قد جاء، وكأني بهذا الرجل قد تبعني، والله لئن تبعني لأفضحنه، فأنا على ذلك إذ جاء رسوله يدعوني، فما زدت أن لبست ثيابي وخرجت، وإذا أنا بالطفيلي واقفٌ على باب داره قد سبقني بالتأهب، فتقدمت وتبعني، فلما دخلنا دار الأمير جلسنا ساعة، ودُعي بالطعام وحضرت الموائد، وكان كل جماعة على مائدة لكثرة الناس، فقُدمت إلى مائدة والطفيلي معي، فلما مد يده وشرع لتناول الطعام قلت: حدثنا رستم بن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار قومٍ بغير إذنهم فأكل طعامهم دخل سارقاً وخرج مغيراً) فلما سمع ذلك قال: أنفت لك والله أبا عمرو من هذا الكلام؛ ألا تستحي أن تتكلم بهذا الكلام على مائدة سيد من أطعم الطعام، وتبخل بطعام غيرك على من سواك. ثم لا تستحيي أن تحدث عن رستم بن زياد وهو ضعيف عن أبان بن طارق وهو متروك الحديث تحكم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون على خلافه؛ لأن حكم السارق القطع وحكم المغير أن يعزر على ما يراه الإمام، وأين أنت من حديثٍ حدثنا أبو عاصم النبيل عن ابن دريد عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) وهو إسنادٌ صحيحٌ ومتنٌ صحيح. قالنصر بن علي : فأفحمني فلم يحضرني له جواب، فلما خرجنا من الموضع للانصراف فارقني من جانب الطريق إلى الجانب الآخر بعد أن كان يمشي ورائي، وسمعته يقول:
          ومن ظن ممن يلاقي الحر وب بألا يصاب فقد ظن عجزا
          وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أحكام الوليمة، وما يتيسر من الأحكام والآداب المتعلقة بالوليمة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.


          تعليق


          • #20
            محاضرة( آداب عيادة المريض )للشيخ محمد المنجد

            محاضرة( آداب عيادة المريض )للشيخ محمد المنجد


            عناصر الموضوع :
            1. فضل زيارة المريض
            2. آداب الزيارة
            3. استعمال أهل الذمة
            4. من أحكام التطبيب
            5. أحكام قتل الحيوانات
            6. من آداب الطعام والشراب
            7. من أحكام اللباس
            8. من آداب النوم
            9. من آداب الزواج
            10. نصائح لطالب العلم
            11. الأسئلة

            آداب عيادة المريض:
            في هذا الدرس عرض لأبيات من قصيدة الآداب لابن عبد القوي؛ مع خلاصة من شرحها غذاء الألباب للسفاريني؛ تعرض فيها الشيخ حفظه الله لزيارة المريض وفضلها وآدابها وبعض أحكام التطبيب، وأحكام قتل الحيوانات، وما يستحب قتله وما يكره وما يحرم، وبعض آداب الطعام والشراب.

            فضل زيارة المريض:
            الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: مما يعز علي في هذا المقام أن يكون هذا الدرس هو آخر درسٍ في سلسلة الآداب الشرعية، ولعل الفرصة تتاح -إن شاء الله- لإكمال هذه الآداب في مناسبةٍ قادمة، وفي ختام هذه السلسلة في هذه الأيام، لعلنا نتم الكلام عن بعض أبيات القصيدة التي ابتدأنا فيها، وهي قصيدة ابن عبد القوي رحمه الله تعالى. وكنا قد ذكرنا بعض أبيات هذه القصيدة العظيمة فيما سبق، ونختار أبياتاً أخرى من النصف الثاني من هذه القصيدة، لشرح بعضها والتعليق عليها، يقول رحمه الله تعالى:
            ويشرع للمرضى العيادة فائتهم تخص رحمةً تغمر مجالس عود
            أي: أن العيادة للمريض مشروعة، فائتهم، فإنك تمشي في الرحمة وتخوض فيها في ذهابك ومجيئك، وتكون مغموراً بالرحمة أثناء جلوسك فيها، والعود: جمع عائد.
            فسبعون ألفاً من ملائكة الرضا تصلي على من عاد ممسىً إلى الغد
            إذا عاده في المساء صلوا عليه إلى الصباح.
            وإن عاده في أول اليوم واصلت عليه إلى الليل الصلاة فأسندِ
            إذا عاده في الصباح واصلت الملائكة عليه الصلاة إلى الليل، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المقصود بقوله (فأسندِ) أي: أسند الحديث في عيادة المريض والأجر فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
            آداب الزيارة

            تخفيف الزيارة أو تطويلها حسب حالة المريض:
            فمنهم مغباً عده خفف ومنهم الذي يؤثر التطويل من متوَرِّدِ
            من المرضى من يكون مغباً يعاد يوماً فيوماً، ومعنى الغب: قيل هو من (غب الإبل) وذلك إذا كانت تشرب يوماً وتترك يوماً، فقوله: فمنهم مغباً عده، أي: عده يوماً واتركه يوماً، وقال بعضهم: إذا أراد أن يكون غباً، أي يوماً في الأسبوع. فمنهم مغباً عده خفف، أي لا تطل الجلوس عنده، (ومنهم -أي ومن المرضى- الذي يُؤثر التطويل من متوردِ) والمتورد: وهو طالب الورود، وهو الذي يحب التطويل من الذين يقدمون عليه، والمرضى يختلفون، بعضهم يريدك أن تطيل عنده وتزوره كل يوم، وبعضهم قد يمل ويتعب من كثرة الزيارة والإطالة، ولذلك لابد من مراعاة الحال، ولذلك قال رحمه الله تعالى:
            لا تنكد على المريض بكثرة الأسئلة
            وفكر وراع في العيادة حال من تعود ولا تكثر سؤالاً تنكدِ
            لا تكثر السؤال على المريض: متى جاءك المرض؟ وما هو شعورك؟ وكيف حالك؟ ونحو ذلك، كما يفعل بعض طلاب الطب مع المرضى. (ولا تكثر سؤالاً تنكدِ) تنكد على المريض.

            استعمال أهل الذمة:
            ومكروه استئماننا أهل ذمةٍ لإحراز مالٍ أو لقسمته اشهد
            أي: يُكره أن نجعل الأمانة عند أهل الذمة لأنهم أعداؤنا في الدين فلا يؤتمنون، نعم إن منهم أمناء: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً [آل عمران:75] أي إلا إن كنت تطالبه باستمرار. (لإحراز مالٍ) أي: لحفظه، (أو لقسمته اشهدِ) أي: اشهد بذلك واعتقده ولا تعدل عنه، فإنه يُكره أن نستأمنهم وأن نستعملهم في قسمة الأموال، وأن نجعلهم ممن يوزعون الرواتب مثلاً.

            الاستطباب عند أهل الكتاب :
            ومكروهٌ استطبابهم لا ضرورةً وما ركبوه من دواء موصدِ
            ويكره أيضاً أن نستعمل النصارى واليهود وأهل الكتاب في الطب ولو كانوا أهل ذمة، لكن إذا دعت الحاجة والضرورة فلا بأس بذلك. ولذلك قال رحمه الله: (ومكروهٌ استطبابهم لا ضرورة) أي: في حال الضرورة لا يُكره ذلك. (وما ركبوه من دواءٍ موصدِ) الموصد: المنسوج والمركب الدواء، أي: أيضاً يُكره اللجوء إليهم في تركيب الأدوية وأخذ الأدوية منهم، فإنهم قد يخلطون معها أشياء من المسمومات أو النجاسات، لأنهم قوم لا دين لهم صحيح، فربما جعلوا فيها سموماً من باب الخيانة، أو جعلوا فيها أشياء من النجاسات، لأنهم لا يحترزون عن النجاسات، وكثير من الأدوية المركبة فيها نجاسات، أو مأخوذة من النجاسة، أو ربما يكون فيها أشياء مما يُسكر.

            من أحكام التطبيب:
            حكم تطبيب الذكر للأنثى:
            وإن مرضت أنثى ولم يجدوا لها طبيباً سوى فحلٍ أجزه ومهد
            إذا مرضت أنثى من المسلمين طببتها أنثى مسلمة، فإن لم توجد أنثى مسلمة، فطبيبة كافرة، فإن لم توجد، قال: (ولم يجدوا لها طبيباً سوى فحلٍ)، قال في الشرح: أي لو كان هناك خصي أو كان خُنثى فهو أولى من الفحل الذكر، لكن إذا لم يوجد إلا الطبيب الذكر الفحل فـ(أجزه) أي: أجز تطبيبه للمرأة للضرورة، ويقدم الطبيب المسلم على الطبيب الكافر.

            حكم الحقنة في المخرج:
            ويكره حقن المرء إلا ضرورةً وينظر ما يحتاجه حاقنٌ قدِ
            الحقنة: إيصال الدواء من المخرج إلى الجوف بالحقنة، ويكره حقن المرء إلا ضرورةً لما في ذلك من التعذيب وكشف العورة، لكن لو احتاج إلى الحقنة، فلا بأس.
            ويكره حقن المرء إلا ضرورةً وينظر ما يحتاجه حاقنٌ قدِ
            أي: وعلى الحاقن الذي يضع الدواء أو الحقنة في الشرج أن ينظر على قدر الضرورة ولا يتعداها.
            كقابلةٍ حلٌ لها نظرٌ إلى مكان ولادة النساء في التولدِ
            ومثل الحاقن الذي يحتاج إلى النظر إلى العورة لوضع الحقنة مثله في إباحة النظر للحاجة والضرورة مثل القابلة، والقابلة هي التي تولد، أحل لها النظر إلى مكان ولادة النساء ، ومكان ولادة المرأة العورة الكبرى، فيجوز لها النظر إليها في حال الولادة.

            حكم إبانة عضو به آكلة وحكم قطع البواسير:
            ويكره إن لم يسر قطع بواسر وبط الأذى حلٌ بقطع مجودِ
            وكذلك قطع البواسير ولكن إذا لم يكن يسري ولم يكن يضر، فلا بأس به، وبط الأذى مثل الدمامل والقروح، إخراج ما فيها من صديد، إذا كان الذي يخرجها جيداً لا يضر، لأن بعض الناس قد ينبشها فتضره.
            لآكلة تسري بعضوٍ أبنه إن تخافن عقباه ولا تترددِ
            إذا أصاب الداء أو الآكلة عضواً واحتاجوا إلى بتره فـ(أبنه) أي اقطعه وابتره، (إن تخافن عقباه) أي: سريان الداء إلى مواضع أخرى في الجسد، مثل بعض الأمراض كالسرطان أو غيره، وإذا أصاب الداء عضواً وكان ينتشر يضطرون في بعض الأحيان لقطع العضو، فما حكم قطعه؟ الجواب: لا بأس بذلك، لأجل المصلحة العظيمة في قطعه أو درء المفسدة الكبيرة، ويلف ويدفن.

            حكم الكي:
            وقبل الأذى لا بعده الكي فاكرهن وعنه على الإطلاق غير مقيدِ
            أي: اكره الكي قبل المرض، أما بعد المرض إذا حصل فلا بأس به، (وعنه على الإطلاق غير مقيدِ) أي: جاء أيضاً عن الإمام أحمد رحمه الله في رواية عنه بكراهية الكي على كل حال، لكن نقول: الكي إذا لم يكن له حاجة لا يستعمل، فإذا صار له حاجة فإن وجد ما يغني عنه يترك، لأن فيه استعمال النار، وفيه نوعاً من المثلة، لأنه يشوه مكان الكي، ولذلك لا يستحب فعله، لكن إن دعت الحاجة إليه ولم يكن إلا هو فلا بأس بذلك، فإن آخر الدواء الكي.

            حكم الخصاء:
            وفيما عدا الأغنام قد كرهوا الخصا لتعذيبه المنهي عنه بمسندِ
            أي: وفيما عدا الأغنام يُنهى عن الخصا، وهو قطع الخصيتين، لكن في الأغنام يباح، والسبب أنه أطيب للحمها، وقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين موجوءين خصيين. فقطع خصيتيه لهذا لا بأس به لأجل طيب لحمه وما ينتج عنه لأجل المصلحة، لكن غيره لا يُقطع، ولذلك قال: (وفيما عدا الأغنام قد كرهوا الخصا لتعذيبه) لماذا لا يجوز الخصاء؟ لأن فيه تعذيباً ومثلة. (لتعذيبه المنهي عنه بمسندِ) المسند: الحديث المسند مثل حديث الصحيحين : (لعن الله من مثل بالحيوان).

            قطع قرون الدواب وشق آذانها:
            وقطع قرونٍ والأذان وشقها بلا ضررٍ تغيير خلقٍ معودِ
            وأيضاً مما يُنهى عنه قطع القرون، قرون الشاة مثلاً (والأذان) هي الآذان، فهي أيضاً لا تُقطع، لأن الشيطان قال كما حكى الله عنه: وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119]، (وشقها): شق الآذان، (بلا ضررٍ تغيير خلقٍ معودِ) لماذا لا يقطع قرنها ولا تشق أذنها؟ لأنه من تغيير خلق الله، وإليه الإشارة بقوله: (تغيير خلقٍ معودِ)، أي: الخلق المعتاد، لا نفعله لئلا نغير خلق الله.

            أحكام قتل الحيوانات :
            ما يستحب قتله:
            ويَحسن في الإحرام والحل قتل ما يضر بلا نفعٍ كنمرٍ ومرثدِ
            انتقل رحمه الله لبيان بعض ما يتعلق بأحكام قتل الحيوانات، قال: (ويحسن في الإحرام والحل) في الحل والإحرام (قتل ما يضر) سواء كنت محرماً أو غير محرم، وفي حدود الحرم أو خارج حدود الحرم، يجوز لك (قتل ما يضر بلا نفعٍ)؛ لأن الحيوانات على ثلاثة أقسام: منها: ما ينفع بلا ضرر، ومنها: ما يضر بلا نفع، ومنها: ما ينفع ويضر، وسيأتي حكم كل واحدٍ من هذه الثلاثة. قال:
            ويحسُن في الإحرام والحل قتل ما يضر بلا نفعٍ كنمرٍ ومرثدِ
            والنمر: ضربٌ من السباع فيه شبهٌ من الأسد، غير أنه شرسٌ جداً، لا يملك نفسه عند الغضب، وربما قتل نفسه من شدة الغضب، فهذا يجوز قتله في الحل والحرام، والمرثد: اسمٌ من أسماء الأسد، والأسد له عند العرب أكثر من خمسمائة اسم، ومن أشهر أسمائه عندهم أسامة والحارث وحيدرة والهزبر والضرغام والضيغم والعنبس والغضنفر وقسورة والهرماس والليث؛ فمرثد هنا من أسماء الأسد، ولذلك قال:
            ويحسن في الإحرام والحل قتل ما يضر بلا نفعٍ كنمرٍ ومرثدِ
            فالأسد مما يباح قتله لأنه من السباع الضارية المعتدية، لكنه إذا ترك فريسةً لا يعود إليها، وإذا ولغ الكلب في ماء لا يشربه، فهو يأنف أن يشرب من الماء الذي ورد فيه الكلب. قال:
            وغربان غير الزرع أيضاً وشبهها كذا حشرات الأرض دون تقيدِ
            أي: أن الغربان يجوز قتلها، مثل الغراب الأبقع، لكن إذا كان من غراب الزرع، فلا يجوز قتله للمحرم، لأنه من الصيد، لجواز أكله، وغراب الزرع منقاره أحمر، فلا يصيده المحرم، وإنما الذي يقتله المحرم الغراب المعروف الذي لا يكون في الزرع وسمي الغراب بهذا لأنه أسود. ومما يشبه الغراب مما يقتل الحدأة والقنفذ أيضاً فإنه يباح قتلها في الحل والحرم، وهو خبيث لا يؤكل؛ فالصحيح أنه لا يجوز أكله ولو ذكي. (كذا حشرات الأرض دون تقيدِ): والحشرات كثيرة مثل الصرصور وغيره، وضرب لها أمثلة في البيت الذي بعده فقال:
            كبقٍ وبرغوثٍ وفأرٍ وعقربٍ ودبرٍ وحيات وشبه المعددِ
            فالبق معروف، والبرغوث هو من الحشرات التي لها أداةٌ تمص بها الدم، حتى إن بعض الظرفاء قال:
            لا تسب البرغوث إن اسمه برٌ وغوثٌ لك لا تدري
            فبـره مـص دمٍ فاســدٍ وغوثه الإيقـاظ للفجـر
            والفأر هو الجرذ، والعقرب هي من أفتك ما يدب على الأرض، حتى إنها تقتل الحية، وكم تهلك الأفاعي بسموم العقارب! ومنها أنواعٌ إذا لدغت إنساناً تساقط لحمه وتناثر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله العقرب لا تدع مصلياً ولا غيره) وجاء أن العقرب لدغت النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء أن عقرباً لدغت أحد أصحابه، فأراد صاحبٌ له أن يرقيه، فاستأذن النبي عليه الصلاة والسلام، فأذن له، وقال: (إن استطاع أحدكم أن ينفع أخاه بشيءٍ فليفعل) فالرقية من سم العقرب مشروعة. الدَبْر: جمع دبور، وهو الزنبور، وقد جاء في الحديث الصحيح: أن عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه لما قتله المشركون أرادوا أخذ جثته، وكان قد عاهد الله ألا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فأرسل الله الدَبْر، فأظله، فجاءوا ليأخذوه فلم يستطع المشركون أخذ جثته لأن الدبر -الزنابير- قد أظلته، فلم يستطيعوا مد أيديهم إليه. والزنبور مما يحل قتله وربما تجتمع الزنابير على رجل فتقتله، وقد ذكروا أن رجلاً كان مع صحبه، فسب أبا بكر و عمر ، فبعد حين جاءت الزنابير إليه فاجتمعت وهي كثيرةٌ عليه فاستغاث بأصحابه، فأرادوا أن يغيثوه فاتجهت إليهم، فنفروا عنه حتى مات، قال أحدهم: ثم جاء زنبورٌ منها على أحدنا فلم يصبه بشيء، فعلمنا أنها مأمورة. قال:
            كبق وبرغوث وفأر وعقرب ودبر وحيات وشبه المعدد
            والحيات يجوز قتلها أيضاً للمحرم وغير المحرم، وسيأتي بعض الاستثناءات، (وشبه المعددِ): وهي الأشياء التي تشبه ما عددناه قبل قليل، يجوز قتلها كالوزغ مثلاً.

