إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

غزوة تبوك ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم .. فقه السيرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غزوة تبوك ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم .. فقه السيرة

    إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
    اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
    أمَّا بعد، فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
    انتهينا -بفضل الله عز وجل- في الدرس السَّابق إلى غزوة مُؤتة، وكيف كانت، وكيف أظهر الصَّحابةُ -رضوان الله عليهم- فيها الشَّجاعة والبطولة -جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
    نتحدَّثُ -إن شاء الله تعالى- في هذا الدرس -وهو الدرس الأخير- وسنحاول أن نُلِمَّ فيه بما بقي من المنهج -إن شاء الله.
    فنتحدَّث أولًا عن فتح مكَّة، فنقول -وبالله تعالى التَّوفيق:
    عرفنا أنَّ صُلح الحُديبية كان من شروطه وضع الحرب عشر سنين، وأنَّ مَن دخل في حِلْف محمدٍ دخل، ومَن دخل في حلف قريشٍ دخل، فظلَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وفيًّا لقريشٍ بعهدها، مُلتزمًا بكلِّ شروط الصُّلح، حتى إذا كانت السنة الثامنة من الهجرة -يعني بعد سنتين من الصلح- عدت بنو بكرٍ حليفة قريشٍ على خُزاعة حليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقتلت منهم رجالًا، وعاونتهم قريش على هذا القتال؛ فنقضت بذلك عهدها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
    فرأى -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الوقت قد حان لكسر هذه الشَّوكة -شوكة قريش- وإزاحة هذا الغصن من طريق الدَّعوة؛ فعزم -صلى الله عليه وسلم- على غزو قريشٍ ودخول مكة، وَتَجَهَّزَ لذلك، وأمر أصحابه فتجهَّزوا، فبادر أحد الصَّحابة بالكتابة إلى قريشٍ يُخبرهم بخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا أنَّ الوحي من السَّماء كان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسبق من الكتاب إلى قريشٍ، فبعث رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من أصحابه مَن أتاه بهذا الكتاب الذي بُعِث إلى قريشٍ.
    عن عليٍّ -رضي الله عنه- قال: "بعثني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أنا والزُّبير والمقداد، فقال: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ -مكان بين مكة والمدينة، وهو من المدينة أقرب- فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً -أي امرأة- مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، فَائْتُونِي بِهِ».
    قال عليٌّ: فانطلقنا نتعادى أو تتعادى بنا خيلنا، حتى أتينا روضة خاخٍ، فإذا نحن بالمرأة، فقلنا: أخرجي الكتابَ.
    قالت: ما معي من كتابٍ.
    فقلنا: لتخرجنَّ الكتابَ أو لنُلقين الثيابَ.
    ويُسمونه في هذا الوقت: التَّفيش الذاتي، فإمَّا أن تأتي بالكتاب الذي معك وإلا التَّفيش الذاتي حتى نحصل على هذا الكتاب.
    قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا فيه: من حاطبِ بن أبي بَلْتَعَةَ إلى نفرٍ من قريشٍ يُخبرهم فيه ببعض أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟!» فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليَّ، ما فعلتُه ليس كفرًا بعد الإسلام، ولا ردَّةً عن الدين بعد إذ هداني الله إليه، ولكنِّي كنتُ امرأً مُلصقًا من قريشٍ، ولم أكن من أَنْفَسِهم، وما من أحدٍ من أصحابك إلا له أهلٌ في قريشٍ يحمون ماله وأهله، فأردتُ إن فاتني ذلك من النَّسب أن أتخذ بهذا الكتابِ عندهم يدًا يحمون بها أهلي ومالي.
    فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ».
    فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق.
    فقال -صلى الله عليه وسلم: «يَا عُمَرُ، أَوَلَيْسَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»، فأنزل الله - تبارك وتعالى- في حاطب بن أبي بلتعة وكتابه الذي بعث به إلى قريشٍ سورة الممتحنة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1].
    وهكذا عمَّى الله -تبارك وتعالى- عن قريشٍ خبر خروج رسوله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فخرج -عليه الصلاة والسلام- من المدينة المنورة لعشرٍ مضين من رمضان من السنة الثامنة للهجرة ومعه عشرة آلاف مقاتلٍ، خرج صائمًا وصام الجيشُ معه، حتى إذا كان بالكَدِيد -مكان بين مكة والمدينة- أفطر -صلى الله عليه وسلم- وأظهر فطرَه أمام الجيش؛ ليروه فيقتدوا به في الفطر، فلمَّا رأوه قد أفطر أفطروا -رضي الله عنهم.
    وما زال -صلى الله عليه وسلم- يُفطِر في رمضان عام الفتح ويقصر الصلاةَ حتى رجع إلى المدينة.
    وكان العباسُ بن عبد المطلب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- مُسلمًا قبل ذلك، إلا أنَّه كان مُقيمًا في مكة، وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- راضيًا عنه، فوقع في قلب العباس أن يُهاجِر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعياله، وهو لا يدري أنَّ الرسول قادم، فخرج العباسُ بعياله مُهاجرًا إلى الله ورسوله، فلقيَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- في الطريق، فلزمه وصحبه.
