إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

السياسة الشرعية بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • السياسة الشرعية بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة

    إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آلهِ وصحبه وسلم.





    أما بعد:

    فإن الله بعث النبي صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام للناس كافة، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ [الأعراف: 158].



    وقال صلى الله عليه وسلم: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة، ولهذا كان من خصائص هذا الدين أنه دين عالمي في الزمان والمكان؛ فعالمية الزمان تعني أنه صالح إلى قيام الساعة، وعالمية المكان تعني أنه صالح على أي جزء من أجزاء المعمورة، والأوامر الربانية والتشريعات الإلهية التي نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم طبقها وصحابته الأخيار أتم تطبيق، وكانت شاملة كافية لهم فيما يحتاجون إليه؛ لأنها من لدن الحكيم الخبير سبحانه، وهو أعلم بخلقه.



    ولما انتشر الإسلام في أماكن متفرقة من العالم بعد النبي صلى الله عليه وسلم وجد الناس أن هذه الشريعة محققة لهم ما يحتاجون إليه، مفضية بهم إلى سعادة الدارين، مع تجدد الحوادث واختلاف الزمان؛ وذلك لأن الله تعالى قيض لهذا الدين رجالاً أكفاء، فقهوا الكتاب والسنة، وأمضوا نفيس أوقاتهم وجُل َّأعمارهم في التأصيل والتفريع خدمة لهذا الدين، ومواجهة لما يحدث من قضايا ونوازل تتعلق بالمسلمين، وذلك بسياسة شرعية سديدة، وفقه راشد بصير.



    فأثبتوا أن شريعتنا قادرة على الوفاء بحاجات المجتمعات في أي زمان ومكان، دون خروج على النص أو تبديل لشريعة الله، وهذا ما سأوضحه في هذه الكلمات تحت عنوان:

    "السياسة الشرعية بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين"



    وقد قسمت الحديث في هذا الموضوع على المحاور التالية:

    المحور الأول: معنى السياسة الشرعية وموضوعاتها.

    المحور الثاني: العقائد والأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل.

    المحور الثالث: صلاحية الشريعة وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان.

    المحور الرابع: فقه التغير في ضوء ما سبق مع مراعاة قاعدة «المصالح، وسنة التدرج».



    التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 16-04-2018, 03:52 PM. سبب آخر: تكبير الخط
    يا الله
    علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة


  • #2
    المحور الأول

    معنى السياسة الشرعية وموضوعاتها

    أولاً: تعريف «السياسة» في اللغة:

    جاء في «المصباح المنير»: «سَاسَ زيد الأمرَ يسوسه: أي دبَّره وقام بأمره»[2].

    وجاء في «لسان العرب»: «السَّوْسُ الرياسة.

    قال: ساسوهم سَوْساً... وساس الأمرَ سياسة: قام به... ويقال: سُوِّس فلان أمر بني فلان، أي كُلِّف سياستهم... والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه»[3].



    ثانياً: تعريف السياسة الشرعية اصطلاحاً:

    عرَّف أهل العلم السياسة الشرعية بتعريفات متعددة منها:

    1- ما يراه الإمام أو يصدره من الأحكام والمقررات، زجراً عن فساد واقع، أو وقاية من فساد مُتوقع، أو علاجاً لوضع خاص[4].

    2- تدبير شئون الدولة الإسلامية، التي لم يرد بحكمها نص صريح، أو التي من شأنها أن تتغير وتتبدل بما فيه مصلحة الأمة، ويتفق مع أحكام الشريعة وأصولها العامة[5].

    3- تحقيق الحاكم الذي يسوس أمر الأمة للمصلحة التي تعود على الأفراد والجماعات، وذلك بتطبيق أحكام استنبطت بواسطة أسس سليمة أقرتها الشريعة، مثل: المصالح المرسلة، وسد الذرائع والاستحسان، والعرف، والاستصحاب، والإباحية الأصلية، وذلك فيما لم يرد فيه نص[6].