            ما يكره قتله :
            ويُكره قتل النمل إلا مع الأذى به واكْرَهَنْ بالنار إحراق مفسدِ
            فإذاً قتل النمل منهي عنه، إلا إذا صار مؤذياً، فيجوز قتله، مثل أن تكون له قرصةٌ مؤذية، والنمل أنواع منها ما يكون له قرصةٌ مؤذية، ومنها ما ليس بمؤذٍ، ومنه ما يدخل في الطعام ويفسد، ومنه ما هو مسالم، فإذا كان النمل مؤذياً سواءً بقرصته أو بإفساده للطعام ودخوله فيه ونحو ذلك، فإنه يجوز قتله، ولذلك قال: (ويكره قتل النمل)، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن قتل أربع: النمل والنحل والهدهد والصرد). (ويكره قتل النمل إلا مع الأذى به) فإنه لا يكره ، (واكْرَهَنْ بالنار إحراق مفسدِ): فإذاً بالنار لا تُحرق الحيوانات ولا ذات الأرواح، يُنهى عن إحراق كل ذي روح، لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار.
            ولو قيل بالتحريم ثم أجيز مع أذىً لم يزل إلا به لم أُبَعِّد
            أي: لو قيل أنه لا يجوز التحريق بالنار، إلا إذا كان هناك مؤذٍ لا يزول إلا بالإحراق، أو بتدخينه، (لم يزل إلا به) أي: بالتحريق جاز، ولو قلنا بجوازه، قال الناظم: لم أُبَعِّدِ: أي: لم أبعد عن الحق.
            ويُكره لنهي الشرع عن قتل ضفدعٍ وصردان طيرٍ قتل ذين وهدهدِ
            فإذاً نهى الشرع عن قتل الضفدع، لما رواه أحمد و أبو داود : (أن طبيباً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلونها في الدواء، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها). إذاً لا يجوز استعمال الضفدع أو أخذ شيء منه للدواء، وعلى الذين يركبون الأدوية ألا يأخذوا من الضفادع شيئاً، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وجاء أن نقيقها تسبيح، لكنه لا يصح. والله أعلم. فلما كان ليس منها فائدة لا هي تؤكل ولا يستخرج منها دواء، فلماذا تقتل؟ فلا تقتل إلا إذا كانت مؤذية، لكن في الأحوال العادية لا تُقتل.
            ويُكره لنهي الشرع عن قتل ضفدعٍ وصردان طيرٍ قتل ذين وهدهدِ
            صرادن: جمع صرد، والصرد نوع من الطيور لا يؤكل لحمه، فكان قتله من باب العبث، ولذلك يُترك، وعموماً لا يجوز العبث بقتل الدواب عموماً، إما أن يكون هناك فائدة من قتله كالصيد أو الأكل أو يكون فيه دفع ضرر، وإلا فلا تقتل أي بهيمة بدون سبب، فلا تقتل للتسلية مثلاً. أي: لا تقتل الضفدع والصرد، والهدهد أيضاً، وكنية الهدهد أبو الأخبار، وهو الذي جاء لسليمان عليه السلام وقال له كما ذكر الله في كتابه: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [النمل:22-23]. قال:
            ويكره قتل الهر إلا مع الأذى وإن ملكت فاحظر إذاً غير مفسدِ
            فإذاً الهر لا يقتل، ومن أسمائه البس والسنور والقط، إلا إذا صار مؤذياً، بأكل الفراخ وكفء القدور، فإن بعضها قد يؤذي بأكل الفراخ وكفء القدور. وبعض الناس يقول: عندنا قطة تؤذينا أو عندنا بسٌ يؤذينا أو عندنا هر يدخل علينا فيؤذينا واحترنا معه وأخرجناه خارج البيت ورجع، ويلد عندنا ويؤذينا بنتنه وأولاده ونحو ذلك، فهذا يُؤخذ ويرمى بعيداً ولا يقتل، لكن لو لم يندفع شره إلا بالقتل، كأن يكون ممن يخدش ويفعل الأشياء المؤذية والضارة بالأطفال، وربما مات طفلٌ بسبب أن قطاً كبيراً جلس على وجهه حتى خنقه فمات، فإذاً قد يكون القط مؤذياً، ندفعه ونطرده، فإذا لم يكن دفعه ممكناً إلا بالقتل فيقتل في نهاية المطاف، وإن مُلكت، أي مُلك القط فاحظر: أي لا تقتله لأنه صار ملكاً للغير (إذاً غير مفسد) إذا كان غير مفسد فلا يقتل، فإذا كان مفسداً يقتل.

            قتل الحيات:
            وقتلك حيات البيوت ولم تقل ثلاثاً له اذهب سالماً غير معتد
            مما ينهى عنه أيضاً: قتل حيات البيوت، إذا لم تنذرها ثلاثاً ولم تقل: اذهب سالماً غير معتد. وحيات البيوت هذه فيها كلام طويل، بعض العلماء يرى أنه لا يجوز قتل حيات البيوت إلا بعد إنذارها في أي مكان، وبعضهم قال: إن هذا خاص بـالمدينة ، بيوت المدينة لا تُقتل فيها الحيات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن جناً بـالمدينة قد أسلموا) والجن منهم من يكون على هيئة حيات، ومنهم من يكون على هيئة السعالي، ومنهم من يطيرون، ومنهم من يحلون ويظعنون مثل أهل البادية. فما دامت الجن تتمثل بالحيات والكلاب، فلابد من إنذار الحية قبل قتلها، علماً بأن الكلب الأسود شيطان فيقتل مباشرة، لكن الحية قد تكون جناً مسلماً، وقد تكون جناً كافراً، وقد تكون حية أفعى أصلية. فالآن العلماء بعضهم قال: إن حيات البيوت تنذر إذا وجدت في بيوت المدينة للحديث، وبعضهم قال: لا تقتل الحيات العوامر التي تسكن البيوت في أي بيتٍ وفي أي: مدينة، إذا وجدها لا يقتلها مباشرة، وإنما يُنذرها. واختلف العلماء في معنى ثلاثاً التي جاءت في الحديث، هل هي ثلاثة أيام، أو هي ثلاث مرات، هل ينذرها ثلاثة أيام كل يوم يقول: أحرج عليك بالله أن تخرجي، أي: أقسم عليك بالله أن تخرجي وتتركي بيتنا مثلاً؟ إن كان جناً مسلماً فسيغادر، وإن لم يغادر فهو شيطان فاقتله، هكذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام. لكن اختلفوا هل هي ثلاثة أيام أو ثلاث مرات؟ ثم إن الإنسان لو أنذرها ثلاثاً ولم تخرج، فليس ملزماً أن يبقيها في البيت، ممكن يدخلها في كيس أو شيء ويحاصرها ويرميها بعيداً أي: لا يقتلها، أي: واحد لو قال: أنا أنتظرها حتى تذهب وتدخل في المتاع ولا أدري أين تذهب، وقد تكون أفعى عادية وليس لها علاقة بالجن، فماذا أفعل هل أتركها؟ نقول: أنتَ لست ملزماً بإبقائها في البيت، لكن أنت تنهى عن قتلها فقط، حتى تنتهي المهلة، إذا وجدتها بعد ذلك فاقتلها ولا حرج. وجاء أن رجلاً من شباب الأنصار كان عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاباً قوياً، وأراد الشاب أن يذهب فأذن له وأمره أن يأخذ معه سلاحه وقال: إني أخاف عليك، فلما جاء إلى بيته وجد امرأته عند باب الدار خارجة، وكان رجلاً له غيرةً قوية، فهم أن يضربها بالرمح فيقتلها، لأنها خارج البيت من غير حجاب، فقالت: اصبر وادخل فانظر ما الذي أخرجني، فدخل فوجد حيةً عظيمةً قد تكومت فانتظمها برمحه قتلها ثم ركزها على الحائط فانقلبت عليه، فلا يُدرى أيهما أول موتاً الحية أم الفتى، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: (إن جناً بـالمدينة أسلموا) فالمهم أنه إذا وجدها ينذرها ثلاثاً، يقول: أقسم عليك بالله ثلاثاً أن تخرجي وتدعي هذا البيت، ونحو ذلك من العبارات، فإن كانت جناً مسلمةً خرجت ولم تؤذ، وإن كانت شيطاناً عصت فاستحقت القتل.
            وذو الطفيتين اقتل وأبتر حيةٍ وما بعد إيذانٍ ترى أو بفدفدِ
            هناك حيات تقتل مباشرةً سواء كانت في البيت أو خارج البيت، وذو الطفيتين، نوع معين من الحيات له خطان على ظهره، خطان متوازيان، قيل خطان أبيضان، وقيل خطان أسودان، هذا يسمى ذا الطفيتين، يُقتل مباشرة لا بإنذار ولا بشيء. (وأبتر حيةٍ) هذا نوع من الحية؛ والأبتر عظيم النهاية، الحية تكون في العادة غليظة من فوق والمنتصف ثم في النهاية تدق حتى يكون لها ذنبٌ أو ذيلٌ دقيق في النهاية، أما الأبتر هذا فكأنه مقطوع الذنب، فهو من جهة الذنب في النهاية غليظ، كأنه مقطوع الذيل، فهذا الأبتر يقتل مباشرة؛ وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديث في الصحيحين : (فإنهما يسقطان الحبل ويلتمسان البصر) أي: أن المرأة تسقط الولد الذي في بطنها بمجرد رؤيته، وكذلك يلتمسان البصر، قيل: إنه بمجرد النظر إليه يُعمي، وقيل: إنه يستهدف بصر الإنسان عند اللسع، ففيه قوةٌ سمية تسبب العمى، ونظراً لضرره ولأن الجني المسلم لا يتمثل بهذا النوع فإنه يقتل مباشرةً.
            وذو الطفيتين اقتل وأبتر حيةٍ وما بعد إيذانٍ ترى أو بفدفدِ
            والفدفد: هي الفلاة، فالحيات في الفلاة تقتل مباشرة، لا يلزم تحريج ولا قسم ولا شيء، فالحكم إذاً بالتحريج خاصٌ بحيات البيوت، ويستثنى من حيات البيوت ذو الطفيتين والأبتر.

            حكم قتل ما فيه ضر ونفع:
            وما فيه إضراراٌ ونفعٌ كباشقٍ وكلب وفهدٍ لاقتصاد التصيدِ
            انتقل الآن إلى النوع من الحيوانات الذي فيه نفعٌ وضر، نفعٌ من جهة، وضرٌ من جهة، (وما فيه إضرارٌ ونفعٌ كباشقٍ) وهذا مثل البازي والصقر، الباشق قد يكون أحياناً يُؤنس ويستوحش أحياناً، وإذا صار أنيساً صاد ونفع صاحبه، وإذا صار مستوحشاً آذى ، فهذا تكون أنت مخيراً في قتله وتركه. (وكلب) وكذلك الكلب، (وفهدٍ لاقتصاد التصيد) فإن الكلاب والفهود يمكن أن تدرب للصيد، فالفهود ممكن أن يصاد بها، ويجوز الصيد بها ، فإذا صار نافعاً يترك، وإذا صار مؤذياً يُقتل، مثل الكلب الأسود يُقتل لأنه شيطان، والكلب العقور الذي منه داء الكلب، فهو أيضاً يقتل لضرره.
            إذا لم يكن ملكاً فأنت مخيرٌ وإن ملكت فاحظر وإن تؤذ فاقددِ
            فإذا كان لا يملكه أحداً غيرك فأنت مخيرٌ بين قتله وتركه، (وإن مُلكت فاحظر) أي: لا تقتلها لأنها ملكٌ لغيرك، (وإن تؤذ فاقددِ) أي: فاقتلها إذا آذت.

            من آداب الطعام والشراب:
            ثم قال رحمه الله:
            ويكره نفخٌ في الغـدا وتنفـسٌ وجولان أيدٍ في طعـامٍ موحـدِ
            فإن كان أنواعاً فلا بأس فالذي نهى في اتحادٍ قد عفا في التعددِ
            سبق في آداب الطعام أن الإنسان يأكل مما يليه، فإذا كان الطعام مختلفاً كالفاكهة المتنوعة، فيجوز أن يأخذها مما لا يليه.
            وأخذٌ وإعطاءٌ وأكلٌ وشر به بيسراه فاكره ومتكئاً ذُدِ
            فالأكل والشرب والأخذ والإعطاء باليسار من فعل الشيطان فلا تفعله.
            وأكلك بالثنتين والأصبع اكرهاً ومع أكل شين العرف إتيان مسجدِ
            الأكل بالأصبع الواحدة والثنتين كبر ، وبالثلاث سنة، (ومع أكل شين العرف): الرائحة الكريهة، لا تأت المسجد إذا أكلتها.
            ويكره باليمنى مباشرة الأذى وأوساخه مع نثر ما انفه الردي
            فإذاً باليمنى لا تخرج الأوساخ ولا تباشر النجاسات ولا تخرج ما في أنفك.
            كذا خلع نعليه بها واتكاؤه على يده اليسرى ورا ظهره اشهـدِ
            أي إذا خلع نعله بدأ باليسرى، وإذا انتعل بدأ باليمنى، والاتكاء على اليد اليسرى وإلقاؤها خلف الظهر قد ورد النهي عنه في سنن أبي داود وهو حديثٌ صحيح.
            ويكره في التمر القران ونحوه وقيل مع التشريك لا في التفردِ
            أي: إذا كان له شركاء فيه، إما إذا كان يأكل لوحده فلا بأس، وتقدم في آداب الطعام.
            وكن جالساً فوق اليسار وناصب اليمين وبسمل ثم في الانتـهاء احمدِ
            ويكره سبق القوم للأكـل نهمـةً ولكن رب البيـت إن شـاءَ يبتـدي
            ولا بأس عند الأكل مـن شبـع الفـتى ومكروهٌ الإسراف والثلث أكدِ
            ويحسن تصغير الفتى لقمة الغدا وبعد ابتلاع ثنـي والمضـغ جـودِ
            أي: تجويد المضغ من آداب الطعام.
            ويحسن قبـل المسـح لعـق أصابعٍ وأكل فتات ساقطٍ بتثردِ
            وغسل يدٍ قبل الطعام وبعـده ويكره بالمطعـوم غير مقـيدِ
            أي: لا تغسل يدك بالأشياء المطعومة، أما الماء فهو للغسل.
            وما عفته فاتركه غير معنفٍ ولا عائبٍ رزقاً وبالشارع اقتدِ

            النهي عن عيب الطعام:
            ولا تشربن من في السقاء وثلمة الإناء وانْظُرَنْ فيه ومصاً تَزَرَّد
            أي: لا تشرب من فم الإناء ولا من ثلمته، فالشرب من فيه يسبب رائحة نتنة وإيذاء من بعدك واختلاط الشراب بما يُغير رائحته، وقد تكون هناك حشرة بداخل هذه القربة، ولذلك لا تشرب من الفم مباشرة حتى لا تدخل في الجوف. فهذه من فوائد عدم الشرب من في الإناء، ألا تنتنه فتؤذي من بعدك، وألا يكون فيه حشرة -مثلاً- فتبتلعها معه. وأما الثُلم المكسورة فلا تشرب منها؛ فإنها مجتمع أوساخ، وقد يكون فيها جراثيم أيضاً، وكذلك ربما جرح فم الشارب. (وانظرنَ فيه) أي: تأكد ألا يكون فيه حشرة ونحوها. (ومصاً تزردِ) أي: لا تعبه عباً، ولكن ارشفه رشفاً رقيقاً ومصه مصاً، فإنه أهنأ وامرأ.
            ونح الإناء عن فيك واشرب ثلاثة هو أهنا وامرا ثم ارو لمن صدي
            أي إذا شربت الشربة الأولى فنحه عن فيك، ولا تتنفس فيه.

            من أحكام اللباس:
            ويكره لبسٌ فيه شهرة لابسٍ وواصف جلدٍ لا لزوجٍ وسيدِ
            إذاً: يُنهى عن اللباس الذي يتميز به الإنسان عن سائر الناس، اللباس الذي يلفت الأنظار، فهو لباس شهرة، وقد توعد صاحبه يوم القيامة أن يُلهب فيه النار، وبالنسبة للمرأة لا يجوز لها أن تلبس ما يصف الجلد، إلا لزوجها، أو سيدها إذا كانت أمة.
            وإن كان يبدي عـورةً لسـوا هما فذلك محذورٌ بغير تـردد
            وخير خلال المرء جمعاً توسط الأمور وحالٌ بين أردى وأجودِ
            أي: لا تلبس غالياً جداً ولا رديئاً جداً.
            وأحسن ملبوسٍ بـياضٌ لميت وحيٍ فبيض مطلـقاً لا تسـود
            فلبس البياض سنة للحي والميت.
            وأحمر قانٍ والمعصفر فاكرهن للبس رجال حسبُ في نص أحمدِ
            فإذاً لبس الأحمر القاني للرجال منهي عنه، أما إذا كان أحمر مخططاً فلا بأس، لبس النبي عليه الصلاة والسلام حبرةً أو إزاراً أو ثوباً فيه خطوط، أما الثوب الأحمر القاني فلا يلبسه الرجل، نعم تلبسه المرأة، أما الرجل فلا يلبس الأحمر القاني، لا بدلة رياضة ولا غيرها. إما إذا كان مخلوطاً بغيره كهذه الأغطية للرأس مخلوطةٌ بالبياض فلا تدخل في ذلك، والمعصفر المصبوغ بالعصفر هذا لا يلبس أيضاً للرجال، وهو من ثياب النساء. قال رحمه الله:
            ويحرم سترٌ أو لباس الفتى الذي حوى صورةً للحي في نصِ أحمدٍ
            فالثوب الذي فيه صورة من ذوات الأرواح لا يجوز لبسه لا للصغار ولا للكبار، لا للنساء ولا للرجال، الثياب التي فيها صور لذوات الأرواح لا يجوز لبسها.
            وأطول ذيل المرء للكعب والنسا من الأزر شبراً أو ذراعاً لتزددي
            بالنسبة للرجل لا يلبس تحت الكعبين، بالنسبة للمرأة ترخي شبراً أو ذراعاً لأجل عدم انكشاف الساقين عند هبوب الريح أو عند طلوعها ونزولها مثلاً، فيُرخص للمرأة أن تُرخي ذيلها شبراً أو ذراعاً من الخلف حتى إذا هبت الريح لم تكشف شيئاً من عورتها.
            وأشرف ملبوسٍ إلى نصف ساقه وما تحت كعب فاكرهنه وصعّدِ
            اصعد فوق الكعبين، وأحسنه إلى منتصف الساق.
            وللرسغ كم المصطفى فإن ارتخى تناهى إلى أقصى أصابعه قدِ
            السنة الكم إلى الرسغ، فإن تناهى أطراف الأصابع لا بأس، لكن بعض الناس عندهم أكمامٌ ذات أخراج وعمائم ذات أبراج، فهذه من أنواع الإسبال، فهناك شيء اسمه إسبال الأكمام، إذا كانت الأكمام واسعة جداً، فهذا من إسبال الأكمام فيُنهى عنه، وكذلك ما يلبس الواحد كماً يُغطي اليدين والأصابع ويمتد، والسنة أن يكون إلى الرسغ، ولو جاوزه قليلاً فلا حرج.
            ويحسن تنظيف الثياب وطيها ويكره مع طول الغنى لبسك الردي
            تنظيف الثياب وطيها مستحسن، وإذا كنت غنياً فلا تلبس الردي: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).
            ومن يرتضي أدنى اللباس تواضعاً سيكسى الثياب العبقريات في غدِ
            الذي يتواضع في لباسه يكسوه الله يوم القيامة من الحلل ما شاء لأنه تواضع.
            وقل لأخٍ:
            أبل وأخلق ويخلف الإله كذا قل عش حميداً تسدد
            فيقال لمن لبس ملبوساً جديداً: أبل وأخلق، ويخلف الله، كذلك تقول له: (البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـعمر .

            من أحكام الخواتم:
            ولا بأس بالخاتم من فضةٍ ومن عقيق وبلورٍ وشـبه المعـددِ
            يجوز اتخاذ خاتم الفضة للرجال، ولو كان فيه فص من عقيق أو بلور فلا بأس بذلك.
            ويكره من صُفرٍ رصاصٍ حديدهم ويحرم للذكران خاتم عسجدِ
            (من صفر) هو النحاس، (رصاص) خاتم الرصاص ، (حديدهم): خاتم الحديد، يكره هذا للرجال، (ويحرم للذكران خاتم عسجد) يحرم على الذكر أن يلبس خاتماً من الذهب.
            ويحصل في اليسرى كأحمد وصحـ به ويُكره في الوسطى وسبابة اليدِ
            إذا لبست الخاتم باليمين أو لبسته بالشمال، فكلاهما وارد في السنة، وتضعه في الخنصر أو البنصر، لا تضعه في الوسطى ولا السبابة، فقد ورد النهي عن ذلك كما جاء في صحيح مسلم في النهي عن لبس الخاتم في السبابة أو الوسطى والتي تليها، فلا تلبس في الوسطى ولا السبابة، والبس في الخنصر أو البنصر.
            ويحسن في اليمنى ابتداء انتعاله وفي الخلع عكسٌ واكره العكس ترشدِ
            فإذاً عند الخلع تخلع اليسرى أولاً ثم اليمنى، وعند اللبس تلبس اليمنى أولاً ثم اليسرى.
            ويكره مشي المرء في فرد نعله اختياراً أصخ حتى لإصلاح مفسدِ
            فإذاً يكره للإنسان أن يمشي في النعل الواحدة، والسبب أنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنها مشية الشيطان (فإن الشيطان يمشي في النعل الواحدة) وإن انقطعت إحدى الفردتين، فاقتلع الاثنتين حتى تصلحها وتمشي بهما جميعاً أو تحفيهما جميعاً.
            وسر حافياً أو حاذياً وامش واركبن تمعدد واخشوشن ولا تتعودِ
            إذاً من السنة أن الإنسان يمشي حافياً أحياناً، لأجل أن يخشوشن وقوله: تمعددُ أي: انتسبوا إلى معد بن عدنان، إلى معد الذي كان من عادته الرجولة والخشونة.
            ويكره في المشي المطيطـي و نحوها مظنة كبرٍ غير في حرب جحدِ
            (المطيطي) مشية فيها خيلاء، وقوله: (غير في حرب جحدِ) أما في الحرب فيجوز أن تتبختر وتتمخطر بين الصفين إغاظة للعدو.
            ويكره لبس الخف والأزر قائماً كذاك التصاق اثنين عرياً بمرقدِ
            لا تلبس حذاء يحتاج إلى مئونة في لبسه واقفاً، كالأحذية التي لها رباطات، قيل: حتى لا يسقط، وقيل: حتى لا يظهر قفاه ظهوراً قبيحاً، وقيل: إنه دليل على الكبر، فنزوله إلى الأرض لربط حذائه أحسن، فإذاً الأحذية التي فيها رباطات يُنهى عن لبسها قائماً، فالسنة أن يلبسها جالساً، أما هذه النعال التي تُدخل الرجل فيها إدخالاً يسيراً فلا يحتاج إلى جلوس للبسها.

            من آداب النوم:
            ويكره لبس الخف والأزر قائماً كذاك التصاق اثنين عرياً بمرقدِ
            نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلتصق اثنين عرياً بمرقدٍ واحد، نهى أن يضطجع الرجلان ويتغطيان بغطاءٍ ليس عليهما شيءٌ من الثياب.
            وثنتين وافرق في المضاجع بينهم ولو إخوةً من بعد عشرٍ تُسدد
            يتأكد التفريق بين الأطفال في المضاجع، حتى لا يقع الفساد بينهم، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، لا شك أن التفريق بين الذكور والإناث أوجب، ولكن حتى لو كانوا ذكوراً بمفردهم بمعزل أو إناثاً بمعزل أيضاً يفرق بينهم في المضاجع، وبالذات بعد سن العشر.
            ويكره نوم المرء من قبل غسله من الدهن والألبان للفم واليدِ
            حتى لا ينام وفيه زفر، قال:
            ويكره نومٌ فوق سطحٍ ولم يُحط عليه بتحجيرٍ لخوفٍ من الردي
            الذي ينام على سطح ما له سور، يمكن أن يكون عرضة للسقوط، فلا يفعل ذلك حتى لا يسقط، فمن فعله فقد برئت منه العهدة.
            ويكره بين الظل والشمس جلسةٌ ونومٌ على وجه الفتى المتمددِ
            وذلك لأن الجلوس بين الظل والشمس مجلس الشيطان؛ فلا تجلس فيه، والنوم على البطن منهي عنه؛ لأنه ضجعة أهل النار؛ فلا تضطجع هذه الضجعة.
            ويحسُن عند النوم نفض فراشه ونومٌ على اليمنى وكحلٌ بإثمدِ
            (ويحسُن عند النوم نفض فراشه ) كما جاء في السنة، فربما كان فيه شيء أو حشرة. والكحل الإثمد لونه يميل إلى الأحمر أو الأصفر أو البني، وهو يجلو البصر، ولذلك الاكتحال بالإثمد مما يجلو البصر ويُحسن النظر.

            من آداب الزواج:
            وخذ لك من نصحي أُخَيَّ نصيحةً وكن حازماً واحضر بقلبٍ مؤيدِ
            ولا تنكحن من تسمو فوقك رتبـةً تكن أبداً في حكمها فـي تنـكدِ
            إذا أردت أن تتزوج فلا تتزوج واحدة أغنى منك، أو أشرف منك أو أعلى رتبة منك، فإنها ستتطاول عليك وتقول: أنا كذا وأنت كذا، علماً أن هذا ليس بشرط، غير أنها في العادة تتطاول خاصة عند حصول الخلاف ، وتذكرك بفضلها عليك في مالٍ أو نسبٍ.
            ولا تَرْغَبَنْ في مالها وأثاثها إذا كنت ذا فقرٍ تذل وتضهدِ
            إذا كنت ذا فقرٍ، فلا تأخذ منها، وليس بالضرورة إذا أخذ منها أن تذله، لكن الإنسان يستغني أحسن.
            ولا تَسْكُنَنْ في دارها عند أهلها تسمع أذىً أنواع من متعددِ
            أحسن لك ألا تسكن عند أهل المرأة، اسكن لوحدك، حتى لا تسمع شيئاً من الأذى، وأيضاً هذا ليس بالضرورة، قد يكون أهلها فيهم خير وطيبة، وأنت محتاج فلا بأس.
            وكن حافظاً إن النساء ودائـعٌ عوانٍ لدينا احفـظ وصيـة مـرشدِ
            ولا تطمعَنْ في أن تقيم اعوجا جها فما هي إلا مثل ضـلعٍ مـرددِ
            وخير النسا من سرت الزوج منظراً ومن حفظته في مغيبٍ ومشهدِ
            قصيرة ألفاظٍ قصـيرة بيتـها قصيرة طرف العيـن عن كـل أبعدِ
            تغض البصر، قليلة الكلام، دائماً في البيت.
            عليك بذات الدين تظفر بالمنى الودود الولود الأصل ذات التعبدِ
            ذات التعبد: صاحبة الدين.

            نصائح لطالب العلم:
            ثم قال رحمه الله:
            ولا يذهبن العمر منك سبهللاً ولا تُغبننْ بالنعمتين بل اجهد
            سبهللاً: أي فراغاً بدون فائدة، ولا تغبننْ بالنعمتين: أي الصحة والفراغ.
            فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد
            أي: ندماً بعد الموت حين فات الأوان.
            وخيـر جليـس المـرء كتـبٌ تفيـده لـومــاً وآدابـاً كعقـلٍ مـؤيدِ
            وخالط إذا خالطت كـل موفـقٍ مـن العـلمـا أهـل التقـى والـتعـبدِ
            يفيدك من علمٍ وينهاك عن هوى فصاحبه تُهـدى مـن هـداه وتـرشـدِ
            وإياك والهماز إن قمـت عنـه البـذي فـإن المـرء بالمـرء يقتـدي
            وحافظ علـى فعـل الفـروض بوقتها وخذ بنصيبٍ في الدجى من تهجدِ
            وناد إذا ما قمت بالليل سـامعاً قريباً مجيـباً بـالفـواضـل يـبتـدي
            ومد إليه كف فقـرك ضارعـاً بقلـبٍ منيــبٍ وادع تـعـط وتسـعدِ
            ولا تطلبن العلم للمـال والريـا فإن ملاك الأمـر فـي حـسن مقـصدِ
            وكن عاملاً بالعلم فيما استطعته ليُهدى بك المـرء الـذي بـك يقـتدي
            حريصاً على نفع الورى وهـدا هم تنل كـل خـيرٍ فـي نعيـمٍ مؤبـدِ

            ادعُ إلى الله وعلم الناس الخير:
            وإياك والإعجاب والكبر تحظ بالسعادة في الدارين فارشد وأرشد
            وها قد بذلت النصح جهـدي وإنني مقرٌ بتقصيري وبالله أهتدي
            تقضت بحمد الله ليست ذميمةً ولكنها كالـدر فـي عـقد خُـرَّدِ
            يحار لها قلب اللبيب وعارفٌ كريمان إن جـالا بفكـر منضـدِ

            ثم قال في آخر بيت من هذه القصيدة :
            وقد كملت والحمد لله وحده على كل حالٍ دائماً لم يصدد
            فالحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً ممن استفاد وأفاد، وأخذ من السنة ما يعمل به في حياته، ونسأله عز وجل أن يختم لنا بالصالحات أعمالنا.

            الأسئلة :
            حال حديث: ( خاتم الحديد حلية أهل النار ).
            السؤال: حديث: (خاتم الحديد حلية أهل النار) حديثٌ ضعيف كما نص عليه أهل العلم؟ الجواب: هذا أمرٌ مختلفٌ فيه، فبعضهم صحح الحديث.

            التربع عند الأكل من الاتكاء:
            السؤال: هل التربع من الاتكاء؟ الجواب: عند الأكل.

            مرجع قصيدة الآداب لابن عبد القوي:
            السؤال: ما هو اسم الكتاب الذي توجد فيه القصيدة؟ الجواب: قلنا: إن القصيدة هي قصيدة الآداب لابن عبد القوي شرحها السفاريني في غذاء الألباب في مجلدين، وهي موجودة في آخر المجلد الرابع من موارد الظمآن، يمكنك الرجوع إليها، فهي فيه متتابعة.

            من خصائص الإثمد:
            السؤال: ما هو الإثمد ؟ الجواب: الإثمد: الذي يميل إلى الاحمرار.

            وقوع الطلاق إذا كان باللفظ الصريح:
            السؤال: هل يقع الطلاق إذا قال: عليّ الطلاق أنتِ طالق؟ الجواب: نعم، إذا ما وقع هكذا فإنه يقع، أي: أنه ما ترك لنفسه مجالاً.

            أين يكون الإسبال؟
            السؤال: الإسبال يكون في الأكمام، فهل يأخذ هذا الإسبال حكم إسبال الثياب فيما نزل عن الكعبين؟ الجواب: هو إسبال لكن أخف منه.

            من تعامل الأعراب مع المرأة:
            السؤال: يقول الأعراب: إذا صاب الحرمة ماعون في البيت اكسره؟ الجواب: لا، هذا ما هو بهذه الدرجة، بحيث لا تجعلها تتملك شيئاً، وإذا صار لها ماعون تكسره حتى لا يكون لها فضل عليك، هذا ليس بصحيح، وقد تكون المرأة غنية وزوجها فقير.

            حكم التنفس في الإناء الخاص بالشارب:
            السؤال: ما حكم التنفس في كأسٍ خاص بشاربه؟ الجواب: حتى التنفس في كأسٍ للشارب قد يضر نفسه.

            حكم تصديق من يخاطبون الجن:
            السؤال: إذا كان هناك من يخاطب الجن ويذكرون له بعض الأخبار عندهم وغير ذلك، فهل نصدق هذه الأخبار؟ الجواب: لا، لأننا لا ندري بحالهم وقد يكونون كفرة، وقد يكونون كاذبين.

            حكم قتل حيات البيوت إذا كانت سوداء:
            السؤال: إذا كان لون حيات البيوت أسود؟ الجواب: ولو كان أسود، لأن التخصيص بالسواد للكلاب السود.

            حكم تملك القطط:
            السؤال: هل يجوز تملك القطط؟ الجواب: نعم، لكن ورد النهي عن شرائها وبيعها.

            حكم تهذيب اللحية:
            السؤال: هل تعديل اللحية حرام؟ الجواب: نعم، لا يجوز الأخذ من اللحية، لا من طولها ولا من عرضها، لكن بعض العلماء أجازوا أخذ ما طال عن القبضة كما كان ابن عمر يفعل في الحج والعمرة، لكن كثيرٌ منهم يرون عدم المس بها مطلقاً وعدم الأخذ منها أبداً.

            حكم انعقاد البيع عن طريق الهاتف:
            السؤال: هل ينعقد مجلس البيع عن طريق الهاتف؟ الجواب: نعم، إذا قال: بعت وقال: اشتريت وانفصلوا، يعتبر بيعاً.

            حكم البيع إذا لم يتم بلفظ صريح:
            السؤال: اتفقت مع أحد التجار على أن يُقدم لي خدمة عن طريق الهاتف، فأعطاني تسعيرة وأرسلتُ إليه عينة ليقوم بفحصها ومعاينتها ويعيد النظر في تسعيرته، وفعل ذلك، وقام بخفض السعر، وعندما عزمت إرسال باقي البضاعة عليه حسب الاتفاق أخبرني بتغيير السعر، لعدم ملاءمته له؟ الجواب: ما دام لم يتم البيع، المسألة مسألة مراسلات بينك وبينه وعروض، ولا يوجد عقد وقع ولا لفظ: (بعت واشتريت) فلم يتم البيع.

            حكم التسمية عند قتل الحيوان:
            السؤال: ما حكم البسملة عند قتل أي حيوان؟ الجواب: لا بأس، لأن البسملة وردت في جميع الحالات.

            الكلب الأسود شيطان:
            السؤال: هل جميع الكلاب السود شياطين؟ الجواب: نعم: (الكلب الأسود شيطان).

            أهمية استحضار الطبيب لنية الزيارة:
            السؤال: يحصل لمن يشتغل بالطب أنه كثيراً ما يدخل على المرضى في اليوم الواحد، فينسى الدخول على المريض بنية عيادة المريض حتى يصبح روتيناً؟ الجواب: ولذلك يجب أن يذكر نفسه دائماً باستمرار ويحتسب الأجر أن يعتبرها مثل عيادة مريض ويؤجر عليها.

            وصف ذي الطفيتين:
            السؤال: هل ثعبان الكوبرا الذي سمه قاتل في رأسه خطان أسودان يتحول كالورقة عند الغضب هو نفسه ذو الطفيتين؟ الجواب: ذو الطفيتين هذا على ظهره الخطان ممتدان، ولا شك أن هذا الثعبان مما يقتل.

            حكم الجهاز الكهربائي الذي يقتل الحشرات:
            السؤال: ما حكم استخدام جهاز كهربائي فيه ضوء يجذب الحشرات فيقتلها؟ الجواب: ننظر في الحشرات المقتولة فإن وجدناها محترقة، عرفنا أنه هذا يُلحق بالنار، فلا نستعمله، وإن وجدناها كاملة لكن قُتلت بالصعق وليس بالحرق، فلا بأس بذلك، فالحكم يعتمد على عمل هذا الجهاز هل يحرق أو يصعق، إن كان يحرق فلا نستعمله، وإن كان يصعق الحشرة كاملة بالصدمة الكهربائية ، فلا بأس باستخدامه.

            رشف الشاي وآدابه:
            السؤال: بعض الإخوان عندما يرشفون الشاي أو القهوة يحدثون صوتاً عالياً. الجواب: هذا من قلة الأدب في الشرب، وليس معنى الرشف أن يحدث الإنسان صوتاً عالياً.

            قتل الغراب والحدأة والفأر ولو لم تؤذ:
            السؤال: الغراب والحدأة والفأر هل أقتلها ولو أنها لا تؤذيني؟ الجواب: نعم.

            كيفية تمييز ثلث الطعام:
            السؤال: كيف أعرف الثلث المذكور في الحديث: ( وثلث لطعامك )؟ الجواب: هم يقولون: إن معدة بني آدم ثمانية عشر شبراً، فقالوا: يأكل ستة أشبار؛ هكذا مكتوب، كيف يأكل ستة أشبار؟ لا أدري!! لكن على أية حال الإنسان يعرف نفسه؛ ولنفترض مثلاً أنه يشبع الشبعة التامة بستين لقمة، فليأكل عشرين لقمة ويصير هذا ثلثاً.

            حكم تداول الإناء لشرب اللبن:
            السؤال: عندنا عادة في نوع من الأكل، وهو عبارة عن خبز يؤكل مع الشرب من لبن يتداول شربه من قدح، فنأكل اللقمة ثم نشرب عليها ملء الفم تقريباً من اللبن، وتُعطي الذي يليك. الجواب: تداول الإناء لا مانع منه.

            معنى حديث: [البذاذة من الإيمان] .
            السؤال: ما معنى حديث: (البذاذة من الإيمان)؟ الجواب: أي: التواضع في اللباس من الإيمان.

            حكم الاتكاء على اليدين:
            السؤال: ما حكم الاتكاء على اليدين الاثنتين؟ الجواب: لا أعلم فيه تحريماً، ولكن يحتاج إلى مراجعة الحديث، لأن فيه عند أبي داود أيضاً إلقاء اليدين خلف الظهر، فنحتاج أن نراجع صحته ومعناه.

            حكم كي المواشي:
            السؤال: هل كي المواشي للتوسيم جائز؟ الجواب: جائز في غير الوجه.

            حكم شق آذان الأغنام:
            السؤال: ما حكم شق آذان الأغنام ليبين أنها قد طببت؟ الجواب: استخدم وسيلة أخرى كالرش من بخاخ.

            مسألة في القدر:
            السؤال: رجل كافر ومات على الكفر، هل يدخل النار علماً أن الله قدر عليه الكفر والموت عليه قبل الولادة؟ الجواب: لا شك في ذلك، فهو عنده قدرة وعنده إرادة، وسمع بالحق، لماذا لم يتبعه؟! أليس قد اتبع هواه؟!

            قاعدة في أكل الحيوانات:
            السؤال: هل يجوز أكل الحيوانات الواردة في الكتاب والسنة فقط؟ الجواب: هناك أشياء واردة في الكتاب والسنة لا يجوز أكلها كالحمار الأهلي والكلب، لكن كل ما هو مستقذر عند عرب الحجاز وقت نزول الشريعة لا يجوز أكله، وكل ما له نابٌ لا يجوز أكله، وكل ما له مخلبٌ لا يجوز أكله، والجلالة التي تأكل القاذورات والنجاسات لا يجوز أكلها. وقد ورد في الشريعة ضوابط للحيوانات التي لا تؤكل، مثلاً: القرد، الكلب، الحمار الأهلي، بخلاف حمار الوحش، القنفذ، الخنزير، هذه الأشياء لا تؤكل، ومن الأشياء التي تؤكل قطعاً بهيمة الأنعام، والسمك، والأرنب، والدجاج وغيرها، ومن الأشياء التي اختلفوا فيها: التمساح، قالوا: إنه حيوان مائي، وبعضهم قال: إنه ذو أنياب فاختلفوا! والتمساح هو الحيوان الوحيد الذي يفتح فمه إلى الأعلى، وجميع الحيوانات تفتح فكها إلى الأسفل. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


            تعليق


            • #21
              محاضرة( آداب قضاء الحاجة )للشيخ محمد المنجد

              محاضرة( آداب قضاء الحاجة )للشيخ محمد المنجد


              عناصر الموضوع:
              1. كمال الشريعة.. والأدب في الإسلام
              2. عدم استقبال القبلة
              3. ألا يمسك ذكره بيمينه حال البول
              4. ألا يستنجي بيمينه
              5. الجلوس عند قضاء الحاجة
              6. ألا يرفع ثوبه إلا بعد الدنو من الأرض
              7. الاستتار عن أعين الناس
              8. الاهتمام بإزالة النجاسة
              9. أن يوتر بثلاث مسحات أو أكثر
              10. ألا يستجمر بروث أو عظم
              11. ألا يتخلى في طريق الناس أو ظلهم
              12. ألا يسلم على من يقضي حاجته ولا يرد السلام
              13. ألا يبول في الماء الدائم ولا يتغوط في الماء الجاري
              14. أن يرتاد لبوله موضعاً رخواً
              15. ألا يبول في مستحمه
              16. أن يذكر الله قبل أن يدخل الخلاء
              17. اتقاء اتجاه الريح
              18. أن يلبس حذاءه حتى لا تتنجس رجلاه وألا يطيل في الخلاء
              19. اجتناب ذكر الله
              20. وضع ما معه من ذكر الله قبل دخوله الخلاء
              21. تقديم اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج
              22. عدم جواز قضاء الحاجة في المقابر
              23. أن يقدم قضاء الحاجة على الصلاة
              24. جواز خروج المعتكف لقضاء الحاجة
              25. عدم التضييق على الناس في أماكن نزولهم
              26. ترك الاستئذان لقضاء الحاجة في البيوت الخربة
              27. ترك الوسوسة
              28. بلُّ اليد قبل غسل النجاسة
              29. غسل اليدين بعد الاستنجاء بتراب ونحوه
              30. تفريج الفخذين عند البول
              31. الاسترخاء حتى يخرج ما بقي من النجاسة
              32. ستر الرأس وتغطيته
              33. عدم البول في الشقوق والجحور
              34. آداب قضاء الحاجة من كتاب المدخل لابن الحاج
              35. آداب قضاء الحاجة

              إن من كمال الشريعة الإسلامية وإتمامها أن الله سبحانه وتعالى بين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كل شيء، فما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وإن من الآداب السامية التي لا توجد في أي شرعة أو ملة، ما علمنا رسولنا عليه الصلاة والسلام من كيفية قضاء الحاجة وآدابها، وما يجوز لنا فيها وما لا يجوز، وقد ذكر الشيخ آداب قضاء الحاجة في هذه الرسالة الطيبة المباركة، مستدلاً على ذلك بالأحاديث وأقوال أهل العلم.