    وكانت قريشٌ قد خافت من غدرتها تلك، فإنَّها لما ساعدت وآزرت حليفتها على حليفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عرفت أنَّها بذلك نقضت العهد والميثاقَ؛ فكانت خائفةً من تلك الغدرة، فأرسلت أبا سفيان وحكيمَ بن حزامٍ وبُديل بن ورقاء يتحسَّسون الأخبارَ -أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وكان -عليه الصلاة والسلام- لما مرَّ بمرِّ الظَّهران -وهو مكان قبيل مكة- نزل به والجيش، وأمرهم أن يُوقِدوا نارًا، فأُوقِدت عشرة آلاف نار، كلُّ رجلٍ أوقد نارًا، فأمست الصَّحراء كلها مُنيرة، فلمَّا مرَّ ركبُ قريشٍ بمرِّ الظَّهران ورأوا تلك النار قال أبو سفيان: كأنَّها نيران عرفة. وذلك أنَّ الناس قديمًا كانوا إذا نزلوا من عرفة أوقدوا النارَ يستضيئون بها ويستدفئون.
    فقال حكيم: كأنَّهم بنو عمرو.
    قال أبو سفيان: بنو عمرو أقلّ من هذا.
    فبينما هم يتحدَّثون إذ مرَّت عليهم عيونُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي المقدمة والطَّليعة التي بين يدي الجيش، فأخذتهم معهم.
    عن عبد الله بن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: لما نزل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مرَّ الظَّهران قال العباس: والله، لئن دخل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مكَّة عنوةً قبل أن تستأمنه قريشٌ؛ لقد هلكت قريش.
    فركب العباسُ بغلةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانطلق يبحث عن ذي حاجةٍ يأتي مكة؛ فيأمرهم أن يخرجوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيستأمنوه قبل أن يدخل عليهم مكة.
    قال العباس: فبينما أنا أسير إذ سمعتُ صوت أبي سفيان وبُديل بن ورقاء يتحدَّثان، فقلتُ: أبا حنظلة -وهي كنية أبي سفيان؟
    قال العباس: فعرف صوتي؛ فقال: أبو الفضل -وهي كنية العباس؟
    قلت: نعم.
    قال: ما لك -فداك أبي وأمي؟
    قلت: رسول الله والناس.
    قال: ويحك! ما الحيلة؟
    فقال العباس لأبي سفيان: اركب ورائي.
    فركب وراءه، فأتى به النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأسلم أبو سفيان.
    فقال العباسُ للنبي -صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجلٌ يُحب هذا الفخرَ؛ فاجعل له منه شيئًا.
    فقال -عليه الصلاة والسَّلام: «نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ».
    فأراد أبو سفيان أن ينصرف فيأتي أهلَ مكة فيُخبرهم، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لعمِّه العباس: «يَا عَبَّاسُ، احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ؛ حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللهِ فَيَرَاهَا»، حتى يرى الجيشَ الكبير الذي قِوامه عشرة آلاف مُقاتلٍ من المسلمين.
    قال العباس: فانطلقتُ بأبي سفيان، فحبسته حيث أمرني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وكلَّما مرَّت قبيلةٌ سألني: مَن هؤلاء؟ مَن هؤلاء؟ حتى مرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في كتيبته الخضراء، معه الأنصار والمُهاجرون، لا ترى منهم إلا الأعين، فلمَّا رآهم أبو سفيان قال: يا أبا الفضل، مَن هؤلاء؟
    قلت: هذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه المُهاجرن والأنصار.
    قال: يا أبا الفضل، ما لأحدٍ بهؤلاء من قِبَلٍ ولا طاقة.
    فانطلق أبو سفيان ليأتي أهلَ مكة؛ ليُخبرهم بخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا دخل مكةَ صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، إنَّ محمدًا قد جاءكم بما لا قِبَلَ لكم به اليوم ولا طاقة، يا معشر قريش، مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمِن، ومَن أغلق عليه داره فهو آمِن، ومَن دخل المسجدَ فهو آمِن.
    فتفرَّق الناسُ إلى المسجد، وأغلق بعضُهم عليه دارَه، ودخل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مكةَ ومعه هذا الجيش الجرَّار، وعلى ميمنته الزُّبير بن العوَّام، وعلى ميسرته خالد بن الوليد، وعلى الرَّجَّالة -الذين لا يركبون الخيلَ- أبو عُبيدة بن الجرَّاح.
    فدخل -صلى الله عليه وسلم- البيتَ، فانتهى إلى الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت سبعًا، فمرَّ على صنمٍ كانوا يعبدونه، فجعل يطعنه بطرف سيفه ويقول: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ»، فلمَّا فرغ من الطَّواف بالبيت سبعًا رقى الصَّفا، فاستقبل الكعبةَ وهلَّل وحمد الله وأثنى عليه ومجَّده بما هو أهله، ودعا بما شاء الله أن يدعو به، ولم يَطُف بين الصَّفا والمروة؛ لأنَّه لم يكن مُحْرِمًا -صلى الله عليه وسلم.
    ثم أخذ -عليه الصلاة والسلام- يُبايع الناسَ على الإسلام، فبايعهم على السمع والطَّاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، بايعهم رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا.
    فلمَّا بايع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الناسَ على الإسلام والسَّمع والطاعة لله ولرسوله واستقر الأمنُ، دخل الكعبةَ ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة حامل المفتاح، فدخل الكعبةَ وأغلق بابها وراءه، ومشى إلى الجدار المُستقبل باب الكعبة، وجعل بابَ الكعبة وراء ظهره، واستقبل الجدارَ الذي يُقابل جدار الباب ودنا منه، فلمَّا كان بينه وبينه قُرابة ثلاثة أذرع وقف -صلى الله عليه وسلم- وجعل عمودًا عن يساره، وعمودين عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكانت الكعبة يومئذٍ تقوم على ستة أعمدةٍ، ثم صلى ركعتين في جوف الكعبة، ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- فدخل بيتَ أم هانئٍ بنت أبي طالب بنت عمِّه، فاغتسل -صلى الله عليه وسلم- ثم صلى ثماني ركعاتٍ؛ شُكرًا لله تعالى على هذا الفتح.