    وإنما وصفت هذه السياسة بالشرعية، لأن اجتهاد الحاكم فيما جَدَّ من وقائع وأحداث وما يدخل في مجال علم السياسة الشرعية، لم يبن على الهوى والتشهي وإنما على مبادئ وقواعد معتبرة شرعاً[7].



    يقول الدكتور القرضاوي:

    «إن السياسة الشرعية هي السياسة القائمة على قواعد الشرع وأحكامه وتوجيهاته، فليست كل سياسة شرعية، فكثير من السياسات تعادي الشرع وتمضي في طريقها وفقاً لتصورات أصحابها وأهوائهم»[8].



    ثالثاً: موضوعات علم السياسة الشرعية:

    يدخل ضمن علم السياسة الشرعية الموضوعات التالية:

    1- الوقائع المتعلقة بعلاقة الحاكم بالمحكومين، وبيان حقوقه وواجباته، وحقوق الرعية وواجباتها.

    2- الوقائع المتعلقة بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في حالتي الحرب والسلم.

    3- الوقائع المتعلقة بجباية الأموال، وموارد الدولة ومصارفها، ونظام بيت المال.

    4- الوقائع المتعلقة بتداول المال وكيفية تنظيم استثماره وهذا ما يشمله النظام الاقتصادي في الإسلام.

    5- الوقائع المتعلقة بالنظم القضائية وطرق القضاء، وبيان وسائل الإثبات وهذا ما يشمله: السياسة القضائية في الإسلام[9].



    وهذه الموضوعات قد تناولها فقهاؤنا على اختلاف مذاهبهم ضمن أبواب الفقه العام، كما تناولوها في كتب متخصصة مثل «الأحكام السلطانية» للماوردي الشافعي، و«الأحكام السلطانية» لأبي يعلى الفراء الحنبلي، و«السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» لابن تيمية، و«الطرق الحكمية» لابن قيم الجوزية، و«الخراج» لأبي يوسف، و«الأموال» لأبي عبيد بن سلام، ونستخلص مما سبق: أن السياسة الشرعية غايتها الوصول إلى تدبير شؤون الدولة الإسلامية بنظم من دينها، والإبانة عن كفاية الإسلام بالسياسة العادلة ورعاية مصالح الناس في مختلف العصور والبلدان، ومسايرة التطورات الاجتماعية في كل حال وزمان على وجه يتفق مع المبادئ العامة الإسلامية.

    المحور الثاني

    العقائد والأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل

    من المعلوم إن الله أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3]، وإذا كان الدين قد كُمَل فلا يحتاج إلى زيادة أبداً، كما لا ينبغي أن تحذف أو تغير بعض أحكامه، ولم يقبض رب العباد حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن بلغ البلاغ المبين، وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها ونهارها سواء.



    وبناء على هذا أقول: إن الأحكام الشرعية لا تتغير ولا تتبدل؛ لأن الحكم الشرعي هو: «خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً»[10] والمراد بخطاب الشرع هنا هو الكتاب والسنة، ولا يتغيران بحال بتغير الزمان والمكان، والأدلة على ذلك متوافرة، منها:

    1- قول الله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: 115].

    قال القاسمي رحمه الله: «وتمت كلمة ربك» أي بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده: «صدقاً» في الأخبار والمواعيد «وعدلاً» في الأقضية والأحكام. «لا مبدل لكلماته» أي لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل، أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً، كما فُعِل بالتوراة. على أن المراد بها القرآن. فيكون ضماناً لها منه تعالى، كقوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[11].



    2- قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [يونس: 15]؛ وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يغير أو يبدل من تلقاء نفسه، فغيره من باب أولى، وهو يدل على ثبات الأحكام الشرعية وبقائها كما جاءت من عند رب البرية.



    وقد دلت السنة النبوية على ما دل عليه القرآن الكريم، كما في حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد»[12].



    قال ابن حجر: «هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يُلتفت إليه»، قال النووي: «هذا الحديث مما ينبغي أن يُعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستعمال به كذلك»[13].