              كمال الشريعة.. والأدب في الإسلام:
              الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: نتحدث في هذه الليلة وفي هذه السلسلة؛ سلسلة الآداب الشرعية المجموعة الثانية عن أدب يدل على كمال هذه الشريعة وحسنها، وأنها لم تترك شيئاً إلا وأوردت فيه آداباً وأحكاماً ليدل ذلك على قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] فالكمال والجمال في هذه الشريعة من سماتها، والحمد لله على نعمته. ومن عظمة هذه الشريعة المباركة أنها ما تركت خيراً في قليل ولا كثير إلا أمرت به ودلت عليه، ولا شراً في قليل ولا كثير إلا حذرت منه ونهت عنه؛ فكانت كاملة حسنة من جميع الوجوه، وقد أثار ذلك دهشة غير المسلمين وإعجابهم بهذا الدين، حتى قال أحدهم لـسلمان الفارسي رضي الله عنه: (قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، فقال سلمان: أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول...) الحديث. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وهو في صحيح مسلم وغيره. وقضاء الحاجة: هذا الاسم من الأدلة على الأدب في الشريعة، فإنه ذكر كنايةً عن خروج البول والبراز، ولا شك أن هذا الاسم -قضاء الحاجة- ألطف وأحسن وأجمل، والأدب في مثل هذا واضح في القرآن والسنة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43] فلم يسم الخارج باسمه البشع، وإنما كنى عنه بهذه العبارة فقال: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43] والغائط: هو المطمئن من الأرض.. المكان النازل من الأرض.. مستوى هابط من الأرض، فقد كانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوه رغبة في التستر، فكني به عما يخرج من السبيلين. ولذلك فإنه لا فحش ولا بذاءة في هذه الشريعة بخلاف ما يستعمله كثير من الناس في ألفاظهم ومجالسهم من أنواع البذاءات والفحش، فنقول: حتى هذه العملية وهي خروج هذه النجاسات سميت بهذه الأسماء من باب الأدب، وقيل: قضاء الحاجة، مع أن الحاجات كثيرة، لكن صار علماً أو رمزاً على إخراج النجاسة من السبيلين. وقد ورد في هذه الشريعة عدة آداب وأحكام لهذا الأمر، ومن ذاك:

              عدم استقبال القبلة:
              أولاً: عدم استقبال قبلة الصلاة عند البول والغائط، والقبلة: هي جهة الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام، فإن من احترام المسلمين لقبلتهم، وتعظيمهم شعائر الله ألا يستقبلوا القبلة ولا يستدبروها ببول أو غائط، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها). أما بالنسبة للخلاء، أو الصحراء، والفضاء، والمكان المفتوح، فإنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها ببول ولا غائط، لكن قد حصل خلاف في البنيان، هل يجوز استقبال القبلة أو استدبارها في البنيان؟ فذهب بعض العلماء إلى ذلك، وقالوا: بأن النهي خاص بالأماكن المكشوفة والمفتوحة كالفضاء والصحراء، وأما في البنيان فلا. وقال بعضهم: النهي عام، وفرق بعضهم بين البول والغائط... إلى آخر ذلك من الأقوال المشهورة والمعروفة في هذا الموضوع، ولذلك الأحسن للإنسان -وهذه من الأمور المهمة- الذي يريد أن يصمم بيتاً أن ينتبه حتى يكون المكان المعد للجلوس لقضاء الحاجة في بيته ليس إلى جهة القبلة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول في المدينة : (شرقوا أو غربوا) ونحن نقول في هذا المكان: اتجهوا شمالاً أو جنوباً، بحسب الموقع: أين أنت من مكة ؟ وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم من مراعاتهم لهذا لما دخلوا بلاد فارس والشام والفتوحات وجدوا المراحيض إلى جهة مكة فقال بعضهم: [ فكنا ننحرف ونستغفر الله ]. فلو أنه أراد أن يحتاط حتى في البنيان يمكن أن ينحرف ويستغفر الله.

              ألا يمسك ذكره بيمينه حال البول:
              ومن الآداب كذلك: ألا يمس ذكره بيمينه وهو يبول، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه) رواه البخاري ، وحيث أن اليد اليمنى تجعل للأمور الحسنة والطيبة فليس من المناسب إذاً أن يكون هذا المس باليمنى، ولو احتاج إليه فإنه يكون عند الحاجة باليسرى.

              ألا يستنجي بيمينه:
              ثالثاً: ألا يزيل النجاسة بيمينه، ليس فقط ألا يمس الموضع أو العورة باليمنى، ولكن لا يزيل النجاسة باليمنى، بل يستخدم شماله لمباشرة النجاسة في إزالتها لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يستنجي بيمينه) رواه البخاري . ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تمسح أحدكم فلا يتمسح بيمينه) رواه البخاري ، ولما روت حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه واستياكه وأخذه وعطائه، ويجعل شماله لما سوى ذلك) رواه الإمام أحمد رحمه الله، وهو حديث صحيح، وروى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استطاب أحدكم فلا يستطب بيمينه، ليستنجي بشماله).

              الجلوس عند قضاء الحاجة:
              رابعاً: والسنة أن يقضي حاجته جالساً وألا يقضيها واقفاً، وأما البول فإن الأصل في فعله عليه الصلاة والسلام والأكثر والأشهر هو أنه كان عليه الصلاة والسلام يقعد عند قضاء حاجته، وأما بالنسبة للوقوف عند البول فإن هناك بعض الأحاديث والآثار التي وردت فيه، أما بالنسبة لنهي صريح مرفوع عن البول قائماً فلا دليل له، وقد جاء عن ابن مسعود : [من الجفاء أن تبول وأنت قائم] وكان سعد بن إبراهيم من السلف لا يجيز شهادة من بال قائماً، وحديث عائشة : (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً). قال الترمذي : هذا أصح شيء في الباب. وقد رويت الرخصة في البول قائماً عن عمر وعلي و ابن عمر و زيد وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة ، وروى حذيفة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) رواه البخاري . أتى سباطة قوم، أي: موضع رمي القمامة. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، ويحتمل أن يكون في موضع لم يتمكن من الجلوس فيه، وقيل: فعل ذلك لعلة كانت بمأبضه؛ والمأبض: باطن الركبة من كل حيوان، فكان هناك جرح أو علة فما استطاع أن ينثني فبال قائماً، ولكن هذا الحديث الذي أشاروا إليه في قضية المأبض حديث ضعيف ليس بصحيح، فقد رواه الخطابي في معالم السنن ، والحاكم والبيهقي ، ولكن هناك من هو أعلى من الخطابي ، لأن كتاب المعالم للخطابي من الشروح، وقد أورد فيه سنده ولكن عند العزو يعزى إلى مثل: الحاكم والبيهقي، وفي هذا الحديث رجل يقال له: حماد ؛ وهو ضعيف، والحديث قد ضعفه الدار قطني و البيهقي وأقر ذلك ابن حجر. أما رواية ابن مسعود : [من الجفاء أن تبول قائماً] فإن الترمذي قد رواه في سننه ، وعلقه أحمد شاكر فقال: وهذا الأثر معلق بدون إسناد، وقال المباركفوري : لم أقف على من وصفه، وقد تتبع الشيخ: ناصر الدين الألباني في إرواء الغليل طرقه وجمعها، فقال في رواية ابن مسعود : [أربع من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، وصلاة الرجل والناس يمرون بين يديه وليس بين يديه شيء يستره، ومسح الرجل التراب عن وجهه وهو في صلاته، وأن يسمع المؤذن فلا يجيبه في قوله] يقول الألباني : هذا صحيح عن ابن مسعود موقوفاً، وقد رواه ابن أبي شيبة ، وأما مرفوعاً: [ثلاث من الجفاء...] فإن هذا الحديث ضعيف ومنكر، ولا يثبت مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: قال بعضهم: إن العلة في بوله عليه الصلاة والسلام قائماً -ما دام أنه قد ثبت في البخاري أنه بال مرةً قائماً- لعدم التمكن من البول، وقيل: ليبين الجواز. ولا شك أن العلة ما دامت أنها لم تثبت فبقي أنه يريد أن يبين الجواز، أو لم يتمكن من الجلوس في موضع القمامة. الخلاصة: لا بأس عند الحاجة أن يبول الشخص قائماً بشرط: أن يأمن عود رشاش البول عليه، وأن يأمن تلويث ملابسه، فإذا أمن تلويث الملابس والجسم فلا بأس أن يبول قائماً، لكن الأفضل البول قاعداً، لماذا؟ أولاً: لأنه أستر. ثانياً: لأنه آمن من ارتداد رشاش البول عليه وتلويث بدنه وثيابه. فلذلك الأفضل البول قاعداً.

              ألا يرفع ثوبه إلا بعد الدنو من الأرض:
              خامساً: من آداب إرادة قضاء الحاجة: أن لا يرفع ثوبه إلا بعد أن يدنو من الأرض، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض). رواه الترمذي وهو حديث صحيح. وإذا كان في مرحاض ونحوه فلا يرفع ثوبه إلا بعد إغلاق الباب وتواريه عن أعين الناظرين، فما يفعله بعض الكفرة ومن قلدهم من أبناء المسلمين من التبول وقوفاً في بعض المحلات المكشوفة داخل بعض المراحيض العامة مما هو موجود في المطارات وغيرها هو أمر منافٍ للأدب والحشمة والحياء والأخلاق الفاضلة، وتقشعر منه أبدان أصحاب الفطر السليمة، والعقول الصحيحة، وهو أمر منكر شرعاً وحرام، إذ كيف يكشف الشخص عن عورته أمام الناس الغادي منهم والرائح التي جعلها الله بين رجليه ستراً لها، وأمر بتغطيتها، واستقر أمر تغطيتها عند جميع عقلاء البشر؟! ثم إنه من الخطأ أصلاً أن تبنى المرافق بهذا الشكل المشين الذي يرى مستعملوها فيها بعضهم بعضاً وهم يبولون متخلفين في ذلك عن البهائم التي من عادتها الاستتار عند التبول والتغوط.

              الاستتار عن أعين الناس:
              سادساً: أن يستتر عن أعين الناس عند قضاء الحاجة بالبعد إذا لم يكن ثمة مراحيض تغلق أبوابها. (وقد كان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخلٍ). والهدف: هو المرتفع من الأرض، وحائش النخل: هو البستان، وإذا كان الإنسان في الفضاء كأن يخرج الإنسان -مثلاً- إلى الساحل أو الشاطئ فيريد أن يقضي حاجته، وليس هناك لا حائش نخل، ولا مرتفع والأرض مستوية، فماذا يفعل؟ إذا كان عنده شيء يتوارى خلفه كسيارة ونحوها فعل ذلك، وإلا فينبغي له أن يبعد عن أعين الناظرين؛ وذلك بأن يمشي إلى مكان بعيد عن الناس، لما روى المغيرة بن شعبة قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم حاجته فأبعد في المذهب). أي: ذهب بعيداً، رواه الترمذي ، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وعن عبد الرحمن بن أبي قرادن قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخلاء، وكان إذا أراد الحاجة أبعد). رواه النسائي وهو حديث صحيح.

              الاهتمام بإزالة النجاسة:
              سابعاً: من آداب قضاء الحاجة أيضاً: الاعتناء بإزالة النجاسة بعد الفراغ من قضاء الحاجة، لقوله صلى الله عليه وسلم محذراً من التساهل في التطهر من البول: (أكثر عذاب القبر من البول). رواه ابن ماجة ، وهو حديث صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة).

              أن يوتر بثلاث مسحات أو أكثر:
              ثامناً: من آداب قضاء الحاجة أيضاً: أن يكون مسح النجاسة ثلاثاً فما فوق، وأن يكون وتراً، بحسب ما تدعو إليه حاجة التطهير، فإذا لم تكف ثلاث فخمس مسحات أو سبع أو تسع، لما جاء عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل مقعدته ثلاثاً، قال ابن عمر : فعلناه فوجدناه دواءً وطهوراً). حديث صحيح، رواه ابن ماجة رحمه الله. ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استجمر أحدكم فليستجمر وتراً). رواه الإمام أحمد ، وحسنه الألباني في: صحيح الجامع إذن يقطع على وترٍ.

              ألا يستجمر بروث أو عظم:
              تاسعاً: من الآداب أيضاً: ألا يستعمل العظم ولا الروث في الاستجمار؛ والاستجمار: هو إزالة النجاسة بالمسح، والاستنجاء: هو إزالة النجاسة بالغسل. ولا يستعمل العظم ولا الروث للاستجمار وإنما يستعمل الحجارة والمناديل ونحو ذلك، لما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ قال: أنا أبو هريرة ، قال: أبغني أحجاراً أستجمر بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى إذا وضعتها بجنبه ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت فقلت: ما بال العظم والروثة؟! قال: هما من طعام الجن). رواه البخاري رحمه الله تعالى.

              ألا يتخلى في طريق الناس أو ظلهم:
              عاشراً: من آداب قضاء الحاجة كذلك: ألا يبول في طريق الناس، ولا في ظل يستظل به؛ لأن في ذلك إيذاء للمسلمين، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم). رواه أبو داود ، وفي رواية: (اتقوا الملاعن). والملاعن مواضع اللعن، جمع ملعنة، مثل: مقبرة، ومجزرة، موضع القبر وموضع الجزر. وأما اللعانان في رواية مسلم: فهما صاحبا اللعن، أي: الذين يلعنهما الناس كثيراً. وفي رواية أبي داود : ( اللاعنين ). معناه: الأمران الجالبان للعن، لأن من فعلهما لعنه الناس في العادة، فإذا جاء واحد يجلس في الظل فرأى نجاسة فإنه يلعن من فعلها، أو مسافر نزل على الطريق فرأى شجرة مثمرة تحتها نجاسة. إذاً الأماكن التي يستريح فيها الناس لو فعل فيها مثل هذا لعنه الناس، فلما صار سبباً في اللعن أضيف الفعل إليهما. وقد يكون اللاعن بمعنى: الملعون على تقدير: اتقوا الملعون فاعلهما. ما المقصود بموارد الماء؟ أي طرق الماء، واحدها مورد، وأما الظل فهو مستظل الناس الذي يدخلونه مقيلاً وملتقى ويقعدون تحته، وليس كل ظل يمنع قضاء الحاجة تحته، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يستتر بحائط نخل، وللحائط ظل بلا شك، ولكن المقصود: الأماكن التي يجلس فيها الناس في الظل، وهناك ظلال لا يجلسون فيها، فالمقصود: الظلال التي يستظل الناس فيها ويجلسون فيها. وكذلك قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التغوط في قارعة الطريق، فقال: (إياكم والتعريس على قارعة الطريق والصلاة عليها فإنها مأوى الحيات والسباع، وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن). إذاً: ليس على الطريق وليس في مكان نزول الناس، ولا على الرصيف، ولا في الظل الذي يوجد فيه الناس، ولا تحت الأشجار المثمرة حيث يقعد الناس، ولا في موارد الماء التي يستقي منها الناس. وما هو العامل المشترك في هذه كلها؟ الجواب: الأماكن التي للناس فيها فائدة.

              ألا يسلم على من يقضي حاجته ولا يرد السلام:
              حادي عشر: من آداب قضاء الحاجة: ألا يسلم على من يقضي حاجته، ولا يرد السلام وهو في مكان قضاء الحاجة، أما بالنسبة لعدم التسليم فقد جاء عن جابر بن عبد الله أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم عليَّ، فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك ) رواه ابن ماجة ، وهو حديث صحيح.

              ألا يبول في الماء الدائم ولا يتغوط في الماء الجاري:
              ثاني عشر: من آداب قضاء الحاجة: أنه لا يجوز البول في الماء الدائم (لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الراكد). متفق عليه، ولأن الماء إذا كان قليلاً تنجس به، وإن كان الماء كثيراً فربما تغير بتكرار البول فيه هذا، بالنسبة للماء الراكد. وأما الماء الجاري فلا يجوز التغوط فيه؛ لأنه يؤذي من يمر به، فإن قال قائل: فالبول فيه؟ إن بال فيه وهو كثير بحيث لا يؤثر فيه البول فلا بأس؛ لأن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الراكد بالنهي عن البول فيه دليلٌ على أن الجاري بخلافه، وبناءً على ذلك فلو بال في البحر فلا حرج عليه، فهذا لا ينجسه شيء ولا يؤذي أحداً، لكن لا يتغوط على الساحل، أو في المكان الذي يدخل فيه الناس للبحر يمشون، بل إنه يبعد ويحذر لنفسه ويقضي حاجته. والنهي عن البول في الماء الراكد الأصل فيه أنه للتحريم، وقد ذهب إلى ذلك عدد من أهل العلم وحرموا التغوط في الماء القليل أو الكثير الراكد، أو الجاري؛ لأنه يقذره ويمنع الناس من الانتفاع به؛ وهذا مذهب الحنابلة. وإذا قلنا ذلك: فمن باب أولى أن قضاء الحاجة في المسجد حرام؛ لأنه لا بد من صيانتها وتنزيهها وتكريمها لأنها أماكن للعبادة والدليل حديث الأعرابي المعروف. وقد ذكر ابن الحاج رحمه الله في كتابه: المدخل للبدع ، من بدع الاحتفال بالإسراء والمعراج ونحو ذلك، قال: احتشادهم الساعات الطوال في المساجد مع النساء وربما إذا احتاجوا إلى قضاء الحاجة قضاها بعضهم في المسجد في الخلف. طبعاً: هذا من المنكرات الكبيرة. وقد ذكر بعضهم مسألة قضاء الحاجة بالكنيسة وبيع اليهود، فقالوا: إذا كان هذا يؤدي إلى أن يفعلوه في مساجدنا انتقاماً من مسلم فعله عندهم فلا يفعلوا ذلك، كما أننا نهينا أن نسب آلهة الكفار لئلا يسبوا الله عدواً بغير علم، وأيضاً من جهلهم إذا سببنا آلهتهم يسبون الله عز وجل.