    فلمَّا مكَّنه الله تعالى من أهل مكة واستقر الفتح؛ أمَّن الناسَ جميعًا وعفا عنهم كلهم، ولم يأخذهم بجريرتهم السَّابقة، إلا أربعة رجالٍ وامرأتين كانوا قد آذوه إيذاءً شديدًا، فقال -عليه الصلاة والسلام: «اقْتُلُوهُمْ وَلَوْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ».
    فلمَّا كان الغَدُ من يوم الفتح قام -عليه الصلاة والسلام- خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه ومجَّده بما هو أهله، ثم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلَا أَنْ يَعْضُدَ فِيهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْفَتْحِ فَقُولُوا: إِنَّ اللهَ أَذِنَ لِنَبِيِّهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَحَلَّهَا اللهُ لِيَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، أَلَا فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ».
    ثم أخذ -صلى الله عليه وسلم- يبعث سراياه إلى الأصنام والأوثان التي كانت تُعبَد من دون الله فتُكسَر، حتى طهَّر مكَّة من كلِّ صنمٍ ووثنٍ وَنُصُبٍ، ثم عاد مُنتصرًا مُعزَّزًا بفضل الله -عز وجل- إلى المدينة المنوَّرة، وقد أقام في ذلك الفتح تسعة عشر يومًا، يُفطِر في رمضان، ويقصُر الصلاةَ حتى عاد إلى المدينة.
    وهكذا صدق الله وعده: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [الفتح: 27]، فصدق الله وعده، ونصر عبده، وأعزَّ الإسلامَ، وفتح على رسوله فتحًا مُبينًا، ونصره نصرًا عزيزًا، وقرَّت عينُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا النَّصر، كما قرَّت أعينُ بعض أصحابه مما أطال الله حياته وأبقى عمره حتى هذا الفتح، واستشهد رجالٌ في المعارك، وتوفي آخرون على فُرُشهم قبل هذا الفتح.
    ورجع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة مُؤزَّرًا منصورًا، فساء ذلك قبائل من القبائل العربية، وأخذتهم العزَّةُ بالإثم، وأصرُّوا واستكبروا استكبارًا، وجنَّدوا الجنودَ، وجيَّشوا الجيوشَ؛ لوقف هذا الزَّحف الإسلامي.

  • #2
    رد: غزوة تبوك ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم .. فقه السيرة

    وكان الذي تولى ذلك من العرب مالك بن عوف النَّضري، وكان شُجاعًا مِقْدَامًا، إلا أنَّه كان سيئ الرأي، سيئ المشورة، فلمَّا اجتمعت قبائلُ العرب إليه وجعلوا أمرَهم بين يديه أمر الناسَ أن يُخرِجوا نساءَهم وأبناءَهم وأموالَهم معهم؛ ظنًّا منه أنَّ هذه الأموال وتلك الأولاد تحمل الرجالَ على الثَّبات عند اللِّقاء؛ دفاعًا عنها، لكن أعرابيًّا آخر رفض هذا الرأي وهو دُرَيد بن الصِّمَّة، فقال لمالك بن عوف: إنَّك إن نُصِرت لن ينفعَك إلا رجلٌ بسيفه ورُمحه، وإن كانت الأخرى -أي هُزِمت- فُضِحت في نسائك وأموالك.
    فما كان جواب مالك إلا أن قال له: إنَّك رجلٌ قد كبرت سنُّك، وكبر عقلك، والله يا معشر هوازن، لتُطيعونِّي أو لأتكئنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري.
    قالوا: قد أطعناك.
    فخرجوا جميعًا معهم نساؤهم وأموالهم وأولادهم لما قدَّره الله تعالى، حتى تتحقق نُبوءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا ساروا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وبلغه سيرَهم بعث مَن يأتيه بخبرهم، ويتأكَّد له من خروجهم، فعرف هذا الرجل بخروجهم؛ فأسرع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما رأى وسمع، فعزم -صلى الله عليه وسلم- على الخروج إليهم، فخرج إليهم في اثني عشر ألف مُقاتلٍ.
    ومع أنَّ هذا الجيش كان مُزَوَّدًا بسلاحٍ إلا أنَّه زيادة في الاحتياط وفي الأخذ بالأسباب لما بلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ صفوان بن عُيينة عنده سلاح؛ أرسل إليه -وهو مُشرِكٌ لم يُسلِم بعد- فقال: «أَعْطِنَا سِلَاحَكَ هَذَا نَلْقَى بِهِ عَدُوَّنَا غَدًا -إن شاء الله».
    فقال صفوان: أغصبٌ يا محمد؟
    قال: «لَا، بَلْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ إِلَيْكَ»، فأعاره ثلاثين درعًا وثلاثين بعيرًا.
    فخرج -صلى الله عليه وسلم- في هذا الجيش الجرَّار، ونظر المسلمون بعضُهم إلى بعضٍ والأرض قد امتلأت بهم؛ فأصاب بعضَهم الغرورُ، فقال قائلهم: لن نُغلَب اليوم عن قلَّةٍ.