    قلت: وجه الاستدلال بالحديث هو أن تغيير الأحكام الشرعية إحداث في الدين وخروج على الكتاب والسنة، فهو مردود لا يقبل ولا يجوز، وكل ذلك يدل على ثبات الأحكام الشرعية: وعدم تغييرها، يقول الشاطبي في بيان ثبات الأحكام الشرعية: «... فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها، ولا رفعاً لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً أو مندوباً فهو مندوب... وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك»[14].



    ولا شك أن القول بتغير الشريعة وتبديلها يترتب عليه مفاسد كثيرة منها:

    1- اتخاذ الشركاء الذين يشرعون من دونه، والتشريع حق لله وحده دون سواه؛ قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 21]، فقد نعى الله تعالى على الذين لا يتبعون ما شرع الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من الدين القيم، ويلجأون إلى غيره، وفي الآية إشارة ظاهرة إلى أن التحليل والتحريم بغير سلطان من الله – إشراك بالله.

    2- ومنها القول أو الاعتقاد بقصور الشريعة وعدم كمالها وعدم صلاحية أحكامها لعموم الزمان والمكان.


    يتبع بإذن الله
    يا الله
    علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

    تعليق


    • #3
      المحور الثالث

      صلاحية الشريعة وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان

      إن من الحقائق المعلومة من دين الإسلام بالضرورة أن الله – تبارك وتعالى – لم يبعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون نذيراً لطائفة من الناس دون سائرهم، ولا ليكون رسولاً لأمة من البشر دون سائر الأمم، وإنما بعثه ليكون بشيراً ونذيراً للعالمين أجمعين، بعثه برسالة الإسلام الخالدة إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، قاصيهم ودانيهم، أحمرهم وأسودهم، عربيهم وأعجمهم، شرقيهم وغربيهم، ذلك منذ أن بعثه الله بالحق وإلى قيام الساعة.



      وعلى ذلك فمن أنكر هذه الحقيقة وجحدها كان على غير الملة لأن القرآن الكريم صرح بها تصريحاً لا يقبل التأويل، قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ﴾ [الأعراف: 158]، ففي هذه الآية الكريمة «بيان عموم رسالته صلى الله عليه وسلم، وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص، حتى صرحوا بكفر منكره»[15]، وبرغم أن الآية الكريمة خاطبت الناس جميعاً برسالته صلى الله عليه وسلم إلا أنها أكدت ضمير المخاطبين بوصف: ﴿جميعاً﴾ الدال نصاً على العموم لرفع احتمال التخصيص[16].



      ويقول الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ [سبأ: 28]، أي: «وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة، ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين، العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود، بشيراً من أطاعك ونذيراً من كذبك»[17].



      وقال عز وجل: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، أي: «لأنذركم بالقرآن أيها المشركون وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم»[18]. وقال عن القرآن الكريم نفسه: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نـزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [الفرقان: 1]، وقال: ﴿وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ [القلم: 52]، أي: «وما محمد إلا ذِكْر ذكَّر الله به العالمين الثقلين الجن والإنس»[19]، أو«وما القرآن الكريم إلا ذكر للعالمين. ومعناه: شرف.. كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: 44]..»[20].



      وهذه الحقيقة التي صرح بها القرآن الكريم أكدتها السنة المطهرة، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»[21].



      وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا دخل النار»[22].



      والمراد بالأمة في هذا الحديث عموم أهل الدعوة سواء من دخل فيهم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالمعنى الخاص فصار مسلماً، أو من بقي منهم على كفره فكان من أمته بالمعنى العام أي: من عموم من بعث إليهم وأمر بدعوتهم وهم الناس جميعاً بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، وذلك بدليل ذكره لليهود والنصارى.



      وإلى جانب هذه الحقيقة الراسية الراسخة حقيقة أخرى لا تقل عنها رسواً ورسوخاً، وهي أن رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، فلا نبي بعده ولا رسول، وأن رسالته خالدة باقية إلى يوم الدين، فلا نسخ لها ولا زوال.