              أن يرتاد لبوله موضعاً رخواً:
              ثالث عشر: من آداب قضاء الحاجة: أنه يستحب أن يرتاد لبوله موضعاً رخواً لئلا يصيبه رشاش البول، وقد ورد في ذلك حديث رواه الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتبول فأتى دمثاً في أصل حائط فبال، ثم قال: (إذا أراد أحدكم أن يتبول فليرتد لبوله). يتخير مكاناً مناسباً، وهذا إن كان ضعيفاً فإن المعنى صحيح؛ وهو أن الإنسان إذا أراد أن يبول فلا يبل على شيء صلب؛ لئلا يرتد عليه، بل يأتي إلى مكانٍ رخوٍ لئلا يرتد عليه، وبعض الأحيان تجد سطح الأرض خشن صلب لكن إذا ضربته برجلك ظهر التراب الذي تحته فتحول إلى موضع رخوٍ فيمكن أن نعالجه وهكذا.

              ألا يبول في مستحمه:
              رابع عشر: من آداب قضاء الحاجة: أن على الإنسان ألا يبول في مستحمه، وقد ورد في ذلك حديث عند أبي داود وابن ماجة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل في مستحمه). وفي رواية: (لا يبولن أحدكم في مستحمه). وهذا حديث صحيح، فما معنى المستحم؟ وما المقصود بهذا الحديث؟ أما بالنسبة للمستحم، فقد قال الخطابي رحمه الله: المستحم هو المغتسل، وهو مشقق من الحميم وهو الماء الحار الذي يغتسل به. قال النووي رحمه الله: واتفق أصحابنا أن المستحب ألا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة لئلا يترشش عليه وهذا في غير الأخلية المعدة، أو المتخذة لذلك؛ أما المتخذ لذلك كالمرحاض فلا بأس فيه؛ لأنه لا يترشش عليه، ولأن في الخروج منه إلى غيره مشقة. وقال بعض العلماء: ألا يستنجي بالماء في موضعه. إذاً: هم قالوا: إذا تبول في مكان، أو تغوط في مكان يزحف قليلاً حتى إذا صب الماء أثناء الاستنجاء لا يصيبه من النجاسة التي صارت في الأرض مثلاً، وإذا أراد أن يغسل عورته، أو يغسل مكان قضاء الحاجة لا تصيب النجاسة المجتمعة في الأرض يده مثلاً، فالمقصود من كل القضية: ألا يرتد عليه شيء من النجاسة، واتقاء الوسواس؛ لأنه قد ورد عند أبي داود : (ولا يبول في مستحمه فإن عامة الوسواس منه). فإذا كان لا يرتد فلا بأس بذلك، وينبغي أن تجعل أماكن قضاء الحاجة في المراحيض بحيث تحقق هذا الغرض؛ وهو عدم ارتداد النجاسة على الذي يقضي الحاجة. وهنا سؤال قد طرحه بعض الإخوان فيما سبق وتوجهنا به إلى الشيخ محمد بن صالح العثيمين ، يقول السؤال: هل التبول في حوض الاستحمام -البانيو- أثناء الاستحمام يدخل في حديث النهي عن البول في المستحم؟ أم لأن مجرى الماء مفتوح فلا يدخل؟ الجواب: لا. لا يدخل لأنه إذا بال فسوف يصب عليه الماء ثم يزول البول، لكن لا يستحم حتى يزيل البول بإراقة الماء عليه، ولو قدر أن الإنسان حضره التبول أثناء الاستحمام يتوقف عن الاستحمام حتى يبول ويريق عليه الماء، فإذا كان يوجد أي وسيلة للوسوسة فيجتنب الإنسان ما يؤدي إلى الوسوسة. وقد ذكر بعض الفقهاء الاعتماد في التبول على الرجل اليسرى، وقالوا: ويعتمد في حال جلوسه على الرجل اليسرى كما قال ابن قدامة في المغني لما روى سراقة بن مالك قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى). رواه الطبراني في المعجم ، يقول ابن قدامة معللاً: ولأنه أسهل لخروج الخارج. لكن هذا الحديث إذا كان ضعيفاً ماذا نفعل؟ ننظر في المعنى، وقد قال النووي رحمه الله في المجموع : هذا الحديث ضعيف رواه البيهقي عن رجل عن أبيه عن سراقة قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدنا الخلاء أن يعتمد اليسرى وينصب اليمنى). قال: وهذا الأدب مستحب عند أصحابنا، واحتجوا فيه بما ذكره المصنف، وقد بينا أن الحديث لا يحتج به فيبقى المعنى ويستأنس بالحديث, والله أعلم. المعنى الذي ذكروه قد يكون نتيجة تجربة، والحديث الآن ضعيف قالوا: إنه إذا استند على الرجل اليسرى ومال على الجانب الأيسر صار أسهل لخروج النجاسة، وقد ذكر ابن قدامة -هذا الكلام كما قلنا- أنه أسهل، وكذلك ذكر بعضهم هذه القضية، وعلل ذلك بأن المعدة في الجانب الأيسر فيكون الاتكاء على اليسار أسهل في الخروج وخصوصاً الغائط، لكن على أية حال المسألة كما رأينا ما دام حديثها ضعيفاً فهي على راحة الإنسان، إذا وجد أنه في قضاء الحاجة أكثر راحة له فالحمد لله يفعل ذلك، والمقصود: اتباع ما يسهل عند قضاء الحاجة، أن يكون الخروج سهلاً؛ لأنه أحياناً إذا خرج بتعسف آذى الشخص، وهناك أناس يصابون بآفات عظيمة جراء قضية التعسف عند قضاء الحاجة، وعدم اتباع الوسيلة الميسرة في ذلك، أو الوضع الميسر في ذلك.

              أن يذكر الله قبل أن يدخل الخلاء:
              خامس عشر: من آداب قضاء الحاجة: ذكر الله عز وجل قبل أن يدخل الخلاء، فماذا يقول قبل أن يدخل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: باسم الله).. (وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الكنيف قال: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، وكان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك). فأما بالنسبة للبسملة فقد عرفنا فائدتها، فيأتي بها الإنسان في أي موضع، أو في أي عمل، والسنة أن يأتي بها قبل الشروع في أي عمل، وهنا فائدتها أنها تمنع الجن من النظر إلى عورات الآدميين؛ لأنه لا بد أن يكشف العورة عند قضاء الحاجة. والمراحيض ومواضع النجاسات من الأماكن التي يغشاها الجن، فإذا كانوا يغشون هذه الأماكن والإنسان سوف يدخلها فإنه يحتاج إلى التسمية لكي يستتر منهم: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] وقوله: (أعوذ بك من الخبث والخبائث) لو قلت: الخبْث فإنه مصدر معروف، أما الخُبُث والخبائث فالمقصود: ذكران الشياطين وإناثهم، جمع خبيث وخبيثة: خُبُث وخبائث. فإذاً: الشياطين لهم ذكور وإناث، وقد يكون في هذا المكان من هذا الجنس أو من هذا الجنس، إذن يستعيذوا من شرهم أيضاً؛ لأنهم قد يكون لهم شر بحيث أنهم يغشون هذه الأماكن يخيفون، أو يصرعون، أو يدخلون ونحو ذلك، فقول هذا الدعاء يفيد في معالجتهم أو كف شرهم وأذاهم. وعند الخروج يقول: (غفرانك) ما علاقة (غفرانك) بالخروج؟ قال بعض العلماء: الوجه في سؤال المغفرة أنه جرى منه عليه الصلاة والسلام على عادته إذ كان من دأبه الاستغفار في حركاته وسكناته وتقلباته حتى إنه ليعد له في المجلس الواحد مائة مرة، وإنه لما كان خروج الأخبثين -هذه ملاحظة ذكرها بعضهم- بسبب خطيئة آدم، يعني: عندما كان آدم عليه السلام في الجنة لم تكن هناك نجاسة تخرج فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [الأعراف:22] وصارت هذه المعصية سبب الهبوط إلى الأرض وصار غائط وبول. فيذكر العبد نفسه بهذا الاستغفار ما حدث بسبب الخطيئة، وأن العبد لا يخلو من الخطيئة حينئذٍ، وأن هناك ارتباطاً بين الخطيئة التي حدثت وبين خروج النجاسة من الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحمد لله الذي أذهب عني أذاه وأذاقني لذته) وفي رواية: (وأذهب عني مشقته). ما هو الأذى؟ هذا الذي يخرج من الإنسان، والمشقة الحاصلة بسبب مكثك، فخروج الغائط نعمة تستوجب الشكر، والإنسان يهمل ويقصر فيذكر نفسه بالدعاء والمغفرة: (غفرانك) غفرانك على التقصير، غفرانك من كل شيء، فهو يسأل الله سبحانه وتعالى المغفرة أو يطلب منه المغفرة، وقد تكون هذه الأماكن مدعاة أيضاً للوقوع فيما يحرم من التذكير بأمور السوء ونحو ذلك.

              اتقاء اتجاه الريح:
              سادس عشر: ذكر بعضهم من آداب قضاء الحاجة اتقاء مهابَّ الريح، الأماكن التي لها منفذ يدخل الهواء من موضع ويخرج من موضع مخافة أن يرتد بوله عليه؛ وهذا يعود إلى المسألة المذكورة في قضية عدم الارتداد والرشاش، فإذا كان يريد أن يقضي حاجته في الفضاء -كالصحراء- وأراد أن يبول، إذا كان الهواء قوياً وهو يبول في اتجاه هبوب الهواء سيرجع عليه وعلى ثيابه، فإذا جعل نفسه في الاتجاه المعاكس عند ذلك تذهب النجاسة أو هذا البول مع الريح ولا يرتد عليه، فمن ذكرها أراد مراعاة هذا المعنى.

              أن يلبس حذاءه حتى لا تتنجس رجلاه وألا يطيل في الخلاء:
              سابع عشر من آداب قضاء الحاجة: أن يلبس حذاءه لئلا تتنجس رجلاه؛ وهذا أيضاً معناه واضح. وذكر ابن قدامة -أيضاً- رحمه الله: ولا يطيل المقام أكثر من قدر الحاجة؛ لأن ذلك يضره، وقيل: يورث الباسور، وقيل: يدمي الكبد، وعلى أية حال إذا كان التطويل له أضرار طبية مرجعه إلى الأطباء، لكن هناك علة واضحة: قضية الوسوسة، وقضية إيذاء المنتظرين، وقضية منع ما تسول به نفسه من فعل أي معصية، فالتطويل في المراحيض ليس بمحمود، وكثير من الناس يصابون بالوسوسة من جراء هذا التطويل، فإنه يجلس ويغسل ويغسل ويعيد ويتنحنح ويقفز ويفعل أشياء وحركات عجيبة ويحتشي وليس هذا في الشرع على الإطلاق. إذاً هذا التطويل مفتاح لباب الوسوسة، وفيه إيذاء للمنتظرين وخصوصاً في المراحيض العامة بل حتى في بعض البيوت، وكذلك عدم التطويل فيه قطع للنفس عما يمكن أن توسوس به أو تسول من المعاصي.

              اجتناب ذكر الله:
              ثامن عشر: من آداب قضاء الحاجة: اجتناب ذكر الله في هذا الموضع، ومما يدل عليه حديث الامتناع عن رد السلام المتقدم؛ لأن السلام اسم من أسماء الله، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم رد السلام على الرجل الذي سلم عليه فإنه يكون قد ذكر اسم الله في الخلاء، وهذا يمنع؛ لأن ذكر الله ينزه أن يكون في مواضع النجاسات وأثناء هذه الحال، فلا يذكر الله تعالى إلا بقلبه، وأما أن يذكر بلسانه فلا، وكذلك إذا عطس حمد الله في قلبه، وإذا سلم عليه أحد فلا يرد عليه السلام. إن قال قائل: إذا ذهبت إلى الخلاء في الصحراء، فالمكان الذي سوف أقضي فيه الحاجة هو المكان الذي ستكون فيه النجاسة ...إلخ، إذاً لن أقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، فذكر ابن دقيق العيد رحمه الله في الإحكام : التفريق بين الموضع المعد لقضاء الحاجة وبين الموضع غير المعد لقضاء الحاجة، فقال: إذا كان الموضع معداً لقضاء الحاجة أصلاً فلا يذكر الله فيه، فهذا نهينا عن ذكر الله فيه، وأما إذا كان الموضع ليس معداً لقضاء الحاجة -كالصحراء- فأنت الآن تريد أن تقضي حاجتك، فهل يسمى المكان قبل أن تقضي فيه حاجتك مرحاضاً؟ لا. إذاً لا بأس أن تذكر الله فيه، ثم تنزل لقضاء الحاجة، وبذلك يزول الإشكال، والله أعلم. أما مسألة الكلام في الخلاء: فقد ذهب جمهور العلماء إلى ترك الكلام في الخلاء وعدوه من الآداب. وأورد بعضهم حديث أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك). الحديث هذا رواه أبو داود، لكنه ضعيف، لكن من جهة المعنى: فإن أمور قضاء الحاجة مبنية على الستر، والكلام ينافي الستر، وكذلك أمور قضاء الحاجة أن الإنسان يقضي حاجته ثم يخرج وليس هذا مكان أحاديث، وكذلك فإن الكلام -أيضاً- ربما أدى إلى مسألة الإطالة، ثم إن هذا مكان قذر ومكان تأنف منه النفوس الطيبة، فكيف يجعل مكان حديث واستئناس ومبادلة بالكلام مع غيره؟ لكن لو احتاج كرجل طرق الباب يريد أن يتأكد هل يوجد أحد أم لا، فتنحنح الشخص الذي في داخل دورة المياه فلا بأس. وكذلك قالوا: لو كان كلامه سينقذ أعمى من الوقوع في بئر ... ونحو ذلك للحاجة فلا بأس أن يتكلم في الخلاء للحاجة، أو أراد مثلاً أن يناوله شيئاً من منشفة أو غيرها وهو لا يتمكن من الخروج، أو نفذ الماء أو أي شيء من الأشياء التي لها حاجة، فإذا صار الكلام لحاجة فلا بأس أن يتكلم.

              وضع ما معه من ذكر الله قبل دخوله الخلاء:
              تاسع عشر: من آداب قضاء الحاجة: وضع ما معه من ذكر الله قبل دخوله ما لم يخش عليه، فإذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر لله تعالى استحب له أن يضعه، وأما بالنسبة لحديث أنس : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه). الذي رواه ابن ماجة وأبو داود ، فقد قال أبو داود : هذا حديث منكر، وقيل: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضعه؛ لأن فيه محمداً رسول الله ثلاثة أسطر؛ يعني: محمد في سطر، ورسول في سطر، ولفظ الجلالة (الله) في سطر، وإذا أدار فص الخاتم إلى باطن كفه فلا بأس، قال أحمد رحمه الله: الخاتم إذا كان فيه اسم الله يجعله في باطن كفه ويدخل الخلاء. وقال عكرمة : اقلبه هكذا في باطن كفك واقبض عليه. ورخص فيه ابن المسيب والحسن وابن سيرين ، وقال أحمد في الرجل يدخل الخلاء ومعه الدراهم: أرجو ألا يكون به بأس. لأن اسم من ضرب الدراهم وصك النقود كان لا يخلو من مثل: المستعصم بالله، والمتوكل على الله، وما شابه ذلك، فهو لا يخلو من وجود لفظ الجلالة، فماذا نفعل عند ذلك؟ لو قلنا: ضع المال خارج دورة المياه لسرق، وسرقة النقود أو ضياعها مفسدة كبيرة، فالشرع لا يأمر بأن تضع نقودك إذا كنت تخشى عليها، وكذلك ما مع الإنسان في المحفظة وغيرها مما قد يكون فيه ذكر لله عز وجل من الإثباتات والأوراق فإنه إذا لم يجد مكاناً مأموناً وضعها معه داخل الجيب وهي ليست مفتوحة. وكذلك ورد في أسنى المطالب: ويكره عند قضاء الحاجة حمل المكتوب للقرآن، يقول: قلت: الوجه تحريم اصطحاب المصحف ونحوه من غير الضرورة؛ لأنه يحمله مع الحدث ويعرضه للأذى ولما فيه من عدم توقير القرآن، ويحمل كلامهم على ما لم يحرم على المحدث حمله كالدراهم والخاتم وما تعم به البلوى. إذاً ينتبه الإخوان الذين يحملون المصاحف ألا يدخلوا بها إلى الخلاء، بل يضعوها في خانة. لكن لو أنه نسيه ودخل فتذكر قبل الشروع في قضاء الحاجة فإنه يخرج ويتركه في مكانٍ خارج الخلاء وإذا لم يتذكر إلا بعد شروعه فإنه قطع حاجته فيه أذى وضرر عليه، فلذلك لو أنه أبقاه في جيبه وأسرع بالخروج فليس له مندوحة، أو قد لا يكون له طريقة أخرى فلعله إن شاء الله لا يأثم؛ لأنه لم يكن متعمداً إدخال المصحف، ثم إنه قد يضره أن يقطع حاجته ويخرج.

              تقديم اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج:
              عشرون: من آداب قضاء الحاجة: تقديم اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج، ويرفق ذلك بالأذكار كما تقدم، قال أحمد رحمه الله: يقول إذا دخل الخلاء: أعوذ بالله من الخبث والخبائث، وما دخلت قط المتوضأ ولم أقلها إلا أصابني ما أكره. وسبب إرفاق التسمية بالاستعاذة -باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث- أنه يمتنع الجن عن رؤية العورة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: باسم الله.. وإذا خرج قال: غفرانك) كما تقدم، وفي رواية: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني). وهذا الإذهاب للأذى نعمة من الله عز وجل، ولذلك فإن المصاب بالانقباض وحصر البول يتعذب عذاباً شديداً، ولذلك يقول: الحمد لله؛ لأنها نعمة؛ لأن تيسير خروج الخارج نعمة، ولذلك فإن بعض الناس في المستشفيات تعمل لهم إجراءات صعبة لتيسير خروج البول وما شابه ذلك لأجل عدم القدرة، ولو احتبس في بطنه تضرر ضرراً عظيماً. ولذلك ربما يناسب الذكر أمر من الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمريض وغيره عند الحاجة، وهو البول في القدح أو الإناء، فقد جاء عند أبي داود والنسائي وابن ماجة عن حكيمة بنت أميمة بنت رقيقة ؛ كلها أسماء مصغرة، عن أمها -وهي أميمة بنت رقيقة- قالت : (كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت السرير-وفي رواية: تحت سريره- يبول فيه بالليل). والعيدان قال في شرح الحديث: النخل الطوال المتجردة من السعة من أعلاه إلى أسفله، وجاء أيضاً عند الشيخين: (أنه دعي بالطست ليبول فيها). ولكن هذا وقع في حال المرض. إذاً في حال المرض إذا لم يمكن المريض من الذهاب إلى دورة المياه فقد ورد في الحديث ما يفيد البول في إناء ونحو ذلك، وكذلك ذكروا أنه لو اشتدت الريح ولم يأمن من ارتداد البول عليه بال في إناء -ونحو ذلك- ضيق الفتحة حتى يرميه بعد ذلك. إذاً فإذا دعت الحاجة لا بأس بالبول في الإناء ونحوه. وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي رضي الله عنه، لقد دعا بالطست يبول فيها فانخنس فمات وما أشعر به). حديث صحيح رواه النسائي رحمه الله والترمذي في الشمائل والبخاري ومسلم بمعناه.