    وسار النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حتى انتهى إلى حنينٍ، فعدَّل الجيشَ ونظَّمه، وفي غَلَسِ الصُّبح نزلوا في الوادي، فلم يرعهم إلا والعدو يرميهم بالسِّهام، فقد نزل قبلهم في أعلى الوادي، فكانت المفاجأة؛ ففرَّ المسلمون، وتفرَّقت صفوفُهم، وولوا مُدبِرين.
    وهنا التفت رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ».
    فقالوا: لبيك يا رسول الله، لبيك، أبشر، أبشر.
    ثم التفت عن يساره وقال: «يا معشر الأنصار».
    قالوا: لبيك يا رسول الله، لبيك، أبشر، أبشر، نحن معك.
    فقال -صلى الله عليه وسلم- للعباس -وكان بين يديه هو وأبو سفيان: «يَا عَبَّاسُ، نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةَ»، وهي الشَّجرة التي تمَّت تحتها بيعة الرِّضوان يوم الحُديبية، فنادى العباسُ بن عبد المطلب: أين أصحاب السَّمُرَة؟
    قالوا: لبيك، لبيك.
    قال: فوالله لكأن عطفتُهم حين سمعوا صوتي عطفةَ البقر على أولادها.
    فاجتمعوا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصفَّهم مرةً ثانيةً وقال: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِب، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب».
    ثم استنصر الله -عز وجل- فقال: «اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ»، ثم نظر إلى الجيش وقد التحم بعضُه ببعض فقال: «الآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ»، ثم قبض قبضةً من تراب الأرض ورمى بها القوم وهو يقول: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ»، فما خلق الله فيهم إنسانًا إلا ودخل عينيه من هذا التُّراب، فقال العباسُ بن عبد المطلب: فوالله، ما هو إلا أن رماهم حتى رأيت حدَّهم كليلًا، وأمرهم مُدبِرًا.
    وفي ذلك يقول الله -عز وجل: ï´؟لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَï´¾ [التوبة: 25، 26].
    فولى المشركون الأدبارَ، وتركوا ما معهم من أولادٍ ونساءٍ وشياهٍ، فتركوا ستة آلاف رأسٍ من النِّساء والصِّبيان، وأربعة آلاف أوقية فضة، وأربعين ألف شاةٍ من الغنم، وستة آلاف من الإبل، فجمعها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثم لم يعجل بقسمتها بين المجاهدين؛ يرجو أن يفيق القومُ من غفلتهم، ويُنيبوا إلى ربهم، ويُسلموا له، ويأتوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نادمين؛ فيرد عليهم نساءهم وأموالهم وأولادهم، فجمع هذه الغنائمَ وحبسها بالجِعْرَانَة، وعيَّن عليها حارسًا.
    ثم خرج رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه حتى أتى حصن الطَّائف، وكان مالك بن عوف النَّضري قد دخله، وتزوَّد بزادٍ كثيرٍ من الطَّعام والشَّراب، فحاصره رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وطال الحصارُ، قيل: بضعة وعشرين يومًا، وقيل: أربعين يومًا، فلمَّا طال الحصارُ ولم ينزلوا قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «إِنَّا رَاجِعُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ»، فثقل ذلك على الصَّحابة، وقالوا: نرجع ولا نفتح الحصنَ! قال: «اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ»، فغدوا، فأصابهم جراحٌ، فقال -عليه الصلاة والسلام: «إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ»، فأعجبهم، فضحك -عليه الصلاة والسلام- لأنَّه البارحة قال لهم: ارجعوا، قالوا: لا، لابد أن نُحارِب، فلمَّا حاربوا أُصِيبوا فقال: «إِنَّا قَافِلُونَ»، قالوا: نرجع ونثوب. فضحك -عليه الصلاة والسلام- ثم رجع ولم يأذن الله في فتح هذا الحصن بالطَّائف، فلمَّا رجع واستقلوا ركائبَهم ورحالهم قال لهم: «قُولُوا: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ»، فقالوا ما أمرهم به، وما هي إلا شهورٌ حتى أتى وفد هؤلاء القوم إلى رسول الله فأخبروه بإسلامهم.
    فلمَّا عاد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من الطَّائف إلى المدينة وقد أقرَّ الله تعالى عينَه بالفتح المُبين والنَّصر العظيم، وأراه ما وعده به من دخول الناس في دين الله أفواجًا، وكان ذلك من أكبر الشَّواهد على أنَّه رسولُ الله حقًّا.
    وكان حريًّا بالمُرتابين في رسالته -صلى الله عليه وسلم- من الكافرين والمُنافقين أن يُبادروا إلى الدُّخول في هذا الدين ظاهرًا وباطنًا، إلا أنَّ النُّفوس الخسيسة تزداد شرًّا وجُحودًا كلَّما ازداد خصومُهم نصرًا وصعودًا، فبادر الرُّومان إلى إعداد العُدَّة لحرب المسلمين؛ مخافة أن يخرجوا بهذا الدين من الجزيرة العربية بعد أن دانت لهم كلّها، وسُرَّ المنافقون بما بلغهم عن الرُّومان من إعداد العُدَّة لغزو المسلمين، وباتوا على شبه يقينٍ من أنَّ الرُّومان مُستأصِلون المسلمين غدًا.
