إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

وكبر الولد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [منقول] وكبر الولد



    وكبر الولد




    أخذَتْني الفرحة، وهتفتُ: الآن كبِر ولدي، يا لسعادتي! يستطيع الآن أن يستقلَّ في تناول طعامه، والعناية بنظافته ووضوئه، وحتى ارتداء ملابسه، وسيره في الشارع، ثم تسارعت الأيام، ولَكَم كانت فرحتي تنمو وتتعاظم كلما رأيتُه يتمكَّن مِن عملٍ مستقلًّا بنفسه.

    أخيرًا اخضرَّ زرعي وأَورق، وأوشك أن ينتج ويُثمِر، إنها فرحة لا يشعر بها إلا مَن عاين وجرَّب، فمَن ذاقها عرَفها، هي نعمة لا بد مِن شكرها، "فالحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات".

    مرَّت الأيام وأنا أرى ملامح الرجولة تخطُّ لها طريقًا في وجه ولدي، وسماتُ جسده تزيح ضعفَ الطفولة وسذاجتَها، وتكتسي بقوى الرجولة وخشونتها، أحسستُ بقوةٍ تسري في دمائي فعلًا، الآن كبِر الولد!

    ولأنه ولدي الوحيد؛ يعني تجربتي الأولى، وما زلتُ غرةً، شعرتُ وقتها أن كثيرًا من مشاكلي سوف تحل، سيصبح الولد عونًا بعد أن كان حملًا، فكم عاقني - وهو طفل - عن قراءتي ودروسي، وكم أسهرني وأضجرني لبُعْدي عن طموحي، فبعض الوقت ضاع في اللعب، والبعض ضاع في المرض، والبعض ضاع في لبس الولد، وطعام الولد، وصياحه وضجره، فضلًا عن أعمالي الرتيبة كامرأةٍ، وكل هذا لولا الاحتساب لدخل الملل عليَّ مِن كل باب، والآن قارب الحُلم على الاكتمال، وتعاظمت فرحتي عن الاحتمال، فلقد (كبِر الولد)!

    ولكنني رويدًا رويدًا بدأت ألحظُ وافدينِ جديدينِ مع ولدي، قرينين، لا يفارقانه ولا يزايلانه: تمرُّده مع جداله، رافضًا لكل ما هو كبيرٌ، آمرًا كان أو ناهيًا، وكلُّ نظام وتنظيم صار مفهومه لديه حبسًا وقيدًا، دُهِشت من هذا التحول العجيب، فلقد كان طفلي الصغير عاقلًا رزينًا، تحسده الرجال، ولَكَمْ تمنَّت مثلَه النساء، حتى أطلَقْنَ اسمَه على أطفالهن؛ تيمنًا بالاسم، وحبًّا في المسمَّى، بوصفه وسمته، الآن تغير؟!

    التغيرات المتتابعة - التي تسبق بعضُهن بعضًا - أفقدتني التوازن، ترنَّح عقلي في القرارات وتردَّد، ولكني أدركتُ أن ولدي الآن يكبَرُ، ولكنه يكبَرُ جهرًا لا سرًّا، بصوت عالٍ، فكأنه يصيح: يا مَن حولي، انتبهوا، أنا هنا! فيُنكِر بشدة، وينقد بعنف، ويخالف بضجة، لم يَعُدْ يقبَلُ ما كان مقبولًا، ولم تعد نظرةٌ مني تُوقِفه، أو عبوس يُهدِّده، بل صار مصارعًا في حلبةٍ، له همٌّ مستقلٌّ، وشأن مستقل، صار كثَوْرةٍ شعبية عارمة لطرد الاحتلال، فيه ما فيها من حماسةٍ زائدة واستبسال، وعمليات فدائية يقودها أشدَّاءُ فِتْيان لنَيْل الحرية والاستقلال!

    أدركتُ وقتها لِماذا الخالق الحكيم العليمُ لا يكتب على الطفل سيِّئة حتى يحتلم؛ لأن ما بعد الاحتلام مرحلة إعادة نظر في كلِّ ما يحيط به، مرحلة انقلاب في كل ما هو موروثٌ؛ ليتخذ فيه قرارًا يُحاسَب عليه، بعد أن كان نسخةً مكررة من والديه.
    لم يكن هناك بدٌّ مِن معاونته على المرور من هذه الأزمة، بكثير من التحمل لهذا الهياج تارة، والكثير من التفهم للوازم تلك المرحلة تارة أخرى، وتذكَّرتُ كيف واجه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوراتِ الشباب هذه بالحِلم والإقناع، وبالدعاء أن يصرف الله عن الشابِّ ما يشينه أو يُرْديه.

    وما أروعَ المثالَ الذي ضرَبه لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فحينما دخل على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فتًى، وقال للرسول: ائذنْ لي بالزنا يا رسول الله! وإذا به يسمع صليلَ سيوف الصحابة رضي الله عنهم، التي تحرَّكت ليُؤدِّبوه بها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهاهُم عن ذلك، وقال للفتى: ((اقتَرِبْ مني، ادنُ مني))، ولَمَّا اقترب مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هشَّ في وجهه وبشَّ وابتسم، وبعد أن هدَّأ رَوْع الفتى، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترضاه لأمِّك؟))، فقال الفتى: لا، قال الرسول: ((كذلك الناس لا يرضَوْنَه لأمهاتهم))، ((أترضاه لأختك؟))، فقال: لا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم))، ((أترضاه لعمتك؟))، فقال الفتى: لا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((كذلك الناس لا يرضَونَه لعمَّاتِهم))، وبعد هذه المحاورةِ مَسَح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على صدر الفتى، ودعا له، فيقول الفتى: ذهبتُ وما من شيء أبغض عندي من الزنا، فببعض الصبر والحلم، والتفهم لنفس المراهق، تمرُّ الأزمة، وتستقر النفوس والأمور، والله الموفِّق والمستعان.
    نسأله جل وعلا أن يُصلِح شباب المسلمين، ويُردَّهم لدينه مردًّا جميلًا.
    اللهم جبرا يليق بجلالك وعظمتك

    ثم تأتي لحظة يجبر الله فيها بخاطرك، لحظة يفزّ لها قلبك، تشفى كل جراحه، يعوضك عما كان، فاطمئن، لأن عوض الله إذا حلّ أنساك ما كنت فاقدًا
    ربي لو خيروني ألف مرة بين أي شيء في الدنيا وبين حسن ظني بك لأخذت من دم قلبي ورسمت به طريق حسن ظني بك وقلت لهم اتركوني وربي إنه لن يخذلني أبدا

يعمل...
X