      وهي أيضاً حقيقة معلومة من دين الله بالضرورة، لا ينكرها إلا من كفر بالرحمن وكتب عليه الخذلان، قال تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40]، أي: «وخاتم النبيين الذي ختم النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة»[23] فهذه الآية الكريمة «نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»[24].



      من هذه الأحاديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنةٍ من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»[25].



      هاتان الحقيقتان الراسيتان الراسختان مقدماتان لحقيقة كبرى وهي: «صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان».



      لأننا لو لم نقل بذلك – مع كون رسالة الإسلام رسالة عالمية خاتمة للرسالات – للزم منه أن يكون الله عز وجل قد أجاز للبشر أن يشرعوا لأنفسهم في كل زمان ما يصلح لهم، وهذا أبطل الباطل، وبطلانه معلوم من دين الله بالضرورة، كما أن حاكمية الله وانفراده بالسلطان على عباده وتفرده بحق التشريع معلوم من دين الله بالضرورة، قال تعالى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]، وقال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10]، فالذي له الخلق هو وحده الذي يملك الأمر والنهي والتحليل والتحريم والتشريع والحكم، فما من شيء في حياة البشر مهما كان صغيراً إلا ولله فيه حكم، فيجب عليهم أن يردوا كل أمر يختلفون فيه إلى حكم الله وحده، وهذا أمر لا يخالف فيه إلا من لا حظ له من الإسلام.



      فـ«الشريعة الإسلامية» صالحة لكل زمان ومكان، ومُصلِحة لكل زمان ومكان، بل لا يكفي أن نقول هذا حتى نرفع احتمال المشاركة بأن نقول: إنها هي وحدها الصالحة والمصلحة لكل زمان ومكان، وكل ما سبق أن قررناه من مقدمات وحقائق راسخة يدل على هذا دلالة قاطعة.



      وهذا الوصف للشريعة الإسلامية يضم تحت عباءته أوصافاً تعد من مفرداته ومن ضروراته، هذه الأوصاف هي:

      1- العموم: بمعنى كونها عامة للناس أجمعين، وهذا الوصف مستفاد من النصوص الدالة على عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سبق إيرادها.



      2- البقاء: بمعنى أنها لا تأتي بعدها شريعة سماوية تنسخها، وهذا الوصف مستفاد من النصوص الدالة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأن رسالته خاتمة الرسالات وقد سقناها من قبل.



      3- الحفظ: بمعنى أن الله عز وجل تولى حفظ أصولها من التحريف والتبديل، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9]، أي: «وإنا للقرآن الكريم لحافظون من أن يزاد فيه ما ليس منه أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه»[26].



      وقال عز وجل: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: 42]، قال الزجاج: «معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه»[27].



      وما يسري على القرآن الكريم يسري على السنة؛ لأنها بيان للقرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نـزلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، فحفظ القرآن الكريم يستلزم حفظ السنة بل وحفظ اللسان العربي أيضاً، يقول المعلمي: «فأما السنة فقد تكفل الله بحفظها أيضاً؛ لأن تكفله بحفظ القرآن يستلزم تكفله بحفظ بيانه وهو السنة، وحفظ لسانه وهو العربية، إذ المقصود بقاء الحجة قائمة والهداية باقية، بحيث ينالها من يطلبها؛ لأن محمداً خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، بل دل على ذلك قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: 19]، فحفظ الله السنة في قلوب الصحابة والتابعين حتى دونت»[28].



      4- الشمول: وهو غير العموم، فهو بمعنى أن أحكام الشريعة شاملة ومستغرقة ومستوعبة لكل أحوال البشر، وحاكمة على كل ما يستجد في حياتهم إلى يوم الدين، قال تعالى: ﴿وَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، أي: «تبياناً لكل ما بالناس إليه حاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب»[29]، وهذا التبيان قد يكون بالتفصيل وقد يكون بالإجمال، وقد يكون بالإحالة على السنة، كقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7]، وقد يكون بإثارة القياس وتعديه حكم ما ذكر على ما لم يذكر كقوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾ [الحشر: 2]، فلا يلزم من بيانه لكل شيء أن يحمل بين دفتيه كل الأحكام بالتفصيل، يقول الزمخشري في الكشاف: «فإن قلت: كيف كان القرآن الكريم تبياناً لكل شيء؟ قلت: المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين: حيث كان نصاً على بعضها، وإحالة على السنة... وحثاً على الإجماع..»[30].