              عدم جواز قضاء الحاجة في المقابر:
              حادي وعشرون من الآداب والأحكام المتعلقة بقضاء الحاجة: عدم جواز قضاء الحاجة في المقابر لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق). رواه ابن ماجة ، وصححه الألباني في: إرواء الغليل ، والمقصود بقوله: ( أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق ). أنهما في القبح سيان، سواء قضى الحاجة وسط السوق والناس ينظرون؛ وهي قبيحة جداً أو قضى الحاجة في المقبرة حتى لو لم يره أحد فهما في القبح سيان، وهذا من حرمة الأموات، وبعض الناس إذا مشى ولم يجد مكاناً يقضي فيه حاجته تسور المقبرة وقضى فيها حاجته. فهذه فعلة شنيعة. وقد نبه ابن الحاج رحمه الله في كتاب المدخل على طائفة من الذين يسكنون القبور في مصر ويقضون الحاجات فيها، وأن ذلك إيذاء للأموات فلا يجوز، وقال أيضاً: إن بعض أهل الأموات يبيتون عند الميت بجانب قبره أياماً، يبيتون ليلة وليلتين وثلاثاً قال: وإذا حضرت أحدهم قضى حاجته في المكان؛ فإن من البدع البيات عند القبور، يزعمون أن ذلك إيناس للميت، وهم ما يفعلون إلا الإيذاء والبدعة، الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت انصرف هو وأصحابه ولم يبت عند قبر حمزة ولا عند غيره، ولا يؤنس الإنسان في قبره إلا عمله الصالح.

              أن يقدم قضاء الحاجة على الصلاة:
              ومن الآداب كذلك المتعلقة بقضاء الحاجة: أنه يقدم قضاء الحاجة على الصلاة إذا حضرته حاجته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان). لماذا؟ لأنها تشغل قلبه، ويعجل عن إكمال صلاته، وقد يفقد الطمأنينة فيجمع بين أمرين: العجلة وعدم الإكمال، والشغل عن الإقبال على ربه وعلى صلاته، ولذلك فإنه عليه الصلاة والسلام أمر المسلم إذا أقيمت الصلاة وحضرته حاجته أن يبدأ بقضاء الحاجة ولو فاتت صلاة الجماعة. وقد طبق ذلك عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه، فإنه قد ورد عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عروة : أن عبد الله بن الأرقم كان يؤم أصحابه فحضرت الصلاة يوماً فذهب إلى حاجته ثم رجع، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة). فلأجل أن يتفرغ للصلاة ويخلو بالإقبال عليها أمر بذلك. وينبغي أيضاً: الإشارة إلى أن الحاجة أنواع ومراتب فهناك شيءٌ خفيف لا يشغل عن الصلاة ولا يعجله عنها فإذا حصل ذلك وصلى جازت صلاته، وإن وجد من ذلك ما يشغله ويعجله حتى ولو كان داخل الصلاة فإنه ينصرف سواءً كان إماماً أو مأموماً لكي يتفرغ ولا يصلي بدون خشوع.. فإن لم ينصرف وتمادى في صلاته وبه من الحقن -محتقن ومحصور- ما يعجله ويشغله فقد قال مالك رحمه الله: أحب إليَّ أن يعيد في الوقت وبعده. وقال أبو حنيفة والشافعي : إن فعل فبئس ما صنع ولا إعادة عليه. إذاًَ: لو صلى وهو حاقن فما حكم صلاته؟ الجواب: إذا لم يخل بركن الطمأنينة فصلاته صحيحة مع الكراهة وينقص من أجره لمخالفته للحديث، وأما إذا كانت الحاجة التي حضرته شديدة جداً بحيث صار يستعجل في الصلاة جداً فإنه عند ذلك تبطل صلاته؛ لأنه فقد شرط الطمأنينة، وقد جاء عن مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب قال: [لا يصلين وهو ضامٌ بين وركيه]. وهذه الصلاة المقصود بها الصلاة في حال الحقن الذي يبلغ المصلي أن يضم وركيه من شدة حقنه؛ هذا معنى كلام عمر . الخلاصة: أن ما يجده الإنسان على ثلاثة أضرب: أن يكون خفيفاً؛ فهذا يصلي به ولا يقطع. والثاني: أن يكون ضاماً بين وركيه؛ فهذا يقطع فإن تمادى صحت صلاته ويستحب له الإعادة في الوقت على قول بعض العلماء كـمالك رحمه الله. والثالث: أن يشغله ويعجله عن استيفائها بحيث يفقد الطمأنينة؛ فهذا صلاته باطلة، ويجب عليه أن يقطع وجوباً.

              جواز خروج المعتكف لقضاء الحاجة:
              ومن الأحكام المتعلقة بقضاء الحاجة أيضاً: أنه يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لأجل الحاجة؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يخرج إليَّ رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان).

              عدم التضييق على الناس في أماكن نزولهم:
              ومن الآداب لقضاء الحاجة: عدم التضييق على الناس في مواضع نزولهم، جاء في ذلك قصة عن سهل بن معاذ قال: غزوت مع عبد الله بن عبد الملك بن مروان في ولاية عبد الملك الصائفة؛ والصائفة: كانت اسماً للجيش الذي يخرج في الصيف .. فكان بعض الخلفاء ينظم الصوائف والشواتي، يعني: فرق الجيش التي تخرج في الصيف والشتاء. قال: فنزلنا على حصن سنان فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق. فأكمل القصة في نهيهم عن ذلك، فكل من نزل بموضع فهو أحق به، كما جاء في حديث: (منى مناخ من سبق). ولما نقول: أحق به، يعني: أحق به وبما حوله بحيث يبقى له مربط فرسه، ومكان طبخه، وموضع قضاء حاجته، فلو جاء واحد ونزل مثلاً على البحر هل يجوز للإنسان أن يأتي وينزل بجانبه مباشرة بحيث لا يبقى مكان له لطهيه ولا قضاء حاجته؟ الجواب: هذا إيذاء، ولذلك إذا رأيت ناساً نازلين أو عائلة أو نحو ذلك فلا يأت وتنزل بجانبهم مباشرة. ومعنى: تضييق المنزل الوارد في الحديث: أن ينزل بالقرب من نزول أخيه المسلم فيضيق عليه في المرافق أو الأشياء التي يحتاج إليها في ذلك المكان، ويكون هذا المكان كالحريم؛ والحريم هو: المكان الذي له حرمة حول الشخص إذا نزل، ومعنى: قطعوا الطريق: النزول على الممر على وجه يتأذى به المارة، فبعض الناس -حتى في الحج- ينزل على الطريق فيسده حتى يتأذى المارة، فهناك نزول على الطريق لا يؤذي المارة، وهناك نزول على الطريق يؤذي المارة فإذا كان الطريق واسعاً فقد يكون النزول على جانبه لا يؤذي المارة، لكن إذا كان الطريق ضيقاً فإنه لو نزل على الطريق فإنه يؤذي المارة فلا يجوز ذلك.

              ترك الاستئذان لقضاء الحاجة في البيوت الخربة:
              ومن آداب قضاء الحاجة: عدم وجوب الاستئذان لقضاء الحاجة في البيوت الخربة، وقد تقدم معنا في آداب الاستئذان: أن البيوت منها ما تكون مسكونة -لها ساكن- ومنها ما لا يكون لها ساكن، ومنها الخرابات التي تقضى فيها الحاجات كالبول والغائط، فهذا ليس على الإنسان جناح أن يدخلها دون استئذان، قد يريد الإنسان خارج البلد قضاء حاجة فيأتي إلى مكان مهدم يريد أن يستتر به لقضاء الحاجة، فلا يلزم هناك استئذان حيث أنه لا أحد حتى يستأذنه، وليس هذا مكاناً يجب الاستئذان عند دخوله. وقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ [النور:29] معنى: متاع لكم ليس المقصود بالضرورة أن يكون لك عفش فيها، قال: منفعة لكم بدفع الحر أو البرد أو قضاء الحاجة من بول أو غائط .. كما أورد ذلك صاحب بدائع الصنائع الكاساني الحنفي رحمه الله.

              ترك الوسوسة:
              ومن آداب قضاء الحاجة كذلك كما تقدم: عدم الوسوسة، ويدخل في ذلك إيجاب أشياء لم تجب في الشرع كالاستنجاء من خروج الريح، فإن بعض العامة يعتقد أنه لا بد من الاستنجاء عند خروج الريح، وليس على من نام أو خرجت منه ريح الاستنجاء، وليس في هذا خلاف. قال ابن قدامة رحمه الله في المغني : قال أبو عبد الله : ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، إنما عليه الوضوء. وإيجاب ما لا يجب حرام، وكذلك فإن الريح لا جرم لها يعلق، فلماذا يستنجي؟ تنبيه: أورد بعضهم في آداب قضاء الحاجة: عدم استقبال النيرين: الشمس والقمر، واستدلوا على ذلك بحديث، وهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما كان فيه أنها تلعنه إذا استقبلها -الشمس أو القمر- وهذا ضعيف بل باطل، ولذلك لا حرج في استقبال الشمس أو القمر، فإذا انضاف إلى ذلك ما قاله بعضهم في الكواكب فأين يذهب الإنسان في قضاء الحاجة؟ إذاً القبلة لا استدبار ولا استقبال، والشمس لا، والقمر لا، والكواكب لا. إذاً هذا يحتاج إلى أن يدخل نفقاً أو يخرج من هذه الأرض، فهذا كله من التكلف، ومن الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة أو الموضوعة.

              بلُّ اليد قبل غسل النجاسة:
              ومن آداب قضاء الحاجة: بلُّ اليد قبل غسل النجاسة؛ وهذه ذكروها في الآداب بالتجربة؛ لأنها إذا باشرت النجاسة وهي يابسة تعلقت بها النجاسة وصارت الرائحة في اليد قوية، فإذا غسل يده أولاً ثم غسل النجاسة وقعت النجاسة على شيءٍ مبتل فلا تنتقل إليها الرائحة كانتقالها إلى اليد اليابسة.

              غسل اليدين بعد الاستنجاء بتراب ونحوه:
              وكذلك من الآداب: غسل اليد بعد الاستنجاء بتراب أو رمل أو نحوه مما يقلع الرائحة كالصابون، وإذا كان في البر واستنجى من خروج الغائط مثلاً غسل يده بعد الماء بترابٍ ونحوه.

              تفريج الفخذين عند البول:
              من آداب قضاء الحاجة: التفريج بين الفخذين عند البول، حتى لا يصيب البول عند خروجه الرِجْل.

              الاسترخاء حتى يخرج ما بقي من النجاسة:
              وكذلك من آداب قضاء الحاجة: الاسترخاء قليلاً، والاسترخاء ضد الانكماش والانقباض، قالوا: لأنه أقرب إلى إزالة النجاسة؛ لأن في المحل -يعني: مكان الخروج والمثانة- انقباضات فربما تبقى بقية بعد التبول، فإذا أنهى البول استرخى قليلاً حتى لو بقي شيءٌ فأنه يخرج.

              ستر الرأس وتغطيته:
              ذكروا من آداب قضاء الحاجة: ستر الرأس وتغطيته، وأوردوا في ذلك حديثاً عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: [استحيوا من الله إذا خلوتم، إني لأذهب إلى حاجتي في الخلاء متقنعاً بردائي حياءً من ربي]. فقالوا: إن هذا لأجل كمال الحياء؛ ولأن قضاء الحاجة يكون في ستر ويكون بمكان لا يراه، فمن كمال الأدب أن يفعله ولكن ليس في ذلك وجوب، حتى هذا إن صح عن أبي بكر رضي الله عنه فإنه يحمل على كمال حيائه رضي الله عنه، وقالوا: لأن قضاء الحاجة مبني على الستر والمبالغة فيه، حتى إنه يغطي رأسه ولكن ليس في هذا وجوب.

              عدم البول في الشقوق والجحور:
              ومن آداب قضاء الحاجة التي ذكرها أهل العلم: عدم البول في الشقوق والجحور؛ أما بالنسبة للبول في الشقوق والجحور فإنهم ذكروا له علتين: إحداهما: حتى لا تخرج عليه الهوام فتؤذيه، فقد يكون فيه عقرب أو حية وما شابه ذلك من هوام الأرض التي تدخل في الجحور؛ فإذا بال في الجحر ربما خرج عليه ما يؤذيه. ما هو الفرق بين الجحر والشق أو السرب؟ السرب والشق يكون بالطول والجحر مستدير. والعلة الثانية: أن الجحور قد تكون من بيوت الجن، وذكروا في ذلك قصة: أن سعد بن عبادة رضي الله عنه لما ذهب إلى الشام في آخر عمره، ذهب ليقضي حاجته فبال في جحر فوجد مخضراً ملقىً ميتاً، وسمع قائلاً يقول:
              نحن قتلنا سيد الـ أو سعد بن عباده
              ورميناه بسهميـن فلم نخطي فـؤاده
              ولكن ليس في هذا جزم أن الجحور بيوت الجن، فقد يكون فيها وقد لا يكون فيها، وهذه القصة الله أعلم بثبوتها، ولذلك الإنسان على أية حال لا يتعمد البول في الجحر؛ لأن هناك احتمالاً أن يكون فيه إيذاء لمن فيها بغض النظر عمن فيها. ثانياً: أنه قد يخرج عليه شيء فيؤذيه هو. فإذاً حتى لا يؤذي ولا يؤذى. وقد قال بعضهم كلاماً لطيفاً علل فيه أن الجن يحبون النجاسات، فلماذا لا نبول في الجحر حيث إنهم أصلاً يحبون النجاسات؟ فقال رداً على ذلك: إذا كان الشياطين يحبون النجاسات ويكونون في المراحيض وبيوت الخلاء والحشوش ونحو ذلك، وإذا دخلنا نستعيذ بالله منهم فإنه ليس معنى ذلك أنهم يحبون التلطخ بها، يقول: ألا ترى أنك تحب العسل ولكن لا تحب أن تتلطخ به.

              آداب قضاء الحاجة من كتاب المدخل لابن الحاج:
              وختاماً للموضوع: فقد ذكر ابن الحاج رحمه الله وهو: محمد بن محمد العبدلي المالكي آداب قضاء الحاجة مجموعة في كتابه: المدخل ، جمع فيه نحواً من تسعة وسبعين أدباً، فنحن نمر عليها إن شاء الله، ولكن بعض هذه الآداب قد لا يكون عليها دليل فنتجاوزه. يقول رحمه الله: فصل: في الاستبراء وكيفية النية فيه، يقول: وقد تقدم على أن الأفعال على قسمين: واجب، ومندوب، وقد ذكر علماؤنا رحمة الله عليهم آداب التصرف في ذلك كله، وهي تنوف على سبعين خصلة يحتاج من قام إلى قضاء حاجته أن يتأدب بها، وهي كلها ماشية على قانون الاتباع: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]: الأولى: الإبعاد حتى لا يرى له شخص ولا يسمع له صوت، فإن القصد من الإبعاد ليس فقط ألا يرى، ولكن أيضاً حتى لا يسمع منه صوت عند قضاء الحاجة، من باب الأدب أيضاً. الثانية: الاستعداد قبل الدخول بيسير من الماء والأحجار؛ لأن بعض الناس لا يستعد، ربما يدخل دورة المياه ثم يكتشف أن الماء مقطوع فيتورط، فإذا دخل الخلاء يتأكد هل يوجد فيه ماء، وإن لم يوجد أدخل معه ماءً أو أدخل معه مناديل للاستجمار. الثالثة: أن يقدم الشمال وأن يؤخر اليمين. الرابعة: إذا خرج فليقدم اليمين أولاً ويؤخر الشمال. الخامسة: أن يتعوذ التعوذ الوارد في ذلك عند الدخول، وهو أن يقول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث النجس الرجس من الشيطان الرجيم. السادسة: ألا يستقبل القبلة إذ ذاك. السابعة: ألا يستدبرها إلا في المنازل المبنية، فلا بأس في الاستقبال والاستدبار ما لم يكن في سطح فأجيز وكره، يعني: بعضهم قال: إذا كان المكان مكشوفاً. وقيل: هل هو إكرام للملائكة؟ لكن ما دام أنه ما ثبت فيه شيء فلا داعي لتكليف الإنسان نفسه، وأي فرق بين السطح المكشوف وبين الخلاء والفضاء والصحراء؟ إذا قلنا: لا بد من سطح مكشوف هذا بالنسبة لاستقبال القبلة، يعني: الفرق يظهر بين الصحراء والسطح في قضية الاستقبال، أما في عدم الاستقبال ليس هناك فرق، إذا لم يستقبل سواءً كان في صحراء أو في سطح نفس الشيء، لكن في قضية الاستقبال والاستدبار في البنيان بعضهم كره، يعني: أجاز استقبال جهة الكعبة واستدبارها داخل البنيان، لكن قالوا: ليس في سطح، ثم قالوا: هل هو لأجل القبلة؟ أو لأجل الملائكة؟ الثامنة: ألا يستقبل الشمس والقمر بعورته؛ وهذا ليس بشيء كما تقدم وليس عليه دليل. التاسعة: أن يستتر عند التبرز. العاشرة: أن يتوقى مسالك الطرق. الحادية عشرة: أن يتوقى مهاب الرياح، ونبه إلى نوع من المراحيض كانت موجودة في ذلك الوقت تدخل فيها تيارات الهواء الشديدة جداً بحيث إنه لا يسلم من الرشاش أن يرجع إليه. الثانية عشرة: أن يتوقى ما علا من الأرض؛ لأنه إذا كان في مكان مرتفع كان عرضة لأن يراه الناس. الثالثة عشرة: أن يبالغ في أكثر ما يجد من الأرض انخفاضاً، ومنه سمي الغائط غائطاً، فالغائط في لغة العرب: هو المكان المنخفض من الأرض، فكان أحدهم إذا ذهب إلى قضاء حاجته ذهب للغائط: أي المكان المنخفض من الأرض، ثم كثر استعماله حتى سمي الخارج بالموضع. فقيل: سمي الخارج غائطاً باسم الموضع الذي كان يغشى لأجل قضاء الحاجة والتغوط. الرابعة عشرة: ألا يقعد حتى يلتفت يميناً وشمالاً، وهذا: لأجل أنه قد يكون حوله شيء من الهوام فلا يفاجئ به، فيلتفت يميناً وشمالاً قبل أن يقضي حاجته، فإنه قد يكون هناك شيء يستدعي البعد عن هذا المكان. الخامسة عشرة: ألا يكشف ثوبه حتى يدنو من الأرض. السادسة عشرة: إذا قعد لا يلتفت يميناً وشمالاً. السابعة عشرة: ألا يمس ذكره بيمينه. الثامنة عشرة: ألا ينظر إلى عورته؛ وهذا من باب الأدب، لكن ليس محرماً. التاسعة عشرة: ألا ينظر إلى ما يخرج منه إلا لضرورة لا بد منها؛ وهذا شيء تستقذره النفس وتكرهه، فلماذا يأتي بما تستقذره النفس ويشينها؟! العشرون: أن يغطي رأسه، وقد تقدم الكلام عنه. الحادية والعشرون: ترك الكلام بالكلية ذكراً كان أو غيره، ولا بأس أن يستعيذ عند الارتياع، ويجب الكلام إذا اضطر إلى ذلك في أمر يقع مثل: حريق، أو أعمى يقع، أو دابة ينبه غيره عليها، ومشى بها ذلك. الثانية والعشرون: ألا يسلم على أحد ولا يسلم عليه أحد، فإذا سلم عليه أحد فلا يرد عليه.