    فلمَّا بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى أنَّه لابُدَّ من أن يستنفر المسلمين للخروج لهذا العدو قبل أن يأتيهم في أرضهم؛ فحثَّ -صلى الله عليه وسلم- المسلمين على الجهاز، وكان ذلك في زمن عُسرةٍ وجدبٍ من البلاد وحرٍّ وقيظٍ، والناس في الحرِّ دائمًا يركنون إلى الفيء والظِّل، ويتقاعدون عن الخروج والمشي في الحرِّ؛ مما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يُصرِّح بجهته التي يقصدها على خلاف عادته في غزواته -صلى الله عليه وسلم.

    تعليق


    • #3
      رد: غزوة تبوك ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم .. فقه السيرة

      يقول كعبُ بن مالك -رضي الله عنه: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قلَّما يريد غزوةً يغزوها إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت غزوةُ تبوكٍ، فغزاها رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفاوز، واستقبل غزو عدوٍّ كثيرٍ، فجلَّى للمسلمين أمره؛ ليتأهَّبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يُريد، فبادروا إلى الجهاز، وحثَّ -عليه الصلاة والسلام- الأغنياءَ على تجهيز الفقراء، فبادروا إلى ذلك، وكان أكثر الصَّحابة نفقةً في هذه الغزوة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فجاء بألف دينارٍ فنثرها في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسُرَّ بذلك، وجعل يُقلِّب الألف دينار في حجره وهو يقول: «مَا ضَرَّ عُثْمَانُ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ».
      وفي يوم الخميس من شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة خرج رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة قاصدًا غزو الروم، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة -رضي الله عنه- وخلَّف عليًّا -رضي الله عنه- على أهله.
      فلمَّا سار -صلى الله عليه وسلم- فيمَن معه جلس عبدُ الله بن أُبَي بن سلول عند ثنيَّة الوداع بمَن معه ممن هو على شاكلته في النِّفاق، فلمَّا جدَّ السيرُ بالمسلمين رجع ابنُ أُبَي بمَن معه من المنافقين، وانطلق رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثين ألف مقاتلٍ وعشرة آلاف فرس.
      قال معاذُ بن جبلٍ: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام غزوة تبوكٍ، فكنا نجمع الظُّهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا.
      فانتهى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوكٍ، فلم يُقابله أيُّ جنديٍّ من جنود العدو؛ فقد ألقى الله الرعبَ في قلوب الرُّومان على كثرتهم وقوَّة عُدتهم، فآثروا السلامةَ على الفناء، فجلسوا في أرضهم بالشَّام ولم يتحرَّكوا أدنى مسافةٍ للقاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بتبوكٍ بضعة عشر ليلةً لم يجد أدنى مقاومةٍ، وقعد الرُّومان عن مُلاقاته، وجاءت القبائلُ العربية المُتَنَصِّرة -حلفاء الرُّومان- فصالحت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- على الجزية، وكتب لها كتاب صلحٍ.
      ثم عاد رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- سالمًا غانمًا إلى المدينة، فلمَّا دنا منها ذكر المُتخلفين لعذرٍ فقال لمَن معه: «إِنَّ أَقْوَامًا خَلْفَنَا بِالْمَدِينَةِ مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ».
      ثم سار -صلى الله عليه وسلم- حتى دنا من المدينة وظهرت أنوارها له، فقال -عليه الصلاة والسلام: «هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»، وخرجت النساء والصِّبيان والولائد يستقبلن أكبر جيشٍ خرج لقتال غير المسلمين في تاريخ الإسلام، فثلاثون ألفًا ما خرجت لا في بدرٍ، ولا في أُحُدٍ، ولا في فتح مكة.
      ودخل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ المنورة، فبدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فجاءه المُتخَلِّفون من المنافقين يعتذرون إليه ويحلفون له بالله، فقبل ظاهرهم واستغفر لهم، ووكل سرائرَهم إلى الله -عز وجل.
      أمَّا كعب بن مالك وصاحباه فقد اعترفوا بذنوبهم، وأنَّهم لم يكونوا معذورين في التَّخلُّف، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ»، فهجرهم النبيُّ وأصحابُه خمسين ليلةً حتى نزلت توبةُ الله -تبارك وتعالى عليهم.
      وفي السنة العاشرة من الهجرة النبوية خرج -صلى الله عليه وسلم- بمائة وأربعة وعشرين ألفًا لأداء فريضة الحج، فأدَّاها وَعَلَّمَ الصحابةَ المناسكَ، وقد قال لهم: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بعد حجة الوداع، لكن نفوس أصحابه -رضي الله عنهم- كانت قد استشعرت قُربَ أجله -صلى الله عليه وسلم- أثناء حجة الوداع؛ وذلك لما نزل عليه فيها من القرآن الكريم، فقد نزل عليه -صلى الله عليه وسلم- بعرفة قول الله تعالى: ï´؟الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًاï´¾ [المائدة: 3]، فلمَّا تلاها -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه بكى عمرُ -رضي الله عنه- فقيل له: ما يُبكيك؟
      فقال: إنَّه ليس بعد الكمال إلا النُّقصان.
      وقد أشار -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا الذي فهمه عمرُ فقال وقد وقف عند جمرة العقبة: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَلَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»، وفي أوسط أيام التَّشريق نزلت عليه -صلى الله عليه وسلم- سورة النصر: ï´؟إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًاï´¾ [سورة النصر].
      عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت النصرُ دعا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فاطمةَ فقال: «نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي»، فبكت، فقال: «لَا تَبْكِي، فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي»، فضحكت، فرآها بعضُ أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلن: يا فاطمة، رأيناك بكيتِ ثم ضحكتِ! قالت: إنَّه أخبرني أنَّه نُعِيَت إليه نفسُه فبكيت، فقال لي: «لَا تَبْكِي، فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي»، فضحكت.
      وهكذا استشعرت النفوسُ قُرب أجله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع.
      ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة في ذي الحجة، فأقام بها بقيته والمحرم وسفر، وبعث بعثًا إلى الشَّام وأمَّر عليهم أسامة بن زيد -رضي الله عنه.
      فبين الناسُ على ذلك ابتُدِئ -صلى الله عليه وسلم- بمرضه الذي قُبِض فيه لما أراده الله له من رحمته وكرامته في ليالٍ بقين من سفر، أو أول شهر ربيع الأول.
      وكان أول ما ابتُدِئ به -صلى الله عليه وسلم- صداع شديد يجده في رأسه، كما في الحديث عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: رجع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يومٍ من جنازةٍ من البقيع وأنا أجد صُداعًا، وأنا أقول: وا رأساه. فقال -صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ وَا رَأْسَاهُ»، ثم قال: «وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ؟» قالت: لكأني بك والله لو فعلتَ ذلك فرجعت إلى بيتي فعرَّستَ فيه ببعض نسائك. فتبسَّم -صلى الله عليه وسلم- ثم بُدئ في وجعه الذي مات فيه.
      وكان -صلى الله عليه وسلم- يدور على نسائه، وكلَّما أتى على واحدةٍ قال: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟» يُريد عائشة -رضي الله عنها- حتى اشتدَّ عليه وجعُه، وغلبه على نفسه وهو في بيت ميمُونة، فبينما هو كذلك لدُّوه -أي جعلوا الدَّواء في فيه- فجعل يُشير إليهم ألا تلُدُّوني، فقالوا: كراهية المريض للدواء. فلمَّا أفاق قال: «أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي؟» قالوا: قلنا كراهية المريض للدواء.
      قال: «لَا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلَّا لُدَّ، إِلَّا عَمِّي الْعَبَّاسُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ».
      ثم استأذن -صلى الله عليه وسلم- نساءه أن يُمَرَّض في بيت عائشة -رضي الله عنها- فأذنَّ له، فخرج بين رجلين من أهل بيته حتى دخل بيت عائشة، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ»، وكان -عليه الصلاة والسلام- وهو في غزوة خيبر قد أهدته امرأةٌ يهودية شاةً، وسألت عن أي اللَّحم أحب إليه؟ فقيل: الكتف أو الذِّراع. فأكثرت فيه السُّم، وجاءت فقالت: يا محمد، هذه هدية لك. وكان -عليه الصلاة والسلام- يقبل الهديةَ ولا يأكل الصَّدقة، فأخذ لقمةً من هذه الشَّاة فوضعها في فيه، فأخبرته الشَّاةُ أنَّها مسمومة، فقال -عليه الصلاة والسلام- وهو في مرض موته: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ».
      وكان -صلى الله عليه وسلم- يخرج للصلاة، فلمَّا غلب عليه الوجعُ قال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»، فقالت عائشةُ: إنَّ أبا بكر إذا قام مقامك لم يُسمِع الناسَ من البكاء، فمُر عمر فليُصلِّ بالناس. فقال -صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ».
      قالت عائشة: فقلتُ لحفصة: قولي له: إنَّ أبا بكر إذا قام مقامك لم يُسمِع الناسَ من البكاء، فمُر عمر فليصلِّ بالناس. ففعلت حفصة؛ فقال -صلى الله عليه وسلم: «مَهْ، إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»، فقالت حفصة لعائشة: ما كنتُ لأصيب منكِ خيرًا.
      قالت عائشة: لقد عاودتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك وما حملني على معاودته إلا أني خشيتُ أن يتشاءم الناسُ بأبي بكر، وإلا أني علمتُ ألا يقوم مقامه أحدٌ إلا تشاءم الناسُ به؛ فأحببتُ أن يعدل ذلك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي بكرٍ إلى غيره.
      فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يُصلي بالناس في حياته -صلى الله عليه وسلم- ثم إنَّه -صلى الله عليه وسلم- وجد من نفسه خِفَّةً؛ فخرج يُهادَى بين رجلين، ورجلاه تخُطَّان في الأرض من الوجع، فأراد أبو بكرٍ أن يتأخَّر؛ فأومأ إليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه، فكان -صلى الله عليه وسلم- يُصلي وأبو بكر يُصلي بصلاته، والناس يُصلون بصلاة أبي بكر.
      ثم أراد -صلى الله عليه وسلم- يومًا أن يخرج للخُطبة، فقال لأهله: «أَهْرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحَلَّ أَوكِيَتُهَا، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ».
      قالت عائشة: فأجلسناه في مِخْضَبٍ لحفصة، ثم طفقنا نَصُبُّ عليه من تلك القِرَب حتى طفق يُشير إلينا بيده: أن قد فعلتنَّ.
      قالت: ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم.
      عن أبي سعيدٍ الخُدري -رضي الله عنه- قال: خطب رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الناسَ فقال: «إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللهِ»، قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يُخبِر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبدٍ خُيِّر! فكان رسولُ الله هو المُخَيَّر، وكان أبو بكرٍ أعلمنا.
      فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ».