      وقال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، أي: «ما تركنا في القرآن الكريم من شيء من أمر الدين إما تفصيلاً أو إجمالاً»[31] وقال عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3].



      5- المرونة والاتساع: ومعناها قدرة الشريعة الإسلامية على مواجهة كل ما يستجد في حياة الناس وما يترك في دنياهم، وعلى الاستجابة لكل ما يتغير في أمورهم وأحوالهم بتغير أزمانهم، وعلى تلبية كل احتياجاتهم مهما تبدلت بتبدل ظروفهم، وذلك كله دون أن تتبدل أصولها أو تنسخ أحكامها أو تزيف مبادئها أو تزعزع ثوابتها أو يرجع على شيء منها بالإبطال أو التعطيل.



      وهذه الصفة الأخيرة «المرونة والاتساع» لها آليات عدة، تضمن تحقيقها وتطبيقها والانتفاع بثمراتها دون الرجوع على النصوص المحكمة بالتعطيل أو على الأصول والثوابت الراسية بالتبديل، أو على الأحكام الثابتة بالنسخ أو التأويل.



      من هذه الآليات: «تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان»




      وهي التي عبر عنها العلماء – على سبيل التسهيل في الاصطلاح – بقولهم: «لا يُنكر تغير الأحكام بتغير الأزمان».



      التغير لغة[32]: التبدل والتحول والانتقال، نقول: تغير الشيء: أي تحول، وغيّره: جعله غير ما كان، وغيّره: حوله وبدله، وغيّرت الشيء: بدلته، وغيّرت دابتي وثيابي: أي: جعلتها على غير ما كان، وغيّرت داري: بنيتها بناء غير الذي كان.



      ومعنى «تغير الفتوى» في الاصطلاح الشرعي لا يبعد عن المعنى اللغوي السابق، فهو: التحول والانتقال – عند الإفتاء في مسألة – من حكم سابق كان مناسباً لها في وقت أو حال إلى حكم آخر لتبدل الوقت أو الحال.



      والأفضل ألا يعبر عنه بلفظ «تغيير»؛ لأن كلمة «تغيير» تستعمل كثيراً بمعنى الإزالة والرفع، و«تغير الفتيا» ليس فيه إزالة ولا رفع، بل هو مجرد انتقال وتحول من حكم إلى حكم، مع بقاء الحكم ذاته.



      وكذلك التعبير عنه بمصطلح «تغير الأحكام» أو بقاعدة: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان» فيه – أيضاً – قدر من المسامحة؛ لأن الذي يتغير هو الفتيا، أما الأحكام فلا تتغير ولا تتبدل، فالحكم الشرعي – كما سبق – هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً، والقول بإمكانية تغير الحكم الشرعي مكافئ للقول بإمكانية تغيير خطاب الله تعالى، وقد تُوعِّد المبدلون لأحكام الله المغيرون لشرعه بالإبعاد والهلاك يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح: «ألا ليذادنَّ رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً»

      يا الله
      علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

      تعليق


      • #4
        المحور الرابع

        فقه التغيير

        (في ضوء ما سبق مع مراعاة قاعدة المصالح وسنة التدرج)

        مما لا شك فيه أن الأمم تمر بفترات مختلفة، وتكون قوية في حين وضعيفة في حين آخر، والغيورين على الأمة الإسلامية يسعون دائماً إلى تغيير الواقع الانهزامي أو الضعيف بالأمة والوصول بها إلى مصاف العزة والقوة والسيادة، وهذا يحتاج إلى فقه سديد ونظر رشيد، وإذا أردنا القيام به فلا بد أن نبدأ بأهم الأمور فنعتني أولاً بتغيير العقائد الباطلة والأفكار المنحرفة والتصورات الخاطئة؛ لتحل محل كل ذلك العقيدة الصحيحة والمفاهيم السليمة المستقيمة، ثم نعتني بعد ذلك بجميع الجوانب التي تتعلق بحياة المسلم وعزته وكرامته، ويجب أن تراعى قاعدة المصالح الشرعية في ذلك، فتغيير المنكر أمر يحبه الله ورسوله، ولكن إذا كان تغييره سيؤدي إلى منكر أكبر منه وأعظم، فإن لا يسوغ إنكاره حينئذ، وهذا كالإنكار على الملوك، والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟



        فقال: «لا؛ ما أقاموا الصلاة»، وقال: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ولا ينـزعن يداً من طاعته»[51]، ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر... وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام، عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش ذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه[52].



        قال الإمام النووي رحمه الله – في شرحه للحديث السابق –: «وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها: إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدئ بالأهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم مصلحة ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيماً فتركها صلى الله عليه وسلم، ومنها: تألف قلوب الرعية وحسن حياطتهم وأن لا ينفروا، ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه، ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي – كما سبق –»[53].



        وقال ابن حجر رحمه الله في فوائد هذا الحديث: «ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس، والمراد بالاختيار المستحب، وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يُترك فيه أمر واجب، وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة»[54].



        وقد ذكر ابن القيم رحمه الله حادثة عن شيخه ابن تيمية رحمه الله تدل على فقهه بالتغيير والواقع فقال: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه ونور ضريحه – يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال. فدعهم»[55] فلله دره ما أفقهه وأعلمه!.



        وقد كان الصحابة رضي الله عنهم وهم أفقه الناس لهذه الشريعة، أكثر الناس استعمالاً للمصلحة واستناداً إليها، فهذه المصلحة هي التي جعلت أبا بكر رضي الله عنه يجمع الصحف المفرقة التي كان القرآن مدوناً فيها من قبل في مصحف واحد، وهو أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي وجهت عمر رضي الله عنه إلى وضع الخراج وتدوين الدواوين، وهي التي جعلت عثمان رضي الله عنه يجمع المسلمين على مصحف واحد... وهكذا[56]. فالشريعة – إذن – مبنية على مصالح العباد في العاجل والآجل، وقد حصرها الشاطبي رحمه الله في ثلاثة أقسام:

        أحدهما: أن تكون «ضرورية»، وهي ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم المقيم، والرجوع بالخسران المبين، ومجموع الضروريات خمسة، وهي حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة.

        الثاني: أن تكون «حاجيَّة» ومعناها: أنها مُفتقَرٌ إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي – في الغالب – إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين – على الجملة – الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.

        الثالث: أن تكون «تحسينية»، ومعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنِّسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق[57].



        وبناءً على ما سبق: يجب أن يراعى في فقه التغيير أحوال البلاد والعباد، والقوة والضعف، وأن تراعى سنة التدرج مع الناس كي يقع منهم القبول، وقد تدرج الإسلام في فرض الفرائض؛ كالصلاة والصيام والجهاد، كما تدرج بهم في تحريم المحرمات كالخمر ونحوها، وعند تجدد ظروف مماثلة لظروف قيام المجتمع الأول، أو قريبة منها، نستطيع الأخذ بهذه السنة «سنة التدرج»، وهو تدرج في «التنفيذ»، وليس تدرجاً في «التشريع»، فإن التشريع قد تم واكتمل بإكمال الدين، وإتمام النعمة، وانقطاع الوحي، وهذا هو المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية؛ فقد ظل ثلاثة عشر عاماً في مكة، كانت مهمته فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن الذي يستطيع – فيما بعد – أن يحمل عبء الدعوة وإنشاء الأمة والدولة، وتكاليف الجهاد لحكايتها ونشرها في الآفاق[58].



        وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وتكوين الدولة الإسلامية، تتابعت الأحكام بعد بناء الأساس، وأقبل الناس على الطاعة والتسليم بعد التربية والإعداد.



        ومن طريف ما يُذكر: أن عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز قال لأبيه: «ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك. فقال له عمر: «لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة»[59].