              كيفية قضاء الحاجة:
              الثالثة والعشرون وما بعدها: إقامة عرقوب الرجل اليمنى على صدرها وأن يستوطئ اليسرى، وأن يتوكأ على ركبته اليسرى وذكرنا في هذا حديثاً ضعيفاً لكن قالوا: هو أعون على الخروج أن يتكئ على الرجل اليسرى ويرفع اليمنى قليلاً. وذكر بعضهم: من أجل المعدة، وأن المعدة كالإناء، وهو أنك إذا أرقته على جنب صار أسهل، وعلى أية حال: ربما أن بعضكم يرى في بعض البيوت القديمة، أو الحمامات العربية أنهم يجعلون الجزء الأيسر من المقعد أوطأ قليلاً من الأيمن لأجل هذا المعنى، وهذه كما قلنا قضية تجربة وطب، إذا كان ثبت هذا فيفعله الإنسان من باب أنه أيسر له. السادسة والعشرون: يكره البول من موضع عالٍ إلى أسفل خوفاً من الريح أن ترده عليه. السابعة والعشرون: يكره أن يبول في المواضع المنحدرة إذا كان هو من أسفل؛ لأن بوله يرجع عليه. الثامنة والعشرون: البول قائماً المشهور الجواز وتقدم الكلام عليه. التاسعة والعشرون: يبتدئ بغسل قبله قبل دبره، يعني: عند الاستنجاء وإزالة النجاسة يبدأ بالقبل أولاً لئلا يتطاير عليه شيء من النجاسة عند غسل الدبر؛ لأنه قد يحتاج في غسل الدبر إلى تمرير يده فتحتك بمكان خروج البول فتتنجس اليد، فإذا طهر القبل أولاً ثم حرك يده فإنها تمر على مكان نظيف. وعلى أية حال هذا من الآداب. قال: وأما إذا كان البول يتأخر بخروجه، ويخرج على شكل قطرات أخر غسل القبل. الثلاثون: يغسل يده بالتراب مع الماء عند الفراغ فهو أنظف. الحادية والثلاثون: يستجمر وتراً. الثانية والثلاثون: ألا يستنجي في موضع قضاء الحاجة كما قلنا؛ لأنه إذا قضى الحاجة -الغائط مثلاً- ويريد أن يستنجي في مكانه لربما لامس القذر الذي في الأرض، طبعاً هذا في غير المراحيض والكراسي أو مكان قضاء الحاجة، فإن هذا ثابت لا حاجة أصلاً لأن يذهب إلى اليمين أو الشمال، ولكن إذا قضى حاجته في مثل صحراء أو أرض أو فلاة فليذهب عن هذا المكان قليلاً ويغسل.

              سد مكان البول برفق:
              الثالثة والثلاثون: سد مكان خروج البول برفق؛ لأن استعمال الشدة ربما يؤدي إلى سلسل البول، ولذلك ترى بعض الموسوسين يستخدمون وسائل غير مشروعة، مثل: العصر والدلك بشدة والنتر والنحنحة وربما القفز وغير ذلك، والمسألة لا تحتاج إلى هذا، بل سلت برفق إذا خشي أن يكون فيه شيء، وإلا فإنه لا يمسه أصلاً إلا في الغسل باليسرى. الرابعة والثلاثون: تفريج ما بين الفخذين لئلا يتطاير عليه شيء من البول. الخامسة والثلاثون: ألا يعبث بيده. ثم قال: وقراءة الذكر (الحمد لله الذي سوغنيه طيباً وأخرجه عني خبيثاً) وهذا إذا ثبت. أن يجمع بين الأحجار والماء فهو أحسن وأطيب، ويجوز الاقتصار على المناديل وغيرها في الاستجمار ولو كان يوجد ماء، وإذا لم يوجد ماء يجوز الاقتصار على الاستجمار، ويجوز ثلاث مسحات فأكثر بحسب الحاجة وتراً، وإذا كان بالحجارة اختار ثلاثة أحجار، وإذا كان حجراً له ثلاثة أوجه جاز أن يستعمله. قال: إذا أراد أن يستنجي يغسل يده اليسرى قبل أن يباشر النجاسة لئلا تعلق فيها الرائحة. وذكر من الآداب: إذا استنجى بالماء أن يكون الإناء في يده اليمنى ليسكب به الماء ويده اليسرى على المحل يعقبه ويواصل صب الماء. والآن من طبيعة الحال توجد هذه الآلات في المراحيض ودورات المياه فهي بمثابة الإناء الذي يسكب منه. الثانية والأربعون: ألا يتغوط تحت شجرة مثمرة. الثالثة والأربعون: ألا يتغوط في ماء راكد. الرابعة والأربعون: ألا يفعل ذلك على شاطئ النهر، وكما قلنا: على شاطئ البحر والناس يدخلون ويخرجون. الخامسة والأربعون: ألا يفعله تحت ظل حائط، فإن كل هذه من الملاعن. السادسة والأربعون: أن يتجنب البول في كوةٍ من الأرض إذا لاقاها لأجل الإيذاء. السابعة والأربعون: أن يتجنب بيع اليهود. الثامنة والأربعون: أن يتجنب كنائس النصارى سداً للذريعة؛ لئلا يفعلوا ذلك في مساجدنا كما نهينا عن سب الآلهة المدعوة من دون الله لئلا يسبوا الله عز وجل. ونحن نذكر أن أبرهة قام بغزو الكعبة؛ لأن بعض العرب ذهبوا إلى القليس التي بناها في اليمن ولطخوها بالنجاسات فثارت حفيظته.

              كراهية البول في الأواني النفيسة:
              التاسعة والأربعون: يكره البول في الأواني النفيسة للسرف، أما أواني الذهب والفضة فإنه يمنع اتخاذها واستعمالها أصلاً، فكان يوجد بعض الأغنياء أو الملوك وغيرهم الذين يستعملون أواني الذهب والفضة في قضاء الحاجة. الخمسون: يكره البول في مخازن الغلة؛ المخازن التي يخزن فيها القمح والطعام وغير ذلك، قالوا: ولو كانت فارغة؛ لأنه لو أتي بطعام بعده ليوضع في المخزن فربما انتقل إليه شيء من النجاسة الموجودة في الأرض.

              عدم إدخال الإصبع في الدبر :
              الحذر من إدخال الإصبع في الدبر، قال: فإنه من فعل شرار الناس، وهذه مسألة أيضاً من الأدب، ذكرها في قضية درجة البطء في خروج الخارج، قال: فرب شخص يحصل له التنظيف عند انقطاع البول عنه، فبمجرد أن ينقطع ولا يخرج شيء يغسل، وآخر لا يحصل له ذلك إلا بعد أن يقوم ويقعد، يعني: ربما يحتاج شخص آخر إلى الاسترخاء ليخرج، وآخر يحتاج أن يقوم ثم يقعد، إذا قام حضره بول إضافي غير الذي خرج منه فيقعد ليخرج ما بقي، قال: وذلك راجع إلى اختلاف أحوال الناس في أمزجتهم ومآكلهم واختلاف الأزمنة عليهم، فليس الشيخ كالشاب؛ لأنه معروف أن كبير السن يسترخي معه المكان فتكثر عنده الحاجة لدخول دورة المياه عدة مرات، أما الشاب فيكون الموضع عندهم مستمسك، وليس من أكل البطيخ كمن أكل الجبن؛ لأن البطيخ يسبب شيئاً من الإسهال، والجبن يسبب شيئاً من الانقباض أو القبض، وليس الحر كالبرد. المهم أنه ذكر اختلاف المآكل والأجواء، واختلاف أسنان الناس، فهذه كلها أسباب في قضية التأخر أو البطء في الخارج، وبالتالي على الإنسان أن ينتظر حتى يغسل كل شيء فيصلي وهو طاهر. وليس معنى هذا أن الإنسان يقعد في دورة المياه ساعات، فإن بعض الناس عندهم وسوسة عجيبة، كما ذكر ابن القيم رحمه الله حيث قال: وربما قفز درجات السلم، ينـزل على سلم متتابعاً ثم يعود لأجل أن يفرغ ما في جعبته بظنه، وربما احتشى وآذى نفسه، وأدخل أشياء في الداخل، وأنت لست مطالباً في الشريعة بتنظيف ما في الداخل، بل أنت مطالب بتنظيف المخرج فقط، وأصلاً مهما نظفت في الداخل فإن هذا موجود ومستودع داخل الإنسان، فالمطلوب هو تنظيف المخرج فقط، وليس ما بالداخل، فأنت لست مسئولاً عما في الداخل. وبعض الناس يقول: انتظر ربما يخرج شيء، وآفة الموسوسين كلمة: ربما، إني وجدت بالنظر في أحوال الموسوسين أن آفتهم آفة عظيمة فيقول: ربما يمكن خرج شيء، يمكن يخرج شيء بعد قليل، فهذه القضية الدقيقة عند الموسوسين، أنت مكلف بما صار الآن ولست بمكلف بما يمكن أن يحدث، وتعمل لذلك احتياطات وتضيع الأوقات والجماعات والصلاة، وصرح بعضهم أنه يضيع الصلاة عن وقتها كله من بعد الظهر إلى العصر؛ وهذه من المصائب العظيمة، نسأل الله العافية؛ لأن قضية الوسوسة مرض خطير جداً. فالإنسان مكلف بما يخرج، وليس بما يمكن.. احتمال.. شعرت.. إني أشعر. ثم أيضاً: لو أن الإنسان يخرج منه البول متتابعاً ولا يستطيع التحكم في خروجه، فما هو الحكم؟ أنه يغسل ويتوضأ ويخرج وليس بمكلف بما خرج منه بعد ذلك، يتوضأ بعد دخول الوقت ويصلي، وإن وضع شيئاً كمناديل مثلاً أو شيئاً لئلا تنتشر النجاسة فقط. ولو كان يخرج متتابعاً فإنه يخرج ولا يتحكم به إطلاقاً.

              عدم كشف العورة أمام الناس:
              قال: إذا قام للاستبراء فلا يخرج بين الناس ويمسك عورته بيده فإن ذلك تشويه ومثلة، قال: ويكره له أن يشتغل بغير ما هو فيه لئلا يتأخر خروج الحدث، والمقصود: الإسراع في الخروج من ذلك المحل بذلك وردت السنة. بعض الناس يطيلون في الحمامات، والآن المراحيض تبنى في البيوت واسعة وعلى أنوار يعني: أصبح مجلساً في الحقيقة، ولذلك بعضهم في قضاء الحاجة يقرءون الجرائد، يجلس على كرسي الحمام يقرأ الجرائد، مع أنه مكان حضور الشياطين ومكان النجاسات، وينبغي على الإنسان أن يخرج منه بأسرع وقت وليس أن يجعله متكأً ومقيلاً ومكاناً للكيف والراحة والاسترخاء والاستمتاع. والآن الحضارة المدنية الحديثة حولت الحمامات إلى أماكن متعة، مع أنها أماكن حضور الشياطين، فيجب أن ينفر الإنسان المسلم من المكث فيها، فيقضي حاجته ويخرج. قال الإمام أبو عبد الله القرشي رحمه الله: إذا أراد الله بعبد خيراً يسر له الطهارة. هذه -حقيقة- عبارة بليغة، أما إذا أريد به شراً فإن الطهارة تتعقد عنده وتصبح إجراءات صعبة وطويلة حتى تصبح عذاباً، فإن الموسوس يعذب نفسه.

              ألا يستجمر بحائط المسجد ولا في حائط مملوك:
              السابعة والخمسون: لا يستجمر بحائط المسجد لحرمته، ولا في حائط مملوك لغيره؛ لأنه تصرف في ملك الغير، وحتى قال: لا يفعل في حائط نفسه، يعني: الحيطان المبنية من اللبن والطين ومن غيره. أولاً: إذا كان في مسجد أو كان في ملك الغير فلا يجوز، ولو كان له هو فربما نزل عليه المطر أو الماء وصار تحته نجاسة، قالوا: ربما كان في الحائط حيوان فيتأذى به وقد رأيت عياناً -هذا يقوله ابن الحاج رحمه الله- بعض الناس استجمر في حائط فلسعته عقرب على رأس ذكره، ورأى من ذلك شدة عظيمة.

              ألا يستجمر بفحم ونحوه:
              التاسعة والخمسون: لا يستجمر بفحم لأنه يلوث المحل، ولا بعظم لأنه لا ينقي، ويتعلق به حظ الغير، ما هو حظ الغير في العظم؟ زاد إخواننا المؤمنين الجن. ولا بزجاج لأنه لا ينقي وهو مؤذٍ، ولا بروث لأنه لا يثبت عند الدعك ويتفتت، وهو زاد لدواب مؤمني الجن كما ورد في الحديث، وعظم الذبيحة التي ذكر اسم الله عليها زاد لمؤمني الجن، ينقلب في أيديهم لحماً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

              ألا يستجمر بمائع:
              قال: ولا يستجمر بمائع لأنه يلطخ المحل ويزيده تلويثاً، ولا يستجمر بطعام لحرمته ولا بذهب أو فضة أو زبرجد أو ياقوت لإضاعة المال، ولا بثوب حرير ولا بثوب رفيع يعني: عالي القيمة من غير الحرير؛ لأن ذلك كله سرف، ويستجمر بما عدا ما ذكر، وقد حد علماؤنا رحمة الله عليهم لهذا حداً يجمع كل ما تقدم من آلات الاستجمار ينبغي الاعتناء به، أي: بهذا الضابط، فقالوا: يجوز الاستجمار بكل جامد طاهر منقٍ خلاعٍ للأثر غير مؤذٍ ليس بذي حرمة ولا سرف ولا يتعلق به حق الغير. وهو ضابط جيد.

              الاعتبار بما يخرج منه وكيف كان يأكله طيباً:
              وأخيراً: التفكر والاعتبار في قضاء الحاجة بخروج عملية النجاسة، وقد ذكر في ذلك كلاماً نفيساً جداً، قال رحمه الله: وينبغي له إذا خرج منه خارجٌ أن يعتبر إذ ذاك في الخارج وفي نتنه وقذره فإن نفسه تعاف منه، ويعلم ويتحقق أنه لا بد أن يرجع هو نفسه كذلك، سواء بسواء. كيف يرجع ويتحول الإنسان هو نفسه إلى مخلفات وخارج؟ يكون ذلك إذا أكلته الديدان ورمته من جوفها قذراً منتناً، ويعلم أن ثم قوماً لا ينتنون في قبورهم ولا تتعدى عليهم الأرض ولا يتغيرون؛ وهم الأنبياء، وكذلك أولياء الله والعلماء والشهداء قد يكون لهم شيء من هذه الميزة، وقد تحفظ قصة عن شخص لم يتغير مثلما حصل لوالد جابر، حيث إنه دفن وبعد سنين حفروا قبره فضربت المسحاة أذنه فنفر الدم منها. إذاً: بعض العلماء والأولياء والشهداء قد يحصل لهم من الكرامات ألا تتغير أجسادهم بعد الدفن، ولا تأكله الديدان. قال: فيتفكر في هذا وتكون همته سامية لبلوغ هذه المراتب، قال: وذلك تنبيه من الله سبحانه وتعالى لنا حتى يعلم كل واحد منا ما هو صائر إليه وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة:269] فمن كان له لبٌّ نظر إلى أوله فوجده نطفة، ونظر إلى آخره فوجد أنه تأكله الديدان وترميه، وإلى وسطه -يعني: أوله الحياة وآخره الموت- يجد ما يراه في كل يوم مما يحمل ويخرج منه: يعني: هو حامل النجاسة في بطنه، أوله نطفة وآخره الديدان حيث يصير إليها وتتخلص منه قذراً، وبين ذلك يكون حاملاً للنجاسة وتكون في جوفه. قال: أي نفس تشمخ وتتكبر -وهي بهذه الحال- فهذا الاعتبار. وكذلك ينبغي في قضاء الحاجة: أن يتفكر في الطعام الذي أكله حيث كان طيب المذاق، شهياً للنفوس لا يشترى إلا بالمال بعد التعب، فليتفكر ما يصير إليه هذا المال، وقد سلبت طهارته، وذهب عزه، وصار منتناً قذراً يتحامى عنه، لماذا؟ لأنه اختلط بنا، الطعام لما اختلط بنا أنتن وصار نجساً وقذراً، فنقل عن ابن عطية رحمه الله في التفسير حين تكلم عن قول الله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] ذهب أبي بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد إلى أن المراد إذا صار رجيعاً، فليتفكر الإنسان ويعتبر أن الطعام يتحول إلى ماذا؟ وهكذا عاقبة الدنيا، وقد جاء في الحديث الصحيح: أن الإنسان يعتبر بالدنيا: (إنما ضرب طعام ابن آدم مثلاً للدنيا، فلينظر إليه إن قزحه وملحه فلينظر إلى ما يصير) وأشهى طعام يكون في النهاية جيفة. هكذا الدنيا. قال: ثم إنه لم نجد هذا الطعام وحده؛ الطعام إذا خالطنا صار بعد ذلك قاذورات، بل كل ما نباشره إن لبسنا ثوباً جديداً فعن قليل يتوسخ وعن قليل يتمزق، وإن مسسنا طيباً فعن قليل تذهب رائحته، وهكذا.. قال: فالمؤمن يعتبر ويأخذ نفسه بالأدب من وجهين: أولاً: الهرب من خلطة من لا ينفعه في دينه؛ لأنه يخاف على نفسه من آثار هذه الخلطة، يقول: الطعام لما اختلط بنا ولامسنا ودخل فينا ماذا صار؟ وكذلك لو خالط قرين السوء الذي يكذب في دينه فيكون أوسخ من هذا. ثانياً: أن يكون إذا خالطه أحد من إخوانه المسلمين ممن ينتفع به في دينه أو ينفعه فليحذر من أن يغير أحداً منهم بسبب خلطته، يعني: يحذر هو أن يتغير من قرين السوء، ويحذر أن يغير غيره، فهذان وجهان عظيمان. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الأدب والفقه وحسن الخاتمة، وصلى الله على نبينا.