      تعليق


      • #4
        رد: غزوة تبوك ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم .. فقه السيرة

        وكان ذلك يوم الخميس، فدخل -عليه الصلاة والسَّلام- بيته فبقي فيه بقية الخميس والجمعة والسبت والأحد، وبينما هم في صلاة الفجر من يوم الإثنين وأبو بكرٍ يُصلي بالناس لم يفجأهم إلا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كشف ستر حجرة عائشةَ، فنظر إليهم وهم صفوفٌ في الصلاة، ثم ابتسم –يضحك- فنكص أبو بكرٍ على عقبيه ليصل الصفَّ، وظنَّ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُريد أن يخرج إلى الصلاة.
        قال أنس: وهمَّ المسلمون أن يُفتَنوا في صلاتهم؛ فرحًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأشار بيده أن أتمِّوا صلاتكم، ثم دخل الحجرةَ وأرخى السّتر، ثم مات -صلى الله عليه وسلم- ضُحى ذلك اليوم -يوم الإثنين.
        تقول عائشة -رضي الله عنها: إنَّ من نِعَمِ الله عليَّ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تُوفي في بيتي ويومي، وبين سَحْرِي ونَحْرِي، وأنَّ الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عليَّ عبدُ الرحمن -تعني أخاها- وبيده سواكٌ، وأنا مُسنِدَةٌ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنَّه يُحبُّ السِّواك، فأخذتُه له فليَّنتُه، فأخذه فاستاكَ به، وبين يديه رَكْوَةٌ فيها ماء، فجعل يُدخِل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٌ»، ثم نصب يده فجعل يقول: «فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى»، حتى قُبِضَ فمالت يده.
        فلمَّا مات -صلى الله عليه وسلم- وضعت عائشةُ رأسَه على وسادةٍ وسجَّته ببُرْدَةٍ، فاستأذن عمرُ والمغيرةُ، فأذنت لهما وضربت الحجابَ، فنظر عمرُ إلى رسول لله -صلى الله عليه وسلم- فقال: وا غشياه، ما أشد غشي رسول الله!
        ثم قاما، فلمَّا دنوا من الباب قال المغيرةُ: يا عمر، مات رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم.
        فقال عمرُ: كذبتَ، بل أنت رجلٌ تحوسُك فتنةٌ، إنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- لا يموت حتى يُفني الله المنافقين.
        فخرجا على الناس، وقام عمرُ يخطب الناسَ ويتوعَّد مَن قال: "مات محمد" بالقتل والقطع، ويقول: والله، ما مات رسولُ الله، وليبعثنَّه الله، فليُقَطِّعنَّ أيدي رجالٍ وأرجلهم.
        وكان الصديقُ -رضي الله عنه- حين صلى الفجر ورأى رسولَ الله بخيرٍ؛ انصرف إلى منزله، فبُعِث إليه، فجاء -رضي الله عنه- فكشف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبَّله، فقال: بأبي أنت وأمي، طبتَ حيًّا وميِّتًا، والذي نفسي بيده، لا يُذيقُك الله الموتتين أبدًا. ثم خرج وعمر يُكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر. فأبى عمر أن يجلس، قال: اجلس يا عمر. فأبى أن يجلس، فتكلَّم أبو بكر؛ فجلس عمر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ألا مَن كان يعبُد محمدًا فإنَّ محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت: ï´؟وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْï´¾ [آل عمران: 144]، فنشج الناسُ يبكون.
        قال عمر: والله، ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت أنَّه الحقُّ، فعقرت حتى ما تُقِلُّني رجلاي، وهويتُ إلى الأرض، وعرفتُ حين سمعته تلاها أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات.
        واجتمعت الأنصارُ إلى سعد بن عُبادة في سقيفة بني ساعِدَة فقالوا: منَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ.
        فذهب إليهم أبو بكر وعمرُ وأبو عُبيدة، فذهب عمرُ يتكلَّم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله، ما أردتُّ بذلك إلا أني قد هيَّئتُ كلامًا قد أعجبني خشيتُ ألا يبلغه أبو بكر.
        ثم تكلَّم أبو بكر، فتكلم أبلغُ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء.
        فقال حُباب بن المنذر: لا، والله لا نفعل، منَّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ.
        فقال أبو بكر: لا، ولكنَّا الأمراء، وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارًا، وأعربهم حسبًا، فبايِعوا عمر، أو أبا عُبيدة -هكذا يقول أبو بكر.
        فقال عمر: بل نُبايعك أنت؛ فأنت سيِّدنا، وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
        فأخذ عمرُ بيده فبايعه وبايعه الناسُ، وذلك يوم الإثنين الذي تُوفي فيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم.
        فلمَّا كان الغد اجتمع الناسُ في المسجد، فصعِد عمرُ المنبرَ فتكلَّم، وأبو بكر صامت، فقال عمر: كنتُ أرجو أن يعيش رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يُدبرنا، فإن يكُ محمدٌ قد مات فإنَّ الله قد جعل بين أظهركم نورًا تهتدون به، هدى الله به محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وإنَّ أبا بكرٍ صاحب رسول الله، وثاني اثنين، وإنَّه أولى المسلمين بأموركم، فقدِّموا فبايعوه، ثم نزل عمرُ وقال لأبي بكرٍ: اصعد. فلم يزل به حتى صعِد المنبرَ، فبايعه عامَّةُ الناس بعد بيعة السَّقيفة.