        يقول الشاطبي رحمه الله – معلقاً على ذلك –: «وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي، فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس، وكان أكثرها على أسباب واقعة، فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنـزل بحسب الوقائع، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنـزل حكماً حكماً، وجزئية جزئية، لأنها إذا نـزلت كذلك لم ينـزل حكم إلا والذي قبله صار عادة، واستأنست، به نفس المكلف... فإذا نـزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد



        يا الله
        علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

        تعليق


        • #5
          أهم النتائج التي نخرج بها من هذا الموضوع

          1- عظمة الفقه الإسلامي ومرونته، وقوة معانيه وألفاظه، حيث تتسع لكل ما يَجِدُّ ويَحْدثُ من نوازل.

          2- الأحكام الشرعية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير بمرور الزمان وتبدل المكان، وإنما الذي يتغير هو الفتوى بناء على أصول شرعية، وعلل مرعية، ومصالح جنسها مراد لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

          3- الشريعة الإسلامية صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان وهذه حقيقة ثابتة معلومة من دين الإسلام بالضرورة.

          4- النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ورسالته هي الرسالة الخاتمة ورسالته خالدة باقية إلى يوم الدين فلا نسخ لها ولا زوال.

          5- للشريعة الإسلامية أوصاف كثيرة قد جعلتها صالحة لكل زمان ومكان، من هذه الأوصاف (العموم، البقاء، الحفظ، الشمول، المرونة والاتساع).

          6- الفتوى لا تتغير بحسب الهوى والتشهي واستحسان العباد واستقباحهم، وإنما بضوابط دقيقة أشرت إليها في البحث، ولا يصلح أن يكون تغير الزمان والأحوال سبباً لتغير الفتوى، وإنما يصلح أن يكون هذا سبباً يدعو المجتهد لإعادة النظر في مدارك الأحكام، فإذا تحقق من ضعف المدرك أو زواله، أو ترجيح غيره عليه لمصلحة معتبرة شرعاً غير موهومة نظر في أمر تغيير الفتوى معتمداً على الدليل الشرعي.

          7- الشريعة قائمة على مراعاة المصالح ودرء المفاسد، ويجب أن يؤخذ هذا في الاعتبار، وعلى المجتهد أن يفهم الواقع وأحوال الأمم وأن يعمل بسنة التدرج.

          8- تغيير الفتوى مقصور على طائفة من الناس وهم حملة الشريعة وورثة الأنبياء، أهل الاجتهاد والفتوى، فليس لأحد أن ينازعهم هذا الحق، ولا أن يقول على الله بغير علم.



          وهنا انتهى ما أردت الحديث عنه، وأسأل الله سبحانه أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر خطيئتي يوم الدين، وأن يعفو عني فيما قصرت فيه أو أخطأت، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


          شبكة الالوكة
          يا الله
          علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

          تعليق


          • #6
            وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
            ما شاء الله
            جزاكم الله كل خير
            بارك الله فيكم ونفع بكم

            قال الحسن البصري - رحمه الله :
            استكثروا في الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعةً يوم القيامة".
            [حصري] زاد المربين فى تربية البنات والبنين


            تعليق


            • #7
              جزاكم الله خيرًا ونفع بكم
              [CENTER][B][URL="https://forums.way2allah.com/forum/%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85/%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8/4455003-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D8%B4%D8%A8%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D9%8A"][COLOR=#FF0000][SIZE=36px][FONT=times new roman]مشروع تحفيظ القرآن الكريم للشباب بشبكة الطريق إلى الله[/FONT][/SIZE][/COLOR][/URL][/B][/CENTER]
              [CENTER][B][URL="https://forums.way2allah.com/forum/%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85/%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8/4455003-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D8%B4%D8%A8%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D9%8A"][COLOR=#0000CD][SIZE=36px][FONT=times new roman](القرآن حياتي)[/FONT][/SIZE][/COLOR][/URL][/B][/CENTER]

              تعليق


              • #8
                وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
                جزاكم الله خيرًا ونفع بكم

                "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                وتولني فيمن توليت"

                "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                تعليق

                يعمل...
                X