              تعليق


              • #22
                محاضرة( أسباب الزيادة في الرزق )للشيخ محمد المنجد

                محاضرة( أسباب الزيادة في الرزق )للشيخ محمد المنجد
                عناصر الموضوع :
                1. أسباب الزيادة في الرزق
                2. أسباب غير شرعية لزيادة الرزق
                أسباب الزيادة في الرزق:
                إن لزيادة الرزق أسباباً شرعية وغير شرعية، فمن الأسباب الشرعية: الاستغفار والتوبة، وتقوى الله تعالى، والتفرغ لعبادته، والتوكل، والمتابعة بين الحج والعمرة، وصلة الرحم، وكذلك الإنفاق في سبيل الله والهجرة .. هذا ما تحدث عنه الشيخ، وذكر أنه لابد أن يأخذ الإنسان بهذه الأسباب حتى يرزقه الله تعالى، وذكر أسباباً غير شرعية؛ كالسرقة والرشوة، والربا وغيرها، وبين أن على الإنسان أن يحتنبها ويحذر منها.
                أسباب الزيادة في الرزق:
                إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] . أما بعــد: فيا عباد الله: إن الله تعالى أمرنا بالضرب في الأرض لطلب المعاش والرزق، وللرزق أسباب شرعية جاءت في الكتاب والسنة، ولعلنا نعرض لها في هذه الخطبة، إضافةً لما تقدم من خطبة ماضية حول هذا الموضوع، وهذا العرض نافع لكل من لم يجد عملاً أو وظيفة، ونافع لكل من ركبته ديون لا يستطيع أداءها، ونافع لكل من لم يحصل على حقه فهو ينتظره على أحر من الجمر، ونافع كذلك لمن لا يكفيه راتبه، ولا يكفيه دخله من كثرة المصروفات وأبوابها المفتوحة عليه. وبالجملة: فإن موضوع المال والاقتصاد من الموضوعات الحساسة، ولذلك جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية ذكر كبير لما يتعلق بهذه القضية؛ لأنها قيام الناس قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5] فشأنكم وحياتكم يقوم بالمال. ولذلك فإن هذه المسألة كان لها مساحة لا بأس بها في القرآن والسنة، يحتاج إليها المسلم. ونقول هذا الكلام -أيضاً- في وقت رجع فيه كثير من الناس من الإجازات، وقد أنفقوا كل ما ادخروه في السنة الماضية، وصار بعضهم في شيء من الضيق.
                الاستغفار والتوبة:
                أيها المسلمون: اعلموا -رحمكم الله تعالى- أن من الأسباب العظيمة للرزق الشرعي: الاستغفار والتوبة .. (أستغفر الله وأتوب إليه). الاستغفار والتوبة من الأمور العظيمة التي جاء في القرآن والسنة ذكرها، قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12] . وكثير من الناس اليوم يستغفرون باللسان؛ لكن لا حقيقة للاستغفار في قلوبهم، وإذا تابوا فتوبتهم ناقصة، فبعضهم لا يقلع عن الذنب أصلاً، وبعضهم إذا أقلع فإنه لا يندم على ما فات، بل ربما تمنى أن يحصل له الذنب مرةً أخرى، وأما العزم على عدم العودة فغير حاصل؛ وذلك لأنه لعله يترقب أن يحصل له من الفرص ما يعود به إلى الذنب؛ لأن الاستغفار ليس من القلب، ولأن التوبة ليست صادقة، فكثير من الناس يُضَيَّق عليهم في معاشهم، وليس كلهم؛ فإن بعض الناس يملي الله لهم ليزدادوا إثماً. والله تعالى لما قال عن نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً [نوح:10-11] قال العلماء رحمهم الله: أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كَثُر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدرَّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها. فإذاً: قضية الاستغفار والتوبة مسألة عظيمة. جاء رجل إلى الحسن البصري يشكو الجدب والقحط، فقال له: استغفر الله. ثم جاءه آخر يشكو إليه الفقر، فقال له: استغفر الله. ثم جاء ثالث يقول: ادعُ الله أن يرزقني ولداًَ، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه رابع جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك .. وفي رواية: فقال له الربيع بن صبيح : أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله يقول في سورة نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]. عباد الله: إن الذي يكثر من الاستغفار؛ فإن الله يفرج همه، وينفس كربه، ويرزقه من حيث لا يحتسب، مصداقاً لما في كتاب الله تعالى.
                التقوى:
                والعامل الثاني من عوامل الرزق الشرعي: التقوى .. وقد عرفها العلماء بقولهم: امتثال أمر الله ونهيه، والوقاية من سخطه وعذابه سبحانه وتعالى. ولذلك فإن الذي يصون نفسه عن المعاصي متقٍ لله، والذي يقوم بالواجبات متقٍ لله، والدليل على ارتباط التقوى بالرزق قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] . وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ [الطلاق:2] فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3] أي: من جهة لا تخطر بباله. وهذا له قصص كثيرة، وشواهد في الواقع؛ لكن أين المتقون؟! إن الذين يفعلون المعاصي ويرتكبون المنهيات كثير .. ينظرون إلى ما حرم الله، ويستمعون إلى ما حرم الله، ويمشون إلى ما حرم الله، ثم يقولون: لا نجد رزقاً، لا نجد عملاً، لا نجد وظيفة! نقول: اتقوا الله يجعل لكم مخرجاً، فقد قال ربنا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96] . بركات من السماء، أي: المطر، وبركات الأرض، أي: النبات والثمار، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة؛ لأن السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ويحصل لهذا المخلوق على الأرض وتحت السماء من الرزق -إذا ما اتقى الله- ما الله به عليم. عباد الله: إن تطبيق الشريعة وسيلة عظيمة لحصول الرزق للناس، ودليله قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ [المائدة:66] أقاموا الشيء المنزل من السماء، أقاموه وطبقوه وحكَّموه لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66] هذه الآية السادسة والستون من سورة المائدة، وهكذا يكون تطبيق الشرع عاملاً من عوامل الرخاء، وسعة الرزق، ووجود البحبوحة للخلق.
                التوكل على الله:
                وأما النقطة الثالثة: فهي التوكل على الله سبحانه وتعالى .. والتوكل تفويض الأمر إلى الله، والاعتماد على الله وحده، وعدم التعلق بالعباد؛ لأن الله قال: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17] وهذه أبلغ من قوله: (فابتغوا الرزق عند الله)، أي: عنده لا عند غيره، التمسوه منه لا من غيره. التوكل على الله أن تفرغ قلبك من التعلق بالخلق، وتُوكل أمرك لله، وترجو الفرج من الله، وتنتظر الرزق مع بذل الأسباب والأخذ بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) . (تغدو) أي: تذهب في أول النهار. (خماصاً) أي: جياعاً. (وتروح) أي: ترجع في آخر النهار. (بطاناً) جمع بطين، وهو عظيم البطن، والمراد: شباعاً. هؤلاء خَلْق الله؛ الطير في السماء تتوكل على الله أكثر بكثير من البشر .. (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير) وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] فالله يكفيه، ويقضي دينه، ويسد جوعته. ولا شك أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله، بل إنه داخل في التوكل على الله، ومن صلب التوكل أن تأخذ بالأسباب، وإلا صار التوكل لغواً. سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) يعني: الجهاد، وكم يحتاج إلى إعداد! وتجميع الطاقات! وبذل الأسباب! والتوقيت المناسب! وخداع العدو! وأخذه على حين غرة! ونحو ذلك الأمور الحربية! (وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي) فإذا كان الرزق تحت ظل الرمح، وكان الجهاد في سبيل الله باباً عظيماً للرزق؛ لأن الله قال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً [الأنفال:69] أي: غنمتم من المعارك مع الكفار، خذوه حلالاً طيباً، ولا شك أن الجهاد يحتاج إلى بذل أسباب، والرزق تحت ظل الرمح؛ إذاً: لابد من بذل الأسباب. وقال الإمام أحمد رحمه الله تكملةً للجواب عن السؤال: فقد قال -أي: النبي صلى الله عليه وسلم-: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق. فتأملْ فقه الإمام رحمه الله .. الطير تتوكل على الله؛ لكن هل تقعد في أعشاشها، أو أنها تغدو وتروح، تذهب في الصباح للبحث عن الرزق، وتعود محملةً بالطعام لأولادها في أعشاشها؟ كَدٌّ وسعي وذهاب في طلب الرزق، فلم يقل: توكلوا فقط، بل قال: (اعقلها وتوكل) . وهذه المسألة مسألة الأخذ بالأسباب باب يغرق فيه كثير من الناس، فبعضهم يجعل كل شيء الأخذ بالأسباب، ولا يتوكل على الله، وقلبه غير معلق بالله، وإنما معلق بالواسطة الفلانية، والموظف الفلاني، والصديق الفلاني، والأوراق التي قدمها، والإعلانات، وترقب النتائج من الشركة، ونحو ذلك، لكن لا يترقب شيئاً من الله، وبعض الناس مضيع للأسباب لا يبذل شيئاً. أحدثكم عن قصة حدثت مع شخص جاء إليَّ، شاب يقول: إنني أحتاج إلى إيجار الشقة التي استأجرتها للسكنى، وأحتاج إلى قرض لكي أسكن وأدفع الإيجار، فاعتذرتُ إليه بأن إقراضه غير متيسر الآن، والناس كان أكثرهم مسافرين، فذهب هذا الشخص يسعى في طلب الرزق، فبدأ بهذه المطاعم الموجودة يلف عليها، ويقول: ما حاجتكم من الخضراوات والفواكه واللحوم؟ وبدأ يسجل هذه الاحتياجات ويقولون: قدم لنا تسعيرة. ثم ذهب إلى سوق الخضار المركزي يسجل ويدون الأسعار، ثم قدم تسعيرته إلى بعض المطاعم، واكتفى بربح معقول، فبدأ هذا المطعم يأخذ منه، وهذا المطعم يأخذ منه، والثالث يأخذ منه، وهكذا، حتى دفع إيجار بيته بالكامل. إذاً: يمكن للإنسان إذا تحرك وفكر أن يحصل على الرزق، ولستُ أقول: اذهبوا إلى المطاعم الآن كلكم، وإنما المقصود -أيها الإخوة- ضرب المثل، قد يوجد في البقالات مستلزمات تحتاج إلى شراء من تجار الجملة ونحو ذلك، فالمقصود تحريك الذهن لمن لم يجد وظيفة أن يسعى في العمل، ولو كان عنده وظيفة، يسعى في العمل، والله يرزقه لو أحسن التوكل على الله .. وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]
                التفرغ لعبادة الله تعالى:
                وكذلك من الأسباب العظيمة للرزق: التفرغ لعبادة الله تعالى .. ومعنى التفرغ لعبادة الله: أن يكون العبد حاضر القلب عند العبادة، هذا هو المقصود بالتفرغ لعبادة الله؛ لأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: (يا بن آدم: تفرغ لعبادتي؛ أملأ صدرك غِنَىً، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يدك شغلاً، ولم أسد فقرك) حديث صحيح. فبعض الناس عندهم أشغال؛ لكن فقرهم لم يُسَد، الله ملأ أيديهم بالأشغال والمقاولات والأعمال؛ لكن لا يوجد بركة ولا فائدة، خسارات متوالية، ولا يجدون الكفاية. وقال الله تعالى في الحديث القدسي في اللفظ الآخر: (يا بن آدم: تفرغ لعبادتي؛ أملأ قلبك غِنَىً، وأملأ يديك رزقاً، يا بن آدم: لا تباعدني؛ فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً) فيشغله بنفسه، ويكثر عليه الأشغال والأعمال؛ لكن الفقر لا زال موجوداً، وهو تحت الصفر، والحساب بالناقص، وهكذا ...
                المتابعة بين الحج والعمرة:
                ومن أسباب الرزق -يا عباد الله- المتابعة بين الحج والعمرة .. ومعنى المتابعة بين الحج والعمرة: أن يجعل أحدهما تابعاًَ للآخر، واقعاً عقبه، أي: إذا حج يعتمر، وإذا اعتمر يحج، وهكذا ... والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة -أي: الأشياء الرديئة والشوائب- وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) فتأمل أنه جعل المتابعة بين الحج والعمرة، نافية للفقر والذنوب، مذهبة لهما.
                صلة الرحم:
                ومن أسباب الرزق الشرعية: صلة الرحم .. والرحم هم أقرباء الرجل من جهة أبيه وأمه، سواءً كانوا يرثونه أو لا يرثونه، وهذا الكلام مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن سرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، وأن يُنْسأ له في أثره؛ فليصل رحمه) . وقال صلى الله عليه وسلم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، مَنسأة في العمر) يعني: تطيل عمر الإنسان. فهذه صلة الرحم بما فيها من هذا الفضل العظيم، حتى لو كان الإنسان فاسقاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، حتى إن أهل البيت لَيَكونوا فَجَرَة -مقيمين على مَعاصٍ- فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا) رواه ابن حبان وهو حديث صحيح. فإذاًَ: عليك بصلة الرحم، تصل الأقارب وتزورهم، تعين محتاجهم، تهديهم، وتعودهم، وجميع أنواع الصلات سبب لمجيء الرزق إليك، ولو كانوا على البُعد، فلن يخلو الأمر من وسيلة للصلة.
                الإنفاق في سبيل الله، والنفقة على طلاب العلم:
                سابعاً: الإنفاق في سبيل الله .. قال تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم أَنفق أُنفق عليك) رواه مسلم رحمه الله تعالى، فهذا وعد الله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122] ومن أصدق من الله وعداً. والملَك يدعو ويقول: (اللهم أعطِ منفقاً خلفاً) والنبي عليه الصلاة والسلام يوصي بلالاً ويقول: (أنفق يا بلال ، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً) قال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268] يقول: لو أنفقتَ نقص مالك، أنت محتاج إليه، قدم نفسك على الناس، أولادك أحوج، والله يقول: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39] .. ( أَنفق أُنفق عليك ) . ومن الأسباب كذلك: الإنفاق وإعاشة عباد الله المتقين من طلاب العلم .. والدليل على هذا الكلام: ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يحترف -واحد متفرغ للعلم، وواحد متفرغ للتجارة- فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! لا يبذل شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك تُرْزَق به) لعل السبب في رزقك هو إنفاقك عليه، رواه الترمذي رحمه الله تعالى، وهو حديث صحيح.
                الهجرة:
                أيها المسلمون: هذه بعض الأسباب الجالبة للرزق؛ فإذا ضاقت الدنيا بالإنسان في بقعة من البقاع فمن أسباب طلب الرزق: الهجرة .. قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً [النساء:100] سعة في الرزق، وإرغاماً لمن أخرجوه، ولذلك لما هاجر المهاجرون في سبيل الله، وتركوا وطنهم لله، فَتَحَ الله عليهم الدنيا، وجاءت الغنائم، وتَبِعَتْ غنائمَ المشركين غنائمُ كسرى وقيصر، جاءت إلى المهاجرين، فوسَّع الله عليهم توسعة عظيمة، ومشكلة الناس أنهم يستعجلون النتيجة، يقولون: تُبْنا اليوم فما جاءنا الرزق بسرغة، هاجرنا اليوم فما حصل شيء بسرعة، ولكن المسألة تحتاج إلى مصابرة وتحتاج إلى استمرار، فإن نتائج كثير من الأعمال لا تُرى فوراً. نسأل الله تعالى أن يمد في أعمارنا في طاعته، وأن يوسع في أرزاقنا ويجعلها عوناً لنا على طاعته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
                أسباب غير شرعية لزيادة الرزق:
                الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. أشهد أن لا إله إلا هو الرزاق وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6] كتب الرزق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب رزق كل مولود قبل أن يولد -سبحانه وتعالى- وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: هذه بعض الأسباب الشرعية لطلب الرزق، فهل هناك أسباب غير شرعية لطلب الرزق؟ الجواب: نعم، وهي كثيرة جداً، وإن البلاء في هذا الزمان أن يجد العبد أبواباً للحرام كثيرة، ولا يجد أبواب الحلال إلا قليلة، ولكن: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2] . فأبواب كسب الرزق بالحرام متعددة: كالسرقة، والرشوة، والشفاعة مقابل المال .. أنقلك من مكانك إلى مكان وتدفع لي خمسة آلاف .. أبحث لك عن عمل .. أشفع لك لتأخذ الوظيفة، وأنقل لك زوجتك من مدرسة إلى مدرسة، وأساعد في توظيف زوجتك بعد تخرجها من الكلية بالمال، والشاهد أخذ المقابل على الشفاعة، وقد جاء النهي عن ذلك، فأما من يقوم بالعمل، ويطالب وراء المعاملة، ويذهب ويجيء؛ فهذا يأخذ أجرة تعبه دون تَعَدٍّ على غيره، فإن كثيراً من الذين يشتغلون في هذه الأعمال يتعدون على دَور غيرهم، ويظلمون الناس. ومن الناس من يتعامل بالربا، ويستلف بالربا؛ ليقيم مشروعاً بالربا، ثم يأخذ بعض العوائد ليسدد الربا، ويجادلون بالباطل ويقولون: استفدنا واستفاد البلد، ونقول: إنما هو دمار وخراب ونزع للبركة، ولو كثرت الأرقام فإنه كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قُلٍ) سيكون قليلاً. وهكذا يفعل كثير من الناس في أنوع من المحرمات والشبهات، ثم يجادلون بالباطل، صار الربا شيئاً مسَلَّماً من المسلمات الشرعية، صار يُناقش ويقول: أقنعني، ويعطون الرُّشا لمندوبي المبيعات، ومندوب المبيعات لا يشتري من الدكان إلا برشوة محسوبة داخل الفاتورة أو خارج الفاتورة، علماً أن له راتباً يأخذه من الشركة التي يعمل فيها، وتجده قد يعطى مبلغاً زهيداً إذا كان من هذه العمالة الآسيوية أو غيرها، ويعطى غيره مبلغاً أكبر، وهكذا، والجامع واحد؛ إعطاء الرشوة، إفساد الذمم، وتخريب العمال على مَن وظفهم، وأصحاب شركاتهم، وصارت هناك دخول أخرى، هناك بعض الناس لهم دخول أخرى، دخلهم الوظيفي ليس بشيء بجانب هذا، وأكثرها من الحرام، ومن تأمل عرف وشاهد بأم عينيه. ومنهم من يسعى لجذب الزبائن باستخدام الميسر وجوائز السحب، وما أكثرها! ويعملون المسابقات التي لا تَمُتُّ لا إلى جهاد ولا إلى علم شرعي، ويعطون عليها الجوائز لجذب الناس، وإيغار صدور الباعة الآخرين عليهم، والتغرير بالمشترين، وهذه أشياء كثيرة. وقد تكلمنا في خطبة ماضية عن الدولار الصاروخي، الذي يتعامل به الآن عددٌ من الناس، ويوزعون قسائمه، ويبيعونها، ويرسلون المبالغ بالشيكات إلى الكفار يا عباد الله! ويُضْحَك عليهم بإرسال أربع قسائم ليبيعوها، ويقول: رجع إلي مالي، ومسكت الدور لعلها تأتيني الفرصة والكسب العظيم، وقد سبق بيان أن ذلك حرام، وفتوى أهل العلم في المسألة في هذا الدولار الصاروخي الذي يقولون فيه: استرخِ وأَصْبِح غنياً، ووصف للنجاح بواسطة هذه الوصفة، تستطيع أن تربح رأس المال بدون التزامات مالية مقابل دفع كذا على القسائم، تغريرٌ بالناس، وأكل أموالهم بالباطل، وقد أفتى علماؤنا أنه ميسر داخل في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] ثم بعد ذلك إذا بيعت هذه القسائم، وتطورت الأمور، سيجد عددٌ كثير من الأغبياء عندهم قسائم، ولا يجدون من يبيعونها عليه؛ لان أكثر الناس قد اشتروا القسائم ولا يوجد من يباع عليه، وهذه القاعدة الهرمية السفلى هم الأغبياء والمغفلون، والذين باعوا عليهم هم آكلو الحرام، الواقعون في الميسر، المُعِيْنُون للكفرة، المُرَوِّجُون للباطل. فالناس بين ذكي يستخدم ذكاءه في الشر، وبين غبي تنطلي عليه الخدع بسبب جهله وعدم استفتائه وعدم سؤاله، فهو واقع فيه، ومع التحذير الذي ذكرناه سابقاً والفتوى التي أشرنا إليها من أهل العلم؛ فلا زال الناس يتعاملون، وتنتشر هذه الأوراق سعياً في طلب رزق يكون وهمياً بالنسبة لأكثر من (99%) من الذين يشترون هذه القسائم، ويبقى بعض المحظوظين بزعمهم الذين ينالهم شيء. فابتعدوا -يا عباد الله- رحمكم الله عن أبواب الرزق المحرم، ابتعدوا عن الشبهات، اتقوا الله وخلِّصوا أموالكم من الحرام. نسأل الله تعالى أن يطيب مكاسبنا، وأن يجعل رزقنا حلالاً. اللهم اقضِ ديوننا، وسُد جوعتنا.اللهم اكفنا مد الأيدي للناس، واجعلنا غير محتاجين إلى أحد من خلقك. اللهم اجعلنا عليك متوكلين، وإليك منيبين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين. والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.


                تعليق


                • #23
                  رد: سلسلة الاداب الشرعية للشيخ محمد المنجد

                  جزاكم الله خيرا

                  اسئلكم الدعاء ﻻخي بالشفاء العاجل وان يمده الله بالصحة والعمر الطويل والعمل الصالح

                  تعليق


                  • #24
                    رد: سلسلة الاداب الشرعية للشيخ محمد المنجد

                    جزاكِ الله خيرا
                    ونفع الله بكِ
                    أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ

                    تعليق

                    يعمل...
                    X