        ثم تكلَّم أبو بكرٍ -رضي الله عنه- فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أمَّا بعد، أيُّها الناس، إني قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني، الصِّدق أمانة، والكذب خيانة، والضَّعيف منكم قويٌّ عندي حتى أُزيحَ علَّته -إن شاء الله- والقوي منكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحقَّ منه -إن شاء الله- لا يدع قومٌ الجهادَ في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذُّلِّ، ولا يُشيع قومٌ قط الفاحشةَ إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسولَه، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعةَ لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
        وهكذا انشغل أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقية يوم الإثنين وبعض يوم الثلاثاء عن تجهيز رسول الله ببيعة الصِّديق، فلمَّا تمهَّدت وتوطَّدت وتمَّت شرعوا بعد ذلك في تجهيزه -صلى الله عليه وسلم- مُعتدِّين في كلِّ ما يُشْكِل عليهم بخليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي بكر -رضي الله عنه.
        فلمَّا أرادوا أن يُغَسِّلوه قالوا: ما ندري، أنُجرِّد رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- من ثيابه كما نُجرِّد موتانا أم نُغسله وعليه ثيابه؟
        فألقى الله عليهم النومَ حتى ما منهم أحدٌ إلا وذقنه في صدره، ثم تكلَّم مُتكلِّمٌ من ناحية البيت لا يدرون مَن هو: أن غسِّلوا رسول الله في ثيابه. فقاموا فغَسَّلوه وعليه قميصه، يصبُّون الماء فوق القميص، فيدلكون بالقميص دون أيدهم.
        فكانت عائشةُ -رضي الله عنها- تقول: لو استقبلتُ من أمري من استدبرتُ ما غسَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا نساؤه.
        يقول عليٌّ -رضي الله عنه-وقد ذهب يُغسِّل رسولَ الله: ذهبتُ ألتمس ما يُلتَمَس من الميت فلم أجد شيئًا، فقلتُ: بأبي الطَّيب، طبتَ حيًّا، وطبتَ ميتًا.
        فلمَّا فرغوا من غسله -صلى الله عليه وسلم- كفَّنوه في ثلاثة أثوابٍ بيض سُحُوليَّة، ليس فيها قميصٌ ولا عمامةٌ -كما قالت عائشة رضي الله عنها.
        ثم أخذوا في الصَّلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- فُرادى، لم يؤمَّهم أحدٌ، دخل الرجالٌ، ثم النِّساء، ثم الصِّبيان.
        فلمَّا أرادوا دفنه -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا أين يدفنونه؟ فقال أبو بكرٍ -رضي الله عنه: سمعتُ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا ما نسيته، قال -عليه الصلاة والسلام: «مَا قَبَضَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ»، فدفنوه في موضع فراشه، دفنوه في حجرة عائشة -رضي الله عنها- ولم يدفنوه في المسجد، إنَّما دفنوه في حُجرته، وكانت الحجرةُ خارجَ المسجد بلا شكٍّ، فلا يقولنَّ أحدٌ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دُفِنَ في المسجد. لا، إنَّما دُفِنَ في الحجرة، وبعد عهد الخلفاء الرَّاشدين ولما طالت الأيامُ وأخذوا يُوسِّعون المسجدَ كان للسلطان رأيه، ودائمًا هو أغلب، فأدخل الحجرةَ في المسجد، فصارت الحجرةُ في المسجد.
        كيف يكون ذلك وهو -عليه الصلاة والسلام- في آخر أنفاسه كانت معه قَطِيفةٌ، فجعل يُغطي وجهه، فإذا اغتمَّ كشفها وقال: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ»؟!
        فلمَّا اتَّفقوا على أن يدفنوه في الحجرة كان بالمدينة رجلٌ يُلْحِد وآخر صاحب شقٍّ، فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما، فأيّهما سبق تركناه. فسبق صاحب اللَّحْد، فلحدوا للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم.
        قالت عائشة -رضي الله عنها: ما علمنا بدفن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حتى سمعنا صوت المساحي في جوف ليلة الأربعاء.
        فلمَّا فرغوا من دفنه قالت فاطمةُ -رضي الله عنها: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثُوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التُّرابَ؟!
        وهكذا التحق رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالرَّفيق الأعلى بعد أن بلَّغ الرِّسالة، وأدَّى الأمانة، وجاهد في الله حقَّ الجهاد، وأقام الله به الملة العَوْجَاء، وفتح به أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلْفًا.
        فاللَّهمَّ اجزِه عنَّا وعن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء.
        وهكذا -أيُّها الأحبَّة- نكون قد انتهينا إلى مُرادنا ومقصودنا من دروس سيرة نبينا -صلى الله عليه وسلم.
        نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاهتداءَ به -عليه الصلاة والسلام- والتَّأسِّي به في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، كما نبَّهنا مرارًا من حين أن بدأنا في شرح هذه السيرة النبوية العَطِرة؛ أنَّ المقصود الأعظم من دراستها هو أن نُحقق التَّأسِّي به -عليه الصلاة والسلام- في حياتنا عملًا بقول ربنا: ï´؟لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًاï´¾ [الأحزاب: 21].
        والحمد لله الذي بنعمته تتم الصَّالحات، ربنا تقبَّل منَّا إنَّك أنت السَّميع العليم، وتُبْ علينا إنَّك أنت التَّواب الرَّحيم.
        هذا، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
        والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

        تعليق


        • #5
          جزاكم الله خيرًا وبارك فيكم

          تعليق

          يعمل...
          X